|
ألرياضيات وألفلسفة 1
ماجد جمال الدين
الحوار المتمدن-العدد: 3699 - 2012 / 4 / 15 - 00:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تقديم : هذا الموضوع بدأته قبل خمسة أعوام و كان مخططا له أن يكون في عشرة أجزاء ولكني حينذاك كتبت ونشرت خمسة أجزاء فقط وتوقفت عن ألكتابة لظروف خاصة ، رغم أهمية ألموضوع وكون الخطوط العريضة والنقاط ألتي وددت طرحها للأجزاء الباقية كانت وما زالت ماثلة في ذهني . فما الذي دفعني وإستثارني ألآن لإعادة نشره وإتمامه كاملا هنا في موقع الحوار ألمتمدن ألذي أصبحت من مدمنيه ؟ قبل ألإجابة ، يجب التنويه أن الفكرة الأساسية التي تخترق كل الموضوع المطروح هي أن الفلسفة ليست هي أم العلوم ، كما في الكليشيهات الفكرية التي تعودنا على ترديدها ، بل هي فقط إبنة المعارف البشرية من آداب وفنون وقيم إجتماعية أخلاقية على المستوى الفكري ما قبل المنطقي .. وهي إبنة العلوم كافة بالمستويات المنطقية ، وبألأخص إبنة علوم الرياضيات التي هي لغة العلوم والمؤهلة لتكون لغة المعارف ألإنسانية كافة في مستوى لاحق من تطور عقلانية الإنسان وسيادة الفكر التجريدي .
دافعي لإعادة ألأهتمام بإكمال ألموضوع ونشره هنا إنطلق من إتجاهين : أولهما أن ألكتابات ذات التوجهات ألفلسفية والمقاربة لها في ألحوار المتمدن والتي تنطلق بألأساس وألأغلب من مواقع الفلسفة المادية الديالكتيكية والتاريخية ، والتي لعب ماركس وأنجلز دورا لا يستهان به في تطويرها الإبداعي إستلهاما لأعمال الفلاسفة الطبيعيين (الماديين الديالكتيكيين أيضا ) من قبلهم وألإستفادة من أجمل الصياغات في مفاهيم الديالكتيك المثالي ألهيغلي ، .. هذه الفلسفة نتيجة للمواقف الطبقية لماركس وأنجلز تمت أدلجتها بشكل مجحف وبالتالي تصنيمها لاحقا ، ( ماركس نفسه وكل الماركسيين من بعده لم ينفوا بل أكدوا إنحيازهم الإيديولوجي وإعتبروا الفلسفة المادية الدياكتيكية منحازة إيديولوجيا بطابعها ،، وهذا من الواضح يخل بعلميتها ونظرتها الموضوعية الحيادية ، رغم كل ألإدعاءات والهتافات بالعلمية ) .. بالتأكيد في فترات ألتغيرات الإجتماعية والتحولات الثورية تتم أدلجة كل ألمفاهيم وألأفكار وجل مضامين البناء الفوقي وحتى أنواع الفنون والرقص ، كنوع من الضرورة الموضوعية لإحداث ألإنقلابات ألنوعية في الوعي ألإجتماعي ... ولكن هذه ألأدلجة بالضرورة أيضا ، سرعان ما تتحول إلى تقديس وتصنيم ألأفكار ذاتها و التي تبتعد رويدا رويدا عن العلمية لإفتراقها عن مجرى الحياة الواسع المتلاطم . ( ألإنسان هو من يخلق الفكرة أولا ـ فلا عليه أن يعبدها حتى إن ساهمت هي ديالكتيكيا في تشكيل إنسانيته ) .. للأسف أغلب ألكتاب ألذي يدعون أنفسهم بالماركسيين يغلقون أنفسهم على كتبه وأفكاره المقدسة بدون أن يخرجوا من هذه الدائرة مهما حاولوا تطوير ماركسيتهم !! .. هذا الموضوع سيجر هؤلاء لأعادة النظر في مفاهيمهم ألإبتدائية وليعلموا أن الفلسفة المادية الديالكتيكية بمجرد تسميتها بالماركسية تنفي كونها علما لتصبح نوعا من الدين المثالي بشكل جديد .
وثانيهما ، أن بعضا ممن يكتب في الحوار المتمدن عن مسائل علمية بحتة من باب التنوير الثقافي والعلمي ، يتمتع بعقلية مؤدلجة حد التجمد بحيث في طروحاته يزيغ عن ابسط أسس الفكر والمفاهيم العلمية وحين تحاوره يشتمك بشكل ديني فلا تتمنى أن تقرأ له ثانية ، وأقصد هنا أحدهم ألذي يدعي أنه عالم فيزياء ثم يقول أن الفيزياء ماتت ومن ثم يقول أن الفيزياء مرضت بعد موتها ، ويجيء ويتهم كل علماء الفيزياء النظرية بأنهم عصابة ماسونية . وهنالك أيضا باحثين كألأستاذ جواد البشيتي الذي أقرأ كتاباته التنويرية بإهتمام بالغ ، ولكني للأسف أجد بعض ألأخطاء في الطرح والتي لا يلحظها القارئ العادي ( ولذا لا أحاول مجادلتها في مقالاته ، لدقة النقاط المطروحة بحيث يمكن مناقشتها فقط في منتدى حواري وليس موقع على شاكلة الحوار المتمدن ) ، والتي ( وأعتذر مسبقا إن كان رأيي هذا مزعجا له ) .. تبين نزوعه لتفسير المسائل العلمية البحتة بشكل يعكس إنطوائه الذاتي على التمسك بمواقف ومفاهيم مسبقة يعتبرها بديهيات أولية ويشعر بالإحباط إن كان العلم الحديث فند تلك البديهيات ، ولذا يحاول أن يتلاعب على الكلمات وفهم القارئ غير المتخصص . ( ألعلوم المعاصرة تنفي البديهيات أصلا ,, التأويلات والتفسيرات للنظريات العلمية تثبت فقط بالتجربة وليس بمناظير فلسفية ) .. أعتقد أن ألموضوع سيكون ذو فائدة لمن يكتب في نواحي التنوير العلمي .
وأخيرا أرجو ألمعذرة مسبقا من طريقتي في الكتابة ، فأنا أحاول طرح الموضوع بشكل سلس كما لو كنت أكتب رسالة غرامية ، ولا اتحرج من كتابة امور تبدو شخصية ، ولكن ألأمور ألتي أضعها أمام القارئ هي مشاكل علمية معقدة جدا وتحتاج لتركيز كبير على العبارات ألتي أحاول دائما إختيار كلماتها بدقة .. للأسف موقع ألحوار المتمدن لا يسمح بإستعمال لغة أل HTML أو حتى كما يمكننا بإستعمال محرر الوورد ، ولذا تستعصي بعض ألأساليب ألتوضيحية ، كتبديل لون وحجم الخط للفت إنتباه القارئ على أهمية وأساسية ألأفكار المطروحة في تلك الجمل والفقرات ، بما يجعل الموضوع صعبا لغير ألمتخصصين .
سأبدأ بنشر ألأجزاء الخمس ألأولى كل يومين أو ثلاث و بألضبط كما نشرت سابقا بدون تعديل ، لأتيح للقارئ ألنقاش حولها قبل أن أتبعها بألأجزاء ألمتبقية و لكي يتسنى لي الوقت الكافي لكتابتها بالشكل ألذي آمل أن يجر أكثر ألفائدة . ::
ألرياضيات وألفلسفة 1 ماجد جمال ألدين أحمد
هذا جزء من فصل تائه كتبته سابقا لموضوعتي ألعولمة ومعانيها ألتي لم أستطع إكمالها وإرتأيت ألان نشره بشكله ألحالي في ألساحة ألفلسفية هنا لعلاقته بدحض نظرة ألفكر ألديني ألمثالي عن ألتطور ألإنساني ..رغم قصوري ألآن عن ترميمه بألشروح ألمستفيضة ألتي أود تقديمها في أجزائه ألأخيرة
مسألة نرجع لها ألرياضيات وألفلسفة
ماجد جمال ألدين أحمد
في حديثي ألسابق ( *1) وصفتُ ألرياضيات بألمحرك ألجبار وألخفي للفكر ألفلسفي ووعدت أن أوضح فكرتي ألدميمة هذه لاحقا ، وأدناه محاولة للوفاء بألوعد ولو بشرح لا يستوفي بألتأكيد أبعاد وإشكالية هذه ألمسألة : قبل أن أدخل في موضوعة علاقة ألرياضيات بتطور طرق ألتفكير ألإنساني وألمناهج ألفلسفية يجب أن أذكر أن ألدماغ ألبشري في ألمليون سنه ألأخير إزداد حجمه ثلاث مرات وألأمر ألأهم ليس في حجم وعدد ألخلايا ألدماغية بل في زيادة ألتخصص في أجزاء ألدماغ و تعقد حلقات ألإتصال ألعصبية فيما بينها ، هذا ألفارق في ألتخصص والتعقد إزداد عشرات ألمرات في تلك ألفترة ألزمنية وخصوصا بعد أن تطور من الحلقات ألوسيطة "ألإنسان ألناطق ، بتميّز لغته ألمتنامي عن لغات باقي ألحيوان " ـ المفهوم العام للغة ينطبق كما على ألصوتية منها او ألحركية وألإيمائية والكيمياوية ( الروائح وما اشبه ) وبعض ألأحياء تستعمل ألإشارات ألضوئية للتخاطب ـ وأصبح ألنياندرتال "ألإنسان ألعاقل" بأستعماله ألأدوات ( ألحجرية أو ألخشبية وبعدئذٍ ألمعدنية ) في ألعمل ألهادف، ومن هنا يقول ألماركسيون أن ألعمل خلق ألإنسان من ألقرد . ألتطور في زيادة ألتخصص ألدماغي وكذا زيادة ألحدة ( أو نقصانها أحيانا ) في مجمل أجهزة ألحواس ألبشرية وكل ألتركيبة ألجسدية للأنسان وعلاقة ذلك بتطور ونوعية ألعمل ألذي يقوم به وبألظروف ألبيئية ألمحيطة لا تحتاج أحيانا لتتبعها عبر فترات زمنية متباعدة ( ألتي نحتاجها لتشخيص ألتغييرات ألجينية ألطابع ) بل يمكن مراقبتها في جيل إنساني واحد ـ ألشاب ألذي يمارس ألجمناستك سيختلف نمو وتوظيف وتخصصات أقسام ألدماغ ألمختلفة عنده من ألذي يمارس ألموسيقى بصورة إبداعية أو أو ماهو عند ألكاتب ألأديب أو عالم ألفيزياء ألنظرية أو عند ألطبيبة وألممرضة أو ألراقصة . وكذا عن أجهزة ألحس ـ حاسة ألشم لمن يعيش في ألصحراء ليست كمثلها عند أهل ألمدينة وحنجرة أم كلثوم فيزيولوجيا ليست كحنجرتي ، وهي نفسها فيزيولوجيا تطورت في ألخمسينات عما كانت عنه في ألثلاثينات كي تستوعب ألعمل ألذي أنيط بها بغناء ألحان اعقد وأصعب . وفي نفس ألوقت تعقد بنية ألدماغ وتطور عمله من ألناحية ألفيزيولوجية صاحَبَ ( أو جاء نتيجة ألتفاعل ألديالكتيكي) مع تعقد ألعواطف وألأحاسيس وألإنفعالات ألنفسية ألتي يتركها تعقد ألمجتمع وتسارع تطور ألعلاقات ألإجتماعية وألتغير في مؤثرات ألبيئة ألمحيطة أيضا . وهذا أيضاً يمكن تلمسه في آماد تاريخية طويلة أنتجت ورسخت تبدلات جينية وراثية ، أو في فترة حياة جيل واحد أو جيلين ، ( أو من خلال زيارة مستشفيات ألأمراض ألعصبية أو مراجعة أسباب ألسكتة القلبية وألجلطة ألدماغية ).
في إحدى ألمحاضرات بموضوع ألنمذجة على ألحاسوب التي كنت اقدمها لمهندسي ألميكانيك سألتهم متى عرف ألإنسان ألرياضيات ؟ فأجابني أحدهم عندما تعلم ألحساب فقلت له ألحساب ألبسيط تعرفه أغلب الحيوانات وتستطيع أن تلاحظه عند ألقطة مثلا فهي تعد أبنائها ألذين ولدتهم العديد من ألمرات في ألأيام ألأولى وهي حينذاك لا تفرق بينهم بألشم أو ألشكل إلا بعد أيام وأسابيع ، أما ألحيوانات ألأعقد كألكلاب مثلا والقردة بألطبع فهي تعرف ألحساب بمعنى ألجمع والطرح أيضا . ألكائن ألإنساني ألذي تطورت عنده عملية ألنطق والقدرات ألعقلية عرف ألحساب وتعلّم أنواع معقدة من القياس في عصور طويلة مما قبل ألتاريخ . ولكنه عرف ألرياضيات في ألفترة ألمتأخرة جداً فيما بعد ألتاريخ ، بل فقط في ألعهود ألأخيرة من بعد قيام وإزدهار ألحضارات ألمدنية ففيما عمر هذه ألحضارات يتفاوت بين 12ـ 20 ألف سنة فإن عمر ألرياضيات قد لا يتجاوز 4ـ5 آلاف سنة . ( ألتعبير ألإصطلاحي ماقبل وما بعد ألتاريخ يعني ما قبل أو منذ تعلم ألإنسان ألتدوين أي كتابة ما يفكر به اوينطقه بلغته بنقش ذلك على ألصخور وألحجار أو ألجلود وغيرها بشكل رموز معينة متعارف عليها كي تكون هذه وسيلة للتواصل وليست مجرد رسوم وزخارف فنية مما تألق به ألإنسان قبل ألتاريخ أيضاً ) . ألإنسان منذ بدء ألحضارت وألتاريخ ألمدون جعل أيضا يدوّن ألحساب كما نجد ذلك في شواهد ألحضارة ألسومرية وألبابلية والمصرية وألإغريقية وغيرها . ولكن تدوين ألحساب حتى بإيجاد رموز تدوينية للأعداد والعمليات ألحسابية كألجمع وألضرب وألطرح مجارية للنطق أللغوي لها ( وليس مجرد رسم خمس سمكات مشطوب منها إثنين ) لا يعني أيضا بدء ألرياضيات . فما معنى كلمة ألرياضيات ومتى بدأ ألإنسان يتعلم ألرياضيات ؟ وهنا إقتبستُ أجمل تعريف للرياضيات قرأته في حياتي : " تعلم ألإنسان ألرياضيات عندما قال خمسة فسألوه : خمسة ماذا ؟ خمسة من أي أشياء ؟ فقال : خمسة لا شيء ، مجرد خمسة ، خمس من أي شيء " . فأٌلإنسان هنا جرد ألعدد منطقيـا وفك إرتباطه ألعضوي وفق ألنهج ألفكري ألسابق بألأشياء ألحسية ألتي تحسب بهذه ألأعداد وجعله مفهوما مرتبطا فقط برمزه أللغوي ألنطقي وألتدويني و ألعمليات ألحسابية ورموزها ـ أي تحولنا من ألحساب ألمباشر للأشياء إلى ألرياضيات وهي ألعملية ألمنطقية بألتعامل بألغاريتم ( Algorithm) مع ألرموز ذاتها كمفاهيم مجردة عن ألواقع . في محاضرتي آنذاك لم أتطرق إلى أبعد من ذلك ، وبألفعل ألرياضيات بدأت في ألفترة ألتي ذكرتها مع سيادة ألفكر ألمنطقي للإنسان ألعاقل أو بألأحرى ألقول ببداية ألمرحلة ألمنطقية في عقلانية ألإنسان ، ولكن لكي أستطرد هنا يجب أن أذكر هنا أنه مع بداية ألمرحلة ألتجريدية في ألفكر أو ألعقلانية ألبشرية التي جائت نتيجة تعارض بعض ومن ثم ألكثير من ألمعارف ألإنسانية ألجديدة مع ألأساليب ألمنطقية ألبسيطة ألسابقة أصيح ألتجريد ألرياضي أكثر شموليةً . مفاهيم ألأعداد أو ألعمليات ألحسابية وألقيم ألهندسية وألقياسية ألخ وألألغاريتمات في مختلف ألفروع ألرياضية أصبحت تجرد حتى من إرتباطها ألمسبق بألرموز أللغوية وألتدوينية كإرتباط عضوي ( في ذهن ألباحث ألرياضى بألدرجة ألأولى مما يجعل عملية ألتفكير ألخلاق صعبة بما لا يطاق مقارنة بألتفكير وفق ألنهج ألمعبد سلفاً ) . ولتوضيح هذه ألفكرة بأبسط شكل للقارى ألكريم أذكر أن ألرياضي حين يفكر يجب أن لا يهمه أن يكتب ألعدد خمسة بألرموز ألأرقام ألهندية ألتي نستعملها نحن او بألأرقام ألعربية ألتي تستعمل في كل أنحاء ألعالم عدانا وأن يقرأءه هكذا خمسه أو فايف أو بيات ( بألروسي ) أو بنج بألتيوركية ألخ ـ لأن مفهوم هذا ألعدد بألذات وغيره أيضا ليس مرتبطا بشكل عضوي بالرمز ألذي يستعمله . و مفهوم ( مفهوم ألعدد ) أيضا يصبح شيئا متغيرا فهنالك أعداد ثنائية أورباعية ألأبعاد او مجموعة من ألمصفوفات ( MATRIX ) تعامل كأعداد . وهكذا في كل نظم " ألحساب ألرياضي " والتي هي تؤطر نظرياً كل معارفنا ألإنسانية بإعتبار أن لغاتنا ألبشرية ممكن إعتبارها نوعاً من ألرياضيات . وألأهم أن علم ألمنطق ألذي إستفاد من هذه ألتجريدية بشكل كبير أصبح ينتج أشكالا بديعة (غير مألوفة في ألمنطق ألأرسطوطاليسى ألذي نعتمده بألأغلب في حياتنا ألإعتيادية ) من أساليب ألتفكير تمكننا من دراسة وتحليل ليس فقط قطعة موسيقية لبتهوفن مثلا وكيفية تأثيرها على شعورنا وإحساسنا بأللذه من ألسماع بل من دراسة أسلوب عمل دماغنا ذاته من ألناحية ألفيزيولوجية وألفيزيوروحانية ، كيف يتم ( بأية ألغاريتمات ) ألتفكير والتصور وتجلي ألعواطف ألخ ـ بحيث نعي دواخل ذواتنا ألإنسانية كما لو كانت موضوعا ندرسه من خارجه بشكل مادي عملي ( مختبري ) وبشكل نظري .
إذا رصدنا بدايات ألأديان فسنجد أن ألإنسان تعبَّد لآلهة هي أشياء مادية محسوسة ( ألشمس والقمر والنهر والبحر وألجبل والنار والرياح وكذا أنواع ألحيوان أو ألنبات ) وكان يتعبد لها مباشرة بدون وسيط وتشبيهات وأراميز داعيا وطالباً ألخير منها أيضاً أشياء مادية محسوسة ألماء وألطعام ووسائل ألدفء ، وأن تقيه ألشرور ألمحسوسة ـ ألعطش وألجوع وألبرد وألآلام من ألنار وألأمراض وألموت ضحية ألإفتراس من ألآخرين ألخ . ألخير وألشر وألفرح وألرعب لم تكن مفاهيم مجردة عن ما تعنيه بصورة مادية محسوسة ملموسة مباشرة ، بل ولربما أو بألتأكيد لم تكن هنالك في لغته كلمات تدل على هذه ألمفاهيم بمعانيها ألشمولية . ( مع ألعلم أن مثل هذه "ألمفاهيم" بشكلها ألخاص ألمرتبط مباشرة بألمؤثرات وألمؤشرات ألمادية ألخارجية ، كانت موجودة بصورة مشتركة كما عند ألإنسان ألأول كذا عند أغلب ألحيوان في "لغاتها" ألمختلفة ) فقط مع سيادة ألعقل ألتشبيهي والوصفي وعملية نشوء أللغه ألمتطورة كإطار للتواصل ألجماعي بدأ ظهور ألوسائط وألآراميز للآلهة وأيضاً تعميم مفاهيم ألخير وألشر وألخطر ألخ والتي صاحبت نشوء ألأديان ليس فقط كمعتقدات بل و كشرائع إجتماعية تقنن حقوق وحاجات وواجبات ألأفراد. قبل أو مع بدء ألحضارات إزداد إتساع وتنوع وتعقد أللغات ألبشرية وتعمقت معاني ألكلمات فظهرت وإتسعت قائمة ألكلمات ـ ألمفاهيم ألتي لا تسمي أشياء أو علائق وصفات محسوسة بحد ذاتها أو مرتبطة بها بشكل مباشر كمفاهيم ألجمال أو ألمحبة أو ألسعادة . وأصبح ألعقل ألإنساني يتجه من ألتفكير ألغريزي ألمباشر وألتشبيهي والوصفي إلى ألتفكير ألمنطقي ألقائم على إحتساب أللغة ومفرداتها أساسا في ألحساب ألدماغي ووعي ألعالم ألمحيط وفي ألتفاعل معه بصورة جماعية وبرمجية عقلانية . أعتقد في هذه ألفترة أو في أواخرها بألذات نشأت بذور ألفرقة بين مايمكن أن نسميه أليوم بألدين أو ما نسميه ألفلسفة . ألنهج ألديني تشبث وما زال متشبثا بإعتبار ألكلمات ـ ألمفاهيم كـ ذوات ، وأضفى صفة ألإطلاق وألأبدية على أللغة ذاتها . بينما ألنهج ألفلسفي إعتبر ألكلمات ـ ألمفاهيم على خطورة مضامينها إنعكاساً ذهنيا مفصولا شكليا عن ما تدل عليه من أشياء حسية . مع تطور ألعقل ألمنطقي وظهور فن ألكتابة في حضارات بلاد ألنهرين وألهلال ألخصيب ووادي ألنيل كما في ألهند وألصين ونقال ألحضارة إلى بلاد أليمن وفارس واليونان والرومان وغيرها ومع تطور علوم قياس ألأرض وهندستها ( ألجيوميتريا ) لإعراض ألزراعة وألبناء وألجيوغرافيا و حسابات ألفلك وزوايا ألأجرام ألسماوية وغيرها من أنواع ألحساب وألقياس ألتي يحتاجها ألمجتمع ألمتزايد ألتعقيد وألمنظم في دولة تضع لها مشاريع وأهدافا مستقبلية كبناء ألسدود وتأمين وفرة ألموارد ألطبيعية وبألأخص ألمعادن وصناعتها وصناعة ألزجاج وصناعة ألمرايا ألتي كانت إستعمالاتها تترك أثراً بالغاً في ألنفوس وألأذهان ( مما أرَّخَتهُ ألقصص وألأساطير ألبديعة ) ، مع وفي خضم هذه ألتطورات بدأ ظهور علم ألرياضيات وحكمائه . وألرياضيون عادة يتدخلون ويدسون أنوفهم بكل شيء وحتى بألموسيقى ، ( هذا بألفطرة ألسيئة !! ) . ولكن هنا لا أريد أن أتهمهم بأنهم زجوا بأنفسهم في شؤون ألدين وألفلسفة ، ـ ألكهنه في مختلف ألأديان هم ألذين إحتاجوا ألرياضيات وخطبوا ود حكمائها ليفسروا لهم إرادة ألآلهه أو ليبنوا لها ألمعابد بألنسب ألذهبية ألتي تغري بجمالها وتوحي بألأبهة من ألخارج وألنسبة ألذهبية في أبعاد ألقاعات ألداخلية بحيث أن أوطأ صوت وحشرجة للكاهن يصل لكل ألأرجاء . ألأديان بطبيعتها ألمحافظة لم تترك أسلوبها ألأسطوري وألوصفي ألتشبيهي مع إدخال ألسفسطة ألكلامية ألغنية بألتناقضات ألمنطقية واللف وألدوران لتعليل أطروحاتها ألمثبته مسبقا ( في ألواقع خلّفت لنا أمثالا بديعة من ألسفسطة ساهمت بتناقضاتها ألضمنية ألجميلة في إغناء ألعقل وألكفاءة أللغوية للبشر ) ، فما كانت لتتجه بروح ثورية إلى ألتعليل ألمنطقي ألمباشر فكيف عن إدخال الرياضيات في مرتكزاتها ألإعتقادية ، ولكنها مع ذلك إستلهمت بعض ألأفكار من ألحساب ألرياضي في قضايا ألتشريع وحاولت في ذات ألوقت تطويع علم ألرياضيات لخدمة مآربها وترسيخ معتقداتها في نفوس ألبشر ومن ذلك مثلا ما يخص نظرية ألأعداد ألبسيطة وألمركبة وتحولاتها فجعلت بعضها رموزاً للشر وألشيطانية وأضفت ألقدسية على ألأعداد ألمتآخية وما إلى ذلك. بينما ألفلسفات ألمادية ( إذا كان لنا أن نسميها كذلك آنذاك وهي قد نشأت في رحم ألفكر ألديني ألسائد وتبلورت عبر نقد تناقضات ألفكر ألمثالي وآثاره ألإجتماعية ـ ومن هنا عند أغلب ألمجتمعات ألبشرية إستحصلت على لقب أو مصطلح ألفلسفات ألكلامية ) كانت ألأكثر جرأة في تحديد معاني ألمفاهيم وإستعمال ألبناء ألمنطقي ـ أللغوي ألصحيح وألعقلاني في دأئرة ألعلوم وألمعارف ألمستحصلة حينذاك ، للربط بين ألأسباب وألنتائج . وفي توَّخيها للدقة في إثبات ألسببية وتعليل وفهم ألظواهر ألطبيعية وألإجتماعية ما كانت تستغني عن جملة ألعلوم وبألأخص طرق ألحساب وألفكر ألرياضي ألناشىء بحيث أوجدت عناصر جديدة في ألثقافة ألإنسانية كحساب ألموسيقى وعناصر ألتناغم ألجمالي في ألرسم وجعلت هذه وغيرها من ألمعارف ألتي أطرت نوعا أو بمعنىً ما بشكل رياضي ومنطقي ، في صلب ألفكر ألفلسفي كأجزاء من نظام شمولي على إعتبار ألفلسفة هي " علم ألعلوم " بإضفاء صفة ألإطلاق كما تفعل ألأديان ألمختلفة ألتي تعتبر نفسها مالكة للحقيقة ألشمولية ألمطلقة . بألواقع علم ألرياضيات (" بكل فروعها" ) كأسس ومفاهيم وألغاريتمات وأساليب برهنة كان إلى وقت قريب يُـنظر إليه كشيء موحد متكامل وشمولي مطلق . ألآن مع دخول ألفكر ألتجريدي وألدراسة ألمعمقة للأصول وألمفاهيم ألرياضية أصبحنا نعلم أن من ألحق ألقول علوم ألرياضيات وليس فروعها وأنها لا تحمل ألتكامل فهي ليست شمولية رغم أنّ دورها يزداد بإطراد كلغة رئيسة للعلوم وألمعارف ألبشرية . وأيضا هي ليست مطلقة ، فخصوصا بعد أن خلّصها ألفكر ألتجريدي من مصطلح ومفهوم ألبديهيات أصبح من ألواضح أنها تحمل ألتناقضات في جوهرها وألتي هي سبب تطورها ككل ألفكر ألإنساني بذاته . لهذه ألنقاط سنتطرق بعد حين . من ألصعب تتبع ألآثار ألمباشرة ألتي تركها تطور ألعلوم ألرياضية كأحداث بألتعيين على تطور ألفهم ألديني وألفلسفي في ألفترة ألتاريخية ألتي تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام وألتي شهدت أكثر ألحضارات إزدهارا في مختلف أرجاء ألأرض وأيضا أهم ألأديان وألفلسفات شمولية وعمومية وألباقية في ألوعي ألإنساني حتى أليوم . ألصعوبة تكمن كما في التباعد ألزمني وألجغرافي كذا في عِظم وسعة ألإكتشافات وألإختراعات ألرياضية ألتي إبتدعها ألفكر ألإنساني هنا وهناك . على سبيل ألمثال نحن نستطيع ألتوكيد على تأثير ألمنطق ألأرسطوي ـ ألثنائي على ألفلسفات ألإسلامية بعد أن ترجمت كتبه إلى ألعربية أو تأثير علماء كألخوارزمي وغيره ممن إستعملوا أساليب ألبرهنة ألرياضية ولو بأبسط صورها على طبيعة ألوعي وطرق ألتفكير وبألتالي ألنظرة ألفلسفية للعالم ألمحيط ، ولكن هل نستطيع معرفة تأثير نظرية ألأعداد ألصينية ألتي أضحت ولن تزل من أهم أجزاء نظرية ألأعداد ألكلاسيكية ألحديثة وهي رغم عراقتها نقلت مباشرة إلى أوربا فقط قبل قرنين من ألزمن أي بعد تطورات هائلة في نظرية ألأعداد هنالك ، هل نستطيع تتبع تأثيرها على ألفكر ألفلسفي ألأوربي ألذي كان شهد تحولات هائلة قبل وصولها ، أم هل يجب بحث تأثيرها فقط في ألفكر ألديني وألفلسفي وحتى في بعض ألتقاليد في ألصين ذاتها ؟ وعن كل هذا معلوماتنا قد تكون ضئيلة جداً . ألشيء ألأهم من ألبحث ألتفصيلي وملاحقة ألأحداث وألتطورات في هذه ألحقبة ألتاريخية ألطويلة هو ملاحظة أن أساليب ألتفكير ألفلسفي وحتى أسلوب ألطرح ألديني أخذا يتجهان من ألوصفية والمنطقية ألبسيطة أو تلقين ألقناعات ألجاهزة إلى أساليب ألتحليل ألمنطقي ألعميق بتحديد وتجذير معاني ألمفاهيم ، أو بأضفاء ألطابع ألمنطقي ألشكلي من خلال ألسفسطة ألكلامية وألتلاعب من خلال ألتناقضات ألمنطقية ألفعلية أو بإستبدال معاني المفاهيم أوتقديس ألمصطلحات أللغوية ذاتها بدون ألولوج في ألمضمون ألذي تعنيه ، ومن هنا وهنالك تجري محاولة ألبرهنة ألعقلانية ألتي لا تخلو من ألمجاراة بشكل مباشر أو غير مباشر لطرائق ألحساب ألرياضي أو ألإستشهاد بألمعارف ألمحصلة عنها .
يتبع .
#ماجد_جمال_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول مقال فائض القيمة للأستاذ الزيرجاوي ، والسيدة زينة محمد .
-
الكتاب العظماء في الحوار المتمدن !
-
سوريا : آذار حزيران 2011 آذار حزيران 2012 والبعبع الإسرائ
...
-
هل نحن بحاجة لحزب علماني أم لحزب إنساني ( إلحادي ) ؟
-
حول الوضع في العراق ! 2
-
حول الوضع في العراق ! 1
-
ألأستاذ حامد الحمداني ألمحترم .. سؤال .
-
مقتل القذافي ومحاكمة وإعدام صدام .. أيهما أكثر تحضراً ؟
-
ألإلحاد و ربيع ثورات شعوب البلدان ألعربية ( ألتأثير ألمتبادل
...
-
من صنع بن لادن ؟
-
وقفة خشوع
-
ألأديان وألروحانيات و ألإلحاد ، رد على تعليق .
-
ألأديان وألروحانيات و ألإلحاد
-
هل الله يحكم ؟.. أم أوباما رئيس ألولايات ألمتحدة ؟
-
ألتحولات ألديموقراطية في ألدول ألعربية هل تصب في مصلحة إسرائ
...
-
دعوة للصلاة ألتضامنية
-
منتدى ألملحدين ألعرب .. وألصمت ألمريب !
-
رد على تعليق أيار ألعراقي على مقالتي ألسابقة ! ( 3)
-
رد على تعليق أيار ألعراقي على مقالتي ألسابقة ! ( 2)
-
رد على تعليق أيار ألعراقي على مقالتي ألسابقة ! ( 1)
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|