|
الشيوعيون والوحدة العربية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3696 - 2012 / 4 / 12 - 20:40
المحور:
مقابلات و حوارات
الشيوعيون والوحدة العربية حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان -13 أجراه: توفيق التميمي تاريخ النشر 11/04/2012 04:23 PM
(القسم13) مواقف من الحرب أستطيع القول إذا اعتبرنا قيام الدولة الصهيونية العام 1948 والكارثة التي حلّت بالشعب العربي الفلسطيني حدثا من أخطر الأحداث التي مرّت بالمنطقة، فإن اندلاع واستمرار الحرب العراقية- الإيرانية لنحو 8 سنوات يعتبر واحداً من الكوارث الكبرى التي حلّت بالمنطقة وصولاً إلى الاحتلال الأميركي بالعراق. وبقدر ما تثير الحرب العراقية- الإيرانية من إشكالات عسكرية وسياسية دولية، فإنها أثارت في الوقت ذاته إشكالات نظرية وعملية، ولعل الموضوعة الأساسية في تلك الإشكاليات هي التي برزت في الآراء والمواقف المتباينة والمختلفة حول وجهات النظر من مسألة إنهاء الحرب أو استمرارها؟ كان البعض يعتقد أن " استمرار الحرب" هو السبيل الكفيل بإسقاط نظام صدام حسين، مثلما كانت تعلن إيران ذلك" تبريراً" لاستمرارها في الحرب. وتؤيدها في ذلك القوى الإسلامية، وقد ذهب ما يسمى " مؤتمر نصرة الشعب العراقي" الذي انعقد في طهران 24-27 كانون الأول (ديسمبر) 1986، إلى ذلك مقتفياً الموقف الإيراني، حين دعا إلى " استمرار الحرب حتى الإطاحة بنظام صدام حسين" ومن الجدير بالذكر أن هذا المؤتمر الذي أريد له تزكية للموقف الإيراني، خصوصاً لهجوم كربلاء الذي جرى الإعلان عنه بصخب وضجيج عشية انعقاد المؤتمر، قد شاركت فيه بعض القوى القومية الكردية التي أعلنت إنحيازها لإيران، إضافة إلى القوى الدينية وبعض الشخصيات العراقية، في حين قاطعه الشيوعيون والبعثيون وبعض القوى والشخصيات الوطنية والقومية، خصوصاً من وصلته دعوات أو استطلع رأيه بالحضور، فاعتذر. وبصرف النظر عن النوايا والدوافع والتكتيكات والأهداف التي تكمن وراء تلك الأطروحات، الاّ أنها حسب تقديري لم تكن تقيم وزناً لمخاطر دخول جيش أجنبي إلى العراق، خصوصاً في ظل تصاعد المشروع التوسعي الإيراني، الذي كان يعلن صراحة عن هدفه بإقامة نظام حكم إسلامي في العراق بعد إسقاط صدام حسين. ويمكن القول أن هذا التقدير الخاطئ ينطلق من رؤية خاطئة وضارة للحركة الوطنية العراقية، وهو ذات التقدير بشأن تأييد الحصار على العراق طوال أعوام التسعينيات وصولاً إلى الاحتلال العام 2003، وهو ينطلق من رؤية تعويلية على الخارج وشعور بالعجز وحالات يأس مريرة ونظرة تشاؤمية، إضافة إلى ما في بعضها من عدمية وطنية وقومية لا تأخذ بالحسبان المخاطر التي تهدد العراق ومساعي القوى الامبريالية الهادفة إلى تمزيقه وتقسيمه إلى دويلات وهو ما ورد في تصريحات لبعض القوى السياسية الكردية لجريدة اللوموند الفرنسية في نيسان 1987، فضلاً عن أبعاد المشروع الإمبريالي- الصهيوني الجديد الرامي إلى تفتيت دول المنطقة وتحويلها إلى كانتونات طائفية وعنصرية وفئوية. إن الاستهانة بموضوع " إنهاء الحرب" وتأجيلها إلى ما بعد إسقاط النظام الدكتاتوري، كان يعني فيما يعنيه استمرار الحرب وإلحاق المزيد من الكوارث والويلات والمآسي بالشعبين العراقي والإيراني، فضلاً عن كونه يلحق أفدح الأضرار بالنضال ضد الدكتاتورية ومن أجل إسقاطها وإقامة البديل الوطني المنشود، ودرء الاحتلال الإيراني ومنعه من التقدم أكثر فأكثر داخل الأراضي العراقية. بتقديري أن الموقف الصحيح والمسؤول كان هو الذي ينطلق من روح الشعور بالمسؤولية إزاء المصالح العليا للشعب العراقي والمصالح القومية العليا لحركة التحرر الوطني العربية. فاستمرار الحرب وما كان سينجم عنها من مضاعفات وتعقيدات، وآلام واحتمالات سوف لا يؤدي إلى خدمة هدف إسقاط الدكتاتورية، بل يعرقل نضال الشعب العراقي وتحرك قواه الوطنية والتقدمية ومن موقع وطني عراقي ثابت لإسقاطها، بما فيها بعض القوى من داخل النظام نفسه. ولذلك فقد كان إنهاء الحرب ورفض الاحتلال الإيراني للأراضي العراقية والوقوف بوجه الخطط الحربية والأطماع التوسعية الإيرانية، أرضية سليمة لإسقاط الدكتاتورية وتعبئة كل الطاقات الشعبية والوطنية، ومنها داخل القوات المسلحة، للتخلص من الدكتاتورية وإقامة البديل الوطني الديمقراطي. وهنا كان لا بدّ من بذل جميع الجهود عراقياً وعربياً ودولياً لشعار إنهاء الحرب المدمّرة وحشد جميع الطاقات تحقيقا لهذا الهدف، كما كان يقتضي الأمر التمييز والتفريق بين الدعوات لرفض الاحتلال الإيراني للأراضي العراقية، ومن أي جهة كانت والحفاظ على الاستقلال الوطني وصيانة السيادة الوطنية ووحدة الأراضي العراقية، وبين دعوات النظام الدكتاتوري للدفاع عن نفسه، كما ينبغي أن لا تفضي الدعوة لإنهاء الحرب لخدمة النظام الدكتاتوري، بل لتسهيل مهمة إسقاطه. وبعد فالحرب العراقية- الإيرانية، فصل من أعنف وأقسى الفصول المأساوية في تاريخ المنطقة، وكان لا بد لهذه المأساة أن تنتهي وأن تتوقف وأن يصار إلى تسوية عادلة وسليمة تضمن مصالح وحقوق الشعبين والبلدين ومصالح حركة التحرر الوطني في المنطقة، على أساس قواعد القانون الدولي المعاصر وميثاق هيئة الأمم المتحدة ، وتعيد البلدين إلى ركب البلدان المتحررة في النضال ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وبدلاً من الإنهماك بإعادة الإعمار وبناء ما خرّبته الحرب والتوجه لتحقيق التنمية وحل مشكلات البلاد السياسية والاقتصادية، بما فيها مشكلة الحكم نفسه، فقد إتجه النظام في العراق إلى مغامرة جديدة، لاسيما باحتلال الكويت. لا يستطيع أحد أن يجادل اليوم أن شعار استمرار الحرب كان شعاراً صحيحاً، مهما كانت المبررات، لاسيما وأن الكارثة حلّت بالشعبين وأزهقت مئات الآلاف من القتلى والجرحى وعشرات الآلاف من الأسرى، كما لا يستطيع أحد أن يجادل اليوم أن استمرار تجويع الشعب العراقي لمدة 13 عاماً كان صحيحاً أو ثمناً مقبولاً لشن الحرب على العراق للاطاحة بالنظام، ولكن البعض قد يبرر اليوم تلك المواقف بالقول أنه لم يكن العنصر الحاسم في استمرار أو وقف الحرب أو في فرض الحصار واستمراره من إلغائه، لأن الأمر كان بيد القوى الدولية المتنفّذة، التي لم ترغب بوقف الحرب، بل أرادت استنزاف طاقات البلدين وانهاكهما لكي يتم إشغالهما عن مشكلات التنمية الانسانية بكل حقولها، فضلاً عن إبعادهما عن دائرة الصراع العربي- الاسرائيلي جوهر مشكلة الشرق الأوسط. كما أن سياسة فرض الحصار والعقوبات على العراق كانت تستهدف الاحتواء فالاطاحة، وتلك القناعة كانت سائدة في عهد الرئيس كلينتون وأصبحت تدريجياً تعني الاحتواء المزدوج (العراق- ايران)، لكن صدور قانون تحرير العراق من الكونغرس 1998 وصعود مجموعة الصقور لاسيما في عهد الرئيس بوش الإبن، بما فيهم بول وولفتز وديك تشيني وكونداليزا رايس ودونالد رامسفيلد وآخرين فضلاً عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الإجرامية في العام 2001 كان وراء الإسراع بعملية غزو العراق واحتلاله. ولكن القوى الدولية كانت تحتاج إلى أصوات عراقية مؤيدة لخططها وهو ما حصل من جانب بعض القوى المعارضة. وإذا كان صحيحاً أنها لم تكن القوى الحاسمة أو المقررة أو المؤثرة في القرار، لكن الواجب الأخلاقي والإنساني والاعتباري كان يقتضي عدم تأييد استمرار الحرب أو تأييد فرض الحصار أو تأييد احتلال العراق، حتى وإن كانت قد استمرت في النضال للاطاحة بالنظام الدكتاتوري الذي دفع العراق إلى كل تلك الكوارث، وحتى لو استفادت موضوعياً من البيئة المعادية لنظام الحكم في العراق، لكن ذلك شيء مختلف عن الإنخراط في المشروع الخارجي، الذي أوقعها في ورطة حقيقية. أتذكّر أن الكثير من الأصوات إختفت بعد وقف الحرب العراقية- الإيرانية ونقل البعض رحيله من القوى الإقليمية بما فيها إيران إلى القوى الدولية، لاسيما بعد مغامرة الحكم في العراق لغزو الكويت في العام 1990، الأمر الذي دفع بعض القوى الدينية التي كانت ترفض التعاون مع القوى الأخرى، لاسيما قوى اليسار، إلى القبول بها والجلوس معاً في لجنة العمل المشترك 1990 ومن ثم في مؤتمر بيروت في العام 1991 والمؤتمر الوطني العراقي في العام 1992. ولعل الموقف من الحصار والتعويل على القوى الخارجية كان محط جدل جديد، الأمر الذي أدى إلى انسحابات وتصدّعات في المؤتمر الوطني العراقي، ولم يحضر العديد من القوى مؤتمر ونزور العام 1999 ومؤتمر نيويورك ومؤتمر لندن العام 2002، بسبب تلك التوجهات، حتى أن حزبي الدعوة والحزب الشيوعي وإن ظلّت علاقاتهما قائمة مع أطر المؤتمر الوطني، لكنهما لم يكونا قادرين على حضور المؤتمر بأجنداته المعلنة، وإن أيّداها موضوعياً، الأمر الذي بدا محرجاً لهما وللعديد من القوى والشخصيات الوطنية. العروبة والقومية والأممية * تقول عن نفسك أنك تعتز بانتسابك إلى الأمة العربية وأنك عروبي غير تقليدي، ما الذي تقصده بذلك؟ ألا يفسر الأمر تراجعاً أو نكوصاً عن الأممية التي تبشر بها؟ ثم هل ثمة عروبة غير ما خلفته حكومات العروبيين والقوميين من ذكريات وقمع وانتهاك وبؤس؟ خذ مثلاً التجربة الناصرية العروبية والصدامية العروبية اللاحقة لها... ألا تعتبر أن العروبة والقومية في هذه اللحظة تعدّ استفزازاً لضحايا الحكام الذين لم يجدوا الاّ في العروبة والقومية كمراكب لسلطتهم الجائرة والبربرية؟ - هذا سؤال وجيه لاسيما وهناك تشوش وإلتباس يتعلق بالمفاهيم، فالقومية غير العروبة وللأسف فقد حوّل " القوميون" العروبة إلى " قومية"، في حين أن العروبة كانتماء وجداني وشعوري وعاطفي أمرٌ موضوعي، أي أن يكون شعور العربي عربياً ، والتركي تركياً والفارسي فارسياً والكردي كردياً والروسي روسياً والفرنسي فرنسياً وهكذا، ولكن هناك سجال حول الفكرة القومية، لاسيما إذا أردنا نقلها من حيّز الأفكار إلى حيّز الواقع، كما حصل في القرن العشرين من محاولات لتقليد الفكر القومي الأوروبي، ما حوّل العروبة إلى أيديولوجيا قومية وأدّى الى إحداث نوع من الالتباس والتشوش بالنسبة لانتماء المواطن، وقاد إلى تعميق إحساسه بالتجزئة والانقسام على الذات، أضف إلى ذلك أن تحوّل الفكرة القومية بوصفها "إيديولوجيا" إلى نظام سياسي حمل معه الكثير من مظاهر وممارسات الاستبداد والديكتاتورية والتسلّط، ونجم عنه ردود فعل لا بخصوص تلك الممارسات حسب، بل إزاء الفكرة القومية العروبية الوجدانية. قلت أنا عربي وأشعر باعتزاز بعروبتي ولعل أي إنسان سوي يشعر باعتزاز بآرومته وانتمائه الوجداني، التلقائي، الطبيعي، أما إذا أريد للعروبة أن تصبح قومية بمعنى آيديولوجيا، فإن الأمر سيكون مختلفاً تماماً، ولعل الطامة الكبرى عندما تتحول إلى نظام سياسي، فإن التسلط سيكون رديفاً لها ولأية قومية استعلائية حاكمة، لا في العالم العربي حسب، بل على مستوى دول المنطقة الفارسية والتركية والعالم أجمع وهنا هو الفارق. وبالمناسبة ليس هناك تعارضاً بين اعتزازي بانتمائي العروبي وبين عراقيتي وانحداري النجفي ونشأتي البغدادية، فأين التعارض في ذلك، ثم أين التعارض بين النظرة الإنسانية القائمة على المساواة وعدم التمييز بين البشر، سواءًَ على أساس قومي أو ديني أو جنسي أو لغوي أو إجتماعي أو غير ذلك. ومن هذا المنطلق فأنا كنت على الدوام مؤيداً لحقوق الشعب الكردي، بما فيها حقه في تقرير المصير، وبالأساس إنطلاقاً من أمميتي، ناهيكم عن الجانب الانساني والحقوقي، للعلاقة مع الآخر، ووفقاً للمشترك الانساني. إن احترام الخصوصية والحق في التمسك بالهوية الفرعية، لاسيما الإثنية أو العرقية، هو أساس اختبار عروبة العربي الحقيقي، خصوصاً إذا كان يمثل أغلبية في إطار التنوّع الثقافي والهويات الفرعية المتعددة لمجتمع ما، وهو الذي يعطيه مثل هذا الواجب المشرف، لا العكس، عندما يمارس استعلائية وفوقية واضطهاداً للقوميات الأخرى، فذلك سيتخلى عن عروبته، مثلما يتخلى الكردي عن كرديته بالإنعزالية وضيق الأفق القومي والبعد التناحري الذي سبّبه الاضطهاد القومي المزمن والمعتق بإسم "العروبة" أو بغيرها! ولعل ماركس هو من قال "أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً"، ولا أظن أن الشعب العربي في العراق أو غيره هو الذي اضطهد الشعب الكردي أو مارس الاستعلاء عليه أو النظر اليه بدونية، بل أن الحكام بغض النظر عن قوميتهم هم الذين مارسوا الاضطهاد والتنكيل بالشعب الكردي ومنعوه من التمتع بحقه في تقرير مصيره واختيار شكل العلاقة الحرة والطوعية مع شقيقه الشعب العربي، الذي هو الآخر عانى من اضطهاد آخر سياسي وليس قوميا، في محاولة لتطويع إرادته بالوسائل المختلفة. كان فهد أحد أبرز مؤسسي الحزب الشيوعي وأمينه العام هو الذي قال عشية إعدامه أنه وطني وعندما أصبح شيوعياً شعر بمسؤولية أكبر إزاء وطنه، أي أن أمميته، لم تمنعه من الاعتزاز بعراقيته، فلماذا تمنعني أمميتي من الاعتزاز بعروبتي وبعراقيتي وبغداديتي ونجفيتي، ولعل اللغة والدين هما الركنان الأساسيان في تكوين هوية الإنسان، وإن كان النظر اليها يختلف ويتطور، لاسيما فهماً وتفسيراً، لكنهما يظلاّن محمولين أساسيين مع الفرد في نشأته وتكوينه وتطوره اللاحق وفي هذا الجانب أشير إلى النقص الفادح في الفهم الماركسي، لاسيما العربي للمسألة القومية ومنها مسألة العروبة، ولا بدّ هنا من التأكيد أن هذا القصور الذاتي الذي انطوى عليه رؤية الماركسيين والشيوعيين العرب، تقوم على جانبين ، الأول عدم الانشغال بهذا الجانب المهم من البنية التكوينية للمجتمعات العربية، بل النظر اليها باستخفاف أحياناً. والثاني هو أن وجهة النظر كانت أقرب إلى المفهوم الأوروبي المبسّط للقضية القومية، لاسيما الاستعانة بخطوطها المعرفية، كما هي دون التفكير بالاجتهاد النقدي أو التجديد النوعي المطلوب. وكنت أرى أن عدم الاهتمام البحثي والمعرفي بالمسألة القومية، وقضية الوحدة العربية وسبل الاتحاد والمشتركات الانسانية ما بين الشعوب والبلدان العربية، إضافة إلى المسألة الفلسطينية، عرّض نظرة الشيوعيين العرب للإفقار، خصوصاً وقد ترافق ذلك مع بعض المواقف الخاطئة التي اتّخذتها غالبية الأحزاب الشيوعية، لدرجة تحوّل الكثير من الدعاة إلى مدافعين عن صحة وصواب تلك المواقف دون البحث في جوهر علاقتها بالفكر الماركسي. وكان النشاط المحموم والصراخ والدعاية والتنديد والاحتجاج بمواقفنا من جانب الخصوم " القوميين" أثره في ذلك، وفي اتخاذ موقف دفاعي . ولعل واحداً من الأسباب هو الموقف السوفيتي الخاطئ من قرار التقسيم العام 1947 وما بعده في الاعتراف بدولة إسرائيل في 15 أيار (مايو) 1948 وتردّده في الموقف من فكرة الوحدة العربية، لاسيما عندما انطلق النقاش حولها عشية توقيع الوحدة الثنائية السورية- المصرية (شباط/فبراير/1958) وقيام الجمهورية العربية المتحدة أو بعد ذلك بحكم الحساسية والاختلاف حول الاتحاد الفيدرالي أو الوحدة الفورية، حين دار الصراع بين الشيوعيين والقوميين في العراق بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958. قد تكون وجهة نظر الحزب الشيوعي السوري، لاسيما قيادة الرفيق خالد بكداش الذي لم يصوّت على الوحدة، وغادر البلاد إلى موسكو، كانت وراء بعض التصوّرات السوفيتية، إنْ لم يكن خالد بكداش نفسه قد أخذ رأي موسكو بهذا الشأن، باعتبارها " الباب العالي"، ولعل نظرة الشيوعيين العرب ظلّت سلبية من قضية الوحدة العربية ولا تزال إلى الآن. لقد تطور موقفي ورؤيتي للمسألة القومية، ليس في النظر إلى القوميات الأخرى فحسب، بل إزاء المسألة القومية العربية تدريجياً، ولم يكن ذلك دون معاناة أو ألم، وبقدر تأييدي لأي شكل من أشكال الاتحاد أو الوحدة أو أي نوع من التعاون والتنسيق بين العرب لاسيما وأن هناك ما يجمع البلدان العربية التي ظلّت جزراً متباعدة في حين يتجه العالم إلى التعاون والتنسيق بل والوحدة كما هو الاتحاد الاوروبي الذي يضم أمماً مختلفة ولغات متنوعة، بل وشعوباً كانت متصارعة ومتناحرة إلى وقت قريب، فإن نظرتي هي ذاتها إلى أي شعب مجزأ بما فيه الشعب الكردي وأنظر اليه من هذا الموقع في حقه في وحدة الأمة الكردية. ولكن أية وحدة ينبغي أن تقوم على أسس ديمقراطية ووفقاً لقناعة الشعوب ذاتها، كما أتمنى أن تقوم على أسس إجتماعية، تتعلق بالعدالة والمساواة وسيادة القانون، وكل ما له علاقة بخير الناس ورفاههم، خصوصاً بالتنمية الإنسانية. لقد إعتبر بعض الشيوعيين والماركسيين كون الماركسية نظرية شمولية، بمعنى لا حاجة لها لأبحاث تفصيلية، لقضايا إشكالية مثل قضايا الوحدة، وكان الأمر يتطلب من الحركات الشيوعية إيلاء اهتمام أعمق وعناية أكبر بقضية علاقة الشعوب العربية مع بعضها البعض، لاسيما وأن المكوّن الجمعي للشعور الشعبي مهم، وذلك إذا أردنا الإستعانة بكارل غوستاف يونغ عالم الاجتماع، خصوصاً بما له علاقة بالطبائع الجمعية للمجتمعات العربية. قلت في كتابي تحطيم المرايا: في الماركسية والاختلاف، وأكرر هنا وهو ما أقوله منذ ما يزيد عن ربع قرن بنقد ذاتي: ومثلما تركنا خزانة الكتب التاريخية والدينية، للقوى الاسلامية أو " الاسلاموية" فقد أدرنا الظهر للتراث العربي والانتماء التاريخ والمشترك الانساني الذي يجمع العرب واعتبرناه من غختصاص أحزاب قومية وفي الغالب قوموية وكنّا نستصغر ذلك، علماً بأن نظرة غالبيتها لم تكن بعيدة عن الفكرالأوروبي إزاء مسألة القومية. وللأسف فقد استطاعت هذه الأحزاب والقوى تجيير مسألة العروبة لصالحها، بل أنها سحبت الشارع أحياناً إلى صفّها، وهي بعيدة كل البعد عن تحقيق مستلزمات العروبة والانتماء الذي تجسّده أو ترتقي اليه. ولم تدّخر هذه القوى والأحزاب وسعاً حتى كادت أن تنفرد بإدعاء الوعي التاريخي بأهمية تلك الفكرة وتجسيداتها، كهوية خاصة ومكوّن أساسي، لا يمكن إغفاله أو التنكر له. كنت ولا أزال أتوقف حائراً بعجب، وبقلق في الوقت نفسه كيف لشيوعي لا يعتز بقوميته. وفي الوقت الذي كنت أرى شيوعياً كردياً يفخر بكرديته (كراديتي)، بل بعضهم يشعر بالاعتزاز بفيليته، بعد عقود من النضال، ولا يقابل ذلك شيوعياً عربياً أو ماركسياً عربياً ذات الاعتزاز بعروبته. والأمر يحصل بذات الدهشة لي عندما أقابل شيوعياً روسياً أو تركياً أو إيرانياً أو فرنسياً، فأراه يعتز بقوميته وتراثها ولغتها، في حين كان بعض الشيوعيين ولا يزال البعض لا يجد وسيلة الاّ ويحاول فيها الانتقاص من الانتماء العروبي، وذلك في نظرة سطحية بأن العرب هم من كان يحكم العراق، وهو المعيار القوموي بالمقلوب للفكرة ذاتها، أما المعيار الطائفي والمذهبي، فيعتبر أن السنة هم حكام العراق، وعلى هذا المنوال يغزل البعض نسيجه من أن الشيعة هم من يحكم العراق الآن، ولذلك، كل ما يلصق سابقاً يكون باسم العرب والسنة، واليوم بإسم الشيعة الذي يرجع البعض إلى أصولهم الصفوية، في نظرة مسطحة لموضوع السلطة وتغوّلها بإسم هذا أو ذاك من المكوّنات أو دونها، ولكن بهدف إيجاد غطاء آيديولوجي، سياسي أو ديني، قومي أو مذهبي، للحكم ، أو هكذا يتصوّر خصومه أيضاً. ولذلك كررت في مناسبات كثيرة اعتزازي بانتمائي لعروبتي وكأن في ذلك جزء من التعويض عن الحرج عند الحديث عن العروبة لدى أصحابنا من الماركسيين " الأقحاح"، في حين أنني أحترم وأقدّر حقوق القوميات الأخرى، لاسيما حقها في تقرير مصيرها وقيام كيانيتها المستقلة، في إطار تحوّل ديمقراطي حقيقي ومساواة تامة ومواطنة كاملة، وهذا الأمر هو الذي يؤاخذه عليّ البعض، فإما أن يعتبرني تخلّيت عن ماركسيتي الصارمة " النقية" لحساب الفكرة العروبية، أو أن البعض الآخر يعتبر إيماني بحق تقرير المصير، إنما هو جنوح باتجاه معاكس للعروبة وتأييد للانفصال وتقسيم العراق ودول المنطقة، خصوصاً المتعددة القوميات. وإذا كان حسن الظن متوافراً، الاّ أن دهاليز السياسة وتقاطعاتها قد تذهب أبعد من ذلك، فتعتبر مثل هذا الموقف مجاملة أو ربما تواطؤاً سياسياً مع الكرد، وقد يذهب البعض أكثر من ذلك (حسب أصحاب نظرية المؤامرة)، في اعتبار الموقف الأول ممالأة وتساوقاً مع الحركة القومية العروبية النافذة أو القومجية في دعوتهم للعروبية" المرذولة" كما يعتقدون، وينّم كلا الموقفين من بعض "المتمركسين" أو غيرهم من أصحاب النظرة التبسيطية عن رؤية أحادية، فإما أن يكون الأمر تعبيراً عن جنوح برجوازي أو برجوازي صغير أو تقلّب وقلق، وفي كل الأحوال دليل عدم انحياز كامل أو ثابت، وتلك سمة الأفكار الشمولية النسقية التي لا تقبل أي قدر من الاجتهاد، لاسيما إذا بحثنا في الاتجاهين، في حين أن المسألة مركبة ومتداخلة ومفتوحة، بل متغيّرة في إطار الموقف الثابت من الانسان وحقوقه على المستوى الجماعي والفردي. وفي إطار حسن الظن أيضاً يمكنني أن أتفهم الاصطفافات المسبقة والجوانب الانفعالية والعاطفية لدى البعض وعدم قدرتهم على قراءة واستيعاب الظاهرة المعقدة والمركّبة، فكيف يستقيم الأمر في كونك عروبياً وتدافع عن العروبة من خلال فهمك الماركسي النقدي، وأنت في الوقت نفسه مدافع عن حقوق الكرد، لاسيما المبدأ الحقوقي: حق تقرير المصير، بل وتعتبره الأساس في العلاقة مع الآخر.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرب العراقية – الإيرانية عبثية ، خدمت القوى الإمبريالية وا
...
-
الميثاق الاجتماعي العربي: تنازع شرعيتين
-
الحزب الشيوعي وتشكيل الجبهة
-
معارضة الحصار
-
في بشتاشان
-
كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
-
كلمة الدكتور شعبان في تكريم الاستاذ عزالدين الأصبحي
-
الأكراد في النجف
-
الحركة الطلابية
-
من هو العراقي؟
-
الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة
-
ماذا بعد الربيع العربي!
-
قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-
-
المساءلة: عدالة أم انتقام؟
-
الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية (
...
-
حلبجة: العين والمخرز! - شهادة عربية حول حلبجة والأنفال
-
“إسرائيل” . . من حل الصراع إلى إدارته
-
البارزاني في ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين..الكاريزما الشخصية
...
-
الأمن أولا والحرية أخيراً.. والعنف بينهما
-
العدالة وإرث الماضي
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|