مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3694 - 2012 / 4 / 10 - 13:18
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
هناك شيء غريب فيما يتعلق بالنخب , التي طالما انقسمت و تنازعت , طالما كانت النخب تفكر و تتجادل فيما يتعلق بها فإنها تختلف و تنقسم , لكن ما أن تبدأ بالحديث عن "الآخر" , آخرها – العامي , حتى تبدو , مهما بدت خلافاتها , أنها أصبحت قادرة فجأة على الاتفاق .. كان الخلاف بين ابن رشد و الغزالي هائلا , كان ابن رشد يقسم الحقيقة إلى مستويين , واحد للنخبة , هي الحقيقة الفلسفية العقلية , و أخرى للعامة , هي الأديان بشكلها التسليمي . بينما كرس الغزالي كل قدراته و ملكاته الجدالية في تهافت الفلاسفة لدحض الحقيقة الفلسفية العقلية التي "أغوت" الفلاسفة , كان هدفه المعلن هو إثبات حقيقة واحدة فقط , هي الحقيقة النصية – الطقسية , اللاعقلانية , حقيقة واحدة فقط لكل إنسان . من الواضح أن محور ذلك الجدال أو الخلاف العميق , بينه و بين ابن رشد الذي رسم ملامح الحياة الفكرية لعصر بأكمله , قد اقتصر على ما تعنيه الحقيقة بالنسبة للنخبة فقط , رغم أنه قد يمكن الزعم أيضا أن هدف الغزالي الحقيقي كان هو التأكيد على فكرة ابن رشد نفسها أي على الطبيعة التسليمية اللاعقلانية للحقيقة كما يجب أن تعلن للعامة أساسا , كان إطلاقه لأحكام مثل من تمنطق فقد تزندق و تكفير و تجريم أي محاولة لاختراق هذه الحدود للتفكير , كان يقصد بها أساسا العامة و ليس الخاصة أو النخبة نفسها , يبدو أن الهدف من كل ما قاله الغزالي و غيره يومها هو إنتاج رفض شعبي لأي فكر عقلاني أو عزل هذه الأفكار عن الجماهير بحاجز من مثل هذه الأحكام القاطعة التكفيرية , الأمر الذي قبل به أيضا منتجو الأفكار العقلانية أنفسهم أي معظم "المثقفين" أو "الفلاسفة" و على رأسهم ابن رشد نفسه , كان هذا انسجاما غريبا سهل في الواقع مهمة السلطة القائمة و منظريها كالغزالي في عزل الجماهير عن الأفكار العقلانية في نهاية المطاف .. ابن رشد من جانبه , و عمليا معظم "النخبة المثقفة" المتفلسفة , لم توجه أو تستخدم عقلانيتها ضد السلطة القائمة , بل إن ابن رشد شغل منصبا رفيعا في منظومة السلطة يومها , صحيح أن إنتاجه الفكري لم يكن له علاقة مباشرة بوظيفته الحكومية لكنه أيضا لم يستخدم هذا الإنتاج بطريقة قد تزعج السلطان الذي كان يعمل في بلاطه , و استمر في وظيفته الحكومية الرفيعة طالما كان وجود هذا الموظف و كتاباته و أفكاره لا تزعج صاحب السلطان أو تسبب له المشاكل و ليس العكس , ما أن تغير الحال حتى كان على ابن رشد أن يطرد من منصبه الحكومي إضافة لإحراق كتبه أيضا , صحيح أن بعض المثقفين , كمؤسسي جمعية إخوان الصفا مثلا أو مؤسسي بعض فرق المعارضة حاولوا توظيف الفلسفة أو الفكر العقلاني عموما ضد السلطة في محاولة "لعقلنة" الواقع السياسي – الاجتماعي أي تغييره و إعادة بنائه من جديد على أسس "عقلانية" , لكن بعد فشل أو قمع تلك المحاولات , امتنع المثقفون عموما عن ممارسة أي دور سياسي معارض نشيط , حتى عندما تعرض ابن رشد للقمع من السلطة يومها بسبب أفكاره إرضاءا لرجال الدين التقليديين المعادين للفلسفة , فإنه لم يمارس أي نشاط معارض ضد السلطة , كان من الواضح أن خوف النخبة أو عدم ثقتها في الجماهير و عزلتها المتزايدة عن هذه الجماهير منذ إسقاط المشروع المعتزلي الأول قد جعلها هي أيضا تقدم تبريرها الخاص للوضع القائم و لهيمنة القوى السائدة , لقد استبقاهم أصحاب السلطان في حاشيتهم كديكور مطلوب لذاته في أغلب الأحوال و قد قبلوا هم عموما بهذا الوضع . هذا لا يعني أيضا أن الغزالي لم يحاول إنتاج فكر عقلاني خاص به , لقد مارس الرجل , في كتابه تهافت الفلاسفة و حتى في كتبه الأخرى , الجدال السفسطائي بجدارة , و سمح لنفسه أن يتجاوز الحدود الصارمة التي كان يصر على تحديدها للفكر عموما , عدا عن أنه هو أيضا عاش تجربة شك يشبه شك السفسطائيين في قدرة العقل البشري على معرفة الحقيقة انتهى به إلى الامتناع عن التدريس في مدرسته النظامية و أخيرا إلى الامتناع حتى عن الكلام , شك لم يمكنه التخلص منه إلا "بالرياضات الصوفية" , لكن الغزالي كان في الأساس موظفا حكوميا , بدرجة مفكر , و النتائج التي كان عليه أن ينتهي إليها من بحثه , كانت محددة سلفا , كانت أزمته الفكرية و النفسية الشخصية حقيقية لكنه كان مضطرا لحلها حلا تلفيقيا لإعادة إنتاج إيمانه هذا المحدد سلفا و المكرس بشكل مباشر لخدمة السلطة و لم يجد في أعماق روحه ما يمكنه من أن يحول تلك الأزمة إلى موقف عدائي جدي لا من التعليم النصي التسليمي الذي رفضه عقله بشكل فطري خارج عن إرادته و لا من السلطة القائمة بينما كانت مهمته أو وظيفته الفعلية هي الدفاع المستميت عن هذا الفهم النصي التسليمي للدين و استخدامه في مرحلة لاحقة لتبرير الوضع القائم و السلطة القائمة .. لا شك أن معاناة ابن رشد أيضا كانت جزءا من معاناة طويلة للمثقف العقلاني في مجتمعه , بين قمع السلطة و تخلف العامة و سخط رجال الدين التقليديين المعادين للفلسفة و حتى لشكلها قبل الفلسفي : علم الكلام . و لا شك أن هذه المعاناة قد دفعت هؤلاء المثقفين إلى تكريس نخبويتهم , و موقفهم الفوقي من الجماهير و كرس إنتاجهم الفكري نفسه كحالة محض فكرية , ليس لها أية أبعاد اجتماعية و لا سياسية بعيدة الأثر , مجرد حالة معزولة عن المجتمع بحكم الجهل أو التجهيل السائد في الطبقات الدنيا من هذا المجتمع – العامة , و هذا دفع هذه النخبة أيضا إلى محاولة الحصول على حماية السلطة القائمة في الأغلب , التي حاول البعض استجدائها تقريبا , و أن هذا الكره للعامة كان وراء إصرارهم على أولوية خضوعها لتلك السلطة , التي رؤوا فيها بالضرورة شيئا أكثر تقدمية من تلك الجماهير الجاهلة و الخاضعة أساسا لتأثير رجال الدين المعادين لأي محاولة عقلانية لتفسير و فهم الواقع .. لا شك أن أفكار ابن رشد قد بقيت لفترة من الوقت حبيسة جامعات أوروبا في نهاية القرون الوسطى و بداية فترة النهضة الأوروبية قبل أن تتطور إلى أفكار أكثر تقدمية و أقل نخبوية بدأت تجد طريقها إلى الجماهير , أحيانا رغم أنف النخبة نفسها , لقد لعبت عوامل مختلفة في تحويل العقلانية إلى سلاح بيد الجماهير ضد تحالف كل من السلطة المطلقة و الكنيسة , منها مثلا دور الطباعة في ظهور الكتاب الورقي الرخيص و المتاح على نطاق واسع و أيضا ظهور الصحافة المطبوعة الخ , كانت هذه العوامل ترتبط في الواقع بصعود الطبقة الوسطى – البرجوازية و محاولتها استخدام تلك الأفكار العقلانية ضد القوى المسيطرة لتستخدمها في فترة لاحقة لتبرير هيمنتها الخاصة .. لكن حتى هذه الطبقة , و أكثر منها , تلك النخب التي أنتجت الأفكار الاشتراكية و الشيوعية في محاولتها لنقد النظام البرجوازي , و التي افترض واضعوها أنها أساسا أفكارا للجماهير , مارسوا عمليا إقصاء هذه الجماهير , غالبا باسم تلك الأفكار نفسها , عنما اعتبروا أنفسهم كهنوتا خاصا بتلك الأفكار , "طليعة" , و افترضوا أن أفضل ما يمكن للجماهير أن تفعله هو أن تتبع تلك النخب فقط , و أنه كلما جرى ذلك بشكل أعمى كلما كان ذلك أفضل .. في معظم الأحوال , نجد أن النخبة اتفقت بمعظم أقسامها على نقطة أساسية , هي ضرورة استبعاد البشر "العاديين" عن مركز الأحداث , و حتى القبول بخداعهم كطريقة ضرورية للحفاظ على تبعيتهم , و أن تلك التبعية و ذلك الخضوع عامل ضروري لاستمرار و استقرار "المجتمعات" , هذا ما نجد ابن رشد و خصمه الغزالي يتفقان عليه في النهاية بالرغم من خصومتهما الشديدة
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟