|
فرسان الثقافة الصدامية .. خرجوا من الباب ، وعادوا من الشباك !
ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم
(Majid Alhydar)
الحوار المتمدن-العدد: 3686 - 2012 / 4 / 2 - 12:31
المحور:
الادب والفن
تقديم: هذه مقالة قديمة-جديدة سبق نشرها في صحيفة المدى منتصف عام 2004 ولم يسبق نشرها على صفحات الانترنت وأجد أن الكثير مما ورد فيها ما يزال متطابقا مع واقع الحال رغم مرور هذه السنوات وعليه اقتضى التنويه!
المتأمل لحال الصحافة العراقية ولصفحاتها الأدبية على وجه التخصيص سيصاب بالحيرة والذهول، وسيضرب كفاً بكف، ثم سيحتسب ، ثم يحوقل ، ثم يتعوذ من الشيطان ، ثم يردد بلسان إخوتنا المصريين : صحيح .. الّلي اختشوا ماتوا ! لمحة من الماضي في منتصف التسعينات من القرن المنصرم ساقني حسن الطالع الى التعرف على واحدة من القامات المنتصبة الرائعة في بساتين الأدب العراقي الحديث وأعني به استاذي الكبير "ألفريد سمعان". وكنت وأصدقائي نتساءل قبل ذلك عن مصير هذا الرجل الذي غابت أخباره مع صعود نجم "القائد الضرورة" وأفول شمس الثقافة العراقية الملتزمة الأصيلة.. كنا نتسائل عن الرجل: هل مات؟ هل هاجر؟ هل أعدم؟ هل سكت الى الأبد؟ كانت هذه الاحتمالات هي الخيارات الأكثر ترجيحاً في ذلك الوقت لمعرفة مصير كل من لم يجند قلمه في فيلق لطيف نصيف جاسم ويوسف حمادي وهاني وهيب ومن لف لفهم. ذلك الفيلق الذي رفع شعاراً واحدا وإن اختلفت كلماته : الثقافة في خدمة الإعلام .. والإعلام في خدمة صدام ! وصرت من يومها كلما جلست إليه في مكتبه الأنيق بين رفوف الكتب وصور الجواهري والسياب وغوركي وصوت فيروز أشعر أن قدراً كبيراً من كرامتي وثقتي بنفسي قد عاد إليّ وأن هناك قبالة فيلق "الوزير الغجري" على حد وصف الأستاذ "علي الحلي" فيالق من مثقفين نجباء رائعين صمدوا وجاعوا وشقوا وغامروا بأرواحهم كي لا يسقطوا في الهاوية المخزية. كان هذا هو موقفهم المبدئي – الستراتيجي كما يقول أهل السياسة والحرب. أما "التكتيكات" التي التزموها لتجسيد موقفهم هذا فقد تنوعت وتشعبت: فمنهم من آثر طرق "النشر الشفاهي" أي قراءة ما تجود به قرائحهم على ثلة صغيرة من الأصدقاء الموثوقين المؤتمنين. ومنهم من اتبع الطريقة المعروفة بطريقة "إميلي ديكنسون" الشاعرة الأمريكية الشهيرة في القرن التاسع عشر، وهي الاستنساخ اليدوي وتوزيع العمل الأدبي على أكبر عدد من القراء عن طريق الرسائل أو يداً بيد مع ملاحظة "التطوير" الذي أدخل على هذه الطريقة في بلادنا حين كان العديد من هذه الأعمال لا يرد فيها اسم الكاتب أو الشاعر تحسباً وخشية مما لا تحمد عقباه! ومنهم من سرّب أعماله كي تنشر خارج القطر أو في كردستان المحررة تحت أسماء مستعارة كما فعل أستاذنا الرائع "محي الدين زنكنه". ومنهم من لجأ الى الغموض والتورية أو التلاعب بالألفاظ أو الدعابة والسخرية ليمرر ما شاء من أفكار "معارضة" معتمدا على الغباء "المتميز" للرفاق أعضاء المكتب المهني أو مكتب الثقافة والإعلام كما فعل _على سبيل المثال لا الحصر- الفيلسوف الأستاذ "مدني صالح". ومنهم من آثر الاشتغال بالبحث الأكاديمي الرصين أو النقد الموضوعي الملتزم والالتفاف ببراعة حول ألغام أولئك المسؤولين كما فعلت النخبة الطيبة المعطاء من أكادميينا الأجلاء مثل الطيب الذكر الدكتور "علي جواد الطاهر" والأستاذ الدكتور "عناد غزوان" والمرحوم الدكتور "نوري جعفر" وغيرهم الكثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم. وأعيد هنا أن هذا كان دأب أساتذتنا وشيوخنا الأعلام الذين أخذوا حظهم من الشهرة والتميز قبل صعود الفاشية ممن لم يغادروا السجن العراقي الكبير –عجزاً منهم أو اختياراً- من جهة، ولم يسقطوا في الفخ ولم يلوثوا تاريخهم الناصع من جهة ثانية فخرجوا من المحنة بيض الوجوه والأيدي بقامات أعلى وأعلى . كان النظام -وزبانيته الإعلامية الوقحة- يقف لهؤلاء بالمرصاد ويتحملهم كمن يتحمل الداء العضال وينتظر منهم الزلات ويعد سقوط أحدهم في جوق التطبيل والتزمير نصراً يستحق الاحتفال كما فعل بالشاعر العراقي الكبير يوسف الصائغ حين فشل في اختبار التحمل والصبر فعرضته شاشات التلفاز وهو يعلن التوبة والندم ليكون ذلك اليوم لحظة حزن كبيرة حفرت عميقا في قلوب المثققين العراقيين ومنهم كاتب هذه السطور. أما الأدباء الشباب أعني الذين "كانوا" شباباً ممن تكاملت أدواتهم الفكرية والفنية ونضجت مع بداية الثمانينات فقد كانوا منذ البداية أمام خيارات اهونها أشد على المرء من خرط القتاد : الغربة ، الانكفاء واليأس، الغموض المفرط ، السقوط ، العبثية .... أو البقاء في الظل المهجور. كان الأمر بالنسبة اليهم لعبة خطيرة ومغامرة مخيفة. ولذلك لجئوا هم أيضاً الى خليط من الأساليب والتكتيكات لإيصال أصواتهم وانتزاع الاعتراف بمواهبهم ومن تلك الأساليب كتب الاستنساخ التي ظهرت بالعشرات أو المئات وخصوصاً في السنوات الأخيرة، وهي اختراع عراقي عتيد يستحق الدرس والتفحص والتوثيق ! وماذا عن الصحافة الأدبية الرسمية أبواب الصحافة الأدبية الرسمية كانت بالطبع موصدة أمام أولئك وهؤلاء، ومشرعة على مصراعيها لشعراء المديح القروسطي والتذلل والمكافآت السخية والمناسبات "الوطنية والقومية" وخصوصاً عيد ميلاد سيادته الميمون، ولكتاب قصةٍ ونقادٍ عنتريين يستلهمون من فكر "سيادته" وثقافته الرفيعة (تقرأ بنقطة أو نقطتين) حتى وصل الأمر بأحدهم الى تشبيه مهزلة زبيبة والملك بملحمة كلكامش-مفخرة آداب العالم القديم! كيف لا وقد وقف على هذه الأبواب حجاب احترفوا فنون النفاق والدجل والمحسوبية والرشوة وتلميع كتافيات (ولا أقول شيئاً آخر) المهيب الركن وابنه الأستاذ الفاضل وبهلوله عبد حمود ..الخ. أما ما كان يخلص من غرابيل أولئك الحجاب السلطانيين ويجد طريقه الى النشر مما لا ينتمي الى هذه الفئات فكان قصائد وقصص غامضة مرتبكة لا تكاد تفقه منها شيئاً تخال -لولا حروفها العربية- أنها كتبت بلغة أخرى ولا تثير في نفسك غير الملل والتثاؤب يمكنك قراءتها من الأعلى للأسفل وبالعكس ومقالات نقدية مقطوعة الأوصال عمل بها سيف المحرر والرقيب حذفاً وتعديلاً وترقيعاً حتى اخلقت أو صارت أشبه بالأحجيات. فإذا اغلقت عليك جملةٌ أو صورة ما، صار ينبغي عليك سؤال الكاتب عما عناه بذلك. فإذا كنت موضعاً لإتئمان سره أسرّ لك بالمغزى المعمّى وأعطاك كلمة السر (password) كما يقول أهل الكومبيوتر، وإلا فاذهب أنت وربك يا موسى! هذا إذا كنت من متوسطي الثقافة والعلم كحال العبد الفقير، أما إذا كنت من أهل الفطنة الخارقة للمألوف والألمعية الخارجة عن الحدود فأنت الفائز المحظوظ ! بعيداً عن الإطلاق ولأني أمقت –بطبيعتي- إرخاء العنان للأحكام المطلقة واستخدام كلمات مثل "كل" و"جميع" و"حتما" و"دون أدنى شك" ..الخ ، فإني لا أدعي أن هذا كان حال كل الصحف في جميع الأوقات ولا حال كل المثقفين الذين ينشرون فيها دون استثناء ، لكنه حال أكثر الصحف في أكثر الأوقات وأكثر الكتاب في أكثر الأوقات، إلا نخبة قليلة شجاعة ذكية يحتفظ أغلب أفرادها بقصص وحكايات لا تنتهي عن معاناتهم مع فرمانات المنع والحجب والقص والتبتير والتقزيم التي حولت الصحافة الأدبية الى مستنقع راكد ضحل يعج بالديدان والعقارب بدلاً من الواحة الغناء الرائقة العذبة التي كانت عليه حتى صعود الفاشية. فلأولئك النفر الصابر الشجاع ألف تحية وتحية! عود على بدء واليوم .. ما هي الصورة الجديدة للصحافة الأدبية الجديدة في العراق الجديد ؟! وهل هي حقا جديدة في كل خطوطها وألوانها؟ أم أن هناك خطوطاً وألوانا وضربات فرشاة قبيحة كريهة تسللت في الظلام الى هذه اللوحة الجميلة الواعدة التي قامت من بين الأنقاض والخرائب ودخان الحروب والهزائم ؟ ألم يعد الكثير من سماسرة الثقافة-الإعلامية الى تصدر الصفحات الثقافية، وإغراقها بـ"إبداعاتهم" الغثة التي لم تبتعد شكلاً ومضموناً عن صولاتهم وجولاتهم القديمة بعد إعادة طلائها، وتقريب من شاؤوا من محسوبيهم القدامى بغية إبعاد الأصوات الملتزمة الأصيلة التي حرمت زمنا طويلاً من متنفس حر ديمقراطي يستحقونه عن جدارة؟ قد يكون من بيننا من يتبنى نظرية العفو عما سلف على طريقة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم. قد يكون من بيننا من هو مستعد لإسقاط حقه القديم خدمة للمصالحة الوطنية ولسان حاله يقول : هنيئاً مريئا غير داءٍ مخامرٍ لعزةَ من أعراضنا ما استحلّتِ ولكن أيها السادة . يا فرسان المؤتمرات القومية والقطرية. يا صناديد الإيفادات والمكافآت. أبعد أن سكتنا دهراً تريدون أن تلووا أحناكنا لننطق كفرا؟ أبعد أن كنا لا نعرف من وزارة الإعلام غير طابقها التاسع حيث دائرة رقابة المطبوعات بينما تستطيعون الوصول مغمضي الأعين الى حيث دائرة الحسابات تحتها بطابق أو طابقين –لا أذكر بالتحديد لأني لم أزرها غير مرتين استجابة الى طلب بعض الأصدقاء سامحهم الله حين كانوا يوصونني بالمرور عليها والسؤال عن مصير مكافآتهم على قصائد يوم الزحف العظيم أو البيعة الميمونة أو طهور الأحفاد ! أبعد أن كنا لا نحفظ من وجوه موظفيها غير وجه "الحجية فردوس" الطيبة التي تتسلم نتاجاتنا التي نرغب بنشرها على حسابنا وحساب قوت أطفالنا وتقول لنا "عد بعد شهر أو شهرين ريثما يظهر تقرير الرقيب"، في الوقت الذي كنتم لا تفوتون فرصة إلا وقفزتم أمام وجوه الديناصورات المتنفذة وقد رسمتم ابتسامة متملقة متذلة و .. إشلونك أستاذ ؟! أبعد هذا وغيره مما يطول به الحديث تريدون أن تظلوا الشابندرات الحاكمين بأمركم في سوح (ستقرأونها سوق) الثقافة العراقية ؟ وأنتم أيها السادة رؤساء التحرير وأصحاب الإمتياز والمديرين المسؤولين. إحذروا هؤلاء. وتذكروا ما قاله الجواهري العظيم للزعيم الراحل مستنكراً ومحذراً "يا سيادة الزعيم .. أثورة بشرطة نوري السعيد ؟!" إنها ليست دعوة الى محنة كمحنة المعتزلة، أو محاكم تفتيش بابوية، أو حملات تطهير ستالينية. فلا نملك شيئاً من هذا بعد اليوم-والى الأبد كما نأمل ونتمنى. لكنها دعوة .. دعوة مخلصة من القلب الى الصدق والتطهر والشجاعة في مواجهة الذات والجلوس في الظل قليلاً لمراجعة النفس ومحاسبتها ونحن بالانتظار ! د. ماجد الحيدر [email protected] 1/3/2004
#ماجد_الحيدر (هاشتاغ)
Majid_Alhydar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمنية-قصة قصيرة جدا
-
الإله الأعسر-قصة قصيرة جدا
-
ديالوج بين رجلين فقدا السمع في الحرب
-
مساء الخير يا صديق-مع الترجمة الانكليزية
-
أغنيات خالدة-الحلقة 17-دوريس دَي-ابنة الجيران التي غنّت: كل
...
-
مونولوج طويل لرجل مخذول اعتادت الكلمات على خيانته
-
ماذا تقصد ؟(مسرحية في ستة أسطر)
-
وجه مألوف-مسرحية من ثلاثة أسطر
-
ألزهايمر-شعر
-
حفلٌ .. في هواءٍ صيفي غريب
-
سليمان البكري ... شيخ الأدباء الشباب في ديالى
-
ورحل مايكل هارت.. قدّيس الكتاب الرقمي
-
الفارس العجوز وحصانه الصامت النبيل-قصة قصيرة
-
صباح الخير يا عمال المساطر
-
أغنية .. للرأس الأبيض
-
مؤيد طيب.. جراحك ستزيدك شعراً وطيبة
-
كوجيتو الحكيم البغدادي-
-
أغنية التثاؤب الدائرية-شعر
-
أرقد بسلام أيها الصنم العجوز
-
سبع قصص قصيرة جداً.. عن نهايات السفر
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|