|
شبح الغربة
جمانة القروي
الحوار المتمدن-العدد: 3684 - 2012 / 3 / 31 - 02:35
المحور:
الادب والفن
شبح الغربة
جمانة القروي ( هذه النسخة المعتمدة للنشر رجاءاً)
تأرجحت الباخرة يميناً ويساراً، تلاطمتها الامواج العاتية، فمالت لها صاغرة .. ضربت مياه البحر الهائج شبابيك طوابقها السفلية بعنف، تطاير زبد الامواج حتى طال الطوابق العليا من الباخرة العملاقـــة، لم تستطع النوم ! كان كل شئ يدعو للخوف،والقلق من المجهول !!.هل ستنتصر الرياح والامواج وتقلبها، او تسبب عطباً فيها ، لربما يتسرب الماء الى داخلها ، فتغرق بمن فيها، وعندذاك تكون النهايـــــــة ؟ الصقت وجهها بالنافذة المدورة حيث تراقص الموج بهمجيــة وهو يضرب بعنف جدران الباخرة، بحلقت من خلال ذلك الشباك على البحر الذي كان يهجم كما الوحش بزبده الابيض الكثيف محاولا التهامها!! أحست بالفزع يبتلعها تماماً.! حانت منها نظرة حب لطفلتها الصغيرة التي لم تتجاوز السنتين بعد "ساحتضنها ونموت معا "!! خطرت ببالها هذه الفكرة !! قامت بتنفيذها حالاً. بالكاد وصلت للسرير الذي تنام عليه أبنتها، سارت مترنحة ، وممسكة بما يصل يديها متجاوزة السقوط على الارض !.. وما ان تمددت الى جانبها حتى داعبت يداها راسها الصغير وشعرها الذهبي الناعم ، نظرت اليها وامعنت النظر فيها كأنها تراها للمرة الاولى، ثم جذبتها لتضمها الى صدرها بأحدى يديها ساحبةً الغطاء ليتدثران به باليد الاخرى، ثم أخذت تمطرها بالقبلات.. أحست بوحدتها الموحشة في تلك الغرفة الصغيرة ..لم تنم ، فما ان تغفل عيناها، حتى تجفل من الاهتزازات العنيفة، وعلى صوت الماء وهو يطرق جدران الباخرة التي اصبحت تدور مع دوران الرياح العاصفة محاولاً الانقضاض عليها !" لو نجونا ياترى ماذا تحمل لنا الايام في طياتها "؟ سالت نفسها للمرة المئة ذات السؤال ؟ الذي لا يبرح تفكيرها، ولايفارقها، منذ ان غادرت بلادها!! فهي لاتملك سوى التوجس ، والتربص بالقادم بحذر وترقب!!
حينما اوشك الليل الشتاتي على لفظ اخر انفاســــه، هدأت زمجرة الرعد وانطفأت سطوة البرق، وتفتت السحب الرمادية . من بعيد لاحت الشواطئ مكسوة بغلالة الضباب الشفافة البيضاء فحجبت رؤيـــة الاشياء بوضوح... نهضت ابنتها على ضجيج الناس، وأبتسمت لها تلك الابتسامة الطفولية البريئة، كان بريق عينيهــــــا الخضراوين يزيد الأم تصميماً علـــى المضي في الحياة من اجلها!!حمل الجميع امتعتـــه ،تزاحموا في صالات الانتظار وامام بوابات الخروج .. كان مازال هناك متسعا من الوقت كي ترسو الباخرة في ميناء الغربـــة !.. حملت ابنتها على ذراعها، ثم سحبت باليد الاخرى حقيبة السفر.. وقفت في مكان قصي، ادارت بصرها هنا وهناك علها تجد مصطبة او كرسي ترتاح عليه لحين فتح الابواب.. عاودتها تلك الرغبة في مراقبة الناس والتسلية بمتابعتهم، التي ما زالت تكمن في اعماقها منذ سنوات طفولتها!! " يا إبنتي لا تكوني فضولية على الناس مالكِ ولهم " !! اخترق اذنيها صوت والدها محذرا من تلك العادة التي لازمتها دائماً، وبين كتمان هذه الرغبة ومحاولة العثور على مبتغاها. لمحت ذلك الشاب العشريني الذي وقف بالقرب منها، وقدعقد كفيه ببعضهما ضاغطاً عليهما وهو ينفخ فيهما رغم ان المكان كان مفعما بالدفئ،كان يرتجف، لايثبت رأسه على رقبته متلفتاً باستمرار ، نظراته زائغة ، ابتسامته تنم عن الخوف ، امتقع لون وجهه من شدة الارتباك والقلق، لم يكن يشعر حتى بثقل الحقيبة السوداء المنفوخة مما حشي بها والمتعلقة بظهره. شفتاه تحولتا الى اللون الازرق ، إيكون هذا الشاب مريضاً؟ دفعه اهله كي يتعالج من سقمه بعد ان يحصل على اللجوء؟؟ ام انه قد افلت من ذلك الحصار والارهاب الذي يطوق بلده؟ " لماذا لا اسالـــه "؟؟ قررت (سنى) " !! "يا إبنتي اتركيه ربما سؤالك سيثيره .. او يؤلمه "!! ترددت نصيحة والدها في عقلها، فوأدت الفكرة التي خطرت لها !! مضت تتسائل مع نفسها "كيف سيحتمل اعباء الوحدة في بلد غريب، وهو مازال غضاً "؟؟ لاتزال ابنتها تنعم بدفئ احضانها بصمت، وتلتف اليها فتبتسم لها بين الفينة والاخرى، وتمد كفها الصغيرة لمسح وجه امها الحزين ، وكأنها بذلك تبعد عنه شبح الغربة والخوف من المجهول !! تسلل الوقت ببطئ شديد. تنبهت على صوت امراة تنهر ابنها ذو العشرة اعوام، ممسكةً ذراعه بقوة وهي تهزه كما لو انها تهز شجرة مثمرة كي تسقط ثمارها الناضجة، حتى ان شالها وقع عن راسها، والتف على رقبتها ، ثم نزل على كتفيها دون ان تشعر به . أخذت توبخه بعصبية لانه يلعب في اصعب الظروف ! خنفتها الضحكة وهي تراقبها ،"عجيب أمـــر هذه الأم !! ماذا تتوقع ان يفعل طفلها الصغير؟؟ هل يدرك الى اين يقوده والداه "!! رغبت ان تقول ذلك للمراة إلا انها تراجعت فربما لن تفهم ماتعنيه !!" إلا يكفيني من البلوى بسبب عدم السكوت عن الخطأ ، فقد حرمت من حبيبي، ومن اهلي لاني لم اصمت ! ما فائدة الصراحة والصدق؟ لولاهما لكنت الان مع ذلك الانسان الرقيق الحنون الذي فداني بحياتـــه "!! في خضم الافكار التي كانت تدور براسها القت نظرة على وجه أمراة شابة قد تكون في منتصف عقدها الثالث ، وقفت وظهرها الى زوجها الذي يكبرها ربما بربع قرن على الاقل. لها عينيان سوداوان واسعتان، تضجان بلهيب الرغبة المكبوتة، جذب انتباه (سنى ) تلك الملابس الضيقة التي بالكاد تتحرك داخلها، لاتعرف لماذا ركزت نظرها عليها ،تصرفاتها تنم عن عدم رصانة، رأتها متلبسة حينما كانت تغمز بعينيها الى احدهم في احدى الزاوية القصية .. "رحل عني دون كلمات وداع، وأثر الصمت الذي مازال كما الجرح ينزف الدم وينز الصديد !! لم ينطق حتى ولا بحرف واحد ، وهو الذي لايمل ابدا من المزاح والكلام في مختلف المواضيع، مستعد ان يحكي قصة فلم شاهده، او كتاباً قرأه.. إلا انه حينذاك سار معهم مقيد اليدين الى مصيره دون ان ينبس ببنت شفة" !! وقع نظرها على نافذة الصالة الكبيرة، فظهر لها البحر بثوبه الازرق ملتف بوشاح الضباب الابيض، كانه عروس متألقة في صباحها الاول.. على الكراسي والمناضد التي تناثرت قرب تلك النافذة، تجمع العديد من الناس. استرعى انتباه (سنى ) سيدة تجاوزت سنوات الشباب منذ زمن ، إلا انها ما تزال تحتفظ بأناقتها وهندامها وانوثتها، إلى جانبها وقف رجل يماثلهـــا بالسن والاناقــة، احاطها بأحد ذراعيه وأتكأ بالاخرى على ظهر كرسيها، بين الحين والاخر يبتسم لها مربتاً على يديها او يداعب خصلات شعرها .. "كم تمنى ان نشيخ معا ، وكم حلم بقضاء العمر بالحب، وتربية اولادنا عليه" ! تناهت اليها نبرات صوته "إتعرفين يا نبض قلبي، بأني سأعلم ابناءنا الحب الاصيل. سنورثهم كنزاً لاينضب ابدا، وسنزرع في نفوسهم الثقة والامل "! رنت كلماته في راسها.. فتهيج حزنها الدفين ،"غادرني وعيناه الحبيبتان ترنو اليَ، آه لو كان معنا الان، لطوقني بحنانه وحبه، بأبتسامته وضحكته، آه كم اشتاق لقبلاتـــه التي كان يغمرني بها ! لو كنت فقط اعرف أين هو؟ ياترى هل مازال على قيد الحياة ؟ ام انهم أطفئوا تلك العينين النرجسيتين، واسكتوا ذلك القلب الذي كان ينبض بالحب لكل الناس"؟ همست كأنها تواصل نبش دواخلها.. شلة من الشباب الذين تجاوزوا العشرين ببضع اعوام وقفوا بمحاذاة الباب الخارجي بحقائبهم الصغيرة ، يمزحون فيما بينهم، يضحكون بصوت عالٍ ربما لتبديد الفزع ، والتوجس الذي بدا عليهم من تصرفاتهم الصبيانية ..
صخب وضجيج وانفعالات عنيفة وحادة كانت تدور في داخلها، لقد ترك الالم وشماً في ذاكرتها، اصبحت روحها كجمرة مستعرة من الداخل، يغطيها الرماد.. ارتعشت ، حينما مر امام ناظريها وجوه من اقتادوه .. ايقنت ان غيابــه هو النهايــة بالنسبة لها ، فأثرت دفن قلبها الذي امتلأ بحبــه في مقبرة الحياة.. ما ان رست الباخرة حتى تدافع الجميع ،وكأن احبتهم يلوحون لهم ، أو ان اهلهم ينتظرونهم عند رصيف الميناء .. تعجبت سنى " لماذا يتزاحمون، ويتراكضون ... ومن اجل ماذا "؟ مشت بهدوء الى صالة الانتظار الباردة، وهناك انتظرت مع عشرات العوائل والاشخاص لساعات طويلة، دون ان تدخل جوفهم كسرة خبز، او جرعة ماء.. صوت بكاء وانين الاطفال على اختلاف اعمارهم كان يملأ المكان ...ما ان يتذمر او يتساءل البعض، حتى يواجهه ذات الجواب، "لم نزل بانتظار الاوامر من الجهات المختصة .. أو ان الوقت لم يحن بعد"..!! عند الغروب انتقلت مع الاخرين الى مكان مقفر موحش، بيوت خشبية ارتصت كانها رحلات في صفوف المدرسة ،توزعوا على غرف تطل شبابيكها على بحيرة واسعة مياهها تجمدت، فلم يعد يرَ إلا بياض الثلج الذي غطاها، كانت الغرف تنقصها التدفئة ايضا ، فهي مصممة لايام الصيف. هاهو مساء كئيب آخر كما في الامس وربما في الغد، لاشئ سوى زفراتها البطيئة التي تشعرها بانها لازالت تحيا .. لازال وجهه يطاردها بلمعان عينيه وكلماته الضاحكــة التي كثيرا ما كان يكررها !" لااريد ان يتســــرب الحزن الى بيتنا ابدا، مهما جرى "!! لايعرف للمزاح معها حدود ، حتى حينما تفلت زمام اعصابها لاي سبب يقول ما يضحكها كي تهدأ .." اين انت ؟؟ هل ستحتضنك عيناي مرة اخرى؟؟" لاح في خاطرها وجهه الاسمر المبتسم!! عادت اليها الغصة التي تخنقها ! بعد ثلاثة ايام وجدت نفسها تحزم امتعتها وتركب حافلة كبيرة مع الاخرين دون ان يعرف إيً منهم اين الرحيل ؟؟ لم يعد يعنيها شيئاً ، حتى الحياة ذاتها..!! طوال الطريق حملقت في الغيوم الرمادية والسوداء وهي تعبر السماء، المنذرة بهطول الامطار او الثلوج، وعلى مدى الافق لم ترَ سوى الثلج الابيض وهو يدثر الارض بأكوامــه ، حتى الاشجار مالت اغصانها اليابسة من حمولة الندف عليها.. كل البحيرات التي صادفتهم كانت الواح الجليد تكسوها..
اخذها السكون الى مناحيه القصية البعيدة، فألقى بها بحضن ذلك النهار الصيفي حينما التقيا.. "انا انتظرك منذ زمن طويل ربما استغرق كل حياتي "! هكذا فاجئتها كلماته وهو يقف امامها .. لم يسعها إلا ان تنفجر بوجهه ضاحكة !! قفزت الى ذاكرتها تلك النظرات الجريئة التي كان يرمقها بها.. انتبهت بانها تبتسم ، وحانت منها نظرة لطفلتها التي هدأت في حضنها!! تركت بصرها يسرح في تلك العتمة وساعات النهارالتي لم تنقضِ بعد.. ليصل بها الى تلك الايام التي عاشتها معه .. حينئذ سمعت صوته يسالها عن احوالها كما كان يفعل دائما .. كان الباص مازال يقطع تلك الاصقاع التي تدعو للوحشة وتزيد من الغربة ..
#جمانة_القروي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الضرس
-
الغول الاحمق
-
من لايعرف ماذا يريد ( رؤيا نقدية حول رواية سميرة المانع الاخ
...
-
قصة قصيرة بعنوان الزنابق البيضاء
-
قصة قصيرة - القرار..
-
مبدعون عراقيون في المنافي ( 5 ) [ الدكتور رشيد الخيون ]
-
الفنانة ناهدة الرماح - حب الناس هو النور لعيونها .. وبذاك تل
...
-
السمفونية الأخيرة
-
مبدعون عراقيون في المنافي الدكتور صلاح نيازي
-
مبدعون عراقيون في المنافي ...الحلقة 2
-
مبدعون عراقيون في المنافي
-
زينب .. رائدة المسرح العراقي
-
سنبقى نذكرك يا أرضا رويت بدمائنا وحبنا
-
من زوايا الذاكرة ...القميص
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|