|
اقتصاد الهوية أو كيف تكون البنى الثقافية علاقات إنتاج جديدة ؟
فتحي المسكيني
الحوار المتمدن-العدد: 3683 - 2012 / 3 / 30 - 19:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
اقتصاد الهوية أو كيف تكون البنى الثقافية علاقات إنتاج جديدة ؟
قراءة في كتاب هابرماس بعد ماركس
" إنّ الإنسانية لا تطرح على نفسها من المشاكل إلاّ ما تستطيع حله" ماركس
تقديم: علينا أن ننبّه منذ البداية إلى أنّ كتاب هابرماس الذي تُرجِم إلى الفرنسية سنة 1985 تحت العنوان الجميل بعد ماركس، والذي نشرت دار الحوار السورية تعريبا له سنة 2002، هو في الحقيقة جزء من كتاب أكبر كان قد نشره المؤلف سنة 1976 و تحت عنوان آخر أقلّ بريقا هو "نحو إعادة بناء المادية التاريخية" . إنّ الكتاب "ترجمة جزئية للطبعة الأصلية (ثلثا الكتاب تقريبا) (ص 5) ، وهو يحمل أيضا بصمات التقليد الفرنسي سواء من حيث الحاجة الفلسفية إلى قراءته أو من حيث نوع التلقّي لإشكاليته. فما معنى أن نفكّر "بعد " ماركس ؟ و وفقا لأيّة تبريرات عمد المترجمان الفرنسيان إلى نقل غرض الكتاب من الهاجس المنهجي التي يدفع الفلسفة "نحو إعادة بناء المادية التاريخية" (العنوان الأصلي) إلى الموقف التأويلي الذي يقوم على قرار التفكير "بعد ماركس" (العنوان الفرنسي) ؟ ثمّ: إلى أيّ مدى يمكن للقارئ العربي ( أو غير الغربي الذي ينتمي إلى الفكر ما بعد الاستعماري) أن يفهم هابرماس في ضوء العنوان الفرنسي الذي اكتفى المعرّب إلى نقله كما هو دون أيّ تأصيل نظري خاص بالثقافة التي ينقل إليها ؟ برغم هكذا صعوبات يبدو أنّ الكتاب يملك وحدة إشكالية عالية ، حيث أنّ "البرنامج النظري" الذي يدعونا إليه فيما يخصّ المادية التاريخية هو "إعادة بناء" ( Rekonstruktion) أسسها في ضوء هذا التشخيص المضاعف: من جهة، أنّها نظرية ما تزال "طاقتها التحفيزية لم تُستنفذ (بعدُ)" (ص21)؛ و من جهة، أنّ المجتمعات ما بعد الصناعية قد أصبحب تعاني من صعوبات معيارية ( حقوقية و أخلاقية) لم يعد التفسير التقليدي لها بوصفها "أشكالا للوعي مهمتها تثبيت السيطرة" (ص225) كافيا و لا ناجعا . من أجل ذلك علينا قراءة فصول الكتاب الخمسة على مرحلتين : أوّلا الفصول الثلاثة الأولى بوصفها محاولات "إعادة بناء" نقدية للمادية التاريخية، تكاد تكرّر نفس الخطة لإعادة تأويل نمط تشكّل هويات الأفراد و المجتمعات في ضوء ما تحقق من مكاسب نظرية بعد ماركس، وخاصة في علم النفس ( فرويد و بياجي) و الاجتماع ( بارسونس) و الانثروبولوجيا (ميد) و فلسفة اللغة (سورل ) وفلسفة الحق ( راولز) و الإتيقا ( آبل) ؛ ثمّ قراءة الفصلين الأخيرين حول مسألة "الشرعية" (الفصل الرابع) و "دور الفلسفة" (الفصل الخامس)، بوصفهما امتحانيْن منهجييْن لنتائج الفصول الثلاثة الأولى. ربّ قراءة قد تساعدنا على استجلاء مضمون هذا الكتاب و منهجه ووجه الأصالة فيه عسى أن نتوفّر من بعدُ على عناصر كافية لمناقشته. 1- البنى المعيارية للهوية علاقات إنتاج جديدة لا يعني توجّه هابرماس "نحو إعادة بناء المادية التاريخية" مجرّد التفكير "بعد ماركس"، حيث تؤخذ البعدية في معنى زماني و تفيد التخلّي أو التنكّر أو الدحض، بل الأمر يتعلق بدعوة إلى القيام بمناقشة إيبستيمولوجية منهجية لنظرية ماركس من الداخل، بحيث تعمل على تغيير مركز الثقل فيها من "البنى التحتية" ( الاقتصاد السياسي) إلى "البنى الفوقية" ( الظواهر الثقافية). وقد يبدو أنّ هابرماس وقف على حقيقة تاريخية جديدة لم يبصر بها ماركس، ألا وهي أنّ الظواهر الثقافية يمكن أن تكون عنصرا حاسما في تشكيل البنى الاجتماعية (ص24). وهو أمر لا يمكن أن ينكشف إلاّ إذا تمّ التوصّل إلى "إعادة بناء الافتراضات الأولية الكلية للمعايير و القيم" (ص23) . فكيف خرّج هذا التأويل ؟ بما أنّ مراجعة أيّ نظرية لابدّ أن يكون ناتجا عن ظهور أمر جديد إمّا في نمط التفكير أو في واقع المجتمعات، فإنّ عنوان الفصل الأوّل، أي "المادية التاريخية و نموّ البنى المعيارية"، من كتاب هابرماس هو تشخيص دقيق للسبب الذي يحضّ على إعادة تشكيل نظرية ماركس. إنّ الأمر الجديد الذي يشكّل تحدّيا نظريا أمام الماركسية هو "نموّ البنى المعيارية" نموّا بلغ من الخطورة أنّ تفسيرها بوصفها مجرّد وعي زائف تنحصر وظيفته في تبرير النظام الاقتصادي يحتاج إلى مراجعة . كيف صاغ هابرماس هذه الصعوبة ؟ إنّ مساهمته إنّما تكمن في اقتراحه "الفعل التواصلي" مقاما منهجيا غير مسبوق لإعادة بناء "التطوّر الاجتماعي" بوصفه لم يعد مجرّد مفعول لعلاقات الإنتاج، بل صار يتشكّل و يعمل وفقا لمفاعيل "معيارية" علينا إيضاحها. إنّ إعادة بناء المادية التاريخية إنّما تعني إذن إعادة تشكيلها بوصفها قابلة للتحوّل من نظرية علموية إلى نظرية في النشاط التواصلي ( ص 24)، وذلك يعني نقلها من براديغم الوعي الحديث إلى براديغم اللغة المعاصر . ما الضرورة الداعية إلى ذلك؟ يسوق هابرماس ثلاثة أسباب نابعة من تاريخ الماركسية نفسها : 1- "العلموية" التي جعلتها تعوّل على "فلسفة رديئة" غير قادرة على السيطرة على مسبقات "فلسفة التاريخ" التي تفكّر بها (ص22) ؛ 2- غموض أساسها " المعياري"، حيث أنّ ماركس اكتفى بإضفاء المادية على منطق هيغل دون التحرر من وطأة براديغم الوعي الذي تأسس عليه (ص22-23) ؛ 3- أنّ تطوّر المجتمع ليس فقط رهين "قوى الإنتاج" كما كان يفترض ماركس، بل هو مشروط أيضا بنوع من "علاقات الإنتاج الجديدة" الممثّلة في "المعرفة الأخلاقية" و " المعرفة العملية" و "الفعل التواصلي" و "علاج النزاعات بواسطة الإجماع" (ص23-24) داخل مجتمع ما. ليست إعادة البناء المنهجية للمادية التاريخية سوى معالجة نسقية لهذه الأسباب الثلاثة المشار إليها، فهي عمل على بلورة فلسفة غير علموية، تكون قادرة على إيضاح الأساس المعياري للفعل الاجتماعي، بالاشتغال على القضايا الأخلاقية و العملية و التواصلية بوصفها علاقات إنتاج من نوع جديد، وليس مجرّد بنى لوعي زائف. كيف ذلك ؟ يقترح هابرماس أن ندخل ماركس إلى المدارس الفكرية التي أتت بعده وأن نعيد بناء تفكيره من هذه الزاوية. فالدواء من العلموية هو أن نعيد فهم التفسير المادي للتاريخ في ضوء "برامج بحث مستوحاة من فرويد و ميد ( Mead) و بياجيه" (ص22). أمّا رفع الغموض المعياري لذلك التفسير فقد كان ممكنا لو أنّ ماركس " انتهز ما يقوله ( prendre au mot) المضمون المعياري للنظريات البورجوازية المهيمنة " (ص22) ، أي ما كانت تستمدّه الأخلاق الليبرالية من فلسفة الذات، وهو ما وقع التنكّر له لاحقا من خلال سحب النموذج الوضعي على الأساس الحقوقي للمجتمع. وأخيرا، فإنّ فهم المسائل الأخلاقية و التواصلية لا يتمّ إلاّ إذا " نجحنا في إعادة بناء المسبقات الكونية للتواصل و طرق تبرير المعايير و القيم"، على نحو ينقل صلاحيتها من الادعاء النظري المحض إلى "التفاهم الموجَّه" سلفا بواسطة شروط المعقولية المنبثة في ثنايا "اللغة" التي نتكلّمها و نفعل بها ، سواء أكانت تعبيرا رمزيا أو قضية منطقية أو تجربة أصيلة تفصح عن نفسها أو فعلا كلاميا صائبا بمقتضى المعايير و القيم السارية (ص 23). إنّ طرافة تشخيص هابرماس لهذه الصعوبة المعيارية للتفسير المادي للتاريخ تكمن في أنّه يريد أن ينقل هذا التفسير من الفحص عن البنى الاقتصادية للوعي إلى إيضاح " بنى البيذاتية ( l’intersubjectivité) التي تشكّلها اللغة" ( ص25). البيْذاتية لا تعني لدى هابرماس الترابط القصدي بين الذوات المحضة، كما لدى هوسرل، بل الترابط اللغوي بين ذوات يتشكّل وعيها بنفسها من خلال جملة من "أفعال الكلام" ( des actes de parole) الراسخة هي بدورها في بنية المجتمع الذي تنتمي إليه. من أجل ذلك فإنّ المعايير الحقوقية و الأخلاقية لا يمكن ردها إلى مجرّد قواعد أو بنى وعي زائفة، بل هي بنى لغوية بيْذاتية هي التي تنظّم تطوّر الأنا و تطوّر الجماعة في نوع من التناظر الكثيف بينهما. ذلك ما يقود إلى الإقرار بوجود "بنى وعي متماثلة بين تطور الأنا و التطور الاجتماعي" (ص 44). ربّ تماثل يعبّر عن نفسه من خلال حقيقتين ينبغي الانطلاق منها في التفسير المادي للتاريخ : معيارية المجتمع و بيْذاتية اللغة (ص26، 32). للإبانة عن ذلك اختار هابرماس مسألتين اعتبرهما مثالين ساطعين عن أصالة البنى المعيارية و كيف أنّه لا يمكن الاكتفاء بمجرّد ردّها إلى البنى الاقتصادية. المثال الأول هو "البنى الخاصة بهوية الأنا" (ص 26 و ما بعدها)، أمّا المثال الثاني فهو " البنى الخاصة بالهوية الجماعية" (ص33 و ما بعدها). لنقل إنّ الصعوبة المعيارية التي تواجه الماركسية حسب هابرماس هي بعبارة حادة: مسألة "الهوية". وينبغي، على الحقيقة، أن ننوّه بالسبق النظري الذي حققه هابرماس في طرحه لمسألة الهوية منذ مطلع السبعينات قبل أن تصبح موضوعة فلسفية رائجة في أواخر القرن العشرين في كتابات ريكور و رورتي و تايلور وغيرهم. كيف ذلّل هابرماس الصعوبة المعيارية التي تثيرها مسألة "الهوية" في وجه التفسير المادي للتاريخ ؟ علينا أن نعلم أنّ هابرماس قد ورث عن ماركس (ص24) حرصه على التفكير في الظواهر الإنسانية بشكل ما-بعد-درويني، بمعنى أنّه يفسّر الشخصية الإنسانية من خلال قدراتها على التعلّم و التطوّر ضمن شروط بقائها التاريخية. ربّ إرث نظري قد وجد في أعمال فرويد و بياجي ( ص 22، 26) تأييدا نظريا حاسما. لكنّ عمل هابرماس لا ينحصر في مجرّد تطبيق التحليل النفسي أو علم النفس النشوئي على المادية التاريخية، بل إنّ طرافته تكمن في أنّه جنّد لهذا الغرض آخر أدوات فلسفة اللغة المعاصرة، ونعني الطريقة التداولية. لذلك فالبنية المعيارية للهوية لا تعني لدى هابرماس مجرّد الانتماء القومي للأفراد أو المجتمعات، بل هي بالتحديد شبكة من العلاقات الذاتية التي تتشكّل بموجب عالم معيش مشترك مهيكل بواسطة اللغة و منجز من خلال أفعال كلامية معينة. إنّ الهوية بنية معيارية في معنى أنّها بنية لغوية "تذاوتية" أو "بيْذاتية" ( intersubjective) مشكّلة باللغة (ص25). ولذلك ليس المجتمع مجرّد مجموعة اقتصادية من المنتجين و المستهلكين، وانما هو "شبكة من الأفعال التواصلية" (نفسه). إنّ الهوية المقصودة هي بنية تواصلية و ليس نعرة قومية أو إتنية. إنّ قوة تحليل هابرماس تكمن في أنّه يسعى صراحة إلى إعادة بناء التفسير المادي للتاريخ الفردي و الجماعي من خلال تملّك تداولي للمكاسب المنهجية لنظرية التطوّر المعاصرة ينجح في إيضاح التجانس بين تطوّر الأنا الفردي و تطوّر النوع البشري وفقا لبنى معيارية واحدة، هي أنماط و سيرورات بناء الهوية بواسطة مجموعة من مسارات التعلّم و التطوّر (ص25). لذلك فالهوية "موقف إنجازي" (ص34) وليست موقفا إجرائيا. لكنّ الفرد لا يصنعها بفعله بشكل معزول. إنّه "لا يمكن لأحد أن يبني شخصية بمعزل عن أشكال التمييز الخاصة بالهوية التي يقول بها الآخرون بخصوصه" (ص34). فكل هوية هي هوية جماعية: "تُعيَّن" سلفا ، ولا نختارها بحرية، و لها "استمرارية تتجاوز الآفاق البيوغرافية لأعضائها" (ص35). من أجل ذلك علينا التمييز بين الهوية "الافتراضية" للأشياء، وهو مفهوم خاص بالمعرفة العلمية للظواهر، وبين الهوية "التواصلية" للأشخاص، التي تتأسس عليها أدوارهم في المجتمع (ص36). هذه الهوية التواصلية هي التي تضمن "اتصالية" المجتمع و تحدد طريقة المجتمع في رسم الحد الذي يفصله عن محيطه وفي تعيين نمط الانتماء إليه (ص38). هذا الدور الحاسم لمسألة الهوية في تخريج البنى المعيارية و البيْذاتية للمجتمع جعل هابرماس يفهم إعادة بناء التفسير المادي للتاريخ بوصفها عملية إعادة كتابة تاريخ تشكّل الهويات البشرية من القبيلة إلى الامبراطورية إلى الدولة الحديثة (ص39-41). لكنّ الخيط الهادي عنده ليس تاريخيا بل نقديا: إنّ غرضه هو تحديد الملامح المميّزة لتجربة الهوية التي شكّلت المواطن البورجوازي الحديث وميّزته تمييزا حادا عن بقية الإنسانية. فقد تدرّجت دلالة الهوية من بنية قرابة (في حدود القبيلة) إلى بنية مماهاة عقدية دينية أو سياسية ( في نطاق الامبراطوريات القديمة) لكنّها انتهت إلى بنية كلية للأنا ( في أفق الأزمنة الحديثة). – وإنّ الخطير إنّما يكمن، حسب هابرماس، في أنّ الرأسمالية قد خلقت مجالا طريفا للهوية هو "مجال القرارات الفردية و غير الممركزة، [وهو] منظّم حسب مبادئ كلية، في إطار الحق الخاص البورجوازي" (ص41). إنّ خطورة الحداثة إنّما تكمن في أنّها قامت على تطوير كلّي لبنى الشخصية البشرية بوصفها "هوية اتفاقية" ( identité conventionnelle) هي ماهية الفرد الحديث. إنّه لا يمكن الفصل بين النظام الرأسمالي وبين "الفردانية" الحديثة التي أعادت تشكيل هوية الأعضاء المدنيين للمجتمع البورجوزاي حسب الخصائص التالية: 1) بوصفهم "ذوات" (sujets) حقوقية خاصة ؛ 2) ذوات أخلاقية وشخصية خاصة ؛ 3) ذوات سياسية حرة. بذلك يكون الفرد الحديث "مالكا" حقوقيا و "شخصا" أخلاقيا و "مواطنا" سياسيا في آن. بذلك تتشكّل الهوية الحديثة على قاعدة "الشرعية و الخلقية و السيادة" (ص42). بيد أنّ الهوية الحديثة قد بقيت تعاني من تعارض داخلي فيها بين طابعها الكوني أو الكوسموبوليطيقي، أي هوية البشر بما هو مواطن عالمي، وبين طابعها المحلّي الذي يشكّل قوام الدولة-الأمة. إنّ نقطة الصعوبة في برنامج الحداثة هو أنّها بنت فكرة الفرد على هوية سياسية مزدوجة فهو إنسان و مواطن في نفس الوقت (ص42). صحيح أنّ الدولة الحقوقية قد نجحت لبعض الوقت في تحييد المنافسة بين الهويتيْن "بواسطة الانتماء إلى الأمة: الأمة هي شكل الهوية في الأزمنة الحديثة" (نفسه). لكنّ هذا الحلّ "قد فقد الآن ثباته" (ص43). فلم تعد الخصوصيات القومية (العرقية و الطائفية و اللغوية و الثقافية والجهوية و الأقلية) كافية وحدها لتأمين حاجة الهوية الجماعية في المجتمعات المعاصرة. إنّ المطلوب من المادية التاريخية هو أن تساعدنا ،من حيث هي امتداد لفلسفات التاريخ البورجوازية، على بلورة ملامح مشروع " هوية جماعية تكون قابلة للمصالحة مع البنى الكونية للأنا" (ص43). وما كان يشار إليه في القرن الثامن عشر تحت عبارة "الكوسموبوليطيقية" ربما ليس سوى "الاشتراكية"، ولكن الاشتراكية من حيث هي "مستقبل" و "برنامج" وليس في واقعها إلى حد الآن. إنّ القصد هو أنّ الهويات الجماعية لم تصمد في الوقت الراهن إلاّ "في إطار الحركات الاجتماعية" (ص43)، ولذلك فإنّ على المجتمع المعاصر ليس فقط أن يتغيّر على مستوى إنتاجي بل أيضا على مستوى "سيرورات إنشاء المعايير و القيم التي تميّزه" (نفسه)، أي على مستوى هويته أيضا. 2- النقد بوصفه "إعادة بناء" تداولية كلية وليس تفكّرا ذاتيا علينا أن نبصر هنا بحرص هابرماس على إضفاء طابع موجب وتأصيلي و سويّ على منهجه : إنّ قصده ليس "التفكيك" ( déconstruction) على طريقة دريدا، حيث أنّ همّه لا ينحصر في قراءة نصوص ماركس على نحو استطيقي، بل "إعادة البناء" ( Rekonstruktion) من حيث هي نشاط نظري موجب يعمل على "إعادة تشكيل" النظرية الماركسية في "صورة جديدة"؛ و إنّ اهتمامه بماركس ليس عقديا أو نصّيا أو تأريخيا، بل هو تأصيلي يبحث عن طريقة تمكّن من بلوغ الهدف الذي رسمته المادية التاريخية لنفسها "على نحو أفضل" ؛ وإنّ هذا التوجّه ليس استثناء منهجيا في تاريخ الماركسية بل هو الطريقة الايبستيمولوجية "السويّة" لمعالجة أيّ نظرية، أي إخضاعها للـ"مراجعة" و تنشيط ما "لم يُستنفذ" فيها من "طاقة تحفيزية" على التفكير. بيد أنّ الجدّة المنهجية لمصطلح "إعادة البناء" لا تظهر إلاّ إذا قارنّاه بالمنهج الذي ميّز فلسفة الذات الحديثة، نعني منهج "التفكّر الذاتي" ( Selbstreflexion): ففي حين أنّ الكتابات الأولى لهابرماس، مثل المعرفة و المصلحة (1968) و النظرية و الممارسة ( 1963)، قد ظلت تراهن على تحويل داخلي لمفهوم "التفكّر" ( Reflexion) إلى "نقد" ( Kritik) للمجتمع، فإنّ كتاب بعد ماركس قد قام على التخلّي عن مصطلح "التفكّر" الذي ورثه هابرماس عن تقليد المثالية الألمانية (كانط، فيشته، هيغل)، أي عن الصيغة الأخيرة من فلسفة الوعي، و الانصراف إلى بلورة خطة منهجية ما بعد ذاتية لأنّها "إعادة بناء عقلية" لعناصر معرفية أو نظرية لم تعد ظواهر وعي بل صارت بنى رمزية أو أفعال لغوية هي التي تشدّ المؤسسة المعيارية لمجتمع ما. وإذا كانت فلسفة الوعي تستعمل "التفكّر" للكشف عمّا هو "لاواع" في ما يقوله الوعي عن نفسه أو عن مجتمعه، فإنّ فلسفة التواصل التي ينشدها هابرماس تعوّل على "إعادة بناء" عناصر الصلاحية لأيّ خطاب حول أنفسنا أو حول العالم المعيش الذي نشارك فيه، بوصفها عناصر قابلة للنقاش لأنّها ناتجة عن استعمال عمومي للعقل، وليست كشوفات هرمسية لذات سواء كانت ذات التاريخ أو ذات فرد معزول. إنّ رهان التفكّر الذاتي هو تأسيس الحقيقة على "اليقين" الباطني الذي يملكه وعي ما عن نفسه، في حين أنّ "إعادة البناء" تراهن على "كونية" الحقيقة بين أعضاء الجماعة التواصلية للإنسانية الحالية. إنّ منهج هابرماس بنائي، تواصلي و نقدي في آن: إنّه بنائيّ لأنّ المعرفة بالنسبة لدى هابرماس نشاط تركيبي وإجرائي و صوري و أداتي مستقلّ عن إرادة الذوات المنتجة له؛ وهو تواصلي لأنّ بنيته ليست ذاتية بل لغوية ، والعالم المعيش الذي يدرسه هو ظاهرة رمزية و تداولية و ليس تجربة خاصة بأنا معزول أو بأمة معزولة؛ وهو نقدي لأنّه يرفض الانحصار في وصوف فينومينولوجية لظواهر محضة، ويريد أن يشارك في إعادة تشكيل البنى المعيارية للمجتمع الذي ينتمي إليه. إنّه بهذه المعاني مجتمعة يدافع هابرماس عن كونية المنهج الفلسفي. وهي كونية تأخذ عنده معنى طريفا ألا وهو التعدّد المبدئي للمقاربات للمسألة الواحدة باستعمال تركيبي مكثّف لجملة أدوات التحليل التي توفّرها مختلف العلوم الإنسانية المعاصرة، مثل علم الاجتماع الوظيفي و علم النفس التكويني والخطاب التاريخي و الانثروبولوجيا السياسية و الألسنية و التحليل النفسي ونظرية التطور و البنيوية ، - وذلك بوصفها نشاطا نظريا متضافرا وليس جهودا مفصولة عن بعضها البعض. بذلك يفسّر هابرماس دلالة "إعادة البناء" بأنّها تعني "الإدماج النقدي لمقاربات متوازية" (ص65) في آن واحد. 3- المعقولية الحديثة طاقة لم تُستنفذ بعدُ يبدو أنّ الرهان العام لدى هابرماس هنا هو رسم ملامح"ماركس إيجابي". ويعني ذلك هو تخليص ماركس من وطأة تقليد نقد العقل الأداتي الذي سيطر على أعمال الجيل الأول من أعضاء مدرسة فرنكفورت، مثل هوركهايمر و أدورنو، والذي لم يفض إلاّ إلى التفريط في المكاسب المدنية لعصر التنوير، وحصر الفلسفة في مهمة نقد الحداثة دون القدرة على إنتاج دلالة محددة و مضامين موجبة لخطة "الحداثة المضادة" ( l’anti-modernité). أمّا وجه الأصالة و الابتكار في هذا التوجّه فهو يتمثل في هذا التنبيه النظري الذي الذي يتكرر في مواضع متعددة من الكتاب: أنّ الدولة البورجوازية ليست "إلاّ أحد التحققات الممكنة" للسياسة و "أنّ بنى المعقولية التي أصبحت متاحة في العهد الحديث لم تستنفذ بعد و تتيح تجسيدا مؤسسيا هاما في شكل سيرورات دمقرطة أكثر تقدما" ( ص58). ما معنى هذا التنبيه في كتاب حول ماركس ؟ - علينا أن نتذكّر أنّ هابرماس قد قد نبّه منذ مفتتح الفصل الأول إلى أنّ المادية التاريخية نظرية ما تزال "طاقتها التحفيزية لم تُستنفذ بعد" (ص21). وها هو يؤكد من جهة أخرى إلى أنّ برنامج الحداثة السياسي و العقلاني ما يزال لم يُستنفذ بعد. علينا ألاّ نرى في ذلك نزعة محافظة جديدة أو متنكرة. بل أن نأخذ ذلك بوصفه موقفا فلسفيا على قدر عال من الطرافة. ففي حين أنّ جملة تقاليد الفلسفة المعاصرة يمكن أن تُردّ إلى نقد جذري للعقل سواء بوصفه عقلا أداتيا ( من ماركس إلى أدورنو) أو عقلا عدميا ( من نيتشه إلى فوكو)، نلاحظ أنّ هابرماس قد حاول صراحة وضع حدّ للنزعة السالبة للنقد المعاصر للحداثة، وتحويله من الداخل - وليس من خلال موقف وضعي-منطقي خارجي – إلى إعادة بناء موجبة لما لم يُستنفذ بعدُ ممّا وعدت به هذه الحداثة و قالته عن نفسها. إنّ ما لم يُستنفذ بعدُ من برنامج الحداثة هو طاقتها التحريرية. وهذا يعني أنّ علينا ألاّ نحصر دلالة "العقلنة" الحديثة في آليات العقل الأداتي أو الوضعي، بل يجدر بنا أن نكشف عن الوجه الآخر الموجب و الطريف من مسار العقلنة (ص45). أين بحث هابرماس عن مصادر هذا الوجه الآخر من العقلنة التي أفضت إلى رسم معالم الحداثة؟ - لقد بحث عن ذلك ضمن مجال طريف هو التمثّلات الحقوقية و الأخلاقية للفرد الحديث. هذا الأمر طريف لأنّ المصدر التقليدي لتفسير مشكل المعقولية هو العلوم الوضعية الحديثة وليس "البنى البيْذاتية القائمة في اللغة" (ص44) التي تنظّم أشكال الوعي. ووجه الطرافة تحديدا هو إعادة تعريف الفرد الحديث على نحو ينقله من الصفة الاقتصادية للمالك الخاص إلى الصفة التداولية للذات المتكلمة و الفاعلة. نحن نمرّ بذلك من فرد يُعرّف بالفردانية و الملكية الخاصة أساسا ، إلى ذات تُعرَّف بالفعل الإنجازي و الكلام التواصلي أساسا. في ضوء هذا الانزياح الطريف من الملكية إلى التواصل يدعونا هابرماس إلى تفادي الخلط السائد "بين السيرورتين الخاصتين بالعقلنة، والتين تحددان التطور الاجتماعي: فإنّ عقلنة الفعل لا تقع على قوى الإنتاج فحسب، بل أيضا، و بشكل مستقل، على البنى المعيارية" (ص45)، أي على النشاط التواصلي الذي يشدّ هوية مجتمع ما. إنّ القصد هو ضرورة التفريق بين نمطين من العقلنة، أحدهما، مثل الحرب (ص47)، "استراتيجي" أو "فعل عقلي إزاء غاية ما" ( zweckrational) يتعلق بالوسائل التقنية و القرارات المصاحبة لاستعمال هذه الوسائل، أمّا الآخر ، مثل مسألة "الهوية" (ص49)، فهو "تواصلي" يقع في مقام مستقل عن الوسائل. الأوّل ينمّي قوى الإنتاج، في حين أنّ الثاني ينمّي البنى البيْذاتية و المعيارية للأفراد (ص45-46). بذلك تبدو قوة هابرماس في عدم حصر العقلنة في بُعدها "القضوي" ( propositionnel) السائد في النظريات العلمية، و فتحها على أبعاد أخرى لا تقلّ خطورة. إنّ الجديد هو تنسيب صلاحية العقل العلمي بالتنبيه إلى أنّ قاعدة الصلاحية ليس حكرا على القضية المنطقية أو المبرهنة الرياضية، بل إنّ "الكلام" بعامة، من حيث هو ظاهرة اجتماعية، إنّما ينطوي على أبعاد صلاحية أخرى. ففي كلّ فعل كلامي، أي في كلّ فعل اجتماعي تواصلي توجد مقتضيات صلاحية كلية متعددة : فإلى جانب "الحقيقة" ( vérité)، يحصي هابرماس " الصواب" ( la justesse) أو سداد الرأي الناجم عن احترام المعايير و " الصدقية" ( la véracité) في النوايا (ص46). بذلك يتضح أنّ ظاهرة العقلنة أكثر تعقيدا من المعقولية التقنية. إذْ نحن نستطيع أن نعقلن أيّ فعل أداتي أو استراتيجي، أي نستطيع أن نوجّهه نحو غاية بواسطة سيطرة على الوسائل بالاستناد إلى "معرفة صحيحة" سواء تجريبيا أو تحليليا (ص47)، ولكننا لا نقدر أن نعقلن الفعل التواصلي، أي لا يمكننا أن نعيّن سلفا مسار البنى المعيارية لمجتمع ما. فإذا فصلنا بين نوعي العقلنة، أمكن لنا أن نستعمل أحدهما للتحرر من الآخر. فإذا كانت العقلنة الإستراتيجية سيطرة تقنية على الأشياء، أو على الأشخاص بوصفهم أشياء أو أدوات، فإنّ العقلنة التواصلية قد تعني "إلغاء علاقات السيطرة المندمجة بصورة خفية في بنى التواصل، والتي تمنع التحكم الواعي في الصراعات، وتمنع تسوية هذه النزاعات من خلال الإجماع بوضع العراقيل أمام التواصل سواء على الصعيد النفسي أو الشخصي المشترك" (ص48) . إنّ تناول هابرماس لظاهرة "العقلنة" هو محاولة قراءتها بوصفها بنى تتشكّل و تتطوّر داخل نطاق رؤية معيّنة للعالم تعبّر عن نفسها من خلال مؤسسات رمزية هي التي يستمدّ منها الأفراد و المجتمعات نمط الانتماء الذي يخصّها. إنّ العقلنة ليست مجرّد إجراءات إستراتيجية بل هي من وجه آخر مخزون عملي موجب مجسّد في جملة من بنى الوعي و ممأسس في بنى معيارية هي الأساس التاريخي للهويات الجماعية. بذلك تكفّ مسألة الهوية عن تكون مشكلة عرقية أو إتنية ، و تصبح بنية معيارية اتفاقية مرتبطة بأدوار اجتماعية محددة، تكوّنت بشكل مؤسساتي ضمن أنساق من التعلّم و درجات من التطوّر علينا كتابة تاريخها المادي. بيد أنّ أطرف نتيجة نظرية لبحث هابرماس في كتاب بعد ماركس إنّما هي بلا شك طريقته في إعادة بناء مسائل الشرعية في الدولة الحديثة (الفصل الرابع). " إنّ الشرعية هي قدرة نظام سياسي على أن يكون معترَفا به" (ص185). إنّ وجه الابتكار هنا هو في إيضاح المسار الداخلي لظاهرة "الشرعية" ( légitimité)، على نحو ينقلها من مجرّد اعتراف "قانوني" ( légal) أو سياسي خاص بالدول، إلى فعل تواصلي مستقل و معقّد هو ما يسميه هابرماس بعبارة "الشرعنة" أو التشريع ( légitimation). إنّه ينتهي إلى التشكيك في الحصر السائد لمقولة الشرعية في وصف مجتمعات الدولة فحسب : " ما من نظام سياسي يستطيع على المدى البعيد أن يضمن لنفسه ثقة الناس، أي طاعة أفراد المجتمع، دون الاستناد إلى أشكال معيّنة من الشرعنة" (ص188). ولكن ما هي مصادر الشرعية؟ - هنا تكمن طرافة هابرماس. إنّ المصدر الأساسي للشرعية هي البنى المعيارية لمجتمع ما، أي اللغة و الانتماء الإتني و التقاليد و الثقافة العقلية، وبعبارة واحدة إلى مقومات "الهوية الجماعية" (ص190). لكنّه لا يذكر هذه العناصر دفاعا عن موقف قومي، بل بوصفها وحدها "ضمانة الاندماج الاجتماعي الخاص بهوية مجتمع يُعرَّف من خلال معايير" (نفسه) بنى عليها تطوّره التاريخي. إنّ قيمة هذا التشخيص لا تظهر إلاّ متى التزمنا بالتمييز بين مقوّمات الشرعية و أشكال بناء مؤسسات السلطة (ص191). ليست الشرعية مشكلا سلطويا خاصا بالدولة بل بنية معيارية لمجتمع ما. ربّ بنية كانت الأديان توفّر عنها "تبريرات سردية" فقدت اليوم جزء كبيرا من أدائها مع ظهور الأزمنة الحديثة بوصفها حقلا معياريا يتقوّم بظواهر غير مسبوقة مثل "العلمنة" ( sécularisation) و الحق الطبيعي و اقتصاد السوق و السيادة الحقوقية و الأمة (ص200-201). إنّ الشكل الجديد للشرعية لم يعد سرديا بل صار "إجرائيا" يكمن دوره في تشكيل الدولة الحقوقية و يوجّه عملية تحوّلها إلى أمة (نفسه). بيد أنّه من أجل أنّ "العولمة" قد حدّت من "هوامش تصرف الدولة القومية" (ص206)، فإنّ مشاكل الشرعنة قد صارت أكثر حدة. وليس من حلّ لها إلاّ متى أفلحنا في إضفاء طابع مؤسساتي على أي شكل من النزاع حولها، وذلك من خلال مأسسة المعارضة و تقعيد سيرورة الشرعنة و تشريك المواطنين في بناء الشرعية (ص203). لذلك فإنّ "الفضح الماركسي" للتبرير لا يكفي (ص205)، كما أنّ الحلول التي تقدمها الدولة-الأمة هي أيضا بلا تأثير ؛ إنّ فقدان الشرعية يظلّ خطرا محدقا (ص207). ولذلك فإنّ التفكير السياسي مدعوّ دوما إلى البحث عن شروط أكثر وجاهة لأنظمة "التبرير" التي تتأسس عليها كل عملية شرعنة ، إذ ليست الشرعنة غير نظام التبرير الخاص بمجتمع ما (ص215-216). 4- التباسات هابرماس يعبّر هابرماس عن الفكرة العامة للكتاب بقوله :" إنّي أريد الدفاع عن الأطروحة التي تقول بأنّ تطوّر البنى المعيارية هو الذي يفتح الطريق أمام التطوّر الاجتماعي، باعتبار أنّ مبادئ جديدة لتنظيم المجتمع تستتبع أشكالا جديدة للاندماج الاجتماعي" (ص49). بيد أنّ هذا الزعم النظري هو أبعد ما يكون عن التخلّي عن ماركس (ص 49 و 51). إنّه فقط إعادة توزيع دلالية لعبارة "المادية التاريخية" : فطرح هابرماس يريد أن يبقى "ماديا" طالما يتعلق الأمر بتحليل المشاكل التي تضع نمط الإنتاج في أزمة، لكنّه، في مقابل ذلك، يفضّل أن يكون "تاريخيا" بقدر ما يحتاج إلى فهم تطوّرات المجتمع تحت تأثير "بنى جديدة للوعي" هي التي تتحكم في "رؤى العالم" المحركة للقوى الاجتماعية، أي لقوى الإنتاج و السلطة. - هذا الازدواج في تفكير هابرماس، أي في منهج "إعادة البناء"، هو الذي يثير مجموعة من الالتباسات. إنّ هابرماس يريد أن يكون ناقدا للحداثة في تقليد ماركس، لكنّه يحرص أيضا على أن يظلّ وريثا شرعيا لمكاسب فلسفة الذات في أثر كانط. وهو ينقد المجتمع البورجوازي، مثل الماركسيين، لكنّه يدعوهم إلى أخذ الحق الطبيعي الحديث بما قال من حريات و حقوق للمواكن الكوني. وهو يستعمل مفهوم علاقات الإنتاج لكنّه ينزاح به إلى البنى المعيارية للهوية بوصفها علاقات إنتاج جديدة. وهو ينخرط في نقاش حاد حول بنى الهوية الحديثة لكنّه يحرص على قراءتها بشكل دارويني يجرّدها من كلّ مضمون قومي. وهو يدافع ،من جهة، عن "أوّلية بنى الوعي في المجتمع بالنسبة إلى بنى الوعي لدى الفرد"، ومن جهة يقرّ بأنّ الذي يتعلّم هم الأفراد، وليس المجتمعات، إذ " لا ’’تتعلّم’’ المجتمعات إلاّ بشكل مجازي" (ص50). وهو يتمسّك بأنّ ظاهرة العقلنة هي مقوّم الحداثة، لكنّه يصرف جهده إلى استكمال "نقد العقل الأداتي" بنحو من "نقد العقل التواصلي" الذي يتخفى داخل بنى المعقولية الحديثة. إنّه يؤمن بالاشتراكية لكنّه يقدّمها بوصفها صيغة أخرى من الشعار "الكوسموبوليطيقي" للقرن الثامن عشر، ويحكم عليها بأنّها "برنامج" مستقبلي وليست واقعا تاريخيا. إنّه يرفض الصيغة الليبرالية من الحداثة لأنّها سقطت في موقف كلبي من المكاسب الحقوقية للفرد الحديث، حيث أفرغتها من محتواها تحت وطأة وضعانية حقوقية حادة، لكنّه لا يقبل الانخراط في قطار ما بعد الحداثة لأنّه لا يعدو أن يكون عنده ضربا من النزعة المحافظة الجديدة. إنّه يتراجع إلى فلسفة الأنا الحديثة لكنّه لا يهمّه منها سوى البنى الكلية لفكرة الذات الحديثة بوصفها مكاسب معيارية للحداثة وليس بوصفها تجربة متعالية للوعي الفردي في حميميته المعيشة. لذلك يبقى تصوّر هابرماس لدور الفلسفة ( الفصل الخامس) غامضا. فعلاوة على أنّ ماركس و تلاميذه لم يولوا اهتماما حاسما لدلالة الفلسفة التي يحتاجون إليها (ص221-222)، فإنّ هابرماس ،الذي يواصل تعريف الفلسفة بأنّها "تفكير نقدي" هو "الأكثر راديكالية في أيّ زمن"، لا يقترح علينا آخر المطاف غير بلورة "ماركسية غير دغمائية" (ص228) بلا ملامح خاصة. وهو ما يترجمه هابرماس في الدور الثلاثي التالي: 1- أن تناضل الفلسفة لكي تبقى "الممثّل" الأكبر للنزعة الكونية للتفكير البشري برغم التجزّؤ الحاصل جرّاء التعدد المشط للعلوم ؛ 2- أنّ مهمة الفلسفة هي "تأويل النفس و الدفاع عن النفس" (ص229)، وعدم الإفراط في نقد المركزية الأوروبية لأنّ ذلك لا يبرّر مهاجمة أسس التفكير و أنماط الحياة الغربية لأنّ هذه الأسس و الأنماط "كونية و تقع ما وراء الحدود الحضارية" (ص229)؛ 3- أنّ المهمة الأنبل للفلسفة هي نقد كلّ شكل من الموضوعانية و كلّ استقلالية إيديولوجية و كل نزعة إطلاقية، لأنّ النقد هو العنصر الوحيد الذي يشكّل هوية المجتمع الحديث، ولكن دون السقوط في أيّ هوية خصوصية أو محلية (ص229). إنّ دور الفلسفة إذن ايبستيمولوجي و تأويلي و نقدي في آن. لكنّ هذا التعدد الداخلي من شأنه أن يهدد صلاحية الخطاب الفلسفي فهو بالنسبة للعلوم غير علمي و بالنسبة إلى تأويلية الذات الغربية هو إتني-مركزي و بالنسبة إلى نقد الإيديولوجيات هو صادر عن بنى معيارية محددة سلفا. ولذلك فدور الفلسفة يبقى غامضا. أمّا ما يثير حفيظة القارئ غير الغربي و بخاصة العربي الإسلامي فهو بلا ريب سكوته عن دور الثقافات الأخرى في تشكيل وعي الإنسانية الحديثة، برغم بعض الإشارات أو التحفظات (ص 42 و خاصة ص229). – إنّ معيارية المجتمع التي يفكّر بها مثل بيْذاتية اللغة التي يتحرّك ضمنها هي مشكل خاص بالمجتمعات "الغربية" فحسب، وليست قاسما مشتركا لأعضاء الإنسانية الحالية. من أجل ذلك هو لا يعرض للثقافة الإسلامية مثلا إلاّ في معرض تشخيص سلبي للصعوبة المزدوجة التي ترهق كلّ تأريخ كوني للإنسانية: فهو إمّا بحث عن "نزعة مقارنة تيبولوجية تدرس البنى العامة" كما في أعمال ماكس فيبر، أو "كتابة تاريخية تضع لنفسها حدودا مكانية-زمانية لتحليل بعض الثقافات فحسب" مثل أعمال المؤرخين الإسلامويين الغربيين (ص124). إنّ الآخر الثقافي لا يمكن أن يظهر عنده إلاّ في دراسات مقارنة أو دراسات ثقافية قطاعية؛ إنّه ليس جزء منهجيا من إشكالية المجتمع الحديث بما هو كذلك. وبرغم أنّ هابرماس يدعو هؤلاء المؤرخين إلى الانتقال من النزعة المقارنة بين الثقافات إلى النظرة التطوّرية للنوع البشري ، فهو يقيم خطته على التمييز بين البحث التاريخي الذي له "وظيفة أداتية" و بين الخطاب التاريخي الذي هو "صيغة سردية" و "بنية حكائية" لا يمكن للمؤرخ التخلي عنها ، و ينتهي إلى الارتياب من إمكانية تطبيق نظرية التطوّر في فهم الخطاب التاريخي (ص124-127). إنّه لا يعرف مرجعا آخر للخطاب التاريخي غير الإطار "السردي" أي المرجع التأويلي و الفينومينولوجي و الرمزي و اللغوي للمؤرخ، من جهة ما هو محكوم سلفا بجملة من "البنى البيْذاتية" ( ذوات قادرة على الكلام و الفعل) و "البنى المعيارية" (مؤسسات و معايير و قيم) و "البنى الذاتية" ( تأويلات و مقاصد) (ص128). ههنا " لا تؤخذ التقاليد الثقافية بالإضافة إلى ذلك لذاتها من منظور تاريخ الأفكار، بل هي تُفحص من زاوية وظائفها الخفية" (ص136). وعلى ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يثير هذا القدر من الالتباس إلاّ لأنّ هابرماس قد أفلح إلى حدّ كبير ليس فقط في إثارة المفاصل الأكثر خطورة من الوعي الذاتي الذي تحمله الحداثة الغربية عن نفسها، ولكن أيضا في رسم معالم النقاش الذي يجدر بغير الغربيين أن يشرعوا في بلورته حول أنفسهم وحول تاريخهم الحديث.
#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السلفي والمسرح: معركة رُعاة ؟ أسئلة للتفكير
-
مفهوم الضمير...أو كيف صار للإنسان ذاكرة ؟
-
الفلسفة -سؤال موجَّه لما لا يتكلّم-
-
ما هذا الذي هو نحن ؟ ...في السؤال عن لحم الكينونة
-
تعليقات مؤقتة على مستقبل -العقل العربي-. في ذكرى الجابري
-
في براءة الفلسفة وصلاح منتحليها
-
كل أغنيات الوطن جميلة...ولكن أين الدولة ؟
-
حواسّ جديدة لعشتار - قصيد
-
نيتشه وتأويلية الاقتدار ...تمارين في الثورة
-
مقاطع من سيرة إله قديم...عاد من السفر
-
فلانتينا....بكلّ أعياد الوطن
-
وجه الجامعة...من وراء نقاب
-
براقع العقل
-
صلاة الجوع
-
انتخابات على الهوية...أم الدروس غير المنتظرة للديمقراطية ؟
-
في مصير الحاكم الهووي
-
الإساءة إلى الذات الإلهية
-
في أخلاق العبيد ´- فريدريك نيتشه
-
بيوغرافيا البؤس
-
بيان الشهداء قصيد
المزيد.....
-
العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب
...
-
ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا
...
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م
...
-
كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح
...
-
باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا
...
-
شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
-
أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو
...
-
زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
-
مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|