فيينا - خدمة قدس برس
هل يتلاشى التشغيل القسري في عالمنا الجديد الذي يفخر بقيم حقوق الإنسان وحرياته؟ الحقيقة أنّ هذا الطموح ما زال يبدو، حتى مع مطلع القرن الحادي والعشرين، بعيد المنال. فالمصادر المختصة تؤكد باستمرار أنّ التشغيل القسري حقيقة متفشية على نطاق مقلق في العالم اليوم، وتزدهر جنباً إلى جنب مع تفاقم ظاهرة الاتجار بالبشر.
ويلاحظ الخبراء المعنيُّون أنّ ممارسات التشغيل القسري والاستعباد والاتجار الإجرامي بالإنسان، وخصوصاً بالنساء والأطفال في العالم، تمضي إلى اكتساب مهارات إضافية من الخداع والمراوغة، لتضمن بقاءها رغم كل الاعتراضات والانتقادات والسياسات الرامية لكبح جماحها.
وكانت دراسة أصدرتها في أيار من العام الماضي منظمة العمل الدولية، التي تتخذ من جنيف مقراً، قد حذرت المتفائلين باندثار ظاهرة التشغيل القسري. وذهبت الدراسة التي حملت عنوان "وقف العمل الجبري" إلى حد تأكيد أنّ ممارسات العبودية والظلم واستغلال الإنسان لم تدخل طيّ النسيان بعد.
ظاهرة متفاقمة
وتتضافر المؤشرات التي تكشف عن تفاقم ظاهرة التشغيل القسري للبشر، ولجوئها إلى صور جديدة مبتكرة، تجعل هذه الظاهرة القديمة صالحة للقرن الجديد. وعلى ضوء هذا سبق لخوان سومافيا، المدير العام لمنظمة العمل الدولية، أن حذّر من أنّ "نموّ العمل الجبري عالمياً بات مقلقاً للغاية. فالصورة الناشئة إنّما هي صورةٌ تشير إلى ممارسات العبودية والظلم والاستغلال التي يقع ضحيّتها أفراد المجتمع الأكثر ضعفاً، وخصوصاً النساء والأطفال، وهذه الصورة لم تدخل على الإطلاق طيّ النسيان". وشدّد سومافيا على أنّ "تحكّم إنسان بآخر بطريقةٍ مؤذيةٍ نقيض للعمل اللائق"، على حد تعبيره.
وإذا سلّمنا أنّ ظاهرة التشغيل القسري تقوم على دعامتين ذميمتين؛ هما ممارسة الإكراه، وإنكار الحرية؛ فإنّ الجانب الأهم على ما يبدو من الظاهرة يتمثل في الفقر والحاجة التي ترغم قطاعات واسعة من البشر على الخضوع لمثل هذه المعايير غير الإنسانية في العمل.
أما عن الأنماط الأساسية للعمل الجبري في الوقت الراهن؛ فإنّ تقرير منظمة العمل الدولية يؤكد أنّ الممارسات القديمة والهمَجيّة كالعبودية، بما فيها العبودية للإقطاعيين جراء تراكم الديون، لم تنخفض بفعل أثر التشريعات والإجراءات الحكومية على المستويات الوطنية والدولية، بل إنّها لا تزال قائمةً بشكلٍ مقلق.
وعلاوة على ذلك؛ فإنّ ظاهرة الاتجار من أجل العمل الجبري أو الإلزامي أصبحت تنمو بوتيرةٍ سريعةٍ جداً، حتىّ أنّ معظم البلدان في العالم باتت اليوم تُصنَّف وفقاً لأحد هذه الفئات الثلاث: "بلدان مصدِّرة، وبلدان عبور، وبلدان متلقّية".
ويضيف التقرير إن "حركة الاتجار هذه تقصد بشكلٍ أساسيّ المدن في البلدان الغنيّة، كامستردام وبروكسل ولندن ونيويورك وطوكيو، وعواصم البلدان النامية وبلدان العبور".
وربما تكون ظاهرة الاتجار بالنساء من أفظع ما سيعثر عليه المرء من مآسٍ نشأت مع الفراغ ومشكلات التحول في شرق أوروبا والجمهوريات الناشئة عن تفتت الاتحاد السوفياتي السابق، والبيانات المتوافرة تتحدث عن ملايين من الضحايا من الفتيات اللواتي تم التغرير بهن للالتحاق بالعالم السفلي في الغرب مقابل وعود معسولة سرعان ما تتبخّر.
وحسب منظمة العمل الدولية؛ فقد بات من الصعب ضبط العمل الجبري الذي أمسى منظَّماً في عصابات إجرامية دولية، ترى في الاتجار بالإنسان نشاطاً أقلّ خطورةً من الاتجار بالمخدّرات.
ويتضمّن العمل الجبري بأكثريّته أنشطةً سريّةً وغير قانونية، أو يكون مخفياً عن مرأى العامّة. ويشكّل نموّ العمل الصناعي والزراعي غير المنظَّم، والقطاع غير النظامي في المدن عواملَ تساهم في القِوى الاقتصادية والاجتماعية التي تسبّب معظم حالات الهجرة والاستغلال.
بواعث تحرّض على الاستغلال في سوق العمل
يمكن الاستنتاج أنّ قضية التشغيل القسري والاتجار بالبشر لا تقتصر على ظروف العمل والحياة التي لا تليق بالكرامة الإنسانية؛ بل تطال البواعث التي تجعل الملايين من البشر يتردّون إلى هذه الهاوية السحيقة.
وفي ذاكرتنا الإنسانية هناك الصورة التقليدية للإقطاعي الجشع، الذي يملك وحده فرص العمل، الشاقة في الغالب، ويفرضها بغطرسة على ضعاف البشر كالنساء والأطفال مقابل أجور بخسة. ربما لم تعد هذه الصورة المؤسفة قائمة بالشكل الذي كانت عليه تماماً؛ ولكنّ كثيراً من ضعاف البشر أنفسهم ما زالوا يعملون في ظروف غير لائقة وبأجور بخسة أيضاً، وما تغيّر أساساً في المعادلة المجحفة هو ربّ العمل. فقد أصبحت هناك الكثير من الشركات متعددة الجنسية، التي لا يتورّع بعضها عن خرق قواعد التشغيل المعمول بها في بلدانها الأم، مستفيدة من الفاقة وغياب التشريعات القانونية الكافية في الدول الفقيرة.
ولا تقتصر الأزمة على الفوارق المذهلة في الأجور وعدد ساعات العمل ومستوى مشقته بين العاملين في الشركة الواحدة من بلد غني إلى آخر فقير، بل يطال أيضاً ما ألحقته كثير من الشركات متعددة الجنسية من دمار وعبث ببيئات الإنتاج التقليدية في الدول النامية والفقيرة.
وإذا كانت شركة مثل "إيكيا" السويدية للأثاث مثلاً، قد نجحت في فتح الكثير من الفروع العملاقة حول العالم، فإنها قد نجحت بكل تأكيد في إخراج الكثير من النجارين التقليديين من سوق العمل، أو ربما ساهمت في دفعهم إلى حافة الإفلاس. وعندما تغيب القدرة على المنافسة؛ يتوجب على الشركات المنتجة لعصائر الأناناس منذ سنين طويلة في غرب أفريقيا أن تخسر الجولة لحساب زحف "الكوكا كولا" الأمريكية الكاسح، التي تستخدم أبرع وسائل الترويج والدعاية والتسويق لاقتناص الزبائن.
وحتى في ما يتعلق بشطائر "مكدونالدز"، التي تُباع عبر شبكة مطاعم يقارب تعدادها الأربعين ألفاً في الكوكب الصغير؛ فإنها قد حوّلت كثيراً ممن كانوا يعملون في قطاع الوجبات التقليدية، وربما بشكل مستقل، إلى مجرد عاملين في سلسلة مطاعم أجنبية تواجه إدارتها اتهامات بالإجحاف في حقوق المستخدمين وعدم توفير ضمانات لائقة لهم، زيادة على قطع الطريق على التنظيم النقابي للملتحقين في صفوفها.
وإذا كانت ظاهرة الشركات متعددة الجنسية مرتبطة بالكثير من السلبيات وتلاحقها قائمة مطوّلة من الاتهامات؛ فإنها لا يمكن أن تُتهم بالتشغيل القسري على أي حال. إلاّ أنّ ذلك لا يعفيها من المسئولية عن الإسهام في تشكيل واقع مؤسف في سوق العمل في البلدان النامية والفقيرة. ويكفي أنّ خبراء تقنية المعلومات في الهند، رغم كفاءتهم المشهود لها، يتقاضون أجوراً تقارب عشرة في المائة فقط مما يتقاضاه زملاؤهم الذين يعملون في الشركات ذاتها في الغرب الصناعي، وهو ما يبدو جلياً في وادي السليكون الهندي في بنغالور، الذي يعجّ بفروع الشركات متعددة الجنسية.
من هذا الباب؛ يرى بعض المراقبين أنّ الفجوة الهائلة بين الشمال والجنوب يمكنها أن تكون مسئولة، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، عن ازدهار ظاهرة التشغيل القسري وانتعاش حركة الاتجار بالبشر عبر الحدود والقارات. ويبقى أن يقف المرء ملياً عند مقولة للمسئول الدولي سومافيا الذي رأى أنّ "العالم بأسره إنّما يحتاج، على ضوء هذه الاستنتاجات، إلى إعادة فحص ضميره، وإلى الدعوة إلى خطواتٍ تهدف إلى إلغاء العمل الجبري، وما يرافقه في معظم الحالات من ظروف عيشٍ وعملٍ رديئة"، كما يقول.