|
البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3674 - 2012 / 3 / 21 - 15:58
المحور:
الادب والفن
الأعمال الكاملة
الدراسات (4)
د. أفنان القاسم
مسألة الشعر وبنية الملحمة
البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش في مديح الظل العالي
دراسة
الطبعة الأولى عالم الكتب بيروت1987
إلى ابنتي الرائعة شاعرة الغد ميساء
(نعتذر للقارئ عن سقوط الهوامش، الموقع يسقط الهوامش... أ)
مسألة الشعر الحديث في الوطن العربى عند بحثنا في مسألة الشعر الحديث، في الوطن العربي، نريد أن نؤكد مبدأين( )، الأول أننا نتعامل مع هذه المسألة من موقعنا الزمني القائم، أي من لحظة متقدمة من لحظات الحضارة الإنسانية، وليس من لحظة متأخرة من لحظات النظام العربي، الذي هو، في وضعه كمدلول، انتكاسٌ لهذه الحضارة. أمّا المبدأ الثاني، فهو أننا نتعامل مع هذه المسألة من وجهة نظرنا الخاصة بنا نحن العلمية، والتى هي موقف فكري وفني معًا، إنها رؤية فنية وفكرية تبحث عن الجمالي والإنساني في الأشياء بما فيها الشعر، سواء أكان حديثًا أم قديماً، عربيّاً أم غربيّاً، وهي رؤية تمثل قناعتنا الخاصة، ولكنها تنتمي إلى بنية لا علاقة لها بالتمني الشخصي في شىء لأنها خصوصية معرفية وسياق معرفي ومخزون معرفي، تتبع لهذا أو ذاك من أنساق الأفكار القائمة، نقيضة للسائد من البنى، منطلقة من المحلي لتتماهي في الكوني. ويجدر الإشارة إلى أن هذا يبقى على هامش العملية النقدية بحضوره الشفيف بعيدًا عن عبقرية الناقد وعبقرية المؤلف كما يقول شومسكي في مفهومه عن ((التجلية))، ولأن القصيدة كالرواية تملك بنية خاصة بها توصل إلى التحليل يراد بصبر ((قولها)) كما يرى بارت، وفي هذه البنية تكمن كل عملية القول، وما يهمنا هو الإحاطة بظروفها كغاياتها وأركانها ومعطياتها الزمانية والمكانية التي تسمح بتفسير معنى القول (Terminologie de la Traduction, 102). ومن التعامل الثاني هذا، نريد أن ننفي مما اصطلح النقاد على تسميته ((بالشعر العربي الحديث))، المصطلح التعتيمي والمفهوم الميتالغوي لاستعمال كلمة ((شعر))، ونؤكد الانتماء الإناسي والكوني للشعر العربي الحديث، الذي هو، حسب هذا الانتماء، متعدد، وليس كلاً واحدًا، والذى هو، حسب هذا الانتماء أيضًا، متجذر، يصل، في جذوره البعيدة، إلى تيارات أوروبية مثلاً، تبلغ من العمر أحيانًا قرنًا أو ينيف، وأحيانًا أخرى تلحق بسقراط وأفلاطون وأرسطو، أي بمنابع الفكر الإنساني، دون أن ننسى الدور الرائد للشعر العربي المؤثر في القصيدة الأوروبية الكلاسيكية. ونحن على عكس ما يقوله بارت بخصوص السرد ((الخاضع لمستوى المستهلك الثقافي))، وبالتالي لذائقة معينة (البعض السردي نعم، لا السرد كجنس أدبي)، نجد للشعر، ككل جنس أدبي، ذائقة مشتركة لدى كل المجتمعات وفي كل الأزمان وكل الأمكنة، وإهمال الألسنية له سعيًا وراء التحكم بفضاءات السرد اللانهائية يقيد الناقد، على عكس ما يظنه البنيون الكلاسيكيون، ويبقيه خاضعًا للبنى الشكلية في مداها المنقوص كمجموع للجمل التي يتشكل منها الخطاب دون أنظمته (فكرية، جمالية، نفسية، نحوية...الخ) وكموضوع للتجارب يرمي الناقد عبرها لغاية الوصول إلى تيارات تزامنية دون زمنيتها (ألسنية مقارِنة، ألسنية توليدية، ألسنية وظيفية، ألسنية تاريخية...الخ). بينما، فيما يخص التيارات التي ينتسب الشاعر إليها، يصعب في الوقت الراهن تحديدها، لإمكانية تعدد التيارات لدى الشاعر، وتقاطعها في القصيدة. تبقى إذن رؤية الشاعر للعالم التي توجه الناقد إلى ((غاية الشعر))، وتعلن عن ((هوية)) الشاعر، الرؤية وقد غدت نظامًا من الصور والاستعارات. لهذا إن تعدد التيارات، في القصيدة هنا، يصبح ((شكلانيّاً))، أو ما نفضل تسميته بفنية القصيدة الخاضعة لوعي الشاعر، القصيدة ذات العناصر الواعية وليس اللاواعية مثلما يشيعه المنهج المثالي في النقد. وهذا الوعي، لدى الشاعر، هو خيط الوصول إلى الشعر، الذي سيتطور أو سينحط بالنسبة إلى موقع الشعر العالمي من فن الشعر وفهم الواقع. أي أن قيمة القصيدة في الوطن العربي مرتبطة بقيمة القصيدة في العالم، ومدى ((جودتها)) متوقف على مدى دورها في تطوير القصيدة ((العالمية)) والتنافس معها. ونحن هنا، لا نعمم، بقدر ما نحدد إطار الفن الذي هو بلا حدود، ولا نخصص، بقدر ما نشدد على انتمائه الكوني الإنساني الذي كانه دومًا وسيكونه إلى أن يغدو عالم الملحمة القديمة جديدًا صفة للعالمية( )، لأن الشعر بالنسبة لنا كما هو بالنسبة لمالارميه النسق نفسه للروح الإنسانية. وبناء على ما سبق، يمكن أن يكون الشعر العربي في بناه الحديثة أكثر تقدمًا من الشعر الغربي، ويمكن أن يكون أقل تقدمًا إذا ما كان دون مستواه، ومعيار ((التقدم)) هنا فني وفكري في آن واحد من غير أن يرتبط (( تقدم)) القصيدة أو ((تأخرها)) بالشرطين السياسي والاقتصادي. أما البرجوازية الصغيرة، عندما تتحول هذه الطبقة إلى حليفة مع الاستعمار، حليفة مباشرة أو غير مباشرة، تحت رداء ليبرالي أو سلطوي، فستسقط قصيدتها، حتى وإن وقف بعض شعرائها في موقف ((نقدي)) منها( )؛ لأنهم لم يتخذوا موقفًا ضد سلطة الدولة، ولم يقفوا في صف نقيضها بسبب عجزهم التعبيري والفلسفي في الصراع الاجتماعي المحلي والعالمي القائم، ولم يمسكوا بلحظة عبث قائمة يجهلون أسسها. لهذا ليس الشعر العربي الحديث شعر طبقة بينما لطبقة من الطبقات شعرها وشعراؤها، وليسه شعر فرد بينما لفرد من الأفراد شعره وقصائده، ونحن لا نعتبر حضوره - ونقصده هنا شعرًا مسرحيّاً أو غنائيّاً أو مرسلاً أو نثريّاً- بفضل هذا الشاعر أو ذاك مثلما يقنبلنا النقاد به منذ الستينات إلى اليوم بخصوص الريادة، لأن هناك سياقًا شعريّاً موضوعيّاً وفقًا لشروط إنتاج هذا الشعر وتلقيه يتعدى الأقْلَمَة، ولأن القصيدة الحديثة تجلٍّ لنظام الإشارة في سياق شعري يتجاوز العروضية، وكذلك لأن التوتر السيميائي للخطاب لا هوية له يدعوه فاليري ((إشارات إمهالية)). وإذا كان هناك سياق شعري للقصيدة، فمضمون المفردة الدلالي في القصيدة يبقى خارجًا عن أي سياق كما يرى الألسني أوزوالد دوكرو، إنها إشارة فاليري وقد غدت دلالة ذات قدرة على التعبير لم تتجسد في خطاب (Terminologie de la Traduction, 86). وأجدني مضطرًا هنا إلى تقديم شعراء القصيدة العربية الحديثة بترتيب زمني، لأني أقدم شعراءها ولا أحلل تطورها تحليلاً يستوجب تقسيمها إلى وحدات دلالية توضع في سياقات بنيوية. وحسب التسلسل التاريخي نرى أن شعر هؤلاء الشعراء قد اتصف في المرحلة الأولى بثلاثة مظاهر التصقت بالبرجوازية الصغيرة، ما قبل صعودها إلى السلطة. المظهر الأول) تحديث القصيدة العمودية من ناحية الشكل، ومن أركانها محمود سامى البارودي في أواخر القرن التاسع عشر، ثم أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران. صحيح لدينا ما يمكن أن ندعوه ((بكلاسيكية الشكل الجديد))، أمّا من حيث المواضيع، فهي في معظمها ((متخلفة)) بالنسبة لزمانها وبالنسبة لزماننا، كان لها موقف اجتماعي أحادي من مطالب الخبز والعمل (علاقة أحمد شوقى، ((أمير الشعراء))، بالخديوي والأمراء؛ لهذا سمي أميرًا، وبأولي الأمر مثلاً). وكان لها موقف قومي أحادي من النضال الوطني (علاقة حافظ إبراهيم بالسلطان التركي والاستعمار الإنجليزي مثلاً)، وبقيت حقلاً مفتوحًا للأيديولوجية الإقطاعية السائدة، خرج عنها فيما بعد من دافع موقعه البرجوازي الكبير عمر أبو ريشة، وكذلك نزار قباني من دافع موقعه البرجوازي الصغير، الذي لم يكل من الالتصاق بنهد المرأة، وفخذ السلطة -كل نقده للخذلان العربي فيه تأكيدٌ لهذا الخذلان، نوع من الإبلام السياسي والسادومازوخية التناسلية- مؤكدًا عالمًا بطريركيّاً بشعًا ترك فيه الاستعمار آثارًا عميقة من حيث اغترابه الجنسي والسياسي والاقتصادي. إنه موقف مضاد لوضع الزمن الشعري كما عبر عنه فاليري: ((الإيمان بالوقت كعامل وسِلك ناقل قام على ميكانزم الذاكرة وميكانزم الخطاب المركَّب)) (Tel Quel, II, 348). الوقت للسفير قباني لم يكن ذا قيمة، والذاكرة لكاتب الأغاني قباني لم تكن ذات أهمية، والخطاب للهارب إلى الأمام قباني (أغانيه عن القدس وشعراء الأرض المحتلة والبؤس العربي) كل هذا لم يكن متعددًا ولا مركّبًا. المظهر الثاني) وتأتى جماعة ((الديوان)) المؤلفة من عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري لتدعو إلى تحديث القصيدة العمودية ليس من ناحية الشكل فقط، بل ومن ناحية المضمون أيضًا، أي ما يمكن أن نسميه ((بكلاسيكية المضمون الجديد))، هذا المضمون الذي تأثر بالثقافة الغربية الليبرالية السائدة مع محافظته على ((الأصيل)) في ((ديوانية)) الشعر الحديث. وهذا هو معنى الديوان الذي أطلقته على نفسها هذه الجماعة، بمعنى أن شعرها لم يبتعد في ((حداثته)) عن الفكر ((القديم)) إلا بما هو قريب من الشعر السلطوي في الغرب، و((هجر)) الشعراء الثلاثة السابقي الذكر الشعر إلى النثر، هذا الموقف ((المعادي)) للشعر، وعلى الخصوص، أطروحات العقاد المتخلفة في ((عبقرياته)) القائمة على شخصية ((سوبرمانية)) ((وهمية)) ((برقُ خُلَّب)) غير سياقية له من الدلالة الزائفة والتقهقرية، فيما يخص القيمتين الفنية والفكرية المحلية والعالمية لمثل هذا الشعر. وكما يقول غريماس، ((بعيدًا عن إقصاء كل إسناد إلى السياق، فإن وصف الميثات (العبقريات هنا) قاد إلى استعمال معلومات خارج-نصية من دونها لكانت النظائر السردية مستحيلة)) (Communications 8, 28)، هذا يعني في حالة العقاد أن الدخول في السياق النثري لم يتم إلا بالخروج التام من عالم القصيدة. المظهر الثالث) ولكن انفضاض جماعة ((الديوان)) أعطى جماعة أخرى اسمها ((أبوللو)) أي إله الشعر، وحسبهم حسب البرناسيين، الذين سموا أنفسهم بالنسبة إلى جبل برناسس حيث يقيم أبوللو، أن يستوحوا شعرهم من إلهه، وإن كان على علاقة بواقع الإله! كانت هذه الجماعة مؤلفة من أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وأبو القاسم الشابي، وكلهم واصلوا من ((تحديث)) القصيدة العمودية عندما تحرروا من وحدة البحر فيها ووحدة القافية ووحدة التفعيلة، وجعلوا لها من بعض التيارات الرومانطيقية منهجًا مضمونيّاً، فكانت لديهم الفردية الحادة هي السائدة، فردية استعلاء وتقوقعية، وأدى بهم ذلك إلى الشعور بالعزلة والضياع والبحث عن ((الجنة المفقودة)) أمام انفصام ((أناهم)) عن العالم. لقد قضوا جل وقتهم في طرح سؤال لاكان التالي: الموضوع الذي أتكلم عنه عندما أتكلم هل هو ذات الموضوع الذي عنه أتكلم؟ وذلك بسبب التردد والتحريف والتشويه لعجز عن اكتناه البعد المكاني، واستشفاف البعد الزماني، وتبادل الرموز. فالشابي الذي قال: ((إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر)) هو الذي قال عن الشعب أيضًا: ((أنت روح غبية تكره النور وتقضي الدهور في ليل ملس))، هذا التناقض في الشعر نابع من التناقض في الموقف، الذي هو موقف المتلون والباحث عن مجد بعيد تقف ((الدهور)) حائلاً دون تحقيقه، أو إنه مجد ((قدرى))، وهذا هو حال ما يسمى بشعر المهجر، وعلى الخصوص، لدى جبران خليل جبران، مسيح الشعر الحديث! كل شيء لديه لا يتحرك حسب تبادل رمزي يدعو إليه مالارميه للأنساق فيما بينها، وما ندعو إليه نحن من ابتسار دلالي. إن حركة الشعر، في هذه المرحلة الأولى ما قبل صعود البرجوازية الصغيرة إلى السلطة ( )، بالنسبة إلى شعر الانحطاط أو الشعر الإقطاعي، هي حركة متقدمة شكلاً متخلفة مضمونًا، ومتخلفة شكلاً ومضمونًا بالنسبة للشعر البديل، بصورة عامة، ولشعر الرومانطيقية الأوروبية لدى إدجار الآن بو وبودلير وفاليري ورامبو وغيرهم، بصورة خاصة؛ لأنه لم يصل إلى مستوى شعر هؤلاء الشعراء. وإذا ما نظرنا إليه، من زاوية هذا الزمن، نجد أنه كان عبارة عن نقطة ((انطلاق)) عربيّاً ونقطة ((تراجع)) عالميّاً. ونحن نقول كما يقول أومبرتو إيكّو، في سياق آخر، لم يحرك شعراء عرب هذه المرحلة ((شبكة من الأفكار والصور والأحاسيس الأساسية، ولم ينادوا بدينامية أصلية وعميقة. لم يعجب بهم القارئ المتكلف الذي يجد في قصائدهم، مع ظل من التواطؤ الجمالي، نقاء الملحمة البدائية دون حياء أو خفر وبمكر تحت مصطلح كون الشيء فعليّاً)) (Communications 8, 93). وتبدأ المرحلة الثانية للشعر العربي الحديث مع صعود البرجوازية الصغيرة إلى السلطة لتعطي شعراء مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازي وأحمد المجاطي وآخرين قليلين غيرهم، بهذه المرحلة، وعلى يد هؤلاء الشعراء كفواعل وأدوار ومحاور وبنى وروابط وليس كأشخاص ذوي أسرار ذاتية تُفَسَّر بالكاد كما يرى شومسكي، وُلدت القصيدة ((المحدثة)) في شكلها ومضمونها، القصيدة ضد- الخليلية، وذات المواضيع الجديدة، مواضيع المرحلة السياقية. وهنا يصعب تحديد تيارات؛ لأنها متعددة ومجتمعة في آن واحد لدى الشاعر. ولكن الأهم- مثلما سبق لنا وقلنا- هي الرؤية، جوهر المضمون المطروح، وقوة الدلالة المقصودة، وفرادة الوقائع المتطرق إليها، والتي ديناميتها المشاعر العقلانية لا المشاعر الشعورية(!) المنزوعة من جذورها المادية(!)، يكفى أن تكون هذه المشاعر للشاعر، وليس لصورة الإله. وتبعًا لسلطة الإبصار هذه، نجد أن بدر شاكر السياب قد انتهى به الحال إلى حالة من الرعب العدمي والخوف من الوجود- لا الخوف من الموت مثلما يروج النقاد- والقدرية. ونازك الملائكة قد ارتدت ردة أهل البيت إلى الدفاع عن القصيدة العمودية ومضمونها الإقطاعي. وعبد الوهاب البياتي، هو وأحمد عبد المعطي حجازي، قد انتهى بهما الحال إلى القصيدة ((الثورية)) الساذجة. وأحمد المجاطي قد تهمش عشر سنين، ثم كان جديده لا جديد. وأدونيس وصلاح عبد الصبور قد راحا يقطعان شوطهما الميتافيزيقي –تحت معنى التشظي وليس التحدي من أجل فهم الذات والعالم- الذي اكتمل بموت صلاح عبد الصبور، ولن يكتمل غدًا مع أدونيس طالما أن الصراع الجمالي السياسي الدائر لم يحسم بعد لصالح أحد، ولن يحسم مثل معادلة رياضية تفرض حلاً. وكما ترى العالمة الألسنية فيوليت موران، إنه نظام الانفكاك الذي ينتمي إليه هؤلاء الشعراء حيث التعبير يؤكد العبارة بإثبات يلغيه أو على العكس يبطل العبارة بإلغاء يؤكده. بمعنى آخر، يعطي التعبير لنفسه الحق عندما يعطي الحق للرأي المعبر عنه الذي هو عكسه (Communications 8, 108)، ويظل ذلك دون قِران، دون التقاء ظاهر بين رأيين أو أكثر في منطقة نفوذ واحدة من مناطق الشعر. إن القصيدة البرجوازية الصغيرة، في حالة صعودها إلى السلطة هنا عربيّاً، قد أعطت قصيدة بوجوازية صغيرة عالميّة، دفعت هذه القصيدة خطوة دون أدنى علاقة بمجتمعها المتخلف، وعلى الخصوص، قصيدة بدر شاكر السياب وأدونيس، حيث يجدر بنا الإشارة إلى القيمة السيميائية لقصيدتهما، وخصوصًا قصيدة أدونيس العالمية، في إطار البرجوازية الصغيرة. ونريد أن نقول، بطريقة أخرى، إن القصيدة الأدونيسية هي قصيدة بورجوازية صغيرة متطورة، ولكن التطور هنا هو تخلف لأنه نسبي، إنه تخلف أمام التطور المعرفي غير المشروط بتطور المجتمع. وتوازيًا لما تقوله فيوليت موران، نجد عند أدونيس التوازي نفسه في الانفكاك السابق حيث التبرير الخاطئ الشكلي يجعل منه ممكنًا. وفي الحالة التي تشغلنا، هو ممكن بتبرير خاطئ تجريبي. وستقابل القصيدة الأدونيسية، في إطار البرجوازية الصغيرة دومًا، أطنان من قمامة شعر هذه الطبقة في مرحلة انحطاطها الحالية ( ). هذا ما يجدر دعوته بظاهرة شعر البرجوازية الصغيرة الحديث في الوطن العربي، شعر مرحلة الانحطاط هذه هي شرطه، وشرط ولادة القصيدة النقيض، القصيدة ذات الوعي التاريخي العالي الشعرية، والتي بهذا الوعي تتجاوز الأصول الطبقية لشعرائها. ونحن ننظر إلى هذه القصيدة من الزاوية التي يراها جاكوبسون: زاوية ((الأدبية)) وليس الأدب، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يقوله تودوروف بخصوص كل بحث لا يقف عند حدود وصف العمل، وبالنسبة له ولنا بدلاً من أن نقذف بالعمل في نسق خطابي آخر نقذفه في خطاب أدبي. إنه شعر المستقبل المتطور في بنية إنتاج متخلفة متردية؛ وذلك بسبب ذلك الموقع الكوني للشاعر في الفن وفى الإبصار الذي هو الرؤية؛ مما يدلل على أن عنصر الإنتاج، أو إعادة الإنتاج، شرط مسألة القهر، أو الحرية، ليس العنصر الوحيد المتحكم في الحياة الأدبية والواقعية ( ). المرحلة الثالثة هي مرحلة القصيدة الواعية العالية الشعرية الملتزمة بالقضايا العربية، قضايا الإنسان العربي، قضايا الخبز والحب والغربة، قضايا الوجود، قضايا الإنسان دون سمة، القصيدة التي تقول السياسة دون أن تقولها على اعتبار أنها نقيض القصيدة السائدة ومنافستها عالميّاً والمطورة للشعر الإنساني. ونحن هنا نلتحق بتودوروف عندما نرى أنه من أجل معرفة كلام هذه القصيدة علينا أن ندرس أولاً لغاتها، ومن أجل الوصول إلى خطابها الأدبي علينا أن نقف عليها في الأعمال الملموسة للشعراء، لكننا نختلف مع تودوروف عندما يركز على الأدبية بمعزل عن التحليلين النفسي والتاريخي العائدين إلى هذه الأعمال. إن قوة القصيدة من قوة الحدث التاريخي، وإن الثورة والمأساة، منذ عهد أشيل وسوفوكل، طريقان إلى الحرية، وإلى حقائق الوجود الجوهرية ( ). لهذا، خرج هؤلاء الشعراء إلى انتمائهم الشعري الحقيقي الشاعري، وأخرجوا ((الشعر العربي الحديث)) من انتمائه إلى البرجوازية الصغيرة، فانتماؤه إلى الحدث التاريخي هو الأقوى، وبقدر ما صار شعرهم، بالتالي، أساسيّاً، صار شعر الآخرين نقيضهم، الذين لم يستوعبوا أبدًا حدث زمنهم، ثانويّاً. ونحن نقول-على عكس بليخانوف- بتواجد الأدب الهابط والأدب العالي، وخاصة في هذه اللحظة المتطورة من عصرنا، الذي ندعوه ((بعصر الفعل المسموع)) أينما كان موقع هذا الفعل من الكرة الأرضية ومن الحضارة. ولهذا استنتاجان، الأول: تماشي الأدب، بما في ذلك الشعر، مع التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي العالمي. الثاني: مساهمة الأدب الفعلية في إزالة الحدود بين المجتمعات وتحرر الإنسان. ونحن نقول-على عكس المستقبليين وعبد الله العروي- بحفظ الإيجابي في التراث الإنساني بما في ذلك شعر البرجوازية الصغيرة العربي ((القديم)) في مرحلته ((الحديثة))، على أن يكون من مهمة الشعراء العرب وغير العرب، ذوي الوعي التاريخي العالي الشعرية، تعميق الحلم الواقعي، كي يمنحوا للشعر صفة عالمية حقيقية. لقد انتهى العهد الذي كان يُعتبر للشاعر فيه شيطان، وما ندعوه ((بالشيطان))، الآن، هو تلك القوة على صنع الأفكار وقوة التعبير عنها، ونجمع كلتيهما تحت مصطلح قوة صنع الخيال المتوقفة على ((الموروث الخيالي))، ولكن أيضًا على القوة الذاتية للشاعر المكملة للطبيعة الناقصة، والتي لم تزل تدعى-عن خطأ أو عن مثالية- بالموهبة أو الإلهام. والتباين في أمر هذه القوة لدى الشعراء يفرضه شعرهم فيما بينهم، فالمتنبي أكثر قوة خيالية من أبي نواس، وأبو نواس أكثر قوة خيالية من أبي تمام. وفى زمننا، محمود درويش أكثر قوة خيالية من عز الدين المناصرة، وعز الدين المناصرة أكثر قوة خيالية من سميح القاسم. وقوة التخيل لا علاقة لها بقوة الفكر، إذ برغم التفاوت الذاتى بين الشعراء الثلاثة، فإنهم ينتمون إلى فكر واحد لا يجعلهم أقوى خيالاً من شاعر مثل أدونيس نقيض فكرهم وشعرهم، لهذا يمكن القول إن لكل واحد منهم خياله ((الخاص)) ( ). وكما يقال في السيميولوجيا، علم الأعراض، قوة الرمز وابتكار الاستعارة ومدى الدلالة وأصالة الفكرة إلى آخره، كالحمى والقشعريرة وانقباض القلب ووجع الرأس إلى آخره، تعلو أو تهبط عند الواحد والآخر، هذا هو مفهوم الخيال عند كل شاعر. وهذا ما ينطبق على سميح القاسم مثلاً خير انطباق عندما تحول قبل طباعتنا الثانية لهذه الدراسة من الشيوعية إلى الوحدانية، فتغيرت أعراض قصائده، وتغيرت بالتالي مواقف الناقد منها، دون أن يشكل ذلك اعتداء على زمنية هذه القصائد بل على العكس ستوجه هذه الزمنية الناقد عند اقترابه الجديد منها إلى إدراك كافة جوانبها بما في ذلك تيهور الوعي. فيما يخص محمود درويش الشيء نفسه، علم الأعراض يفضح سلطة القصيدة لديه كلما واطأ السلطة، وصار له باع فيها، هذا لا يعني أن موقفنا من القصيدة الواعية العالية الشعرية قد تغير، هناك ما انضاف إلى رؤيتنا، وهناك ما اغتنى به منهجنا، وهناك ما طوّع أدواتنا النقدية أكثر مما كانت عليه. وعودة إلى مفهوم الخيال نقول على هذا الخيال أن يتميز بصفة التركيبية عندما يجمع بين العديد من الخصائص المتناقضة في وحدة واحدة، في حالة واحدة، أو في صورة واحدة، إنه الخيال صورًا في علاقاته الطبيعية والاجتماعية والنفسية التي ليست قيصرية أو تحكمها المصادفة، وهي، في الوقت ذاته، فعالة، أي أن الشاعر قد أعمل فيها عقله واختياره. إنه ((الخيال المعقلن)) الذي في استكشاف معانيه تكمن المشاركة في عملية الخلق، أو هو ما يعلنه محمود درويش تحت شعار ((على القصيدة أن تغيرني!)) ( ) وهذا الشعار شامل، من ناحيته كموقف من الذات ومن الحياة، ومن ناحيته كاستكشاف للقصيدة، أي المساهمة في فعل التغيير الذي هو فعل القصيدة ذاته في متعته ونشاطه الإنسانيين. من هذه الزاوية، زاوية استكشاف بنية فعل التغيير في القصيدة، خضنا عملية تحليل قصيدة محمود درويش ((مديح الظل العالي))، وهى عملية تحليل السمات الوثيقة الصلة بالدلالة شائقة وشاقة بل وشاقة جدّاً، وكأنها عملية ولادة جديدة للقصيدة، أتعبتنا. فالنقد لدينا معاناة وابتكار تطوعه مادة النقد كما يطوعها، إنه إنتاج ثانٍ للقصيدة ( ). هذه القصيدة التي كانت نموذجًا للتركيبية الشعرية، والتى هي ذات وجود متعدد يؤكد جدارتها، حيث انصبَّ كل جهدنا على ((تفسير)) الأقرب إلى معانيها (بصيغة الجمع)، لنقترب من جوهر القصيدة والواقع، وقد تبدى عالمًا جديدًا كاشفًا للحقيقة، نقول ((كاشفًا)) من منطلق محمود درويش الذي ((بالواضح يفسر الغامض)). ولكي نزيل الشكوك لدى بعض القراء نعلن أن مديح الظل العالي تجربة خيالية أولاً وقبل كل شىء، وهى، بعد ذلك، ((شخصية)) أو ((طبقية)) أو ((أخلاقية)) أو ((فلسفية)) أو ((عاطفية)) أو ((سيميائية))، وكل هذا معًا، إنها قصيدة رمز الحالات. ومثلما هو كل سرد وكل وصف وكل عرض تتكون القصيدة من خطاب يندمج فيه تتابع من الأحداث ذات النفع الإنساني في وحدة فعل واحد، كما يقول عالم اللسانيات كلود بريمون. عندما لا يكون هناك تتابع لا تكون هناك قصيدة (هو يقول ((سرد))) ولكن، على سبيل المثال، يكون هناك وصف، وذلك إذا كانت مواضيع الخطاب مشتركة بالمجاوَرة، ويكون هناك طرح، وذلك إذا تضمن الموضوع الواحد الآخر، ويكون هناك دفق وجداني، وذلك إذا استدعيت المواضيع باستعارة أو كناية، إلى آخره. وعندما لا يكون هناك دمج في وحدة فعل لا تكون هناك قصيدة أيضًا وإنما فقط تسلسل للأحداث، عملية قولِ تتابعِ أحداثٍ لا متناسقة. وأخيرًا عندما لا يكون هناك تضمين للنفع الإنساني، حيث لا تكون الأحداث المساقة من إنتاج العامل (l’agent) ولا تكون خاضعة للجامد (le patient) ذي الشكل الإنساني، لا يمكن أن تكون هناك قصيدة، لأنه بالنسبة إلى مشروع إنساني فقط تأخذ الأحداث معناها وتنتظم في سلسلة زمنية مُبَنْيَنَة (communications 8, 62). هذا ونحن باقترابنا من مديح الظل العالي ومن صاحبها، سنقف موقف القاضي الجرجاني من المتنبي وهوراس من الشعر.
بنية الملحمة في (( مديح الظل العالي )) فى حالة بيروت المحاصرة سنة 1982 تحققت الوحدة بين المقاتل الفلسطيني وشعب بيروت الذي لم يهرب ولم يستسلم، أو بقول آخر، قامت بين الفرد والمجتمع وحدة جديدة، بعد أن غابت التناقضات التي كانت من ورائها الثورة والثورة المضادة، والتي نراها، في حالة لبنان، كصورة من صور التقسيم الكُنهي للعمل المشؤوم، ولم يبقَ إلا التناقض الأساسي بين شعب بيروت المحاصر ومحاصريه، وأصبح ((الأبطال)) يتحركون في عالم من الشعر ذي ((الأمل العظيم أو اليأس العظيم)) حسب مصطلح لمحمود درويش( )، قاله قبل الحصار، وكأنه يحدس حالة الحرب وحالة القصيدة: ((الأمل العظيم)) عندما يلتحم الفرد في التحام الجميع، و((اليأس العظيم)) عندما ينكسر الفرد في انكسار الجميع. وتأتي أشعار محمود درويش، في قصيدة مديح الظل العالي، كأشعار هوميروس، لتصور كفاح كل مجتمع بيروت ضد العدو الخارجي المتمثل هنا بالمجتمعات العربية بل بكل المجتمعات في العالم تحت غطاء الجيش الإسرائيلي، والتعميم الاجتماعي، هنا، مقصود دون أن ينفي ذلك، بالطبع، التخصيص الدلالي. فبيروت، أيام الحصار، أصبحت جزيرة يونانية منعزلة في قلب البحر، والعالم يهجم عليها بطائراته أو بسلبياته أو بتواطؤاته أو باحتجاجاته ((الإنسانية اللافاعلة))! والشعور بشدة العزلة، تلك، زاد من شدة الاندماج بين المقاتل وشعب بيروت، في حالة الالتحام أو في حالة الانكسار، وقوّى من ملحمية القصيدة. وبالتالي، جاء نشاط المقاتل نشاط الإنسان الحر في فعل الحياة أو فعل الموت لتأكيد ((بطولته))، وجاءت تلك الوحدة، البدائية في حالة الملحمة الهوميرية، والتجددية في حالة الملحمة الدرويشية، بين الفرد والكل، بين الأنا والنحن، بين الطبيعة الخاصة للأشياء والطبيعة المبدأ الأول، لمواجهة ذلك التناقض الأساسي القائم بين شعب بيروت المحاصر ومحاصريه. وبسبب من الوحدة تلك، والصمود، وانتصارات ((الصغير)) على ((الكبير))، أو، على الأقل، تَخَلُّق الصغير في فعله المتتابع، وعرقلة تقدم الكبير في اتجاه ((الجزيرة))، بسبب الشعور بالذات القادر على تحقيق حدث الصمود، وحدث الصمود القادر على تحقيق الذات، تلتغي الشروط الموضوعية لانحطاط الإنسان في زمن قيمة تتابع الأحداث والآراء والأفكار، والقيمة التي يستمدها من حيث هي إشارة إلى شيء آخر وتضمين للنفع الإنساني، وترتسم صورة للإنسان الجديد بإمكانياته الحرة والأخلاقية والحقيقية. هذه هي الأسباب الكامنة وراء وعي الشكل الملحمي في مديح الظل العالي، الذي هو وعي الوجود ذاته، وحجر البرق في مغامرة الإنسان المثيرة، والذي لم يكن بمثابة صدمة للشكل البورجوازي الصغير لما يسمى- ولا نسميه نحن- بالشعر العربي الحديث فحسب، بل وتغييرًا جذريّاً له أيضًا وعونًا على وضع حد للظواهر العارضة في الأدب أو المضافة، وهو في هذا- أي الشكل الملحمي الدرويشي- ليس تقليدًا أو تجديدًا للشكل الملحمي الهوميري، ولا تشخيصًا أو اقتراضًا، بل إضمارًا، وفي الوقت نفسه، إظهارًا للمضمر أفرزته المعطيات البيروتية التاريخية الجديدة.
* * *
نود أن نشير إلى أننا سنقوم، أولاً وقبل كل شيء، بتحليل البنية الخارجية للحركة الأولى من القصيدة (أي شكلها)، وسيكون تحليلنا الأول. ثم، سنقوم بتحليل البنية الداخلية لذات الحركة من القصيدة (أي مضمونها)، وسيكون تحليلنا الثاني، والذي يشكل مع الأول كلاً عضويّاً. ولتسهيل عملنا، على اعتبار أن ((مديح الظل العالي)) ذات الزخم والطول الملحميين ((ديوانٌ)) وليس قصيدة، سنقسمها- مترفقين- إلى ثلاث حركات، وسنعرض- أول ما نعرض- لتحليل الحركة الأولى منها.
الحركة الأولى إنشاد الممدوح
بنية شكل الحركة الأولى التعبير الشعري تحت هذا الفصل، لن نتبنى مصطلح (( المحاكاة )) ( ) لأرسطو، ليس لأننا ضده، ولكن، بسبب سوء فهم بعض النقاد له. وسنبتكر، بدورنا، مصطلح (( التعبير الشعري ))، فنجمع، في آن واحد، بين الصورة والضمير، بين الطريقة والشعرية، بين الموضوع والخطاب، وكذلك، بين المحتمل واللامحتمل في إطار المحتمل. هكذا، ننفي، عن القصيدة الشعرية، تهمة النقل، أو، تهمة الشكل المثالي. علمًا بأن مصطلح (( التعبير الشعري ))، لدينا، هو وسيلة في القصيدة، أو، هو وسيلة القصيدة إلى الشعر، وعلى كيفيته يقوم التقييم النقدي إلى غاية الشعر.
الصورة والضمير نريد أن نبرز، تحت هذا الباب، بنية العلاقات بين الضمائر في صورها الدالة، وليس كأنواع (( للفواعل )) في اللغة، ومن خلال نظرة خارجية إلى وظائف الضمائر في القصيدة دون أن ندخل- في هذا المرحلة من التحليل- في تفاصيلها الداخلية، أي في الكشف عن مركباتها. إذن، للتعبير الشعري، في قصيدة (( مديح الظل العالي )) ( ) معبِّرًا، هو الشاعر، الذي يعبّر، في بداية القصيدة، بصيغة جمع ضمير المتكلم: خريفنا، ظلنا، سلاحنا، أو هيأنا، قلنا، كنا. والفردي هنا مصاغ في الجمعي، طالما أن الشاعر يتكلم بصيغة الجمع، عنه، وعن شعب بيروت، وقد جمع المصطلح الثوار الفلسطينيين وسائر الصامدين والمقاتلين. إنه يتكلم عن الكل بصيغة الجمع، ولا يتكلم عن نفسه بصيغة الجمع. ليس لادعاء التواضع ولا لنفي التجربة، ولكن ليدلل على أن تجربته الشخصية هي تجربة عامة، وهو، بذلك، يعمق من الأولى، ولا يتنكر في الثانية للسمة الفردية، أي، يبقي التعبير- وإن جاء بصيغة الجمع- شخصيّاً. ومن ناحية ثانية، ليخفف من تدخله المباشر، فيحكم من تعبيره الشعري. إنها تجربة فردية، ولكنها تجربة جماعية مباشرة، وذلك على المستوى الأول من توظيف ضمير المتكلم الجماعي وتوظيف صورة ضمير المتكلم الجماعي، التي هي، في هذا المستوى الأول، تعبير خارجي لعالم ضمير المتكلم الجماعي: خريفنا، ظلنا، سلاحنا، أو تعبير خارجي لفعل ضمير المتكلم الجماعي: هيأنا، قلنا، أو تعبير خارجي لحالة ضمير المتكلم الجماعي: كنا. إنه تعبير خارجي لعالم ضمير متكلم مزدوج أنا- نحن يشخصه الشاعر، وكذلك، لفعله، ولحالته، وفي الازدواجية استقلال لا انفصام في الازدواجية، عندما تَبرز السمة الفردية للشاعر، ويأتي التعبير عنها بضمير المتكلم الفردي. إنها تجربة جماعية، ولكنها تجربة فردية مباشرة، وذلك على المستوى الأول من توظيف ضمير المتكلم الفردي، وتوظيف صورة ضمير المتكلم الفردي، التي هي، في هذا المستوى الأول، تعبير خارجي لعالم ضمير المتكلم الفردي: جدار ساقط في شارع الزلزال يستند عليه الشاعر، أو تعبير خارجي لفعل ضمير المتكلم الفردي: أجمع صورتي، أو تعبير خارجي لحالة ضمير المتكلم الفردي: انكساري (بالمعنى المادي)، انفجاري (بالمعنى المادي) نثاري (بالمعنى المادي). ويجرى الانتقال إلى المستوى الثاني من توظيف ضمير المتكلم الفردي، وتوظيف صورة ضمير المتكلم الفردي، التي هي، في هذا المستوى الثاني، تعبير داخلي لعالم ضمير المتكلم الفردي: انتظاري، شغفي، لهفي، أو تعبير داخلي لفعل ضمير المتكلم الفردي: أفرغت انفجاري (بالمعنى النفسي)، أو تعبير داخلي لحالة ضمير المتكلم الفردي: انكساري (بالمعنى النفسي)، انفجاري (بالمعنى النفسي)، نثاري (بالمعنى النفسي). قلنا (( تعبير داخلي للعالم )) ولم نقل (( تعبير للعالم الداخلي )) (وكذلك فيما يخص الفعل والحالة): 1- لأننا نحلل بنية الشكل هنا لا بنية المضمون، بنية شكل العالم، العالم الداخلي لا بنية مضمون هذا العالم. 2- لأن ما يهمنا هنا صورة الانتظار النفسية لا الانتظار كجزء من عالم النفس. وغالبًا ما يجري التعبير النفسي، في القصيدة، بضمير المتكلم الفردي وهو، لهذا، متزامن مع صرخات الشاعر أو آهاته، وهو، هنا، بمثابة ضمير الضمير الجماعي، إذ من صفة الجماعة في حركتها التاريخية أن تنأى عن الفردي، عن الذاتي، لتنهج نهج الجمعي، والموضوعي. ولكن نزوع الجماعة الذاتي يبقى قائمًا قيام الشاعر فيها، وإن لم يكن، في لحظة محددة من صيرورتها التاريخية، (( مهمّاً )) أو (( أساسيّاً )). إن ضمير المتكلم الفردي في الجماعة وفى القصيدة، الذي هو وجه الشاعر الخفي أو باطنه (( الودي ))، هو نافذة على الذات في صراع الجماعة ضد الطبيعية، ضد الحصار في القصيدة، وهو حاجة ضغط شدة الواقع عليه، فبدت، في الظاهر، غير ضرورية. ولإبراز هذه الضرورة، يلجأ المعبر، الذي هو الشاعر، بصيغة ضمير المتكلم الفردي، إلى صيغة ضمير المخاطب الفردي، الذي هو المقاتل، بعلاقة مطلقة: البحر؛ ليؤكد علاقة إنسانية: يدا المقاتل وانتظار الشاعر، إذ يطالب، وفي المطالبة إرادة الضرورة: بحر للزمان المستعار- ليديك، كم من موجة سرقت يديك- من الإشارة وانتظاري- ولضمير المخاطب الفردي، هنا، وظيفة مزدوجة: تعزيز ذات الشاعر من خلال فعل الجماعة، الذي هو، من فعل البحر، أو الإنسانية تحت تكنية البحر ككيان لغوي لا يتجزأ يتألف من الدال والمدلول، من كفاح الإنسانية لإزالة الوجه المستعار للزمان، وإعادة وجهه الحقيقي. وكما رأينا، مع ضمير المتكلم الفردي، نرى مع ضمير المخاطب الفردي، أنها تجربة جماعية، ولكنها تجربة فردية مباشرة، ومباشرتها تكمن في إرادة المطلب الذي لا يكف الشاعر عن ترداده، وفي تنوع المطلب، وكذلك في وصفه بعد أن تحول، على يد المقاتل، إلى فعل. إنها تجربة جماعية، ولكنها تجربة فردية مباشرة، وذلك على المستوى الأول من توظيف ضمير المخاطب الفردي، وتوظيف صورة ضمير المخاطب الفردي، التي هي، في هذا المستوى الأول، تعبير خارجي لعالم ضمير المخاطب الفردي: موجة سارقة (كم من موجة سرقت يديك) دموع رامية (في وردة تُرمي عليك من الدموع)، أو تعبير خارجي لفعل ضمير المخاطب الفردي: ضع، احمل (ضع شكلنا للبحر، ضع كيس العواصف، احمل فراغك، ضحاياك)، أو تعبير خارجي لحالة ضمير المخاطب الفردي: فراغك بالمعنى المادي، جسمك الدامي، بقاياك، وكذلك، خطاك، وموتك، رأيناها كفعل والآن كحالة. ونحن لا نقف على المستوى الثاني من توظيف ضمير المخاطب الفردي، أي، المقاتل، وتوظيف صورته، التي هي، في هذا المستوى الثاني، تعبير داخلي لعالم ضمير المخاطب الفردي وفعله وحالته إلا من خلال المعبِّر، أي، الشاعر، وخاصة حين تعبيره الداخلي عن حالته النفسية، حيث ((تلهف الشاعر من تلهف المقاتل))، وكذلك عن فعل الانكسار حيث يقول الشاعر: وينكسر المسدس من تلهفك. وانكسار الأداة (( المسدس )) تعبير داخلي للفعل، ولكن، أيضًا، انكسار للعالم، وهذا تعبير داخلي لعالم الحصار. أضف إلى ذلك، التعبير الداخلي لحالة ضمير المخاطب الفردي الذي يومئ إليه المعنى النفسي للانكسار. ولكن المهم، في توظيف ضمير المخاطب الفردي، هو بقاؤه في المستوى الأول، مثلما حصل مع ضمير المتكلم الجمعي، أي، في مستوى التعبير الخارجي لعالم وفعل وحالة المقاتل؛ لأنه هو، في حد ذاته، صورة لهذا التعبير الخارجي، وبمعنى آخر، صورة خارجية للعالم والفعل والحالة طالما بقي في حركة دائبة من الحصار إلى خارجه. إنه يمثل حركة الخروج من الحصار، سواء أكان التعبير عن ذلك بوضع حد له، أو بالخروج الجسدي منه. ويلخص الشاعر وضع المقاتل هذا بقوله: إن الصليب مجالك الحيوي، مسراك الوحيد من الحصار إلى الحصار! ووضعه على الصليب يبرزه كمصلوب في مقدمة الصورة إن لم يكن خارجها، وهذا أول ما يسترعي الانتباه فيها، ولكن ذلك يتم في مجال الفعل الحيوي وإن كان الصليب قدرًا وحيدًا للمقاتل، وفى القول (( لمسراك الوحيد من الحصار إلى الحصار)) تدليل على حركة الذهاب إلى الخارج، وهى حركة مستمرة لاستمرار (( الحصارات )): من حصار إلى حصار! من حصار عمان إلى حصار بيروت إلى حصار طرابلس- مع أن القصيدة كتبت قبل هذا الحصار الأخير- إلى حصار كل مدينة عربية! والحركة هنا في اتجاه المستقبل الذي يعبر عنه الزمان العربي المحاصر، حيث تعدد الحصار فيه تعدد للمكان، انتقال من حصار إلى حصار، أو من مكان إلى مكان، أي: الذهاب إلى الخارج دومًا، من خلال الفعل الحيوي الذي تعبر عنه مواجهة المقاتل المتتابعة. ونريد أن نلح، في علاقة الشاعر وشعب بيروت والمقاتل، أو، ضمير المتكلم الفردي وضمير المتكلم الجمعي وضمير المخاطب الفردي، على أن المقاتل صورة للشاعر، وكأنه في حديثه إليه يخاطب نفسه، ولكن المقاتل يخرج عن إرادة الشاعر، ويصبح صورة لشعب بيروت، لأن كلا الاثنين يمثلان التعبير الخارجي لفعل الخروج من الحصار، الفعل الحقيقي، الوحيد، والواحد، بينما يمثل الشاعر التعبير الداخلي لذات الفعل. أما ضمير المتكلم الجمعي الذي يجمع الضمائر الثلاثة، في لحظة معينة، فسيعبر عن علاقة مركبة في البنية الشعرية، هي هنا منسجمة، نتيجة لانسجامها في الحصار ضد- الحصار. بينما سيدخله ذهابه في ضد- الحالة، ضد الحصار والمحاصرين، في علاقة أخرى مركبة أيضًا في البنية الشعرية، قائمة على التناقض الطبقي والتصارع الطبقي، وهي هنا ليست منسجمة، نتيجة لعدم الانسجام بين محاصَرين ومحاصِرين. وبين الانسجام وعدم الانسجام في البنية الشعرية، ستقوم مسألة تراكب عالم القصيدة القائم على تراكب الفعل وتراكب صورة الفعل في انسجام بنيوي للتعبير الشعري سيغتنى بالدلالات والإيماءات والمعاني. ولا يتناسى المعبِّر أو ينسى ضمير الغائب، ولكنه يقدمه على أساس أنه إما القلب: واستطاع القلب أن يرمي لنافذة تحيته الأخيرة، وهو هنا كناية عن الذات، وفى هذا عودة إلى ضمير المتكلم، وما ترتب عن هذا من استخلاصات. وإما الصحارى: ستتسع الصحارى عما قليل، أو، الفضاء: حين ينقض الفضاء على خطاك، وهو هنا، كناية عن الآخر، الذي يشكل مع الطبيعة جبهة واحدة ضد الإنسان المنهزم أمامها أو المنتصر عليها: وتنكسر البلاد على أصابعنا كفخار. إذن، ضمير الغائب موظف لخدمة ضمير المتكلم أو ضمير المخاطب، في فعلهما سلبًا كان أم إيجابًا، وهو، غالبًا، عبارة عن وسيلة تعميق فنية للفعل أو لصورة الفعل أو لدلالة الفعل أو لمعناه.
الطريقة والشعرية إن الضمير تكثيف للبطل أو (( للفاعل )) في القصيدة الملحمية، وتعدد الضمائر أو الفواعل سيعدد من صورة الفعل ومن تأويل الصورة الذي سيؤدي إلى بعد عقلاني من الشعرية سيلغي (( التماهي )) الانفعالي بين الفاعل والمفعول، أي المتلقي، ونقصد بذلك (( إثارة الرحمة والخوف )) الأرسطوطالية، - مسألة (( التطهير )) التي من الجدير دعوتها بـ (( التدنيس ))- ويرغمه على الخروج من الصورة، ليتخذ (( من بعيد )) موقفًا معرفيّاً محددًا. ودعمًا (( للتبعيد )) الذي هو طريقة التصوير الخيالي، والذي هو، بدوره، طريقة التعبير الشعري، لا يكتفي المعبِّر في ملحمة مديح الظل العالي بفاعل واحد أو اثنين أو ثلاثة، بالشاعر والمقاتل وشعب بيروت. ففى الحركة الأولى، من القصيدة، سنجدنا أمام شخصيات أخرى مثل ابنة الشاعر أو حبيبته. وستتحول بيروت إلى شخصية حية تخون وتعشق وتُخان وتُعشق، وكذلك البحر، أو المسدس، أو الفضاء، وكأن العالم بما فيه وبمن فيه، من خلال حركة القصيدة، التي هي حركة الواقع ذاتها، يتحرك. ولكن التحرك هذا- ليس من خلال الصورة ولكن من خلال التصوير الذي هو طريقة التعبير الشعري- واقعٌ فنيّاً تحت شرط نظرة المعبِّر الواقعة، بدورها، تحت شرط عواطف المعبِّر إلى حيث تتجه اتجاهها التداخلي. إن التحديق، في مطلع القصيدة، يتركز في صورة (( البحر ))، ثم في (( خريفنا ))، ثم في (( النشيد المر )) ثم في (( بيروت ))، ثم في (( منتصف النهار ))، ثم في (( ظلنا ))، ثم في ((سلاحنا الفردي ))، ثم في (( الزمان المستعار ))، ثم في (( يديك ))، ثم في ((الإشارة ))، ثم في (( انتظاري )) ثم في (( البحر ))... إلخ، أي، من (( البحر )) إلى (( البحر ))، ولكن دون انطباق مثالي لصورة البحر أو قسري وإنما تناسق أو إحالة أو تبعية. فالتحديق (( يحاكي )) عواطف المعبِّر في اتجاهين: نحو الطبيعة، ونحو الذات. وإذا ما تعددت النظرة نحو الطبيعة: البحر، بيروت، منتصف الليل، تعددت النظرة نحو الذات: خريفنا، ظلنا، سلاحنا، وتعددت، أيضًا، حسب الضمير هذه الذات: خريفنا، يداك، انتظاري. ولا تأخذ هذه التعددية -رأيناها فعلاً وصورة والآن فاعلاً- نظرات عدة لأشخاص عديدين، إنها دومًا نظرة المعبِّر، من خلال الفعل، إلى الذات أو العالم، إلى حالة الذات أو موقفها من العالم. ومحمود درويش، هنا، يختلف عن هوميروس الذي أسلوبه يحاكي نظرات الأشخاص باستقلالية النظرة عن الأخرى، وهى طريقة في القص المسرحي كلاسيكية، بينما طريقة (( وحدة )) النظرة، لدى محمود درويش، أن تقدم (( وحدة )) للخيال (( متعددة ))، وفى التعددية الخيالية عنصر كيفي للشعرية، تغتني بالتنغيم والإيقاع الموسيقي، وسنخصص لهذين العنصرين فصلاً مستقلاً.
الموضوع والخطاب الموضوع واضح من العنوان (( مديح الظل العالي ))، ولكنه لا يقال دفعة واحدة، إنه غير مباشر على مستويين: 1- وصفى: فهو ليس مديحًا للمقاتل، ولا لظل المقاتل، ولكن للظل العالي الذي يشخصه المقاتل، فيأخذ مقاتل بيروت- على الخصوص- صفة تعبيرية خاصة. 2- حسي: وهو نتيجة للصفة التعبيرية (( الخاصة)) التي هي نعت لمقاتل حقيقي (( خاص)). المقاتل هنا تبعة، وإن كان علة. وفى كونه (( تبعة))، سيمضي الخطاب الشعري (( بالعلة)) ، ليلقي الضوء على أبعاد المديح التي هي أبعاد تراجيدية أخذت شكل المأساة، فابتعد (( المديح )) عن (( التقريظ )) بالمعنى الكلاسيكي، واشتمل على تسويغ المديح (( بالذم )) أمام عدم القدرة على أن يعطي المقاتل أكثر بعد أن أعطى أكثر مما يقدر عليه، وأمام عدم القدرة على أن تعطي أمم (( حضارة المقموع ))، مثلما سنسميها في فصل قادم، أو: أمم تفتش عن إجازتها من الجمل المزخرف، مثلما يسميها الشاعر، أن تعطي هذه الأمم أقل مما تقدر عليه بعد أن أعطى المقاتل أكثر مما يقدر عليه. إنه مديح ذو درجات: بين عالٍ وواطٍئ. وذو اتجاهات: بين صاحب فعل أعلى مما يجب وصاحب فعل أقل مما يجب. وهذه هي السمة الأساسية للملحمة عند درويش، حيث الملهاة مُرة والمأساة ساخرة، وهما موظفتان معًا عنصرًا تكوينيّاً من عناصرها لا نوعًا شعريّاً قائمًا بذاته. فالحدود التي رسمها أرسطو بين الملحمة والملهاة والمأساة، هى، هنا، ليست موجودة. انصاغت جميعًا لتصوغ (( المديح ))، وليصوغه محمود درويش في التراجيديا، ليقوله بوصفه المتكلم، ليقوله على طريقته، فيعلو بشكل الخطاب ومضمونه إلى مرتبة مكتسبة في الخلق تجعل منه بناء مرتبًا يمثل تمثيلاً حيويًا التفاعل القائم بين المتكلم والمتكلم إليه كما يمثل مرمى هذا التفاعل وظروفه Terminologie de la Traduction, 79. ولأنه مديح تراجيدي، في المكان الأول، فهو لا يأخذ الممدوح جانبًا ليكيله مدحًا، وهو، أيضًا، لا يأخذ المذموم جانبًا ليكيله ذمّاً، فالمجانية، في المدح أو الذم، أمر يستبعده التسويغ الشعري ((الموضوعي)) في قصيدة درويش. وبسبب هذه (( الموضوعية )) في مسألتي حصار بيروت وصمود المقاتل، وما ترتب عنهما من بطولات حقيقية، ستنهج القصيدة نهج المديح بشكل (( موضوعي )) في تطورها الشعري، وأوزانها البطولية. إذن حصار بيروت وصمود المقاتل هما مكونان لموضوع القصيدة (المديح) وليسا موضوعها، مثلما يمكن أن يخيل للبعض: إنهما مضمونها، أو هما تفاصيل المديح، حكايتان من حكاياه، أو هما أسطورتان، ليس حسب مفهوم غريماس للأسطورة (المرجع السابق، 28)، هنا الأسطورة مصنوعة من خارج السياق الميثولوجي، ولكنها كالأسطورة الميثية تتموقع في مستوى العناصر الشعرية التي تتجلى في الخطاب. حصار بيروت وصمود المقاتل فى الخطاب الشعري، هما تراجيديان إلى جانب أنهما أسطوريان، وكالأسطورة يجب التفريق في التراجيديا بين خواصها الشكلية وخواصها الجوهرية. لأن الحصار الطويل المحكم قد جعل من صمود المقاتل فعلاً جوهريًا يائسًا معادلاً للموت، وبالتالي، عظيمًا بيأسه وعلى يأسه. وهذه خاصية من خواص الخطاب الشعري التراكبية: الحصار يولد الصمود، واليأس الخاص يولد اليأس العام المرموز إليه بالموت، والموت يولد الحياة. يستخدم الشاعر أو المتكلم موارد اللغة لتجسيد ما يرغب نقله إلى المتكلم إليه هذا صحيح، ولكن أيضًا لتوصيل الخطاب، بمعنى استيعاب المتلقي له كيفما كانت صفته التي لا يقررها الشاعر وإنما الموضوع. وفى قول الشاعر الشكسبيري: فإما أن تكون أو لا تكون، تكثيف شديد لمسألة مصيرية يطرحها الموضوع المعالج، تُخرج المقاتل الفلسطيني أو اللبناني من هويته ((الخاصة))، وتُدخله في هويته الإنسانية ((العامة))، لتشير المسألة المصيرية الإقليمية إلى مسألة وجود الإنسانية، وهذه أيضًا من صفة الخطاب الشعري التراكبية، صفة للرؤية الكلية التي تنهل منها مادة الخطاب، وعليها تأسست القصيدة الكلية. ومن ناحية أخرى، الخطاب الشعري الذي هو خطاب وضع تاريخي حاضر (حصار بيروت) يحضر وضعًا تاريخيّاً ماضيًا (حصار عمان) من خلال تاريخ الإنسانية (البحر)، عندما تبدأ القصيدة بـ: بحر لأيلول الجديد، ليدلل ذلك على عمق الوضع التاريخي للحصار الفلسطيني: بيروت- عمان- وكل الحصارات التي عرفتها الإنسانية. تداخل التواريخ هذا مثله مثل تداخل النصوص يتعلق بالموضوع، ويتخطى سياق النص الظاهر، وبالتالي، فالحصار الفلسطيني، هو حلقة جديدة من سلسلة القمع الذي يمارسه المغول البشري ضد الإنسان البشري صاحب الحق في الحياة، وهو من سيهدم الحصار ويهزم أعداء الحياة، أو، أعداء فلسطين، وقد أصبح الرمز واحدًا. إنها الحركة المضادة في المستقبل المحاصر، حركة القصيدة من الحاضر إلى الماضي وإلى المستقبل في آن واحد، صفة لزمان القصيدة الكلي. هكذا، ترى الرؤية الكلية التاريخ أفقيّاً في لحظة صراعاته الحاضرة بين كل الأطراف المعنية مومئة إلى المستقبل، وتراه عموديّاً في عمره الزمني البعيد الضارب في أعماق الإنسانية، ولسبر هذه الأعماق، وبسبب سبرها لهذه الأعماق، تغدو في الشعر رؤية كلية. اعتمادًا منا على السياق المعرفي، رأينا ثلاثة مستويات للخطاب الشعري: المباشر في الخطاب الشعري يحتوى على المباشر (الحصار على الصمود)، أو المباشر في الخطاب الشعري يحتوى على اللامباشر (اليأس الخاص على اليأس العام)، أو اللامباشر في الخطاب الشعري يحتوى على المباشر مرورًا باللامباشر (البحر على أيلول جديد مرورًا بأيلول قديم، وبكلام آخر، تاريخ الإنسانية على حصار بيروت مرورًا بحصار عمان). وهذه المستويات الثلاثة للخطاب الشعري محبوكة بمستوى عالٍ واحد من اللغة المتوافقة مع كل منها، ومع القوة التراجيدية في كل منها. إن التراكبية في الخطاب الشعري هنا، تعتمد التصوير المتداخل لتداخل الضمائر- مثلما رأينا- وتداخل الأفعال والحالات، وبالتالي، صور الأفعال، وصور الحالات. فالقصيدة تبدأ بعدد من الصور المتداخلة دفعة واحدة: 1) بحر لأيلول الجديد. 2) خريفنا يدنو من الأبواب. 3) بحر للنشيد المر. 4) هيأنا لبيروت القصيدة كلها. 5) بحر لرايات الحمام. 6) لظلنا. 7) لسلاحنا الفردي. 8) بحر للزمان المستعار. 9) ليديك. 10) كم من موجة سرقت يديك من الإشارة وانتظاري. 11) ضع شكلنا للبحر... إلخ. هي صور في الوقت نفسه مستقلة، ولكن، داخل الوحدة التي تجمعها: وحدة الدلالة أو وحدة المعنى أو وحدة المقطع. وهي، أيضًا، صور متباينة بين تجريد وتحديد، وتباينها قائم في تداخلها، إذ أن الصورة التجريدية الأولى مثلاً: (( بحر لأيلول الجديد )) تتباين عن الصورة التجريدية الثانية: (( خريفنا يدنو من الأبواب ))، ولكنهما تتداخلان بصفة أن أيلول بداية الخريف. وكذلك، إذا تجردت الصورة الأولى بالبحر، وتحددت بأيلول، فإنها ستتجرد بخريفنا، وتتحدد بنحن، نحن كوجود حسي مرتبط بأيلول كزمن حسي، بينما خريفنا كوجود تجريدي مرتبط بالبحر كزمن تجريدي. ونستنتج من هذه التراكبية التصويرية، في الخطاب الشعري، أنها بقدر ما تربط البطل الحقيقي بمكانه وزمانه (بيروت- الحصار- 1982) بقدر ما تفك البطل الملحمي من مكانه وزمانه (البحر- الخريف) في وحدة من الزمان والمكان (( مبتكرة )) هي وحدة الحقيقي والخيالي، وحدة المحدود واللامحدود، وحدة التهكمي والمأسوي. وفى هذه المفارقة التي هي صفة إنسانية فيزيقية نفيٌ لميتافيزيقية الزمان والمكان في القصيدة الرومانطيقية، ولجمودهما في القصيدة الكلاسيكية. إن ما نفضل تسميته بالمكان المفتوح والزمان المفتوح، في مديح الظل العالي، هو صفة أساسية لخطاب القصيدة، وللمأساة الفلسطينية التي هي هنا، ككل مأساة، التعبير عن صراع الشخصيات في مواجهتهم لقدر خاص، إضافة إلى ما للمأساة الفلسطينية من خصوصية خاصة بها: مأساة مفتوحة دون بداية أو نهاية ( )، لهذا بدأت القصيدة بالبحر كمكان مفتوح وزمان مفتوح، وانتهت بـ: ما أضيق الرحلة- ما أكبر الفكرة- ما أصغر الدولة. وفى ضيق الرحلة تأكيد على صغرها كزمان، وفى صغر الدولة تأكيد على ضيقها كمكان، ولن يقوم الحق الفلسطيني بـ (( التعويض )) أو (( العودة )) إلا بالفكرة، التي هي تجريد للزمان والمكان المفتوحين، ولنضف حالاً، للزمان والمكان المفتوحين على نهاية حقيقية لا يمكن تحديد أين ومتى- على الأقل حتى اللحظة- في المستقبل.
المحتمل واللامحتمل في إطار المحتمل المحتمل هو الممكن المبدَع، أي أننا لا نخرج معه عن مقولة: الفن هو انعكاس إبداعى للواقع( ). وهو ذو تشكيل خطابي خارجي وآخر داخلي، فعندما يقول النص: بحر لأيلول الجديد، نتعرف على البحر كمكان واقعي، وعلى أيلول كزمان واقعي، في التشكيل الخطابي الخارجي. وهما، هنا، زمان ومكان عاديان رتيبان ممكنان (( دون إبداع )) لكن الصفة (( جديد )) التي أدخلت على (( أيلول ))، نقلت التشكيل الخطابي الخارجي- أولاً- إلى مستوى المحتمل، أي إلى مستوى الممكن المبدَع بعد أن شحنته بالدلالات: أيلول الجديد يشير إلى حصار بيروت، وفى الوقت ذاته إلى حصار عمان؛ لأن أيلول الجديد يستحضر أيلول القديم، وينقل الزمان من العادي والرتيب والممكن غير المبدَع إلى الزمان الخيالي والدينامى والممكن المبدَع. وكذلك البحر يصبح المحتمل لمكانين واقعيين: بيروت وعمان. وفي التشكيل الخطابي الداخلي- ثانيًا- يتجاوز البحر المكانين الواقعيين، بيروت وعمان إلى مكان ثالث هو: إما ( كتعويض )) عن مأساة، وإما (( كبطل )) يساهم في ((الانتقام)). وفيما يخص الزمان، نجد أنه الحصاران المحددان، بيروت وعمان، ولكنه لا يتجاوزهما إلى حصار ثالث بسبب انتفاء المستقبل فيه لخطورة الحاضر وهوله؛ لهذا، سيقوم الزمان في حالة عدم انسجام مع المكان، على اعتبار أنه إما الاستلاب (ضد- التعويض)، وإما موضوع ((الانتقام))، لنخلص إلى علاقة مكزمانية خاصة لوحدة الزمان والمكان، جعلت لهذا الأخير، تبعًا لظروف الحصار، الدور (( المهيمن )) في تشكيل العلاقة. إنه (( اختلال )) في الأدوار الذي لولاه لما كانت المأساة: مأساة حصار لا محتمل- تحت معنى لا واقعي- حصار لا طبيعى، ليس له قانون، يُذكِّر بالحصار الفلسطيني، وأثر المكان عليه كبير لأنه محتمل، أي في كل مكان، وهذا مثالنا الأول عمَّا ندعوه بـ (( اللامحتمل في إطار المحتمل )). ويمكن أن نأتي بمثال آخر يزيد من توضيح هذه المقولة، تحت معنى اللاواقعي دومًا: فالبحر، مثلا، (( كبطل يساهم في الانتقام )) يرفعه إلى مرتبة تجريدية، مرتبة اللامحتمل، مرتبة ميتولوجية، ولكن (( للانتقام )) من موضوع حقيقي: الحصار الجديد في بيروت، مما يبقيه، في إطار المحتمل ببعديه، الممكن غير المبدَع: البحر، والممكن المبدَع: دلالته. وكذلك، فيما يخص البحر، عندما يصبح ((تعويضًا))، أي رمز ما يقابل الوطن وعلامة الهجرة، فإنه يرتفع إلى مرتبة تجريدية، مرتبة اللامحتمل، في زمن من الاستلاب، أو ما نسميه بـ ضد- التعويض المادي، مما يبقيه، مرة ثانية، في إطار المحتمل. ويمكن، من ناحية أخرى، أن يكون، كوطن وكهجرة وكلا محتمل، التعويض الوحيد للفلسطيني، مما يبقيه، مرة ثالثة، في إطار المحتمل. أمَّا اللامحتمل تحت معنى الواقعي، فسيعيدنا إلى البحر كمكان واقعي، والى أيلول كزمان واقعي، في التشكيل الخطابي الخارجي، ولكن من خلال عنصر فيه جديد ألا وهو (( الضروري )). إنهما ضروريان، وهما ضروريان: إما بارتباطهما بالمحتمل في بنية القصيدة أو ببنية القصيدة. وانطلاقًا من الحاضر كمحتمل، ولقوة المكان عليه، ينحو الزمان الكلي نحو الماضي كضرورة، ونحو المستقبل كلامحتمل. والمهم ذكره، عند محمود درويش، هو أيديولوجيا النص، أو، ما ندعوه بالرؤية. ففى المحتمل هي لا محتملة، تحت معنى لا ظاهرة ولا مباشرة، وفى اللامحتمل هي محتملة، تحت معنى ظاهرة وواضحة. لهذا السبب، تأخذ مقولة (( اللا محتمل في إطار المحتمل )) شرعيتها الفنية والتقييمية، ولن يمكن ذلك إلا مع رؤية كلية للواقع المبدَع؛ لأنها، في الحالة المناقضة لمحمود درويش، ستكون محتملة في المحتمل، تحت معنى ظاهرة ومباشرة (القصيدة الواقعية)، أو لا محتملة في اللامحتمل، تحت معنى لا ظاهرة ولا واضحة (القصيدة المثالية). وفى كلتا هاتين القصيدتين، سنتوصل إلى استنتاجات فنية وأيديولوجية -انطلاقًا من رؤية الناقد التي ليست محايدة- تنفى الانسجام في الخطاب الشعري، الذي هو انسجام تبادلي بين المحتمل واللامحتمل في بنية القصيدة من ناحية أخرى. وتضعنا هذه الاستنتاجات، بدورنا، في موقف علمي غير منسجم مع الموقف اللاعلمي للشاعر. إذن، الأساسي في مسألتي المحتمل والواقعي ليس التمايز الذي وضعه أرسطو بين الشعر والتاريخ -على أهميته-، لا ولا التمايز الذي وضعه البنيويون بين التعبير الفني لحدث والحدث -على أهميته أيضًا-، الأساسي هو الرؤية الواعية لواقع مبدَع، رؤية فنان حقيقي واعية للواقع. علمًا بأن المحتمل و- أو- اللامحتمل في إطار المحتمل، في القصيدة، يخصان كل بيت، كل استعارة، كل فعل، كل حالة، وكل عالم القصيدة. وعلى عكس أفلاطون وأرسطو، في آن واحد، للشعراء هنا (( جمهوريتنا ))، حيث ((يحاكون)) فيها الشىء والفعل فيه والحالة عنه والموقف منه، فيجمعون بذلك بين الظواهر والعلاقات الاجتماعية والمثل.
تمهيد منهجي لتحليل بنية مضمون الحركة الأولى القصيدة وحدة كلية تتشكل من وحدات رئيسية، وهي مثل كل نظام، كما يقول رولان بارت، تنسيق بين وحدات معروفة طبقاتها، يجب البدء أول ذي بدء بتقطيعها تقطيع الحكاية، وتحديد قطع الخطاب الشعري كالسردي ليمكننا توزيعه في عدد صغير من الطبقات، وباختصار يجب تحديد أصغر الوحدات السردية أو الشعرية ((Communications 8, 6. ويمكن الأخذ بعين الاعتبار (( للتمقطع )) الذي قام به الشاعر، فنعتبر المقطع وحدة رئيسية، ويمكن أن نجمع بين عدد من المقاطع تربطها وحدة الفعل، وندعوها جميعًا بوحدة رئيسية، أو وحدة الحالة إذا ما انعكست في الفعل حالات، وكانت كثيرة، وهى، بالفعل، كثيرة، أو، في الأخير، وحدة المعنى، وهذا هو الأصعب؛ لأن النص متعدد المعاني متداخلها، وعلى المعنى أن يكون معيار الوحدة، وليس التحديد التوزيعي للوحدات كما يضيف بارت (المرجع نفسه، 6). ومن ناحية ثانية، يمكن لبيت واحد أو لاستعارة فيه أن تحوي معنى شاملاً مستقلاً، وهذا ما رأيناه- بالفعل- عند تحليلنا لمطلع القصيدة: بحر لأيلول الجديد. ولكننا لم نتبع أيّاً من الطرق السابقة، ومثلما سبق لنا وقلنا، قسمنا النص- مترفقين- إلى ثلاث حركات، هي أقرب إلى مفهوم الوحدات (( الشاملة )) تحتوي على معظم الاقتراحات السابقة إن لم يكن كلها، وسنجعل، تحت (( غطاء )) الوحدة الشاملة، من فعل أو أجزاء فعل وحدة ثانوية، ومن حالة أو أجزاء حالة وحدة ثانوية، وكذلك، ربما، من مقطع أو مقطوعة أو بيت أو استعارة، ويمكن أن تكون اللفظة بعالمها المحدود وحدة ثانوية أيضًا.
بنية مضمون الحركة الأولى حولة النبرة حول المقدمة بداية الحركة الأولى: (( بحر لأيلول الجديد )) (ص14)، ونهايتها: (( إن حوصرت حلب )) ص(31)، وهى تبدأ- مثلما تنتهى- بداية (( تجميعية )) فيها أفعال متعددة وفواعل متعددة ومعانٍ متعددة وصور أيضًا متعددة، وكل ذلك يقال (( بنبرة جسيمة )) تعلن مقدمًا عن جسامة مضمون المديح، وموقف الشاعر (( الجسيم )) أيضًا من الممدوح، الذي له، بدوره، موقف مشابه من أحداث القصيدة، من أحداثها وفى أحداثها. والعلاقة (( الجسيمة )) القائمة بين الواقع والممدوح والمادح معبر عنها بالأبيات التالية: بحر للزمان المستعار- ليديك، كم من موجة سرقت يديك- من الإشارة وانتظاري: الموجة (الواقع) كفاعل، ويدا الممدوح (وهو المقاتل) كمفعول به، ولكن كفاعل أيضًا في الإشارة (الواقع)، وفى انتظار المادح (وهو الشاعر). والمهم، في الحركة الأولى هذه، وفى إنشاد الممدوح، على الخصوص، هذه الثنائية للمقاتل كفاعل ومفعول، وفي كلتا الحالتين سيوفيه الشاعر بمديح لفعله (( العالي )) الذي سيكون مديحًا مأسويّاً حتماً للازدواج المتناقض في صفة المقاتل، إن لم يكن الازدواج المتناقض صفة له. إذن، تنطلق الحركة الأولى بنبرة جسيمة تشمل على مقدمة بدايتها: ((بحر لأيلول الجديد)) (ص14)، ونهايتها: (( مَنْ أعلاك فوق جراحنا ليراك؟ فاظهر مثل عنقاء الرماد من الدمار! )) (ص16) والمقصود هنا: الله. ختامًا وتجسيمًا للنبرة (( العالية )) التي تهدر أول ما تهدر بـ: البحر. وفي هذا المقطع، الذي دعوناه بالمقدمة، إعلان بصوت عالٍ عن إرادة المقاتل كما هي، أي الواقعية، بصموده وقتاله وموته، وفي الوقت ذاته، إعلان بصوت عالٍ عن إرادة المقاتل كما يجب عليها أن تكون، أي المحتملة، عندما يطلب إليه الشاعر بقوله: وحّدنا بمعجزة فلسطينية، الأولى في الماضي (كما كان) أو الحاضر (كما يكون) والثانية في المستقبل (كما سيكون)؛ ولهذا، (( ليست بعد بمعجزة حقيقية ))، ولكنها تقدَّم شعريّاً كضرورة وكواجب وكمهمة للمقاتل تعطيه تسويغ المديح للمرة الثانية. بين الإرادة والضرورة تتتالى الاستعارات الدالة في المقدمة، ولنذكِّر أن ليس هناك من فواصل ما بين الشاعر والمقاتل وشعب بيروت، ففعل الإرادة هو شمولي، وإن جاء الحديث عنه فرديّاً، وكذلك الأمر، فيما يخص فعل الضرورة.
الوحدة الثانوية الأولى: فعل النوم قبل فعل الموت يمضي الشاعر بفعل النوم كمرادف مخفف للموت أو كوسيط يومئ إلى فعل أقوى. إنه نوم الممدوح، ومثلما سنرى، هو أيضًا موته. وهو دومًا إنشاد الممدوح، فنوم المقاتل وسيط إلى موته، ووسيط، قبل كل شيء، إلى فعل الضرورة: عطش البحار، توبة المجدلية، انتحار الشاعر، عودة الروم، طرد الحراس، انكسار الصواري، التصفيق لاغتصاب نسائنا، موتنا. ويتموضع فعل الضرورة في حالة سقوط وضد- سقوط (( غامضة )) ولكن ملموسة: فهي ساعة للانهيار وللوضوح ولميلاد نهار غامض. أي، ساعة لفعل الإرادة. هكذا يكشف فعل النوم عن واقعين مختلفين ومتداخلين حتى اللحظة.
الوحدة الثانوية الثانية: فعل الموت يمثل موت المقاتل كارثة حقيقية للشاعر، ويعتبر بيروت السبب، فهو يريد أن يمنع عنها الخُبز والنبيذ. وفي توجهه ضدها وقوف إلى جانب الممدوح، بل فيه تكريس المديح لصاحبه الوحيد. ويصبح لفعل الموت، بالتالي، دافعان متناقضان: دافع القتل والحرب والحصار وخيانة بيروت، ودافع الحياة والبحث عن بلد والتشبث بالبقاء ولكن في عالم متفجر: أينما وليت وجهك:- كل شيء قابل للانفجار- أي، ليس الموت بديلاً في عالم الموت، وإنما النهوض من الموت، أو، على الأقل، النهوض ضده.
الوحدة الثانوية الثالثة: فعل الهجرة أكثر ما يبرز، في هذا المقطع، هو دافع عدم الثبات في الأرض (ولا في البحر): الآن بحر- الآن بحر كله بحر- ومن لا بر له- لا بحر له- يقابله دافع التهجير، وضمنيّاً استلاب الأرض، وهو في حالة مناقضة للدافع الأول. ولكن المادح يطلب إلى الممدوح في فعل الهجرة (( أن لا يذهب تماماً )) وهو، حتمًا، سوف لن يذهب (( تمامًا ))، فطريقه طويلة لا تنتهي. وإن لم تكن طريقه طويلة، فالشاعر يطلب إليه أن لا (( يكمل )) فعل الهجرة، (( فتكتمل )) المأساة.
الوحدة الثانوية الرابعة: فعله وحيدًا وكأن في هذا تسويغًا للنوم والموت والهجرة؛ لأن المقاتل يفعل وحيدًا، فيكشف عن دافع التكتل ضده، وفي الوقت ذاته، عن دافع التكتل معه، وفي الحالتين هو (( يعلو فكرةً ويداً وشاماً! ))، أي، يبقى موضوعاً للمديح. ونرى في هذه الوحدة الثانوية التي تشمل عددًا من المقاطع من: (( كم كنت وحدك يا ابن أمي )) (ص18)، إلى: (( بيروت- لا )) (ص22) أن المقاتل لا يتوقف عن الفعل وحيدًا في أفعال أخرى، في الكثير ضده: أفعال الأعداء، حسب المصطلح الشامل، وفي القليل معه: أن يكون (( ابن أكثر من أب )) (ص18) استعارة تعبر بقوة عن ذلك. ورغم يأس الفعل: (( صحراء من كل الجهات )) (ص21)، وبسبب فعل اليأس، يصرخ الشاعر بفم المقاتل: (( سندمر الهيكل )) (ص22)، وينهي بمقطع الرفض الخاص (( بيروت- لا )) (ص22). إنه فعل المقاتل وحيدًا الأخير، وإن غلّب الشاعر على ذلك الطابع التكتلي بانضمامه إليه، إلى جانب شعب بيروت، عندما لجأ إلى ضمير المتكلم الجماعي؛ وذلك لأهمية هذا الأخير قبل نهاية الحصار، حصار بيروت، والحصار الفلسطيني.
الوحدة الثانوية الخامسة: فعل البراءة يعود الشاعر إلى النوم كوسيط إلى فعل البراءة. وهو، هنا، مرادف مباشر للموت، ولكنه مقدم على أساس أنه دافع للسكينة والدعة والطمأنينة، وفي الوقت ذاته، دافع للشراسة، عندما يدلل فعل البراءة على أن الشراسة كانت وراء قتل ابنة الشاعر. النوم، هنا إذن، هو موت مباشر، وهو مناقض لوجود ابنة الشاعر، وبشكل غير مباشر، هو الطائرات المدمرة المناقضة لأزهار جسم الطفل الصغير. وهناك إلحاح من طرف المعبِّر لإبراز هذا التناقض الذي يدين الحرب بعد أن أدانتها البراءة. إنها براءة الممدوح، في الاستنتاج الأخير، وإن لم تكن براءته بشكل مباشر، فالحرب التي يخوضونها ضده، ستقتله، وتقتل كل شيء حتى الأطفال، دون أن تفرق بين بريء و(( مذنب )).
الوحدة الثانوية السادسة: اللا والنعم موقف وحالة بين اللا والنعم هناك دمار وحصار ومسألة وجود، أي أن سبب اللا من سبب النعم، وسبب النعم من سبب اللا، وهكذا يكون الموقف من الحالة، والحالة من الموقف. وبمعنى آخر، بنية الرفض مرتبطة ببنية الحالة، ففي القول: بيروت- لا، رفض (( للتركيع )) ولكل متفرعاته على حساب الوجود، والرفض هنا مقامرة، ولا نقول مغامرة، لأن الشاعر- المقاتل (( قد يخسر الدنيا، نعم ))، لكنه سيرضى بحاله هذه، دون أن يتراجع عن اللا، فبيروت ((هي آخر الطلقات))، أي، نهاية المقاومة، و(( هي ما تبقى من هواء الأرض ))، أي، نهاية الحياة، و(( هي ما تبقى من حطام الروح ))، أي نهاية القصيدة، وطالما رفضه يقوم النهاية لن تقوم، وموقفه هذا قائم بسبب من حالته التي تمثل كارثة حقيقية. وحالته هذه قائمة بسبب من موقفه الذي يدفع الكارثة، ويحول دون حلولها. إن موقف (( اللا )) هنا موقف فاعل، لنلاحظ ما يقوله النص: حاصر حصارك.. لا مفر- سقطت ذراعك، فالتقطها- واضرب عدوك.. لا مفر- هو موقف فاعل؛ لأنه من الحالة -مثلما قلنا- التي هي فعل المقاتل الأخير. وقد أكد الشاعر أسلوب الاستماتة (لا مفر) فلا خيار آخر للمقاتل إلا القتال بعد أن أكد الشاعر كونه وحيدًا: لا أخوة لك يا أخي، لا أصدقاء، وبعد أن أكد انفضاح (( الصديق )): سقط القناع. والفضح، هنا، جد هام، رغم أنه أبخس ثمن يدفعه المقاتل بدمه، إنه من نتاج الحالة، وتسويغ الموقف.
الوحدة الثانوية السابعة: بيروت الصورة وبيروت السورة يعود الشاعر إلى بيروت، من فترة إلى فترة، ليذكّر بحضورها، وبموقفه فيها من الحصار الذي هو رفض له إلى أقصى حد، وتعلق ببيروت إلى أقصى حد. إنها بنية الحالة: بيروت صورتنا، وبنية الموقف: بيروت سورتنا، ووجودها رهن بوجود المقاتلين: فإما أن نكون- أو لا تكون- مع ملاحظة أن القول الشكسبيري بصيغته الدرويشية ينطلق بلهجة من العبث جد مأسوية. رأينا بيروت، في الوحدة السابقة، تمثل نهاية المقاومة، وفي هذه الوحدة، تمثل المقاومة نهاية بيروت، أي أن العلاقة ما بين بيروت والمقاومة هي علاقة بقاء، والتي هي، بدورها، علاقة دفاع عن النفس، بل ونبتعد أكثر، حينما نقول علاقة دفاع الإنسان عن إنسانيته. أصبحت بيروت عنصرًا من عناصر المقاومة، فردًا من أفرادها، وجزءًا من كل، لتمارس فعل الحالة وتمارس عليها حالة الفعل.
الوحدة الثانوية الثامنة: العاشق والمعشوق على عكس العلاقة بين المقاومة وبيروت، التي هي علاقة إثبات في النفي، تقوم العلاقة بين العاشق والمعشوق -أو المادح والممدوح- على أساس المفارقة بين النفي والإثبات: أنا لا أحبك- كم أحبك! إنه فعل الحب في نقيضه، ولا نقول (( ونقيضه ))؛ لأن مسألة الكراهية هنا ليست مطروحة، لا ولا مسألة المراوحة. هناك مفارقة، مثلما قلنا، وهي ضرورة شعرية وغرامية، نوع من الوصل والبدل؛ لأنها تنبني في شبكة من علاقات الكتابة وعلاقات القلب التي في إشاراتها اللامباشرة (والمباشرة) تطرح علاقات الحصار. وبالطبع، ينتفي الرمز المكرور على أفواه النقاد من أن الحبيبة هي بيروت، أو، بيروت هي الحبيبة، ولخوف الشاعر الشديد من الوقوع في الاجترار والتبسيط ينفيه بنفسه حين يقول: بيروت المدينة ليست امرأتي, إنه يتعامل مع بيروت دون عقدة المرأة الفقيدة، هي المدينة التي لا يحبها ويحبها. وما يختلف بين قصائد محمود درويش الماضية و(( المديح... )) أن رمز المرأة الوطن -أمّاً أكانت أم حبيبة- ليس مطروحًا، لا ولا انعكاس العلاقة وطن- امرأة: إنها بيروت المدينة الحية بما فيها من أسود متعدد، وأبيض متعدد، وتناقضات متعددة، وردود فعل الشاعر تجاهها متعددة، وتناقضاته متعددة هو أيضًا. ولم يكن من الضروري هذا (( التشديد ))، وهذا الإعلان (( الصريح )) في السياق المعرفي عن أن بيروت المدينة ليست امرأة الشاعر -وهذا مأخذ من بين المآخذ الفنية القليلة والتفاصيل الدلالية الغير الضرورية التي نأخذها على القصيدة- لأن وعي القصيدة العالي يؤكد ذلك بشكل غير مباشر ومضمر، وكذلك نباهة المتلقي الواعي لا تحتاج إلى توضيح الواضح (السر المكشوف ولكن الحلمي) وخدشها بظفر الفائض والمضاف. هذا وسنتكلم عن بيروت المدينة المعشوقة بالتفصيل في فصل منفصل. وتلخيصًا لما نود قوله في المقاطع الخاصة ببيروت المدينة المعشوقة من صفحة 27 إلى صفحة 31، أي إلى ((إن حوصرت حلب)) نهاية الحركة الأولى: إن ثنائية الموقف والحالة (( لتفريغ )) المديح لم تزل هي المهيمنة، مع ملاحظة أن الشاعر يطرح الكثير من الأسئلة، وهذا ما تفرضه علاقة أحبك- لا أحبك، في محاولة للإجابة ستمضي بحالات العاشق ومركبات العشق وصفات المعشوق. لهذا، أدرجناها في الحركة الأولى تحت باب إنشاد الممدوح الذي يمثل المقاتل وليس بيروت؛ لأنها استمرار لموضوعة المديح، ولأنها تقوم بهمزة وصل بين إنشاد الممدوح وإنشاد بيروت كحركة ثانية مهدت له بصفتها وحدة وسيطة. وكذلك إن معرفة الوحدات الشعرية مكّنتنا من استغلالها على مستوى إجراءات الوصف، كما يقول غريماس، ووضع أي ترنيمتين أو متتاليتين بشكل متوازٍ بحيث تكون الواحدة الترنيمة التي يراد تأويلها والثانية الترنيمة التي تم تحويلها يمكن أن يكون له هدفان مختلفان: تحديد التركيب التعبيري للترنيمة، وتكييف التركيب مع إقامة النظير العام للقصيدة (Communication 8, 32). سنرى هذا حالاً على مستوى الفعل والدلالة والبطل والشاعر، وفي مكان أبعد عند تحليلنا للترنيمات، وسنترك للنظير العام مهمة انبنائه من خلال التحليل، والانكشاف شيئًا فشيئًا مع إثبات الموضوعة الأساسية من طرفنا.
* * *
تنتهي الحركة الأولى باستقطاب لكل الوحدات الثانوية من خلال فعل فك الحصار: إنها حركة ذهاب من الداخل إلى الخارج، من المكان إلى الزمان، إذ ستبدأ الحركة الثانية بـ: بيروت/ فجرًا، ومن الحالة إلى الموقف: يجب- يجب- يجب...، وهي الصفة الحركية في بنية الفعل وبنية القصيدة. مع ملاحظة أن مسألة القطع بين الوحدات هي عنصر من عناصر التكوين الموسيقي للقصيدة ونفسها الملحمي، لهذا لم يمكننا تبديل وحدات القول، ولا التصرف بالتناسق والترابط الأصليين. ونلاحظ، أيضًا، أن العلاقة البنيوية التي تحكم الحركة الأولى هي التناقض في الموقف تجاه حالتين (محاصَرين ومحاصِرين)، وفي الحالة تجاه موقفين (محاصَرين ومحاصِرين دومًا). وكان لحالة المقاتل فعلان: فعله مقاتلاً وفعله مقتولاً، وفي كلا الفعلين كان الشاعر هو الممدوح، وكل الأفعال كانت في وحدة كلية من العلاقات السببية التي سنقاربها في الفصول القادمة من خلال جدلها، وليس من خلال (( تمقطعها ))، وخاصة من خلال عناصر هذا الجدل اللغوية والأسلوبية والإصطلاحية والثقافية، فقد عمدنا حين لجوئنا إلى الوحدات، في الفصل السابق، إلى تكثيف الفكرة التي هي جزء من الموضوعة الأساسية، كي نثبتها تفصيلاً وتفسيرًا في المرحلة التالية.
جدل العلاقات بين الفعل والدلالة والبطل والشاعر تبدأ القصيدة بمجمل من العلاقات المتناقضة، ولكنها تتوحد في حركة الفرد في الكل، وتأخذ منهجًا مأسويّاً في تشكيل الوحدة، ورسم الحركة، وإن كانت في توجيهاتها تنحو نحو مكان مفتوح: (( البحر ))، كأول كلمة في القصيدة. إن النهج المأسوي هو نهج عودة الكتابة إلى زمن الحصار الذي هو زمن مرير على (( بطولاته)) -فالقصيدة كتبت بعد خروج الشاعر من بيروت- وهو نهج هذا الزمن ذاته على (( بطولاته )) التي تأخذ (( الإيجابية )) فيها منحى ((سلبيّاً)) يائسًا طالما أن نتيجة الصمود هي الخروج. ولكن (( البطولة )) أمر واقع في ذلك الزمان، والأمل، بالتالي، أمر واقع. إنه أمل عظيم متحد بيأس عظيم، ووحدة الأمل واليأس العظيمين (( النموذجية )) ستكون المضمون لوحدة الفرد بالكل، لوحدة الزمان بالمكان، لوحدة الاستعارة بالواقع، وهذا على كل المستويات الشعرية للقصيدة التي تبدأ بالبحر كمطلع مشخص ومطلب حقيقي: بحرٌ لأيلول الجديد. خريفنا يدنو من الأبواب. بحرٌ للنشيد المر. هيأنا لبيروتَ القصيدةَ كلها. بحرٌ لمنتصف النهار. بحرٌ لرايات الحمامِ، لظلنا، لسلاحنا الفرديّ. بحرٌ للزمان المستعار ليديك، كم من موجةٍ سرقت يديك من الإشارة وانتظاري( ). يظهر البحر المطلب الحقيقي في الأبيات السابقة كمكان مفتوح -مثلما قلنا- ينظر إليه الشاعر من بيروت، أو الجزيرة، كمكان ثابت ومحاصر، فهو يذهب من شواطئ بيروت إلى العالم، من الداخل إلى الخارج، إنها حركة مضادة لحركة البحر العادية، وهي مضادة من موقع الشاعر المضاد لمد البحر في اتجاه الجزيرة حيث سيقتحم البحر كل شيء: أيلول الجديد، النشيد المر، منتصف النهار، رايات الحمام، ظلنا، سلاحنا الفردي، الزمان المستعار، يديك. ولكن اقتحام البحر هذا للجزيرة وأشياء الجزيرة وصحبها وزمنها وسلامها سيجري تحققه نتيجة مد البحر الطبيعي في اتجاه الجزيرة، أي، رغم موقع الشاعر المضاد اللاطبيعي لمد البحر، لهذا، يحوله الشاعر إلى مطلب ثوري لن يذهب فقط برايات الحمام، أي، بالسلم ومترادفاته (نصف النهار الآخر المتبقي- النشيد الحماسي- الزمان الحقيقي- ظلنا العالي- سلاحنا الفردي والوحيد لأجل الحرية- يداك المقاتلتان لأجل الحرية أيضًا) بل وسيذهب، أيضًا، بالزمان المستعار، أي، بالحرب ومترادفاتها (مذبحة أيلول 70 جديدة- النشيد المر- رايات الحرب- سلاحهم الجماعي لأجل القمع) وهو، هنا، يحقق من خلال هجمة البحر (( الطبيعية ))، أمنية (( لا طبيعية))، أمنية ثورية، يتأكد فيها موقع الشاعر المضاد الذي لا يتزعزع في اقتحام البحر الحقيقي له عندما يقتحم الجزيرة. ونحن نجد هنا شيئًا مما وجده كلود بريمون في بنية إنجاز المهمة ((الشعرية)) وتطوراتها الممكنة، وهذه التطورات للشاعر هنا موجبة للتطوير الشعري كما سنرى من خلال بنية العناصر التي تتناول البحر من كافة نواحيه (المرجع السابق، 65). ويمكن للبحر أن يتحول إلى مطلب خيالي، كمكان ليس حقيقيّاً، أن يصبح مكانًا خياليّاً، يجرف في خيال الشاعر بؤس الواقع المتمثل بأيلول جديد وخريف قادم ونشيد مر ومنتصف نهار مضى دون رجعه ودون الإحساس بالدفء ورايات حمام منكسة أو جبانة و(( ظلنا )) دون نحن وسلاحنا الفردي دون الآخرين، وكل هذا يدعوه بالزمان المستعار. هنا، يتحول البحر إلى مطلب خيالي، مطلب رومنطيقي، ولكنه ثوري، لأنه سيقتحم عالمًا ينهار دون أن يسقط، إنه بيروت التي (( هيأنا لها القصيدة كلها )) القصيدة التي هي جزء من هذا المكان الخيالي، البحر، والذي لا يتأكد كمكان خيالي إلا بقدر ما تتأكد بيروت كمكان حقيقي قادر على إنتاج الخيال والقصيدة، وبالتالي، البحر. إذن، الزمان المستعار هو على علاقة بمكان (( مستعار )): البحر الخيالي الذي سيضع حدّاً للزمان المستعار عن طريق علاقة ملحمية بين اليدين والبحر: بحر للزمان المستعار- ليديك، سترتبط بالبطل من خلال إشارة الأشياء (العالم المادي)، وانتظار الشاعر (العالم النفسي): كم من موجة سرقت يديك- من الإشارة وانتظاري- وهذه علاقة ثانية ثانوية ترتبط بالأولى وتدعمها، وفي خط العودة، تتدعم بها، وهي جزء من كيفيات ومحصَّلات الفعل المنجز ضد الخصم كما يرى بريمون (المرجع السابق، 65). والبحر الخيالي الذي سيضع حدّاً للزمان المستعار عن طريق علاقة ملحمية بين شكلنا والبحر عندما يقول الشاعر:- ضع شكلنا للبحر. ضع كيس العواصف عند أول صخرة- واحمل فراغك... وانكساري- في محاولة ليس فيها (( تأنيس )) للبحر إذا ما أخذ صورة (( شكلنا )) الإنسانية، ولكن في دفع ما هو ملحمي إلى أقصاه، عن طريق التخيلي ضمن محاولة فيها (( تخييل )) الذات في (( نحن )) أو في (( شكلنا ))، وتجاهل الشاعر لـ(( نحن )) واستعماله لـ((شكل)) نحن، عندما قال (( شكلنا ))، يقترح تركيزه على تجريد الكلمة، لدمجها في عالم البحر الخيالي، ليصبح البحر (( شكلنا ))، ليصبح البحر نحن في صورته التجريدية الخيالية المهولة إلى حد (( القدر )). أما لهجة الأمر في المطلب:- ضع شكلنا للبحر، فهي تقترح ضرورة الفعل الإنساني الكامن وراء الفعل الملحمي، والذي سيظهر، بشكل أوضح، في الأمر/ المطلب التالي:- ضع كيس العواصف عند أول صخرة- وكأن على المقاتل، هنا، أن يعود بالتاريخ إلى أول صخرة، وعلى ظهره كيس العواصف كالإنسان الأول، وإلا ما استطاع أن ينجز الفعل التالي، الحالي، ألا وهو أن يحمل فراغه -في الفراغ نهاية وفي حمله بداية- وانكسار الشاعر. وهكذا، عن طريق الغوص في أعماق التاريخ، يفرغ المقاتل ذاته من امتلاء الإنسانية، ويبدأ مهمته الإنسانية الجديدة: يحمل فراغه ليملأ ذاته من جديد. لكن تجريد الفردي في الجمعي، ولا نقول تشخيص الفردي في الجمعي، هو، هنا، صورة (( غريبة )) للفعل الثوري، وكانكسار له معنى التحدي، فبمجرد أن يحمل المقاتل انكسار الشاعر نتدلل على حركة الفعل الإيجابية في السلبية، التي هي انتقاص ونفي لها من خلالها. وكذلك، فإن تجريد الذاتية في الكلية الاجتماعية، ولا نقول، مرة أخرى تشخيص الذاتية في الكلية الاجتماعية، هو، هنا، محدد ببيروت كمكان للصراع الطبقي الإنساني المصيري. وهذا الأخير محدد بـ(( ظلنا ))، ظل المقاتلين وشعب بيروت الذين يمثلون جبهة المقاومين. ومن الملاحظ أن الشاعر يقول (( بحر لظلنا ))، ولا يقول (( بحر لنا ))، فالمرور بوسيط، الظل هنا، يرفع من مستوى النضال الذي عبر عنه المحاصرون، ويؤكد هذا المستوى (( العالي )) المتمثل في (( مديح الظل ))، وفي الوقت نفسه، يدلل على الهاجس الفني الذي يحول الكلمة إلى (( ظل )) يلطف من الصورة المرسومة. إذن هو وسيط وليس ((حليفًا)) يتدخل كما يرى بريمون لتقاطع عرضيّ وطارئ بين قصتين (المرجع نفسه، 66)، قصة المحاصَرين وقصة المحاصِرين، و((التحسين)) الذي يدعوه بريمون وندعوه نحن التشعير، ليس وليد الصدفة، وإنما ابن الضرورة. ونفس الشيء فيما يخص الأبيات التي تقول:- دع جسمك الدامي يصفق للخريف المر أجراسًا- ستتسع الصحارى- عما قليل... حين ينقض الفضاء على خطاك- أول ما يلفت الانتباه هنا هو الموت الدموي للمقاتل المعلن عن قدوم الخريف، أي الدم المعلن عن خريف آت بالجفاف إذ ستتسع الصحارى بدلاً من أن يسقي الدم الخريف، فتضيق الصحارى. إن الخريف آت بالجفاف، أي، بما يؤكد شدة الحرارة. ولكن في اتساع الصحارى، في حركتها من أمام الحرارة، حركة مخففة للحرارة، ومؤكدة لفعل المستقبل الموحي بعواصف قادمة، فالبيت (( ستتسع الصحارى)) متبوع مباشرة ب(( عما قليل ))، وهذه محطة متحركة للفعل باتجاه المستقبل، للهاجس الشعري في اتجاه التطور (( الصيروري )) للقصيدة، ولإصبع التحذير الذي يرفعه الشاعر كمتنبئ قارئ للقادم. وكل هذا مرتبط بالحركة المأسوية الواقعية المرتبطة، بدورها، بصورة المأساة التجريدية، ألا وهي انقضاض الفضاء على خطى المقاتل، وبإيقاع الانقضاض. أما إذا اختلف الإيقاع، ونحن نعود، هنا، إلى البيت السابق: واستطاع القلب أن يرمي لنافذة تحيته الأخيرة، واستطاع القلب أن يعوي وأن يعد البراري- بالبكاء الحر- فكل هذا لأجل تعدد صور المأسوي، وتعدد هذا المأسوي ذاته بعد إنهاء -وليس إنتهاء- الحصار، والخروج من بيروت الذي كان خروجًا مكرهًا للمقاتلين، وفي الوقت ذاته، الحل الوحيد لعدم الانهيار الحقيقي لهم ولبيروت. ومثلما كان الهاجس الشعري في اتجاه التطور الصيروري للقصيدة هو هنا باتجاه التطور الصيروري للحصار (( كمهمة منجزة على المقلوب ))، كما يقول بريمون (المرجع السابق، 72). هكذا تتنامى الحركة الأولى من القصيدة في جدل العلاقات وتشابك المحاور بين المضمون والمعنى والبطل والشاعر، بين الزمان والمكان، وفي نهج ذاهب دومًا إلى التجريد، وكأنه خروج عن التشخيص الذي تحقق بخروج المقاتلين من بيروت، وانكسار الوحدة ما بينهم وبين شعبها. ولكن هذا الانكسار سيكون وضعًا خاصًا من انكسار الفرد في انكسار الجمع، أي أنه سيُبقي على الوحدة دومًا رغم تعددية الأمكنة (خارج بيروت وداخلها)، فالمصير سيبقى واحدًا، وذلك الانكسار (( الوحدوي )) لن يعني انكسارًا للزمن الملحمي في مديح الظل العالي، بل سيكون حافزه المستمر، في بنية الانكسار أو في بنية الالتحام على حد سواء، وفي الوحدة ما بين الفرد والمجتمع فيهما، أي في بنية الانكسار وفي بنية الالتحام، وما بينهما. كل هذه البنى التي يجدر التمييز بينها داخل تشابك المحاور، كما يقول الألسني جول غريتّي، وذلك بإقامة عدة مستويات للتحليل: مستوى التعدية (الانتقالية أو صفة ما هو انتقالي) التعدية (( الطبيعية )) والوظائف الفاعلية والتعبيرية التي تُمارَس فيها، ومستوى الشاعر المأخوذ بمصادر قصيدته الإعلامية (Communication 8, 96). سنرى المستوى الأول في الفصل القادم من خلال الانتقال من المأسوي إلى التهكمي ووظائفهما وما يوجب ذلك في الفصول الأخرى من تطوير قصيدي وحركي، والمستوى الثاني من خلال بحث الشاعر عن معلوماته الإعلامية من عناصر ((الطبيعة)) التي حوله، وليس بالضرورة من الجرائد والمجلات وباقي وسائل الإعلام: إنها أطراف المأسوي كخبر يسعى صاحب الخبر إلى كتابته، والتماهي، في فصل آخر، بين كاتب الخبر وموضوع الخبر في بيروت كمكان للخبر أو للتراجيديا.
(( أطراف )) المأسوي والصيغة التهكمية يبحث الشاعر عن (( أطراف )) المأسوي ويجمعها في صيغة تهكمية تتعداها، وذلك حين انتقاله الدائم مما هو مأسوي إلى ما هو تهكمي: 1-الآخرون السلبيون، أو، ما يسميهم الشاعر بـ(( الأحياء )) الذين هم بمثابة الأموات لديه عندما يقول:- فرغت من شغفي ومن لهفي على الأحياء- وهو، هنا، يؤكد لينفي شغفه ولهفه عندما يقول(( فرغت )) وكل العبارة تنفي الشغف واللهف طالما أن المقصود بهما (( الأحياء )) لا الأموات، وليس أي أموات يرسل إليهم اللهف والشغف بل العزيزين على قلب الشاعر غير المقصودين، هنا، بالطبع. 2-(( المتضررون )) المباشرون، أو، ما يسميهم الشاعر ب(( ضحاياك )) الذين هم بمثابة الأعداء لديه عندما يقول:- أفرغت انفجاري من ضحاياك- لأن إفراغ الانفجار له منحى التفجر الإيجابي، وهذا ما لا تعطيه الضحايا الذين من المفترض التعاطف معهم إلا إذا كانوا ضحايا حقيقيين لا (( جثثًا )) قذفت بها الحرب، أي من المقاتلين الذين سقطوا في المعارك، وهنا، سيحصل التفجر لغضب من أجلهم، ولكن (( الضحايا )) تقال بلهجة تهكمية، وخاصة عند استعمال الشاعر لكلمة (( إفراغ ))، وإفراغ التفجر حاصل لغضب على هؤلاء ((الضحايا)) المزعومين، أي لغضب عليهم. 3- شعب بيروت، أو، ما يسميه الشاعر بـ(( شارع الزلزال )) المزلزل -مثلما هو مفترض للوهلة الأولى- للأعداء، والذي هو، في آن واحد بمثابة المنهار:- استندت على جدار ساقط في شارع الزلزال- ولكن ما ندعوه بالتهكمي آخذ، هنا، منحى التناقض في الاستعارة لا في الموقف الذي هو موقف الشاعر من خلال استناده على (( الجدار الساقط )) مما ينفي هشاشة الموقف، ويوحي بمناعة الجدار التي تدخل في حالة معارضه مع تساقطه ورغم تساقطه، ويؤكد بالتالي، زلزلة الزلزال للأعداء، ولكن لأقدام المقاتلين أيضًا في صمودهم، أي، أنه يؤكد نوعية الزلزال في سهميها الإيجابي والسلبي. 4- الشاعر والمقاتل، وكل منهما متوقف على الآخر، أو، أن حياة الواحد (صورة الشاعر) متوقفة على ممات الآخر (موت المقاتل) ومصنوع من أجل الآخر:- أجمع صورتي من أجل موتك- وهذه قمة في لهجة التهكم- المأسوي، الذي هو تهكم عن الذات للذات في حضرة الموت، ضده، ومن أجله.
مسألة التطوير القصيدي من خلال شرط الانتصار والشاعر، في حضرة قمة النفس التهكمي- المأسوي، لا يكف عن التعدية والابتعاد في مسألة التطوير القصيدي، وخاصة، من زاويتي التحقق والإندماج، التحقق كذات مقاتلة، والإندماج في ذات الشاعر:- خذ بقاياك، اتخذني ساعدًا في حضرة الأطلال. خذ قاموس ناري- وانتصر- الانتصار/ مطلب من بين مطالب، ولكنه شرطها ولا شرط غيره، وهو، هنا، بمثابة ((إنذار ))، ففعل الأمر (( خذ )) يعني أن يأخذ المقاتل عنوة، وماذا يأخذ؟ أن يأخذ (( بقاياه ))، أي، ما لا يمكن أن يخسره، إلى جانب ما لا يمكن أن يربحه: الشاعر كساعد عليه أن يتخذه في حضرة الأطلال، في حضرة الموت. وأن يؤمر المقاتل باتخاذ الشاعر ساعدًا له يعطي قوة للشاعر وللمقاتل مع الشاعر الذي له قاموس من النار، يعطي قوة للقصيدة، ولكن كل هذا، الشاعر والمقاتل والقصيدة، مشروط دومًا بالانتصار، لهذا، سمينا ذلك (( بالإنذار ))، فدون النصر لن تعني تلك الوحدة الثلاثية شيئًا، يُنْذَرُ المقاتل بالنصر أولاً، ثم يؤمر ثانيًا حين يقول البيت: انتصر! والمطلب/ الأمر/الإنذار/ الشرط الذي هو الانتصار هو الأخير، هو المصير، وعليه أن يكون:- في وردة ترمي عليك من الدموع- ومن رغيف يابس، حار، وعار- أي من وضع بائس، ولكن من وضع حقيقي، ومن الوضع الحقيقي البائس الدامع تنبت الوردة التي يقطف منها النصر، أي يؤخذ بإرادة المقاتل، مثلما يؤخذ النصر أيضًا، بإرادة المقاتل، من الرغيف اليابس. ويمكن أن تكون للانتصار هذا سمة (( الآخر )) لا (( الأخير )) عندما يقول البيت:- وانتصر في آخر التاريخ- أليضع للتاريخ نهاية فيبدأ تاريخًا جديدًا شعريّاً؟ أم ليقاتل طويلاً حتى آخر التاريخ فيعمل على تثويره -في طريق الانتصار- إلى أن ينتصر، ويكون بذلك آخره؟ إن لربط انتصار المقاتل بآخر التاريخ دلالة عميقة من حيث تاريخية الانتصار الفلسطيني- اللبناني- الإنساني، الذي هو بداية لتاريخ الإنسانية الحقيقي. وإذا عدنا إلى لهجة التهكم- المأسوي للشاعر، نجده يريد القول للمقاتل (( عليك أن تقاتل إلى أن تنتصر وإن تم ذلك في آخر التاريخ! )).
الصفة المادية لكتابة الخبر ولا يلبث الشاعر أن ينفي التاريخ (( المعهود ))، ويؤكد، من خلال التاريخ (( المبتكر )) الذي هو تاريخ المقاتل، أن:- لا تاريخ إلا ما يؤرخه رحيلك في انهياري- إنه تاريخ الانهيار لا الانتصار، وهو انهيار الشاعر (انهياري) على الخصوص، أي تاريخ خاص، ولكنه -مع السقوط من قمة المأسوي- الوحيد الحقيقي والعام. ويرتبط هذا التاريخ الوحيد والحقيقي بتأريخ رحيل المقاتل في انهيار الشاعر، وكأن الشاعر يقدم نفسه ذبيحة (انهياره) على مذبح المقاتل (رحيله)، فيعطي للرحيل (كذلك للانهيار) صفة مادية لكتابة الخبر، لكتابة التاريخ، وتكون الكتابة فيه ما يمليه الرحيل في الانهيار. وهذان مصطلحان مكروران في دفاتر الوجوديين والعدميين عن (( الشعراء )) البورجوازيين الصغار العرب يأخذان معنى جديدًا في ملحمة محمود درويش، معنى الإرادة في الرحيل ومن الانهيار، وهذا الشيء، هنا، هو تاريخ (( جديد )) بديل للتاريخ (( القديم ))، بديل للانهيار والرحيل في الاستنتاج الأخير. ولا بد، من دافع الصفقة المادية لكتابة الخبر التي هي صفة لجدل الرؤية ووعي الرؤية وجدل الاستعارة ووعي الاستعارة، بمعنى أنه لا توجد لدى الشاعر صورة أحادية أو موقف أحادي من العالم، لا بد هنا أن تصبح لـ(( انهياري )) المصطلح والصورة، دلالة الانهيار السلبي الحقيقي، انهيار الواقع المتمثل بانهيار بيروت، بيروت هذه التي (( هيأ )) لها الشاعر (( القصيدة كلها )) مثلما يقول (( عجز )) البيت الأول، أي، أنه أشعر، ثم (( قال )) لها (( القصيدة كلها ))، مثلما يقول السطر السادس والعشرون، أي، أنه أنذر! والمقصود، هنا، بالطبع، قصيدة الشاعر السَّابقة للحرب، (( قصيدة بيروت )). والمقصود، هنا، بالطبع، الحكمة، كل الحكمة التي هي (( القصيدة كلها ))، والتي قالها الشاعر لبيروت، ولما تعنيه بيروت من (( أصدقاء وأعداء ))، دون أن يعمل بها أحد:- قلنا لبيروت القصيدة كلها، قلنا لمنتصف النهار- بيروت قلعتنا- بيروت دمعتنا- ومفتاح لهذا البحر. إن بيروت القلعة وبيروت الدمعة، بيروت الأمل العظيم وبيروت اليأس العظيم، هي مفتاح الحل، أو، بالأحرى، الحلول، بصيغة الجمع المعادلة للبحر كخضم من الأمواج. ولو سُمعت الحكمة من فم الشاعر، في ذلك الوقت، يوم أن (( بقي للنهار نصفه ))، لما سقطت بيروت في الظلام.
حركة القصيدة من فعل كان إلى فعل يكون ومع ذلك، يحاول الشاعر أن يمسح (( الدمعة ))، فقد قال أسبابها في قصيدته السابقة، وأن يركز على (( القلعة ))، وعلى أسبابها، ففي الانهيار، يجري البحث عن الفعل- المضاد، لاستيعاب الانهيار سلبًا وإيجابًا. ويجيء في شطر واحد مع بيروت- المفتاح أن المقاتل والشاعر، اللذين هما، هنا، رمز للثورة الفللسطينية في بيروت، هما نقطة التكوين، ولكن بصيغة الماضي:- بيروت قلعتنا- بيروت دمعتنا- ومفتاح لهذا البحر. كنا نقطة التكوين،- كنا وردة السور الطويل وما تبقى من جدار- وكأنَّ الشاعر ينقل حسرة مزدوجة على الذين لم يقدّروا الثورة الفلسطينية حق قدرها، وعلى الذين لم يقدّروا من الثوار الفلسطينيين أنفسهم حق قدرهم، ولكن الافتراض الثاني ضعيف، في هذه اللحظة من حركة القصيدة، المأخوذ إيقاعها بإيقاع المقاتل العالي الظل لا (( الواطي )) الظل الذي فيه نفي للمقاتل، للحقيقي في المقاتل، (( للمقاتلية )). إذن، أن (( نكون )) نقطة التكوين في الماضي، تحت مناهج الفلسفة والبيولوجيا والأنتروبولوجيا وأركيولوجيا المعرفة والاقتصاد والسياسة والنضالية السياسية والعسكرية، فيه من الحسرة على الذين أضاعوا مواقع الثورة الفلسطينية، وفيه من الحمأة على الذين ضيَّعوا مواقع الثورة الفلسطينية، وعملوا على قطعها كوردة نبتت رغمهم على سور القمع الطويل المحاصر للشعوب العربية. وفي حالة التساقط الكلي للعالم العربي، كانت الثورة تمثل بقايا جدار يستند عليه المناضلون. وكل هذا جاء في فعل كان، في حركة مضت في القصيدة بإيقاع حقيقي للمقاتل، إيقاع خطواته أو رصاصته، لتتركه من ورائها في فعل يكون، التعدية دومًا، الانتقال من كان إلى يكون، في حركة حاضرة في القصيدة بإيقاع غير حقيقي للمقاتل، إيقاع ظله أو روحه:- ماذا تبقى منك غير قصيدة الروح المحلق في الدخان قيامة وقيامة بعد- القيامة.- ويأخذ (( غير الحقيقي )) للمقاتل المعنى الظرفي الميتولوجي عندما يقول الشاعر: (( الروح المحلق في الدخان قيامة ))، ولكن لأجل إيماءات حقيقية عندما يقول الشاعر: ((وقيامة بعد القيامة ))، أي العودة من قيامة السماء إلى قيامة الأرض، عودة الروح إلى الجسد، العودة من ((النثار)): خذ نثاري- وانتصر فيما يمزق قلبك العالي- ويجعلك انتشارًا للبذار- قوسًا يلم الأرض من أطرافها.. جرسًا لما ينساه سكان القيامة من معانيك. انتصر- العودة إلى الحياة من جديد، ليلم المقاتل (( أطراف )) المأسوي دون التهكمي، وهذا ما يعنيه أن يصبح جرسًا لما ينساه سكان القيامة من معانيه، أي، جرسًا للذاكرة، ومعلنًا للضد، ضد المأسوي، الذي هو الانتصار، هذا الانتصار المبني- حتى هذه اللحظة من حركة القصيدة ومن حركة الواقع- في صيغة الأمر، لأنه مطلب صعب التحقق أمس أو الآن، وإذا ما تحقق، فعلى حساب صاحبه، الانتصار فيما يمزق قلب المقاتل العالي وما يجعله انتشارًا للبذار، أي، ما يربط الانتصار بالغد، الذي هو خروج عن أمس والآن المتمثلين بالمقاتل وحيدًا إلى تعددية المقاتل، وهذا ما يرمز إليه انتشار البذرة، وإمكانية الانتصار دون تحديد المسافة الزمنية بين الآن والانتصار في حقل المستقبل. والسبب في عدم التحديد، وعدم المجازفة في التحديد، في البيت التالي، واضح، عندما يعي الشاعر:- إن الصليب مجالك الحيوي، مسارك الوحيد من الحصار إلى الحصار- ومع ذلك، يصبح الصليب مجالاً حيويًا للعمل، فلم يبق للمقاتل إلا أن يقاتل حتى ولو منعوا عنه القتال، إنه بديل الموت: البديل إلى الحياة، والبديل إلى الموت في آن واحد، فالمسيح الجديد، الذي هو المقاتل الفلسطيني، لن يكون ضحيةً إلا لنفسه، ولن يدفع ثمن خطايا الآخرين، فإما أن يخسرها، وإما أن يربحها، وفي كلتا الحالتين هو المسؤول. ونحن، هنا، حسبنا حسب تزفيتان تودوروف، نطبق موديل التماثل في التحليل، ونحاول بشتى الطرق رصد الأحداث المتتابعة لأجل الكشف، من خلال العلاقات القائمة، عن بنية العالم الذي يجري تمثيله... ونكتفي بتعاقب مباشر وبسيط (Communication 8, 131).
مسألة التماهي ومسألتا التخارج والتداخل ومن موقع المقاتل المسؤول، يتماهى الشاعر في المقاتل، بعد أن يطلب البحر، من جديد، لأيلول الجديد، وكأنّ البحر وسيط لهذا التماهي، لهذا الذوبان:- بحر لأيلول الجديد، وأنت إيقاع الحديد تدقني سحبًا على الصحراء، فلتمطر- لأسحب هذه الأرض الصغيرة من إساري.- لكن البحر كوسيط للتماهي يبدو، في الوقت ذاته، كنقيض للصحراء التي تبدو كنقيض للتماهي. لهذا، تصبح للمقاتل قدرة الحديد التي تدق الشاعر سحبًا، والتي هي، من خلال التماهي الأصلي، هي هي المقاتل ذاته، عندما يطلب الشاعر إليه، إلى المقاتل، أو إليها، إلى السحب، التي هي هو، عندما يطلب إليه أو إليها أو إلى نفسه أن تمطر على الصحراء، فيسحب تلك الأرض الصغيرة، أو بيروت، أو حيث تكون الثورة، من إساره، وإن بقي هو في إساره، أي، ليحرر بيروت على حساب عدم حريته. ومن موقع المقاتل المسؤول الواعي بإرادة القتال يخرج الشاعر من المقاتل، ويرمي النظر إليه مقاومًا وقادرًا، فيؤكد في لحظة يقين معللة:- لا شيء يكسرنا،- وتنكسر البلاد على أصابعنا كفخار، وينكسر المسدس من تلهفك. انتصر،- هذا الصباح، ووحد الرايات والأمم الحزينة والفصول بكل ما أوتيت من شبق- الحياة،- بطلقة الطلقات- باللاشيء- الشاعر يخرج من المقاتل ليلقي عليه (أو على نفسه) بنظرة مستطلعة من الخارج، ليجد اليقين الذي يذهب منه أحيانًا، ثم لا يلبث أن يدخل في المقاتل، في الثورة وشعب بيروت، ليقرر أن لا شيء (( يكسرنا )). هنا، الوحدة في الالتحام ليست (( التماهي ))، بقدر ما هي التداخل المحدد لكل من أطراف الوحدة دوره الخارج عن (( وحدة )) الأعداء التي (( تنكسر على أصابعنا كفخار))، حتى أن المسدس ينكسر من تلهف صاحبه إلى كسرالأعداء. أداة المقاومة تنكسر من لهفة المقاوم: إنه مقتل الحبيب بحب الحبيب الشديد، كما يقال شعبيّاً! ولكن إذا ارتبط مثل هذا المصير التراجيدي بالانتصار، وغدا له شرطًا، بعد أن كان أمرًا، واقترن بهذا الصباح، لا بصباح آخر، بعد أن سقط الليل على نهار الأمس، فانكسار المسدس سيؤدي إلى التحام الرايات والأمم الحزينة والفصول. هذا هو كنهُ مطلب التوحيد الذي هو نتيجةٌ لانكسار يدفع المقاتل ثمنه بالالتحام بين أصحاب الحق الواحد من الفقراء، بطلقة الطلقات، وبقوة الحياة، يدفع القاتل ثمنه من العدم، ومن لا شيء يحقق الوجود. وهذا هو ما يطلق عليه الشاعر مصطلح (( المعجزة الفلسطينية )) الموحدة، وإن كان في صيغة الأمر ابتعاد بتحقيق المعجزة إلى المستقبل غير المحدد زمنيّاً دومًا:- وحّدنا بمعجزة فلسطينية.
بيروت كمكان للتراجيديا وبسبب المستقبل غير الواضح المعالم رغم وضوح (( المعجزة ))، فالمطلب شيء، وأمر تحققه شيء آخر، بسبب من ذلك المستقبل ذي المسافات اللامحددة، يعود الشاعر إلى لهجته المأسوية- التهكمية، ويعود إلى بيروت، بعد أن يترك المقاتل، أو البطل التراجيدي، إلى بيروت كجزيرة مغلقة؛ أو كمكان للتراجيديا، ويأخذ برسمها على ثلاثة مستويات:- بيروت قصتنا- بيروت غُصَّتنا- وبيروت اختبار الله- أي، المستوى المصيري (قصتنا)، والمستوى النفسي (غصَّتنا)، والمستوى الميتولوجي (اختبار الله)، وفي عملية نقض لهذا الأخير: جربناك جربناك. من أعطاك هذا اللغز؟ من سمَّاك؟- من أعلاك فوق جراحنا ليراك؟ فاظهر مثل عنقاء الرماد من الدمار!- في عملية (( إلحاد )) مبررة علميّاً، لأن الله، أولاً، لن (( يظهر )) كالعنقاء، بعد أن يحرق نفسه مثلما تدَّعي الأسطورة، ومثلما يرمي إليه الشاعر متحديًا، ولأنه، ثانيًا، ليس وراء نفسه إلا كلغز لا كمعادلة رياضية. إنه لغز، واسم غير معروف مطلقه، وبالتالي، إذا كان طرفًا في صراع، أو وراء صراع، مثلما يشاع أن الله المسلم أو المسيحي أو اليهودي هو وراء حرب لبنان، وهذا ما يقصد الشاعر بقوله متهكمًا مرتين: (( جربناك جربناك ))، فهو طرف من (( فوق الجراح ))، أي، ليس سببًا حقيقيّاً لا للجراح كمعلول ولا للصراع كعلة، وهو، في الوقت ذاته، فوق الحقيقي، أمر ميتا- فيزيقي، من مهمة المقاتل أن يراه، ويكشف عن زيفه والزيف فيه.
* * *
هنا تنتهي (( مقدمة )) القصيدة: تبدأ بالبحر، وتنتهي بالله، وبين البحر والله يقدم الشاعر نفسه في المقاتل كبطل تراجيدي آت من الطبيعة (البحر) وذاهب في ضد- الطبيعة (الله)، وفي حركته هذه يتشكل بين الحقيقة والخيال. إنه الفكرة في القصيدة والفعل، ومن خلال دفقة الشعور، يقارب الموضوع الذي لا يمكن تحديده على الطريقة الكلاسيكية. وبطريقة أخرى، نستطيع القول: البطل هو ذاته بطل وموضوع ضمن فعل أو حال أو موقف أو صورة أو انطباع للشاعر الذي هو الوجه الآخر للبطل. كما أن تتابع الأفعال، كما يرى تودوروف، ليس تعسفيًا، لكنه طائع لمنطق ما. ظهور أي مشروع يؤدي إلى ظهور عقبة، الخطر يؤدي إلى المقاومة أو الهرب، إلى آخره. ومن الممكن جدًا أن تكون تصورات الأساس هذه محدودة العدد، وأننا نستطيع تمثل كل حكاية (نحن نقول كل قصيدة) كاشتقاق منها (المرجع السابق، 131).
توليف التبعيد: حالة النوم تتغير نبرة القصيدة بعد المقدمة المباشرة، فمن ذلك التدفق السمفوني الأولي والتنغيم الشمولي لموضوع البطل، يختار الشاعر تنغيمة واحدة هادئة، وحالة واحدة هادئة أيضًا، هي حالة نوم المقاتل، وكأن الشاعر يؤرجح له السرير لينام، وهو يغني:- نم، يا حبيبي، ساعة- لنمر من أحلامك الأولى إلى عطش البحار إلى البحار- نم ساعة، نم يا حبيبي، ساعة- حتى تتوب المجدلية مرة أخرى، ويتضح انتحاري- نم، يا حبيبي، ساعة- حتى يعود الروم، حتى نطرد الحراس عن أسوار قلعتنا، وتنكسر الصواري- نم ساعة، نم يا حبيبي- كي نصفق لاغتصاب نسائنا في شارع الشرف التجاري- إن في التنغيم يكمن التبعيد، ولتكنيك التبعيد في الملحمة البريشتية أثر اليقظة والتفكير، وكذلك في ملحمة مديح الظل العالي، فالقارئ، هنا، ليس بطلاً أرسطوطاليَّ السذاجة! إن عليه أن يكون جزءًا وغريبًا، من الملحمة وعنها، وما التحامه بها إلا التحامًا واعيًا ( ). وإن في التبعيد على أرض القتال لحظة من لحظات وقف إطلاق النار، فالقصيدة ليست هي القتال المستمر، إنها تتشكل من تشكل القتال على أرضه، من حالات المقاتل، ومن تعاقب أفعاله، ومعرفة هذا التعاقب منطقًا للعمل يسمح لنا بألا نبحث عن تبرير آخر في العمل كما نرى نحن وتودوروف (المرجع السابق، 132). وفي التبعيد، أيضًا، تنوير (( للنحن )) (نمر- نطرد-نصفق)، وتناوب (( للفعل )). فمن خلال أحلام المقاتل/الفرد (لنمر من أحلامك الأولى إلى...) تنهض الجماعة بعبء الواجب، ليس الواجب فقط المتمثل بالمواجهة الحاضرة، وإنما الواجب الذي له جذوره البعيدة أيضًا، واجب الحلم الأول، وتحقيق أول رغبة، وإن كانت بعيدة، وإن كانت صعبة، وإن كانت غير حقيقية. إن (( النحن ))، أو، ما يسميه هيغل (( بالكل المعنوي ))، ملتحم بالبطل/الفرد، والبطل/الفرد ملتحم بالكل المعنوي، وما عنصر التكرار الموسيقي والبسيكولوجي لـ:(( نم يا حبيبي ساعة )) إلا لتشعير هذا الالتحام عنصرًا آخر من عناصر القصيدة، من عناصر وحدة النص الإجمالية، وفي نهج تحليلنا الشامل يستمد معناه من وحدة الفعل الجزئية -فالوحدة الإجمالية تحتوي على وحدات جزئية- المتمثلة هنا بنوم البطل الفرد في الوقت الذي تتتابع فيه أفعال الكل، وهذه هي الوحدة الجوهرية الواعية في الواقع، وعلى محك الممارسة، وليس في وعي الشاعر فقط وذهنه. وإذا ما أمعنَّا النظر في تتابع أفعال (( الجماعة )) من خلال فعل الفرد، الذي هو النوم هنا، نجدها تأخذ مظهر الأحلام وكأنها ليست حقيقية. إنها شرط النوم: يقول الشاعر للمقاتل: نم، يا حبيبي، ساعة- لنمر، حتى تتوب، حتى يعود، حتى نطرد، كي نصفق. وطالما أن المقاتل في طريق النوم، إذن، فالأفعال في طريق التحقق، أي أنها، وهذا هو الافتراض الثالث، بين الحقيقة والحلم، أو، هي في طريقها إلى الحقيقة. إنها (( ستكون )). على أي حال، فمثلما يشير الشاعر إليه: هي ساعة للانهيار- هي ساعة لوضوحنا- هي ساعة لغموض ميلاد النهار- هذا الحاضر هو للانهيار وللوضوح، وليس أي وضوح، إنه ((وضوحنا )). في الانهيار وضوح، وفي الوضوح غموض، إنه غموض ميلاد النهار، ميلاد النهار لا النهار الذي هو الغد، أو المستقبل. وفي المستقبل، انطلاقًًا من الحاضر، من لحظة (( راحة )) للمقاتل، ستُحَقَّق الأحلام بما فيها حلم الموت: نم، يا حبيبي، ساعة، حتى نموت- ولكن الشاعر، الذي هو(( النحن )) هنا، لا يحققه الموت مجانًا، من خلال لحظة الانهيار يلتقط الوضوح، ومن خلال الوضوح يقر بغموض مولد النهار، ويترك أمر الوضوح للنهار مفتوحًا، فهو قد كشف عن شرط هذا الوضوح المستقبلي، الذي لا يريد تحديده دومًا، من خلال الذهاب من الحلم الأول إلى (( عطش البحار إلى البحار ))، ولهذا دلالة مزدوجة فيها صعوبة تحقيق الحلم والإرادة العظمى لتحقيقه، وكل هذا مقدم باستعارة للصعوبة، صعوبة المهمة القائمة، وصعوبة الوضع القائم، الوضع (( الصاحي )) الذي يخرج إليه الشاعر من ((النوم)). لقد زالت الحدود بين الحقيقة والحلم، مثلما هو الحال لدى السرياليين، الذين علمهم فرويد أن الحياة نوع من الحلم، بينما عند محمود درويش الحلم نوع من الحياة. أما الشرط الثاني للوضوح المستقبلي، فهو توبة المجدلية (( المذنبة )) مرة أخرى، واتضاح انتحار الشاعر. في اتضاح الانتحار اتضاح للمستقبل، أي، إلغاء للانتحار بالمعنى القاموسي. وكذلك فيما يخص المجدلية، التي تابت (( بخطيئة )) المسيح الأول، تصبح توبتها خطيئة، لتتوب، مرة أخرى، ((بخطيئة)) المسيح الثاني، فتكشف عن (( انتحاره )) الذي يأخذ معنى الحقيقة بعد أن التغى معناه المعجمي في لغته، أو، في لغة أخرى. وفي انقلاب معاني الأفعال تحقيق لها في اللغة، وهو سيترك نفسه مقيدًا بهذا المستوى الكلامي الثنائي، أو، بالتقعيد اللغوي، ما يطلق عليه بـ(( ما وراء اللغة ))، سيترك نفسه رهينة لاواعية أو مرتهنة بوعي مزيف، وعي متعمد -عيب كبير من عيوب التقعيد اللغوي لدى درويش في كل كتاباته- ليجد في جيوش الإسرائيليين المحاصرين لبيروت جيوشًا للرومان، فتصبح بيروت أريحا، وشعب بيروت ومقاتلوها شعب مصعدة ومقاتليها. تنقلب الأدوار في اللغة، ولا يفعل التاريخ إلا أن (( يكرر )) نفسه تحت (( ظرف )) جديد و(( أسوار )) جديدة، ويقف الأمر عند هذا الحد، يبقى عند حد التقعيد اللغوي الذي يقول إن من مهمة المحاصَرين أن يطردوا الحرس الروماني/ الإسرائيلي بعيدًا عن أسوار بيروت، وأن يكسروا له الصواري. أي، أن يغرقوه وعتاده في البحر (وهذا ما لم يحصل)، ودون ذلك، سيبقى المستقبل غير واضح. لهذا، وضوح المستقبل، من خلال شروط الحلم، يبقى متوقفًا على عمق نوم المقاتل. نخرج هنا من التقعيد، وندخل في التعقيد، فلا كلام هنا عن إسرائيل أو جيش إسرائيلي (!)، إذ بينما يمكن، للوهلة الأولى، أن يوحي ذلك (أي النوم) بالتقاعس، والتخلف عن القيام بالواجب، والانهزامية، نجد أن الحلم فيه (أي في النوم) ينضج. والمفارقة هنا أن الحلم الناضج، أو مطلبه، هو نتيجة لشرط العودة إلى الطفولة، فالشاعر يؤرجح المقاتل كطفل يريد له النوم، ويريد له في نومه أن يحلم، وأن يكبر، لتكبر به شروط تحقيق الحلم، أو تحقيق الطفولة، حتى ولو كان ذلك في عالم تعيس. حتى أن ذلك العالم التعيس يصبح شرطًا لتحقيق الحلم، الذي فيه يتضح المستقبل، عندما يقول الشاعر للمقاتل: نم كي نصفق لاغتصاب نسائنا في شارع الشرف التجارى! إنه عالم تعيس، وواقع مر، وشرف مغتصب، أو، ملوث، وعند ذلك، مطلب الموت من النوم يصبح ثوريّاً لأنه ضد- الحياة ((المغتصبة ))، وهو شرط وضوح الذات، لتعرف اغتصابها، لتعرف ذاتها، وفى معرفة الذات وعي لها، وشرط لوعي الواقع.
ربط الحالة العامة بالمكان العام
حاولنا، كما حاول تودوروف (المرجع نفسه، 138-139)، إلى حد الآن، أن نغض النظر عن واقع أننا نتلو قصيدة، أن الموضوع المطروح لا يعود إلى (( الحياة ))، وإنما إلى هذا العالم الخيالي الذي لا نعرفه إلا عبر القصيدة. ولارتياد القسم الثاني من المشكل، سننطلق من تجريد معاكس: سندرس القصيدة بوصفها خطابًا فقط، كلامًا حقيقيًا موجهًا من الشاعر إلى القارئ. سنفصل طرق الخطاب تحت ثلاث حالات: حالة الموت، وزمن التشعير حيث يجري التعبير فيه عن العلاقة بين زمان البطل ومكانه وزمان الخطاب ومكانه. حالة الهجرة، ومظاهر التشعير، أو الطريقة التي يرى فيها الشاعر موضوعه الشعري. حالته وحيدًا، وما يستتبع ذلك من طُرق التشعير التي تتوقف على نمط الخطاب المستعمل من طرف الشاعر ليجعلنا نقف على موضوعه. 1- حالة الموت بعد المقطع التبعيدي السابق ذي التنغيمة الواحدة والإيقاع (( المونوتوني )) يعود الشاعر إلى ما أسميناه بالتنغيم، أي النغمات المتعددة والإيقاع المتعدد، وشرط ذلك خطابيّاً أن يعاد البطل من زمانه الخاص (النوم)، إلى زمانه العام (الموت) ومن مكانه الخاص (السرير) إلى مكانه العام (بيروت). أن تُربط الحالة العامة، من خلال البطل النموذجي، بالمكان العام، بيروت، والذي هو في الخطاب مكان تراجيدي دومًا: أتموت في بيروت- لا تُوْلِم لبيروت الرغيف- عليك أن تجد انتظاري- في أناشيد التلاميذ الصغار، وفى فراري- من حديقتنا الصغيرة في اتجاه البحر- لا تولم لبيروت النبيذ- عليك أن ترمي غباري- عن جبينك. أن تدثرني بما ألفت يداك من الحجارة، أن تموت كما يموت- الميتون، وأن تنام إلى الأبد- وإلى الأبد...- ولكن ربط الحالة العامة، من خلال البطل النموذجي، بالمكان العام الذي هو بيروت كمكان أيضًا نموذجي للملحمة مبني في الخطاب من حيث الاستعارة والمعنى على الفصل بين البطل وبيروت كمكان أو بين البطل وبيروت كشعب، كجماعة. أي أن الوحدة بين الفرد والجماعة هي وحدة في الالتحام والانكسار في آن واحد، بمعنى أن الالتحام (حالة الربط) هو وجه للانكسار (حالة الفصل) في لحظة واحدة، وليس في لحظتين منفصلتين ومتناوبتين، مثلما رأينا في الصفحات السابقة. هنا، عودة بالبطل إلى بيروت حيث سيموت، وكأن بيروت خائنة لبطلها الذي ستتركه إلى الموت. هي عودة بالبطل إلى بيروت كمكان وكشعب يلقى الفرد فيهما وحدته، ولكنه سيلقى موته، وموته سيكون (( فيهما )). إن بيروت موحدة ومفرقة في آن واحد، وفى كلتا الحالتين تبقى نموذجية، لأنها، في الحقيقة، في حقيقة الخطاب، عبارة عن حالة واحدة ذات وجهين، ولأنها، عندما تكون مفرقة لا تترك للفرد فرصة الإحساس بفرديته، وبالتالي، باغترابه، فهي ستتركه إلى الموت، وإن بدت (( خائنة )). فالواقع أنها تفعل بالمقاتل (( خيرًا )) حتى عندما يموت، لأنها تحول دون أزمته، دون اغترابه، وتقف حائلاً بينه وبين إرهاصات البرجوازية الصغيرة، النفسية على الأقل، العدمية، والتى امتلأت به (( القصائد )). ومع ذلك، يغضب الشاعر (سميناه المتكلِّم في مكان آخر) في حضرة القارئ (سميناه المستهدَف في مكان آخر) لموت المقاتل الذي سيموت، ولنلاحظ أنه يقول (( أتموت )) ؟ ولا يقول (( مت )). إنه يشك في الموت الذي سيتحقق في المستقبل، لأن حقيقة أن تكون بيروت (( خائنة )) أمر واقع يعرفه الشاعر، ويحاول أن يتجاهله مؤقتًا، ولولا هذا المؤقت لما كان من القصيدة هذا المقطع. إذن، يغضب الشاعر من بيروت لموت المقاتل القادم، ويطلب إليه آمرًا ألا يولم لبيروت لا الرغيف ولا النبيذ، وكلاهما رمز عهد ووفاء فنيقيين، وفى نقضهما كسر للوحدة ما بين المقاتل وبيروت، كسر للموت في الوحدة، المجتمعية، وخروج إلى وحدة مع الشاعر، مع انتظاره أو فراره في اتجاه البحر، أي، مع وحدة مطلقة. وهى، بشكل من الأشكال، وحدة مع الموت. فالشاعر، في لحظة من الوعي الحاد لحالة الموت، ومن التفاعل بين المتكلِّم والمستهدَف، يختار (( الأرقى )). والأهم من ذلك، إن في اختياره عقابًا ظرفيّاً محددًا لصاحب الحالة (( الأدنى )): بيروت. لهذا، هو يحقق هدفًا معينًا، (( ينتقم )) للمقاتل، أو لنفسه، فيرتاح. واندماج الواحد في الثانى، الشاعر في المقاتل، وفى الموت، واضح في كلمات مثل (( عليك أن ترمي غباري عن جبينك )): غبار الشاعر عن جبين المقاتل، وكأن كليهما جسد واحد ذاهب إلى الموت، وكذلك في كلمات مثل (( عليك أن تدثرني بما ألفت يداك من الحجارة)). ولكن أن يموت المقاتل ويرمي على جسده (أو جسد الشاعر فهما واحد) بيديه ما ألفت من الحجارة ينفي الشرط العام بأن (( يموت كما يموت الميتون، وأن ينام إلى الأبد)). هو موت واحد ككل موت، ومع ذلك، فطريقته مختلفة من اختلاف مادة الخطاب المستمدة من اللغة، إنه موت آخر، موت (( أرقى )). لا نقول موت من (( الأرضي )) إلى المطلق، ولكننا نقول موت إلى المطلق. والمدهش في مثل هذا الموت (( الأرقى )) أنه مطلق في لحظة انطلاقه إلى... الحياة كتجريد لا كحقيقة واقعة، فالحقيقة الواقعة (( لا شىء يطلع من مرايا البحر في هذا الحصار )). وفى الحياة كتجريد على المقاتل أن يطلع من (( مراياها ))، ويحقق وجوده المادي: الجسد في الفكرة والبلد في الجثة وانفجار الشاعر أو ثورته في مكان الانفجار: عليك أن تجد الجسد- في فكرة أخرى، وأن تجد البلد- في جثة أخرى، وأن تجد انفجاري في مكان الانفجار- أينما وليت وجهك:- كل شىء قابل للانفجار- كل شىء قابل للانفجار، حقّاً، أينما نظر المقاتل، ولكن مكان الانفجار هو الأهم. هنا، نعود إلى بيروت كمكان للوحدة بين الفرد والجماعة، وكرمز، بيروت الوطن، بيروت فلسطين. ومهم أيضًا هذا الانفجار بالذات، انفجار الشاعر، الذي فيه ترميم للذات في حالة الموت على حساب تفتت الكلمة، فابتعدت عملية إرسال الخطاب عن عملية تلقيه في الزمان والمكان (مصطلحات تعليم الترجمة، 78).
2- حالة الهجرة بعد حالة الموت، تأتي حالة الهجرة في مظاهرها الشعرية. إذا لم يتمكن المقاتل من الموت، أصبحت الهجرة، كما يدركها الشاعر، البديل دون خيار، فجبرية الخيار من أعراض الحصار، ولها بالتالي مظهران: من إرادة المقاتل، وهذا هو معنى الموت اللاعادي الذي يذهب إليه المقاتل بقراره، أو، من إرادة العدو، وهذا هو معنى الهجرة- الموت العادي الذي يذهب إليه المقاتل دون قراره. لهذا يدرك الشاعر الهجرة الجديدة من بيروت تحت شرط إعادة إنتاجها، قائلاً (( هجرة أخرى ))، صورة للهجرة القديمة من فلسطين، أي أنها استمرار لموت عادي بقرار خارجي يطلب الشاعر ألا يذهب المقاتل فيها- على الأقل- حتى نهايتها، عندما يطلب إليه أن (( لا يذهب تمامًا )) لأن لذهابه في الخط المعارض بقية يطلب إليه ألا ينهيها: فلا تذهب تمامًا- فيما تفتح من ربيع الأرض، فيما فجر الطيران فينا- من ينابيع ولا تذهب تماما- في شظايانا لتبحث عن نبي فيك ناما- هي هجرة أخرى إلى ما لست أعرف- ألف سهم شد خاصرتي ليدفعني أماما. كيفية إدراك الهجرة تمضي هنا وكيفية تلقيها كقول من أقوال الخطاب، وفى الاندفاع إلى الأمام مظهر آخر لإلغاء الهجرة التي لاستعارتها حركة الاندفاع إلى الوراء. وما يزيد من إصرار الشاعر على الغاء الهجرة، هذا الإصرار المتمثل بصورة (( ألف سهم شد خاصرته ليدفعه أمامًا ))، ما يزيد من الإصرار على إلغاء الهجرة كحالة قديمة- جديدة- جبرية، كقدر مسلط على الرقاب، عبارة (( لا تذهب تمامًا )) التي يرددها الشاعر أكثر من مرة، وهذا على مستوى لغة الخطاب. وتوازيات المأسوي الأساسي: تفجير الطيران فينا- شظايانا- هجرة أخرى- ألف سهم شد خاصرتى- وهذا على مستوى المعنى. ثم، العلاقة بين لغة الخطاب ومعنى الخطاب من خلال مفارقات مقصودة: أن لا يذهب المقاتل تمامًا فيما تفتح من ربيع الأرض، بينما عليه أن يذهب في ربيع الأرض تمامًا، بغض النظر، مؤقتًا، عن الحكمة الكامنة في قول الشاعر. وكذلك، عندما يطلب إلى المقاتل أن لا يذهب تمامًا فيما فجر الطيران فينا، وهذا مطلب عزيز لا يلبث أن يلغيه، عندما يقول فيما فجر الطيران فينا من ينابيع. وتحت الإلغاء إثبات، إذ أن الينابيع صورة للحياة، وإن كان المقصود فيها ينابيع دم جسد المقاتل وشعب بيروت. والمقصود، من ناحية أخرى، أن قنابل الطائرات الإسرائيلية لا تزرع الموت بل تفجر الحياة المتمثلة بالينابيع، أو، على الأقل، تزرع الموت وتفجر الحياة في آن واحد، والهدف الشعري دومًا هو الصمود والتصدي، بينما الهدف الخطابي هو التفاعل بين المتكلِّم والمستهدَف، بين الشاعر والقارئ. وهناك مفارقة كامنة في النبي الكامن في المقاتل الكامن في (( شظايانا )) الكامنة فينا، النبي نام أو مات، ولكن الذهاب إليه (( ليس تمامًا )) مطلب للبحث تحتمه الضرورة مهما كانت نتيجتها: موت النبي أو نومه. كل المفارقات السابقة- من خلال علاقة المأسوي بنقيضه المأسوي- للتخفيف من حدة الهجرة، ولتبرير مطلب (( عدم الذهاب تمامًا ))، فليست هناك علاقة دائمة بالحالة، وليست هناك علاقة بالحالة إلا من خلال نقيضة- الحالة. وتأتي إشارة الشاعر إلى أنها (( هجرة أخرى إلى ما ليس يعرف ))، في النهاية، ليعقلن وجهة السفر غير المحددة من حالة الثبات، حالة الانشداد في الأرض قبل الاندفاع إلى الأمام، وذلك بقوله: (( ألف سهم شد خاصرتي ليدفعني أمامًا ))، إلى وجهة غير محددة أيضًا، ولكنها ليست وجهة سفر قديم/ جديد. إنها قوة كبيرة (ألف سهم)، تشد خاصرته، وتندفع به. إنها هو، وقد صار للسهم معنى الذات. ومصطلح السهام (( البدائي )) هو نقيض الطيارات والمدافع والقنابل المصطلح (( المعاصر )). ومن البدائية، من الفطرة، والعفوية، تبدأ رحلة المقاتل للاكتشاف، وهذه لحظة مغامرة أكثر منها لحظة هجرة، مظهر للهجرة وقد غدت مغامرة. وهى مغامرة حقيقية في زمنها، خيالية في صورتها. لنستمع إلى ما يقوله الشاعر: الآنَ بحر، الآنَ بحر كله بحر، ومن لا بر له، لا بحر له. والبحر صورتنا فلا تذهب تماما. كلمة (( الآنَ )) مرتين، في بداية الأبيات السابقة، تحدد الحاضر زمنًا للمغامرة التي هي البحر، وفى القول (( بحر كله بحر )) تهويل حقيقي لأمر واقع: المغامرة. لهذا السبب، سبب التهويل، والخطورة، وانسداد كل الطرق، وتفاقم عزلة الجزيرة التي هي بيروت، تصبح للمغامرة المتجسدة في البحر صورة خيالية، غير حقيقية، تصبح صورة للزمن ورمزًا للنفس الإنسانية، ويأخذ الزمان والمكان، الحاضر والبحر، وحدة الملحمة في طرفيها البنيويين الأساسيين اللذين هما الحقيقة والخيال. ولكن الحقيقة التي هي البحر العادي الذي من ملح وماء ليست هي الظاهرة في صورة المغامرة، حيث الصورة تبتلع كل شىء (( لتصبح )) العالم، أو، (( لترعب )) العالم. ومن هذه الزاوية فقط، يغدو البحر صورة للفلسطيني الذي لا بر له، وبالتالي لا بحر له. إن المغامرة التي هي البحر صورة للفلسطيني -بعد أن فقد أرضه-. ليس هو المغامر التي يركب غمار المغامرة، وليس هو جزءًا منها، وليس هو صورة لها، هي صورة له، وهذا (( تقدير )) للفلسطيني حتى في عز غربته! ولأن غربته ليس مثلها غربة، والبحر أعظم غربة، يصبح البحر صورة له. أي أنه أعظم من البحر، أو كالبحر عظيمًا. لكن ذلك يبقى في مستوى الصورة، في مستوى الخيال، في مستوى الغائب، في مستوى المجهول. وفي السياق الخطابي ذاته، ولكن تحت مظهر حقيقي للمغامرة كمرادف للهجرة، هناك افتراض أن البحر مرادف للحرب، للدم، وللدمار، وهذه صفات حقيقية للبحر، مغامرة حقيقية. وبما أن البحر صورة للفلسطيني لا البحر نفسه، فلا الحرب حربه، ولا الدم دمه، ولا الدمار دماره. هنا، تعود المسألة الجبرية، والكلام القائل بأن الفلسطيني أرغم على الدخول في حرب بعيدة عن تحرير بلاده، فهدر دمه، وهدم كشمشون المعبد على نفسه وصحبه وأعدائه! ولكنه افتراض لا يصبح ممكنًا إلا بقدر تحقيق صورة البحر، وفى تحقيقها مفارقة ونقض -مثلما سبق ورأينا- تؤيد شرعية النضال الفلسطيني في أي مكان موضوعي لاسترداد فلسطين. ونتيجة لذلك، ينهي الشاعر مقطعه، الخاص بحالة الهجرة، بهذه الكلمات المفارقة والناقضة: لا شىء يكسرنا- ومن أدمى جبين الله، يا ابن الله، سماه، وأنزله كتابًا أو غماما- أي، رغم كل ذلك الانكسار لا شىء يكسر الفلسطيني، بل، إنه يدمي جبين الله، وهو ابنه! يخرج من الصورة، وقد صار البحر هو الله، ويصبح هو اسمه، يصبح قرآنًا أو مطرًا قادمًا وقائدًا مفترضًا للبحر في ذهابه إلى بره فلسطين. 3- حالته وحيدًا وتلح على الشاعر حالة المقاتل في الموت، حالة هي بالأحرى طريقة من طرق كتابته للقصيدة، فوصف الحالة من كنه الطريقة في الخطاب، وبالتالي من نوع الخطاب الذي عن طريقه يرينا، لنعرف، ما يراه، فيرى المقاتل جد وحيد: كم كنت وحدك، يا ابن أمى- يا ابن أكثر من أب- كم كنت وحدك- ويحاول أن يصل إلى تحديد واقع حالته، واقع وجوده، وسبب هذا الوجود الذي هو وجود الشعور بالوحدة القصوى، وهو يجده حين يقول (( يا ابن أكثر من أب ))، وفى قوله إعلان عن أنه دعي وابن زنا ونغل وهجين وغير شرعي وهذا من واقع حالته وحيدًا، وإن كان نتيجة لا سببًا. فالسبب كامن في المسبب المتمثل بـ (( آبائه ))، والذين هم (( معروفون )) -لا كما يوحي النص للوهلة الأولى، بأنه ابن أكثر من أب، إذن، فهو غير معروف الأب- على الأقل، الشاعر (( يعرف )) من هم آباؤه. لهذا، يعرض لنا أنه ابن أكثر من أب، فهو، بالتالي، ابن غير شرعى/ معروف الآباء، وأمه لا بد أن تكون واحدة، ولكن المهم أيضًا أم الشاعر الشرعي/ غير معروف الأب(!). لا يصل الشاعر إلى جوهره إلا من خلال المعروف/ اللاشرعي، من خلال الأخ -وتحت شرط وحدته القصوى- الذي عقدة أوديب لديه باتجاه الأب، لينتقم لنفسه، لأمه، وللشاعر، ليهدم المجتمع البطريركي المتمثل بالحاكم العربي- فالعرض الدرويشى هنا يأخذ نهج التعبيريين الذين يرون في الأب رمزًا للسلطة وفى الابن رمزًا للثورة. وهذه طريقة من طرق عرض الأشياء في الخطاب علينا، وليعيد بطريقة ثانية تركيب الأسطورة في صيغتها الدرامية الحقيقية حيث عزلة المقاتل تبلغ أقصاها في النفس وفى الطبيعة: كم كنت وحدك- القمح مُر في حقول الآخرين- والماء مالح- والغيم فولاذ. وهذا النجم جارح- وكذلك في الكود وفي التجلي. وكما يقول غريماس: ((تسمح لنا جهودنا في تحديد الشروط التي يكون فيها قاموس ميتولوجي ممكنًا ومثمرًا أن نفهم بشكل أفضل ما يجب فهمه، فيما يرمي إليه ليفي-ستراوس بخصوص كود، وخاصة كود غذائي. الكود بنية شكلية (1) مكونة من عدد صغير من المراتب السيميائية (2) والتي يحتمل تأويل تركيبها تحت شكل الدلالات لمجموع المضامين المستثمرة جزءًا من البعد الذي اختير من العالم الميتولوجي)) (المرجع نفسه، 35). أسطورة عزلة المقاتل هنا شرط لكود مثل الماء مالح والغيم فولاذ والنجم كالنصل أو كالمخلب جارح، وفي الوقت نفسه هي شرط لمضمون عزلة ثانية، عزلة (( للآخرين ))، على الأقل، (( للمحايدين))، أو، المتعاطفين العاجزين. ولكن التفريق في حالة الشعور بالوحدة القصوى تلك غير مطروح، إنها عزلة المقاتل هو، في (( طبيعته )) هو: قمحه هو المر، وماؤه هو المالح، وغيمه هو الفولاذ، ونجمه أو طالعه هو الجارح والمشؤوم، وكل هذه كودات يتم تأويلها حسب شكل الدلالات، وهي طريقة في التمثيل والتشعير. ومهما اشتد لدى المقاتل الشعور بالوحدة عليه أن يحيا: وعليك أن تحيا وأن تحيا- وأن تعطى مقابل حبة الزيتون جلدك- كم كنت وحدك- عليه أن يحيا مرتين، وفى المرة الثالثة، أن يعطى حياته مقابل حبة زيتون، وحتى هنا الموت يأتي لأجل العيش. وهي طريقة في كتابة الخطاب وكتابة الموضوع. إذن: لا شىء يكسرنا، فلا تغرق تماما- فيما تبقى من دم فينا- الآن يعود الالتحام بين الشاعر والمقاتل وشعب بيروت بإرادة عدم الكسر في الانكسار، في الوحدة كعزلة وفى الوحدة كاتحاد. وهي طريقة في إدراك الخطاب وإدراك الموضوع. ومطلب عدم الغرق (( تمامًا )) في (( دمنا )) الباقى يأتي لأن (( لا شىء يكسرنا ))، أي، في الموت نلتحم، ولكننا نلتحم إذا ما لم تغرق أنت ((تمامًا)). إن التحامنا متوقف على بقائك الباقي في بقايانا. وهنا، ينتقل المقاتل- تحت شرط حالته وحيدًا- إلى حالته محركًا، فدراما الخطاب تعرف التشعير، التشعير اللاحواري، والتمثيل: لنذهب داخل الروح المحاصر بالتشابه والدمى- يا ابن الهواء الصلب، يا ابن اللفظة الأولى على الجزر القديمة، يا ابن سيدة- البحيرات البعيدة، يا ابن من يحمي القدامى- من خطيئتهم، ويطبع فوق وجه الصخر برقًا أو حماما- فالطريقة اللاحوارية هي في نهاية المطاف حوارية لأن الشاعر يتحاور مع المقاتل دون أن يكون ذلك حوارًا بالفعل، والمقاتل يقوم بالدور الذي يريده الشاعر منه، وكأنه يجيب بفعل أو رد فعل أو حالة، وحالته محرَّكًا (ومحرِّكًا) هنا كامنة في فعل التحريض (( لنذهب ))، وكامنة أيضًا في الانتقال إلى عالم الروح، الذي هو- في لحظة الحصار- العالم البديل الوحيد لعالم التشابه والدمى. ولوج عالم الروح، في ملحمة مديح الظل العالي، ولوج خاص لعالم خاص، ليس عالمًا من الميتافيزيقيا (( المرعبة )) أو (( الأخاذة ))، ولكنه عالم ينفى حالة (حالته وحيدًا) ويبحث عن حالة (حالته كليّاً)، ليجد أنه قوي وإن كان هشّاً أو (( شفافًا )): (( يا ابن الهواء الصلب ))، وأنه عميق وإن كان طلسمًا أو قديمًا: (( يا ابن اللفظة الأولى على الجزر القديمة ))، وأنه، إنساني وإن كان ابنًا للطبيعة العريقة: (( يا ابن سيدة- البحيرات البعيدة ))، وإنه، قبل كل شىء، غير نغل أو هجين، بل هذا هو أصله، ومن أين أتى، وهو شرعي. إنه بشرعيته، هذه الشرعية التي تأخذ معنى الشرعية الإنسانية، منذ أول لفظة، وأول علاقة اجتماعية، بشرعيته هذه يقوم (( بحماية )) الآخر من خطيئته، أي، يرد عليه ذاته. ولكنه الآخر (( القديم، القدامى)) الموجود في عالم الروح، وتلك هي (( الخطيئة الأصلية )). إنها مهمة قادمة (( للجدد )) ذوي الخطيئة الجديدة ((الذين سيصبحون في الغد قدامى )). فالبرق والحمام اللذان يطبعهما المقاتل فوق وجه الصخرة، أي، في عالم (( الحجر )) المقابل لعالم (( الروح ))، هما دالان حدسيان وممهدان لحالة قادمة ستتميز بقدرة البرق أو بقدرة الحمام، وفى كلتيهما إعلان لقدرة المقاتل على إقرار السلام أو إقرار الشدة. وتتغير طريقة الخطاب بتغير وقائع المقاتل- ضمن شرط وحدته دومًا- من واقعه محرِّكًا إلى واقعه محرَّكًا عندما يدلل الشاعر على ذلك بقوله: لحمي على الحيطان لحمك، يا ابن امى- جسد لإضراب الظلال- وعليك أن تمشي بلا طرق- وراءً أو أمامًا أو جنوبًا أو شمالا- وتحرك الخطوات بالميزان- حين يشاء من وهبوك قيدك – ليزينوك ويأخذوك إلى المعارض كي يرى الزوار مجدك- كم كنت وحدك- صحيح أن رد فعل الشاعر الذي لحمه من لحم المقاتل والذى هو ابن أمه الواحدة يرفض حالة المقاتل/(( البيدق )) التي ترسمها الأبيات السابقة، ولكنه يعلو إلى مستوى أكثر تجسيدًا مما رأينا تحت مفهومي الخطاب والتاريخ، التجسيد (تجسيد الرفض، وتجسيد الشاعر للمقاتل) لإضراب الظلال، أي، في حالة التشيؤ، وإن بدت مؤقتة، تنتهى بانتهاء الإضراب والعودة بالظلال إلى الجسد إلى حركة الجسد. وهذه هي اللحظة القادمة! وبين اللاحق والسابق يقوم الحاضر: أن يمشى المقاتل بلا طرق، وأن يحرك الخطوات بالميزان! إنها حركة البيدق. ولكنها حركة تحوّل (( في )) حالته محرَّكا باتجاه حالته وسيطًا، فهو مستعمل من طرف قامعيه كمادة (( مجد )) تعرض (( للزوار ))، وعندما يقول الشاعر (( مجدك )) يعني، في الوقت ذاته، (( مجدهم ))، أي مجد قامعيه الذي ليس في حقيقته مجدًا، وفى الصيغة عملية تشهير: كسروك، كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشًا- وتقاسموك وأنكروك وخبأوك وأنشأوا ليديك جيشًا- حطوك في حجر... وقالوا: لا تسلّم- ورموك في بئر... وقالوا: لا تسلّم- وهنا طريقة في وصف واقع المقاتل كوسيط، وفى الوقت ذاته، طريقة في وصف واقع القاتل كمنتفع، من خلال التجسيد دومًا. وأمام مطلب الاستسلام وحالة الحصار يذهب المقاتل في ضد- المطلب وضد- الحالة، وذلك بإطالة الحرب: وأطلت حربك، يا ابن أمى- ألف عام ألف عام ألف عام من النهار- فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفرار- هو يرفض حالة، ويفضح حالة: يرفض استسلامه، ويفضح استسلامهم، ويتخذ موقفًا ليس من حالته وسيطًا عندما يقول النص: سقط السقوط وأنت تعلو- فكرةً- ويدًا- و... شامًا!- ولكن من واقعه وحيدًا، أي، من شرط (( الوساطة )). فلا بد، والأمر كذلك، أن ينكره قامعوه، وهو(( المعرفة )) لهم داخل القيد، وهم المعرفة له خارج القيد، إذ لا بر إلا ساعداك- لا بحر إلا الغامض الكحليّ فيك- لقد صاروا هم (( الوسيط )) في حالة الفضح الدائرة، ليجد المقاتل طريقه إلى الأشياء، وهم الذين فرضوا عليه (( أن يمشى بلا طرق )): فتقمص الأشياء كي تتقمص الأشياء خطوتك الحراما - هكذا يعطي المقاتل صفة (( الحرام ))، صفة اللا شرعي للعالم، لأنها الصفة الوحيدة الشرعية والحلال، بما أنها تنتسب إلى لحظة إعادة الظلال للجسد أو كسرها كما تمليه على المقاتل ضرورة القتال، وفى هذا المعنى النص التالي واضح: واسحب ظلالك عن بلاط الحاكم العربي حتى لا يعلقها وساما- واكسر ظلالك كلها كيلا يمددها بساطًا أو ظلاما- وعند عودة الظلال إلى الجسد، عودة شكل الذات إلى الذات، يعود الأعداء إلى (( سرقة )) هذا الشكل وقد صار (( لحمًا ))، أي، بمعنى، أن الأعداء لا يملّون من محاولات تركيع المقاتل، فيحذره الشاعر: هم يسرقون الآن جلدك- فاحذر ملامحهم: وغمدك- وينتهي المقطع، قبل عودته إلى واقع المقاتل وحيدًا، أي، إلى عزلته التي انطلق منها، ينتهى المقطع بهذه الكلمات، التي سبق وقالها الشاعر، ولكن بصدى آخر لما يعرض يرمي إلى طريقة أخرى في عملية التشعير الخطابي ألا وهي تغير المواقع تبعًا للوقائع: كم كنت وحدك، يا ابن امى- يا ابن أكثر من أب- كم كنت وحدك- إن في هذا إدانة وشرف الإدانة، وفى هذا أيضًا تكريسًا لواقع الضد، ضد الحياة وحيدًا، فتتغير المواقع، لكن استمرار العزلة الشرطي يبقى قائمًا: والآن، والأشياء سيدة، وهذا الصمت عال كالذبابة- هل ندرك المجهول فينا؟ هل نغني مثلما كنا نغني؟- ومن المفترض، في تغير المواقع، إدراك للذات وعودة إلى الذات الحرة في الطبيعة الحرة مثلما يوحي إليه مصطلح الغناء، ولكن الشاعر يقدم ذلك بصيغة استفهام، فيشكك ليس في إدراك الذات وإنما في إدراك (( المجهول)) فيها، وكأنه يريد القول نحن موجودون كذات، كمقاتلين، كمحاصرين، كشعب فلسطين، ونحن ندرك ذلك، ولكننا لا ندرك ماذا نريد (المجهول فينا). وكذلك، بالإمكان تفسير السؤال ((هل نغني مثلما كنا نغني))؟ سلبيّاً من خلال عدم وضوح الطرق إلى تحقيق الأهداف، حيث برامج المقاومة ستتعدد دون مضمون واقعي حقيقي، وكل فصيل سيغني على ليلاه! ونعتقد أن الاستنتاج الأخير، في تلك اللحظة السياقية المحددة من القصيدة، والتاريخية المحددة بحصار بيروت، هو الأقرب إلى هدف الشاعر، فهو يواصل القول، وقد غلبت على لهجته المرارة: سقطت قلاع قبل هذا اليوم، لكن الهواء الآن حامض- إنه يشير إلى سقوط (( قلاع )) بالأمس واليوم، ومع ذلك، لا تهمه إلا اللحظة الحاضرة والحامضة، والتى تصمت عن الإدانة -ولو مؤقتًا- لمواجهة ((الصمت)) العالي كالذبابة، وحده الحقيقي والقارس حين الشعور بالوحدة الشامل ضمن حال الدفاع عن الذات، وعن الآخر: وحدي أدافع عن جدار ليس لي- وحدي أدافع عن هواء ليس لي- وحدي على سطح المدينة واقف- أيوب مات وماتت العنقاء، وانصرف الصحابة- وحدي. أرادوا نفسي الثكلى فتأبى أن تساعدنى على نفسي- ووحدي- كنت وحدي- عندما قاومت وحدي- وحدة الروح الأخيرة. إنها حالة دفاع عن الذات وعن الآخر، وقد صارت كل القضايا واحدة، وليست حالة دفاع عن قضية أخرى غريبة وجد المقاتل نفسه مضطرًا إلى القتال من أجلها. وفى هذا معنى الجمل (( وحدي أدافع عن جدار ليس لي- وحدي أدافع عن هواء ليس لي- وحدي على سطح المدينة واقف ))، وفيها أيضًا، ما نسميه بالشعور بذنب الآخر لا الشعور بالذنب، وهذا الشعور بذنب الآخر متمثل بموت أيوب والعنقاء وانصراف الصحابة حيث في هذا يكمن ذنبهم الذي يحمله المقاتل كوصمة عار يبحث عن محوها ببندقيته. لقد خانه الجميع الذين هم بمثابة النفس لديه، فخانت نفسه الثكلى نفسه الضعيفة، وفى كلتا الحالتين الأحلى هو مر! لهذا، يقاوم المقاتل الموت، المتمثل في وحدة الروح الأخيرة، وحده، وحيدًا. أي، أنه، في حالة الموت، هو في حالة مقاومة للفناء، للعدم. ومن تلك الحالة التركيبية خارج الخطاب، يتطرق الشاعر إلى الحالة التشكيلية داخل الخطاب، فتكون له طريقة تركيبية في التشعير عندما يطلب إلى المقاتل قائلاً: لا تذكر الموتى فقد ماتوا فرادى أو: عواصم- وفى هذا تشعير لوضعين، الأول أن الموتى ماتوا ولا فائدة من ذكرهم في اللحظة الحرجة، والثاني أن الموتى بإمكانهم أن يموتوا فرادى أو يموتوا جماعات ((المجاز المتمثل في عواصم )) في اللحظة التي يقعدون فيها عن القتال مع المقاوم في بيروت، فلا يحمل ذنبهم، أي، لا يموت. والشاعر هنا في موقف من يعرف ولا يعرف، طريقة ثالثة من تركيبية الخطاب، في موقف اللحظة الحرجة، فهو يعرف أنه سيموت، وإن كان سيجري ذلك غدًا: سأراك في قلبي غدًا، سأراك في قلبي- وأجهش يا ابن أمي باللغة- ولماذا في قلبه؟ ليطلقه دفقة شعرية، أي، ليعيده إلى الحياة من جديد. وهو هنا، يتخذ موقفًا لا من مضمون القصيدة الذي هو المقاتل بل من شكلها المتمثل باللغة التي سيبكيها -سيبكي عليها- الشاعر، طريقة تركيبية رابعة للخطاب: لغة تفتش عن بنيها- عن أراضيها وراويها- تموت ككل من فيها، وتُرمى في المعاجم، هي لغة ميتة لميتين (القارئ/المتلقي/المستهدَف)، ويبتعد الشاعر أكثر في هجومه على اللغة الميتة عندما يقول عنها هي: آخر النخل الهزيل وساعة الصحراء- آخر ما يدل على البقايا- كانوا، ولكن كنت وحدك. هذه طريقة في الخطاب يرتبط فيها التشعير بمسائل الساعة الخاصة بالقصيدة الحديثة، و (( الخروج )) الضروري عن الموضوع، فهي فرصة سنحت يجدر استغلالها وجعلها عنصرًا من عناصر السياق الثقافي لكل مسألة الحداثة: الاستعارة التي تشبّه اللغة الميتة بآخر النخل الهزيل واضحة في دلالتها المشيرة إلى القصيدة العمودية المعاصرة، وكذلك الاستعارة التي تشبّه اللغة الميتة بساعة الصحراء، أي، بالزمن البدائي والبدوي أيضًا واضحة في دلالتها المشيرة إلى وضع قديم صار في زمن كان، ووضع قديم لقصيدة قديمة ذات موضوع قديم، مقابل وضع جديد يصير في زمن يكون، ووضع جديد لقصيدة جديدة ذات موضوع جديد. وطريقة التحيين هذه ترتبط بطريقة التوليف: إنه وضع المقاتل وحيدًا في حصار بيروت الواقع عند نهاية القرن العشرين، لقصيدة هذا المحمود الدرويش الذي ليس هوميروس أو امرأ القيس، والذي موضوع قصيدته هو المقاتل المعاصر في انتمائه الأقصى إليها: كم كنت وحدك تنتمى لقصيدتى، وتمد زندك، كي تحولها سلالم، أو، بلادا- أو خواتم- وفى انتماء المقاتل الأقصى إلى القصيدة تتشكل القصيدة لا كمنشور سياسي، بل كحلم سياسي، أو، كوسيلة حلم إلى السياسة. إنه بفعله السياسى (مواجهة الحصار)، يمد زنده إلى القصيدة (مواجهة الحلم)، ويحولها إلى سلالم، وعلى السلالم صعود إلى المطلق، أو، يحولها إلى بلاد، وإلى البلاد هبوط نحو المنطلق، نحو الأرض، نحو الواقع، أو، هو يحولها إلى خواتم، أي، بين المطلق والمنطلق، بين الحلم والواقع، والبريق في الذهب يرجح كفة الحلم. ومع ذلك، تصدمه شدة الواقع من جديد وشدة الصمت اللتان يشبههما كانطلاق السهام، فيعيد السؤال الجوهرى: والآن، والأشياء سيدة، وهذا الصمت يأتينا سهاما- هل ندرك المجهول فينا؟ هل نغني مثلما كنا نغني؟- آه، يا دمنا الفضيحة، هل ستأتيهم غماما؟- والغائية الشكلية هنا من طريقتي التحيين في الخطاب والتوليف الوصول بإشاراتها ودلالاتها إلى غائية مضمونية: أنه لا يوجد نقد ذاتي بقدر ما يوجد نقد وفضح للآخرين يدفع المقاتل ثمنه من دمه الذي سيتحول في المستقبل إلى غمام، فمطر يغسلهم جميعًا.
وقفنا، في الأبيات السابقة من خطاب القصيدة، على طرق فضح القامع، والآن نقف على طرق فضح المقموع: هذه أمم تمر وتطبخ الأزهار في دمنا- وتزداد انقساما- هذه أمم تفتش عن إجازتها من الجمل المزخرف...- أولا) طريقة التنديد: هي هذه الأمم العربية، (( فالجمل المزخرف )) الذي تأتمر هذه الأمم بأمره هو الحاكم العربى، ولكنها أمم ستندثر -معنى القول ((تمر))- وحضارتها تقوم على دم الفلسطيني -معنى القول (( تطبخ الأزهار في دمنا ))- هي حضارة المقموع التي (( ستمر ))، وكأنها لم تكن. وإن كانت، فهي حضارة على هامش التاريخ، حضارة ليست تاريخية، وفى موقع آخر من القصيدة، وقفنا على حضارة القامع، حضارة القيد، والتي هي أيضًا واقفة على هامش التاريخ، حضارة ليست تاريخية. ثانيًا) طريقة الكشف: إنها حضارة الصحراء بالمعنى الحسي والمعنى المجازي: هذه الصحراء تكبر من حولنا صحراء كل الجهات صحراء تأتينا لتلتهم القصيدة والحساما- إنها حضارة الموت موت الثقافة (القصيدة)، وموت أداة البقاء (الحسام). والكشف هذا، على المقاتل أن يبرز حضارته بالاختفاء فيها، وإن لم يستطع الموت عند ميلادها. هل نختفي فيما يفسرنا ويشبهنا: وهل نستطيع الموت في ميلادنا الكحلي- فإن عجز عن تحقيق الفعل الأول ثم الفعل الثاني سيواجَه بفعل ثالث أو سيواجِه فعلاً ثالثًا. أم نحتل مئذنة ونعلن في القبائل أن يثرب أجّرت قرآنها ليهود خيبر؟- وفى احتلال المئذنة احتلال لحضارة الصحراء، ونقلها من هامش التاريخ إلى التاريخ، أي ممارسة الفعل في بنيتها، وتحويلها إلى حضارة فعلاً حضارية. ثالثًا) طريقة التعزيز: ومن ناحية أخرى يعزز الشاعر لفظ احتلال المئذنة، ليعزز، بالتالي لفظ أن المقاتل لن يستطع الموت، وليعزز، مرة ثالثة لفظ ميلاد حضارته. إنه ينفي الموت، ويعلن عن قرآن، عن منشور جديد، بعد أن أجّرت يثرب (الأنظمة العربية) قرآنها ليهود خيبر(إسرائيل) والقرآن الجديد يقوله الشاعر محمود درويش وليس الملاك جبرائيل باسم الفدائي العادي الإنسان، وليس باسم قوة ميتافيزيقة أيًا كانت: الله أكبر- هذه آياتنا فاقرأ- فاقرأ باسم الفدائي الذي خلق- من جزمة أفق- باسم الفدائي الذي يرحل من وقتكم لندائه الأول- الأول الأول- سندمر الهيكل- وسيصير للفدائي هنا من داخل فعله فقط مظهر اللاعادي عندما يخلق الأفق من جزمته، وسيصير للفدائي دومًا من داخل فعله فقط مظهر اللإنساني، عندما ((يرحل من وقتهم)) مغادرًا الزمان إلى ندائه الأول البعيد، إلى أول الزمن أو الزمن الأول، لأجل أن يدمر هيكل سليمان، ومن المفترض بالتالي، أن يدمر جملة من المفاهيم الصهيونية لأساطير يهودية بررت للصهاينة احتلال فلسطين. رابعًا) طريقة التحول عكسًا: ثم لا يلبث أن يعود عاديّاً وإنسانًا، يعود إلى زمنه، يبدأ كفاعل من جديد، يتحول إلى ما كان عليه، تحت شرط الفعل الثوري دومًا، ولأجل فك الحصار عن بيروت: باسم الفدائي الذي يبدأ اقرأ- بيروت صورتنا– بيروت ثورتنا- وتعليقنا على المخاطب في فعل الأمر ((اقرأ)) أنه دومًا ((أنت))، ليس ((هو))، وليس ((أنا))، إنه ((أنت))، وبإمكان الـ ((أنت)) أن تكون الظالم والمظلوم، القامع والمقموع، وفي كلتا الحالتين، المتلقي، المستهدَف، سواء أكان قارئًا أم مستمعًا. أما التعليق المستبطن على كون بيروت صورتنا، مثلما كان البحر، من قبل، أيضًا، صورتنا، ففي ذلك إعلاء لبيروت إلى مستوى الصورة التي هي نحن، إلى مستوى التجريد والتخييل، وهو المستوى الأرقى، الموازي للمستوى الأرضي، عندما تصير بيروت صورتنا كفصل من فصول القرآن الجديد الذي هو منشور العمل السياسي الثوري. خامسًا) طريقة النفي من خلال الإثبات: وباسم بيروت، ومن قبل باسم الفدائي، يأخذ الشاعر عهدًا على نفسه بنفي الحصار ورفض الاستسلام في الحصار: بيروت لا- ظهري أمام البحر أسوار و.. لا- قد أخسر الدنيا: نعم!- قد أخسر الكلمات:- لكني أقول الآن: لا- هي- آخر الطلقات: لا- هي ما تبقى من هواء الأرض: لا- هي ما تبقى من نسيج الروح: لا- بيروت لا- لا للحصار ولا للاستسلام في الحصار حتى ولو خسر الشاعر الدنيا والقصيدة، ونعم لآخر الطلقات نعم لهواء الأرض ونسيج الروح، إنه النفي من خلال الإثبات، فتتضارب هنا الدلالات العادية والطفيلية لمفهوم ((لا))، لا الرفض والنفي والتحدي، دلالات عادية، ولا الرفض للرفض والنفي للنفي والتحدي للتحدي، دلالات طفيلية، وتواجد النوعين من الدلالات في الواحدة وفي السياق الشعري يجعل منهما دلالات ((مبتكرة ليست عادية)) عن طريق تشبيك بينهما يفكه الشاعر بأعلى حضور له (الدال على الملكية في ظهري، ضمير المتكلم في أخسر وأقول، والمضافات في الطلقات والأرض والروح ثلاث علامات لحضور الشاعر) دون أن يلغي منطق الخطاب الدرامي. وعند هذه اللحظة التي هي لحظة قصوى -من قمة القصيدة وقوة الموقف- سينكسر التنغيم، وسينحرف الترنيم، وستنفك الوحدة بين الشاعر والمقاتل وشعب بيروت، لتبرز الترنيمة (( المحايدة ))، والبطل (( المحايد)). هنا، يتميز نظام الانفكاك المراجعي هذا بتمفصل تدريجي ساهمت فيه بشكل عضوي كل الأبيات السابقة لكلمة اللا، فهي ما كانت إلا لتكون، من أجلها وبسببها، كما نراه وتراه العالمة الألسنية فيوليت موران، وهذه اللا ليست فقط دفعية كما يُعتقد للوهلة الأولى، إنها انكفائية أيضًا، ولهذا التضارب يتميز نظام الانفكاك المراجعي، من ناحية ثانية، بالانكفاء كحالة محدودة وذات امتياز. وللتضارب هذا تتناقض القصيدة كليّاً مع العبارة، مما يؤدي إلى خصوصية خاصة بهذا النظام، خصوصية تعبر عن أكثر من درجة من التضارب بين الدلالات العادية والطفيلية. وفي هذه الحالة، يأتي المعبِّر بمُعامل حضوره الشخصي، برأيه، الذي يأخذه المعبَّر إليه بعين الاعتبار. وبكلام آخر، بينما يقترح النظام التدريجي نوعًا من الاعتراف الهدام للعادي من طرف الطفيلي، يقترح الطفيلي دحضه المعيد له أهليته بشكل من الأشكال (ليفهم القارئ أكثر دور الدلالات الطفيلية نشبهها بالجزيئيات الطفيلية في الجبن النابلسي التي دونها ما كانت له نكهة خاصة به). ومن المنطق أن تكون الوظيفة العادية مترابطة بالوظيفة الطفيلية لقصد درامي قريب: حفظ منطق الدلالات المشبّكة (دلالة مشبوكة بأخرى عبر كل القصيدة) ولكن عكس الآراء التي شبّكتها. هذا التغير ينطبق على الدلالات التي من الدرجة الثانية، دلالات الدلالات (في الصورة ((ظهري أمام البحر أسوار)) الدلالة واضحة بين ظهر الشاعر وأسوار البحر ولكن ((الظهر أمام)) هي دلالة للدلالة تحت معنى أنه يعطي ظهره للبحر الذي لن يمخره، وهذا هو التغير فيها). وفي تعاقب منطق الوظيفتين المنفكتين، الوظيفتين الأخيرتين، تُواصِلُ مسألية التشبيك طريقها، ولكن بتشويهها خلال الانفكاك. ولدينا مثلما كان لدينا في التمفصل السيميائي السابق ترنيمة تالية ومفتوحة ولكنها مِرفقة (المرجع السابق، 118).
الترنيمة (( المحايدة )) والبطل (( المحايد )) تتوافق دومًا في الملحمة لدى محمود درويش الحالة الجديدة بترنيمة جديدة، والواحدة كالأخرى مفتوحة على ما سبقها، لكنها ذات صفتين: فإما أن تكون جزءًا من سياق الحالة العامة (( وحدة الحالات ))، وإما أن تكون حالة مستقلة أو (( محايدة )) في إطار الحالة العامة (الحالات في الوحدة)، والحياد هنا، هو خصوصية أكثر منه انفصامية، وهو إيجابي أكثر منه سلبي، وإذا ما كان سلبيّاً، فلإظهار الإيجابي فيه، إنه تبادلي الأبعاد. نحن نرى الحياد في مقطع الترنيمة الواحدة، التي هي ترنيمة واحدة أولاً، وترنيمة جديدة ثانيًا، في موقع جديد، بمثابة (( همزة وصل )) خاصة بين السابق واللاحق، يوحي بالاستقلال النسبي في البنية العامة للقصيدة. ونحن نرى الحياد في البطل الواحد مِرفق الترنيمة الواحدة، الذي هو بطل واحد أولاً، وبطل جديد ثانيًا، في موقع جديد، بمثابة ((همزة وصل)) خاصة بين السابق واللاحق، يوحي بالاستقلال النسبي في البنية العامة للقصيدة. كذلك، نحن نرى الحياد في البطل الواحد مِرفق الترنيمة الواحدة، الذي هو بطل واحد أولاً، وبطل جديد ثانيًا، في موقع جديد، بمثابة (( وقفة إنسانية )) خاصة بين الفردي والجمعي، يوحي بالاستقلال النسبي في الحركة الدرامية العامة للقصيدة. البطل، هنا، ليس المقاتل، ولكن ابنة الشاعر. وهذا الاختيار، فى حد ذاته، يوحي بالحيادية، على الأقل، بحيادية الابنة التي ليست لها علاقة بالحرب. ومع ذلك، تقتلها الحرب، لتلتغي الحيادية، والمفهوم المضلل (( للحيادي )). فموت الابنة سيعلن أن البراءة ليست محايدة، بل هي فعل في الحرب وموقف منها. وهكذا، ما ندعوه بالبطل (( المحايد )) هو محض تقنية من خلال افتراض له في تحليلنا وظيفة محددة. وكذلك، سيعلن موت الابنة أنه ترنيمة خاصة في الترنيم العام تفرضها ملحمية الحصار التي هي في القصيدة بنية ملتحمة. يغني الشاعر لابنته مهدهدًا: نامي قليلا، يا ابنتي، نامي قليلا- الطائرات تعضني. وتعض ما في القلب من عسل- فنامي في طريق النحل، نامي- قبل أن أصحو قتيلا- وهو يهدهد ابنته في صخب الطائرات المقلقة لقلب الشاعر، ولكنه يطلب إليها أن تنام في الهدوء المتمثل بطريق النحل، وأن تترك للشاعر مهمة أن تقتله الطائرات حين نومه هو، فيدفع عنها بالموت. يريد أن يصحو من نومه ليجد نفسه قتيلاً لا ليجدها هي القتيلة، ولكن الطائرات لا تحقق مقتل الشاعر بل تحقق (( نجاته )) عندما تذهب باحثة عن الابنة، فتعمق من تراجيدية المسألة: الطائرات تطير من غرف مجاورة إلى الحمّام، فاضطجعي على درجات هذا- السلم الحجري، وانتبهي إذا اقتربت شظاياها منك، وارتجفي قليلا- نامي قليلا- ومع ذلك، فالاختفاء في السلم الحجري، والحذر من شظايا الطائرات، وعدم الخوف الكثير، لا تمنع لا الشاعر من أن يطلب لابنته النوم ولا ابنته من أن تنام، وكأن قدر النوم، الذي هو الموت هنا، هو الأقوى. هي ليست لحظة (( عدمية )) تصيب القلب، ولا لحظة إهمال وعدم مسؤولية. إنها لحظة وعي لموت البراءة لا للبراءة الميتة، ولحظة إعلان أن الطائرات مجرمة، عندما قتلت بريئًا طفلاً، وتركت بريئًا بالغًا، الذي هو الشاعر، وأن الحرب هذه هي حرب قذرة ومدانة، وهى إن لم تقتل (( البرىء البالغ ))، فقد تركت له في القلب جرحًا بالغًا، ألا وهو موت (( البرىء الطفل ))، ليظل موتور الذكرى، وموتور الإدانة، وموتور الذهاب في الرحيل الباقي بعيدًا عن الوطن قبل نهاية النوم الذي هو الموت مجازيًا: كنا نحبك يا ابنتي- كنا نعد على أصابعنا مسيرتنا وننقصها رحيلا- نامي قليلا- الفعل (( كنا )) يشير إلى موت الابنة التي لم تعد في خبر يكون، ولكن الشاعر لا يريد أن يصدق هذا الموت، فينفيه في لحظته الرمزية، وكأن الطائرات لم تزل مستمرة في صنع موت لم ينجز بعد عندما يقول في صيغة المضارع: الطائرات تطير، والأشجار تهوي- والمباني تخبز السكان- وعلى نفس السطر، ومن خلال نفي الموت في لحظته الرمزية، يطلب الشاعر إلى ابنته أن تنام النوم العادي، نوم كل الأطفال، من خلال ثبوت الحياة، في لحظتها الرمزية أيضًا التي هي الأغنية الأخيرة أو الطلقة الأخيرة:- فاختبئي بأغنيتي الأخيرة، أو بطلقتي الأخيرة، يا- ابنتى- وتوسدينى كنت فحمًا أم نخيلاً- نامي قليلاً- وبالطبع، في الحالتين، حالة الأغنية أو حالة الطلقة، وما سيترتب عنهما من انفتاح لعالم النخيل أو الحلم، وعالم الفحم أو الموت، سيكون الشاعر وسادة لابنته، أي، الضحية على مذبح البراءة. ومع ذلك، فهو سيعجز عن منع الموت الذي سيداهم ابنته، ليتمنى لو يكون قادرًا على إعادة ترتيب الطبيعة، فالطبيعة الخاضعة للقوانين لا تعرف المأساة. ولن يكون قادرًا، فمطلب النوم، عند نهاية المقطع التالي، يصبح الإلحاح على الموت، وإن ما يرجوه في عالم الطفولة، وكيف يكون لن يكون: لو أستطيع أعدت ترتيب الطبيعة- ههنا صفصافة وهناك قلبي- ههنا قمر التردد- ههنا عصفور للانتباه- هناك نافذة تعلمك الهديلا- شارع يرجوك أن تبقى قليلا- نامى قليلا- وعلى الخصوص، عندما (( يعترف )) بموت ابنته، في المقطع الأخير، فيما يخص هذه الترنيمة (( المحايدة )) من القصيدة، و(( يعترف )) أمام (( الميتة )) بموقفين عاطفيين ماضٍ وحاضر تجاهها: كنا نحبك يا ابنتى- والآن، نعبد صمتك العالي- ونرفعه كنائس من بتولا- ثم، يتساءل الشاعر إذا كانت غاضبة (( علينا دون أن ندري ))، ثم، يضيف (( وندري ))، فهى ماتت: في موتها غضبها، وغضبها لعدم منع الموت عنها. لهذا، يطلق الشاعر آهة ندم ولوم: آه منا... آه ماذا لو خمشنا صرة الأفق- قد يخمش الغرقى يدًا تمتد- كي تحمي من الغرق- ولكنه لا يشك، حين يقول (( قد ))، في أمل الغارق إلى النجاة إذا ما أملت عليه الإرادة هذا الأمل. وهذه (( حكمة )) لابنة المستقبل التي سيتنظرها الشاعر من خلال وعي المأساة ورفض الواقع الأليم الممثل لسقوط القيم الإنسانية. وكأنه، في موقفه هذا، رمز الحضارة البشرية الأولى، بروميثيوس جديد يعلن عن تملكه لقدره ولمستقبل العالم. وهذه هي صفة ((الحضاري)) التي يعبر عنها نص مديح الظل العالي في صراعه ضد الانحطاط القائم من أجل حضارة إنسانية حقيقية. ولكنه لا يماثل، حين يقول (( قد ))، بين رغبة الغريق في النجاة وبين رغبة المنقذ من الغرق، فيحول دون رغبة الغريق (خمش اليد المنقذة) والاعتداء على عنصرها الدفعي، الدفقي إن أردت، صده، وطرده، واستبعاده. والسبب للاتماثل هذا، اللاتناسق، كما يراه الألسني الكبير جيرار جينيت، يبقى بسيطًا جدًا، لكنه يحدد لنا خاصة حاسمة للقصيدة: في الواقع، ليس للخطاب أي نقاء يحتفظ به، لأنه الطريقة ((الطبيعية)) للكلام الأكثر اتساعًا والأكثر كونيةً والذي يجري استقباله تحديدًا تحت كل الأشكال. وعلى العكس، القصيدة (هو يقول الحكاية) طريقة خاصة يحددها عدد من الاستبعادات والشروط المقيدة (رفض الحاضر والانفتاح على كل الأزمنة، رفض ضمير المتكلم والانفتاح على كل الضمائر... إلخ). يمكن للخطاب أن ((يشعر)) أنه خطاب دون توقف، ولا يمكن للشعر أن ((يخطب)) دون الخروج من ذاته. لكنه لا يمكنه أيضًا تجنب الخطاب دون السقوط في الجفاء والضَّعف: لهذا لا توجد القصيدة (هو يقول الحكاية) أيَّ وجودٍ إذا أحسنا القول في شكلها الصارم. أقل رصد عام، أقل نعت أكثر منه وصفيًا بقليل، أقل مقارنة حذرة، أقل (( ربما )) متواضعة، أقل لفظة منطقية غير ضارة تُدْخَِلُ في حبكتها (أي حبكة القصيدة) نمطًا من الكلام عنها غريبًا وككاسر لها. ولدراسة تفاصيل هذه الحوادث التي هي صغيرة جدًا أحيانًا، يجب القيام بتحاليل للنص عديدة ودقيقة. ويمكن أن يكون أحد أهداف هذه الدراسة جدولة وتصنيف الوسائل التي بفضلها يحاول الأدب الشعري (هو يقول الحكائي وخاصة الروائي) تنظيم العلاقات الحساسة التي تصونها مقتضيات القصيدة وضرورات الخطاب، بحال مقبولة وداخل ألفاظ الأدب الشعري الخاصة به (Communivations 8, 162).
الفضح والكشف من خلال الفعل الواقعي ومواصلة منا لهدف تحقيق جدولة الوسائل الضرورية وتصنيفها العلائقي في القصيدة نرى أن موت الابنة سيكون وسيلة الشاعر للعودة إلى مقطع (( بيروت- لا )): (( لايتموتيف )) القصيدة وشعار رفض دون ذريعة، ولو أن موت الابنة، خارج الإطار الشعري، كان ذريعة للرفض، والذي هو- لنذكّر- رفض للحصار إلى أقصى حد، وتعلق ببيروت إلى أقصى حد. ومن خلال الشعور بالوحدة إلى أقصى حد أيضًا، لم يزل الشاعر مأخوذًا بعنف هذا الشعور وتأثيره عليه، فيصف بعنف حالته، ويصف حالة أعدائه، لهذا السبب، لم يتحول شعور الشاعر إلى إرهاصات ذاتانية بقدر ما حوله الفعل المرعب إلى صور ترصد الواقع لتفضح به ومن خلاله، إنه هنا يجمع بين مقتضيات القصيدة وضرورات الخطاب: أشلاؤنا وأسماؤنا. لا.. لا مفر- سقط القناع عن القناع عن القناع- سقط القناع- لا أخوة لك يا أخي، لا أصدقاء- يا صديقي لا قلاع- لا الماء عندك، لا الدواء ولا السماء ولا الدماء والشراع- ولا الأمام ولا الوراء- صحيح لا يوجد خيار، لا مفر وسقوط القناع (أي الانفضاح) حتمية الفعل ما قبل الأخير، ولكن عملية الفضح هنا، ليست كلامية، خطابية، مثلما هي عليه عند كتبة زوايا البرجوازية الصغيرة، وإنما من خلال تشعير الفعل الواقعي، وإن كلف ذلك كل شىء، فهو الفعل ما قبل الفعل الأخير: الموت. وكان في سقوط القناع، أيضًا، كشف عن وجه الحالة كعلاقة حساسة: وحدة المقاتل القتالية القصوى حقّاً (لا أخوة- لا أصدقاء- لا قلاع- لا شراع)، ولكن أيضًا وحدة المقاتل الفيزيائية القصوى (لا ماء- لا دواء- لا دماء)، ووحدة المقاتل النفسية المطلقة (لا سماء- لا أمام- لا وراء)، أي الاتحاد بالموت. ولكن الموت هو الفعل القادم، لهذا، لا تتمثل الحالة الصعبة للمقاتل –كما هي عليه لدى الوجوديين- بفعل الجمود، وإنما بفعل الحركة، حركة ليست عشوائية، ذات طموح مكاني وزماني ينطلق من الواقع الموضوعي (لا سماء- لا أمام- لا وراء) عن طريق الممارسة. إنها ممارسة الواقع الموضوعي ذاته: (سنرى أنها أشلاء وقتلى وأذرعة مقطوعة تقاوم) حركة حرة تؤثر وتتأثر بشكل مسؤول وواع لهدف تحول علاقات الحصار: حاصر حصارك.. لا مفر- سقطت ذراعك فالتقطها- واضرب عدوك.. لا مفر. وسقطت قربك، فالتقطني- واضرب عدوك بي.. فأنت الآن حر- حر- حر..- قتلاك أو جراحاك فيك ذخيرة- فاضرب بها. اضرب عدوك.. لا مفر. إذن، للقتل مهمة هي الانبعاث (قتلاك أو جراحاك فيك ذخيرة)، وأمام عدم الخيار إنه الخيار الأوحد. فعل الحرية ليس الموت، وإنما الانبعاث. حقّاً، في المعركة كل شىء ممكن للمقاتل، هو حر، ولكن انبعاثه هو التشخيص الأمثل للحرية. عليه أن يقاتل بالموت، وإلا ما صار حرّاً. فالموت نهاية مرفوضة، وليس نهاية حرة، هو نهاية للحرية. إذن، على المقاتل أن يقاتله به. الموت يشخصه الشاعر القتيل (سقطت قربك)، والعدو الذي سيقتل (واضرب عدوك بى) في آن واحد. ولهجمة الموت الشديدة، يهيب الشاعر بالمقاتل أن يلجأ إلى سلاح آخر، ألا وهو الجنون كعلاقة حساسة: أشلاؤنا، أسماؤنا- حاصر حصارك بالجنون- وبالجنون- وبالجنون- ذهب الذين تحبهم، ذهبوا- فإما أن تكون- أو لا تكون- إنها مسألة البقاء دومًا، والتي هي من فعل الحالة (الحصار) وحالة الفعل (الجنون). وقول شكسبير الموجه للمقاتل، وللمقاتل بالذات، يحمّله مسؤولية عظمى أمام مصيره هو كفرد أمام الموت الذي لن يقهر الموت إلا فعل أقوى (الجنون). بمعنى أن يذر الموت ضعفًا في معسكر الأعداء -وهذه طريقة مجنونة في القتال، طريقة قصوى في الدفاع عن النفس– وإلا فاجأه الموت (( الضعيف )). ويمكن للجنون أن يكون حالة الفعل، ويمكن له أن يكون فعل الحالة، وهذا هو هدف البقاء. أن يحل محل الحصار، فينتهي الحصار، وتدخل الأشياء، بعد ذلك، في مرحلة التعقل. إذن، سيبقى الجنون، في أي حال من الأحوال، وسيلة. أخفق أحباء المقاتل، فماتوا، عندما لم يلجأوا إليها. وهم أخفقوا ليلجأ إليها المقاتل، فلا يموت. إنها مسألته الخاصة: فإما أن يكون أو لا يكون. وهى، في الوقت ذاته، مسألة العامة -مثلما سنرى-. إذن، الجنون وسيلة وثورة وحرية ومصير. إن له مفهوم التعقل لحظة الفناء، الحكمة الوحيدة، اللاتماثل في التماثل، واللاتناسق في التناسق. ولا (( تشبع )) الشاعر كل الفضيحة التي وقفنا عليها، فالفضائح كثيرة (سقط القناع عن القناع عن القناع- سقط القناع) كثيرة جدّاً بكثرة كل الأقنعة في سيرك العالم العربي! وهى تلح على الشاعر من خلال إلحاح فعل الحصار عليه، ولكنه يواصل في الفضح حملة الكشف، هذا الهدف المزدوج، العلاقة الحساسة: سقط القناع عن القناع عن القناع- سقط القناع- ولا أحد- إلاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان- فاجعل كل متراس بلد- لا.. لا أحد- سقط القناع- عرب أطاعوا رومهم- عرب وباعوا روحهم- عرب.. وضاعوا- سقط القناع- صحيح يحذر الشاعر من ألا تكون مواجهة المقاتل للأعداء والنسيان حاسمة، إذ يهيب به أن يجعل من كل متراس بلد، فيغلق المدى على الأعداء، ويفتح الذاكرة، وفى ذلك اندماج المقاومة (( في التعويض )): الحق الفلسطيني الشهير! وصحيح، أيضًا، أن نزعة الانفصام عن الذات (انفصام الفلسطيني عن عروبته) فيها دعوة للذوبان فيها (ذوبان الفلسطيني في فلسطينيته)، فلا فرق بين الفلسطينية والعروبة حينما تنهل هذه معناها من تلك (التماثل في اللاتماثل). حتى أن بالإمكان القول إن الفلسطينية قد حلت محل العروبة بعد أن حذفت كل دلالاتها لحسابها النضالي (التماثل في التماثل)، فالعروبة التي يمثلها (( هؤلاء العرب )) الذين أطاعوا (( رومهم ))، وباعوا (( روحهم ))، هي عروبة عار لم تعد صفة للوطنية (اللاتماثل في اللاتماثل). لقد امتدت ((الفلسطينية ))، هنا، في معنى شامل للعرب ولعروبة العرب بعد أن نفت نفيًا قاطعًا هؤلاء العرب (حكام ومتواطئون وسلبيون) من عروبتهم (اللاتماثل في التماثل)، فهم عبيد للأمريكان (الروم في النص) صاروا يهوذا الإسخريوطى الذي باع روحه، فضاع، وانفضح أمره. ولهذا وظيفة دلالية: إنه القناع الأخير الذي يسقط، في النص وفى الواقع، لتنكشف الحقيقة، لتنكشف العورة. والشاعر لا يكتفي بالكشف عن عورة الإنسان المغولي في ثوب العروبة الأنيق، وهذا هو الادعاء الأدنى، بل يكشف عن عورة الله العربي في ثوب المغول الأنيق، وهذا هو الادعاء الأعلى: والله غمس باسمك البحري أسبوع الولادة واستراح إلى الأبد- كن أنت. كن حتى يكون!- لا.. لا أحد- التأويل متعدد في هذه الأبيات المتعددة الصور الدلالية، فصاحب الاسم البحري، هو المقاتل. ولماذا اسم بحري لا بري؟ إنه الفلسطيني الذي لا بر له، الفلسطيني دون فلسطين، والذى لا بحر له إلا بالاسم، كنعاني- والكنعاني ربط التاريخ اسمه بالبحر دومًا- منزوع من الجذور، من الوجود، أي، في حالة قصوى من البؤس. ومن حالة البؤس القصوى هذه، من حالة عدم وجود المقاتل يخلق الله الوجود، في أيام سبعة، مثلما تدعي الأسطورة. في فعل خلق الوجود (( خير )) يحتوي على فعل (( شر )) مبطن قامت عليه القدرة الإلهية، ألا وهو تيهان الفلسطيني. لهذا تزين الله بثوب مغولي أنيق يمزقه الشاعر بفضح حالة الله، وبكشف حالة المقاتل. بكشف عورة الله، وفضح حالة لا تحتمل، لأن في أن (( يستريح الله إلى الأبد )) معنى موته تاركًا الفلسطيني في دياسبوراه، من ورائه، وحيدًا يحمل على كتفيه وزر آدم. لهذا السبب يأمر الشاعر مقاتل بيروت بعبارة: كن أنت. كن حتى يكون! أي، أُوُجَدْ كي يصبح لله وجود. وهذا تركيب ضدي وجديد للأسطورة، لأن الفدائي -من خلال مسألة وجوده الخاصة دومًا- هو الذي سيخلق الله من وجود ( ). ويتبدل القول السائد من: (( قل هو الله أحد )) إلى (( لا.. لا أحد ))! إنه رهان الوجود: أثمن لحظة في تاريخ البشر علقت بشعرة معاوية ما بين الموت والحياة. ويعرف الشاعر أن المسألة ستحسم لصالح المقاتل الخالق الحقيقي لحياة تعاد فيها الكرامة للناس، فيسأل الله إذا كان خالقه حقّاً، إذن، فليخلق نفسه، وليتجلّ، بعد أن مات: يا خالقي هذه الساعات من عدم تجلَّ!- لعل لي ربّاً لأعبده- لعل! إنها لهجة تهكمية واضحة، تنطرح، من خلالها، علاقة وجودية ونصية حساسة، مسألة الوجود التي تطارد وجود الشاعر بحدة، ويطرحها هول الحصار (في هذه الساعات). وهناك، أيضًا، مسألة التوحد مع الذات -ولا نقل كالصوفيين في الذات- التي تعود باستمرار، والحاجة إلى ((رب)) -أو أية قوة كانت- يجترح المعجزات ليوقف الجحيم الإسرائيلي، ويحفظ النوع البشري. وينتهي المقطع الخاص بالفضح في الكشف بهذه الأبيات، علمتنى الأسماء- لولا- هذه الدول الليقطة لم تكن بيروت ثكلى!- بيروت كلا- إنها علاقة تضمينية خاصة بين الشاعر وربه عندما يقول (( علمتني ))، والسائد هو القول (( علمتنا )): العلاقة العامة بين الله وعباده. ورب الشاعر، هنا، بإمكانه أن يكون الفدائى الذي علمه ((أسماؤنا أشلاؤنا )) في علاقة حسية بين أشلاء المقاتلين وأسمائهم ( )، أو أشلاء المقاتلين وأسماء المدن الفلسطينية الشهيدة، التي تأخذ الواحدة معناها غير الإلهي من الأخرى. ولنفترض أن المقصود، هنا، هو الله، المتفق عليه، في كلمة (( علمتني ))، وبالتالي، فإن العلاقة هي، دومًا، خاصة، بين محمود درويش والله. ولنفترض، أيضًا، أن الأسماء التي علمها الله لمحمود درويش هي أسماؤه الحسنى، وهذا يولد افتراضًا آخر ألا وهو الإيمان السائد الذي سيسود حتى محمود درويش. وحتى هذه النقطة البعيدة بإمكان التأويل أن يذهب -من خلال رهان الوجود دومًا- إلا أن كلمة (( لولا )) في النص، تقلب كل شىء رأسًا على عقب، فتكسر السائد، وتنفي الموروث الغيبي، وتدلل بالحقيقة الراهنة الوحيدة: لولا هذه الدول اللقيطة لم تكن بيروت ثكلى! هي الدول العربية اللقيطة المنفضحة، إذن، الدول الأسماء السفلى الحقيقية، التي جعلت من بيروت، في رمز الأسماء العليا الحقيقية أيضًا، جعلتها ثكلى! لقد كانت سببًا في حالة، وكشفًا لحالة، ومن داخل الحالة، لا بد أن يأتي الرفض مرة أخرى وأخرى: بيروت- كلا! وهو، دومًا، ليس ميتافيزيقيّ الرفض: رفض للحصار إلى أقصى حد، وتعلق ببيروت إلى أقصى حد. هي شعرة معاوية -مثلما قلنا- ما بين الحياة والموت يقاوم الشاعر ألا تنقطع. وفى لحظة التشبث بالبقاء القصوى هذه، تعود بيروت إلى التوحد بالجماعة: بيروت صورتنا- بيروت سورتنا، لتكون بيروت هي الجماعة، ولتنطرح مسألة الوجود العامة: فإما أن نكون- أو لا نكون، والتى على أساسها ستكون مسألة وجود بيروت الكيان، ولكن أيضًا، مسألة الوجود الخاصة، إذ بالإمكان تفسير (( تكون )) في اتجاه بيروت أو في اتجاه المقاتل. هكذا لن يحمل المقاتل العبء وحده، إنها مهمة الكل. وفعل البقاء الجمعي هو ضامن كيان فعله وفعل البقاء الفردي. وبه تتم عملية (( تجميعية )) -حسب المرحوم والمنحوس غرامشي- أي، تحقيق المهمة الخاصة، والذهاب بها إلى فك الحصار عن بيروت. وفي العملية التجميعية هذه، على مستوى الشعرية، ليس في هذه اللحظة فقط من القراءة بل منذ الأبيات الأولى، لم يعد الشاعر موجودًا على الرغم من كل حضوره في الأفعال والضمائر. وكما يقول جينيت ونقول: في الخطاب، واحدٌ يتكلم، وحالته في حدث الكلام نفسه هي مقر الدلالات الأكثر أهمية. في القصيدة (هو يقول في الحكاية) كما يقول بنفينيست بقوة، لا أحد يتكلم، تحت معنى أننا لا نتساءل في أية لحظة من يتكلم (أين ومتى... إلخ) لنستقبل دلالة النص بمجموعه (المرجع السابق، 160).
العلاقة: أحبك- لا أحبك
1- حالات العاشق هذه المقطوعة الأخيرة من حركة القصيدة الأولى ترصد بيروت المدينة التي لا يحبها الشاعر، ويحبها، في الوقت ذاته. وأيًا كانت تفاصيل الاصطلاح التعبيري، من اصطلاح إلى آخر، وتغيراته، كما يرى جينيت، تعود كل الاختلافات الخاصة بالمعبِّر بوضوح إلى تعارض بين موضوعية القصيدة (هو يقول الحكاية) وذاتية الخطاب، ولكن يجب إيضاح أن المقصود هنا موضوعية وذاتية محددتان حسب معايير لسانية خالصة: ((ذاتي)) هو الخطاب الذي يبدو فيه بشكل جليّ أو غير جليّ حضور الأنا (أو المرجع للأنا)، ولكن لا تتحدد هذه الأنا إلا كما لو كانت الشخص الذي يقوم بالخطاب، والشيء نفسه بخصوص الزمن الحاضر، زمن الطريقة الخطابية المفضل، لا يتحدد هذا الزمن إلا كما لو كانت اللحظة التي يجري فيها الخطاب، واستعماله يشير إلى ((صدفة الحدث الموصوف تحت إلحاح الخطاب الذي يصفه)). وعلى العكس، تتحدد موضوعية القصيدة (هو يقول الحكاية) بغياب كل مرجع للمعبِّر: ((وللحق نقول، حتى المعبِّر ليس موجودًا. تُطرح الأحداث كما تُنْتَج كلما ظهرت في أفق القصيدة. لا أحد يتكلم هنا، ويبدو أن الأحداث هي التي تتكلم بنفسها)) (المرجع السابق، 160). وحالة الحب، هذا الحدث الذي يتكلم بنفسه، مرتبطة بحالة اللاحب، هذا الحدث الذي يتكلم بنفسه أيضًا، وإذا كان الحب نفيًا يتقدم الحب إثباتًا (موضوعية القصيدة واضحة في زوال المعبِّر في الأنا والأنا في المعبِّر): أنا لا أحبك- كم أحبك-، فالحب إثباتًا يتضمن الحب تشديدًا: كم أحبك- وكأن الشاعر يريد أن يتدارك نفسه بسرعة المحب تخوفًا من غضب الحبيب. وكأن الشاعر يريد أن يقول لبيروت إنه مهما (( كرهها ))، فسيحبها أكبر حب! إنها بيروت المذنبة، وفى الوقت نفسه، البريئة. وحالته سلبًا و- أم- إيجابًا مرتهنة بصفتها سلبًا و- أم- إيجابًا، فصفة العلاقة تركيبية، موضوعية وذاتية متعارضتان. وأحيانًا تصبح لهما نفس الصفة ونفس الحالة، وتعمل الواحدة كمحفز للأخرى من خلال العلاقة التركيبية دومًا، والتي هي صفة لكل حالات العاشق التي سنعرض لها: غيمتان أنا وأنت، وحارسان يتوجان الانتباه بصرخة- ويمددان الليل حتى آخر الليل الأخير- هنا انطباق الصفة على الصفة، والحالة على الحالة، وحتى الفعل منطبق على الفعل: انطباق سريالي للجماع، صورة للعاشق في المعشوق. أما العشق فهو -على عكسه لدى بول إيلوار- طريق العودة إلى صباح العالم المرموز إليه بـ (( آخر الليل الأخير))، وليس الطريق الأوحد للهرب من العالم. وأحيانًا ترتهن حالة بيروت بحالة العاشق لترتهن حالة العاشق بحالة بيروت عندما يقول: هل كان من حقي عليك الموت فيك- لكى تصيري مريمًا- وأصير ناي؟ فالحالة تتولد من الأخرى فالأخرى: موت العاشق في بيروت يحولها إلى مريم لتحوله إلى ناي. إنه الموت في الرحم، الحالة التجريدية لمولد العاشق. ولا يلبث الشاعر أن يذهب من التجريد (بيروت المجدلية) إلى التجريد (الأغاني من زنازين الشعوب) بواسطة التحديد: بيروت المدينة أو زنازين الشعوب التي هي الوجه الآخر لبيروت: هل كان من حقي الدفاع عن الأغاني- وهى تلجأ من زنازين الشعوب إلى خطاي؟- هل كان لى أن أطمئن إلى رؤاي- وأن أصدق أن لى قمرًا تكوره يداي؟- هنا ترتهن الحالة العامة المرموز إليها بزنازين الشعوب بحالة العاشق التي من موقف الدفاع عن الأغاني. هي في صيغة سؤال حقّاً، وصيغة السؤال تنفي حالة، وتؤكد حالة. والشاعر/العاشق أمام الحالة الأعنف والأهم (حالة الشعوب في الزنازين) لا يرتاح لعلاقته مع بيروت، في بيروت، ويعتبر نفسه متميزًا بقمره وأحلامه، أو، يعتبر نفسه غير مصدق أن له قمره وأحلامه. ومع ذلك، يقرر: صدّقت ما صدّقت، لكنى سأمشي في خطاي. أي أنه سيحب بيروت بقدر استيعابه للحقيقة فيها، وفى الوقت ذاته، سيدافع عن مواقفه المبدئية. وهنا، يصبح رهن حالتين، حالته عاشقًا، وحالته فاعلاً. أو هي حالة واحدة بعد أن أزال الشعر ما بينهما الحواجز: هل أنا ألف وباء للكتابة أم لتفجير الهياكل؟ صحيح لدينا، هنا، موقف من الكتابة، ولكن حالة تفجير الهياكل اللغوية هو التضمين الغائي للشاعر، الذي هو رد على وعد لبيروت لم يف به (( الأعداء )):- وعدوك باللغة الجديدة واستعادوا الميتين مع الجريمة- هي بيروت التي وراء موقف الشاعر في حالة الكتابة، إنها تضمين الكتابة، تضمين للتعارض بين ذاتية الخطاب وموضوعية القصيدة. 2- صفات المعشوق مثلما رأينا أن حالات العاشق من مواقفه، سنرى، تحت هذا الفصل، أن صفات المعشوق من أفعاله. ويقدم الشاعر للمعشوقة بيروت بثلاثة أبيات يريد أن يؤكد فيها المدينة الحية التي ليست امرأة، وإذا ما (( تعامل )) معها كامرأة، فهى ستظل بيروت المدينة، محصلة لأفعال المعشوق، ومحصلة لمواقف العاشق، محصلة تركيبية لمواقف العاشق وأفعال المعشوق: بيروت المدينة ليست امرأتي- وبيروت المكان مسدسي الباقي- وبيروت الزمان هوية ((الآن )) المضرج بالدخان- معالم بيروت المدينة قدمت كمكان وزمان محددين: كمكان لنضال طويل، ولو أنه البقية الباقية لنضال انطلق منذ 1965، وكزمان جسيم منه هوية الحاضر الدموي. إنه الزمن الذي يجري فيه الخطاب، واستعماله يشير –كما سبق وقلنا- إلى صدفة الحدث الموصوف تحت إلحاح الخطاب الذي يصفه. وهذه عناصر ذاتية للخطاب متحركة تنجبل منها المدينة، ومنها ينجبل تاريخ الكيان البشرى، موضوعية القصيدة، وليس من طين نفخ فيه. لهذا تتمتع بيروت بصورة جسيمة متعارضة من تكونها، وبالتالي، ستكون قادرة على الفعل. وهى بفعلها تأتمر بأمر عاشقها: لقد تكونت (( بأمرها ))، ولكنها تكون بأمر الشاعر، فتكتسب الصفات التي يريدها هو لها حين يقول: غمسي باسمي زهورك وانثريها فوق من يمشي على جثثي ليتسع السراي- لا تسحبيني من بقاياك، اسحبيني من يدي ومن هواي- ولا تلوميني، ولومي من رآني سائرًا كالعنكبوت على خطاي- هل كان من حقي النزول من البنفسج والتوهج في دماي؟ فعل بيروت، في البيت الأول، هو خيالي: أن تغمس باسم الشاعر زهورها وتنشرها فوق من يمشى على جثثه (بصيغة الجمع). أي، فعل من يزف عريسًا: العريس هنا زائف لأنه القاتل، والعريس الحقيقي هو الشاعر القتيل، فتأخذ بيروت صفة الخائنة. وإذا ما افترضنا أن هؤلاء الذين يمشون على ((جثث)) الشاعر هم رفاق القتال الذين سيواصلون النضال، (( فاتساع السراي )) يلغى الافتراض، لأن في اتساعه إشارة لهيمنة (( السلطان ))، وازدياد أتباعه (الكتائب مثلاً). وفعل بيروت، في البيت الثاني، هو واقعي: أن لا تسحب الشاعر من بقاياها (ومن قبل أن تغمس باسمه زهورها -العلاقة بها وفيها- وهذا ما نسميه بتشكيل صور أوضاع الجماع)، بل أن تسحبه من يديه ومن هواه. أي، فعل من يريد أن يدفن ميتًا كان حبيبًا من طرف واحد ومن طرفه هو، فالبيت لم يقل ((اسحبيني من هواك)). صحيح، حبه لها سيبقى، ولكنه سيبقى حبّاً دون حبيب، بإمكان أي شخص آخر أن يملأه، فتأخذ بيروت، مرة ثانية، صفة الخائنة. وفعل بيروت في البيت الثالث، هو نفساني: أن لا تلومه، وتلوم، من رآه سائرا كالعنكبوت على خطاه. بمعنى أنها تمارس على الشاعر فعل اللوم، وإلا ما طلب إليها عدم اللوم. وعندما يطلب إليها أن تلوم من رآه سائرًا كالعنكبوت على خطاه، يحدد موضوع اللوم، وحالة العنكبوت التي أوصله إليها من يجب في اتجاهه أن يذهب اللوم. وفى الأخير، يدلل على أن بيروت -رغم كل هذا- لا تلوم إلاه، فتأخذ، مرة ثالثة، صفة الخائنة . أما فعل بيروت في البيت الرابع، فهو وجودي: سؤال الشاعر لنفسه، هل كان من حقه النزول من البنفسج (أي النزول من الجنة)، والتوهج في دماه (أي في موته)؟ لقد كان الشاعر وبيروت في الجنة سعيدين، وقد صارت بيروت الخائنة فيما بعد، بعد فعل النزول، فهل كان من حقه ذلك، إذن، هو الخائن، وليس بيروت. هو خائن لبيروت حين غادر الجنة وخائن لنفسه حين مات. لكن فعل (( التوهج )) في الدم لا يلبث أن ينفي صفة الخيانة، على الأقل بمعناها الأخلاقي. فالتوهج في الدم، أي استنصار القضية التي يدافع عنها الشاعر، يعطيه حق الخروج من الجنة (البنفسج)، ويعطي لبيروت حق الخروج من صفة الخائنة، لأنها، هي، أيضًا، كمعشوقة، من حقها الخروج عن طاعة عاشقها بعد أن خرج عنها، وألا تحقق له الأفعال/الأوامر في الأبيات الثلاثة السابقة، فتأخذ صفة المخلصة. وأكثر ما تتضح ثنائية الإخلاص والخيانة تحت تعارضاتها الموضوعية والذاتية في الأبيات التالية: أنا لا أحبك- كم أحبك، كم أحبك، كم سنة- أعطيتنى وأخذت عمري كم سنة- وأنا أسميك الوداع، ولا أودع غير نفسى. كم سنة- لم تذكرى قرطاج؟ وثنائية الإخلاص والخيانة هذه تتراكب في صور هي، في الوقت ذاته، رموز تشكل أبعادًا ثلاثة محورها دومًا بيروت. البعد الأول: بيروت فيه الفاعل والشاعر المفعول عندما تعطيه (الإخلاص)، وفي المقابل تأخذ عمره (الخيانة). البعد الثاني: الشاعر فيه الفاعل، وبيروت فيه المفعول، عندما يسميها الوداع (الخيانة) ولا يودع غير نفسه (الإخلاص). البعد الثالث: الآخرون فيه الفاعل، وبيروت فيه المفعول، ثم الفاعل، عندما يعدها الآخرون بالآتي (الإخلاص)، وحين أتاها، أي حين تصبح في موضع المفعول، أو، على الأقل، حين تصبح في المستقبِل تحن إلى الرحيل إلى قرطاج (الخيانة) رغم أنها منذ سنين لم تذكر تلك المدينة القائمة في بطن التاريخ! من الملاحظ أن هناك نوعًا من التوازن بين الشاعر وبيروت، إذ لهما في البعدين الأول والثاني من أطروحة الخيانة والإخلاص نفس الدور الثنائي والتعارضي الصفة، أما في البعد الثالث لذات الأطروحة، وبسبب من دخول عنصر ثالث غريب: ((الآخرون ))، تختار بيروت الخيانة -دومًا من خارج إطارها الأخلاقي وللموضوعية القصيدية- التي هي في الوقت ذاته إخلاص للشاعر حبيبها الحقيقي، إخلاص مُر لأن فيه اختيار الرحيل إلى قرطاج. وهو، في حقيقته، رحيل الشاعر عن بيروت-المدينة، رحيل الشاعر مع بيروت-الصورة. هنا، يتحول الإخلاص، من جديد، إلى خيانة. وهذا واضح في البيتين التاليين الذين يقولهما الشاعر (( بجرم )) من تطارده اللعنة: هل كنا هواءً مالحًا كي تفتحي رئتيك للماضي- وتبنى هيكل القدس القديمة- المعنى في (( كنا )) ضمن ذاتية الخطاب هو الشاعر وشعبه، وليس بيروت والشاعر. وإذا ما اعتدينا على ذاتية الخطاب، وافترضنا أن المعنى، هنا، الشاعر وبيروت، فها هي بيروت تغادره إلى الماضي: قرطاج -القدس القديمة- وهذا ليس وقته، لا وليس من مهمة بيروت: إنها (( الخيانة )) مرة أخرى. وهى (( الخيانة )) في الإخلاص؛ لأنها حين تفتح رئتيها إلى الماضي المجيد (( السكري )) تقوم بفعل قصيدي موضوعي سائر في ضد- الحالة ((المالحة)). أما بناء هيكل سليمان العظيم القديم، فهو فعل لإعادة بناء القدس الجديدة، أي، فعل حريتها. ويريد الشاعر أن يرجح كفة الإخلاص في علاقته مع بيروت، أليسه يحبها -على شقاوتها- أقصى حب؟ فيدمج مصيره بمصيرها. بل ويبتعد أكثر عندما يجعل منه ومنها مصير (( قارة )) بأكملها، ومصير (( لغة )) بأكملها، فيتجاوز، بذلك، صورة ثنائية الخيانة والإخلاص، من خلال الفعل المشترك، إلى صور ثنائية الإثبات والإلغاء، مع دوام ثنائية الذاتي والموضوعي، عندما تقول الاستعارة الدالة التالية: كم سنة- كنا معًا طوق النجاة لقارة محمولة فوق السراب- ودفتر الإعراب؟ وهنا واضح مفهوم الإثبات في ذاتية الخطاب وموضوعية القصيدة على حد سواء، ولو أنه متمثل برد فعل على آخر صرخة قبل الفناء. ثم تضيف الاستعارة: كم عرب أتوك ليصبحوا غربا- وكم غرب أتاك ليدخل الاسلام من باب الصلاة على النبي، وسنة النفط- المقدس؟ وهنا واضح مفهوم الإلغاء في ذاتية الخطاب وموضوعية القصيدة أيضًا على حد سواء، ولو أنه متمثل برد فعل بعد أول تحية بعد الانوجاد. إن الإلغاء متشكل من التعامل مع بيروت دون العاشق التي تُلغى بإرادتها وحدها، وتبث بإرادتها وإرادة العاشق معًا. ويمكن تفسير ذلك إما لسهولة الإلغاء أمام الإثبات الذي يحتاج إلى جهد جهيد وحليف، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بصيانة النوع البشري. وإما لأن لا مجال إلى عنصر ثالث -غير العاشق والمعشوق- فى علاقة القلب، وفى كلتا الحالتين، تتجه بيروت تجاه عاشقها بصفتها المخلصة. ولا يلبث نقض الإخلاص بالخيانة أن يأتي مباشرة مع ملاحظة أن التعارض بينهما هو تعارض لموضوعية النص وذاتية الخطاب: كم سنة- وأنا أصدق أن لى أممًا ستتبعني- وأنك تكذبين على الطبيعة والمسدس. كم سنة؟ وهو، في الوقت ذاته، نقض الإثبات بالالغاء: فتلك الأمم التي كان الشاعر وبيروت له طوق النجاة ستخذل الشاعر. ونقض الإثبات بالإلغاء هو، في الوقت ذاته، نقض الإلغاء بالإثبات: فهذه بيروت التي كانت تلغي العرب بالغرب والغرب بالنفط، سيبين كذبها. وهكذا دواليك... وإن بيروت، كالشخصية الإنسانية، متعددة الصفات، متنوعتها، متناقضة الخصائص، وكذلك لا علاقة بالتعارض فيها وفي المواقف من حولها شرطًا ليكون التعارض بين الموضوعية القصيدية والذاتية الخطابية الدائمتين كصفتين لكل إنتاج أدبي. 3- مركبات العشق دالاً ومدلولاً ومما سبق، يتابع جينيت، لدينا هنا، دون أدنى شك، وصف كامل للقصيدة في جوهرها وفي تعارضها الراديكالي لكل شكل تعبير شخصي للمعبِّر، القصيدة (هو يقول الحكاية) في وضعها النقي كما يمكننا إدراكه بطريقة مثالية، وما يمكن الوقوف عليه بالفعل في بعض الأمثلة المتميزة، مثل تلك التي يستعيرها بنفينيست نفسه من المؤرخ غلوتز وبلزاك (المرجع نفسه، 160). وفي هذا الوضع الخالص، في هذا النص المصفى، غالبًا ما يحمل الشاعر/المعبِّر نصف العبء عن بيروت، فهو وهى العلاقة الحساسة، وليس هو وحده كل العلاقة الحساسة. إنهما الدال والمدلول في آن واحد، دورها من دوره، أو هما يتقاسمان الأدوار: بيروت منتصف اللغة- بيروت ومضة شهوتين- بيروت ما قاله الفتى لفتاته. هما يتقاسمان اللغة، ولولاهما لما صارت القصيدة. وهما شهوتان متبادلتان، وإن كانت بيروت ومضتهما البائنة، فالشاعر ومضتهما الخافية. وهما، عند الحديث، لبيروت ما قاله الفتى لفتاته، وللشاعر ما قالته الفتاة لفتاها. إنهما يتقاسمان الأدوار، والبحر يسمع أو يوزع صوته بين اليدين، فيتقاسمان حتى البحر عندما يكف عن ((الحياد))، حين يأخذ بالكلام. والشاعر، أحيانًا، يحمل كل العبء عن بيروت في نفى العلاقة: أنا لا أحبك- غمسي بدمي زهورك وانثريها- حول طائرة تطارد.. إلخ، وفى إثبات العلاقة: وأنا أحبك- غمسي بدمي زهورك وانثريها- حول طائرة تطاردني وتسمع.. إلخ. حتى أن حاله -حال الولهان- تصل به إلى تجريد بيروت من كل خطيئة رغم إيغالها في الخطيئة، الانتقالية المطلقة للقصيدة، إنها تعطي فقط: بيروت لا تعطي لتأخذ- أنت بيروت التي تعطي لتعطى ثم تسأم من ذراعيها- ومن شبق المحب- وهذه صفة للمجدلية: العاهرة- الطاهرة، يتعلق الشاعر بها أقصى التعلق. الغياب الكامل كما يراه جينيت ليس فقط للراوي/الشاعر ولكن للروي/الشعر نفسه، وذلك بالمحو الدقيق لكل مرجعية لإلحاح الخطاب الذي يشكل القصيدة. وفى الحال، سيفرض النص علينا مسألة المرأة، ليشير، من جديد، إلى أن مدلول الشاعر هو المدينة، وليعبر عن يأسه من المرأة التي من (( لحم ودم ))، ومن حبها المفترض حين ينبر: فبأي امرأة سأومن- وبأي شباك سأومن- من تزوجنى ضفائرها لأشنق رغبتى- وأموت كالأمم القديمة- إنها صفات في المرأة العادية مستحيلة! هي، فقط، من صفات بيروت المدينة. لا أحد يقولها –وإن قالها الشاعر- ولكي تُفهم ويتم تذوقها لا شيء من المعلومات التي تحتويها يفرض ربطها بمصدرها وتقدير مصدرها بالنسبة للمسافة أو العلاقة مع المعبّر وفعل العبارة: بيروت المحفزة: كم سنة- أغريتني بالمشي نحو بلادي الأولى- وبالطيران تحت سمائي الأولى- وبيروت الحاضنة والمضيفة: وباسمك كنت أرفع (بمعنى أنصب) خيمتي للهاربين من التجارة والدعارة والحضارة- وبيروت قرار المصير: كم سنة- كنا نرش على ضحايانا كلام البرق:- بعد هنيهة ستكون ما كنا وما سنكون- إما أن نكون نهارك العالي- وإما أن نعود إلى البحيرات القديمة. وبيروت التهاون والتراخي ولا العقاب ولا التحذير: كم سنة- لم تسمعيني جيدًا. لم تردعيني جيدًا. لم تحرميني من فواكهك الجميلة. لم- تقولي: حين يبتسم المخيم تعبس المدن الكبيرة. 4- محفزات العشق: نقد الذات ونقد الآخر عند هذه اللحظة القصوى للعشق، الانتقالية المطلقة للقصيدة، تنطرح مسألة نقد المعشوق، فالحصار النتيجة للتهاون والتراخي لم يزل يحاصر الشاعر جسدًا وإحساسًا، ولا بد، أيضًا، من أن ينقد العاشق نفسه. إنه ينقد بيروت ونفسه في آن واحد، محفزًا بعشقة لا حافزًا له، فبيروت ذاته، وذاته بيروت، ولهذا السبب، سيكون النقد الذاتي نقدًا جماعيّاً حامضًا: قلنا معًا: أنا لا أشاء، ولا تشائين. اتفقنا. كلنا في البحر ماء كم سنة- كانت تنظمنا يد الفوضى:- تعبنا من نظام الغاز.. إلخ- حريتي فوضاي وإنني أعترف- وسأعترف- بجميع أخطائي.. إلخ. إذا نظرنا إلى تحقيق اللغة من خلال الخطاب في فعل هذا التواصل الكلامي، رأينا إلى أية درجة تعارض تبعية القصيدة (جينيت يقول الحكاية) استقلال الخطاب الذي تحديداته الجوهرية (أنا، أنت، أي مكان يشار إليه هنا؟) والتي لا يمكن معرفتها إلا بالنسبة للحالة التي أُنتجت فيها (المرجع السابق، 161). ولا يكتفي المعبِّر بنقد الذات (المشخصة للعاشق والمعشوق المشخصة للثورة الفلسطينية) إنه يفرض -وهذا من حقه– نقد الآخر، المشخص للأعداء، المشخص للأصحاب، وهم العصافير في النص التالي، الذين يقومون بدور الأعداء حين يقول: ليس من حق العصافير الغناء على سرير النائمين- والأيديولوجيا مهنة البوليس في الدول القوية:- من نظام الرق في روما- إلى منع الكحول وآفة الأحزاب في ليبيا الحديثة. تحديدات الخطاب الجوهرية هنا (هي، هو، وإشارة الواضحة إلى المكان روما، ليبيا...) واضحة كمعلومة بالنسبة إليها كمعلومة لا كحالة لهول الحالة، ولخرق الحالة عن طريق خرق الخطاب، فيبحث المعبِّر عن السبب حين نقده للآخر، ليجده في الأيديولوجيا القمعية، وفي مهزلة منع الكحول والأحزاب المشخصة للأيديولوجيا القمعية. وعندما يبدأ الشاعر في نقد الآخر، أو ما نفضل تسميته بـ ضد-المعشوق، ينهي نقده الذاتي، ويأخذ في المديح الذاتي: (نحن البداية والبداية والبداية.. وأنا التوازن بين ما يجب.. (هذا المديح هو حاله) حالة مؤسسة على حالة ضد-المديح، أي، ليس الأمر سجاليّاً. إنه من واقع الحال عندما يدلل النص: كنا هناك (فلسطين). ومن هنا بيروت ستهاجر العرب لعقيدة أخرى. وتغترب- وبعد ذلك لا بد من وصف لضد-المعشوق سبق له التسويغ الملموس، ليأتي وصفًا ملموسًا: قصب هياكلنا- وعروشنا قصب- في كل مئذنة- حاوٍ ومغتصب- يدعو لأندلس- إن حوصرت حلب. وإلى جانب الخرق الخطابي المبرر، لا بد، أيضًا، من تحديد موقع العاشق، وتجاوز الحصر الخطابي، ما يدعوه الألسني جورج بلان ((تدخلات المؤلف))، إنه موقع ما بين المعشوق (بيروت) وضد-المعشوق (العروش): وأنا التوازن بين من جاؤوا ومن ذهبوا- وأنا التوازن بين من سَلبوا ومن سُلبوا، وأنا التوازن بين من صمدوا ومن هربوا- ولنلاحظ أمرًا جد هام، ألا وهو موقع الشاعر المدعو (( بالتوازن )) لا موقع (( المتوازن )). في المعنى الأول، سيكون الموقف -من الموقع بالطبع- إلى جانب المعشوق دون أدنى شك. وفى المعنى الثانى، سيكون الموقف إلى جانب التذبذب والانتهازية. هنا تتحول القصيدة المُدخلة في الخطاب إلى عنصر للخطاب، تبقى القصيدة خطابًا وتشكل نوعًا من ((التكيس))، كما يقول جينيت، من السهل جدًا معرفته وتحديد مكانه. فمن السهل الاحتفاظ بنقاء القصيدة أكثر من نقاء الخطاب (المرجع نفسه، 160). وما يؤكد استخلاصنا هذا الموقف الحاسم الآتي مباشرة بعد الأبيات السابقة: وأنا التوازن بين ما يجب:- يجب الذهاب إلى اليسار- يجب التوغل في اليمين- يجب- التمترس في الوسط- يجب الدفاع عن الغلط- يجب التشكك في المسار- يجب الخروج من اليقين- يجب الذي يجب- يجب انهيار الأنظمة- يجب انتظار المحكمة- هو موقف متعدد يكون جملة من المواقف متعددة المضامين المصاغة خطابيًا في السياسة (انهيار الأنظمة)، في الفلسفة (الخروج من اليقين)، في الاجتماع (التشكك في المسار)، في الأخلاق (الدفاع عن الغلط)، في التشريع (انتظار المحكمة)، في الاستراتيجية (الذهاب إلى اليسار)، في التكتيك (التوغل في اليمين)، في مطالب المرحلة الراهنة (التمترس في الوسط)، وتنفيذها، إن لم يكن اليوم فغدًا، مع نبرة تفرض العمل، وعلى قدر الأشياء التحقق، لأنه الحقيقة بعينها، التي هي بحث الشعر عنها، والتى جعلتها بيروت للشاعر/العاشق حاجة واجبة: وأنا أحبك، فسوف أحتاج الحقيقة عندما أحتاج تصليح الخرائط والخطط- أحتاج ما يجب- يجب الذي يجب- أدعو لأندلس- إن حوصرت حلب- إنها حاجة الحقيقة الشاعرة -كنا نريد القول في إطار عملنا نحن حاجة الحقيقة الناقدة- بقدر ما يجب، لا أكثر ولا أقل، ولكن بقدر ما تفرضه الحاجة (يجب الذي يجب)، وعند ذلك، يمكن الدعوة إلى فلسطين المشخصة بالأندلس إن حوصرت بيروت المشخصة بحلب، لا كالمغتصب المشخص بالجندي الإسرائيلي، أو، الحاوي الدجال المشخص بالحاكم العربي، الذي في الحصار الجهنمي، سيدعو المقاتلين إلى دخول الجنة! أو، يمكن القول، إن أفيون الجنة (الأندلس) ما هو إلا حقنة التخدير في حالة قمع شعوب حلب (بصيغة الجمع) التي هي الشعوب العربية، حيث سيقف الشاعر/العاشق فيها، من موقف الرافع لذات الشعار، ولكن بصيغته الثورية، في مواجهة الحاوي الدجال والمغتصب. هذا ((التكيس)) القصيدي يمكن التعرف عليه بسهولة في الخطاب، ويمكن بالتالي اجتثاثه، في النص وفي الواقع، فالتلوث بالنسبة لنا –على عكس جينيت- له قيمة النقاء إذا كانت الضرورة الشعرية والمعرفية من وراء ذلك.
الحركة الثانية إنشاد بيروت
بنية الزمان بنية المكان نريد أن نلاحظ أولاً وقبل كل شيء أننا لن ندرس القصيدة، تحت هذا الفصل، كنظام زماني ومكاني حسب فرديناند دوسوسير أو غيره من أقطاب الشكلانية، وإنما سندرس الزمان والمكان كانعكاس اتحادي لبنيتين ماديتين فيها مع بقاء الزمان زمانًا لعملية القول، للكتابة كما يقول تودوروف، والمكان مكانًا للمقول. وعلى هذا الأساس نقول إن الزمان في حركة القصيدة الثانية عبارة عن لحظات متفككة (ولا نقول متواردة) مرتهنة (ولا نقول مرتبطة) بالمكان بيروت موضوع الإنشاد: بيروت/ فجرًا، بيروت/ ظهرًا، بيروت/ عصرًا، بيروت/ ليلاً... إلخ، وفى كلِّ بنيةِ لحظةٍ زمنيةٍ واحدةٍ لدينا أوصاف لبنية المكان الكلي من خلال فعل أو حالة أو موقف، وليس لبنية الزمان الكلي من أوصاف غير أنه (( عادي ))، حسب هذه الاستعارة الدالة: (( عادية ساعتنا )) (ص 32)، وأنه للمكان المتحول دعاء دائم: (( يا فجر بيروت الطويلا- عجل قليلا )). الزمان، إذن، عبارة عن مسافة فاصلة بين حدثين: حدث الحصار وحدث فك الحصار، وهذه هي صفة للوحدة المكزمانية حيث الزمان فيها طويل لسكونيته، وما يتطور فيه هو المكان الذي لا يتوقف لحظة واحدة عن حركيته. زمان الحصار ساكن، والمكان فيه/خلاله متحرك: يتحرك داخله ((داخل الحصار))، أو خارجه (( خارج الحصار )). من داخله إلى خارجه: ((يطيّر جارنا رف الحمام إلى الدخان)) (ص32)، أو من خارجه إلى داخله: ((يطلق البحر الرصاص على النوافذ)) (ص32). هذا، وإن بدأ الزمان لا تاريخيّاً، زمانًا (( توقيتيّاً )) (فجرًا- ظهرًا- عصرًا... إلخ)، فإن المكان تاريخى: بيروت مركز الإنشاد، ومثل القدس مركزالعالم. وهى تتشكل في نوعين: المكان- الجسد (يطيّر جارنا...)، والمكان- الشىء (يطلق البحر...)، وفى كلا النوعين المكان في القصيدة تخيلي. إلى جانب أنه مرتهن، كبنية متحركة، بعملية (( التحديق )) التي يمارسها الشاعر فيه (في المكان) وإليه (إلى المكان) دون أن يعني ذلك أن الشاعر (( يحركه )) مثاليّاً حسب إرادته، فالشاعر (( بطل )) عادي في بنية مكانية متحركة، وليس في بنية مكانية محركة. وعملية التحديق يواجهها ((الرادار))، الإحساس الذي هو بمثابة عنصر محرك/ متحرك في بنية الوعي، يجري بوصفه كليّاً -حسب لينين- بشرط أن يعكس الواقع الموضوعي خارج الإنسان. وهو في حركته من داخل جسم الشاعر إلى خارجه ينهج نهج أنماط المكان من داخل (( جسم )) الحصار إلى خارجه: إنها حركة فك الحصار ذاتها.
الصورة الأولى: بيروت/ فجرًا
المكان- الجسد المكان- الجسد مرتبط بزمن بيروت فجرًا، وإن بدا خارجًا عنه. فالزمن دائم يمارس بدوامه عنفًا على الجسد يجعله يمارس، بدوره، رد فعل أيّاً كان ((للتحرر)) من وطأته، فإذا به يعبث أو يقامر بروحه، ويأتي رد فعله الفعلي مأسويّاً. ولنعط بعض الأمثلة الدالة: (( يطيّر جارنا رف الحمام إلى الدخان )) (ص 32)- (( يموت من لا يستطيع الركض في الطرقات )) (ص32)- (( أهدي إلى جاري الجريدة كي يفتش عن أقاربه. وأعزيه غدًا )) (ص32). فعل الجسد الأول (يطيّر الحمام إلى الدخان) هو عبثي، لعبة طفل خطرة، أو -لم لا؟- لعبة رجل ساذجة. وفعل الجسد الثاني (يموت من لا يستطيع الركض) يمكن أن يكون عبثيّاً، ويمكن أن يكون رهانًا، أو بكل بساطة، عجزًا ذاتيّاً، وفي كل الأحوال، يقامر، ولا نقول يغامر، الإنسان بروحه. وفعل الجسد الثالث (يهدي الشاعر الجريدة إلى جاره ليفتش عن أقاربه الذين ماتوا حتمًا فهو سيعزيه في الغد) الفعل الأكثر مأسوية، الأكثر تهكمية، إنه يختصر العبث والمقامرة بالروح، وهو، في الوقت ذاته، (( لفتة إنسانية )). الجسد، في الأفعال الثلاثة، مكان منكسر، لكنه غير مندفن، أي أنه يتحرك في (( الدخان )) وفى (( الطرقات )) وبين (( سطور الجريدة ))، وإن كان ميتًا. وهو صورة فاعل الفعل (الجار الذي يطيّر الحمام، والجار الذي يقرأ الجريدة، وذاك الذي لا يستطيع الركض في الطرقات)، بمعنى أن لدينا، هنا، الجسد/ المكان قبل وبعد انكساره، والصلة بينهما في الحالتين، لا تنقطع، وإلا ما انبنت الملهاة- المأساة. ونستعمل مصطلح (( انبنت )) عمدًا، لأنها، هنا، عبارة عن تشكيل للمكان الإنساني المتمثل بالجسد وفعله. لنلاحظ، في الأمثلة السابقة، أن المكان-الجسد قائم في داخل الحصار، وهو يتجه -لتأكيد ما قلناه سابقًا- إلى الخارج: الحمام إلى الدخان، الركض في الطرقات إلى هدف ما: ملجأ أو شظية ضالة، الموت في الجريدة اليوم إلى تعزية الغد. ويتنوع المكان-الجسد، دومًا في مواجهة دوام الزمان، من حالة العبث والموت، أو، ما يمكن أن نسميها بحالة عدم الفهم، إلى حالة الجدوى والبقاء، أو، ما يمكن أن نسميها بحالة الفهم. ولنعطِ بعض الأمثلة: (( قلبى قطعة من برتقال يابس )) (ص 32)- (( أمشي لأبحث عن كنوز الماء في قبو البناية )) (ص32)- (( أشتهي جسدًا يضىء البار والغابات )) (ص 32). حالة الجدوى متمثلة بالوقوف على واقع الحال: القلب قطعة برتقال يابس! واقع حال بائس، بالطبع، ولكن الموقف منه واع. فالشاعر يذهب من أجل البحث عن الماء كي يروى قلبه، وفى هذا الفعل جدوى ولَّدتها محاولة البقاء -ولا نقل التشبث بالبقاء- فالموت أو الحياة نعم سيان في لحظة زمن ثابت الدوام، ولكن دون عبث، لأن البحث عن الماء -الذي هو بمثابة كنز لندرته أو لعدم وجوده- سيحول دون الموت إذا ما انوجد، وإلا فمرحبًا بالموت! حالة الموت، هنا، هي من حالة ضد- الموت، وحالة العبث هنا -إذا ما اعتبر ذلك عبثًا- هي من حالة ضد- العبث. وما يدلل على استخلاصنا هذا الأفعال: أمشى- أبحث- أشتهى- أفعال تعبر عن إرادة حالة الفهم. وعلى الخصوص، اشتهاء جسد يضىء البار والغابات. فالفعل (( يضىء )) يشير إلى حالة ضد- العبث، ضد- اللهو (البار)، والعودة إلى الطبيعة الأولى (الغابات). حتى أن هذه العودة إلى الطبيعة الأولى، في زمن الحصار، هي عودة الجسد إلى أصوله، أي، بعيدًا عن مكان الحرب والموت والاقتتال، وما يدلل على هذه العودة إلى الأصول الإنسانية الأولى طلب الشاعر إلى عشيقته: (( يا )) جيم (( اقتليني واقتليني واقتليني! )) (ص32) القتل -خلال عملية العشق المبطنة في الصورة- هو ضد- القتل، هو الجدوى، هو ضد- الموت، هو البقاء. أما مخاطبة الحبيبة بحرفها الأول (( جيم ))، فهذا يعنى أنها بالفعل موجودة -أو كانت موجودة- امرأة من لحم ودم، وليست رمزًا باليًا لبيروت -مثلما ذكرنا مرة- وعلاقة الشاعر بها علاقته بالإنسانية: (( المكان- الجسد )) وقد اختزله الشاعر شعرًا إلى حرف دلالي: جنة- جمال- جهنم- جنس- جوهر- جنون- جوكوندا- جمانة... إلخ. دون أن يمنع ذلك من أن تكون بيروت مركزًا للإنشاد، بل على العكس، عن طريق (( جيم )) التي هي أحد الأمكنة المشخصة لبيروت، تأخذ بيروت حين إنشاد الشاعر لها طريقها إلى المركز. ومن حالة العبث وحالة الجدوى ننتقل -من خلال علاقة الشاعر بـ((جيم))- إلى حالة التحول المتولدة عن الحالتين السابقتين، إنه تحول في العبث وفى الجدوى عن طريق الجنس (أشتهي جسدًا يضىء). هذه الاستعارة الدالة على التحول (الإضاءة) قدمت إليه في لحظة من ضد- العبث (البحث عن الماء)، ومع الجدوى (اقتليني بمعنى لديني). لنرَ حالة التحول في لحظتي العبث وفى الجدوى: (( عادية ساعتنا- عادية- لولا صهيل الجنس في ساقيك يا (جيم) الجنون- )) (ص 32) صهيل الجنس والجنون لحظة من لحظات العبث، ولكنهما، في الوقت ذاته، لحظة جدوى، فبفضلهما تحول الجسد وتحول الزمان: ساعتنا عادية لولا صهيل... إلخ. ليس بالطبع، القضيب السحري للجنس هو الذي حوّل الزمان من ساكن إلى متحرك، بل الحاجة إلى جنس إنساني، الحاجة إلى الجنون في ساقي امرأة حقيقية، الحاجة إلى جسد يحول، ويحفظ انطلاقًا من (( الأيروس )) أو حفظ الحياة حسب فرويد( )، فدهشة الشاعر أنه لم يزل حيّاً تعبر عن ذلك: ((جيم )) (( اجمعيني مرة- ما زلت حيّاً- ألف شكر للمصادفة السعيدة )) (ص32) المصادفة السعيدة لأنه لم يمت من قصف الأعداء، ولكن ليبقى لعناق الحبيبة. إنه تحول الجسد إلى الجسد- تحول الجسد للجسد- تحول الجسد في الجسد، وفى هذه الحالة الأخيرة يشكل الزمان أحد الجسدين أو كليهما. سنبقى دومًا مع المكان- الجسد، ولكن هذه المرة، من خارج الحصار إلى داخله: (( يبذل الرؤساء جهدًا عند أمريكا لتفرج عن مياه الشرب- كيف سنغسل الموتى؟ )) (ص32) واضح من فعل الرؤساء لدى أمريكا لتفرج عن الماء دور الوساطة، ولكن الجدوى هنا من عبث: غسل الموتى! والشاعر يتساءل عن مدى استجابة أمريكا للوساطة، هو يشك في الاستجابة، أي أنه يعمق من يعبث الوساطة، ويعمق من عبث الحالة عندما يواصل على لسان صاحبه: (( وإذا استجابت للضغوط فهل سيسفر موتنا عن:- دولة أم خيمة؟- )) (ص32) وفى هذه الأبيات دلالات عديدة: الرؤساء هم الموتى عند أمريكا- غسل الموتى بأمر أمريكا لن يمنع الأحياء من الموت- إذا مات الأحياء فالمكافأة للأموات ربما دولة أو خيمة- سيموت الأحياء، إذن لا فائدة من المكافأة! الجسد- الميت هنا مكان متعدد كتنين يقتل أحد رؤوسه السبعة بذيله! إنه ممتد من خارجه إلى داخله دون أسوار (دون حصار) في حالة الموت. وحالة الموت ذات صورتين للأحياء-الأموات في الخارج (الرؤساء كانوا أو سيكونون) وللأموات-الأحياء في الداخل (الضحايا كانوا أو سيكونون). لقد انتفت الجدوى في العبث، وحلت اللعنة: (( ويسأل صاحبي: وإذا استجابت أمريكا للضغوط فهل سيسفر موتنا عن: دولة- أم خيمة؟- قلت: انتظر! لا فرق بين الرايتين- قلت: انتظر حتى تصب الطائرات جحيمها! )) (ص 32) المكان- الجحيم ينفي المكان- الجسد، ويثبت المكان- الشيء، فما هي خصائصه؟
المكان- الشيء تتفرع بنية المكان- الشيء إلى نوعين الشيء- الحي، والشيء- الشيء، في النوع الأول هو نقيض الجسد- الحي، وفى النوع الثاني هو وسيلة إثبات أو نفي للشيء- الحي والجسد- الحي على حد سواء. لندرس ذلك بواسطة بعض الأبيات التمثيلية: (( يطلق البحر الرصاص على النوافذ )) (ص32)، ((يفتح العصفور أغنية مبكرة )) (ص32)، (( يدخل الطيران أفكاري ويقصفها)) (ص32). في البيت الأول البحر يطلق الرصاص على النوافذ، بغض النظر عن التورية الرامية إلى قول إن الاسطول الإسرائيلي الذي في البحر هو الذي يطلق... إلخ. إذن، كان توظيف البحر في النص له مكانة الفاعل، الشيء- الحي. وفى البيت الثالث الطيران يدخل أفكار الشاعر ويقصفها، وبالطبع، هذا غير صحيح دون دلالة، المهم أن توظيف الطائرات في النص له مكانة الفاعل، الشيء- الحي. مع ملاحظة أن الشاعر قد لجأ، في البيت الأول، إلى صورة البحر للتعبير عن الأسطول المدمر، أي إلى صورة رمزية، بينما، لدينا، في البيت الثاني، صورة مباشرة للأداة المدمرة التي هي الطائرات. وهذا هو الفرق بين المكان الذي على مرمى اليد، أو، بالأحرى، في اليد (المدمرات الجوية)، والمكان البعيد عن مرمى اليد (المدمرات البحرية). الطائرات مرئية، إذن، فهي مباشرة. والبوارج غير مرئية، إذن، فهي غير مباشرة. وربما، من ناحية أخرى، لأن الطائرات أكثر حسمًا وأضخم جسامة وأفدح خسارة، لم يكن لها التشبيه بالعصافير التي تظهر، في البيت الثاني، كالطائرات، مباشرة، دون استعارة. فهي في سلامها نقيض للطائرات في حربها، ولا ننس أن كلا النوعين (( طائر )). ولشدة ما يذهب العصفور في نقض الطائرة: (( يفتح أغنية مبكرة )) بقدر ما يذهب في براءته وسذاجته. إن سلام الأول (أو استسلامه) وحرب الثاني (أو ضراوته) لهما مستوى مكاني واحد في المعنى النصي: (( يدخل الطيران أفكاري ويقصفها..- فيقتل تسع عشرة طفلة- يتوقف العصفور عن إنشاده )) (ص32). لقد انتهت (( مهمة )) الطائرين: العصفور والطائرة، بعد أن زرعا المأساة في المكان- الجسد- الإنساني: تسع عشرة طفلة قتيلة. إذن، المكان- الشيء- الحي هدفه المكان- الجسد- الإنساني ليعمق من مأساته. حتى وإن لجأ إلى وسيلة المكان- الشىء- الشىء: الرصاص أو الأغنية، فلتدمير العالم الإنساني: النوافذ ( )، أفكار الشاعر، صمت الأغاني. الرصاص ينفي الأغنية، ويثبت قدرة المدمرات، والرصاص، في اتجاه آخر، ينفي تسع عشرة طفلة، ويثبت أفكار الشاعر. ومن ناحية أخرى، بإمكان الرصاص أن يثبت مكانًا مفتوحًا، ألا وهو الموت، في البيت التالي: (( والموت يأتينا بكل سلاحه الجويّ والبريّ والبحريّ )) (ص 32). ويثبت في آن واحد مكانًا منغلقًا، ألا وهو عدم تجاوز الحصار، في البيت التالي: ((ألف قذيفة أخرى ولا يتقدم الأعداء شبرًا واحد)) (ص22)، وفى هذا الإثبات الأخير نفي المكان- الشىء- الحي (الرصاص) للمكان- الجسد- الحي (الأعداء) . ونريد أن نشير أيضًا، في مسألة المكان- الشيء، أنه حقيقي: رصاص، نوافذ، طرقات، برتقال، الجريدة... أو أنه تخيلي: يطلق البحر، قلبي قطعة من برتقال، يدخل الطيران أفكاري. وهو عندما يكون مكانًا حقيقيّاً يكون ملحقًا (مفعول به أو مفعول لأجله أو مجرور أو مضاف إليه) بالمكان الخيالي، ومتوقف الدلالات عليه، إلا في حالة واحدة: أمريكا، وهذا يدل، بعمق، على الدور الأساسي الذي تلعبه في الحصار.
الصورة الثانية: بيروت/ ظهرًا
المكان الحقيقي والمكان الخيالي يبدو من التوقيت: بيروت/ ظهرًا أن الوقت قد آن لكشف الحقيقة، فالشمس ظهرًا تكون في سمت السماء، أي في الجهة (( المثلى )) لتمثل المكان، لكن الوقت ظهرًا والفجر لم يزل في الظهر مستمرًا: (( يستمر الفجر منذ الفجر )) (ص33)، الوقت ظهرًا/ فجرًا/ منطبقًا/ معنويّاً، فالظهر- سيبقى ظهرًا، أي لحظة مستقلة، والفجر سيبقى فجرًا، أي لحظة مستقلة. واللحظتان معنويّاً هما لحظة واحدة، أو أنهما (( تأخر )) الواحدة في الأخرى، فالشاعر ينهي الصورة الأولى لبيروت/ فجرًا بهذه الكلمات: (يا فجر بيروت الطويلا – عجل قليلا – عجل لأعرف جيدًا: إن كنت حيّاً أم قتيلا) (ص 32-33 )، ويبدأ الصورة الثانية لبيروت ظهرًا بهذه الكلمات: (( يستمر الفجر منذ الفجر )) (33)، وهذا تدليل على ما استخلصناه في مسألة دوام الزمان أو (( تأخره ))، فاستمرار الفجر إلى الظهيرة هو تقدم إلى الوراء! ومن هذا التدليل على أن الشاعر لا يزال لا يعرف وضعه كمكان- حي، أم كمكان- ميت إذا ما أمعن النظر إلى نفسه في مرآة الزمن/ الحصار كشىء موضوعي، أمّا وضعه الداخلي، الذي سنطلق عليه مصطلح المكان النفسي تحت فصل قادم، فيعرفه الشاعر؛ لأنه ينظر من مرآة ذاته إلى التي لا يملكها أحد سواه، إنه الشعور بذاتيته. إذن استمرار الفجر منذ الفجر حتى الظهر (في هذا النوع من الاستمرار ثبات للدوام) يعطى لبنية بيروت- المكان الحقيقي وتفاصيله بعدًا خياليّاً: ((تنكسر السماء على رغيف الخبز- ينكسر الهواء على رؤوس الناس... إلخ- ))، تنكسر فيه بنية بيروت- المكان الحقيقي دومًا والزمان يبقى صحيحًا: (( أما- الآن- فالأحوال هادئة تمامًا مثلما كانت )) (ص33) رغمًا عن هذه الصورة الناقضة (( وإن الموت يأتينا بكل سلاحه الجوىّ والبرىّ والبحرىّ )) (ص 33). إن الموت مكان مفتوح يلتهم كل شىء: (( مليون انفجار في المدينة)) (ص33)، يلتهم بيروت، فتقوم في جوفه مقام الاستعارة، أي خيالية، وهو وحده المكان الحقيقي وهذا يدلل- مرة أخرى- على ما قلناه، في الفصل السابق، من التحاق المكان الحقيقي بالمكان الخيالي إن لم يكن امحاؤه، ولقصد فني ألا وهو (( اقتناص)) هول الحصار في صورة صادقة الهول: ((هيروشيما))! (ص 33) أي الارتقاء إلى أعلى دومًا، إلى مكان (( غير بشري)) للتعبير عن مكان بشري. أو، بكلام آخر، البحث في المكان البشري عن مكان مغولي: هيروشيما دومًا! وهنا عودة، من جديد، إلى حالتي العبث والجدوى: (( وحدنا نصغي لما في الروح من عبث ومن جدوى )) (ص 33)، والإصغاء يشير إلى أن تلك العودة -في الدمار- تجري عن طريق الفهم.
المكان الحقيقي: أمريكا قلنا، في فصل سابق، إن أمريكا، كمكان حقيقي، تخرج عن الخيالي، بل، وتؤثر فيه. واستنتجنا أن ذلك من فعل الدور الأساسي لها في حصار بيروت: (( وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفلة لعبة للموت عنقودية )) (ص 33). واضح من هذه الاستعارة الدالة على القنابل العنقودية الجهنمية الملقاة على بيروت -من صنع أمريكا- دور الموت الذي تمارسه أمريكا. ولكن الشاعر، عند عجزه أمام أمريكا، ((فهو الطفل الذي تهديه أمريكا لعبة الموت))، يدخل في تفاصيل أمريكا- المكان، لا ليفضح -وإن كان هذا هدفًا بين أهداف- وإنما ليقلل من أهمية الدور الذي تلعبه أمريكا، وليرفع من معنويات المقاتل: (( يا هيروشيما العاشق العربي أمريكا هي الطاعون، والطاعون، والطاعون أمريكا )) (ص33). وليقلل الشاعر، من ناحية أخرى، من الأهمية التي يعطيها المقاتل لهذا الدور يضيف: (( نعسنا (وفى النعاس تعب ولكن أيضًا عدم اهتمام)- أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا لأمريكا )) (ص33). وفي هذه العبارة الأخيرة محو كامل لنجاح دور أمريكا، وسوف يقتحم الشاعر أمريكا، المكان- الحقيقي، وكأنه قد فك عنه حصارها: ((لأمريكا سنحفر ظلنا)) (ص33)- صحيح سيكون ذلك في المستقبل- ولكن على المستوى المعنوي- على الأقل- قد حل في أمريكا- المكان الحقيقي، وهذا هو المستوى ما- قبل الخيالي، فهو يقول سنحفر (( ظلنا ))، الظل وليس الجسد، الظل وليس الأرض. صحيح في حفر الظل انتفاء للموت الذي سيدفن فيه عدوه الألد، أي دفن المكان الحقيقي في الخيالي، ليتوقف، بعد ذلك، المكان الحقيقي -كما كان في سابق عهده- على المكان الخيالي: ((لأمريكا سنحفر ظلنا، ونشخ مزيكا )) (ص 33). وبهذا تحقق للشاعر غرضه الفني، أمريكا، بالنسبة لمقتل بيروت، باتت مكانًا خياليّاً، ولأهلها -إذ هي ستبقى موجودة خارج الخريطة والحصار- مكانًا حقيقيّاً: (( وأمريكا لأمريكا )) (ص33)، ولكن هذا من شأن أهلها. بعد ذلك، يقدم الشاعر تفاصيل مكانية لبنية بيروت، ويعيد من بعض حالات وقفنا عليها ينهيها -كما أنهاها في صورة بيروت الأولى- بسكونية الزمان أمام حركية المكان: (( ويا يوم بيروت المكسر في الظهيرة- عجل قليلا- عجل لنعرف أين صرختنا الأخيرة)) (ص34). هل صارت الصرخة في المكان أصداء أم أنها ستصير؟ وأين هي بين أصداء القتال؟ إن الوقوف عليها، كفضاء، ضروري لتحديد (لتحرير) الوجود، وكل شيء مرتهن بزمان بيروت البطيء.
الصورة الثالثة: بيروت/ عصرًا
المكان العمودي سكون الزمن أو بطؤه إشارة لليأس، وفي بنية بيروت المحاصرة، ينضاف الضجر والعرق والكلل وانتشار ظلال الجثث: (( تكثر الحشرات- تزداد الرطوبة- ترتخي العضلات )) (ص 34). إنه شكل شاقولي للمكان، يعبر عن وقفة الإنسان فيه: (( نشعر أن للأرض احتقانًا في مفاصلنا )) (ص34)، ووقفة البطل في الإنسان: (( فنصرخ أيُّها البطل انكسر فينا! )) (ص 34)، والانكسار لا يعني أنه سيشمل الشكل الشاقولي للمكان العمودي الخارجي المتمثل في بنية بيروت المحاصرة، إنه انكسار للمكان النفسي يعبر عن (( ارتياح )) نسبي، ولو أن فيه خسارة للبطل. فالبطولة لن ترحل عن بيروت، هي صفة كيفية من صفاتها كمكان، ليست بائنة، أو هي خائنة، في هذه اللحظة المفككة من الزمن: العصر، هذه اللحظة ليست لحظتها، ولا هي صفة لها، فالبطولة تبقى صفة مكانية، أو، هي، بالأحرى، وضعية عمودية، في بعض الأحوال، أي، على علاقة مباشرة بالبطل، أو، وضعية أفقية، في أحوال أخرى، أي، على علاقة غير مباشرة بالجماعة. في الوضعية الأولى هي مأسوية، وفى الوضعية الثانية هي ملحمية.
الصورة الرابعة: مساءً/ فوق بيروت
المكان الأفقي المكان الأفقي واضح من العنوان (( فوق بيروت ))، والزمان هو مساء، وهو زمان أفقي أيضًا بين أول الليل وآخر النهار، مقدم على أساس أنه ضد – البطولة. فالجماعة مغيبة، والشاعر/ البطل وحده يتابع نزيف الظلام منذبحًا: (( الرخام- ينز دمًا، ويذبحني الحمام- إلى من أرفع الكلمات سقفًا وهذي الأرض يحملها الغمام؟ )) (ص34). لا يوجد إلى من يرفع كلماته باستعارة دالة: أن يرفع كلماته سقفًا، صورة للمكان الأفقي المستطاع أمام هجمة المساء الرخامي الدامي المكان الأفقي اللامستطاع، ولكنه الحقيقي. فالأرض (برمزها للبشر) محمولة في الغمام، ولا سبيل إليها. ومثلما رأينا في ثبات دوام الزمن إشارة لليأس، نرى هنا -ومن النادر هذا في حركة المكان- إشارة لليأس أيضًا: (( ويرحل، حين يرحل، نحو تيهي )) (ص34). وأقصى درجات اليأس تتمثل في هذه الاستعارة الدالة: (( أحدق في المسدس وهو ملقى- على طرف السرير- وأشتهيه- )) (ص34) هناك في النص نوع من (( التأفقية ))، أي، غلبة الخطوط الأفقية: مساء/ فوق/ بيروت/ غمام/ سقف/ مسدس/ سرير/ وهذه كلها أشكال منبسطة تتراكب على بعضها البعض كالخطوط ولا تنتشر كالنجوم، وهى ليست متقاطعة، فهى لن تتقاطع إلا في الفضاء النفسي، مثلما سنرى، وستسقط جميعًا في ظلامه: (( ظلام كل ما فينا.. ظلام )) (ص34).
الزمان الداخلي والمكان الخارجي نريد أن نؤكد أن الليل البيروتي مقدم أيضًا كلحظة واحدة طويلة دائمة، فالزمان الخارجي بقيت له سكونيته المعهودة، وستجرى عملية التحديق إليه من زاويا صور متعددة، أي، ليس هناك توارد مفترض للزمان الخارجي -بسبب صوره المتعددة الخادعة- هناك توارد في التحديق إلى المكان الخارجي ينعكس في توارد الزمان الداخلي للشاعر الذي لا يتحقق إلا بارتباطه بالمكان الخارجي، وعن هذا الطريق، ترتبط بالفعل في سلسلة نظمية تشكلت من إحدى عشرة صورة لبيروت/ ليلاً.
بيروت/ ليلاً: صورة أولى إحلال الظلام في بيروت لم يكن عاملاً لإحلال الظلام في نفس الشاعر، فهو، في المقطوعة السابقة، يبرز العكس: (( ظلام كل ما فينا.. ظلام )) (ص34)، بمعنى أن ظلام بيروت من ظلام النفس الذي لا ظلام أشد منه: ((ظلام أشد من هذا الظلام)) (ص35)، أي أن الظلام الخارجي، مهما اشتد، سيبقى مجتاحًا بالظلام الداخلي الأشد، وفى العملية تجاوز للزمان من ناحيته كزمان، ومن ناحيته كتزامن. أما الاستعارة الثانية الدالة للزمان الداخلي للشاعر، فهى: ((يضيئنى قتلي)) (ص 35)، وفيها معنى مركب، بل معان: القتل صفة نقيضة للظلام، فالقتل -قتل الشاعر- هو الضوء. الشاعر يقتل بالضوء، ويحيا بالظلام. الظلام حاجة، وبالتالي، فالظلام صفة نقيضة للقتل الذي يضىء، وهو، في الوقت ذاته، صفة مماثلة للقتل الذي لا يضىء. أي أن الظلام حامل لصفتين، إحداهما تقتل وأخرى تمنع القتل. القاتلة تضىء والمانعة للقتل تطفىء. القاتلة، حتى وإن أضاءت، هي قاتلة. والمانعة للقتل، المظلمة، تُبقى على الحياة. فى الحالة الأولى تتجلى العلاقة مباشرة بالخارج، وفى الثانية العلاقة مباشرة بالداخل. في الحالة الأولى إدراك حسي للعالم الخارجي، وفى الثانية إدراك غريزي للعالم الداخلي، ومن تداخل الإدراكين سينشأ صراع داخلي ((خاص)) لا علاقة له بما يجري في الحصار من صراع، ولكنه سيشكل حافزًا للبحث عن أشكاله الموضوعية، قصد الدفاع عن الذات، حين يمارس عليها الإفناء: (( أمن حجر يقدون النعاس؟- أمن مزامير يصكون السلاح؟- )) (ص 35). إنهم يقدون النعاس من حجر، ويصكون السلاح من مزامير (التوراة أو الآلة الموسيقية): الزمان الداخلي المعبر عنه بعدم القدرة على النوم (النعاس من حجر) وعدم القدرة على الحياة (السلاح الحقيقي- الزائف) أي الصورة الذاتية فيها غريزة التدمير: ((يضيئني قتلي)) (ص 35)، في حالة كمود مؤقت ربما، ومنها غريزة التدمير: (( ضحية- قتلت- ضحيتها- وكانت لى هويتها- )) (ص35) في حالة انطلاق مؤقت أيضًا ربما، وفى هذه الحالة تتجلى الصورة الموضوعية للآخر، التي هي صورة للصورة الذاتية في مسألة الصراع الفلسطيني- اليهودي (نستعمل المصطلح بدلالاته الأسطورية). لكن الشاعر يقوم بالوساطة بين زمانه الداخلي وزمان الآخر (اليهودي) الداخلي عن طريق تمثله بوسيط يهودي، ألا وهو النبي (( إشعياء )). أي أنه وإشعياء بنية واحدة لوسيط واحد، بنية لنفس ترى نفسها في مرآة بيروت/ الحصار/ الليل/ الخارج، والإ بقي الأمر محاصرًا في الزمان النفسي دون خروج وظيفى إلى ادراك فعل الحصار في (( الآن الحاضر )) للشاعر، وليس في (( الآن الماضي )) القديم لإشعياء (( أنادى إشعيا: أخرج من الكتب القديمة مثلما خرجوا- أزقة أورشليم تعلق- اللحم الفلسطيني فوق مطالع العهد القديم- وتدعي أن الضحية لم تغير جلدها- )) (ص 35). خروج إشعياء من التاريخ اليهودي مثلما خرج اليهود من تاريخهم، والمعنى المتعلق بهؤلاء الأخيرين سلبي، بالطبع، لأنهم سيلوثون التوراة بالدم الفلسطيني مثلما لوثوها بدماء الأنبياء، من دم هابيل إلى دم زكريا (يعيد درويش هنا بكل سذاجة ما يجتره الفكر السائد!). أما المعنى المتعلق بإشعياء، فإيجابي، لأنه سيرى بني جلدته وسيشهد -وهو الحكيم الذي مات شاهدًا وشهيدًا- كيف دخلوا، وعلى أسنة رماحهم الفلسطينيون، إلى أورشليم، وكأنهم سنحاريب الذي قاومه إشعياء: صورة نفسية للشاعر وإشعياء، للفلسطيني واليهودي، في المكان النفسي لأنه ليس بيروت، وليس (( القدس )). أما الأهم، فهو نقض الصورة الذاتية لصورتها الموضوعية عندما تدعى الضحية أنها لم تغير جلدها. الضحية اليهودية هنا ليست الضحية الفلسطينية التي هي ضحيتها. لقد تحدد من هو المعتدي ومن هو الضحية، إنه الانفصام عن المعتدي فلسطينيّاً، والتوحد بالضحية يهوديّاً. تلك الضحية المنظور إليها من طرف اليهودي على أساس أنها المعتدى عليها دومًا، فيصبح التوحد بالضحية يهوديّاً توحدًا بالمعتدي لا ليسيطر على الضحية فقط بل وليسيطر على مخاوفه الذاتية، فيطمئن -أو هو يحاول- داخليّاً، ويصير المكان الخارجي له فتحًا مشروعًا (تبرير عملية اغتصاب فلسطين وباقي الأراضي العربية الأخرى). لهذا السبب، يطالب الشاعر الذي هو إشعياء الحكيم دومًا: (( يا إشعيا.. لا ترث- بل أهج المدينة كي أحبك مرتين- وأعلن التقوى- وأغفر لليهودي الصبي بكاءه- )) (ص 35). المعروف عن إشعياء أنه تنبأ بمولد المسيح وآلامه، فتتوقف تقوى الشاعر وغفرانه على نبوءة أخرى تأخذ شكل الهجاء لأورشليم العاصية، فأهلها الذين سببوا الآلآم للفلسطينيين سبب بكاء بنيها. ويبقى الشاعر مطاردًا بصراعاته الداخلية التي هي جزء من صراعات المكان الخارجي المادي، ولكن في النص الخيالي: (( اختلطت شخوص المسرح الدموي:- لا قاضٍ سوى القتلى- وكف القاتل امتزجت بأقوال الشهود- وأدخل القتلى إلى ملكوت قاتلهم- وتمت رشوة القاضي، فأعطى وجهه للقاتل الباكي على شىء يحيرنا..- سرقتَ دموعنا يا ذئب- تقتلنى وتدخل جثتي وتبيعها! )) (ص 35). هي صورة لمحاكمة المسيح، وفى الوقت ذاته، صورة كاريكاتورية حقيقية للمحاكم الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وهى صورة صارت (( كلاسيكية )) في القصيدة والواقع الفلسطينيين، ليست مبتكرة هنا إلا من ناحية علاقتها بإشعياء، فهو الشاعر (الفلسطيني الضحية الحقيقية) ونقيض نفسه (اليهودي الضحية الزائفة). وكأن محمود درويش يريد أن يقول لصورته النفسية الأولى: ليس العالم الآخر هو الإقامة البائسة، وإنما هو هذا العالم البائس. وكأن محمود درويش يريد أن يقول لصورته النفسية الثانية ( ): إنه الشكل القومى الضيق للعبادة (المحاكمة)، وفى الوحدانية (الشعرية) حقّاً عقيدة الإخلاصيين وحين (( العودة )) لن يقف ماحي الذنوب إلى جانبهم رغم الكفارة، لأنه إن لم يكن معنا، فسيبقى حياديّاً. لهذا السبب، تفرض المواجهة نفسها: (( أخرج قليلاً من دمي حتى يراك الليل أكثر حلكة )) (ص 35)، ففى المواجهة ستنجلي الحقيقة، وعلى أساسها سيتضح العالم الداخلي ((للذاتين))، وإن كانت إحداهما أكثر حلكة من الليل: ((واخرج لكي نمشى لمائدة التفاوض، واضحين،- كما الحقيقة: قاتلاً يدلي بسكين- وقتلى- يدلون بالأسماء:- صبرا- كفر قاسم- دير ياسين- شاتيلا )) (ص 35- 36). إذن، تنكشف الحقيقة في انكشاف الهوية على مائدة (( التفاوض ))، أي، من خلال عملية تأنيس للذئب في دم الإنسان، وعودة الذات للذات (عودة إشعياء للشاعر) قبل العودة (( الأخيرة )) ( ).
بيروت/ ليلاً: صورة ثانية تخف وطأة الزمان الداخلي في علاقته بالمرأة التي تمثل المكان الخارجي في الصورة. إنها البنية الزمكانية الوحيدة الناقصة في صيرورة عدم الاكتمال. أي أنها علاقة تتشكل دون أن تتم أبدًا، ولا يريد لها الشاعر أن تتم، إلا هجمت عليه صراعاته النفسية السابقة، أو، وهذا احتمال يطرحه الشاعر بنفسه في آخر الصورة، هجم عليه الموت العادى غير المحتمل. ويجرى التعبير عن البنية الزمكانية الناقصة بصور تستهلها (( لا )) الناهية: لا تنامي كل هذا الليل- لا تتحدثي عما يدور وراء هذا الباب- لا ترمي ثيابك- لا تعريني تمامًا- لا تقولي الحب- لا تعطي سوى فخذيك- لا تتأوهي فالحرب تسمع زهرة الجسدين. إنه ابتهال أيضًا، وتخوف، وتلهف، لئلا ترتسم الصورة الكاملة. أما إذا ارتسمت، فتحققها لا بد أن يكون في النهاية المختلفة: لأني أرتديك على الشظية قرب باب البيت- نبقى واقفين، وواقفين إلى النهاية- وحتى في النهاية المختلفة، نهاية الموت غير العادى المحتمل: واصلي سرقات هذا الشهد- زجيني بشهوتك السريعة قبلما يأتي إلينا موتنا الخلفي- إنى أوثر الموت الذي يأتي كتفيّ.. نحلا! لكن نهاية الموت الناقصة لبنية العلاقة الزمكانية تبقى ناقصة، أي أن علاقة العاشق والمعشوق في الحصار هي علاقة ناقصة، لهذا هي قائمة، لهذا هي حقيقية، لهذا هي مستمرة. وسنرى في الصور التالية كيف يجري التعبير عن البنية الزمكانية (( الكاملة ))، وفى الحال نقول كاملة من خارج العلاقة عاشق ومعشوق، ولهذا هي كاملة، لهذا هي صارت غير حقيقية، لهذا هي صارت غير مستمرة.
بيروت/ ليلاً: الصورة الثالثة والصورة الرابعة البنية الزمكانية (( الكاملة )) في الصورة الثالثة من مكوناتها القمر والأطفال في لحظة من لحظات الحرب: مثل باذنجة..- قمر غبي مرّ فوق الحرب- لم يركب له الأطفال خيلا- صعود القمر في زمن السلم سيكون حتمًا احتفالاً للأطفال، ولكنه في الحرب غبي، مثل باذنجانة، والأطفال لا يركبون له الخيل. في الزمن القمري الأمر طبيعي، صعود القمر في وقته عبارة عن لحظة كاملة من لحظات الطبيعة. لا تأبه لتأثير زمن الحصار عليها، وكأنها خارج الحصار! ومن داخل الحصار، لا يفعل الشاعر سوى أن ينفيها مجازًا: لم يركب للقمر الأطفال خيلاً، هذا كل ما يستطيع عليه. والشىء ذاته فيما يخص الصورة الرابعة، أي نفى الصورة الكاملة للبنية الزمكانية مع اختلاف جذري حينما حل الفعل محل المجاز، والفاعل/ الشاعر محل الفاعل/ الأطفال، أي مع اختلاف كيفي: أمسك الآن الهواء الأسود الصخري- أكسره بأسناني. أعض عليه. أدميه. وأكاد أجن مما يجعل الساعات. . رملا- صحيح، ربما أوحى ذلك بالعودة إلى العالم النفسي للشاعر، وللعلاقة الانعكاسية الثنائية بينه والمكان الخارجي من خلال صراعاته الداخلية، ولكن المتمعن في النص سيكتشف أن الشاعر يقف خارج نفسه، إنه هو المكان الخارجي بالنسبة إلى زمن الحصار الرتيب (الساعات الرمل)، فيحاول أن يجد له مكانًا حقيقيّاً عند معاركته (( للهواء الأسود الصخري )) منافسه في الصورة الكاملة، لكنه يفشل -أو يكاد-: يكاد يجن مما يجعل الساعات رملا! ولنلاحظ، في الصورتين، أن الفاعل الحقيقي هو القمر والهواء، وكلاهما من عنصر مادي واحد، أو هما عنصران ثابتان في حالتى الحرب والحب، عنصران كاملان في حالتين لا يمكن أن تكتملا.
بيروت/ ليلاٌ: الصورة الخامسة والصورة السادسة وضعنا الصورتين الخامسة والسادسة تحت فصل واحد مثلما فعلنا بسابقتيهما للصفة الواحدة التي تربطهما، ونحن، هنا، باقون دومًا في الصورة (( الكاملة )) للبنية الزمكانية. ترتسم الصورة الخامسة بالكلمات التالية: قالت امرأة لجندى قبيح الوجه:- خذنى للركام وفضني- لأصير.. أحلى- للوهلة الأولى، يمكن أن يقال إن الصورة ناقصة (وفى هذا ديناميتها)، لأن العلاقة بين المرأة والجندي علاقة غريبة في وضع غريب وتحت شرط غريب أيضًا، وخاصة فيما يتعلق بالرغبة الأولى للمرأة. ونحن، سنقر بذلك، لولا أن العلاقة تتم في معسكر الأعداء (ما تشير إليه صفة الجندي القبيح الوجه- إضافة إلى مكان العلاقة: الركام). ومن ناحية ثانية، لا يوجد نفي في الصورة الكاملة، مثلما رأينا، في علاقة الشاعر بحبيبته، وإنما هي هنا (أي الحبيبة) شرط للعلاقة: لأصير أحلى! أمّا الصورة السادسة، فالشاعر الجميل الوجه يحل محل الجندي القبيح الوجه، ولا بد، بالتالى، أن تنكسر البنية الزمكانية السابقة: لم أجد فيك الخلية والجزيرة- أين مات الشعر!- أين استسلمت للزوج ليلى؟ وفى حالة الانكسار، يبحث الشاعر عن زمن جديد، وإذا ما (( تذكر )) أن لا زمن جديد إلا الحصار القديم، يؤرقه المكان: الخلية- الجزيرة- أين، ولكنه يبقى خارج زمنه النفسي، فهو يتساءل (( أين مات الشعر )) بعد أن أعطاه، أي من خارج المعاناة. وهو يتساءل (( أين استسلمت للزوج ليلى ))، أين استسلمت للزوج ليلى (( بعد أن فض بكارتها قيس))، أي من خارج الأسطورة. ولهذا السبب، سنجد انعدام الزمن النفسي في الصورتين المشتركتي الخطوط الآتيتين، وطغيان المكان الخارجي، وكأنهما صورتان فوتوغرافيتان له.
بيروت/ ليلاٌ: الصورة السابعة والصورة الثامنة ولكنهما صورتان من زاويتين مختلفتين، الزاوية الأولى يقف فيها الشاعر في اتجاه الجنود الإسرائيلين، فيرصدهم كظاهرة مادية متواجدة في المكان، والزاوية الثانية يرصد منها الشاعر الشهداء. وفى كلتا الصورتين لدينا بنية للمكان الخارجي -دون تواتر زماني مادي- كاملة. إنها الصورة المطلقة للعدو أولاً: يقصفون مقابر الشهداء، يدثرون بالفولاذ، يضطجعون مع فتياتهم، يتزوجون،- يطلقون، يسافرون، ويولدون، ويعملون، ويقطعون العمر في دبابة.. أهلاً وسهلا- صورة ميتافيزيقية تركت عليها الحرب -التي هي هنا المصير- بصماتها (( الفولاذية )) (يدثرون بالفولاذ، يقطعون العمر في دبَّابة). أما تحية الشاعر عند نهاية المقطع، ففيها التهكم طبعًا، وفيها إعلان عن مواجهة كل مجانين الحرب أو الذين جننتهم -بمعنى جعلتهم مولعين بها- ولكن أيضًا ذرف دمعة على ذلك الإنسان الذي لم يعد إنسانًا. وإنها الصورة المطلقة للشهداء ثانيًا: يخرج الشهداء من أشجارهم، يتفقدون صغارهم، يتجولون على السواحل- يرصدون الحلم والرؤيا، يغطون السماء بفائض الألوان، يفترشون موقعهم- يسمون الجزيرة، يغسلون الماء، ثم يطرزون حصارنا قططًا.. ونخلا- صورة ميتافيزيقية تركت عليها الحرب -التي هي هنا المصير أيضًا-بصماتها (( الإنسانية )) (يخرج الشهداء من أشجارهم، يرصدون الحلم والرؤيا). والجدير بالذكر هو الحركة التبادلية ما بين الظاهرتين: في الصورة الأولى يقصف الجنود الإسرائيليون مقابر الشهداء ليخرج الشهداء، في الصورة الثانية، من الأشجار. وهي حركة ممتدة في حركة، لأن المقاومة تشمل الشهداء: يطرزون حصارنا قططًا( ) ونخلاً! وهي حركة تحتوي حركة، وإن كانت نقيضها: حركة في مكانين، ومكانان في حركة، وليست دائرة. هناك فقط دورة للعمر في الصورة الأولى: يضطجعون مع فتياتهم- يسافرون- ويولدون، وهناك فقط دورة للحلم في الصورة الثانية: يرصدون الحلم- يغطَّون السماء- ويسمون الجزيرة، ولكنهما مكانان نفسيان غير واقعيين لا قيمة للأول فيهما، فالنتيجة هي أن يُقطع العمر في دبابة، وحتى لا قيمة للثاني فيهما، إنه حلم الشهيد الذي مات وليس الذي لم يمت.
بيروت/ ليلاً: الصورة التاسعة والصورة العاشرة نعود في الصورتين التاسعة والعاشرة إلى الزمان النفسي الذي سيطغى -مثلما سنرى- على المكان الحقيقي، وكأن (( التناوب )) ما بينهما مقصود من طرف الشاعر ومقصده (( الشمولية )) التي تقبل (( الاستثناء )) من منطلق ضدي للفيلسوف كانط حيث مصادر التجربة لدى محمود درويش يستقيها ليس من الوعي وإنما من العالم الخارجي الذي تشخصه بل تفرضه لحظة الليل البيروتية الغنية في وعي الشاعر. الصورة التاسعة مؤلفة من بنية بيتين دالين نفسيّاً: وحدنا، والله فينا، وحدنا الله فينا قد تجلى! ونبتعد أكثر عندما نقول إنه زمن صوفي لواقع موضوعي، فالاختلاف، أو ضد- الصوفية، أو الصوفية الواعية، يكمن في أن التجلي لا يجري في الخاص (الشاعر الإله) وإنما في التخصص (العاشق والمعشوق أو كل العشاق- كل المقاتلين). ويجسد الشاعر هذا التخصص في الصورة العاشرة: يمدح الشعراء قتلي في مجالسهم- ويرتعدون مني حين أطلع بينهم صوتًا وظلا- طبعًا، لنترك محمود درويش الشخص المقصود ضمنًا في النص، وهذا صحيح، ويا طالما وقفنا –مخطئين- بكل قوانا، دفاعًا عنه، وكأنه ذاتنا، فنحن بعد سنوات طويلة من كتابة هذه الدراسة، نعيد طباعتها اليوم دون إخضاعها لموقفنا الجديد منه، وخاصة بعد سلسلة مقالاتنا الشهيرة عن ((شعراء الانحطاط الجميل)) التي صدرت في حياته، والتي نزلت كالصاعقة عليه، فلم يتوان عن تهديدي كما فعل مع صاحب حنظلة من قبلي. لنترك الذاتاني جانبًا، ولنلاحظ ما أسميناه بالتخصص دون الخاص في علاقة الشاعر الشعرية مع الواقع المادي (حين أطلَعُ بينهم صوتًا وظلا) لا في علاقته الصوفية المثالية مع الإله عملاً بقول الحلاج المعروف (( ما في الجبة إلا الله)). ومحمود درويش يشير هنا إلى أن (( الماء )) ليس أبدًا (( من لون الإناء )) -قول صوفي آخر- إلا في علاقة تنكر وجود أي شيء خارج الوعي، ((فالمثاليون الذاتيون الذين ينكرون وجود أي شيء خارج الوعي يرون أن المكان والزمان موجودان في وعينا فقط )) ( ) أو هم يجعلون من تصوراتهم عن المكان والزمان إرهاصات ذاتانية مقطوعة عن العالم الخارجي( ). بيروت/ ليلاً: الصورة الحادية عشر والأخيرة هنا ندخل مباشرة وحدة الزمان الحقيقي والمكان الحقيقي، فهى نهاية الليل: آه، يا أفقًا تبدى- من حذاء مقاتل- لا تنغلق- لا تنغلق أبدًا- لئلا.. الأفق الذي تبدى ذو دلالة زمكانية حقيقية مزدوجة، ومطلب/أمر عدم الانغلاق، وكذلك التحذير/التهديد (لا تنغلق أبدًا- لئلا) فيه حركية النهار: قد بدأ- قد تحرك- يجب أن يبدأ- يجب أن يتحرك- ولو أن انتهاء الليل قد تأخر حتى لحظة بعيدة تجاوزت لحظة الفجر: بيروت/ظهرًا، وهذا هو عنوان الصورة التي ستأتي مباشرة بعد آخر صورة لليل. وبمعنى آخر، إن اليوم التالي في بيروت المحاصرة يبدأ ظهرًا وليس فجرًا، وهو يمكنه أن يبدأ في أي وقت، فليس من معنى للبداية هنا، أو أن معنى البداية من النهاية، من البداية، لا من فرق، ولا من معنى! يصبح زمن عملية القول هنا –كما يقول تودوروف- زمن الكتابة عنصرًا أدبيًا ابتداء من اللحظة التي أُدخل فيها في ((القصيدة)) (هو يقول الحكاية): الحالة التي يحدثنا الراوي/الشاعر فيها عن قصيدته، عن الوقت الذي كان له من أجل كتابتها أو من أجل إنشادها. وغالبًا ما يتجلى هذا النوع من الزمنية في القصيدة التي تقال كما هي في واقعها... والحالة المحدودة هي الحالة التي يكون فيها زمن عملية القول هو الزمنية الوحيدة الحاضرة في القصيدة: قصيدة تدور حول نفسها كليًا، قصيدة شعر (هو يقول حكاية سرد). أما زمن الإدراك، زمن القراءة، فهو زمن يسير في اتجاه واحد يحدد إدراكنا للعمل في مجموعه، ولكن يمكنه هو أيضًا أن يصبح عنصرًا أدبيًا بشرط أن يأخذه المؤلف بعين الاعتبار في القصيدة. مثلاً في بداية الصفحة يقال إن الساعة العاشرة، وفي الصفحة التالية العاشرة وخمس دقائق. هذا الإدخال الساذج لزمن القراءة في بنية الحكاية(أو القصيدة) ليس وحده الممكن: توجد هناك إدخالات أخرى لا يمكننا التوقف عندها، ولنُشِرْ فقط إلى أننا نلمس هنا مسألة الدلالة الجمالية لأبعاد عمل ما (المرجع السابق، 141).
بنية العلاقات المكزمانية تلازم العلاقات المكانية-الزمانية (المكزمانية) الظواهر المادية الموجودة خارج وعي الشاعر، والتي تنعكس فيه إلى صور عنها يعكسها شعرًا. وللوصول إلى تحديد هذه العلاقات المكزمانية، يفرض التحليل خطًا معاكسًا في نهجه لقانون الانعكاس، إذ سنبدأ من النهاية لنصل إلى البداية. وبمعنى آخر، سنبدأ بالشعر المنعكس عن صور منعكسة عن الظواهر المادية الملازمة للعلاقات المكزمانية. ولنكن أكثر تحديدًا عندما نسأل: ما هي الصور الأساسية في المقطوعة المكزمانية الأولى في نهار بيروت الثاني في القصيدة؟ ثم ما هي الظواهر المادية التي تمثلتها تلك الصور؟ وأخيرًا ما هي العلاقات المكزمانية التي لازمت تلك الظواهر المادية؟ أي أن تحليلنا سينبني في مراحل ثلاث:
1- المرحلة الأولى: الصور الأساسية
الصورة الأولى: بيروت/ ظهرًا تتشكل من عدة صور ثانوية: 1- اليوم ينشق الحصان إلى نهارين (ص 38). 2- المدينة والقصيدة تخرجان- من خصر أجملنا، سمير درويش (ص38- 39). 3- ستمضى القافلة (ص38). 4- فانهض على فرس الدخان- وارحل معى، من أجل أمك.. (ص 39). وهذه الصور الثانوية كلها تصوير لفاجعة أساسية: مقتل سمير درويش. إذن، الصورة الأولى هي صورة موت سمير درويش/ ظهرًا، لتخفف شمس الظهيرة من حدة الفاجعة، من حيث توقيت التعبير (زمنية القصيدة التي تقال كما هي في واقعها حسب تودوروف)، وليس من حيث توقيت الموت، الذي سيبقى ذا عبء شديد على الشاعر مأسويّاً: انشقاق الحصان يوم موت صديق الشاعر- خروج (أو رحيل) المدينة والقصيدة من خصر الصديق الأجمل. وتتجاوز الصورة التوقيت إلى التضمين لأجل التخفيف من شدة الواقعة: انشقاق الحصان يوم موت صديقه الشاعر إلى نهارين (لم يقل إلى ليلين)- خروج المدينة والقصيدة من خصر الصديق الأجمل بالمعنى الإبداعي التجريدي العلائقي الشعري -مضي القافلة بمعنى أن الكل في نهاية المطاف سيموت- ثم النهوض على فرس الدخان من الموت والرحيل مع الشاعر -بمعنى العودة- إلى أم الصديق.
الصورة الثانية: بيروت/ عصرًا تتشكل من صورتين ثانويتين: 1) صورة للزمان ظاهرة: زمن مضى- لكنه لا ينتهي (ص 39). 2) صورة للمكان خفية: بيروت/ عصرًا (ص39)، والصورتان الثانويتان تصوير لفاجعة أساسية أيضًا: موت زمن الحصار. وعنصر التجسيم فيه واضح، من ناحيته كزمن للحصار، ومن ناحيته كزمن للكتابة، ولكن ما يخفف من حدة الفاجعة فيه أنه (( لا ينتهي)). بمعنى أنه في استمرارية ماضوية لا تتوقف، إذ في التوقف فاجعة حقيقية. وصورة بيروت الماضوية هنا، مقدمة، بشكل من الأشكال، كصورة لبيروت الحاضرة: بيروت/ عصرًا، فحاضر الحصار هو حاضر، لكنه صورة لماض، لأنه لا يتقدم.
الصورة الثالثة: بيروت/ فجرًا أول شىء نلاحظه هو الانتقال مباشرة من بيروت/ عصرًا إلى بيروت/ فجرًا، دون المرور بوسيط مكزماني (( طبيعي )): بيروت/ مساءً ثم بيروت/ ليلاً. إنهما صورتان ممحوتان في (( المدينة والقصيدة ))، والسبب بسيط، فالزمن مضى دون أن ينتهي، وكأن بالشاعر يريد أن يعود (يراد له أن يعود) إلى نقطة البدء (نقطة الانتحار مثلما سنرى): الفجر، لينطلق بالزمان البيروتي (ليطلق الزمان البيروتي) في حركته الطبيعية. ولكنه سيواجَه، دومًا، بالحصار الأقوى، وسيقف على حيثيات صورته المكزمانية المأسوية التي ستشير إلى ضعفه الإنسانى. لنلقِ نظرة على العناصر الثانوية في هذه الصورة: 1) الشاعر افتضحت قصيدته تماما- وثلاثة خانوه:- تموز- وامرأة- وإيقاع- فناما (ص 39). 2) لا يستطيع الصوت أن يعلو على الغارات في هذا المدى- لكنه يصغى لموجته الخصوصية (ص 40). 3) موت وحرية (ص 40). 4) يصغى لموته ويفتح وقته لجنونه (ص 40). 5) من حقه أن يُجلس السأم الملازم فوق مائدة- ويشرب قهوة معه- إذا ابتعد الندامى (ص 40). 6) الشاعر افتضحت قصيدته تماما- بيروت تخرج من قصيدته وتدخل خوذة المحتل- من يعطيه دهشته- ومن يرمى على يده- أرزًا أو: سلاما (ص 40). 7) في بيته بارودة للصيد- في أضلاعه طير- وفى الأشجار عقم مالح- لم يشهد الفصل الأخير من المدينة (ص 40) 8) وخليل حاوي لا يريد الموت رغمًا عنه- يصغى لموجته الخصوصية- موت وحرية- هو لا يريد الموت رغمًا عنه (ص 41). 9) فليفتح قصيدته- ويذهب:- قبل أن يغريه تموز، وامرأة، وإيقاع- وناما (ص 41). ومثلما قلنا، في الصورتين الأساسيتين الأولى والثانية، نقول إن الصور الثانوية هنا تصوير لفاجعة أساسية: انتحار خليل حاوي. ومبدأ تجسيم الفاجعة والتخفيف منها -سنرى فيما بعد الساخر والعبثي فيها- سيبقيان من قوام عملية (( التشعير)) القائمة. وعلى عكس ما جرى عند بداية صورة مقتل سمير درويش، أي التخفيف من الفاجعة، تبدأ صورة انتحار خليل حاوي بتجسيم الفاجعة: افتضاح قصيدة خليل حاوي وليس خليل حاوي الشاعر، من خلال خيانة ثلاثة عناصر تكوينية لقصيدته: تموز وامرأة وإيقاع، دونها لا تعني القصيدة شيئًا. وعندما نعرف أن المرأة هي عشتروت التي أحبت الإله الشاب تموز ثم قتلته ثم أحيته، نقف على فهم الشاعر للعلاقات الداخلية للقصيدة، إذ أن انتحار خليل حاوي هو فهم للقاعدة وخروج عنها في الوقت ذاته: هو لا يريد الموت رغمًا عنه حتى وإن كانت عشتروت هي القاتلة، فليفتح قصيدته ويذهب، وهو قد ذهب بالفعل: (نام دومًا بمعنى مات). وفى الذهاب/ الخروج عن القاعدة تخفيف (أو تسويغ) للانتحار، لهذا السبب، يموت خليل حاوي بأمر نفسه (لا يريد الموت رغمًا عنه)، إنه لا يموت وإنما يتحرر، فموته حالة إصغاء (( لموجته الخصوصية ))، تتبعها حالة القيام بعد النوم/ الموت الملخصة لأسطورة قيام المسيح وبعض معجزاته. وليخفف محمود درويش من مأسوية صورة انتحار خليل حاوي، يدخل في تفاصيل تسويغ الانتحار: في الصورة الثانوية الثانية لم يكن لخليل حاوي أن يسمِع القصيد وصوت الغارات يعلو على كل شىء مما جعله يصغى -بدل أن يَسمَع- إلى قصيدته الخاصة (موجته الخصوصية) موته الخاص. وفى الصورة الثانوية الثالثة يقابل محمود درويش موت الشاعر بالحرية، فتبقى دومًا في إطار الموت الخاص، الموت الشعري ذي الإرادة. وفى الصورة الثانوية الرابعة لا بد من تواصل الإصغاء للخاص، ومن نفسه أن يجعل مكانًا زمانيّاً للجنون الذي هو (( جنونه ))، أي أننا نبقى دومًا في الإطار (( الخاص )) للشاعر الذي هو كشاعر حالة (( جنون )) جوهرية. وفى الصورة الثانوية الخامسة يسوغ محمود درويش انتحار الشاعر بالوحدة القصوى للمقاتل: إذا ابتعد الندامى من حقه أن يُجلس السأم الملازم فوق... إلخ. أما الصورة الثانوية السادسة، فهي أكثرها علاقة بالحصار/الانتحار: دخول الجنود الإسرائيليين بيروت. لقد صارت بيروت (( قصيدة )) للجندي الإسرائيلي بعد أن كانت قصيدة لخليل حاوي. ماذا تبقى له إذن؟ وفي الصورة الثانوية السابعة الجواب: بارودة صيد لا تنفع في صد العدوان، وإن نفعت لشيء، فلقتل طير في أضلاع الشاعر، وهذه مقدمة شعرية لانتحار الشاعر، سيؤكدها ما في الأشجار من عقم مالح، ليقع الانتحار (( الآن )) في القصيدة عندما تقول عن المنتحر: لم يشهد الفصل الأخير من المدينة. لهذا السبب، تعرضنا للصورتين الثامنة والتاسعة في موضع متقدم من السياق التحليلي.
2- المرحلة الثانية: الظواهر المادية
الصورة الأولى: بيروت/ ظهرًا: الظاهرة المادية الأولى الظاهرة المادية الأساسية التي تمثلتها الصورة الأولى هي مقتل سمير درويش، وقد تمثلت عنها تفاصيل عديدة: 1) انشقاق الحصان 2) خروج المدينة والقصيدة من خصر القتيل. 3) احتفال المكان بالأحياء ونسب المكان لهم إلى كيان يكوِّنه أموات ( ). 4) مضي القافلة أو البشر في رحلة العمر. 5) النهوض من الموت إلى الرحم (ما ترمز إليه الأم). وبنظرة شاملة إلى الظاهرة نجدها مكثفة بالتفصيل الأخير: الموت والرحم، ولا نقل الموت والحياة، فهذه دلالة العلاقة ما بين تموز وعشتروت. في حالة سمير درويش (( النهوض على فرس الدخان )) لا يعنى العودة إلى الحياة، ولكنه مطلب الذهاب إلى (( الرحم )) حينما يقول الشاعر: واذهب معي من أجل أمك. لا بد، إذن، بعد الموت من مرحلة ((الرحم))، قبل الحياة، والسبب كامن في الظاهرة المادية التي تعبر عنها الصورة القادمة.
الصورة الثانية: بيروت/ عصرًا: الظاهرة المادية الثانية الظاهرة المادية الأساسية التي تمثلها الصورة الثانية هي موت زمن الحصار، ولا توجد له من تفاصيل سوى أنه (( زمن مضى، لكنه لا ينتهي ))، أي في حركة ماضية (من الزمن ماض وليس من الفعل يمضي) إلى الأمام! وهذه صورة متوازية لما قلناه في مقتل سمير درويش: بعد الموت لا بد من مرحلة (( الرحم )) قبل الحياة. الزمن مات، ولكنه يعيد تكوينه في رحم الحياة، فهو في حالة ماضية ومستمرة في آن واحد، قبل أن تلده الحياة. والتوازى بين مقتل سمير درويش ومقتل الزمن سببي، موت الواحد كان سببًا في موت الآخر. وهو، أيضًا، تبادلي. لهذا، لن تعيد عشتروت إلى الحياة، مثلما فعلت بتموز، لا الواحد ولا الآخر، إلا بعد أن يكتمل في (( الرحم )). وفوق هذا، كلاهما علاقة مكزمانية لظاهرة مادية حقيقية للحصار، وليس لظاهرة أسطورية خيالية لدور الموت والحياة في الزراعة. حتى في عملية التشعير لا يمكن أن تنطبق عليهما الأسطورة، التي سنراها، من زاوية أخرى، في الصورة القادمة.
الصورة الثالثة: بيروت/ فجرًا: الظاهرة المادية الثالثة الظاهرة المادية الأساسية التي تمثلتها الصورة الثالثة هي انتحار خليل حاوي، وقد تمثلت عنها تفاصيل عديدة: 1) افتضاح قصيدة خليل حاوي نفسها -هل منعته من الموت؟- وخيانة تموز وعشتروت والإيقاع له. 2) صوت الحرب أقوى من صوت الشعر. 3) الموت/الحرية عنصر واحد للجنون. 4) للوحدة.5 ) للسأم. 6) خيانة بيروت للشاعر(( وإخلاصها )) للجندي الإسرائيلي. 7) حالة العقم التي تولدت عن الشاعر الممثل لعلاقة القناص- القنيصة. 8) لم يشهد الفصل الأخير في المدينة: فك الحصار من الناحية الأخرى! -انتحر- لأنه يريد موتًا إراديّاً. 9) انتحاره خروج من القصيدة الذي هو، في الوقت ذاته، هروب من تموز وعشتروت ولا إيقاع فيها -بمعنى الواقعية أيضًا-. وهذه النقطة الأخيرة هي أهم جانب في ظاهرة انتحار خليل حاوي، فخروجه من القصيدة، فيه إخلاص لها، وهروبه من تموز وعشتروت والإيقاع فيها، فيه خيانة له. لأنه يريد الخروج من الروتيني في القصيدة والأسطورة: دورة الحياة والموت، مما جعله يحقق فعلين معًا، الأول: فعل العودة إلى (( الرحم ))، فأثبت أنه ابن زمانه، والثاني: فعل ما قبل العودة، ألا وهو فعل الكتابة نفسه، إذ بانتحاره، كتب خليل حاوي آخر قصائده، قصيدته التي تفضح قصيدة افتضحت.
3- المرحلة الثالثة: العلاقات المكزمانية
الصورة الأولى: بيروت/ ظهرًا: العلاقة المكزمانية الأولى نصل الآن إلى النهاية التي هي البداية في الانعكاس لنحدد العلاقات المكزمانية التي لازمت الظواهر المادية المتمثلة صورًا في القصيدة. ونحن نجد أن هناك علاقة مكزمانية خارجية: بيروت/ ظهرًا، بيروت المكان وظهرًا الزمان. لأن بيروت/ ظهرًا/ العلاقة/ المكزمانية ما هي سوى إطار للصورة تحدد أبعادها الخارجية، التي ستكسرها العلاقة المكزمانية الداخلية الملازمة لمقتل سمير درويش متحولة (بسبب الانكسار/ مصرع البطل) إلى علاقة مكانية وزمانية منفتحة (اليوم ينشق الحصان إلى نهارين- المدينة والقصيدة تخرجان..- ليحتفل المكان بنا وينسبنا إلى..- ستمضي القافلة-.. إلخ). إذن، شرط العلاقة المكزمانية المنفتحة أنه لا بد أن تجرى في بيروت/ ظهرًا، وليس في بيروت/ ليلاً، وإلا اتصفت بالانغلاق، فينتفي شرط النهوض من الموت (فانهض على فرس الدخان)، وكذلك شرط العودة إلى الرحم (وارحل معى من أجل أمك). والأمر ذاته فيما يخص الصورتين القادمتين الثانية والثالثة، فالثانية تجرى عصرًا، والثالثة (( تقفز )) عن الليل -وكأننا هنا بالقفزات عنصرًا من عناصر التوتر الدرامي لدى بريشت- لترتسم فجرًا. ونريد، قبل أن نغلق هذا الفصل، أن ندخل في بعض تفاصيل العلاقة المكزمانية في ظاهرة مقتل سمير درويش: أولاً لفرادتها، وثانيًا لنزيد من التعميق. تأخذ العلاقة المكزمانية، هنا، شكل الموت، وبالطبع، سيكون الشكل تجريدًا. لنقرأ البيت الأول: اليوم ينشق الحصان (38) (( اليوم )) هو اليوم الذي قتل فيه سمير درويش، والزمان زمان القراءة الساذج كما يراه تودوروف، ولكنه زمان غير محدد إلا في سياقه العام (القتل). هنا هو زمان مجرد يرتبط بمكان أيضًا مجرد: الحصان. ونقول الحصان مكانًا مجردًا، لأنه ليس الحصان الحيوان، ولكنه الحصان الدال. فالعلاقة المكزمانية هي علاقة مجردة، وهى ستبقى دون علاقة بظاهرتها المادية (مقتل سمير درويش) لولا الفعل (( ينشق )) الذي سيمارس على الحصان/المكان انشقاقًا فيه وانشقاقًا عنه، أي ما بينه وبين الزمان، وفى كلا الفعلين أمر فاجعي سيدلل على الفاجعة الأساسية. ولنعلل أن الحصان ليس أبدًا سمير درويش، ولا رمزه، وإنما دال يحتوي على دال آخر ليس القاتل حتمًا، لهذا، كان استنتاجنا، فيما يخص العلاقة المكزمانية الداخلية المنفتحة، إنه انفتاح نحو لحظة خارج الصورة إلى ظاهرة مادية أخرى ما بعد الموت (اليوم ينشق الحصان إلى نهارين- انهض- ارحل-).
الصورة الثانية: بيروت/ عصرًا: العلاقة المكزمانية الثانية العلاقة المكزمانية، هنا، هي، أيضًا، تكسر الإطار العام: بيروت/ عصرًا، لتتشكل علاقة مكزمانية منفتحة محددة (زمن مضى) دون أن يتحدد مدى انفتاحها (لكنه لا ينتهي) ومع ذلك، تنتفي ميتافيزيقيتها كعلاقة مكزمانية، بل وتستثبت كظاهرة مادية لأنها: حركة أولاً، ولأنها: حركة في ضد- حركة ثانيًا. ولهذا السبب، تبني الفاجع، وتنبني فيه. أي، تتحول كعلاقة مكزمانية إلى علاقة تراجيدية للحصار/ القتل/ الانتحار، دون إسقاط الستار، أو أنه يسقط دون نهاية.
الصورة الثالثة: بيروت/ فجرًا: العلاقة المكزمانية الثالثة العلاقة المكزمانية الثالثة منفتحة مثل سابقتيها، ولكنها أطول مسافة، ففعل الانتحار، الذي أقدم عليه خليل حاوي، احتاجه إلى (( وقت طويل )) أعمل فيه الصراع والتفكير، وإلى (( مكان أكبر من بيروت ))، فبيروت لم تسعه بعد أن ضاقت بها قدماه، فذهب بحثًا عن مكان أرحب: المكان المفتوح لكل البشرية. والجدير ملاحظته، هنا، أن تلك العلاقة المكزمانية ما بين الشاعر وزمانه متوازية (أو متداخله بعد قرار الانتحار) مع تلك العلاقة المكزمانية ما بين بيروت وزمانها. أما عن القصيدة، فقد تحولت إلى الإطار المكزماني الخارجي في علاقتها مع توقيت الانتحار: فجرًا. وكأن الصورة هي القصيدة/ فجرًا بدلاً من بيروت/ فجرًا، وكأن المنتحر هو بيروت بدلاً من خليل حاوي، لنصل إلى بقاء خليل حاوي في القصيدة، مصرع بطل على خشبة المسرح.
* * *
وختامًا لهذا الفصل نقول إنه بالإمكان اعتبار العلاقات المكزمانية الثلاث علاقة واحدة لظاهرة واحدة ولصورة واحدة، وهي في تشكيلاتها تنبني في إطار زمان بيروتي فاجع (( مضى ولا ينتهي )). وعلى عكس الشكلانيين، كان اهتمامنا بالقصيدة في تتابعها الزمني كقصيدة، وتجاهلناها كخطاب سبق لنا وعمقنا درسنا له في القسم الأول.
الخواص المكزمانية نتقدم، الآن، في الحركة الثانية من القصيدة، لنقف على الخواص المكزمانية في مقاطعها الأخيرة والخاصة بمخيم صبرا، أو، بما يمكن أن يسمى شعريًا بإنشاد صبرا، والشاعر يقدم للإنشاد بصورة كلاسيكية لضد- البطل، ولكن، وقبل كل شىء، بمزج مكزماني جاء المكان فيه (( ساكنًا )) -لأول مرة- والزمان (( متحركًا )) -لأول مرة أيضًا-: بيروت/ فجرًا بيروت/ ظهرًا بيروت/ ليلاً (ص 41). في العلاقة بيروت من الفجر إلى الليل، هناك، بالأحرى، دورة للزمان، وليس حركة، بالمعنى الدينامي. لهذا، وضعنا كلمة (( متحرك )) -فوق- وكذلك كلمة (( ساكن ))، بين قوسين صغيرين. وهذه دورة خاصة بعلاقة مكزمانية منغلقة، ففى بيروت/ ليلاً سيفعل (( الفاشي )) فعله في مخيم صبرا، وهو(( منغلق )) في الليل، وكأنه يختبىء فيه، أو، أن الليل منغلق عليه، وكأنه يخبئه، ليخفى فعله. يقول النص: بيروت/ ليلاً: يخرج الفاشيّ من جسد الضحية- (41). أولاً خروجه في الليل، وثانيًا خروجه من جسده هو دخول في جسد الليل. هناك، إذن، علاقة تواطؤ بين الفاشي (المكان) والليل (الزمان)، وهذا لن يتحقق إلا من خلال علاقة مكزمانية لها خاصية الانغلاق. ومن ناحية أخرى، تقديم بيروت، في ثلاثة أوقات معًا، وفى آن واحد، هو خاصية لصبرا وليس لبيروت (الإنشاد هو إنشاد لصبرا هنا وليس لبيروت) لأن صبرا هي علاقة مكزمانية (( خاصة ))، الزمان (( نقطة )) فيها. سيقول الشاعر عنها في آخر المقطوعات الخاصة بها: صبرا- هوية عصرنا حتى الأبد (ص 45)، وهذا ما قاله في الأول عن بيروت. إذن، صبرا كمكان، قد حلت محل بيروت، أو، أنها صارتها. وكزمان قد حلت محل عصرنا، أو أنها صارته. لهذا -وهنا سننزع القوسين الصغيرين- سيتحرك الزمان -صبرا/ الزمان- في صبرا حركته الدينامية، وسيأخذ خاصيته هذه، بالطبع، من مكان المجزرة، لتكون للحركة المكزمانية الدينامية التبادلية خاصة أخرى، فاجعة.
الساخر/ العبثي/ 1 وسيبدأ الشاعر تراجيدية صبرا بصورة كلاسيكية -مثلما قلنا- عن الفاشيّ، ونحن نراها بمثابة عودة تذكيرية ضرورية لتقديم الصورة الحديثة: مجزرة صبرا وشاتيلا: بيروت/ فجرًا- بيروت/ ظهرًا- بيروت/ ليلاً:- يخرج الفاشيّ من جسد الضحية- يرتدي فصلاً من التلمود: أقتل- كي تكون- (ص41). نلح على التسمية (( تراجيدية صبرا )) رغم الساخر كعنصر أساسي فيها، المركّب بالعبثي، والعكس بالعكس: فخروج الفاشيّ من الضحية (التي هو) ليمارس الفعل في الضحية (التي غيره) هو فعل تراجيدي شنيع، فيه من السخرية والعبث الإنسانيين ما يجعلهما قدرًا حقيقيّاً. وتفاصيل العلاقة الساخر/العابث ستلقي الضوء على أن الفاشيّ كضحية ما هو إلا ادعاء وكذب ونصب واحتيال وتزوير للتاريخ وتسويغ للقتل وقتل للحقيقية، وإن تلبّس بلباس شخصيات موليير. وأن الضحية الحقيقية التي كانت سببًا صارت سببًا ومسببًا، وفي هذا جمع بين السخرية والعبث في نفس الآن، دون أن يراد لها أن تكون شخصية من شخصيات موليير. وتذهب تفاصيل علاقة الساخر العابث التي هي علاقة-مكزمانية لإلقاء الضوء على خواص أخرى فاجعة لعلاقات تحتية عندما تدلل الاستعارة (( يرتدي فصلاً من التلمود: أقتل- كي تكون )) مثلاً، على علاقة حقيقية بين الفاشيّ اللبنانيّ والفاشيّ الإسرائيليّ، حيث القتل لهما بمثابة الإقرار بالوجود، وما نسارع بقوله حالاً، إن النص، ومحمود درويش، ونحن، لا نخلط بين الفاشى اللبناني واللبناني المغترب. والأبيات التالية تؤشر بأصابعها العشرة على الأول، (( وترفق )) بالثانى، الذي قضيته من قضية الفلسطيني المغترب سواء أكان (( مسيحيّاً أو يهوديّاً أو مسلمًا )): عشرين قرنًا كان ينتظر الجنون- عشرين قرنًا كان سفاحًا معمم- عشرين قرنًا كان يبكى.. كان يبكى- كان يخفى سيفه في دمعته- أو كان يحشو بالدموع البندقية- عشرين قرنًا كان ينتظر الفلسطينيّ في طرف المخيم- (ص41) والبيت الأخير هذا جد معبر، يبرز من خلال علاقة الساخر/العبثي علاقة الفاشى/الفلسطيني بالمعنى الذي أوضحناه. ويبتعد النص في التوضيح والتعريف أكثر حينما يقول: عشرين قرنًا كان يعلم- أن البكاء سلاحه السري و(الذري) (ص42). وهذا صحيح فيما يخص الفاشي الإسرائيلي على الخصوص، حينما جعل من الدموع الحقيقية لشعبه وسيلة لابتزاز عطف العالم تسوغ له اغتصاب فلسطين وقتل الفلسطيني الذي هو المسيح القتيل مذ عشرين قرنًا.
الفاجع/ العبثي تأخذ العلاقات المكزمانية، في مقاطع صبرا، خواصها من المعني بالأمر، أي من صبرا ذاتها. وفى صور سبع عنها يرتسم الفاجع/ العبثي فيها، ليعود الساخر/ العبثي من خارجها -مثلما سنرى- في صورتها الثامنة والأخيرة.
صبرا: الصورة الأولى صبرا- فتاة نائمة- رحل الرجال إلى الرحيل- والحرب نامت ليلتين صغيرتين- وقدمت بيروت طاعتها وصارت عاصمة..- ليل طويل- يرصد الأحلام في صبرا- وصبرا- نائمة- (42) لنلاحظ أن الخواص المكزمانية لا تنفصل -يمكن أن يفصلها المنهج (( بتعسف )) ضروري- عن الأحاسيس والتصورات والمفاهيم عن الزمان والمكان، ولنلاحظ، في صورة صبرا الأولى، إنها مقدمة كفتاة تنام، يشحن الشاعر الصورة ووضع البطل فيها بإحساس العاشق نحو المعشوق أو الأم نحو طفلها. الفاجع يعرفه الشاعر، يؤرقه، يعصره، يعتصره، يصارعه، يتصارع فيه، لكنه -حين الكتابة- يمهد له أو هو يشير إليه أول ما يشير: نوم صبرا هو موتها لكنه هنا سَكينة الإنسان، ورحيل الرجال فيه موتها لكنه هنا قدر لا رحيل، ونوم الحرب هو انتهاؤها لكنه لن يدوم لصبرا إلا ليلتين صغيرتين فقط لتعود الحرب ضدها في أبشع صورها، وطاعة بيروت فيها خروج عن (( طاعتها )) لصبرا لأنها ستصبح سلبية شنيعة مكبلة ككل العواصم العربية تنظر إلى دمها-دم صبرا كيف يتفجر دون أن تفعل شيئًا، أما الليل الطويل فهو (( غطاء )) المذبحة التي تدّثر به صبرا وتحلم ولا تعلم إنما هي تدّثر بموتها! ولنتذكر في حالة المقاتل -في الحركة الأولى- كان الحلم وسيلة لتحقيق الولادة، أما في حالة صبرا، فالحلم وسيلة لتحقيق الموت. كل هذه الأحاسيس والتصورات رافقت العلاقة المكزمانية: صبرا/ الليل، فتمثلتها، وقدمت للمذبحة من خلال مفهوم مأسوي للصراع من أجل البقاء، إنه مفهوم الفاجع/العبثي ذاته، لأن ملامح الصورة الفاجعة المقدمة هي عبثية في الوقت ذاته، عندما يتحول النوم في سَكينته الهاجعة إلى موت محتم.
صبرا: الصورة الثانية والثالثة والرابعة تتمثل الصور الثلاث صبرا في حالات ثلاث للعلاقة فاجع/ عبثي. الحالة الأولى دومًا حالة النوم/ الموت: صبرا- بقايا الكف في جسد قتيل- ودعت فرسانها وزمانها- واستسلمت للنوم من تعب، ومن عرب رموها خلفهم..-(ص42). وتبدو حالة النوم/ الموت أوضح بعد الإنارة (( صبرا بقايا الكف في جسد قتيل ))، وهي حالة من حالة: الوحدة القصوى! ليس الشعور بالوحدة القصوى الذي كان للمقاتل محفزًا على الصمود في الحصار، وإنما هي حالة الوحدة القصوى مشخصة باستلام صبرا للنوم تعبة بعد أن ودَّعت مقاتليها وزمانها، بعد أن رماها (( أهلها )) خلفهم وحيدة: إنها، إذن، حالة الوحدة القصوى، حالة ما قبل حالة: الموت، وإن جرى، حتى الآن، على أساس أنه النوم مجازيًا. أما الحالة الثانية، فهي من حالة الوحدة القصوى، والقصد الفني هنا هو التطوير التراجيدي للعلاقة فاجع/ عبثي: صبرا- وما ينسى الجنود الراحلون من الجليل- لا تشتري وتبيع إلا صمتها- من أجل ورد للضفيرة- (ص42) الجنود الراحلون من الجليل إليها هم الجنود الإسرائيليون وليس الفدائيون الذين رحلوا عنها. الجنود الإسرائيليون لم ينسوا صبرا، والفدائيون نسوها! في المفارقة عبث، وفي العبث مفارقة، لأن صبرا في حالة صمت (( مطلق ))، تشتري وتبيع صمتها (في بيعها صمتها عبث وفي شرائه عبث أيضًا) لتكون أحلى (من أجل ورد للضفيرة)، لتكون أكثر طفولة، وليكونوا (الجنود الإسرائيليون والفدائيون معًا) أكثر رجولة! تبقى كيفية التعبير عن هذه الرجولة، والتي كانت فاجعة إلى أقصى حد إسرائيليّاً وعبثية إلى أقصى حد فلسطينيّاً. وأما الحالة الثالثة، فهي من حالة العبث، وإن احتوت التهكم والتبكيت والتوبيخ: صبرا- تغنى نصفها المفقود بين البحر والحرب الأخيرة- لم ترحلون- وتتركون نساءكم فى بطن ليل من حديد؟- لم ترحلون- وتعلقون مساءكم- فوق المخيم والنشيد؟ (ص42) هي من حالة العبث في قالب (( أغنية ))، لتعميق الحالة، وتقريب الفعل (ضد-التبعيد البريشتي)، لأن التركيز التراجيدي، هنا، هو من سياق الحدث، يحتمه، وإلا افتقد المتلقي تأثيره الفاجع عليه. أي أن الفاجع من العبثي في الملحمة التي ندرسها، وهذه واحدة من أهم خصائصها، وإدراك من بين إدراكاتها. يعطينا تعدد الإدراكات، كما يقول تودوروف، رؤية للظاهرة الموصوفة أكثر تعقيدًا. ومن ناحية ثانية، تسمح لنا أوصاف الحدث نفسه بتركيز انتباهنا على الشخصية (صبرا هنا) التي تدرك الحدث لأنه سبق لنا معرفة القصة (المجزرة) (المرجع نفسه، 142). صحيح، صبرا التى تغنى نصفها المفقود بين البحر والحرب هي طروادة، ولكنها في علاقة زمكانية مع التاريخ منغلقة: (( في بطن ليل من حديد )) أشبه ببطن حصان أعدائها المسمى باسمها: حصان طروادة. هي فيه وحدها -مع أعدائها- دون مقاتليها، بعد أن رحلوا رحيل المنتصرين (لِمَ ترحلون وتعلقون، مساءكم فوق المخيم والنشيد) رحيل المنتصرين الذين ((علقوا )) فوق المخيم ما لا يمكن أن يحميه حتى وإن كان يمكنه الحماية فهو ((معلق )): حصان طروادة الإسبرطي دون طرواديين! أو، بكلام آخر، حصان فلسطين الكتائبي دون فلسطينين!
صبرا: الصورتان الخامسة والسادسة لهذا، تنبثق، في لحظة الوداع، صورتان لصبرا في حالة من العبث دومًا: أولا: صبرا- تغطى صدرها العاري بأغنية الوداع- وتعد كفيها وتخطئ حين لا تجد الذراع- (ص43). ثانيًا: صبرا- تمزق صدرها المكشوف- (ص43). علينا أن نذكر أن لحظة الوداع (( الآن )) في القصيدة هي لحظة (( كانت )) في الحقيقة والخاصية الزمكانية الحاضرة دومًا هي: صبرا/الموت تحت مجاز النوم بالطبع. إذن، تقديم لحظة الوداع -الذي هو تأخير للحدث- في هذه اللحظة من لحظات القصيدة ينبني في الإطار العبثي العام المقدم لتراجيدية صبرا. ومن حيث الصورتين، هناك رصد لفعلين متضادين: تغطية الصدر العاري، وتمزيق الصدر المكشوف. الفعل الأول فعل رومنطيقي، فأغنية الوداع هي الثوب الهش الذي لم يمنع من التمزيق الأسطوري للصدر بالأظافر. نقول ((أسطوري )) لأن فعل التمزيق للصدر الجميل قد حصل دون ذراع (تعد كفيها وتخطىء حين لا تجد الذراع)، تمامًا مثل الإله أيل عندما يمزق نفسه لموت ولده بعل (رمز الحياة)، والفعل هنا هو صبرا لنفسها، هي الإله والولد، لشدة عزلتها وهشاشتها وحدسها لموتها. في المحاولة الأولى من خلال بنية تعدد الإدراكات، حينما لم تمنع أغنية الوداع من حماية صدر صبرا الجميل، نجد هناك تساؤلات لا تنتهي عن تكرار السفر، والى أي وقت سيستمر، والى أي منفى -حين العودة- سيكون المصير: كم مرة ستسافرون- والى متى ستسافرون- ولأي حلم؟- وإذا رجعتم ذات يوم- فلأي منفى ترجعون- لأي منفى ترجعون؟ (ص43) الحلم هنا، هو ليس حلم الولادة، ولا حلم الموت. إنه حلم مجهول! أما في المحاولة الثانية من بنية تعدد الإدراكات، فحينما مزقت صبرا صدرها الجميل العارى، نجد هناك تساؤلات، أيضًا، لا تنتهي عن دورة الحياة والموت، وأين -في الحياة و/ أو الموت- سيكون مكان الثورة: كم مرة- تنفتح الزهرة- كم مرة- ستسافر الثورة؟- (ص43). وعندما نعرف أن الزهرة لا تتفتح إلا مرة واحدة، لأن تموز، حسب رواية أخرى لأسطورته( ) يموت ولا يعود، فالفاجع/العابث ينطرح من خلال سفر الثورة الذي صار عليه أن يصير أكثر من مرة. إنها دورة للحياة والموت واحدة فقط لا غير، والثورة الفلسطينية، في الواقع، ليست عشتروت إلهة الإخصاب والجمال والحب والحرب أو القمر: الثورة تفهم هذا، ولا تفهم هذا، وعليها أن تفهم!
صبرا: الصورة السابعة لم نزل في صورة ما- قبل نوم صبرا، أي أننا لم نزل في خط تصعيد التراجيديا من خلال (( فلاش باك )) لحيثيات مكانية- زمانية. خط التصعيد التراجيدي هو رجوع إلى الوراء حقًا، ولكنه، في الوقت ذاته، تقدم إلى الامام من خلال أحاسيس الشاعر حيث إنشاد صبرا (تراجيديتها) يمثل مركزًا لمعاناته. وسنرى أن الصورة السابعة هذه هي الصورة الأولى لو أثبتناها في زمنها التواردي الحقيقي: صبرا- تخاف الليل. تسنده لركبتها- تغطيه بكحل عيونها تبكى لتلهيه:- (ص43). إنها لحظة قدوم الليل الذي تخافه صبرا، لحظة الانغلاق المكزمانى، لهذا، تحاول صبرا أن تخرج منه -أو على الأقل تتحاشاه، تبقى على هامشه- بالتقرب منه كأم لطفلها (تسنده لركبتها)، كعاشقة لمعشوقها (تغطيه بكحل عيونها)، كشهرزاد لشهريارها (تبكي لتلهيه). وكل هذه المحاولات ستبوء، طبعًا، بالفشل، إذ من العبث أن لا يسقط عليها الليل (أن تسقط في الليل) فهي دون قدر يحميها: رحلوا وما قالوا- شيئًا عن العودة- (ص43). إنه قدر خائن! صحيح، رجال صبرا قد ذبلوا، ولم يزالوا يطاردون الورد: ذبلوا وما مالوا- عن جمرة الوردة! (ص 43- 44) ولكنهم كالعشب الذي جف، وهو في سعيه نحو الحياة (الوردة) سيحترق بنارها! إنه قدر خائن لهم جميعًا، لصبرا وللمقاتل وللشاعر. ولكنهم لا يكفون عن قطع (( رحلتهم )): عادوا وما عادوا- لبداية الرحلة- والعمر أولاد- هربوا من القبلة- (ص44). الأولاد سيأتون من بعدهم إلى ((القضية)) هاربين من ((القبلة))! سيأتون وهم يحملون على أكتافهم صخرة سيزيف: صخرة المنفى المستحيلة: لا ليس لي منفى لأقول: لي وطن- الله يا زمان! وهذه العبارة تدلل على ما ابتدأنا به تحليلنا -تحت هذا الفصل- من فرضية، أن خواص المكزمان من خواص المعني بالأمر: لا منفى، ولا وطن! أي في مكان غير معقول، وزمان غير معقول! إنها خواص العبثي المنبني في الفاجع في الساخر مثلما ستدلل عليه صورة الساخر/ العبثي الأخيرة من مقاطع إنشاد صبرا بعد أن عدنا إلى نقطة المنطلق: نوم صبرا، وخروج الفاشى إليها من داخل الليل.
الساخر/ العبثي/ 2 لا ينتفي الفاجع تحت هذا الفصل، ولكن الساخر/ العبثي فيه (( تتويج )) لإنشاد صبرا التراجيدي في صورتها الثامنة والأخيرة. إن عملية تقطيع جسد صبرا الشنيعة تجرى من خلال عيني القاتل، أي، إضافة إلى التحديق الذي يمارسه الشاعر في العالم هناك تحديق القاتل في القتيل، وبناء على ذلك، سيكون التشخيص مزدوجًا، أو هو يجري على مرحلتين، وسيكون التحديقان، في الكتابة، أحيانًا، دون حدود، يمثلان مرحلة للتشخيص واحدة تنهج نهج العبث (( العفوي )) عندما تكون من فعل ضد- البطل الفاجع الذي ضده الشاعر في الدلالة وليس في الطريقة( ). وللتوضيح لنقرأ ما ترسمه الصورة: صبرا تنام. خنجر الفاشي يصحو- صبرا تنادي.. من تنادي- كل هذا الليل لي، والليل ملح- (ص 44). يبدأ المعبّر، الذي هو الشاعر، بوصف حالة صبرا، ثم حالة الفاشي، الأولى تنام، والآخر يصحو، أي أنهما، منذ البداية، في حالتين متعارضتين: حالة ضد حالة. ثم يبلغنا الشاعر -عن طريقه هو أو عن طريق القاتل- أن صبرا تنادي، وفى الأخير، يأخذ القاتل بالحديث -أو صبرا في حالة النبوءة- حين يعلن أن كل هذا الليل المالح له. ثم لا يلبث تحديق الشاعر أن يصير من تحديق القاتل حين التنفيذ: يقطع الفاشي ثدييها- يقتل الليل- يرقص حول خنجره ويلعقه. يغنى لانتصار الأرز موالاً، ويمحو- في هدوء.. في هدوء لحمها عن عظمها- ويمدد الأعضاء فوق الطاولة( )- (ص44). أهم ما في الأبيات السابقة ليس الطريقة الكافكاوية في الطرح العبثي، فهى مباشرة ودون دلالة شعرية، ولا وليس تقطيع ميديا الممكن لأخيها قصد تعويق مطاردة أبيها لهما وإخفاء هوية القتيل، لا وليس تقديم روبنسن كروزو لآكلي لحوم البشر، مثلما يعيده محمود درويش، هنا -ولهذا السبب لن نتعرض لباقي الأبيات الخاصة بهذه الواقعة- الأهم هو العلاقة الزمكانية بين صبرا والليل من خلال فعل المذبحة، فمع استمرارية المذبحة في صبرا (أي التضخيم) هناك استمرارية في نقصان الليل (أي التخفيف، أو الاتجاه نحو الانفتاح، أو تقليل الانغلاق من حول صبرا) وسنكون واهمين لو اعتبرنا أن خاصية الموت الزمكانية لصبرا ستتحول، حين الإجهاز عليها، إلى كسر للعلاقة الزمكانية، مع انبثاق الفجر الذي سيعلن عن انتهاء ليل طويل، لأن انتهاء الليل الذي سيتزامن مع انتهاء صبرا سيبدأ بنهار القاتل. لقد كانت المسألة مسألة وجوده، مثلما كانت للفلسطيني لا ريب، وهو قد اختلف عنه في الطريقة، بعد أن طبق عليه (( أفضل )) طريقة ليكون: ويكون بحر- ويكون بر- ويكون غيم- ويكون دم- ويكون ليل- ويكون قتل- ويكون سبت- وتكون صبرا- (ص44- 45). إن الخاصية الزمكانية للقاتل هنا (( كاملة ))، ليس فيها أدنى (( نقص )) بعد أن أجهز على صبرا، وجعلها في طرف (( انعزالي )) وفى حالة تفجع شنيعة، هي حالتها (( الكاملة )) أيضًا: صبرا تقاطع شارعين على جسد- صبرا نزول الروح في حجر- وصبرا لا أحد- صبرا هوية عصرنا حتى الأبد...- (ص 45). حالتها (( الكاملة )) خارج النهار، فالقاتل قد طردها من داخله، فدخلت في التجريد: تقاطع شارعين على جسد- نزول الروح في حجر- لا أحد- هوية عصرنا حتى الأبد! وهى ستختلف عن القاتل في أنها ستكون خالدة خلودًا (( إيجابيًا ))، ولكن في التجريد، كهوية، بعد أن أنفقت دمها، والعالم يرى، ولا يفعل لها شيئًا، ولن يفعل لها شيئًا: هي هويته، أما عنه، فهو، ليس بعد، هويتها.
خاتمة الحركة الثانية يعود الشاعر إلى بيروت التي بقيت بعد صبرا، وستبقى، كعلاقة مكانية وزمانية، لأنها هي التي ستلازم ظواهر حرب لبنان وحصار بيروت وحرب هذه الأيام الطويلة( )، وستلازم أيضًا كل النتائج. ومن هذه الزاوية، تخرج من زمنها التوقيتي: فجرًا/ ظهرًا/ عصرًا/ مساء/ ليلاً... إلخ. لتدخل في زمنها التاريخي: بيروت/ أمس/ الآن/ بعد غد:- نشيد للخريف- صور لما بعد النهار- وظلال امرأة غريبة- (ص45) . لقد دخلت بيروت، بعد مذابح صبرا وشاتيلا، في زمنها التاريخي الحقيقي، ولكنها، في قصيدة مديح الظل العالي، بقيت صورًا تجريدية: نشيد للخريف، وصور لليل، وظلال لامرأة غريبة. ولهذا إشارات تطيرية فيها معنيان: حريتها البعيدة، أو، حلم (( الخارج )) المجهول الذي ليس موتًا أو ولادة. ومن ناحية شعرية العلاقات المكزمانية لبيروت التي هي في تمثلها أقرب إلى التقليد المسرحي، نرى وجيرار جينيت، أنه من اللازم إدخال هنا ملحوظة لم يأبه لا أفلاطون ولا أرسطو بها، والتي تعيد للحكاية/القصيدة كل قيمتها وكل أهميتها. يشتمل التقليد المباشر، كما يعمل على الخشبة، على حركات وكلام، وهو بوصفه تقليدًا يشتملُ على حركاتٍ يمكنهُ بالتأكيد أن يمثِّل أفعالاً، ولكنه يفلت هنا على المستوى الألسني الذي يمارس الشاعر فيه نشاطه الخاص (المرجع نفسه، 154). إن التقليد هنا الذي هو ممارسة كتابة القصيدة على مسرح بيروت هو تقليد مسرحي مع إضافة فنية للفعل، وسنرى هذه الإضافة، تحت كافة مظاهرها، في فعل الخروج.
الحركة الثالثة إنشاد الخروج
مقدمة: بنية الخروج يمهد الشاعر للخروج من بيروت بما سنسميه بنية الوطن-الحقيبة، وكأننا به يحزم حقيبته استعدادًا (( للسفر )). ومن الملاحظ أن هناك ربطًا تراجيديّاً بين الحركتين الثانية والثالثة أكثر منه عضويّاً كما حصل بين الحركتين الأولى والثانية. ويمكن إعطاء بعض التفسيرات لمثل هذا ((التواني)): أن الخروج لم يكن من إرادة المقاتل، أن الخروج في/من الحصار عبارة عن عملية قطع تحصل فجأة، وخاصة إذا جرى فك الحصار من الناحية الأخرى، أن الخروج لم يكن إلى وطن ولا إلى منفى، إنه التتويه بالقوة. وأول ما سنلاحظه في بنية الخروج هو انفصام الوحدة بين الشاعر والمقاتل وشعب بيروت (أو أهل لبنان مثلما جاء في هذه الحركة). النبرة الفردية هي السائدة، ستبدأ حادة في القسم الأول، وهو يحزم حقيبته، وسيحاول الشاعر التخفيف منها، في القسم الثاني، وهو يودع أهل لبنان مخاطبهم أو متكلمًا عنه وعنهم بصيغة الجمع، لكنه لن ينجح إلا على المستوى العاطفي فقط، فالوداع حاصل لأن الانقطاع قد حصل. أما في القسم الثالث، فسيعبّر الشاعر عن حيرة الفلسطيني، وهو يغادر بيروت، أمام مسألة (( الوطن ))، التي هي مسألة اغترابه. وستزوده هذه الحيرة ببطاقة البحث عن جذور وأسس للوطن وله فيه، فسيذهب إلى الأسطورة، ليبني الحلقة ما- قبل الأخيرة من أسطورة الفلسطيني (( المتوّه )) ذاتها، ولتغلب نبرة المتكلم أو المخاطب، ولكن بصيغة الفرد. ولنلاحظ حالاً أن صور الفلسطيني (( المتوّه ))، في الأقسام الثلاثة، كلها نتائج للخروج، وهي إنتاج فني لعلاقات سياسية واجتماعية تفرض، أكثر من أي وقت مضى، عودة الفلسطيني إلى فلسطين.
القسم الأول: بنية الوطن-الحقيبة يعتمد الشاعر، في هذا القسم، تقنية الوصف والترجيع، فهو يقدم صورة أساسية فيها وصف للوطن ولحالة (( المواطن ))، يلحقها بصورة-ثانوية-ترجيعية على علاقة بتفاصيل الصورة السابقة، مستنبطة منها -معنى ورسمًا- فيها دائمًا تأكيد للحالة المشخصة في الصورة الأساسية. ولدينا، في هذا القسم، أربع صور أساسية مذيَّلة جميعًا بصورة-ثانوية-ترجيعية، يمكن اعتبار الصور الأربع ترنيمية شعرية واحدة ( )، نلقي الضوء على هذه، ثم نبحث في تركيب كل من تلك على حدة، وبعد ذلك، في دلالاتها معًا، لنصل إلى استنتاجات (( كلية )).
ترنيمة (( تجميعية )) للقسم الأول: وضع غير معقول وغربة غير معقولة تجتمع الصور الأساسية الأربع (وصورها-الثانوية المذيَّلة) التي يتشكل منها القسم الأول من الحركة الثالثة لتشكل ترنيمة واحدة محورها مؤرق للشاعر، إنه المصير الذي ينتظره (والشعب الفلسطيني) ما بعد الحصار، فالخروج من بيروت شيء آخر: ليس خروج موسى من مصر الذي كان له هدف وغاية، وليس خروج المقاومة من عمان التي كان لها أيضًا هدف وغاية. الهدف في الحالة الراهنة قائم دومًا، ولكن بعد أن حطموا له الأساس. والغاية في الحالة الراهنة قائمة دومًا، ولكن بعد أن صيَّروها أقرب إلى التجريد. إنه أشبه بالخروج من التاريخ، فحينما يطرح الشاعر مسألة الخروج، يطرح، في الوقت ذاته، مسألة (( الوصول ))، لتبرز له المعضلة: الخروج نعم، ولكن دون وصول! بينما الوصول يعني تحديد الهدف وتحديد الغاية: منفى وما يستجد عنه، أو وطن وما يستجد عنه، وليس بإمكانه أن يصل لا إلى الواحد ولا إلى الآخر. عند ذلك، يجعل من حقيبته وطنًا، ويبدأ -دون أن ينتهي- غربة ليست معقولة. إذن، الوضع غير المعقول، والغربة غير المعقولة، هما دافعان أساسيان في ترنيمة الوطن-الحقيبة. وهناك، أيضًا، دافع التردد بين الرضاء بالوضع الراهن، أو حمل الوضع الراهن على الكتف، والسير به في الطريق، مجرد السير في الطريق. هذا وسنبحث في هذه الدوافع من خلال صورها.
الصورة الأساسية الأولى: التتويه/ التهجير وطني حقيبة- وحقيبتي وطني- ولكن.. لا رصيف ولا جدار- لا أرض تحتي كي أموت كما أشاء- ولا السماء- حولي- لأثقبها وأدخل في خيام الأنبياء (ص45،46). العبارة الأولى: وطني حقيبة، والمقلوبة: حقيبتي وطني، تشير إلى حالة التتويه/التهجير التي تكلمنا عنها، وتلغي الوطن والمنفى. إنها علاقة مقلوبة، غير طبيعية، تشخيص للوضع الراهن. ومن رمز الوطن-الحقيبة يذهب الشاعر إلى صيغة وطن لا حقيقي: فيعطي وصفًا لهذا الوطن من الداخل: لا رصيف، ولا جدار. بينما الرصيف والجدار علامتان دالتان، الأولى على التجوال، والثانية على الاستقرار، وكلتاهما منفيتان، وكلتاهما تنفيان للفلسطيني، مرة أخرى، كلاً من الوطن والمنفى. ثم يعطي الشاعر وصفًا ((للمواطن)) داخل الحقيبة: لا أرض تحتي.. ولا سماء حولي. وهو من/ في الحقيبة يدلي ببعض الصفات: 1) مطرود من 2) معلق في 3) مرغم على 4) مدفوع إلى. ونضيف من التفاصيل ما يوضح الصفات السابقات أكثر: 1) مطرود من بيروت (المحطة ما قبل- الأخيرة) ليس إلى وطن ولا إلى منفى (وطني حقيبة وحقيبتي وطني). 2) معلق في حقيبة معلقة، بدورها، في مكان غير موجود (لا أرض تحتي ولا سماء حولي). 3) مرغم على الحياة والموت دون إرادته (لا أرض تحتي كي أموت كما أشاء). 4) مدفوع إلى البقاء في الوضع الراهن حتى أن حاول العودة إلى وضع سابق: الوطن- الخيمة (لا سماء حولي لأثقبها وأدخل في خيام الأنبياء)، أو الذهاب إلى وضع لاحق، إذا ما اعتبرنا (( خيام الأنبياء )) موجودة بالفعل، وليست موجودة بالقوة.
الصورة- الثانوية الأولى: يجهل إلى أن يذهب ظهري إلى الحائط- الحائط- الحائط/ الساقط (ص46) الترجيح هنا واضح: الاستناد إلى الحائط الساقط. فتساقط الجدار تساقط للاستقرار، وبالتالي، عدم فائدة الاستناد. ومن الملاحظ في هذه الصورة- الثانوية أنها مقدمة وليست خاتمة. فالاستناد إلى الحائط الساقط يقدم لعدم الاستقرار، يقدم للوطن- الحقيبة التي دون أساس مادي المعلقة في مكان غير موجود. ونحن نقول (( غير موجود ))، لأن الفلسطيني المهجّر في مسعاه الجبري يذهب دومًا إلى الهناك، وليست له علاقة بالهنا. والهناك، بالنسبة إلى وضعه، غير محددة، إنه يجهل إلى أين يذهب.
الصورة الأساسية الثانية: إرادة البحث عن مكان وطني حقيبة- وحقيبتى وطن الغجر- شعب يخيم في الأغاني والدخان- شعب يفتش عن مكان- بين الشظايا والمطر- (ص 46) نبقى في وصف الحالة، والهدف الفني هو التعميق. إن الشعب الذي يخيم في الأغاني والدخان يؤكد استخلاصنا فيما يخص وجود الفلسطيني المهجر في مكان غير موجود. والشعب الذي يفتش عن مكان بين الشظايا والمطر يؤكد استخلاصنا أيضًا فيما يخص أن الفلسطيني المهجّر يذهب إلى ((الهناك)) دومًا (شعب يفتش)، وأنه يجهل إلى أين يذهب، فالتفتيش عن مكان بين الشظايا والمطر لا يعني أنه يعرف أين، وأن يكون هذا المكان بالذات بين الشظايا والمطر، يجعل منه مكانًا تجريديّاً واهمًا . ولكن، من الجدير ملاحظة إرادة البحث (شعب يفتش) عن مكان، وإن جرى ذلك في الوهم. إنه ليس اليهودى التائه، وإنما الفلسطيني المتوّه، لأنه مدفوع إلى ذلك، وهو يبذل الفعل المضاد. وما يفارقه عن اليهودي التائه، في هذه الصورة أنه ليس تائهًا، وإنما متوّه، وأنه ليس راضيًا (( بالعقاب )) ( ) الذي نزل به، وإنما يريد إثبات البراءة. ومن ناحية أخرى، عندما نعرف أن الغجر شعب جوال، يمكن أن نرى فيه صورة الفلسطيني الجوَّال المحاكية لصورة اليهودي المحكوم عليه بالتجوُّل إلى يوم القيامة، ولكن من حيث المظهر، فالجوهر ينبني في إطار آخر غير ديني، إنه إطار سياسي منذ البداية.. والفلسطيني-الغجري تشخيص لحالة في حالة: البحث في التجوال.. والعلاقة (( حقيبتي وطن الغجر )) تنبني من هذه الزاوية في التشبيه بين الغجر والفلسطينيين.
الصورة- الثانوية الثانية: صارت للتجوال غاية وجهي على الزهرة- الزهرة/ الجمرة (ص42). الترجيع هنا أيضًا واضح: فالزهرة/الجمرة، أو الزهرة والجمرة هما من (( أدوات )) الغجري أو رموزه. والنظر إليهما في وضع يكون فيه الوجه مقابل الزهرة التي هي الجمرة، في ذلك توازيات للعلاقة بين الفلسطيني والغجري، لحالتهما الواحدة، ولمصيرهما الواحد بعد أن ارتبط مصير الغجري بالفلسطيني -وليس العكس- بعد أن صارت الحقيبة الفلسطينية وطنًا للغجري، بعد أن صارت للتجوال غاية (البحث عن مكان). أما المعنى المباشر للزهرة، كما يقول القاموس( )، فهو النبات ونوره أو الأصفر منه. وتحديد اللون الأصفر بالذات موحٍ لعلاقته بالنار المتقدة التي هي الجمرة، لنستنتج الاندماج، ولنستنتج، من جديد، المصير الواحد. ويمكن أن تكون الجمرة، ألف فارس غجري، وزهرة الدنيا بهجتها ونضارتها وحسنها، مما يخرجنا من عالم الصورة الأساسية الذي هو من وهم أو دخان إلى عالم بدأت باكورته الأولى (الزهرة) بعد أن جمّر (( القوم )) على الأمر، أي تجمعوا وانضموا.
الصورة الأساسية الثالثة: الاغتراب الأقصى وطني حقيبة- في الليل أفرشها سريرًا- وأنام فيها- أخدع الفتيات فيها- أدفن الأحباب فيها- أرتضيها لي مصيرًا- وأموت فيها (ص46). في الصورة وصف داخلي للوطن-الحقيبة والمتوّه داخلها دون أن يكف عن الفعل الذي صير له أن يكون سلبيّاً: يفرشها، ينام فيها، يخدع الفتيات فيها، يدفن أحبابه فيها، يموت فيها، ويرتضيها له مصيرًا. انتفى البعد الإيجابي في الصورة السابقة بعد أن أرغم الفلسطيني -في الصورة الحالية- على أن يكون (( التائه الجديد )) ( )، بعد أن طرحته كموضوع للطاعة، وجعلته في حالة ضد حالة: الرضاء بالعقاب ضد عدم الرضاء به. إنها الحقيبة-المصير، تشخيص للاغتراب الأقصى: الحقيبة-القبر.
الصورة- الثانوية الثالثة: تعميق مسألة التائه (( الجديد )) كفي على النجمة- النجمة/ الخيمة (ص42-47) الترجيع هنا يتجه إلى خارج الصورة الأساسية السابقة التي يمكن إيجازها في علاقة النوم/ الموت/ الليل، إنه اتجاه نحو النجمة، والتي ترمز زمانًا إلى اتجاه خارج الزمن الحاضر، هو في الصورة اتجاه نحو الماضي المتمثل بالخيمة، لتعميق مسألة التائه. إنه يستوعب حالته وحالة غيره: اليهودي التائه والفلسطيني التائه، أو إنه يستوعب حالة ضاربة في القدم: التائه الذي صار جديدًا. ولكن الكف التي على النجمة لها دلالة تومئ إلى الساهر/العراف الذى يعلم أحوال العالم، أو، على الأقل، يحاول أن يعلم. وهو لا يعلم أكثر من أنه بلا وطن ولا منفى، إلى أمد غير محدد في المستقبل. والصورة القادمة ستكون من واقع الحال، لتؤكد.
الصورة الأساسية الرابعة: لا منفى ولا وطن وطني حقيبة- من جلد أحبابي- وأندلس القريبة- وطني على كتفي- بقايا الأرض في جسد العروبة (ص47). إنه وصف خارجي للوطن-الحقيبة من خارج (( المواطن)). فالوطن- الحقيبة من جلد أحبابه المدفونين فيها، وهي صورة لفلسطين (أندلس القريبة) لا لإسبانيا ولا للجنة. وهي هذا الوطن الذي يحمله (( المواطن)) الفلسطيني على كتفه، البقية الباقية من أرض، في الوطن العربي. بمعنى أن لا مكان له فيه، فحقيبته هي كل مكان. إنه المهجَّر/المتوَّه، حتى في الوطن العربي، دون وطنه الأصلي. كل مكان منفاه، والآن لا منفى له ولا وطن، فحقيبته هي كل مكان.
الصورة- الثانوية الرابعة: عدم الرضاء بالعقاب ضد الرضاء به قلبي على الصخرة- الصخرة/ الحرة (ص47). الترجيع هنا مزدوج: القلب الذي على الصخرة يوحي، للوهلة الأولى، باليأس، وعدم الاهتمام، فهو يذكرنا بالمثل الشعبي: قلبي على ولدي وقلب ولدي على الحجر! والقلب الذي على الصخرة يوحي، أيضًا، بالثبات، والمقاومة، خاصة في التشبيه: الصخرة/الحرة. ولكن ذلك يتم في إطار ((القلب))، وبدافع الترجي، فالحرية، في الواقع، مغيبة. إذن، يبقى التعلق ((العاطفي)) ((بصخرتها)) ( ). وهذا تمهيد لمرحلة قادمة يكون فيها الفلسطيني المتوَّه في حالة ضد حالة: عدم الرضاء بالعقاب ضد الرضاء به.
الوطن و(( المواطن )) في الصور السابقة: ليس للوطن سوى صورة واحدة ثابتة: الوطن-الحقيبة، يلقي الشاعر الضوء عليها من الخارج ومن الداخل، وهي على كتف (( المواطن ))، وعلى التقريب من كل الزوايا، وهدفه التغريب، لإبراز الفاجع القائل بأن الحقيبة كعالم هي كل ما تبقى للفلسطينيين. أما المواطن -أو الفلسطيني- فله صور متعددة متغيرة، وكأننا به في داخل حقيبته يتحرك من زاوية إلى أخرى، ومن وضع إلى آخر نتيجة لحركة الحقيبة في يد (( القدر )). ولهذا، أتت الصورة الأولى عبارة عن تشخيص له في الحقيبة، مع جهله التام بما يجرى خارجها، بما يجرى له فيها. أما الصورة الثانية، فهى تعبر عن رفض الفلسطيني الدخول في جسد اليهودي التائه، وقبوله بالغجري الجوَّال، تحت شرط البحث في التجوال. ولكن هذا الشرط لا يلبث أن يزول عندما يسقط (( المواطن )) الفلسطيني تحت وطأة شرط وطنه-الحقيبة. هنا، يكف عن البحث، ويرتضي بالتجوال. والصورة الرابعة والأخيرة تدعم هذا الاستخلاص، عندما نرى فيها الفلسطيني حاملاً وطنه الغريب على كتفه غريبًا في كل وطن.
استنتاجات: مقالة محمود درويش ((خطاب قصير في أسبوع طويل)) ( ) تلخص أسطورة الفلسطيني المتوّه، أو، ما يدعوه، هو، بـ (( التائه الجديد ))، على الشكل التالى: 1- من البحث عن الوطن (مع أل التعريف)، إلى البحث عن منفى، إلى البحث عن قبر، تسجل الخطوة الفلسطينية إشارة حية شبه وحيدة. 2- دورة البحث الفلسطينى، المأسوية والبطولية معًا، من وطن إلى منفى إلى قبر، وهى تعبير عن مفارقة اختلاط مصالح القمع الإسرائيلي بمصالح القمع العربي، تثبت حاجة الفلسطينيين الملحة إلى وطنهم، ولا تثبت استعداد المجتمع العربي لاستيعابهم كما تقول المقولة الصهيونية الكلاسيكية والراهنة. 3- لم يكن الفلسطيني المشار إليه، المشار إليه دائمًا، في حاجة إلى الدهشة، لأنه منذ ألقت به حراب الاحتلال الإسرائيلي (( ضيفًا )) على إخوته العرب -هكذا سموا اللاجئ في البداية- قدموا له كل الوعود التي لا تتحقق، وظل مطاردًا بما هو أكثر من التمييز، كان موسومًا بالعار. إنه متهم ومطارد ومشار إليه، إنه لاجئ، إنه (( التائه الجديد )). إذن، التيهان الفلسطيني الذي استنفد شرطه المصطنع، يفرض اليوم، أكثر من أي وقت مضى، عودة الفلسطيني إلى فلسطين، ليجد له قبرًا فيها قبل أن يموت للمرة الأخيرة. تعاملنا مع شخصية المتوّه الفلسطيني تعامل غريماس كما يراه بارت، ليس حسب من هي وإنما حسب ماذا تفعل، لهذا يسميها غريماس ((الفاعل))، بما أنها تشارك في ثلاثة محاور سيميائية كبرى نجدها في الجملة (فاعل، مفعول به، مضاف، مضاف إليه، ظرف زمان، ظرف مكان... إلخ)، وهذه المحاور هي الاتصال (ما يجري في عالم الحقيبة)، الرغبة أو البحث (الخروج من عالم الحقيبة)، والمعاناة (الغربة في العالم). وبما أن هذه المشاركة تنتظم ازدواجًا، يخضع العالم اللانهائي للشخصية أيضًا لبنية النماذج (فاعل/مفعول به، مرسل/مرسل إليه، مساعد/معارض) بنية التائه/المتوّه في السياق الذي ندرسه عبر كل حركة الخروج هذه، ولأن الفاعل محدد بطبقة، يمكنه الامتلاء بممثلين مختلفين يتحركون حسب قواعد التعدد والإبدال والإكمال أو النقصان (المرجع نفسه، 17)، وهذا ما ينطبق على مجموع الشعب الفلسطيني تحت كافة مظاهر تيهانه.
القسم الثاني: بنية الوداع سنقسم بنية الوداع إلى خمس ترنيمات شعرية نعطي لكل منها عنوانًا. وسنقوم بفهم كل ترنيمة على أساس تكثيفي لأفكارها، قبل أن نقدم على عملية تفسيرها على أساس استكشافي لصورها، وسنقوم بعملية الاستكشاف هذه على مرحلتين: الأولى فيما يخص التركيب، والثانية فيما يخص الدلالة.
تقسيم بنية الوداع إلى خمس ترنيمات
الترنيمة الأولى: الشكر يودع الشاعر (( أهل لبنان ))، ويأخذ في شكر (( لبنان ))، الشجيرة والسحابة والمسدس والدمعة. فالوداع للأهل، والشكر للبلد. والبلد المشكور مرتبط دومًا بالشاعر الشاكر، بدمه أو بيده أو برحيله أو بذاكرته، بعلاقة تمتد إلى أهل البلد الذين يودعهم الشاعر: الفقراء والباكون على وداعه، أو بعلاقة تمتد إلى ضد-أهل البلد الذين لا يودعهم الشاعر: المحتل والأعداء، وكأنه حينما يشكر يكابد أو يعاتب.
الترنيمة الثانية: الخطبة بعد الشكر يخاطب الشاعر أهل لبنان مذكرًا بخطبة الوداع التي أقامها النبي محمد على المسلمين قبل موته. هو سيموت كمحمد النبي، وهذه هي اختيارات أهل لبنان المستجدة عن إكمال رسالته: انشروني، أطفئوا لهبي أو زيدوه اندلاعا. وهذه هي اختيارات الشاعر المستجدة دومًا عن إكمال رسالته: حملت روحي فوق أيديكم فراشات، وجسمي نرجسًا فيكم.. إلخ. ولكن بينه وبين محمد النبي فارقًا وثنيّاً واحدًا، أنه يقدم نفسه لأهل لبنان قربانًا: هذا دمي، هذا رحيلي، هذا بكاء رصاصنا، هذا يتيم زواجنا، هذا نشيجي.. إلخ.
الترنيمة الثالثة: النبوءة يتقمص الشاعر دور العرَّاف، ويدلي بنبوءة مزدوجة، تسير في اتجاهين: المودَّع والمودِّع. في الاتجاه الأول، يكشف عن حال أهل لبنان بعد الوداع، وهو حال سيصير بهم إلى إنكار الشاعر، وكأنه إنكار بطرس للمسيح. ونقول (( حال سيصير بهم إلى )) لأن المطر الذي سيجيء أهل لبنان، مثلما يتنبأ الشاعر، سوف يغسل ما ترك على شوارعهم من الكلمات، سوف يطرد ما ترك على نوافذهم من الشهوات، سوف يمحو ما لمس من الصنوبر في جبالهم.. إلخ، وهم لم يفعلوا شيئًا، فالمطر قدر، وإنكار بطرس للمسيح قدر أيضًا. أما في الاتجاه الثاني، فيكشف الشاعر عن حاله عندما يقول: حدَّقت في كفِّي.. فلا أبصر إلا بحرا. وكأنه في كلا الاتجاهين يريد أن يدلل على اغتراب الواحد والآخر حين اغتراب الواحد عن الآخر: من رآني عد أكفاني، وغطى جرحكم.. يقول الشاعر. ولكنه قبل أن يقول، في هذه الترنيمة، لأهل لبنان، وداعًا للمرة الثالثة، يصابر لحظة الوداع التي يكابدها في الوقت ذاته، عندما يدلي: لا جوع في روحي، عشاؤكم ليس الأخير، ليس فينا من تراجع. وكأنه يؤمل العودة إلى لبنان، والالتقاء من جديد بأهلها. أو، أنه يلقي بتبعية الخروج وتبعياته على أكتاف غيره. وهو، هنا لا يلغي النبوءة، عندما يقول: أكلت من الرغيف الفذ ما يكفى المسير إلى نهايات الجهات، بل، على العكس، يثبتها، وأكثر ما يثبتها في اتجاهه.
الترنيمة الرابعة: المصير يشير الشاعر إلى المصير الواحد الذي يجمعه (هو أو أهل فلسطين) وأهل لبنان. يقول: جسدان، صورتان، اسمان. وبدافع المصير الواحد انبنى عملهما المشترك: جسدان، يزودان، وبدافع المصير الواحد انبنى شكلهما المشترك: صورتان لحظوة، وبدافع المصير المشترك انبنت دلالتهما: اسمان للتوحيد. وفى (( تابوت هذا الشرق ))، مثلما يقول الشاعر، كان لصاحبي المصير المشترك هدف مشترك، ومنه يستمد المصير الواحد معناه: أن يصبح الشرق شيوعيّاً، أو، على الأقل، ما تتضمنه كلمة (( المشاع )) من عدالة اجتماعية، وأن يكون الناس أحرارًا .
الترنيمة الخامسة: الخاتمة/ الفاتحة في هذه الترنيمة يختم الشاعر القسم الخاص ببنية الوداع والوداع نفسه عندما يقول بصيغة الجمع: والآن، أكملنا رسالتنا. والخاتمة ستأتي مُرة، لأنها وداع متبادل، ولأنها خاتمة لعمر طويل قضاه الشاعر في لبنان مع أهله، ولأنها الفاتحة (( لاتحاد الشقيق والعدو )) الدافع للسفر بالقوة إلى لا مكان يمكن الموت فيه.
* * *
تركيب الصور التي تتشكل منها الترنيمات السابقة
الترنيمة الأولى
الصورة الأولى: صورة من ثلاث صور ثانوية تتشكل الصورة الأولى، التي هي تشخيص للشكر، من ثلاث صور ثانوية، ومن ثلاث زوايا، نستدل من عناصرها البنيوية على أسباب الشكر، وعلاقة الشاكر بالمشكور المجازية، حيث يلعب المشكور فيها دورًا وسيطًا.
الصورة الثانوية الأولى: وداع للجميع يا أهل لبنان.. الوداع- شكرًا لكل شجيرة حملت دمي- لتضىء للفقراء عيد الخبز، أو لتضىء للمحتل وجهي كي يرى وجهي- ويرتدي الخداعا- (ص 47) الصورة الثانوية الأولى مستهلة بعبارة للوداع شمولية، فكلمة (( أهل )) لا تفرق بين من كان مع أو من كان ضد المقاومة، وكلمة (( لبنان )) لا تفرق بين سفح وواد، بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية، وعنصر (( الوداع )) هو وداع للجميع، وهو، بالفعل، للجميع. وفى العبارة إشراك لترك أهل لبنان وحدهم، وفى الإشارة جسامة وضع تابع للوداع. ويمكن أن يكون في مقصد الشاعر التخصص، فأهل لبنان، في نظره، هم حلفاؤه الذين يستحقون أن يكون لهم لبنان، هذا اللبنان الثوري الخاص الذي يحل محل العام ليشمله، ولكن هذا لا ينفي جسامة الوضع الذي يتركه الشاعر وراءه، والذي سيجده أمامه. والعبارة التالية هي عبارة الشكر، عنصر الشكر هذا موجه إلى كل شجيرة حملت دم الشاعر. الشجيرة مجاز سنرى لمن، ولكن أول ما نلاحظ، هنا، أن الشاعر (( يشخصن الشجيرة ))، وكأنها شخص من دم ولحم، وكأنها إنسان. إنها تحمل، وتضىء، وتختار لمن تضىء، وماذا تضىء، وتوفر شروط الرؤية للغير وأهدافها. الشجيرة التي تحمل الدم تدلل على أنها شجيرة (( عقوق ))، وإذا كان الدم هو دم الشاعر، فسيغدو الأمر أخطر، لكن شكر الشاعر للشجيرة التي حملت دمه، ولكل شجيرة قامت بنفس الفعل، يبدد الفرضية الأولى، وعنصر التشكيك فيها، ويؤكد على إيجابية الاستعارة، لتحمل كلمة حملت معنيين، معنى حمل يحمل الشىء بين يديه أي يرفعه عن الأرض، وبالتالي يحفظه، ومعنى حمل يحمل طفلاً في الأحشاء، وهنا، تأخذ الشجيرة صورة المرأة الحبلى، ومن كلا المعنيين ((الإيجابيين)) استنتاج الإضاءة. ثم لا يلبث الشاعر أن يعود إلى عنصر التشكيك، عندما يوجه فعل الإضاءة إلى الفقراء والمحتل معًا، فيثبت في الشجيرة صفة الوفاء وصفة العقوق في آن واحد. أو صفة العقوق (( الكلية )) عندما نعرف أن الشجيرة تضيء للفقراء عيد الخبز من دم الشاعر. حتى أنه يزيد من التعميق، عندما يساوي أو يوازي بين الفقراء (حلفاؤه) والمحتل (أعداؤه) حين سلط عليهم، بعد أن وضعهم جنبًا إلى جنب (وليس وجهًا لوجه) ضوء دمه. وهو، بالتالي، يلجأ إلى عنصر التعرية حين ينزع من عيد الخبز معنى العيد، فهو راحل، والعيد لن يصبح (لن يستمر أو يبقى) عيده. وينزع عن وجه المحتل قناع الخديعة، رغم أنه في الصورة ((يرتدي الخداعا )). إنه يعري الواحد والآخر، مع أنه لا يتردد لحظة واحدة عن (( إضاءة )) موقفه الثابت إلى جانب المسحوقين، فهو يسفح دمه لأجلهم، تحت عنصر التضحية بالمعنى الأسطوري. والشجيرة الصغيرة التي حملت هذا الدم، والتي ستصبح شجرة كبيرة، إذا كانت تدلل اليوم على ضعف/ بداية العلاقة بين الشاعر والحليف، فهي ستدلل غدًا على قوة ذات العلاقة. إنها علاقة إستراتيجية في كل الأحوال.
الصورة الثانوية الثانية: تواطؤ وتواصل شكرًا لكل سحابة غطَّت يديَّ- وبللت شفتيَّ- حتى أعطت الأعداء بابًا... أو قناعا- (ص47). يكرر الشاعر شكره الموجه الآن لكل سحابة غطَّت يده، وبللت شفتيه. ولأول وهلة، نرى أن هناك تواطؤًا بين الشاعر وكل سحابة يعنيها أمره: تغطي يديه- تبلل شفتيه. أي تخفي يديه وما تصنع، وتبلل شفتيه عند الظمأ. هناك عنصران للتواطؤ والتواصل، فاليدان المغطيتان بالسحابة؛ لأنهما مغطيتان بها تقدران على صنع ما تريدانه، والشفتان المبللتان بالسحابة، لأنهما مبللتان بها تقدران على الاستمرار في الحياة، أو، على الأقل، الاستمرار في الكلام. وهو تواصل في اتجاه السحابة من يدي الشاعر وشفتيه؛ لأن للسحابة وظيفة: أن تأتي بالظل لتغطي شيئًا، وأن تأتي بالمطر لتبلل شيئًا. عندما تتحول يدا الشاعر وشفتاه إلى موضوع للسحابة، ستقضي السحابة غرضها، نريد القول ستحقق وظيفتها، وبالتالي وجودها. وعندما نعرف أن السحابة سمِّيت بذلك لسحب الريح لها، تبرز لها صفة جديدة تحت عنصر الخذلان، خذلان صاحبها الذي هو الشاعر. إذ تسحبها الريح منه إلى أعدائه ليحصلوا منها على الذريعة (الباب) أو الإدعاء الكاذب- (القناع). هكذا تكون العلاقة بالسحابة المزدوجة: بين الشاعر والسحابة وبين أعداء الشاعر والسحابة، وكذلك، فإن دافعها مزدوج أيضًا تحت عنصري: التواطؤ من ناحية والتحريض من ناحية أخرى. والجدير ملاحظته أن الشاعر يوجه شكره لكل سحابة من هذا النوع، وليس من نوع آخر موجود حتمًا، لا يمكن أن يكون فقط إلى جانب الأعداء، فالصفة المزدوجة للسحابة تقوم دومًا؛ لأنها إن تواطأت مع أعداء الشاعر، فستلعب دور المحرض للشاعر، أي أنه لا بد من ثنائية لوظيفتها. أمَّا النوع الآخر من السحاب الذي لا يشكره، فهو إما (( المحايد )) وهذا غير ممكن في حالة السحابة التي تسودها الريح، وإما الذي لم يتشكل بعد، أو إنه تجاوز مرحلة التشكل إلى المطر. وفى الحالتين الأخيرتين تبقى المسألة رهن عوامل الطقس الطبيعية التي يمكن فيها الاستثناء، لهذا، يتركهما الشاعر. وسنرى، في الوقت المناسب، أن عنصر التحديد في التجريد من الأهداف الأساسية للشاعر. حتى أن السحابة التي هي سحابة، والتى يشكرها الشاعر، هي مجردة وحسيّة في السياق التخيلي الذي نعمل على فكفكته في هذا المستوى من التحليل قبل أن نفك الرموز، ونكشف عن الجانب الحسّي فيها.
الصورة الثانوية الثالثة: تلخيص اللحظة الأخيرة للوداع شكرًا لكل مسدس غطى رحيلي- بالأرز والزهور- وكان يبكي أو يزغرد ما استطاعا- (ص 47). يشكر الشاعر، هذه المرة، وهى المرة الثالثة، كل مسدس غطى رحيله بالأرز وبالزهور؛ ليحدد المشكور، وكذلك سبب الشكر، فالشاكر يربط الواحد بالآخر دومًا ربطًا صريحًا ودالاً. والصورة، هنا، تلخص اللحظة الأخيرة للوداع، حيث غطَّت المسدسات المناضلة رحيل الشاعر بالأرز وبالزهور. وهذا طقس من طقوس الفرح لتغطية الحزن، وليس فقط الرحيل الذي هو فعل أجبر عليه الشاعر، وبالتالى، سيكون هناك عنصران هما ردان للفعل: عنصر البكاء أو عنصر الزغردة. ومن الملاحظ أننا لم نقل رد فعل مزدوج؛ لأن المودعين كانوا قسمين، قسم يبكي أو قسم يزغرد، وليس هناك من يبكي ويزغرد معًا، وفى كلتا الحالتين كان الكل حزينًا: فإذا بكيت يعني هذا أنك زغردت، وإذا زغردت يعنى هذا أنك بكيت. وبالإمكان القول، إن البكاء والزغردة كانا عنصرًا واحدًا، وإن الحزن والفرح كانا عنصرًا واحدًا. لقد زالت الفروق بين المشاعر في المعانى، وصارت كلها التعبير عن الخروج. هذا الخروج الذي كان، لجسامته، تاريخيّاً لا حدثًا في التاريخ. عنصر الخروج في حد ذاته قاموس من المعاني، أثر فيها على اختلافها، وجعلها مترادفة. إنها الهزيمة العسكرية (بعد كل ذلك الصمود) والانتصار المعنوي. ولكننا نسمي ذلك (( هزيمة )) الآن، بعد لحظة الوداع. في تلك اللحظة لا أحد كان يفكر أنه مهزوم، وإذا فكر، فهو لا بد أنه حالم أو واهم، لأن الأرز والزهور وكل هذا الفرح وكل هذا الحزن المرادف للفرح تقول إنه المنتصر، أو إنه سيكمل الانتصار، وهذا ما تومىء إليه الدموع إلى جانب كل العذاب القادم. وما يمكن ملاحظته، في هذه الصورة الأخيرة لترنيمة الشكر، أن الشاعر، مثلما كان عهده في الصورتين السابقتين، يقول (( كل مسدس ))، ليشير إلى الطرف الذي معه (المسدس الذي يطلق الأرز والزهور بدلاً من الرصاص)، وغير مباشرة -وهذا لأول مرة- إلى الطرف الذي ضده، ثم ((ينساه)). فلحظة الوداع كانت شديدة على الشاعر، وسنرى أنه لم يحتفظ منها للذكرى كعنصر من العناصر التضمينية للصورة سوى المؤلم فيها. سينسى الأرز والزهور والزغاريد حتى المسدس الذي وقف إلى جانبه، لأن لحظة- ما- بعد- الوداع هي شديدة أيضًا، إن لم تكن الأكثر شدة.
الصورة الثانية: اللحظة الأشد تراجيدية الصورة الثانية هي النتيجة المباشرة للصورة الثانوية السابقة، وهي المركَّب الثاني للترنيمة الأولى. إذا كانت الصورة الأولى، التي هي المركَّب الأول للترنيمة الأولى، تعبرعن أسباب الشكر، فالصورة الثانية تعبر عن مشاعر الشاكر كحصيلة للأسباب. وعلاقة الشاكر بالمشكور تبقى مجازية ولكنها، هنا، قائمة في الحاضر بعد أن استخلصها الماضي -أيام كانت بيروت- للشاعر. ومن هذه الناحية، هي الأشد تراجيدية. يقول الشاعر: يا دمعة هي ما تبقى من بلاد- أسند الذكرى عليها.. والشعاعا- يا أهل لبنان الوداعا- (ص47-48). هذه الدمعة هي البقية الباقية للشاعر من لبنان/أهل لبنان، ويمكن أن تكون البلد الباقي للشاعر في منفاه. وهي تأتيه من الماضي حين يقول (( هي ما تبقى ))، إلى الحاضر حين يقول (( أسند الذكرى )). ومن الحاضر يأخذ الشاعر بالتذكير والتشكر عنصرين من عناصر الصورة الثانية هذه: شكرًا لكل شجيرة حملت- شكرًا لكل سحابة غطَّت- شكرًا لكل مسدس غطّى. التذكير عن طريق التشكر بالماضي الغريب (من غرابة)، والذي يثير الحزن اليوم في صدر الشاعر، بعد أن أثار رحيله الحزن بالأمس. أي أن الشاعر لم يزل يحيا حزن الأمس، فيعطي للحزن صفة الأمس من اليوم، صفة للزمان التاريخي إلى جانب صفته للزمان النفسي. وذهاب الماضي إلى الحاضر ليس فيه عنصر الثبات، ولكن عنصر انفتاح الواحد على الآخر. والانفتاح، بعد الحصار، نفسي وتاريخي معًا، من الحزن إلى الفرح، ومن الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، وهذا ما يعبر عنه البيت: أسند الذكرى عليها (أي على الدمعة) والشعاعا. لأن الشعاع الذي ينبثق في الفضاء من مصدر الضوء (الثورة) هو المرادف للانفتاح اللاغي لثبات الحزن (الدمعة) أو الزمان الماضي (الذكرى). والفعل (( أسند )) يوحي بمحاولة الخروج (الشعاع) من الانكسار، لا البقاء فيه (الذكرى). وإذا كان إسناد الذكرى على الدمعة يوحي بإبقاء شيء من الماضي، فهو الشيء (( الإيجابي )) الذي لن تسمح له الظروف الراهنة بأن يتكرر ثانية.
الترنيمة الثانية
الصورة الأولى: صورة من صورتين ثانويتين تتشكل الصورة الأولى، التي هي تشخيص لاختيار أهل لبنان من صورتين ثانويتين نقف فيهما على هذه الاختيارات وعلى علاقة أهل لبنان بالشاعر، يلعب فيها أهل لبنان دورًا وسيطًا، من خلال علاقة حقيقية.
الصورة الثانوية الأولى: توليف وتواتر بين الماضي والحاضر اليوم أكملت الرسالة- فانشرونى، إن إردتم، في القبائل توبةً- أو ذكرياتٍ- أو شراعا- (ص48) اليوم أكملت- عبارة عن لحظة توليف بين الحاضر والماضي، وهى من لحظة الوداع السابقة-القائمة، أي أنها أيضًا لحظة توليف بين صورتين، صورة الشكر وصورة الخطبة. ونلح على تسمية هذه الصورة بصورة ((الخطبة)) رغم أن صورة الشكر لا تخرج عن ذات الإطار: مخاطِب/ مخاطَب. ويمكن اعتبار الشكر مقدمة للخطبة، التي تبدأ حقيقة مع الأبيات الواردة أعلاه، والتى تومىء في طريقتها الكلامية إلى الخطبة الكلاسيكية، إضافة إلى التعميق الأسلوبي للخطاب الشعري. اليوم أكملت- أيضًا عبارة عن لحظة تواتر درامية بين الماضي والحاضر، فالرسالة التي اكتملت (ماضي) اليوم (الحاضر)، ستبدأ بفعل جديد: انشروني (أمر/ حاضر يومىء إلى المستقبل). وصفة التواتر الدرامية هنا من صفة الخروج من الماضي عن طريق الأمر/ الحاضر إلى المستقبل، أو، بكلام آخر، الخروج من لبنان عن طريق أهل لبنان إلى الوطن الحقيبة/ التشخيص للفاجع الفلسطيني في اللحظة الراهنة. وفعل الأمر (انشروني) الموجه إلى أهل لبنان هو المعمق للتواتر القائم، فهو يعني أن اكتمال الرسالة ليس نهاية، وإنما بداية لنهاية جديدة غير محددة: توبة أو ذكريات أو شراع. أما فعل الترجى (إن أردتم)، فليس دافعه المجاملة أو التأدب، إذ من موقعه بعد فعل الأمر يعطى رد فعل معاكس لتكريس التواتر الذي عبثًا يحاول أن يجد ثغرة انفراج في الحاضر. فالماضي الحسى الذي عبرت عنه الرسالة انتهى في حاضر حسي أيضًا، ولكنه واقع في مأزق: الرسالة -وكل ما تعني من مرادفات مجازية- اكتملت. ولا يمكن الخروج من المأزق الحاضر إلا عن طريق عنصر التجريد: توبة أو ذكريات أو شراع، وإن جرى ذلك بوسيط حقيقي/حسي (أهل لبنان)، إلى نقطة مطلقة، أو، إلى مستقبل لا محدد. وما يمكن أن يدعم الاستخلاص السابق تحول الشاعر -الذي هو طرف حسي من علاقة حقيقية بأهل لبنان- في/ إلى رسالته نفسها: اليوم أكملت الرسالة فانشروني، دون أن تكون هناك صلة بمفهوم صوفي ((للانتشار)) أو (( التبخر )) أو (( التسامي )). إنه تحوّلُ العنصر الحسي في/ إلى التجريدي. والانتقال من المأزق إلى المطلق هنا أفقيّاً يعني القبائل بصيغة الجمع، وعموديّاً يعني التوبة والذكريات أو الشراع، ويمكن أن تنعكس الآية في مثل هذا الفضاء المفتوح، ليعني المطلق أفقيّاً: التوبة والذكريات والشراع، وهذه كلها تمثل الاختيارات بصيغة الجمع، وعموديّاً يعنى القبائل. وهو، هنا وهناك، التعبير عن المثل العليا (الرسالة) الموجهة لكل الناس (القبائل).
الصورة الثانوية الثانية: الانتقال من المأزق إلى المطلق اليوم أكملت الرسالة فيكم- فلتطفئوا لهبي، إذا شئتم، عن الدنيا- وإن شئتم فزيدوه اندلاعا- (ص 48) هنا، وإن تحدد إكمال الرسالة في أهل لبنان (عنصر التحديد)، فلن ينفي ذلك عنصر التجريد، وإلا تعمق البقاء في المأزق القائم، من ناحيته كزمان حاضر ومن ناحيته كمكان حاضر (أهل لبنان/ لبنان)، والمكان والزمان، هنا، هما حسّيان. ويمكن تفسير تحديد إكمال الرسالة، في أهل لبنان بالذات، بالعلاقة مخاطِب/ مخاطَب التي بدأت قبل الآن بكثير مع ابتداء الرسالة. فالماضي الذي هو الرسالة انبنى على أساس هذه الثنائية وإلا حصل ((الاختلال))، ولما كان الوصول إلى الآن. وبمعنى آخر، لما تكونت الرسالة لتكتمل مع لحظة الوداع. وإذا كانت العلاقة، الآن، بين مخاطِب ومخاطَب، أي، علاقة ((شفوية))، وبالتالي هي لا علاقة -وهذه صفة من صفات مأزق الحاضر- فإن العلاقة، في الماضي، بين مقاتِل ومقاتَل، أي، علاقة عملية. والشاعر يريدها أن تكون عملية أيضًا في المستقبل: فلتطفئوا لهبي، أو زيدوه اندلاعا، دون أن ينجح في تحقيق ذلك، عمليّاً بل تجريديّاً، فلتطفئوا لهبي، إذا شئتم، عن الدنيا- وإن شئتم فزيدوه اندلاعا. أولاً بسبب هذا التحول للشاعر ذاهبًا من العنصر الحسي في/إلى العنصر التجريدي (اللهب)، وثانيًا بسبب إعطاء أهل لبنان الفرصة على الاختيار: إن وإن، حتى أن الاختيار الثاني: أن يزيدوا لهب الشاعر اندلاعًا ملغى مسبقًا في الزمان الحاضر، وتحققه في المستقبل (( غير مضمون)) إلا على أساس القاعدة السابقة: الانتقال من المأزق إلى المطلق. والصورة إطفاء لهب/الشاعر عن الدنيا (أو العكس) هي تجسيم حقيقي لفضاء مفتوح غير حقيقي.
الصورة الثانية: تشخيص لاختيارات الشاعر تتشكل الصورة الثانية، التي هي تشخيص لاختيارات الشاعر، من عدة صور ثانوية مركبة على مستوى اللفظة، وبالتالي، على مستوى المعاني. ولهذا، لن نعمل على (( تجزئتها ))، مثلما عملنا مع الصورة السابقة. وإذا كان من الملاحظ في الصورة السابقة أن اختيارات أهل لبنان من الشاعر عبرهم في اتجاه ثالث: القبائل/الدنيا، فإن اختيارات الشاعر، في الصورة الحالية، منه عبرهم في اتجاههما، وهذا يدلل على أن الشاعر، في الصورة الأولى، عبارة عن أحد الأمرين المخيَّر بينهما لأطراف ثلاثة، أي أنه عنصر شمولي، وفي الصورة الثانية، عبارة عن أمر خاص بأهل لبنان، أي أنه عنصر نوعي. وهو بالتالي، سيبقى المحور سواء أكان داخل لبنان أو خارجه. إنه علاقة الكلي والخاص البديل الوحيد الحقيقي رغم كل شيء. لنفحص هذه الصورة المركبة عن مقربة: أنا لي كما شاءت خطاي- حملت روحي فوق أيديكم فراشات- وجسمي نرجسًا فيكم- وموتاي اندفاعا- يا أهل لبنان.. الوداعا-(ص48). البيت الأول يشير إلى أن الشاعر لنفسه ليس كما أرادت نفسه، ولكن كما شاءت خطاه. إنه يستمد قدر ذاته من غربته، لهذا، نجد أثر لبنان وأهل لبنان عليه كبيرًا، ولهذا، أيضًا، هو يفعل، وفي فعله يعطي من نفسه -لم نقل من فعله يعطي-، في فعله ينتج من نفسه: يحمل روحه فراشات، وجسمه نرجسًا، وموتاه اندفاعًا. وكأنه يريد القول: للغربة ثمن، وأنا أدفعها بأغلى ما عندي، وأدفعها لأهل لبنان بالذات الذين لم يترددوا عن مد أيديهم ليحمل الشاعر روحه فوقها. وتحول الروح إلى فراشات في فعل الشاعر، ولأجل أهل لبنان، هو، أيضًا، تحول في فعل أهل لبنان، بفعل أيديهم، ولأجل الحدائق اللبنانية وكل الحدائق (مرة أخرى عنصر البعد النوعي الخاص بأهل لبنان). ونفس الشىء يمكن أن نقول عن العلاقة جسم الشاعر -في أهل لبنان- نرجسًا، وكذلك موتى الشاعر -في أهل لبنان- اندفاعًا. ومن الصورة الأخيرة هذه نستدل على أن قدر الذات يستمد من الغربة على أساس استيعابها حتى الموت. موت سيضع حدّاً للاغتراب الفلسطيني والاغتراب اللبناني في آن واحد، بعد أن صارت للغربة صفة شمولية بفضل العنصر النوعي لأهل لبنان، ولفداء الذات فداء للغير (ما نفسر به النرجس الذي هو انقلاب هنا لأسطورة نارسيسوس)، وتحريض على الإقامة في الدنيا/الحدائق، وليس في وطن/حقيبة دون جدران ولا أرصفة.
الصورة الثالثة: صورة من صورتين ثانويتين الصورة الثالثة مركبة كسابقتها، سنقسمها إلى صورتين ثانويتين، الأولى تمثل العلاقة المركبة: دم الشاعر- أهل لبنان- ليل العرب، ثم: دم الشاعر/ دم أهل لبنان- أهل لبنان- رمل العرب. التركيب واضح بين الفاعل (أهل لبنان) والمفعول به (دم الشاعر) والمضاف إليه (العرب)، بينما دم الشاعر بقدر ما يعقد العلاقة الثنائية الجانب شكلاً بقدر ما يفكها مضمونًا. أما الصورة الثانوية الثانية، فهي جملة علاقات أحادية، الثابت فيها الشاعر وأهل لبنان والعرب، والمتغير فيها هو المضاف للشاعر ولأهل لبنان وللعرب. إنه مضاف متنوع لا متعدد كلفظة (( الدم )) في الصورة الثانوية الأولى، ومن تنوعه يعطى صفة التعدد للصورة هنا، والتبادلية بين العلاقات التي هي علاقات ثلاثية الحركة يقوم أهل لبنان فيها -كالعادة- بفعل الوسيط.
الصورة الثانوية الأولى: الساخر في الفاجع هذا دمى، يا أهل لبنان، ارسموه قمرًا على ليل العرب- هذا دمي/ دمكم خذوه ووزعوه- شجرًا على رمل العرب- (ص 48). لهجة التفجع هنا هي المهيمنة والساخر فيها عنصرها الأساسى. أن يرسم أهل لبنان بدم الشاعر قمرًا على ليل العرب فيه من التفجع ما يجعل للساخر مذاقًا مرّاً. هنا يركّب الشاعر حالة فخار (دم- قمر) لينقض حالة عار (ليل- عرب). والتركيب دم- قمر، في إطار الشاعر/ الضحية، ليدلل على أن هذا الدم قد سفح لأجل قضية غالية، وبعد مقاومة شديدة جعلت من دم الشاعر في مجازه قمرًا. أما إذا كان التركيب دم- قمر في إطار الشاعر/ المضحى به، فهذا للتنديد بالطرف الثالث الذي لم يتحرك ليفتدي المضحى به بضحية (( محللة ))، مثلما تفيد الأسطورة، فيحفظ الدم لقضيته، ويحول دون المجزرة. وعنصر التنديد هو تنديد بالعرب عن طريق استعارة: ليل العرب. إنه ليل حالك يشير إليه مطلب رسم القمر على هذا الليل، ليدلل القمر، من جديد، على تقدير الدم الذي يصير قمرًا، وعلى التنديد بحالة النوم التي أخذت العرب وقت الحصار. الدم- القمر يندد بحالة، ولا ينقذ صاحب الحالة من النوم- الموت. الحالة اللافاعلة شاملة (ليل)، وكذلك صاحب الحالة (عرب). هنا، لا تفضيل لدى الشاعر بين الطبقات، ولا بين الأحزاب، ولا بين الأنظمة. وإذا ما تخيل للبعض أن هناك تفضيلاً بين ليل العرب ورمل العرب، مثلما يدلل عليه الجزء الثاني من الصورة، فنحن نتبنى التخصيص. إذ أن الليل المهيمن على العرب يشير إلى العرب أينما كانوا مع شمول حالة الظلام تحت كافة معانيه، وإن لفظة ((رمل )) تشير إلى تحديد جغرافي متمثلاً بصحراء الأغنياء، كما وتشير عبارة دمي/ دمكم إلى تحديد فيزيائي متمثلاً بالدم الفلسطيني/ اللبناني الواحد، دم الفقراء، ومن خلال التحديدين الأول والثانى يبدو الصراع الطبقي القائم، وليبدو، بالتالي، موقف الشاعر الواعي من الحالة اللافاعلة الشاملة. ومثلما قلنا في الدم المرسوم قمرًا على ليل العرب، نقول في الدم الموزع شجرًا على رمل العرب. فالصورة حاملة لعنصري التدليل والتنديد معًا، وفى التدليل يكمن التنديد.
الصورة الثانوية الثانية: التدليل في التنديد يواصل الشاعر (( لعبته )) الشكلية السابقة ليصل إلى الهدف الدلالي المركب من ناحيته كتدليل ومن ناحيته كتنديد. وسنعرض، هنا، لأجزاء الصورة الكاشفة للعلاقات فيها . هذا رحيلي عن نوافذكم وعن قلبي انحتوه- حجرًا على قبر العرب (ص 48). الرحيل يعلن عن ضياع الدم المسفوح، ويجعل منه قمرًا وشجرًا في عالم المثل، فالرحيل وحده الحقيقي، وهو حركة الفاجع من الماضي (أو الحاضر): رحيلي عن نوافذكم وعن قلبي في اتجاه الحاضر (أو المستقبل): انحتوه حجرًا على قبر العرب. وهو حركة الفاجع من مكان كان (أو يكون): نوافذكم- قلبي، في اتجاه مكان يكون (أو سيكون): حجر- قبر. وهو أيضًا حركة الفاجع الدلالي من الرحيل في اتجاه الموت. وفى الشطر الأول من البيت يبدو الانفصام: الرحيل عن نوافذ أهل لبنان وعن قلب الشاعر، بينما فى الشطر الثاني من البيت يبدو الالتحام: نحت الرحيل حجرًا على قبر العرب. والتفجع من خلال عنصر التدليل قائم بين الوضعين وفى كليهما، لأن أحدهما استمرار للآخر، ولأن في الانفصام لا يوجد التحام، وفى الالتحام لا يوجد انفصام. أو، بتعبير آخر، لأن الرحيل سيؤدى إلى تدعيم الموت العام، ولأن الرحيل عن نوافذ أهل لبنان هو بمثابة الرحيل عن القلب من ناحية، ومن ناحية أخرى، هو بمثابة حجر على قبر يدخل في حالة التحام معه، يقوم في هيكله العام. والتفجع بين الانفصام والالتحام وفيهما لأن لا الانفصام ولا الالتحام يعبران عن حاجة إنسانية، فالانفصال يحصل رغم إرادة الشاعر، وكذلك الالتحام، وفى الحالتين يحملان لمعنى سلبي، فهو انفصام عن الذات، والتحام بالموت. وفى العلاقة القادمة سنلاحظ دوام التفجع في عنصر التدليل رغم تبدل الوضع: من الالتحام في الموت العام إلى الالتحام في العرس العام مثلما يدلل البيت التالى: هذا بكاء رصاصنا، هذا يتيم زواجنا، فلترفعوه- سهرًا على عرس العرب- (ص 48). إنه التحام يقوم على انفصام مباشر بين العرس العام ونقيضه الخاص المتمثل بالبكاء واليتم. وهو انفصام يقوم، أيضًا، على التحام مباشر بين رصاص الشاعر وأهل لبنان أو زواجهما وبكاء الرصاص أو يتيم الزواج. أما أن يرفع البكاء واليتيم سهرًا على عرس العرب، فمواصلة لتوظيف المعنى السلبي للعرس العام القائم على المأساة الخاصة. وأكثر ما تحتدم المأساة الخاصة من خلال عنصر التدليل عندما تصبح خاصة بالشاعر: هذا نشيجي مزقوه وبعثروه- مطرًا على أرض العرب- (ص 49). النشيج الذي يتحول إلى مطر يسقى أرضًا تنكّر أصحابها لصاحب الدموع صورة مفارقة انبنت على صورة أخرى مفارقة: أهل لبنان (( الذين دمهم من دم الشاعر )) يمزقون النشيج ويبعثرونه. صحيح أن فعلهم (( القاسي )) يحول النشيج إلى مطر ((مخصب )) ولكنه سيخصب أرضًا ليست للشاعر، وليست لهم. ويمكن أن يكون مطر الدمع مالحًا، وعند ذلك، لن يكون هناك إخصاب بل عقم. وبالنسبة للشاعر النتيجة واحدة في كلتا الحالتين، إذ أن الأمر لن يعود عليه بالفائدة. ويزيد الشاعر من حدة التفجع في عنصر التدليل عند تركيزه على الانفصام بينه وبين أهل لبنان: هذا خروج أصابعى من كفكم- هذا فطام قصيدتي، فلتكتبوه- وترًا على طرب العرب- (ص 9) وكأن أهل لبنان قد خرجوا فعلاً من صفه إلى صف (( العرب )). وكأنهم من فاجع الشاعر يصنعون الهزلي (طرب العرب). ويعمق الشاعر من حدة التفجع أكثر عند تركيزه على الانفصام بينه وبين نفسه: فطام القصيدة. والمطلب/ الأمر هنا لا (( يبرىء )) الشاعر، بقدر ما يظهره (( ضالعًا بالذنب )). فهو يكرس وضعًا لم تعد له يد فيه، وهو يكرس وضعًا يريد أن تكون له يد فيه. وبناء على ذلك، يعود إلى أهل لبنان، ليلقي الضوء على علاقته بهم، من خلال نتيجة فعل: هذا غبار طريقنا، فلترفعوه- لهم حصونًا، أو قلاعًا، أو ذراعا- (ص 49)، وليس من خلال فعل، فالفعل القادم سيكون الشاعر فيه مجازًا وليس حقيقةً، ومفعولاً به وليس فاعلاً، ومفعولاً لأجل (( العرب )) حصونًا، أو قلاعًا، أو ذراعًا، ودائمًا من خلال تكريس وضع لا يستطيع أن يفعل فيه، ويريد دون أن يمكنه ذلك. وهذا ما ندعوه (( بالتوازن السلبي ))، كعنصر أساسي للفاجع، في بنية الوداع.
الترنيمة الثالثة
الصورة الأولى: علاقة التحام في المظهر وعلاقة انفصام في الجوهر لأول مرة نقف على وسيط بين الشاعر وأهل لبنان: المطر. إنه عنصر خارجي يقيم علاقة التحام في المظهر وعلاقة انفصام في الجوهر: سيجيئكم مطر- ويغسل ما تركت على شوارعكم من الكلمات- (ص 49). في المظهر العلاقة قائمة بين الشاعر- المطر- أهل لبنان، وفى الجوهر لا تقوم العلاقة بسبب فعل المطر الذي يغسل ما ترك الشاعر على شوارع أهل لبنان من الكلمات. المطر يمحو العلاقة التي يشكلها ليقف موقف المعارض للشاعر ولأهل لبنان. إنه القوة (( الشريرة )) التي يتنبأ بها الشاعر/ العراف بمعنى معارض لمفهوم المطر كقوة (( خيرة )). إذن، الانفصام في الجوهر، والانفصام في الفعل، والانفصام في المفهوم. أضف إلى ذلك الانفصام في المستقبل، أي، ليس هناك من زمنية للعلاقة، وإذا كانت هناك صفة للزمان، فسيمحوها المطر الذي لن يبقي إلا على صفة للمكان: الشوارع، صفة للمكان ليست مكانية، فهى دون كلمات الشاعر لا تشكل علاقة حية أو تشخيصًا ذا بعد تاريخي حقيقي. وينبىء الشاعر/العّراف بأفعال أخرى للمطر: يطرد ما تركت على نوافذكم من- الشهوات. يمحو ما لمست من الصنوبر في جبالكم وينسيكم فتى كسر الهواء- على موائدكم قليلاً، أو أضاع يديه في أيديكم سنة وضاعا- (ص 49). عنصر المطر: سيطرد، سيمحو، سينسي، ودائمًا في اتجاه عنصر تجريد المكان من مكانيته: نوافذكم، جبالكم، موائدكم، دون أن يمنع ارتباط المكان بالضمير الدال على الملكية الممثل لأهل لبنان من الحيلولة دون ذلك، لأن أهل لبنان دون الشاعر، هم أنفسهم، عبارة عن مكان منفصل عن مكانيته بعد أن كان في علاقة زمانية لمدة سنة واحدة فقط: أضاع يديه (الشاعر) في أيديهم (أهل لبنان) سنة، وضاعا. وعلى العكس، ضياع يدي الشاعر في أيدي أهل لبنان عبارة عن علاقة زمانية ومكانية مشخصة، بغض النظر عن المعنى (( السلبي )) المعبر عنه (( الضياع )). ما أن ينتهي تنتهي العلاقة القائمة، ويضيع المكان/ الإنسان: أهل لبنان أو الشاعر، ويفقد المكان هويته: لبنان.
الصورة الثانية: من لحظة النبوءة إلى لحظة ما قبل- النبوءة تعيدنا الصورة الثانية إلى لحظة ماضية: حدقت في كفي (ص 49). من لحظة النبوءة في اتجاه المستقبل، إلى لحظة ما-قبل النبوءة في اتجاه الحاضر: حدقت في كفي- لأبصر ما وراء البحر- تلك وسيلتي لتبصر الأشياء- بحر، ثم بحر، ثم بحر- (ص 49). أول ما نلاحظه هو أن الشاعر لا يضرب بالحصى ولا يلجأ إلى التنجيم أو يتحايل على الغيب فيما يعنيه، إنه يقف على حاضره/ مستقبله من واقع حاله، وهي وسيلة في العرافة (( موضوعية )). واقع حاله يأخذ رمز البحر: البحر كمكان، والبحر كزمان. البحر كحاضر، والبحر كمستقبل. ومن جديد، ينبني البحر كعلاقة مكانية وزمانية مشخصة للضياع، بمعناه (( السلبي )) هذه المرة: من رآني- عد أكفانى- وغطى جرحكم كي يشترى جبلا- ويبتاع الصراعا- (ص 49). البحر المعادل للضياع المعادل لأكفان الشاعر المعادل لجرح أهل لبنان. وما سيخلخل من التعادل هو العنصر الدخيل، ليس المطر هنا، ولكن طرفًا ثالثًا انتهازيّاً سيعد أكفان الشاعر، وسيغطي جرح أهل لبنان ليشتري ويبتاع. أي سيفصم عن المكان مكانيته، وعن الزمان زمانيته، ويجعل من واقع حال الشاعر وأهل لبنان واقعًا زئبقيّاً لا أساس حقيقي له. وهذه صفة لبنية غربةٍ حقيقية قامت على فك الحصار لطرفين كانا معًا، أو كان أحدهما ضد الآخر. سيحاول الشاعر التخفيف منها، على مستوى الغربة النفسية، مثلما تدلل عليه الصورة الثالثة والأخيرة الخاصة بهذه الترنيمة.
الصورة الثالثة: قطع الحقيقي عن المجازي لا جوع في روحي- أكلت من الرغيف الفذ ما يكفى المسير إلى نهايات الجهات- (ص 50). نفي الغربة النفسية واضح، عندما يقول الشاعر: لا جوع في روحي. ولكن، لاحتمال الغربة الحقيقية: المسير إلى نهايات الجهات. وبدافع أسطوري: الرغيف الفذ، أي، عن طريق العنصر المجازي يحاول الشاعر قطع العنصر الحقيقي: عالم البحر بشتى مكوناته. حتى أنه عن طريق توازيات حقيقية مجازية يحاول تأكيد لحظة حاضرة من ماضيه: عشاؤكم ليس الأخير- وليس فينا من تراجع، أو تتابع، أو تداعٍ- (ص 50). التأكيد للاستيعاب، فالحقيقي مفزع، بمثابة العشاء الأخير، والحاضر يمكن فيه التراجع والتتابع والتداعي.
الترنيمة الرابعة الصورة الأولى: تأكيد لحظة ماضية من لحظة حاضرة عن طريق توازيات حقيقية/ مجازية يحاول الشاعر، الآن توكيد لحظة ماضية من حاضرة: جسدان في تابوت هذا الشرق نحن- يزودان المزود المنسي بالصرخات- نحن بشارة الميلاد نحن- وصورتان لخطوة قد حاولت- قد حاولت- قد حاولت- أن تهدي الشرق المشاعا- (ص 50). الجسدان في تابوت هذا الشرق هما الشاعر وأهل لبنان، جسدان حيان في تابوت الشرق الميت. والاستعارة تشمل طرفين في الزمن الحاضر أحدهما حقيقي: الجسدان، والآخر مجازي: التابوت. والتوازي بينهما لا يؤدي إلى انفتاح في الاستعارة الثانية: جسدان يزودان المزود المنسي بالصرخات، ولا في الاستعارة الثالثة: نحن بشارة الميلاد، لأن الجسدين في الحاضر مقفول عليهما في تابوت، إن تحركا، ففى جانب النسيان الذي يكون، أو في جانب الميلاد الذي سيكون. وفى كلتا الحركتين الحاضرتين الصرخات هي زاد للمستقبل الذي لا يهم الشاعر كثيرًا في الوضع الجسيم الحاضر بقدر ما يهمه توكيد حالة ماضية له ولأهل لبنان، انطلاقًا من هذا الوضع الجسيم دومًا، عندما كانا صورتين لخطوة قد حاولت أن تهدي الشرق المشاعا. وهو يكرر (( قد حاولت )) بدافع عنصر التكرار ثلاث مرات لتوكيد العزم في المحاولة بدافع عنصر التوكيد، والفشل الذي كان من ضد-المحاولة، والذي من نتيجته هذا الوضع الخاص شبه المحنط في تابوت الشرق العام. في التوكيد ليس التبرير، ولا الاعتراف بالعجز، ولا التنديد بالغير، ولكنه التعبير عن لحظة تساؤل كياني أملتها لحظة الانفصام بين الشاعر وأهل لبنان في بنية الوداع.
الصورة الثانية: لحظة التساؤل الكياني الصورة الثانية ترسم لحظة التساؤل الكياني هذه بطريقة أعمق: اسمان للتوحيد نحن:- على مشيئتنا أردنا أن نكون- ولا يكون الناس في الدنيا متاعا- (ص 50). اللفظة (( اسمان )) تعني أن لكل من الشاعر وأهل لبنان هويته المستقلة، أما أن يكونا (( اسمين للتوحيد ))، عند ذلك، تصبح الاستقلالية نسبية، ولكنها قائمة دومًا بالنسبة لبعضهما البعض في التوحيد الذي يأخذ معنًى جديدًا، فيغدو لغة جعل الشىء اثنين وليس واحدًا: جسدان، صورتان، اسمان. واحد ومثيله، أو، واحد وواحد. لقد كانت مشيئتهم في أن لا يكون الناس كالمتاع، لا كما تريد قوة الاستغلال. وهذان بعدان جديدان للتوحيد على علاقة بالتكوين، وبالكينونة، لم يحولا دون فصم الاسمين، بل كانا ذريعة للفصم، وعنصر توكيد التوحيد لغة جعل الشىء واحدًا، وبالتالي، نفى التعدد والاستقلالية. لكن الشاعر يداوم على القول (( اسمان للتوحيد نحن )) رغم النتيجة الحاضرة، أي أنه يداوم على الموقف، وإن أكمل هو وأهل لبنان رسالتهما، مثلما تبدأ به الترنيمة القادمة. بمعنى أن موقفه تابع من رؤيته للكون، وإن فقد موقعه فيه.
الترنيمة الخامسة
الصورة الأولى: علاقة انتهت وأخرى بدأت إذن، ترسم الصورة الأولى، في مطلع هذه الترنيمة الأخيرة، علاقة انتهت بين الشاعر وأهل لبنان، وفى الوقت ذاته، تلقي الضوء على علاقة بدأت بين الشقيق والعدو: والآن، أكملنا رسالتنا- إذ اتحد الشقيق مع العدو- ولم نجد أرضًا نصوب فوقها- دمنا- ونرفعه قلاعا- (ص 50- 51). وما انتهت العلاقة الأولى إلا لبدء العلاقة الثانية، إنها علاقة فاجعة غير طبيعية: اتحاد الشقيق والعدو، أنهت علاقة غير فاجعة طبيعية: اتحاد الشاعر وأهل لبنان، وخلفت علاقة شبيهة فاجعة وغير طبيعية: البحث عن أرض فقيدة يتحد فوقها دم الشاعر وأهل لبنان، ولكنها تختلف عن العلاقة التي أنتجتها في أنها نقيضها معنى ودلالة، وهي نفي لها، وإن بقيت منفية: لم نجد أرضًا نصوب...، ولعنصر الفاجع فيها أبعاده المأسوية من زاوية تنكر الشقيق للشقيق، من زاوية فصم الشقيق عن الشقيق، أو، من زاوية دم الشاعر وأهل لبنان الذي لم يجد أرضًا ترفعه قلاعًا، أي، لا يحقق وظيفة بطولية.
الصورة الثانية: إعادة العلاقة الطبيعية وأمام عدم وجود أرض تتحد ودم يفديها، يدفع الشاعر بعنصر الأمل والترجي في تركيب هذه الصورة من أجل عودته هو وأهل لبنان إلى ما كانا عليه: بيروت مزودنا- بيروت مولدنا- (ص 51). بيروت هي الأرض الفقيدة التي لا تقبل التعويض، هي فقيدة، ولكنها باقية، لهذا، يتزود الشاعر وأهل لبنان منها ليكونا، وليولدا مرة أخرى، فيعيدان تركيب العلاقة الطبيعية التي كانت بينهما. وتبدو بيروت هنا وعبر كل القصيدة، بوصفها شخصية تعقد بقدر ما تفك، عاملاً بفضله ينتج انقلاب الحالة من خيانة إلى إخلاص أو من حب إلى كره أو من هجر إلى لقاء، أو العكس، أو الامتداد، وقس على ذلك كل حالات القصيدة، وهي تطرح نفسها وسيطًا بين الحالة السابقة والحالة التالية. يلتحق هذا التناظر الشعري من وجهة نظر لسانية بتحليل العناصر التركيبية، كما فعلنا، عن طريق الألفاظ القابلة للتحليل، مفاهيم الكلمات والمعاني، التي تنتظم بعون علاقات نحوية غدت أقوالاً محافظة على المعنى تحت كافة أشكاله. ووضع التناظر في مستوى بنية المضمون هو إقامة التعادل بين الألفاظ والأقوال المتشكلة في الترنيمات الشعرية والمفاصل البنيوية للمضامين التي تتوافق وإياها، ويفترض تغيير مواضع كهذا تحليلاً للدلالات، وهذا ما سنفعله في الفصل القادم.
* * *
دلالات الصور التي تتشكل منها الترنيمات السابقة
دلالات ذات بعدين أحدهما واقعي والآخر أسطوري
الدلالة الواقعية قبل كل شىء نريد أن نحيل صورة الشاعر إلى الواقع، إنه الفلسطيني تحت معنى تحدده أبعاد القضية الفلسطينية في مرحلتها اللبنانية، أي أنه الفلسطيني/التضمين للقضية الفلسطينية في لبنان وما تتفرع عنها من علاقات لبنانية أو عربية أو عالمية. ودلالته الواقعية، في هذه الفصول من القصيدة على الخصوص، تظهره كفلسطيني يحاول الوصول إلى الذات عن طريق رصدها في علاقة مضت أو علاقة ستمضي في بنية الوداع التي لا تهدم بل تؤسس تركيبًا أساسيّاً من بنية الخروج.
الترنيمة الأولى: انبناء العلاقات الفلاحية والعمالية والوطنية إذن، الفلسطيني الذي هو علاقات المنفي اللبناني السياسية والاجتماعية سيبدو في الترنيمة الأولى من بنية الوداع عن طريق ثلاثة مجازات لكل منها دلالته الواقعية: شجيرة- سحابة- مسدس. ونفضل أكثر عندما نقول إن الشجيرة هي شجيرة الكرمة التي (( حملت )) دم الفلسطيني (شكرًا لكل شجيرة حلمت دمي)، والسحابة هي سحابة المدينة التي (( غطت )) يدي الفلسطيني ((وبللت )) شفتيه (شكرًا لكل سحابة غطت يديّ- وبللت شفتيّ)، والمسدس هو مسدس القوى الوطنية الذي (( غطّى )) رحيل الفلسطيني بالأرز وبالزهور (شكرًا لكل مسدس غطى رحيلي- بالأرز وبالزهور) وإذا كانت للسحابة والمسدس وظيفة مشتركة من فعل (( غطى )) فلانتمائهما الواحد -مثلما سنرى-. إذن، شجيرة الكرمة التي يشكرها الفلسطيني يحيل مجازها إلى الفلاح، وعندما يتوجه بالشكر (( لكل )) شجيرة، تصبح للاستعارة دلالة أكبر تدلل على فلاحين. هذه الطبقة التي وقفت من الفلسطيني -رغم أن حياتها من دمه ودمه من حياتها- موقف المنحاز له (لتضيء للفقراء عيد الخبز) أو المنحاز لعدوه (لتضيء للمحتل وجهي)، نقول المنحاز لعدوه رغم أن في الوجه الذي يضاء دلالة فخار، فللإضاءة ذريعة (كى يرى المحتل وجهي)، ستؤدي إلى ذريعة (ويرتدى الخداعا)، فينتفي إيجابي الإضاءة. لكن الفلسطيني يثبت موقفه في الصراع مع العدو(يرى وجهي)، وينفي صدق مقولاته (يرتدى الخداعا). لهذا السبب، يحتفظ الشكر بقيمته المعنوية، ويحتفظ الشاكر بحليفه الطبقي بعد أن وظف الازدواجية في موقفه منه لصالحه، على أمل أن تنتهي الازدواجية، ولن تنتهي إلا لحظة الانتصار (( الأخيرة )). أما سحابة المدينة التي يشكرها الفلسطيني أيضًا، فيحيل مجازها إلى العامل الكادح، وكذلك عندما يتوجه بالشكر (( لكل )) سحابة، تصبح للاستعارة دلالة أكبر تدلل على عمال كادحين من أبناء بيوت التنك الذين انصهروا مع أبناء المخيمات وسحاب السماء، أوطأ سقف لمأواهم! هذه الطبقة التي وقفت من الفلسطيني -على عكس الطبقة الفلاحية- موقفًا مؤيدًا له وحده دون غيره (غطت يدىّ- بللت شفتىّ). ولكن الفلسطيني يشير إلى رد فعل في معسكر الأعداء (حتى أعطت الأعداء بابًا أو قناعا)، إنه رد فعل (حتى أعطت) قائم على ذريعة الدعم دومًا لأجل ذريعة أخرى (الباب- القناع)، وكأنها تنحاز له من ناحية، وتنحاز لغيره من ناحية ثانية. ولا يلبث أن ينتفي الافتراض بإثبات القناع الذي أعطاه حليفه لعدوه، فالزيف الذي يدلل عليه القناع يفضح حالة أكثر مما يخفى حالة. أما مسدس القوى الوطنية الذي يشكره الفلسطيني، فيحيل مجازه إلى المقاتل، وعندما يتوجه بالشكر (( لكل )) مقاتل، تصبح للاستعارة دلالة أكبر تدلل على مجموع القوى الوطنية التي وقفت إلى جانب الثورة الفلسطينية قبل وخلال الرحيل. وإذا ما دلل وقوفها إلى جانب الثورة قبل الرحيل على موقف ثوري، فالعكس هو الصحيح، فيما يخص موقفها من الثورة الفلسطينية خلال الرحيل، إذ هي قد (( غطّت الرحيل ))، بمعنى عملت على إنجازه، وإن كان المعنى الظاهرى يوحي بالحماية. وإذا ما سلمنا بالمعنى الثاني (شكرًا لكل مسدس غطى رحيلى)، أي حماية المقاتل الفلسطيني المرحّل من بيروت، فهو يدخل في معنى متناقض للأرز والزهور التي غطّى بها الرحيل: إشارتان إلى (( السلم )) ليستا من صفات المسدس في لحظة تفجع حقيقي. وهنا، يتخلخل الموقف المؤيد للفلسطيني وحده دون غيره، تمامًا مثلما رأينا مع الطبقة الكادحة التي هي الامتداد الموضوعي، إن لم تكن المدد، للقوى الوطنية. ولأن الوداع قائم، تأتي، مرة أخرى، محاولة نفي التناقض عن طريق إثبات التحالف: دمعة المقاتل اللبناني التي يحتفظ بها المقاتل الفلسطيني في ذاكرته. والطريق هنا طريقة للدخول في الماضي حين الخروج في الحاضر، حين الخروج إلى الحاضر حيث لا حليف إلا في الذكرى. لهذا، تأتي أهمية إثبات التحالف، وإن غدا ماضيًا، لاستمداد القوة في لحظة راهنة من لحظة فائتة: (أسند الذكرى عليها.. والشعاعا). إذن، يقف الفلاحون مع الفلسطيني وضده بشكل مباشر وفى آن واحد، وهذه صفة أساسية (( واضحة )) من صفات هذه الطبقة. بينما يقف العمال والمقاتلون مع الفلسطيني بشكل مباشر وضده بشكل غير مباشر، فيغلب عليهم الطابع القيادي (( الغامض )) للبورجوازية الصغيرة التي كان لها أثرها العميق في مثل هذه التحالفات.
الترنيمة الثانية: انبناء العلاقات اللبنانية والعربية والعالمية أما في الترنيمة الثانية، فيكمل الفلسطيني (( الرسالة )). وأول ما نلاحظه أنه لا يقول (( رسالتي ))، وثاني ما نلاحظه أنه (( يكمل )) الرسالة، بينما في الرسالة مفهوم أنها (( غير كاملة )). في الملاحظة الأولى هدف أن الرسالة هي رسالة الجميع، رسالة الفلسطيني واللبناني، وهى رسالة الثورة، هكذا تنبني العلاقة اللبنانية للفلسطيني من مبدأ التسويغ لعلاقة كانت، لعب فيها الدور الأساسي. وفى الملاحظة الثانية هدف أن الرسالة هي تشريع أرضي أكثر منها شريعة إلهية، تنسحب منها الموعظة أمام الاختيار، وإن أخذ شكل الوصية: انشرونى، إن أردتم، في القبائل توبة- أو ذكريات- أو شراعا . ومن الملاحظ أن التوجه إلى الطبقات السالفة الذكر، ولصفة التردد فيها يأتي التعدد فيه: أن ينشروا رسالة الثورة كحاضر (توبة)، أو كماضى (ذكريات)، أو كمستقبل (شراع)، وفى الشعوب العربية (القبائل)، لتنبني العلاقة العربية للفلسطيني. ومن الملاحظ، مرة أخرى، أنه لا توجد اختيارات حقيقية، ففى كل الأحوال مطلب نشر الرسالة قائم: الوسائل مختلفة والغاية واحدة. والفلسطيني في موقفه التاريخي الحرج يحاول دومًا أن يجير لصالحه ما له وما عليه، ولأنه لا يريد أن يخسر تحالفاته. من هذا المنطلق ينطرح الخيار بين أن يطفئوا لهب الفلسطيني عن الدنيا أو يزيدوه اندلاعًا، وفى كلا الأمرين تنبني العلاقة العالمية للفلسطيني حيث اختار أن يكون دافع حلم ودافع إقدام: حملت روحي فوق أيديكم فراشات- وجسمي نرجسًا فيكم- وموتاي اندفاعا. وأكثر ما يتبدى هذا الاختيار الفلسطيني الذي ليس اثنين بقدر ما هو متشكل من دافعين أحدهما وجه الآخر، أكثر ما يتبدى في العلاقة التي تربطه وأهل لبنان بالعرب وهى علاقة شاملة لكل الطبقات لا لتنفيها من خارج العلاقة، بل لتثبتها في داخل العلاقة: هذا دمي، يا أهل لبنان، ارسموه- قمرًا على ليل العرب- هذا دمي- دمكم خذوه ووزعوه- شجرًا على رمل العرب- هذا رحيلي عن نوافذكم وعن قلبي انحتوه- حجرًا على قبر العرب... إلخ، ولتثبت، بالتالى، كيفية التعامل من الموقف الحرج للحفاظ على الموقع الضائع.
الترنيمة الثالثة: انبناء العلاقة مع الذات/ 1 وهنا أكثر ما يَنشدّ الفلسطيني إلى ذاته، والذات هنا ليست الأنا، وإنما الفلسطينية. ففى حالة التفجع البشري والإنحطاط التاريخي والهجر الجمعي يتشبث الفلسطيني بفلسطينيته، فهذه هي الطريقة الباقية للشعور بالوجود. وهى طريقة (( خاصة )) في وضع (( خاص ))، تقوم على علاقات بالذات مضت (حدقت في كفي)، أو ستمضي (سيجيئكم مطر- يغسل ما تركت على شوارعكم من الكلمات). التي مضت تدخل في علاقة مباشرة بالذات، وتدخل في علاقة غير مباشرة بها، ما أن تمضي، حتى تصبح لها الصفة المباشرة (جاء المطر وغسل ما تركت)؛ ليبقى الفلسطيني كعلاقة ماضية. ونحن نستعمل (( يبقى )) و(( ماضية )) من فعل (( يمضي )) مشيرين إلى الديموية في عصر كله تيهان (بحر، ثم بحر، ثم بحر) أخذ صفة الماضي، وكأن الزمن يسير إلى الوراء. إن التشبث بالفلسطينية أمر تاريخي سببه هذه الصفة اللاتاريخية للزمن، ومجرد أن يتشبث الفلسطيني بفلسطينيته يدخل في صراع مع ما هو لا تاريخي ليعيد للزمن صفته التاريخية. والأبيات التالية تدلل على الهوية المضادة (من رآني- عد أكفانى- وغطى جرحكم كي يشترى جبلا- ويبتاع الصراعا)، فمن بإمكانه أن يشترى جبلاً، هو ذلك الذي بإمكانه أن يشكل جيشًا من الميليشيا في لبنان، يقاتل به/ يقتل الفلسطيني وحلفاءه (أكفانهم وجرحهم)، وقد حصل هذا بالفعل أمام صمود الفلسطيني وحلفائه (ليس فينا من تراجع، أو تتابع، أو تداعي): علاقة تاريخية، ولكنها علاقة ماضية انكسرت، والعلاقه الحاضرة هي القائمة في معسكر الأعداء، التي مؤداها الصفة اللاتاريخية للزمن، والتى مؤدى هذه تشبث الفلسطيني بفلسطينيته. أي، في زمن لا تاريخي، هناك هويتان متناقضتان إحداهما تنتج الأخرى دون أن تنفيها طالما بقيت ممارسة (( التاريخية )) مغيبة. والتشبث بالفلسطينية ليس شرطًا لنفي الهوية المضادة، بل شرط الانوجاد، ولطرد الشعور بالغربة دون جدوى، وفى تكرار المحاولة إثبات للذات الباحثة عن موقعها الثابت خارج المنفى.
الترنيمتان الرابعة والخامسة: انبناء العلاقة مع الذات/ 2 الموقع الثابت خارج المنفى هو الوطن فلسطين، وبما أنه لا يمكن للفلسطيني الخروج من المنفى إليه، يأخذ في البحث عن موقع له داخل المنفى، فيجده مع من هو منفي عنده، اللبناني هنا، بعلاقة يكون فيها بمثابة الذات (جسدان في تابوت هذا الشرق نحن)، فلا يعود الفلسطيني منفيًا في لبنان، بل اللبناني والفلسطيني منفيان في الشرق، والصورة الماضية تدلل على أن لهما نفس المعاناة، ونفس الأهداف (جسدان يزودان المزود المنسي بالصرخات)، ونفس الخيبات (صورتان لحظوة قد حاولت أن تهدي الشرق المشاعا). إنه قدر واحد، ولكنه مضى (والآن أكملنا رسالتنا)، وقد حانت لحظة الخروج من المنفى بعد أن انتهت المواقع داخله، ولم يعد البحث ممكنًا (ولم نجد أرضًا نصوب فوقها- دمنا) لمواصلة التيهان.
الدلالة الأسطورية/ 1 تحيلنا الدلالة الواقعية لصورة الشاعر إلى الفلسطيني، فتربط الصورة بشخصية معينة وقضية معينة، بينما تحيلنا الدلالة الأسطورية لصورة الشاعر إلى شخصية شاملة وقضية شاملة، هي هنا شخصية المسيح -أو ابن الإنسان مثلما يسمي نفسه- وقضية خلاص البشرية. إحدى الدلالتين، بالطبع، مطابقة للأخرى، فالفلسطيني هو المسيح، والقضية الفلسطينية هي قضية خلاص البشرية. والجمع بين الدلالتين على مستوى التمثيل الشعري يجري عند محمود درويش عملاً بمبدأ أساسي عند المسيح الذي يعتبر أن (( كل كاتب... يخرج من خزانته الجديد من الأشياء والقديم)) ( ). ويجتمع محمود درويش والمسيح على مبدأ فني أساسي آخر عندما يقف كل منهما موقفًا ناقضًا لموقف أو مكملاً لموقف، فالمسيح يكمل شرائع اليهودية (ص 58 الإنجيل) أو ينقض موقفًا منها (ص 106 الإنجيل)، ومحمود درويش يكمل شرائع المسيحية (أكلت من الرغيف الفذ- نحن بشارة الميلاد- هذا دمي) أو ينقض موقفًا منها (اسمان للتوحيد نحن:- على مشيئتنا أردنا أن تكون). والناقض، هنا، واضح من ابتهالات الصلاة الربانية: ليتقدس اسمك- لتكن مشيئتك في الأرض كما هي في السماء (ص 144 الإنجيل). إذن، لنبحث في الدلالة الأسطورية، اعتمادًا على المبدأين السابقين متبعين نهج البحث الغريماسي (بالنسبة إلى غريماس)، عن تفسير قراءة الأسطورة-الحادثة بمقارنتها بأساطير أخرى أو، بشكل عام، بمقارنة شرائح التراكيب التعبيرية للنص بشرائح تعبيرية أخرى.
الجديد والقديم الشجيرة والسحابة والمسدس مجازات للجديد والقديم معًا، الأول والثاني للقديم البعيد، والثالث للقديم القريب. فالشجيرة والسحابة رمزان للكون، والمسدس رمز للحضارة. وإذا كان للشجيرة والسحابة بعد أسطوري موغل في القدم انبنى عليه التاريخ الإنساني، فللمسدس بعد أسطوري قريب العهد -نقول قريب نسبة إلى تاريخ البشرية فهو بعيد بالنسبة إلى حضارته في أولى تكويناتها- انبنى عليه التاريخ الرأسمالي؛ لأن المسدس يدلل على أسطورة الكاوبوي الأمريكي الذي يغطي رحيل صاحبه بالرصاص بدلاً من الأرز والزهور -وهذه المفارقة الدلالية في نص مديح الظل العالي بين أصل المجاز وتوظيفه -وحرب لبنان- على الأقل في الجهة الأخرى -مرتبطة بأسطورة الكاوبوي على أساس أنها تعكس مرحلة متأخرة من الحضارة التي أنتجته. والمسدس في القصيدة لا يبدو في تناقض مع الشجيرة والسحابة رمزين للكون والحياة؛ لأن في توظيفه سيأخذ نفس الرمز (شكرًا لكل مسدس غطى رحيلي بالأرز وبالزهور). أما الذي سيدخل في تناقض مع الرموز الثلاثة، فهو الفعل (( غطّى ))، إذ هو يدعم من وضع لا إنسانى (( الرحيل ))، الذي هو وضع حياتى (( جديد )) بالنسبة للفلسطيني. ولا تقف تبادلية الجديد والقديم عند مستوى المجاز، بل تذهب إلى الحدث، فالحدث الجديد المتمثل باستنزاف دم الفلسطيني هو الحدث القديم المتمثل باستنزاف دم المسيح. هنا تحقن الأسطورة بدم جديد حين يقول: شكرًا لكل شجيرة حملت دمي- لتضىء للفقراء عيد الخبز- أو لتضىء للمحتل وجهي... إلخ. فالكرمة ودم المسيح وعيد الخبز الذي يومىء إلى معجزة إطعام الخمسة آلاف (ص 78 الإنجيل) ثم الأربعة آلاف (ص 88 الإنجيل)، تكرس الأسطورة ليس من دافع ((إن كانت الشجرة صالحة كان ثمرها صالحًا، وإن كانت فاسدة، كان ثمرها فاسدًا)) (78 الإنجيل)، فالشجرة بإمكانها أن تعطى ثمرها صالحًا أو فاسدًا (لتضىء أو لتضىء)، وإن بدت في ظاهرها صالحة (لتضىء بين اختيارين). إنه استعمال جديد للأسطورة حسب تجربة جديدة، حديثة، يخدم الحدث الآنى، وينفخ في الحدث القديم نفسًا جديدًا. فالكرمة التي حملت دم المسيح لأجل عيد الخبز لن تحيا -في الذاكرة وفى الواقع- لأنها حملت دم الفلسطيني، ولأجل غرض لا بد أن يتفرع إلى أغراض. ومن المجاز إلى الحدث إلى المفهوم تتبدى العلاقة بين الجديد والقديم في مصطلح السحابة. فالسحابة في دلالتها مجازيًا هي رمز الكون والحياة، وفى دلالتها حدثيًا هي فعل إنسانى (غطت يدي- بللت شفتيّ)، وفى دلالتها مفهوميًا هي إمَّا قوة ميتافيزيقية (( وفيما هو يتكلم إذا سحابة من نور غمرتهم، وإذا صوت من السحابة يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به، فله اسمعوا )) (ص 91 الإنجيل) (( وإنى لأقول لكم كذلك إنكم منذ الآن سترون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدرة وآتيًا على سحب السماء )) (ص 119 الإنجيل)، وإما قوة حقيقية (شكرًا لكل سحابة غطت يديّ- وبللت شفتيّ). السحابة في سياقها الأول ذات مفهوم قديم، وفى سياقها الثاني ذات مفهوم جديد، رغم أنها احتفظت بالقوة كصفة أسطورية ثابتة لها. إن تأنيس الأسطورة واضح في فعل السحابة (غطت يدي- بللت شفتي) وأوضح في رد الفعل (حتى أعطت الأعداء بابًا... أو قناعًا)، فالتناقض جوهر إنساني، وفيه نقض للغيبي.
الناقض والمكمل يعتمد الناقض على الموقف، فالمكمل الأسطوري سيبقى الغاية. أي أن المكمل الأسطورى أساسي، والناقض هو أساسي في موقفه من الأسطوري، فتلتغي بذلك الميكانيكية في مفهوم (( المكمل )). وينبني المكمل الأسطوري، عند محمود درويش، على أساس إكمال الرسالة ((اليوم أكملت الرسالة ))، إكمال رسالة المسيح التي لم تكتمل أو إكمال رسالة أخرى موازية، وفى كلا الأمرين (( الرسالة )) من حيث كونها رسالة تحتفظ ببعد أسطوري يربطها في حالة الرسالة الموازية برسالة المسيح. ويمكن الكشف عن البعد الأسطوري في بعض تفاصيل رسالة المسيح التي هي (( رسالة سلام )) (ص 260 الإنجيل)، ولكن تحت شرط (( من ليس معي فهو ضدي )) (ص 78 الإنجيل)، والشرط هنا، هو، في الوقت ذاته، موقف يصير في رسالة القصيدة تحت شرط جديد: من ليس معي فهو ليس ضدي (انشروني! إن أردتم، في القبائل توبة أو ذكريات- أو شراعًا) أو، على الأقل، ليس كل من ليس معي فهو ضدي. فمحمود درويش لا يفرض على الناس جميعًا أن تتبعه، حتى أنه لا يفرض على من يتبعه ما قاله المسيح: (( من أراد أن يتبعني فلينكر ذاته، ويحمل صليبه ويتبعني )) (ص 90 الإنجيل). إنه انبناء للناقص في موقفه من الأسطوري، وليس انبناء (( الناقض الأسطوري، فالأسطوري بقى متواجدًا في النص ))، ولكنه انوجد تحت شرط جديد. وإذا كان نشر الرسالة أمرًا واجبًا يفرضه الحدث الأسطوري، وهو الحدث ذاته عند محمود درويش والمسيح، فلن تكون الرسالة أمرًا ليس ذاته أيضًا عند الشاعرين. فناشرو رسالة المسيح هم تلاميذه الإثنا عشر لدى ((خراف بيت إسرائيل الضالة )) (ص 71 الإنجيل)، أما ناشرو رسالة محمود درويش، فهم أهل لبنان لدى (( القبائل )) حيث يأخذ المصطلح في نص مديح الظل العالي معنى شموليّاً لا يستثني (( الوثنيين )) مثلما حصل في الإنجيل. ومرة أخرى، يظهر الناقض في موقفه من الأسطوري لا الناقض للأسطوري ذاته، فمحمود درويش مع نشر رسالته (اليوم أكملت الرسالة- فانشروني)، وهو -كالمسيح- يدعو إلى التوبة (فانشروني إن أردتم، في القبائل توبة)، ولكنه يختلف عن المسيح بقوله (( انشروني ))، نحن (( بشارة الميلاد ))، وليس ((ليأتِ ملكوتك)) (ص 144 الإنجيل)، أو (( بشارة الملكوت )) التي كان ينادي بها المسيح. وفى طرحه التوبة كاختيار بين اختيارات (انشرونى، إن أردتم، في القبائل توبة- أو ذكريات- أو شراعا) يبرز أنها ليست الاختيار الوحيد في بعده المطلق، وإنما هناك اختيارات عديدة ذات بعد مطلق (توبة أو ذكريات أو شراع). هنا، يجمع الإيمان بالشك تكريسًا منه لمقولة عملية ليست ديكارتية حتمًا، فغرضه ليس الوصول إلى إثبات حقائق عن الخالق بل إثبات حقيقة المخلوق الموجود (( سواء أفكر أو لم يفكر )) تبعًا لشرطه الإنساني( ) وتبعًا لمشيئته الإنسانية (فلتطفئوا لهبي، إذا شئتم، عن الدنيا- وإن شئتم فزيدوه اندلاعا) التي لا تخضع لمشيئة ما ورائية (( لا كمشيئتي بل كمشيئتك )) (ص 117 الإنجيل)، والتي لا تبتلع كل شىء جاهز: (( ما أقوله لكم في الظلام، قولوه أنتم في النور )) (ص 173 الإنجيل). حتى أن صاحب الرسالة، محمود درويش، يخضع نفسه لنفس القانون عندما يقول: أنا لي كما شاءت خطاي، ويدلل باختياره الخاص عندما يقول: حملت روحي فوق أيديكم فراشات، دون أن يجعل من اختياره فرضًا: (( احملوا نيري عليكم... )) (ص 76 الإنجيل). حتى أن الصورة الدرويشية للروح هي صورة أكثر شعرية، وبالتالي، أكثر إنسانية: صورة فراشات ملونة (بصيغة الجمع)، لا صورة حمامة بيضاء ذات لون واحد بصيغة الفرد مثل روح الله (ص 55 الإنجيل). والصورة الدرويشية للانبعاث هي صورة أيضًا أكثر إنسانية (حملت روحي فوق أيديكم فراشات- وجسمي نرجسًا فيكم- وموتاي اندفاعا)، فليس المسيح الذي يموت ثم ينهض من الموت زلزالاً وبرقًا، إذ يتحول محمود درويش إلى نرجس في أجسام أخرى، ولهذا دلالة للتوالد والبقاء (( الأبدي )) في الحياة (( الفانية )) و(( موتاه )) هم الذين ينهضون من الموت، لا زلزالاً وبرقًا معجزين بل حافزًا واندفاعًا إنسانيين، وهم منه وبه وفى أحياء حقيقيين (أهل لبنان) سينهضون. ومرة أخرى، يتعامل مع النص الأسطوري على أساس موقفه منه، الذي هو موقف الناقض المستوعب له عندما يخضعه تحت شرط جديد: فقول المسيح (( ليس الله إله أموات ولا إله أحياء ))، (ص 105 الإنجيل) يصبح في صيغته الجديدة، ليس الله إله أموات، ولا إله أحياء، لا إله الظاهر ولا إله المختفي، مثلما تسميه الأساطير الحيثية، فالله، تلك الأسطورة القديمة، هو الإنسان القادر على تكوين أسطورته الخاصة. ويتعامل نص مديح الظل العالي مع الوصية من نفس الموقف السابق، وإن كان هناك اختلاف بين الموقف الدرويشي من الأسطوري وموقف الناس من الموقف الدرويشي. فموقف الناس من (( وصاياه )) لا يؤدي إلى موقف ((حاسم)) منهم -مثلما هو عليه لدى المسيح (ص58 الإنجيل)- هي هنا تأخذ شكل الأحكام/الحِكَم التي يمكن أو لا يمكن تطبيقها تبعًا لإرادة أهل لبنان/الفرد، وإن هم عملوا على تطبيقها، فستكون بمثابة معجزاتهم الأرضية هم أنفسهم (هذا دمي، يا أهل لبنان، ارسموه- قمرًا على ليل العرب:- هذا دمى/ دمكم خذوه ووزعوه- شجرًا على رمل العرب- هذا رحيلي عن نوافذكم وعن قلبي انحتوه- حجرًا على قبر... إلخ). (( وصايا )) كلها حبلى بالدلالات الأسطورية تقوم على قول أساسي للمسيح: (( لا نبي بلا كرامة إلا في وطنه )) (ص 83 الإنجيل). فالدم هو دم المسيح البريء الذي يحمل اليهود مسؤولية وزره (ص 123 الإنجيل)، وهو دم الفلسطيني البرىء الذي يحمل العرب مسؤولية وزره. كل اليهود وكل العرب، التعميم مرفوض طبعًا. نحن نفهم من اليهود سياقيًا الكهنة الذين نافسهم المسيح في السلطة والامتيازات وكل من لف لفهم تمامًا كما نفهم من العرب سياقيًا الحكام منهم وكل من لف لفهم هم أيضًا، لكن الأمر يبقى غير واضح قابل للخلط والتعميم، وهذا يمثل ضعفًا كبيرًا في النصين المستفيد منهما، في آخر المطاف، الكهنة اليهود والحكام العرب. أما اقتسام الدم (خذوه ووزعوه)، فهو فعل مواز للفعل الذي لحق بالمسيح حين صلبه (ص 122 الإنجيل). وحالة موت أهل العروبة هي حالة موت أهل اليهودية، والخراب/القبر واحد (ص 109 و111 الإنجيل)، أما الحجر، فهو الذي نبذه البناؤون وأصبح رأس الزاوية (ص 103 الإنجيل). والوصايا هنا سبع تقابل ويلات الفريسيين السبع (ص 107 الإنجيل): 1- أن يرسم أهل لبنان من دم الشاعر/ المسيح قمرًا على ليل العرب. 2- أن يأخذوا ويوزعوا دمه الذي هو دمهم شجرًا على ليل العرب. 3- أن ينحتوا رحيل الشاعر/ المسيح حجرًا على قبر العرب. 4- أن يرفعوا بكاء رصاصهم ويتيم زواجهم سهرًا على عرس العرب. 5- أن يمزقوا ويبعثروا نشيجه مطرًا على أرض العرب. 6- أن يكتبوا خروج أصابعه من كفهم وفطام قصيدته وترًا على طرب العرب. 7- أن يرفعوا غبار طريقهم حصونًا أو قلاعًا أو ذراعًا للعرب. وسنرى بشكل أدق، كيف أن نص مديح الظل العالي لا ينقض الأسطوري (هذا دمي- هذا رحيلى- هذا يتيم زواجنا- قبر- بكاء- عرس- نشيج- أرض- خروج- فطام- غبار)، ولكنه يتخذ منه موقفًا جديدًا سنعرض له بفكنا لبعض رموزه، وذلك بوضع هذا العنصر الشعري أو ذاك مع عناصر أخرى قابلة للمقارنة داخل علاقات متبادلة، كما فعل من قبلنا غريماس. (( هذا دمي )) قول مأثور عن المسيح في (( العشاء الأخير )) قبل صلبه: (( وفيما كانوا يأكلون أخذ يسوع خبزًا، وباركه، وقسمه، وناول تلاميذه، وقال: خذوا كلوا فإن هذا هو جسدي( ) ثم أخذ كأسًا، وشكر، وناولهم قائلاً: اشربوا منها كلكم فإن هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يسفك عن كثيرين لمغفرة خطاياهم)) (ص 117 الإنجيل). ومثلما نلاحظ أن محمود درويش يكرس دمه لعهد قديم (ليل العرب)، وهو ليس لمغفرة بل لاتهام (ارسموه قمرًا على ليل العرب)، ولينقض ما يكرسه الفكر السائد من أن الفلسطيني (( مسكين ))، وكأنه يقول: إنى أريد ذبيحة لا رحمة! (عكس قول المسيح ص 76 الإنجيل). ويجد الذبيحة في نفسه، ولكنه لا يجد (( أرضًا يصوب فوقها دمه )) (ص 50- 51): الأرض التي يدعوها الإنجيل (( بحقل الدم )) (ص 121 الإنجيل). وهو دم المسيح الذي باعه يهوذا بثلاثين قطعة من الفضة أعادها للكهنة بعدما ندم، فاشتروا بها أرضًا لتكون مقبرة للغرباء. (( يتيم زواجنا )) يدلل على المسيح الذي مات أبوه، لأن اليتيم هو الذي يموت أبوه لا أمه فينقض إلهيته، ويحيله إنسانًا بعد زواج جديد: زواج أهل لبنان والشاعر. ومن الملاحظ أن انتزاع الصورة من (( روحانيتها )) لا يسقطها في مستوى سوقي له معنى اللواط مثلا، فمن الزواج الجديد هناك طفل، وفى دلالة أسطورية: إنه يتيم . (( البكاء والعرس والنشيج والأرض)) بعلاقتها مع (( العرب )) تدلل على الجيل الذي وصفه المسيح بصبية يصيحون بأصحابهم: (( زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا فلم تبكوا )) (ص 75 الإنجيل). في النص الذي ندرسه البكاء للعرس والنشيج للأرض وفى كلتا الحالتين نواح. أي، لا مفاضلة بين وضع وآخر، وبين حالة وأخرى، وإن كانت هناك مفارقة. والمفارقة قائمة بين فعل النائح وفعل المنوح عليه الذي سيكون تشخيصًا للمحنة (( اللاهية )) (قبر العرب وعرسهم أو جدب العرب وطربهم)، حيث سينير فيها النائح قمرًا، وينبت دمه شجرًا، ويسقط نشيجه مطرًا. أي، رغم محنة هذه الأيام لن تظلم الشمس كل الإظلام، وسوف يصعد القمر، فيعطي من ضوئه، وسوف تتساقط النجوم والأمطار- أو على الأقل بعضها- عكس ما جاء في الإنجيل ص 111. إذن ما قمنا به من مقارنات أسطورية ينطبق على وجهة نظر غريماس بهذا الخصوص عندما يقول إن استعمال المعطيات التي من الممكن أن يزودها العالم الميتولوجي، عن طريق المقارنة، ليس، للوهلة الأولى، سوى استثمار تم تكوينه، تحت زاوية ما، من معلومات السياق. ومن هذا المنحى، يمكنه أن يأخذ شكلين مختلفين: 1) نستطيع البحث عن تفسير القراءة للأسطورة-الحادثة بمقارنتها مع أساطير أخرى أو، بشكل عام، بمقارنة شرائح التراكيب التعبيرية للنص بشرائح تعبيرية أخرى (وهذا بالضبط ما فعلناه). 2) نستطيع وضع داخل علاقات متبادلة هذا العنصر السردي (الشعري) أو ذاك مع عناصر أخرى قابلة للمقارنة (وهذا بالضبط ما فعلناه أيضًا). ووضع عنصرين سرديين (شعريين) غير متماثلين ينتميان إلى نصين مختلفين داخل علاقات متبادلة يصل إلى الاعتراف بوجود فك للنموذج (سبق ورأينا ما هو النموذج) يعمل داخل طبقة دلالية معينة معتبرًا أن عنصر المقارنة الثاني كتحول للأول (وهذا بالضبط ما رأيناه). إلا أن –وهذا هو الأهم- نلاحظ أن من نتيجة تحول أحد العناصر إحداث سلسلة من التحولات عبر المقطع المدروس (وهذا بالضبط ما رأيناه أيضًا). وتحتوي هذه البينة بدورها على النتائج النظرية التالية: 1) تسمح بتأكيد وجود علاقات ضرورية بين العناصر التي تحولاتها متلازمة. 2) تسمح بتعيين التراكيب التعبيرية للأسطورة التي بالإمكان تحديدها بعناصرها التكوينية وبتسلسلها الضروري في آن واحد. 3) تسمح بتحديد العناصر الأسطورية نفسها ليس داخل علاقات متبادلة للنموذج فقط، بمعنى عن طريق التحول المقترح من طرف ليفي-ستراوس، ولكن أيضا بمكانها ووظيفتها داخل الوحدة التركيبية التعبيرية التي هي جزء منها (المرجع نفسه، 31-32). سنحاول تطبيق هذه النتائج النظرية في الفصول القادمة.
القسم الثالث: بنية العبور من المفترض أن تنتهي القصيدة عند انتهاء القسم السابق، فالعبور الفلسطيني غير واقعي، افتقد إلى دلالته الواقعية. ولكن الشاعر يمعن في الخيال، ويبتكر على أساسه بنية غير حقيقية من صفة العبور الفلسطيني غير الحقيقي مع فارق واحد مهم، أن بنية العبور الفلسطيني في حقيقته هو غير إنساني بعد أن نزعت عنه (( الإنسانية )) صفتها، واحتفظت بها لها على طريقتها وحدها، بينما بنية العبور الفلسطيني في غير حقيقته، أي، من خلال عملية التخييل الشعرية، هو إنساني بعد أن انتزع الشاعر من (( الإنسانية )) صفة الفلسطيني الإنساني، وأعاد لها على طريقته صفتها. لهذا، ما ندعوه بالبنية غير الحقيقية للعبور التي تبني المرحلة الأخيرة من بنية الخروج (يحزم حقيبته ويودع ثم يغادر) هي هنا بنية أسطورية. فالشاعر يتوغل في الأسطورة ليحقق عن طريقها ما لا يمكن تحقيقه، فتصبح بنية العبور كأنها بنية الأسطورة ذاتها، فالطريق فيهما واحدة. وهذا ما تنطبق عليه النتيجة النظرية الثالثة لغريماس، فيما يخص تحديد العناصر الأسطورية داخل الوحدة التركيبية التعبيرية. ومن ناحية أخرى، لربط بنية العبور اللاحقة ببنية الوداع السابقة، يتبع الشاعر نهج التوليف العلائقي بين البنيتين على مستوى التركيب التعبيري: اليوم إنجيل السواد- اليوم تابت مريم عن توبة التوبات وارتفع الحداد- إلى جبين الله- واختفت الملائكة الصغيرة- في أكاليل الرماد- (ص 51). فهو اليوم الذي سيبدأ فيه العبور الفلسطيني بعد مغادرة بيروت، والمقطع هذا هو مقطع توليفي بين ما مضى وما سيمضي. وكذلك على مستوى الدلالة، التي هي هنا تحاكي أسطورة المسيح دومًا وتجري المقارنة بها ليس من أجل نقضها، كما يمكن أن يتخيل للبعض، وإنما من أجل تحولها من خلال وجود علاقات ضرورية بينها وبين الأسطورة حسب درويش عندما يرى أنه يوم عبور مشخص لإنجيل سواد وليس لإنجيل سلام في يوم سبت أسود حذر منه المسيح عندما تنبأ بخراب الهيكل قائلاً: (( فصلّوا لئلا يقع هربكم في الشتاء أو في السبت )) (ص 110 الإنجيل)، وفى ذلك تكريس (( لمحنة عظيمة لم يكن مثلها منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون )) (ص 110 الإنجيل). التحول هنا واضح تحت العلاقة الضرورية إنجيل سواد-إنجيل سلام (النتيجة النظرية الأولى لغريماس). وقس على ذلك، فيما يخص الدلالة الواقعية يريد الشاعر أن يربط حالتي ما قبل العبور (أي الحرب) وما بعد الحرب (سواد- حداد- رماد)، وأن ينقض ذريعة الحرب الإسرائيلية (سلام في الجليل) ونتيجتها (إنجيل السواد بدلاً من السلام- توبة مريم المجدلية عن توبة التوبات أي عودتها كما كانت زانية- اختفاء الملائكة في أكاليل الرماد بدلاً من أكاليل الورد). هذا وسنجد أن الشاعر يلجأ إلى مسألة التوليف العلائقي الضروري حتى فيما يخص الدلالتين الواقعية والأسطورية، تمهد الأولى للثانية، وتنبني الثانية على الأولى إلى أن تستقل عنها بعد بعض الأبيات إذ نجدنا موغلين -مثلما قلنا- في طريق يبني العبور/الأسطورة، ينبني فيهما على ثلاث مراحل تبعًا لثلاثة أمكنة أسطورية تمثل في مجموعها الانطلاق/الوصول، وانطباق القطبين لن يكون حقيقيّاً، وستصبح (( الفكرة ))، التي هي العالم الذهني البديل الوحيد -مثلما سنرى- هي وحدها القادرة، في (( رحلة البحر ))، على بناء مكان وزمان ينعكسان عنها -وليس العكس في واقع معكوس ينتج وضعًا معكوسًا- ليكونا حقيقيين.
العبور/ الأسطورة
المرحلة الأولى: بيروت لم يبدأ العبور بعد، لكنه سيبدأ بعد قليل. إنها لحظة وقوف للزمن في مكان مختزل: والبحر أبيض- هذه سفني الأخيرة- ترسو على دمع المدينة، وهي ترفع رايتي- (ص 51). المكان المختزل هو ميناء بيروت حيث الزمن واقف، فالسفن راسية. إنها السفن الفلسطينية الأخيرة التي للفلسطينيين، ولكن أيضًا الأخيرة التي ستغادر بيروت، لتنتهي العلاقة التاريخية التي تربطهما دون أن تصبح بيروت مكانًا تاريخيّاً ماضيًا، مثلما يمكن أن يظن للوهلة الأولى، بل مكانًا أسطوريّاً مستمرًا ينتمى في عمقه إلى (( البحر الأبيض )) الذي هو المكان الأسطوري الكلي. وصفة البياض، هنا، ليست مثلاً (( للصلاح والفلاح ))، مثلما يقال كلاسيكيّاً، أو (( للتقوى والنقاء ))، وإنما صفة تنفي باقي الألوان، وتنفي حتى لونها، عندما يكشف (( الأبيض )) عن بياض البحر، أي، لا شىء فيه، لا لون له، لا شكل له. وهو سيأخذ بالتشكل والتلون والامتلاء، وهذه عناصر أسطوريته محددة بمكانها ووظيفتها داخل الوحدة التركيبية التعبيرية، مع استكمال مراحل العبور، حيث تكون فيه بيروت المرحلة الأولى. أما بيروت كمكان أسطوري وليس كمكان لا تاريخي -وذلك من وجهة النظر الفلسطينية دومًا- فتعبر عنه بشكل أعمق الأبيات التي تقول: لا راية بيضاء في بيروت- شكرًا للذي يحمي المدينة من رحيلي- للتي مدت ضفيرتها لتحملني إلى سفني الأخيرة- (ص 51) . عدم استسلام بيروت- صمود المقاتل اللبنانى- ذوده عن بيروت بعد رحيل الثورة الفلسطينية- كل هذا بمثابة عناصر تكوينية وسلسلة استمرار ضرورية لأسطورة مقاومة الحصار، يكفى الاستمرار وحده لإثبات الأسطورة (النتيجة النظرية الثانية لغريماس). وتندمج بيروت بالبحر نتيجة لانتقال الفلسطيني من بيروت إلى سفنه الأخيرة. إنه ينقلها معه كجزء من كيان أسطوري (( البحر )) عن طريق وسيط أسطوري (التي مدت ضفيرتها لتحملني إلى سفني الأخيرة). والرمز هنا يمكن أن يكون موجهًا إلى ماريان الفرنسية (بسبب الدور الذي لعبته فرنسا في حماية الثورة)، أو إلى ماريان أخرى فلسطينية، فدلالة الرمز الإنسانية شاملة، وبإمكان ماريان أن تصبح فاطمة، وأن تصبح الأم التي لا تعرف إلى أية وجهة سيذهب ولدها بعد أن عرفت كيف تحمله إلى بداية الذهاب الأخير:- أين تذهب؟ ليس لى باب لأفتحه لفارسي الأخير- والسبت أسود- ليس لى قلب لأخلعه على قدميك يا ولدي الصغير- (ص 51). إنه الفعل (( المعجز )) الأخير للأم/ البطل الأسطوري، فقد سدوا عليها كل باب، وأخذوا قلبها. وفى السبت الأسود إعلان عن أن المحنة عظيمة:- أنا لا أودع، بل أوزع هذه الدنيا- على الزبد الأخير- وأين تذهب؟- أينما حطت طيور البحر في البحر الكبير- (ص 52). هو واقف في البحر خارج الدنيا يوزعها لبنان والأردن ومصر وسوريا وبلجيكا وأمريكا على حدود البحر عالمه الوحيد، وحيث يمكن له فقط أن يحط. وانطلاقًا/وصولاً من الموقع الأسطوري (البحر) يأخذ بمحاولة استيعاب المحنة:- (أبحث) عن موجة ضيعتها في البحر- عن خاتم لأسيج العالم- بحدود هذا البحر (ص 253)، ولإثبات الجدارة الفلسطينية.
المرحلة الثانية: الأوديسة تتحقق الهجرة، فالصورة تنقلها مباشرة إلى قلب البحر، حتى أن البحر قد صار الفلسطيني ذاته: بحر أمامك، فيك، بحر من ورائك- فوق هذا البحر بحر، تحته بحر- وأنت نشيد هذا البحر- (ص52). الطباق أمامك/وراءك فوق/تحت، ثنائية النموذج حسب المفهوم الغريماسي، يدعم الكلية الأسطورية كصفة للبحر عنصرًا أساسيّاً في بنية العبور، وهى صفة حاضرة -مثلما كانت عليه بيروت المرحلة الأولى- أوديسة حالية من شخصياتها الأساسية تليماخوس الابن وأوديسيوس الأب وبنيلوبا الأم، مع (( نقلة )) في حركة الحدث الأساسي حيث لا يبحث الابن عن أبيه الذي يشخص السلام بعد حرب طروادة، بل عن حرب جديدة بعد حرب بيروت:- عمَّ تبحث يا فتى في زورق الأوديسة المكسور؟- عن جيش يحاربني وبهزمني.. عن جيش أحاربه وأهزمه.. (ص 52). وحيث لا تصبح العودة إلى (( البيت )) من هَم الأب، وإنقاذ الزوجة التي تزوجها الأزواج (ص 53 و54)، هذه الزوجة التي لم تكن للأب -على عكس بنيلوبا- ولكن لنفسها:- كل الشعوب تزوجت أمي- وأمي لم تكن إلا لأمي- (ص 54). وهنا، ليس موقف الشاعر من الأسطورة فقط الذي يتبدل:- لا أرضى بما يرضي دم الإغريق من ريح تهب لتنتهى المأساة بالمأساة (ص 54)، وإنما مواقف أبطالها، وبالتالى، أهدافهم ومسار الأسطورة ذاتها التي بدأت مع السطور الأولى من القصيدة: ضع شكلنا للبحر، ضع كيس العواصف عند أول صخرة (ص 14)، وعلى الخصوص، الاستعارة الدالة ((كيس العواصف)) التي تدلل على ملك الرياح في الأودسية حابس السيئة منها في حقيبة( )، وهنا، أيضًا، (( هجرة )) إلى الماضي اليوناني (فجر التاريخ الإنساني) التي هي عودة به إلى الحاضر الفلسطيني، وعلى ضوء هذا الحاضر ستتحقق الهجرة إلى الماضي الكنعاني (فجر التاريخ الإسلامى) لتنبني آخر مرحلة من طريق العبور.
المرحلة الثالثة: كنعان الصفة الكنعانية لفلسطين ليست ساكنة في شرطها الفنى: تفتح الموج القديم (ص 53)، فالصورة متحركة، والمخاطب هو الفاعل المشارك بفعل ((يفتح ))، ويفتح (( القديم ))، وكأنه يقع في المستقبل. وهى ليست ساكنة في شرطها التاريخي: تفتح الموج القديم: ولدت قرب البحر من أم فلسطينية وأب آرامي. ومن أم- فلسطينية وأب مؤابي. ومن أم فلسطينية وأب آشوري. ومن أم فلسطينية وأب عروبي. ومن أم، ومن أم... (ص 53). إنها في علاقة متحولة ضمن شرط جديد (أم فلسطينية وأب آرامي- أم فلسطينية وأب مؤابي- أم فلسطينية وأب عروبي... إلخ). وحينما تتعدد الأمهات (ومن أم- ومن أم. .. منها الأم اليهودية حتمًا) الابن هو من سيحمل صفة متعددة، مع محافظة الأم الفلسطينية على هويتها الواحدة ضمن علاقة متحولة. وفى حالة الابن (التعدد) إيجابية، وفى حالة الأم (التوحد) إيجابية، وفى الحالتين معنى الفرادة المنتجة. ولنلاحظ أن الابن المتعدد الصفة ذا الهوية الواحدة قد ولد قرب البحر حيث تقع فلسطين قبل أن يلقى به في البحر حيث لا يقع شىء. وهذا هو المهم في البحث عن فجر التاريخ الفلسطيني، أن يصل إلى أسس لإثبات الجدارة الفلسطينية، وهى أسس عريقة في القدم، ثابتة في التاريخ: ولدت قرب البحر من أم فلسطينية.. على حجر يقيد فوقه الرومان أسرى- حربهم ويحررون جمالهم منى (ص 53). والدلالات هنا واضحة للأسس الثابتة: الميلاد على أرض فلسطين قرب البحر وليس فيه- على حجر فلسطيني فوقه يقيد الرومان أسرى حربهم وليس هو الأسير- هو المحور والمركز ونقطة الجذب، فلا بد للرومان كي يحرروا جمالهم منه أن يبذلوا (( ثمنًا )): إنهم اليهود الأسرى. وهذا يعني أن المأساة تجري -منذ قدم التاريخ- (( فوقه ))/ فوق أرض فلسطين، دون أن يكون له/ دون أن يكون لها في الأمر يد. وبناء على ذلك، ستحمل فلسطين/ الفلسطيني على عاتقها النتائج: مأساة الآخر بالآخر، ومأساة الآخر بها عندما يصبح كونها محورًا ومركزًا ونقطة جذب مسألة كيان بين الآخر وبينها، ستنجم عنها حروب وموتى ونزاعات: أنا الحجر الذي شد البحار إلى قرون اليابسة- وأنا نبي الأنبياء- وشاعر الشعراء- منذ رسائل المصري في الوادي- إلى أشلاء طفل في شاتيلا- أنا أول القتلى وآخر من يموت- إنجيل أعدائي وتوراة الوصايا اليائسة- كتبت على جسدي- أنا ألف وباء في كتاب الرسم، أعني الكهف يشبهني ويقتلني سواء- كل الشعوب تعودت أن تدفن الموتى بأضلاعي- وتبني معبدًا فيها- وترحل عن ثراي- وأنا أضيق أمام مملكتي- وتتسع الممالك فيّ- يسكنني ويقتلني سواي- (ص 53-54). لقد تعمقت الدلالات أكثر، والآن، على أساس أن الفلسطيني لفلسطين أمر ثابت، وباقي الشعوب كلهم متغيرون بمن في ذلك اليهود، فالحجر هي مدينة القدس التي صاحبها الفلسطيني. وإذا كانت القدس قبلة للأنبياء، فهو قبلة لهم، والأجدر به أن يكون نبيهم. وإذا كانت القدس موضوعًا للشعراء، فهو موضوع لهم، والأجدر به أن يكون شاعرهم ( )، هو القدس وهي قصيدته، وكل هذا تحقيق للجدارة: إنه قادر على أن يكون كذلك. على الأقل، بين تاريخين محددين: منذ وصايا موسى بالواد المقدس طوى( ) إلى مذابح صبرا وشاتيلا. وبين هذين التاريخين تنصنع الأسطورة الفلسطينية في الضحية/ التضحية (أنا أول القتلى). وفي الموت/ الخلود (آخر من يموت). وتتصنع الأسطورة الفلسطينية في الحرب/ السلام (إنجيل أعدائي)، وفي اليأس/ الأمل (توراة الوصايا اليائسة). وكذلك تتصنع الأسطورة الفلسطينية في البدائية/ الحضارة (أنا ألف وباء في كتاب الرسم)، وفي المشابهة/ المفارقة (أعني الكهف يشبهني ويقتلني سواي). وأسطورة الكهف التي أشار إليها أفلاطون، في الباب السابع من (( جمهوريته )) بصياغتها الجديدة هنا تدلل على البدن (( كهفًا )) للنفس الإنسانية اللاسجينة التي ترى الأشياء الحقيقية وليس فقط ظلالها. إنها الموتى والمعابد والممالك وشتى عمليات الموت والحياة، بينما الكهف/ القدس للنفس الإنسانية/ الفلسطينية هو الباقي، رغم عملية التتويه الحالية. لقد بقي نشيدًا للبحر (ص 54)، أي أنه دومًا المحور والمركز ونقطة الجذب، ورغم انفصامه الجبري عن القدس إلا أن علاقته بها/ علاقتها به/ علاقة (( البحار )) بهما بقيت ثابتة، لكنه مشغول بوضعه الغريب الذي يطرح عليه مهمات جديدة قبل الوصول الأخير. ولا بد، هنا، من مغادرة الأسطورة للبحث عن أسس حالية للجدارة الفلسطينية. وهذه الأسس سيجدها الشاعر اعتمادًا منه على العلاقة بالبطل- النقيض والبطل- القادم، العلاقة الأولى مادية؛ لأنها انتهت، والثانية تجريدية؛ لأنها لم تبدأ.
العلاقة بالبطل- النقيض تظهر العلاقة بالبطل-النقيض تحت شكل أسطوري جزئي: جميع آلهتي كلاب البحر (ص54). إنهم الملوك المؤلهون، مثلما هم لدى هوميروس، والذين هم لدى محمود دوريش كلاب البحر؛ لتظهر العلاقة بالبطل-النقيض تحت شكل واقعي/جزئي. وستنقلب الآية حين تفصيل العلاقة بالبطل النقيض، أي، حين إبراز الطرف الآخر المكون للعلاقة الذي هو الأب، وما يتضمنه من معنى شامل للنضالية الفلسطينية. الأب سيبرز تحت شكل أسطوري/جزئي، والملوك المؤلهون سيبرزون تحت شكل واقعي/جزئي:- واخرج من النص المعد وعد أسماء الملوك- وقادة الجيش المدجج بانتحارك وانحناءات القضاة تجد- قراصنةً ووجهًا واحدا (ص55). إلى أن تنكسر العلاقة، وتنحسم أسطورة معركة الازدواج: من يستحق البحر؟- دعهم يسقطون على السواحل وحدهم- من يستحق الفجر؟- دعهم يسقطون على فراغك وحدهم- من يستحق النصر؟- دعهم يعبدون عدوهم وقيودهم- دع كل ما ينهار منهارا- ولا تقرأ عليهم أي شيء من كتابك!- (ص55). ساعتئذ سيصبح الشكل الواقعي/الكلي للملوك المؤلهين في الانهيار، والشكل الأسطوري/الكلي للأب ورمزه للنضالية الفلسطينية. إنها علاقة انتهت بالبطل-النقيض الذي هو قائم ومادي وملموس في انهياره المستمر(الأب/عرفات/قبل الخروج)، وعلاقة لم تبدأ بالبطل-القادم؛ لأنها لم تؤسس إلا طرفًا واحدًا فوق-واقعي.
العلاقة بالبطل- القادم هي علاقة تسعى وراء التشكل، للهبوط من فوق إلى تحت، للتثبت من الجدل، لتدجين الإرادة: لك أن تكون أو لا تكون (ص56)، لتكريس الخلق:- لك أن تكون- أو لا نكون (ص56)، لفرز السؤال وصاحب السؤال:- كل أسئلة الوجود وراء ظلك مهزلة- والكون دفتره الصغير- وأنت خالقه (ص56)؛ لتدوين السعادة: فدون فيه فردوس البداية يا أبي- أو لا تدون (ص57)، وأن يدون أو لا يدون (الأب/عرفات/بعد الخروج) يعني أن يشاء أو لا يشاء، وهذه إرادة إلهية على علاقة بأسطورة بعل الكونية حيث البداية الجديدة للحياة (( السبعية )) بمثابة الفردوس إن جرى تحقيقها. فكيف يكون التحقيق لتنفصل العلاقة عن الأسطورة، وترتبط بالأرض؟ لتتحدد وقائع التاريخ التي أنتجتها؟ لتنبني العلاقة بالبطل-القادم؟ إنه السؤال الذهني: ماذا تريد؟ (ص57)، الذي يؤرق الشاعر، وفي رأسه يشكل الجواب: ماذا تريد؟- جريدة؟.. ماذا تريد؟- أشرطة؟.. ماذا تريد؟- سيادة فوق الرماد؟.. (ص 57 ) لينفيها، فعالمه البحر، وهذه لا تشكل معيارًا لسيادة حقيقية. أما المعيار الحقيقي، فهو القائم على سيادة الكينونة وسيادة الروح: ماذا تريد؟- سيادة فوق الرماد؟ وأنت سيد روحنا يا سيد الكينونة المتحولة- (ص 57 ) سيادة الروح دون أن تقطع صلاتها بسيادة الوجود التي هي حرية التكوين (ص58)، أي، التصيير والتخليق والاختراع والصنع والتصوير. وهذه كلها معايير لعالم جديد يعاكس المرحلة القائمة (ص58)، ليبني مرحلة جديدة ستقوم، وهي إن قامت، فستبقى الفكرة (أو القصيدة) المدد الروحي الذي يرفد الكينونة الفلسطينية المتمثلة بدولته، أقرب تفسير للبيتين الأخيرين في السياق الذي نقاربه هنا: ما أكبر الفكرة- ما أصغر الدولة (ص58)، حتى وإن صارت الأولى نتاجًا طبيعيّاً للثانية، وهذا ما عليه أن يكون في مرحلة ما بعد البحر، مرحلة الدولة الفلسطينية، لكنها مهمة من مهمات البطل-القادم.
جامعة القاضي عياض - مراكش 1984
كلمة ختامية للطبعة الثانية
مضى على تحليلي السابق لمديح الظل العالي أكثر من ربع قرن، كنت كمحمود درويش لم أزل واقعًا تحت تأثير حدث حصار بيروت، فقالت القصيدة ما قالته تحت شرط هذا الحدث، سواء أكان ذلك شعرًا أو تحليلاً، لأني لم أتدخل على الإطلاق، وتركت النص يتأول كما تشاء له زمنيته. ومن هذه الناحية، ناحية الزمنية بالإمكان إخضاع النص لعملية تحليل ثانية تختلف عن الأولى، من موقعنا الزمني الحالي بعد أن كشفت السياسة سر الكثير من الأمور الخاصة بالمسألة الفلسطينية، والخاصة بالشاعر الذي افتضح أمر خروجه من إسرائيل المخطط له من أجل غاية واحدة وحيدة ألا وهي تدجين الإنسان الفلسطيني والإنسان العربي، وذلك عن طريق احتلال الأدب من طرف درويش كما تم احتلال السياسة من طرف عرفات (تأليه عرفات في الأبيات الأخيرة دون خجل مهزلة للتواطؤ)، والوصول إلى ما وصلنا اليوم إليه على طريق تصفية القضية الفلسطينية، وقد انسجمت هذه التصفية على مستويين روحي (قصيدة درويش) وعملي (سياسة عرفات). في كل مديح الظل العالي لم يتعرض الشاعر إلى إسرائيل والجيش الإسرائيلي إلا تحت إشارتين أو ثلاث عن الهيكل والرومان وإشعياء ويهود خيبر، لاحظ أن الذهاب إلى أبعد نقطة في التاريخ يبعدنا أكثر مما يقربنا إلى ما نحن فيه من صراع جوهري مع إسرائيل اليوم على الرغم من الدلالات الحينية التي حاول الشاعر توظيفها، ونجده بشكل خجول جدًا يتكلم عن الدور الإسرائيلي في مذابح صبرا وشاتيلا وانتحار حاوي، وكأن الحصار البيروتي في لغته تقعيد لغة (ميتالانغ) ليست هناك أية علاقة للدبابات الإسرائيلية به. وما أنقذ محمود درويش هو عنصر السياقية التي يتمحور فيها نصه، إضافة إلى عنصر الزمنية كما قلنا، لهذا كانت استنتاجاتنا التي توصلنا إليها، إذ في كل قصيدة ليست هناك حرية القائل الذي هو الشاعر فقط وإنما حرية المقول أيضًا، حرية طوعت الشاعر والقصيدة من خلال مجموع سياقاتها التاريخية والشعرية والفكرية والنفسية والاستعارية والفلسفية والأسطورية... إلخ. لكن الأهم من كل هذا أمس واليوم وغدًا، فيما يخص عملنا، هو طريقة التحليل التي قدمناها، والتي تسعى إلى تثوير النقد الأدبي عندنا وتطويره، وخاصة إلى أن تكون نموذجًا يحذو الطالب الجامعي والأستاذ الجامعي حذوه عند مقاربتهما لنصوصهما، فهذه الدراسة في أصلها عبارة عن محاضرات ألقيت في جامعة مراكش. في كل قصائده لم يتعرض درويش للفكر الصهيوني والكيان الصهيوني كما يجدر التعرض لهما تحليلاً وتفنيدًا ونقدًا ونقضًا ونفيًا ورفضًا، فأين الأسباب الحقيقية للفاجعة الفلسطينية إن لم تكن إسرائيل والصهيونية؟ بعض صرخاته ضد هذا الفكر وضد هذا الكيان لهي أقرب إلى صرخات بن لادن اليوم الموقوتة بدقة والمرسومة والمشبوهة والتي يجري تسويقها على غرار المدرسة الحقائقية، وذلك لدعم الذين يصرخ عليهم الغير المباشر، وقد جعل منهم ضحايا في موقف الدفاع عن النفس، أو أبطالاً يخوضون معارك شرسة ضد أعداء وهميين، بينما الواقع شيء آخر، الهيمنة على الأرض وعلى البشر وعلى الثروات، والترويع من أجل التركيع، وتمرير كل شيء، من أقذر فعل في السياسة إلى أعظم فعل في السياحة! لهذا السبب، ومن هذه الزاوية، يدرس التلاميذ أعمال درويش في إسرائيل. وكذلك، تأتي صرخاته لإرضاء المتطرفين منا وإشباع حاجة الانتقام لديهم، أما همزاته ولمزاته وقهوة أمه وكل نوستالجياه، فلإرضاء الباقين منا، وإبدال الوطن بالوُطان، فتبقى الأمور على ما هي عليه، وهذا ما يسعى إليه حكام تل أبيب. هناك نوع من البوفاريّة لدى محمود درويش، مصطلح مأخوذ من مدام بوفاري بطلة فلوبير، وهو يعني الهرب من الواقع، وأنا أفضل التفلّت على الطريقة الدرويشية، فالمشكل الأساسي ليس العرب وإنما إسرائيل... ولا كلمة كافية مَكْفِيّة عنها. هناك من يقول المشكل الأساسي العرب وإسرائيل، لكن معظم قصائده ضد العرب (أيهم؟ هو لا يحدد!) أو ضد الذات أو لتعميم الضد الإسرائيلي وتمييعه، ويا حبذا لو كان ذلك من أجل الإفضاء إلى الكرامة والانفراج والجمال في عملية للأنسنة ملزمة لكل كاتب بدلاً من ممارسة هذيان الاضطهاد لديه ولدى كل كتابنا وكل كتابهم. محمود درويش ظاهرة خطيرة، نوع من فاغنر وسيلين وجينيه وباوند، أعمالهم تحميهم من ((سقطاتهم))، أو، بصريح العبارة، من مواقفهم السياسية الخفية والعلنية.
أ. القاسم باريس الأحد 07. 11. 2010
أعمال أفنان القاسم
المجموعات القصصية
1) الأعشاش المهدومة 1969 2) الذئاب والزيتون 1974 3) الاغتراب 1976 4) حلمحقيقي 1981 5) كتب وأسفار 1988 6) الخيول حزينة دومًا 1998
الأعمال الروائية
7) الكناري 1967 8) القمر الهاتك 1969 9) اسكندر الجفناوي 1970 10) العجوز 1971 11) النقيض 1972 12) الباشا 1973 13) الشوارع 1974 14) المسار 1975 15) العصافير لا تموت من الجليد 1978 16) مدام حرب 1979 17) تراجيديات 1987 18) موسى وجولييت 1990 19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991 20) لؤلؤة الاسكندرية 1993 21) شارع الغاردنز 1994 22) باريس 1994 23) مدام ميرابيل 1995 24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995 25) أبو بكر الآشي 1996 26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999 27) بيروت تل أبيب 2000 28) بستان الشلالات 2001 29) فندق شارون 2003 30) عساكر 2003 31) وصول غودو 2010 32) الشيخ والحاسوب 2011
الأعمال المسرحية النثرية
33) مأساة الثريا 1976 34) سقوط جوبتر 1977 35) ابنة روما 1978
الأعمال الشعرية
36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966 37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967 38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968 39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001 40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002 41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009 42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010 43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010
الدراسات
44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975 45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983 46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984 47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984 48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995 49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004 50) خطتي للسلام 2004
[email protected]
فهرست الموضوع ص مسألة الشعر الحديث في العالم العربي ............................................. 5 بنية الملحمة في مديح الظل العالي ................................................... 21 الحركة الأولى: إنشاد الممدوح.......................................................... 23 بنية شكل الحركة الأولى..........................................,........................ 25 التعبير الشعري............................................................................ 25 الصورة والضمير........................................................................ 25 الطريقة والشعرية...................................................................... 30 الموضوع والخطاب.......................................................................... 31 المحتمل واللامحتمل في إطار المحتمل.............................................. 35 تمهيد منهجي لتحليل بنية مضمون الحركة الأولى............................. 39 بنية مضمون الحركة الأولى.............................................................. 41 حول النبرة حول المقدمة................................................................... 41 الوحدة الثانوية الأولى: فعل النوم................................................. 42 الوحدة الثانوية الثانية: فعل الموت............................................... 42 الوحدة الثانوية الثالثة: فعل الهجرة............................................... 43 الوحدة الثانوية الرابعة: فعله وحيدًا.............................................. 43 الوحدة الثانوية الخامسة: فعل البراءة........................................... 43 الوحدة الثانوية السادسة: اللا والنعم موقف وحالة........................ 44 الوحدة الثانوية السابعة: بيروت الصورة وبيروت السورة............ 45 الوحدة الثانوية الثامنة: العاشق والمعشوق.................................... 45 جدل العلاقات بين الفعل والدلالة والبطل والشاعر ........... ............... 48 ((أطراف )) المأسوي والصيغة التهكمية............................................... 53 مسألة التطوير القصيدي من خلال شرط الانتصار............................ 54 الصفة المادية لكتابة الخبر................................................................. 55 حركة القصيدة من فعل كان إلى فعل يكون....................................... 56 مسألة التماهي ومسألتا التخارج والتداخل.......................................... 58 بيروت كمكان للتراجيديا................................................................... توليف التبعيد: حالة النوم.................................................................. 59 60 ربط الحالة العامة بالمكان العام......................................................... 64 1- حالة الموت........................................................................... 64 2- حالة الهجرة.......................................................................... 66 3- حالته وحيدًا........................................................................... 69 الترنيمة المحايدة والبطل المحايد....................................................... 80 الفضح والكشف من خلال الفعل الواقعي........................................... 84 العلاقة: أحبك- لا أحبك.................................................................... 90 1- حالات العاشق....................................................................... 90 2- صفات المعشوق.................................................................... 92 3- مركبات العشق دالا ومدلولا.................................................. 96 4- محفزات العشق: نقد الذات ونقد الآخر.............,.................... 98 الحركة الثانية: إنشاد بيروت............................................................. 101 بنية الزمان بنية المكان...................................................................... 103 الصورة الأولى: بيروت/ فجرًا.......................................................... 104 المكان- الجسد............................................................................. 104 المكان- الشيء............................................................................ 107 الصورة الثانية: بيروت/ ظهرًا.......................................................... 109 المكان الحقيقي والمكان الخيالي................................................... 109 المكان الحقيقي: أمريكا................................................................ 110 الصورة الثالثة: بيروت/ عصرًا........................................................ 112 المكان العمودي........................................................................... 112 الصورة الرابعة: مساء/ فوق بيروت................................................. 112 المكان الأفقي............................................................................... 112 الزمان الداخلي والمكان الخارجي................................................ 113 بيروت/ ليلاً: صورة أولى.................................................................. 114 بيروت/ ليلاً: صورة ثانية.................................................................. 117 بيروت/ ليلاً: الصورة الثالثة والصورة الرابعة................................... 118 بيروت/ ليلاً: الصورة الخامسة والصورة السادسة.............................. 119 بيروت/ ليلاً: الصورة السابعة والصورة الثامنة................................. 120 بيروت/ ليلاً: الصورة التاسعة والصورة العاشرة............................... 121 بيروت/ ليلاً: الصورة الحادية عشرة والأخيرة................................... 123 بنية العلاقات المكزمانية..................................................................... 125 1- المرحلة الأولى: الصورة الأساسية............................................... 125 الصورة الأولى: بيروت/ ظهرًا..................................................... 125 الصورة الثانية: بيروت/ عصرًا.................................................... 126 الصورة الثالثة: بيروت/ فجرًا....................................................... 126 2- المرحلة الثانية: الظواهر المادية................................................... 129 الصورة الأولى: بيروت/ ظهرًا: الظاهرة المادية الأولى............... 129 الصورة الثانية: بيروت/ عصرًا: الظاهرة المادية الثانية............... 130 الصورة الثالثة: بيروت/ فجرًا: الظاهرة المادية الثالثة.................. 130 3- المرحلة الثالثة: العلاقات المكزمانية............................................. 131 الصورة الأولى: بيروت/ ظهرًا: العلاقة المكزمانية الأولى........... 131 الصورة الثانية: بيروت/ عصرًا: العلاقة المكزمانية الثانية........... 132 الصورة الثالثة: بيروت/ فجرًا: العلاقة المكزمانية الثالثة............... 133 الخواص المكزمانية............................................................................ 134 الساخر/ العبثي/1............................................................................... 135 الفاجع/ العبثي.................................................................................... 136 صبرا: الصورة الأولى................................................................. 136 صبرا: الصورة الثانية والثالثة والرابعة........................................ 137 صبرا: الصورة الخامسة والسادسة................................................ 139 صبرا: الصورة السابعة................................................................ 140 الساخر/ العبثي/ 2............................................................................. 141 خاتمة الحركة الثانية........................................................................... 144 الحركة الثالثة: إنشاد الخروج............................................................. 145 مقدمة: بنية الخروج........................................................................... 147 القسم الأول: بنية الوطن- الحقيبة....................................................... 149 ترنيمة ((تجميعية)) للقسم الأول: وضع غير معقول وغربة غير معقولة 149 الصورة الأساسية الأولى: التتويه/ التهجير......................................... 150 الصورة- الثانوية الأولى: يجهل إلى أين يذهب.................................. 151 الصورة الأساسية الثانية: إرادة البحث عن مكان................................ 151 الصورة- الثانوية الثانية: صارت للتجوال غاية.................................. 152 الصورة الأساسية الثالثة: الاغتراب الأقصى...................................... 153 الصورة- الثانوية الثالثة: تعميق مسألة التائه ((الجديد)) ........................ 153 الصورة الأساسية الرابعة: لا منفى ولا وطن...................................... 154 الصورة- الثانوية الرابعة: عدم الرضاء بالعقاب ضد الرضاء به....... 154 الوطن والمواطن في الصور السابقة................................................... 155 استنتاجات........................................................................................... 155 القسم الثاني: بنية الوداع..................................................................... 157 تفسيم بنية الوداع إلى خمس ترنيمات.................................................. الترنيمة الأولى: الشكر....................................................................... 157 157 الترنيمة الثانية: الخطبة....................................................................... 157 الترنيمة الثالثة: النبوءة....................................................................... 158 الترنيمة الرابعة: المصير.................................................................... 158 الترنيمة الخامسة: الخاتمة/ الفاتحة...................................................... 159 تركيب الصور: ................................................................................. 159 الترنيمة الأولى................................................................................... 159 الصورة الأولى: صورة من ثلاث صور ثانوية............................. 159 الصورة الثانوية الأولى: وداع للجميع........................................... 160 الصورة الثانوية الثانية: تواطؤ وتواصل....................................... 161 الصورة الثانوية الثالثة: تلخيص اللحظة الأخيرة للوداع................ 162 الصورة الثانية: اللحظة الأشد تراجيدية......................................... 164 الترنيمة الثانية.................................................................................... 165 الصورة الأولى: صورة من صورتين ثانويتين.............................. 165 الصورة الثانوية الأولى: توليف وتواتر بين الماضي والحاضر..... 165 الصورة الثانوية الثانية: الانتقال من المأزق إلى المطلق................ 166 الصورة الثانية: تشخيص لاختيارات الشاعر................................. 167 الصورة الثالثة: صورة من صورتين ثانويتين............................... 168 الصورة الثانوية الأولى: الساخر في الفاجع................................... 169 الصورة الثانوية الثانية: التدليل في التنديد..................................... 170 الترنيمة الثالثة.................................................................................... 172 الصورة الأولى:علاقة التحام في المظهر وانفصام في الجوهر....... 172 الصورة الثانية: من لحظة النبوءة إلى لحظة ما قبل- النبوءة........ 173 الصورة الثالثة: قطع الحقيقي عن طريق المجازي........................ 174 الترنيمة الرابعة.................................................................................. 174 الصورة الأولى: تأكيد لحظة ماضية من لحظة حاضرة.............. 174 الصورة الثانية: لحظة التساؤل الكياني........................................ 175 الترنيمة الخامسة................................................................................. 176 الصورة الأولى: علاقة انتهت وأخرى بدأت................................. 176 الصورة الثانية: إعادة العلاقة الطبيعية.......................................... 177 دلالات الصور................................................................................... 178 دلالات ذات بعدين أحدهما واقعي والآخر أسطوري........................... الدلالة الواقعية.................................................................................... 178 178 الترنيمة الأولى: انبناء العلاقات الفلاحية والعمالية والوطنية......... 178 الترنيمة الثانية: انبناء العلاقات اللبنانية والعربية والعالمية............ 180 الترنيمة الثالثة: انبناء العلاقة مع الذات/1..................................... 181 الترنيمتان الرابعة والخامسة: انبناء العلاقة مع الذات/2................ 182 الدلالة الأسطورية/1........................................................................... 183 الجديد والقديم................................................................................ 184 الناقض والمكمل............................................................................ 185 القسم الثالث: بنية العبور.................................................................... 193 العبور/ الأسطورة.............................................................................. 194 المرحلة الأولى: بيروت................................................................ 194 المرحلة الثانية: الأوديسة.............................................................. 196 المرحلة الثالثة: كنعان................................................................... 197 العلاقة بالبطل- النقيض..................................................................... 200 العلاقة بالبطل- القادم......................................................................... 200 كلمة ختامية للطبعة الثانية.................................................................. 203 أعمال أفنان القاسم.............................................................................. 207
من زاوية استكشاف بنية فعل التغيير في القصيدة، خضنا عملية تحليل قصيدة محمود درويش ((مديح الظل العالي))، وهى عملية تحليل السمات الوثيقة الصلة بالدلالة شائقة وشاقة بل وشاقة جدًّا، وكأنها عملية ولادة جديدة للقصيدة، أتعبتنا نحن وفاليري وجاكوبسون وغريماس وجينيت وبارت وتودوروف وإيكّو و... و... وغيرهم الكثير، فالنقد لدينا معاناة وابتكار تطوعه مادة النقد كما يطوعها، إنه إنتاج ثانٍ للقصيدة. هذه القصيدة التي كانت نموذجًا للتركيبية الشعرية، والتى هي ذات وجود متعدد يؤكد جدارتها، حيث انصبَّ كل جهدنا على ((تفسير)) الأقرب إلى معانيها (بصيغة الجمع)، لنقترب من جوهر القصيدة والواقع، وقد تبدى عالمًا جديدًا كاشفًا للحقيقة، نقول ((كاشفًا)) من منطلق محمود درويش الذي ((بالواضح يفسر الغامض)). ولكي نزيل الشكوك لدى بعض القراء نعلن أن مديح الظل العالي تجربة خيالية أولاً وقبل كل شىء، وهي، بعد ذلك، ((شخصية)) أو ((طبقية)) أو ((أخلاقية)) أو ((فلسفية)) أو ((عاطفية)) أو ((سيميائية))، وكل هذا معًا، إنها قصيدة رمز الحالات.
* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثالث
-
المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني
-
المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
-
أنفاس الديوان الثالث
-
أنفاس الديوان الثاني
-
أنفاس الديوان الأول
-
أربعون يومًا بانتظار الرئيس
-
أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
-
كتب وأسفار
-
الذئاب والزيتون
-
أم الجميع ابنة روما
-
أم الجميع سقوط جوبتر
-
أم الجميع مأساة الثريا
-
الاغتراب
-
الكناري
-
الشوارع
-
إسكندر الجفناوي
-
مدام حرب
-
النقيض
-
شارع الغاردنز
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|