نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1080 - 2005 / 1 / 16 - 10:08
المحور:
الادب والفن
بوابة 1:
بدأ الصراع التاريخي بين الإنسان و النملة عندما كان الجندي جالساً الجلسة العسكرية على الرمال بين مجموعة الجنود. كان الجندي يتناول زلطة من الأرض, و هو الذي كان محاطاً بالرمال و الزلط من كل الاتجاهات, ويصوبها نحو أقرب نملة بهدف قتلها.
الزلطة كانت تمرق في الهواء مصاحبة بأزيز حاد للغاية, لا يسمعه للأسف إلا النملة, نحو الهدف المتحرك. تصاحب الزلطة أيضاً بتيار هوائي حاد, لا يشعر به إلا النملة أيضاً. فور شعور النملة بالاثنين تكون قد اتخذت حركتها المراوغة و ابتعدت عن موقع سقوط القذيفة.
"أتخيل ذلك المشهد مصوراً على شاشة السينما. أتخيل الكاميرا تصور ما حولها بعيون الزلطة. في البداية لا نرى شيئاً إلا رمالاً و نملة في عمق الكادر. تتذبذب الكاميرا و تبدو غير مستقرة (هي الزلطة التي ترتعش في كف الجندي) و فجأة تمضي بسرعة مجنونة نحو الرمال. السرعة رهيبة لدرجة أننا, المشاهدين, لا ندرك بالضبط ما يحدث. تنتهي اللقطة وحبات ضخمة قليلة العدد من الرمال هي فقط المتواجدة في الكادر. الكاميرا/الزلطة الآن مغروزة في الرمال. و قد يبدو جزء صغير من طرف النملة في ركن الكادر (النملة التي استطاعت الهرب من محاولة قتلها). الأزيز المصاحب لحركة الكاميرا عال للغاية و على الرغم من المشاهد يشعره هذا الأزيز بتيار هوائي شديد قادم من الجهة المقابلة يكاد يبتلعه. هنا لابد أن يحكم المشاهد, بحركة لا واعية, إغلاق سترته تحسباً لذلك التيار. تستقر الكاميرا حوالي عشرين ثانية في الوضع الأخير, بينما هي مغروزة في الرمال, ثم تنتقل للقطة أخرى".
بوابة 2:
نسي كاتب القصص يوماً أنه كاتب قصص. هبط عليه النسيان فجأة و هو مشغول في إعادة كتابة رواية قديمة. قال لنفسه ما كل هذا الهراء, كلام و كلام, أوراق و أوراق, كميات ضخمة من اللا شيء. مزق كاتب القصص كل الأوراق ثم أطاح بها من النافذة.
كان لكاتب القصص خيال خصيب. كتب عن بشر يطيرون و جياد لها أوجه الأسود و ماء ينبع من ينابيع سرية و قادر على تحقيق كل الأماني. لم يفارق الكاتب خياله هذا لدى نسيانه أنه كاتب قصص. إستمر خياله يعذبه بتهويماته الزائفة و كان هو على شفا الجنون. كثيراً كان ما يقول لنفسه "لو كنت فقط كاتب قصص لأمكنني استعمال كل تلك الأكاذيب الاستعمال المناسب". صار كاتب القصص الذي لا يذكر أنه كاتب قصص متهماً بالكذب بسبب خيال عنيد يأبى أن ينكسر مثل الذاكرة.
أخيراً قال كاتب القصص
- حسناً, لم يعد لي من طريق آخر, سوف أتعلم كتابة القصص من جديد..
"لاحظوا رجاء عبارة (من جديد) ثم واصلوا الفقرة"
..و سوف أصير كاتب قصص مشهوراً, لدي خيال لا يملكه إلا كاتب قصص بالفطرة.
بدأ كاتب القصص في تعلم كتابة القصص. أخذ يقتني أعداداً مهولة من المجلات الأدبية و يقرأ جميع الأعمال الأدبية التي وجدها عنده, و التي لم يدرك سبب تواجدها عنده, و كذلك تلك التي اشتراها بنفسه. ما كان صعباً عليه و لم يتقبله في البداية هو كونه يبدأ هذا الطريق الآن, في سن الخمسين. كان واعياً بشدة , و الوعي هنا هو أخ للذاكرة, بأن مشكلته لا تكمن في كونه ناسياً للحيل الأساليب و الأبنية الأدبية, فهو يتذكرها جيداً من حياته السابقة, و إنما في كونه تحديداً لا يذكر كونه كان كاتب قصص في الماضي. كان يبذل كل جهوده لكي يذكر نفسه بهذا الأمر و لكن جهوده كانت تبوء دائماً بالفشل. كانت تنتهي دائماً بقولة واحدة
- حسناً أنا لا أذكر الآن, و لن يأتي على يوم أذكر فيه أنى كنت كاتب قصص, لا مفر أبداً من الاعتراف, ليس من شيء يستطيع إجلاء ذاكرتي و إجبارها على مواجهة النسيان, ذلك الذي نما و استفحل و صار شيئاً سخيفاً و قميئاً إلى كل هذا الحد.
بوابة 3:
كان السائق المستهتر يمر في الطريق ببطء شديد ثم ينتظر إلى أن يجد شخصاً يعبر أمامه فيزيد من سرعته بشكل جنوني و يقتل الشخص.
قال أبو السائق المستهتر, و هو رجل ثري بالمناسبة و لا تعنيه النقود, لصديق الشخص الذي مات و الذي كان يعبر معه
- أنا ماتهمنيش الفلوس. كل ما عليك تشهد ان صاحبك كان بيعدي الطريق بعدم احتراس و ان ابني ماغلطش. طبعاً المغريات اللي حاديهالك كتيرة. معاك سفرية لأي حتة ف أوروبا إنت و مرافق لعشر تيام و عمرة لشخص واحد ف العشرة الأواخر من رمضان. معاك كمان فيلا مكتوبة بإسمك ف اسكندرية و متأسسة عشرة على عشرة و ميت ألف جنيه كمان يبقو رصيدك ف البنك.
أما القصة فكانت شابة مثقفة حصلت على الدكتوراه من السوربون في الأدب الإيراني. كانت برغم هذا طماعة, أي أن لعابها كان يسيل لأي شيء. كانت كذلك غبية بعض الشيء ظنت أنها إن شاركت في شهادة الزور فسوف تنال شيئاً من المغريات المذكورة. كانت القصة حرباء أيضاً, فوق كل المذكور, أي ذات قدرة عظيمة على تغيير نفسها تبعاً للظروف. بينما كان صديق المجني عليه يشهد بالزور كانت القصة تغير نفسها أيضاً مع الشهادة. أي أن القصة "بوابة 3" قد تغيرت بالفعل, و بالتحديد الفقرة الأولى منها, إستجابة للمغريات التي قام بعرضها أبو السائق. نستطيع الآن أن نؤكد أن هذا هو ما حدث, في الواقع, بالضبط:
كانت السيارة تسير بسرعتها العادية للغاية, و التي لا تتعدي أربعين كيلومتراً في الساعة, أما الشاب المستهتر فكان ينتظر حتى تصبح السيارة على قيد أمتار منه ثم يعبر الشارع و يموت.
و نستطيع كذلك أن نؤكد أن ما ورد في الفقرة الأولى كان كله كلاماً فارغاً. أو أنه كان كذباً مفضوحاً, أو دعابة سمجة من قصة مغرمة بالمكائد. نعلم أن حضراتكم ما كان لكم, بعقولكم الراجحة, أن تصدقوا تلك الخرافات التامة التي وردت في تلك الفقرة.
بوابة 4:
تجلى المارد للقزم الذي كان جالساً في العراء. دمدم المارد "روعتني و أذهبت أمني و قاتلك أنا حتماً فتمن على ميتة". إرتعب القزم و صار يجري في جميع الأنحاء. في النهاية قال للمارد "إنما يعرف الأقوياء بعفوهم فاعف عني الله يرضى عنك". قال المارد "لا عفو و لا سماح إنما هو شيء مقابل شيء فنفذ ما أريده أقابلك بالعفو, طر معي الآن و سأريك ما تفعله".
طار القزم مع المارد إلى صحراء ليس فيها إنسان. أشار المارد إلى جبال ثلاثة متجاورة و قال "سأمر عليك غداً لأجدك صنعت من هذه الجبال عقداً أهديه لخليلتي. لديك حبل طويل سأعطيك إياه و ما عليك إلا أن تلضم الحبل في الجبال و يكون العقد قد اكتمل من ثلاثة جبال هي حبات له".
إختفي المارد و قال القزم لنفسه إنما هي ساعة من الزمن أبحث فيها عن مغارة في كل جبل و ألضم الحبل فيها ليكون العقد قد اكتمل من ثلاثة جبال هي حبات له. بحث القزم في كل جبل و لكن الجبال كانت أمامه مصمتة تماماً. لم يكن في أي جبل شق صغير و لو من سنتيمتر واحد يستطيع إدخال الحبل فيه. ظل هكذا كالمجنون يدور باحثاً في كل جبل حتى طلع عليه النهار و قال لنفسه الآن يمر المارد علي و مقتول أنا لا محالة. لم يمر المارد في ذلك اليوم, و لا في اليوم الذي بعده, أما قزمنا فلم يستغل هذا و يقل قد نسي المارد و علي بالعودة قبل أن يتذكر. واصل القزم بحثه عن أي شق يكون في أي جبل و باءت جميع جهوده بالفشل. في النهاية قال إن لم يوجد الشق فعلي خلقه بنفسي. مضي في محاولة خلق شق في كل جبل يمتد من ناحية إلى ناحية مقابلة مستعيناً بقبضته الضعيفة.
إنتهى عمل القزم بالفعل و تكونت أمامه جبال ثلاثة يجمع بينها حبل طويل يمر من شق في كل جبل من الجبال, كان ذلك بعد سبع سنوات من لقاء المارد بالقزم. لدى طلوع شمس السنة الثامنة تجلى المارد للقزم ثانية. قال القزم أين كنت أنت بينما أنا أنجزت العمل من أول يوم كما أمرتني. قال المارد يا تعس و هل مر إلا يوم منذ لاقيتك, يا أبله و هل يومي أنا, أنا الذي قدماي في الأرض و رأسي عند النجم, مثل يومك أنت يا حشرة. إعلم أن طلوع شمس علي يساوي طلوع 2556 شمس عليك, يعني بالعربي يومي يساوي سبع سنوات مما تعدون. الآن أنا أرى أنك قد أنجزت عملك و ما أمامي إلا الوفاء بعهدي معك و تركك ترجع فعد معك الأمان و وقتما أردتني فأنا مقيم في المكان الذي لاقيتني فيه للمرة الأولى.*
_______________________________________________
*يقول ربي عقيفا: كانت القصة كلها شتاتاً متناثراً, ثلاث قصص ليس ما يجمع بينها, و أراد الكاتب أن يوجد ما يربط بينها فأتى بقصة رابعة تجعل ثمة رابطة بين القصص الثلاث, و تلقي بمهمة خلق تلك الرابطة على القارئ. أنظر إلى الجبال الثلاثة التي أراد القزم أن يربط بينها بحبل, فكل جبل هو قصة و القزم هو القارئ و المارد هو الكاتب و الحبل و الثغرات الثلاث التي سيخلقها القارئ و ستوحد بين القصص الثلاث هي عوامل سيحددها خيال القارئ, كل بحسب خياله. يقول ربي يشماعئيل: القصص الأربعة هم وحدة واحدة, لا فضل لقصة على أخرى من حيث تصنيفها. و إنما يأتي عدم ارتباط القصص بعضهم ببعض نظراً لفكرة الكاتب نفسها عن القص, و الذي تخلى منذ زمن طويل عن فكرة الوحدة العضوية. أنظر إلى مفهوم القصة/المدينة عند الكاتب و الذي كان يفكر فيه و هو سائر في الشارع. أنظر هذه أفكاره بالضبط كما برقت في رأسه "قصة مدينة فيها كل شيء ما تتوقعش فيها حاجة تظل فيها في حالة دهشة دائمة ما تكرر فيها كل يوم منذ لحظة تأسيسها لا يعني أنه يتكرر كل يوم و إنما يعني أنه قد تكرر كل يوم منذ لحظة تأسيسها قصة ف حالة سيولة دائمة عمرها ماخدت شكل ثابت مافيش حاجة فيها تشبه حاجة و لا فيها حاجة مرتبطة بحاجة كل شيء في حالة تنافر سرمدي أسهل حاجة يطل عليك من بين كلمات القصة المدينة واحد مسلح و يصوب الطبنجة باتجاهك و يرديك قتيلاً تنازل القص منذ عصور طويلة عن طبيعته المسالمة إن لم تقم القصة الآن بقتل القارئ فهي قصة فاشلة لأنه حينئذ سوف يقوم القارئ بقتلها". تنازل الكاتب بالفعل عن ارتباط وحدات القصة ببعض و لم يعد في حاجة إلى حيلة من نوعية البوابة 4 لكي يصنع رابطاً واهياً بين تلك الوحدات. و يرد عليه ربي عقيفا: أرى يا زميلي العزيز أنه قد جانبك الصواب. أنظر إلى هذا مثلاً, البوابة 4 هي قصة سخيفة إذا تناولناها كقصة و ليس كمفتاح يربط لنا بين عدد من القصص الأخرى. هي قصة سخيفة بالفعل و لا تزيد عن أية قصة للأطفال تحض على الاجتهاد و عدم اليأس و و إلى أخره. و نهايتها ليست لاذعة و لا مبتكرة و إنما هي تقليدية تماماً يثاب فيها البطل الذي تعاطفنا معه طوال الفيلم. إذا تناولناها فقط من الناحية التي اقترحتها فسوف يبرز لها عندئذ معنى ما. قال ربي يشماعئيل: أنت من جانبك الصواب يا عزيزي لأنك دخلت في الطريق الملتوي و ابتعدت عن الطريق الذي باركه الرب فلو ربطت بين بوابة 4 و بين حالة الكاتب النفسية في ذلك الوقت لتأكدت مما أقول, أنها قصة كاملة و تعامل على قدم المساواة مع سائر القصص/البوابات. كان الكاتب عائداً لتوه من مركز التدريب في الجيش و كانت الفكرة المسيطرة عليه حينئذ أنهم قد أخصوه في هذا الجيش, فلم يعد عقله قادراً على الابتكار حيث أنه لم يكتب إلا قصة واحدة طوال شهر, و الذي هو مدة مركز التدريب, و لذلك كانت شهوته الشديدة لكتابة أي شيء و كان كذلك عجزه عن الكتابة, و إذا كتب كان مستوى ما يكتبه أقل مما كان فيما قبل بحيث يضارع كما قلت أية قصة من قصص الأطفال. قال ربي عقيفا: لا تبارك التوراة من لا يقرأ حروفها و أنت قد ضللت و شططت لأنك أنت من لم يختر طريق الرب و ليس أنا, أنت تعامل القص بوصفه نتاجاً لعوامل نفسية تدور في نفس الكاتب و هو ما ترفضه نظريات النقد الأدبي الحديثة كما يرفضه الكاتب نفسه. الآن يا زميلي يا عالم يا كبير النص يفسر نفسه بنفسه فلو ربطناه بعنصر خارجي لتحددت له دلالة واحدة و لصار النص عقيماً إلا عن هذه الدلالة. قال ربي يشماعئيل أنت قليل الأدب. و حينئذ أدرك ربي عقيفا, عندما دفع ربي يشماعئيل إلى الخروج عن أدب الحوار, أنه هو من انتصر فقال بثقة المنتصر هادماً آخر معقل لدى ربي يشمعئيل: حتى و إن سلمت بأن هذه القصة هي قصة/مدينة حسب تعبيرك و تعبير كاتبك هذا فأنا لا أفهم افتراضك أنه في حالة اتخاذ القصة شكل مدينة فهي حينئذ لن تتسم بالوحدة العضوية التي تجمع بين أجزائها, و هنا كان يبطئ من لكنته لإحساسه بأنه يصيب ربي يشماعئيل في مقتل, فالمدن نفسها قد تتميز بتلك الوحدة و إلا لما كانت, على سبيل المثال, أورشليم هي المدينة المقدسة التي اختارها الرب سكناً له, و هي صفة أبدية تتجلى في كل موضع فيها لا تتغير في هذا العالم أو في العالم القادم, أم ترى الشك يراودك في هذا يا يشماعئيل أفندي!؟
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟