أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني















المزيد.....



المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3668 - 2012 / 3 / 15 - 00:55
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة

الروايات (8)

د. أفنان القاسم

المسار

مسار حلم ممنوع

رواية

القسم الثاني

نسخة مزيدة ومنقحة


الطبعة الأولى المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1981
الطبعة الفرنسية دار لارماطان باريس 2004



11
- القضية متدهورة!
أهوى الحاكم العسكري يده النافرة العروق بدافع الغضب، فتطايرت بعض الأوراق، وسقط قلم:
- إنها لا تقف الآن عند الحد الذي ظننت، لقد تجاوز المتهم الحدود، وزاد الحالة خطورة!
أخذ المحامي يضغط أطراف أصابع يديه في تهيب، والحاكم يهدد:
- لم يعد الأمر أمر جنحة من الجنح العقائدية، أنا أعتبرها جريمة لا تغتفر، بل خيانة عظمى!
اصفر وجه المحامي، وارتبك، راح يدفع نظارته الطبية بسبابته، ويرمي النظر إلى شريف، الشاب المتهم ذي اللحية غير الحليقة، الواقف هناك، ومن أمامه ميكروفون ومسجل وشريط لا يتوقف عن الدوران، بينما الحاكم لم يزل يستحوذ عليه الغضب:
- لم يعد لدي أدنى شك يحول دون الإدانة، لقد بانت الحقيقة، غدت واضحة للعِيَان، ومع ذلك، فسأستمع حتى النهاية، ليتابع المتهم الإدلاء بأقواله.
قال شريف، وهو يعقد بين حاجبيه:
- لم يعد لدي ما أقوله.
وكأنه سدد ضربة إلى عين الحاكم، فإذا به يزمجر، وهو يحدد نظره إلى وجه شريف:
- وكيف لا، وكيف لا، كان يبدو لي أن لديك الشيء الكثير لتقوله!
- ليس لدي أكثر مما قلته.
لم يستطع الحاكم الاستمرار في إحداد نظره إلى الوجه المتدفق بأمارات التحدي. ذهب بعينيه إلى لا جهة على التحديد، وحنى رأسًا مثقلاً بالأحكام التعسفية، وفي نفس الوقت اختطف المحامي قدمه، وتقدم من شريف، وأخذ يهمس في أذنه، لكنه ارتد على أعقابه خائبًا. وبعد قليل، سمع كل من في القاعة صوت شريف المشحون بالعزم والتصميم:
- أرجو أن يسمح لي السيد الحاكم بالعودة إلى مكاني، فلم يعد لدي ما يمكنني قوله.
رفع الحاكم نحو شريف رأسًا متهاويًا، وراح يجس الأزرار الذهبية للبذلة العسكرية التي يرتديها، وهو يقاوم ألا يفقد هيبته:
- يؤسفني ألا ألبي رجاءك، فأنا أريد الاستماع، من كل قلبي، إلى باقي أقوالك.
احتد شريف:
- لن أضيف كلمة واحدة إلى ما قلته: لقد جاؤوا إليّ، وطلبوا مني أن أعاونهم، فهناك منشورات قالوا نريدها أن توزع، فوافقت بدافع من فضول، واعتبروني مشجعًا للحزب، هذا كل ما هناك. أما عن كوني واحدًا من أفراده، فلا أساس لهذا من الصحة، لأنني لست عقائديًّا، وحسب تكويني الشخصي، أستطيع أن أعلن، بكل صراحة، أنني لم أخلق لأكون عقائديًّا، ولو كان الأمر غير ذلك لقلته جهارًا دون أن يعتريني أي شعور بالخوف. إنني لست عقائديًا، لا أنتمي إلى أي حزب، مع الأخذ بعين الاعتبار ما في هذا من خسارة. وهأنذا أجدني مضطرًا إلى الكشف عن خصائص لي شخصية، كنت أفضل عدم الإفصاح عنها، وتركها لي، وحدي، فهي لا تخص أحدًا سواي. وذلك لا يمنع من تأكيد أن موقفي لا يعني قناعتي كإنسان، إلا أنه كفرد بسيط يكفيني، فأنا لا أبحث عن المتاعب، هذا كل ما عندي، وما أردت الإدلاء به.
وعاد إلى مكانه.
قال الحاكم:
- لم تزل القضية متدهورة!
صفق المحامي، وأخذ يدافع بحمية:
- لقد أفصح موكلي عن كل ما في قلبه بنية صافية، وهأنذا أجد نفسي مضطرًا، يا حضرة السيد الحاكم، أو، إذا كان بإمكاني القول، ملزمًا بتحليل إدلاء موكلي الملقى على مسامعكم تحليلاً يمكن أن يحول دون تدهور القضية إلى الحد الذي تتصورونه. ولو تفضل السيد الحاكم بإعادة سماع الأقوال المسجلة التي أدلى بها موكلي، لأيقن تمامًا، دونما حاجة إلى شاهد نفي أو إثبات، أن القضية لم تعد متدهورة، وهي تسير في مجراها الطبيعي، مجرى أتمنى أن يكون قصيرًا، ولصالح موكلي لا عليه. يكفي الإنصات فقط إلى كلمات موكلي المسجلة الأخيرة التي أعلن فيها جهارًا وبكل صراحة أنه لا يبحث عن المتاعب، فهو إنسان مسالم بطبيعته، أملت عليه ذلك نفسه المرهفة وتربيته الخاصة منذ نعومة أظافره.
من هنا أستطيع أن أخرج، وبصفة مؤقتة - فليعتبرها السيد الحاكم منطلقًا لما أود وأرغب في الإفصاح عنه بعد قليل – أستطيع أن أخرج بنتيجة أولية: إن موكلي بأقواله التي أدلى بها على مسامعنا جهارًا وبكل صراحة، إنما يهدف إلى دفع القضية صوب شاطئِ بحرِ عدالةٍ يتمتع بصفاء أمواجه وانسيابها الطبيعي بعيدًا عن الهيجان. أما عن العفوية التي تميزت بها أقوال موكلي، فهي تدفعنا إلى تأكيد براءة الأفكار التي يمكنها- وهذا أمر طبيعي - الدخول ما بين آونة وأخرى في رأس موكلي، ولكن... دون أن يسمح لها بالبقاء هناك، أو الاستقرار، فهو في غني عن هذه الأفكار - ولنقل بمجموعها - مهما كانت دوافعها سليمة. ومن جهة أخرى، لا يمكننا أن نتغافل، أو نغض الطرف، عن حسن النية المصاحبة لكلماته، نية صافية تبعث على الإيمان القاطع بأن لا مقصد آخر لموكلي سوى الكشف عن الحقيقة كاملة.
ردد الحاكم بسأم، وهو يدفع ظهره على مَسند مِقعده:
- أنا لا أعتقد بالنيات، أنا لا أعتقد بالنيات!
انكمش المحامي:
- ولكنها، يا سيدي، كما ترى، نيات حسنة.
لم يتمالك الحاكم عن رمي يده في وجه المحامي، والالتفات إلى جاره:
- أسمعت؟ أخونا يحدثنا عن النيات!
راح المحامي يدفع نظارته الطبية بسبابته دون توقف، وفي الأخير، ابتهل:
- أرجو من سيدي الحاكم الاعتقاد بنية موكلي، فهي نية صافية، وصادقة تمامًا.
نفخ الحاكم:
- أريد وقائع، أنا أبحث عن وقائع.
عاد المحامي يدفع نظارته الطبية بسبابته دون توقف، وفي الأخير، أوضح:
- أرجو أن يسمح لي السيد الحاكم، فأنا سائر في الطريق إليها، الوقائع، ولكني لم أنته بعد من عرض النقطة المطروحة.
- أية نقطة؟
- نقطة النيات.
لما وجد تزايد علامات الاستياء على وجه الحاكم، قال على عجل:
- إذا أراد السيد الحاكم تركناها معلقة، على أن نعود إليها في وقت لاحق، فما هي سوى منطلق لما كنت أود وأرغب في الإفصاح عنه بعد قليل، وبالإمكان تجاوزها بصفة مؤقتة.
قال الحاكم بنبرة مقتضبة:
- تجاوز سريع، وبصفة ليست مؤقتة، أطلب الإسراع بالشروع في عرض النقطة التالية.
جمع المحامي بزته، وارتفع أحد كتفيه نتيجة لاستناد ذراعه على الطاولة، بينما سقط الكتف الآخر، فبان كالمشلول.
قال المحامي:
- فليتفضل السيد الحاكم بإعادة الاستماع إلى أقوال موكلي المسجلة على الشريط.
- لا يلزم، تابع مرافعتك.
تراقصت قسمات وجهه، رفع سبابته من أجل دفع نظارته الطبية، لكنه اكتفى بحك أنفه:
- إذا وضعت نية موكلي الصافية جانبًا، أمكنني أن أبرز، من خلال أقواله التي أدلى بها، عدم انسجامه المذهبي.
أقفل فمه، وهو يزم شفتيه، وأفرط في النظر إلى شريف، وشريف يَجُسُّ لحيته الغزيرة ذات لون الزنجار، وهو يفكر: (( لن أحلقها بنفسي كالعادة، سأذهب عند الحلاق )).
سأل الحاكم مهتمًّا:
- ماذا تقصد بعدم انسجامه المذهبي؟ أوضح.
- أنا في صدد إيضاح هذه النقطة، فما هي سوى منطلق.
لم يتمالك الحاكم نفسه عن القول، والعرق ينبجس من جبهته:
- إن الأساس الذي تبني عليه منطلقك، أيها السيد المحامي، لهو أساس متهاوٍ، نرفض أن تجرنا والقضية المطروحة إليه. لقد ألقي القبض على المتهم وفي حوزته منشورات حزبية محظور تداولها، ومحرمة تحريمًا مطلقًا في عرف القانون. هذه المنشورات لا تكتفي بالتشكيك لدى العامة وبث الذعر والفساد العقائدي ونشر الأفكار السامة فقط بل وتدعو المواطن إلى التمرد جهرًا ضد الدين والدولة. أنا أرى في هذا التحريض المباشر الهدام جملة جرائم أولها التآمر اللامشروع وآخرها قتل الضمائر، فكيف يمكنك أن تعطي تعليلاً لكل هذا، وعلى الخصوص بعد أن اعترف المتهم بموافقته على توزيعها بدافع من فضول؟
أخذ شريف يحك لحيته، لقد صمم: سيذهب عند الحلاق. راح يراقب ذبذبات شفتي الحاكم، وهو يفكر: (( يملك كرسيًا منجدًا )). شخص بعينيه على المحامي المتابع لكلمات الحاكم منسحقًا، وتذكر أباه: يريده أن يصبح محاميًا (( بارعًا )) ! توقف الحاكم عن الكلام فجأة كصنم العدالة، والمحامي، بعد أن سحب عدة أنفاس قصيرة ونفسًا طويلاً، رجا:
- دعني أوضح ذلك نقطة نقطة.
فأخرج الحاكم منديله، ومسح عرقه بعصبية، بينما بدأ المحامي يستقطب انتباه الحضور:
- بعد أن طلبوا إليه أن يساعدهم، كانت موافقته فقط بدافع من فضول...
أنعم النظر في عيني الحاكم، وكأنه وقع فجأة على اكتشاف هائل:
- بدافع من فضول ليس إلا! فموكلي الشاب لم يبلغ بعد العشرين من عمره، ومن هم في مثل سنه لديهم رغباتهم، شهواتهم، أحلامهم، لنقل، أمانيهم التي غالبًا ما تبدأ بدافع من فضول. فليعتبره السيد الحاكم، نعم، فليعتبره، ماذا أريد أن أقول؟ آه! نعم، فليعتبره فضولاً صبيانيًّا!
وأطلق ضحكة حادة لها صفير، استهلكتها مسامع الحضور على دفعات، وهو يهتز هزات تلو أخرى. أخذ الضحك كل من هم في القاعة، فنظر المحامي إلى شريف، وشريف يضحك هو الآخر، وهمس معتذرًا:
- فليعذرني موكلي!
راح يومئ برأسه إيماءات تلو أخرى متوسلاً عطف موكله، وشريف يردد لنفسه: أبدًا لن أصبح محاميًا! أبدًا لن أصبح محاميًا! قال المحامي بعد أن عاد إلى رصانته:
- إن الفضول الذي يتخذه الحاكم ذريعة لإدانة موكلي، ما هو إلا اعتراف بالبراءة، وإن الدعوى التي تقوم على الفضول يعتبرها القانون لصالح المتهم لا عليه، فهي تنتمي إلى عالم الظنون، عالم لا يمكننا تحديد خطأه من صوابه. إن السيد الحاكم يدفعني إلى تأكيد، طالما نحن في صدد الحديث عن فضول موكلي - وبصفة ليست مؤقتة- حسن النية التي تركناها منذ قليل كنقطة معلقة، وسأكتفي بأن أدع نقطة الفضول بالنسبة لها كنقطة استناد وحق ارتكاز، وليعتبرها السيد الحاكم منذ الآن نقطة منتهية.
أضاف المحامي بحماس:
- ومن الجدير ذكره، في هذه اللحظات الحاسمة، حسبما جاء في إدلاء موكلي، أنه لم يكن يومًا حزبيًّا، أو عقائديًّا، وقد نفى ذلك بشدة، ومع ذلك، فقد ذكر أنهم اعتبروه كمشجع ومشجع فقط. وهأنذا أجد نفسي مدفوعًا إلى طرح السؤال التالي، طامعًا بجواب شافٍ يجلجل فيه صوت الحاكم الحق (حدق في الحاكم طويلاً قبل أن يسأل): ما هي الجريمة التي يمكن أن يرتكبها (( مشجع )) لطائفة معينة من البشر، لها أفكار معينة، وسلوك معين، بينما هو يظل بعيدًا، على اعتبار أنها لا تعنيه؟
صاح الحكم:
- لا يمكن امرؤ أن يكون مشجعًا وبعيدًا في وقت واحد، لا يمكنه أبدًا! أنا أعتبر ذلك تدليسًا، خداعًا، تآمرًا لا يلبث أن يُفتضح، وأنا أستنكر كل ما يمكن أن ينجر عن ذلك من أوهام تحجب عنا الصلة الحقيقية.
تأتأ المحامي:
- أرجو أن يبقى السيد الحاكم معي، فأنا لم أصل بعد إلى تحديد هذه النقطة، نقطة الصلة الحقيقية وأبعادها، فقد طرحت سؤالي كنتيجة أولية، وبصفة مؤقتة.
- وماذا يمكن أن تقول لي ردًّا على سؤالك؟
تردد المحامي، وهو يدفع بسبابته نظارته الطبية عدة مرات، وفي الأخير، خلعها، وقال:
- إذا كنت مشجعًا لسيارات فورد، فلا يعني ذلك أنني غدوت محتكرًا لها.
- ولكنك فضلتها، وهذا ما يسمى بالاحتكار النظري!
هتف المحامي:
- لحظة، يا سيدي الحاكم، لحظة، فهذه النقطة ليست سوى منطلق، إن ما أود وأرغب في الإفصاح عنه لهو آت، فالاحتكار النظري إنما يعني...
قاطعه الحاكم بصورة حاسمة:
- لم يعد هناك ما يمكننا الحديث عنه.
نرفز المحامي:
- ولكني لم أزل أحتفظ لنفسي أمام هيئة المحكمة الجليلة بالكلمة، فلم أنته بعد!
- وأنا بدوري أحتفظ بحق الرفض بصفتي رئيسًا!
أراد المحامي أن يتكلم، إلا أن الحاكم لوّح أصابعه المتوترة في وجهه، وقال لموكله آمرًا:
- انهض، يا متهم.
نهض شريف، وراح يكش بيده من أمامه. طلب إليه الحاكم:
- أعطني بعض الأسماء.
- أية أسماء؟
- أولئك الذين جاءوك، لهم أسماء، أليس كذلك؟
- نعم.
- أعطني أسماءهم.
- لا أستطيع.
التفت الحاكم إلى المحامي المرتبك تمامًا، ونبهه إلى جواب شريف:
- امسك هذا!
تردد المحامي:
- يمكن أنه يجهل.
هدر الحاكم:
- قال إنه لا يستطيع، ولم يقل إنه يجهل! هذه إدانة أخرى!
رفع المحامي حاجبيه، ثم أنزلهما:
- لم أكمل مرافعتي، وإلا كان بإمكاني توضيح نقطة كهذه. وإذا سمح لي السيد الحاكم العودة إلى مرافعتي، اعتبرتها منطلقًا لما يود ويرغب في الإفصاح عنه.
قال الحاكم بسطوة وإملاء:
- لدينا بعض الأسماء، وقد أرسلنا استدعاءات، فإلى الجلسة القادمة.
ونهض.
صاح الحاجب:
- رفعت الجلسة.
أحدث الجمهور ضجة عند خروجه، بينما شريف يتثاءب، وهو يتابع المحامي بعينيه، والمحامي يجمع أوراقه بعد أن أعاد وضع نظارته الطبية. رآه، وهو يقفل حقيبته الجلدية، فتقدم منه، وسار إلى جانبه.
قال المحامي:
- لا تخف، سنكسب.
وهو يدفع بسبابته نظارته الطبية.
قال شريف:
- حان الوقت للاتصال بعمي الوزير.
- لقد فكرت في ذلك، أنا أيضًا، سأكلمه هاتفيًّا في وزارته، ومن ناحية أخرى، مدة كفالتك على وشك الانتهاء. يجب أن يجدد لك الكفالة، وإلا أودعوك السجن.
وفحص ساعته:
- إنه موعد طعام الغداء، وإلا كلمناه سويًّا. على كل حال، سأعمل له مكالمة غدًا صباحًا.
أخذا يسيران في ردهات المحكمة، فسأله المحامي:
- هل أنت خائف؟
- أنا! لا على التأكيد، كدت أغفو!
ضحك المحامي:
- طالما أنا موجود، فلا عليك، كان بإمكانك ألا تغفو فقط بل وتستغرق في النوم.
جامله شريف بابتسامة:
- عليّ أن أذهب إلى الحلاق بمجرد وصولي إلى نابلس.
وعلى الباب الخارجي للمحكمة، سأله المحامي:
- هل أنت مغادر في الحال؟
- نعم، لدي موعد، هناك من ينتظرني.
- ظننت أننا سنتناول طعام الغداء معًا.
كان شريف قد ابتعد:
- دعها للمرة القادمة (عاد يلتفت إليه): لم يقولوا متى؟
فرفع المحامي صوته:
- سيرسلون لك ورقة صغيرة كالعادة.
- آه! كدت أنسى. إذن، إلى اللقاء.
- سأكلم عمك الوزير، وبإمكانك أن تختطف قدمك إليه في داره الجمعة القادمة.
- سأرى.
- مع السلامة.
- مع السلامة.
سار شريف في الطريق، طريق جميلة ونظيفة، حديثة على ما يبدو، فقد كانت على الرصيف نبتات صغيرة لأشجار الدردار في أحواض محاطة بسياج، وبنايات بيضاء ذات أحجار منقوشة لم تزل تحتفظ برائحة الأسمنت. أصبحت محكمة العدل من ورائه، ولم يكن يعرف اسم الطريق التي يعبرها، والتي جاءها عدة مرات كلما استدعوه ليدلي بأقواله. فكر في المحاكمة: (( كانت مهزلة! )). وراح يتابع الأرقام على الجدران. من العادة أن يضعوا لوحة زرقاء عليها اسم الشارع عند نهايته، وكان الرقم المحاذي 39، فكّر: (( رقم فردي )). ثم قال لنفسه: (( يضعون أيضًا لوحة أقل حجمًا تحمل اسم الشارع إذا ما تلاقت معه طريق فرعية )). كانت الأرقام الفردية تزداد تزايدًا تصاعديًّا 43- 45- 47- 53... أسير سيرًا تصاعديًّا، نحو نهاية الطريق. نهاية فردية!61- 63... وعادت تبدو في خياله أصابع الحاكم بشكل مخيف مبالغ فيه، والأزرار الذهبية المصفوفة صفًّا عسكريًّا، والنياشين الغازية للصدر الأعرض، ونظارة المحامي الطبية التي تأبى إلا وأن تعاند دفعة الإصبع الخجولة إلى أعلى، فتزلق حتى منتصف الأنف، وكذلك الصفوف المتوازية من ورائه، صفوف قال لنفسه عنها بتهكم: (( أماكن حرة للجمهور! ))، كانت القاعة غاصة بالجمهور، وكان مندهشًا: عجباً! كيف لم يأخذني ضيق الصدر، وأنا أدلي بأقوالي؟ في المرة السابقة، أصابت صوته رعشة هائلة جعلته غير مفهوم. كان قلبه لم يتوقف عن الدق المسموع العنيف المتواصل، وكأن قدمه زلت في حوض ماء بارد، وتحول الخفق إلى لهاث، ولكي يوقف ذلك، طلب من محاميه أن يأتيه بكأس ماء، لكنه تأخر عن إحضارها إلى أن جلس، وأخذ راحته، فشرب جرعة واحدة، وكان ذلك بدافع جبر الخاطر، إذ شاهد دموعًا غائمة تكاد تنبثق من عيني المحامي لفرط تأثره، وهو ينحني حاملاً كأس الماء. كان شريف مصابًا بحمي التعاطف غير المعلل، وكثيرًا ما كان ينشأ بينه وبين أناس لا يعرفهم أو يمتون إليه بصلة نوع من التعاضد، لا لشيء، وإنما بسبب تلك الحمى. وكانت له صداقات يقيمها كل يوم لا تلبث أن تصبح متينة، يجري فيها بذل الذات والتضحيات. كانت صداقاته تقوم في البدء، لربما، لمجرد التعاطف المتبادل حول منظر بائس. ومن الممكن جدًا أن يكون ذلك عنده فطريًّا، فهي حمى من نوع خاص، تقتصر على بعض الأفراد الذين يمكن أن تكون (( نواياهم ليست صافية )) تمامًا، على بعض من لديهم دومًا قابلية للاستملاح، وهم فريدون بحق كأشخاص. وكان شريف يضيق أحيانًا بحمى تعاطفه تلك، لكنه لا يستطيع أن يفلت منها، رغم محاولاته العديدة، وقد أصبح يعدُّ نفسه فريسة لها، لأن مناظر البؤس كثيرة، ولأن الشقاء موجود في كل مكان.
قطع شريف طريقه دون أن يدري، وأخذ أخرى دون أن يدري. كان يفكر في النيات التي تكلموا عنها في المحكمة، وهو يحدث نفسه، ويقول: (( كم هذا سخيف! عن أية نيات تحدثوا، يا ترى؟ )) كان لا يدري إذا ما سار من وراء الشيطان بعد قليل، وبنية صافية تمامًا، ولربما دخل أول بار، وشرب زجاجة خمر، ثم ذهب إلى أول مسجد، والرائحة المحرمة تفوح منه، وأدى صلاة كاملة. أو ربما اعتدى على أحدهم، وقتله، أو عرى إحداهن، واغتصبها، وكل ذلك، وهو سليم النية. وفي النهاية، قال: (( سيكون ذلك أخف وطأة، لأن إثمي إذا كان بدافع من صفاء نيتي، فهو إثم لا يعد بالإثم تمامًا. )) ستكون للإثم صيغة أخرى حتمًا، وزاوية نظر أخرى، يمكن أن يوضع في موضع نصف الذنب، جريمة غير كاملة، وسيكون الحكم وسطي، وليس بإفراط، فالتفاعل مع صلاح النفس ممكن، بل موجود أصلاً. ثم لام نفسه: (( يا لي من أحمق! كيف أدع لنفسي التفكير في مثل هذه الترهات؟! )) رفع نظره، فإذا به وجهًا لوجه مع سور الملك سليمان، الحجارة القديمة ذات المساحات العريضة الواسعة المتلاصقة بشموخ بين بعضها البعض. كانت خطوط حشيشية تمتد ما بينها، وكان شريف يقول لنفسه: (( إن الملك سليمان لم يمت! )) أما في رأسه، فقد مات كل شيء. كان طوال الوقت، منذ الصباح الباكر، وبعد استيقاظه مباشرة معها، كان مع قضيته، وقد فكر فيها كثيرًا في الليل قبل أن ينام. وما أن غادر القاعة المزدانة بالميزان وبآية كريمة عن العدل والقسطاس، حتى انفك عنه رباطها. باتت قضيته في الوراء، لم تعد معه، ولم تعد تفعل في رأسه فعل المنشار. والطريق التي أراد أن يعرف اسمها، تركها أيضًا في الوراء. كان شريف يقف أمام السور العظيم، والطريق التي لا يعرف اسمها بقيت بلا اسم، كانت قضيته بلا اسم، وكان المحامي بلا اسم، والحاكم، وكان يقف خفيفًا على غير العادة، فقد كان بلا اسم. كان شريف بلا اسم، وما ظل يحتفظ باسمه هو ذلك السور وحده، وتلك الحجارة العظيمة، منذ أجيال وأجيال. غدا الملك سليمان معه، أمامه، حوله، رآه، وهو يرفع السوط على عبيده بيد، وباليد الأخرى يقبض على عصا النبوة. كان الملك سليمان قادرًا على البقاء حتى الساعة، وإلى ما بعد مليون سنة أخرى، وذلك ما كان يضع شريف في موضع العجز، بل لنقل الانسحاق. أخذ يرتقي بعينيه السور العظيم، إنه ليس بهتانًا، ليس زورًا أو عدم حقيقة، إنه لم يزل يقوم. وبعد أن غاب عن العالم قليلاً أحس بالناس يمرون به، رأى بعينه بوابة باب العامود الضخمة المزردة المحفرة بشظايا القنابل، وأخذ يسمع أصوات الباعة الصائحين المروجين لما يبيعون. كانت سائحة أمريكية تضع على رأسها قبعة تسير إلى جانبه، وهي تبتسم. أخذ يتابع ابتسامتها، فهي ابتسامة خلابة، وهو من طبيعته أن يتعاطف مع مثل تلك الابتسامات النسائية الخلابة الفائحة أنوثة. أخذ السحر يشد كل حواسه، فلم يفطن إلى الولد الفقير الواقف على مقربة منه، وهو يمد له يده. كان لا يتوقف عن متابعتها: فستان أزرق، لا، بل أزرق غامق، يمكن أن يكون بنفسجيًّا، وقد أدارت رأسها ملتفتة إليه، وهي لم تزل تبتسم، ثم جاءت من وراء السيارات الواقفة في الساحة الكبيرة المتوازية الصفوف، ومضت بالقناديل القديمة. رآها تقف في الطرف الآخر من الساحة، ورأى يدها النحيلة، وهي ترتفع، وتلامس، من فوق الحائط، حزامًا سلكيًّا، فانجذب بناظره إليه، وتابع امتداده بعينيه. كان الحزام طويلاً، وكانوا قد رموه من وراء السور العظيم، بإرادة أخرى تفوق إرادة النبوة، فلم يعد بإمكانه أن يتابعه. عاد بنظره إلى حيث كانت السائحة الأمريكية تقف، فلم يجدها. بدت على وجهه سيماء الخيبة، وأخذ يجيل نظره في الساحة بحثًا عنها، لكنه بالفعل لم يجدها. وكان الولد الفقير يقول له:
- إنهم هناك، يا سيدي، هل رأيتهم؟
فكر شريف في مجموعة السياح، وقال لنفسه: (( يمكن أن تكون معهم)) . رأى إصبعه الصغيرة الممدودة، وقبل أن يتبع الإصبع بعينيه إلى الناحية التي يشير المتسول الصغير إليها، سأله:
- أين؟
أكد الولد الفقير:
- هناك، هناك، انظر باستقامة مع إصبعي، أما زلت بعد لم ترهم؟
بينما كان شريف يفكر: (( يا لها من إصبع قذرة تلوثها الأوساخ! )) تابع إصبع الولد الفقير المقوسة قليلاً، كان يشير إلى الناحية الأشد خلاء، فقال له:
- إنني لا أرى أحدًا، إلى ماذا تشير؟
تقدم الولد منه خطوة، وارتفع صوته بحنق واضح:
- هناك ما وراء الأسلاك. أما زلت بعد لم ترهم؟
رفع شريف عينيه، وألقى بالنظرات: (( كانوا )) على بعد وجيز... وكان بعضهم قد نشر غسيله، فرأى أغطية بيضاء وسوداء. لاحظ أحدهم يجلس في الشمس، وهو يطالع كتابًا. بدأت علامات الذهول تنزع قناع الأمن والسكون عن محيا شريف، فصاح به الولد:
- يبدو لي أنك أبله بعض الشيء، يا سيدي، أما زلت بعد لم ترهم؟
تركه، وأخذ يعدو صوب السائحة الجميلة، فناداه:
- اسمع...
ولم يسمع.
رآها تمد يدها، وتعطيه حفنة من القطع النقدية، ثم ما لبث الولد أن ابتعد، وهو يقفز، ويصفر.
همهم شريف:
- لقد رأيتهم! إنهم هناك، على مقربة منا!
كان لا يشعر أنه يكلم نفسه.
(( اليهود على مقربة منا! ))
ولأول وهلة، أحس شريف أنه ملتزم بقضية يأتي إليها من وقت إلى آخر، وبفساد رجولة كان يمكن أن تمضي به هكذا، دون أن يشعر بها. كان ملتزمًا بقضية، وكان أولئك هم اليهود، وكم كان ذلك يدعو إلى السخرية. كان أولئك هم اليهود! وتلك هي الأسلاك! وذلك هو أنا! ومضى، كان يريد أن يمضي، أن يمضي، نعم، أن يمضي! مضى عبر شوارع القدس القديمة، لم يفطن إلى لحيته التي تحتاج إلى حلاقة، ولم يعد يذكر أن هناك في نابلس من ينتظره. كان قد مضي... ولكن، إلى أين؟

* * *

- اسمك؟
- شعبان.
- اسم العائلة؟
- الحاج داود.
- تاريخ الميلاد؟
- لست متأكدًا من اليوم والشهر، لربما كان ذلك في يوم ما من شهر شباط سنة 1930.
- مكان الولادة؟
- فلسطين.
- فلسطين أم إسرائيل؟
- فلسطين.
- متزوج؟
- نعم.
- لك أطفال؟
- بنت واحدة.
- أمك حية؟
- نعم.
- أبوك حي؟
- لا.
- المهنة؟
- ليست لي مهنة.
- ولكنك تعرف القراءة والكتابة؟
- بالعبرية وبالعربية.
- بالعبرية أم بالعربية؟
- بالعبرية وبالعربية.
- لم تكن لك مهنة على الإطلاق؟
- فلحت الأرض، وعملت حمالاً ونادلاً وجامع خراء.
- سأحرر: قال مهنته فلاحًا.
- أنا فلاح أصلاً وهذه ليست مهنتي.
- لقد اعتبرتها مهنة وكفى! إذن، فلك أرض؟
- أمي تملك قطعة.
- لك أرض إذن؟
- أمي تملك قطعة.
- ولكنك سترثها؟
- لم تمت أمي بعد كي أرثها.
- ليست لك مهنة! فلاح ليس له أرض! تدفعني إلى السؤال عن دخلك؟ كسبك؟
- لا كسب لي ولا دخل.
- أنت صاحب الأسرة!
- أنا صاحب الأسرة.
- ومن يعمل على إطعامك؟
- لا أحد.
- لا أحد!
- لا أحد.
- وأين يا ترى كنت تأوي؟
- في كوخ أمي.
- وأسرتك أيضًا؟
- نعم.
- فهمت.
- ماذا فهمت؟
- لا تطرح أسئلة! حذار! أنا من يوجه الأسئلة، وليس أنت!
- ...
- العلة؟
- ماذا تعني؟
- قلت لا تطرح أسئلة... لا تطرح أسئلة... أعني هل فيك داء؟
- لا.
- صحتك سليمة؟
- نعم.
- تتمتع بقوة؟
- نعم.
- وبذكاء؟
- لست أدري.
- كيف لست تدري؟ قل نعم أم لا، هل تتمتع بذكاء؟
- لست أدري.
- سأحرر: ليس يدري! العلامات الفارقة؟
- لا يوجد.
- علامات خافية عن النظر؟
- لا يوجد.
- انتبه! قل الحقيقة، ستحال إلى فحص طبي.
- لا يوجد.
- هل أنت واثق؟
- نعم.
- بمعنى أنك خالٍ تمامًا من أي تشويه حربي؟
- نعم.
- قف أمام مقياس الارتفاع.
- 177سنتيمتر و10مليمتر. اصعد على القبان.
- ...
- 73 كيلو غرام، و13غرام فقط لا غير. عد إلى مكانك.
- ...
- نظرك سليم؟
- أظن ذلك.
- كيف تظن ذلك؟ سليم أم غير سليم؟ لقد أعلمتك، ستحول إلى فحص طبي.
- أظنه سليمًا.
- سأحرر: يظنه سليمًا.
- ...
- الدين؟
- مسلم.
- مسلم!؟
- نعم، مسلم.
- أصلك؟
- عربي.
- عربي!؟
- نعم، عربي جدًّا.
- دعنا من (( جدًّا )) ، فهذه ليست ضمن السؤال. سأحرر: يقول عربي. وما هي جنسيتك؟
- إسرائيلية، الدرجة الأخيرة من قانون الجنسيات.
- سأحرر: يقول عربي وجنسيته إسرائيلية! تأكد جيدًا من أقوالك. هل أنت واثق؟
- نعم.
- أمتأكد من أنك عربي جنسيته إسرائيلية؟
- نعم.
- ألديك أوراق تثبت ذلك؟
- لا.
- على أي حال جرى تفتيشك، فلم نحصل سوى على هذه (رفع وثيقة العمل التي جاءته بها ريتا) ما هذا؟
- إذن عمل.
- وباسم من؟
- باسمي.
- إن الترجمة المرفقة بالوثيقة تذكر اسمًا آخر.
- ليس هناك من اسم آخر غير اسمي.
- إذن فـ"شابان ديفيد" هو أنت؟
- أنا ادعى شعبان الحاج داود.
- ولكنك قلت إن الاسم في الوثيقة هو اسمك، وهذه الوثيقة هي لك.
- نعم، قلت ذلك.
- إذن فـ"شابان ديفيد" هو أنت؟
- أنا أدعي شعبان الحاج داود، وليس شابان ديفيد.
- ومن هو الآخر؟ من هو شابان ديفيد؟
- إنه اسمي بالعبرية.
- هذا يكفي.
- ...
- وهل كان عملك ملائمًا؟
- لم أستلم أي عمل .
- وهذه الوثيقة ماذا تعني؟ ممضاة ومصدقة رسميًّا! ماذا تعني؟
- تعني عملاً لم أستلمه.
- حسنًا كان لك عمل لكنك لم تستلمه.
- نعم، ولنقل رفضته.
- وفي بداية الاستنطاق قلت لي ليست لديك مهنة؟
- وما زلت أكرر ليست لدي مهنة.
هب فيه صائحًا:
- انتبه إلى أقوالك! ما هذه الأباطيل!؟ لا تتناقض! ها أنت بعد عشر دقائق فقط من الاستنطاق تدلي بالمغالطات. لا تحرف الحقيقة، إياك أن تحرف الحقيقة، قل الصدق مباشرة ولا تلجأ إلى المواربات، جعلتني أحرر أعاجيب! أعاجيب!
- دعني أشرح لك رجاء.
- وماذا يمكنك أن تشرح لي أكثر مما حررت؟ هذه كلها مغالطات! مغالطات! وفي النهاية، تأتي، وتقول أشرح لك!
- سأوضح قصة إذن العمل الذي بين يديك.
- لا داعي إلى التوضيح، فقصته الآن، ما قبلها وما بعدها، وضحت لدي دون حاجة إلى شرح.
- ولكن، من اللازم أن تسمح لي، فهو يخيل لك.
- ليس هناك ما يمكنه أن يخيل لي (سحب نفسًا عميقًا): يبقى أن أطرح عليك آخر أسئلتي.
- ولكن، دعني أوضح قليلاً العلاقة التي تربطني بالوثيقة.
- العلاقة بين يديّ واضحة، فهناك ترجمة، ترجمة كافية تمامًا، والعلاقة التي تربطك بالوثيقة واضحة تمامًا، ما تبقى أن أطرح عليك سؤالي الأخير.
- ...
- هل أنت من المدمنين على شرب الكحول نعم أم لا؟ بمعنى هل أنت كحولي؟
- أنا لم أشرب قطرة خمر واحدة منذ زمن طويل، فكيف يمكنني أن أكون مدمنًا؟!
- لا تطرح أسئلة، لا تلق علينا بأسئلة، أجب باختصار، مدمن أم ليس بمدمن؟ فهو في سبيل الحيطة، ولصالحك. مدمن أم ليس بمدمن، أجب.
- ليس بمدمن.
- انتهى.
- ...
- سيحتاجني كتابة التقرير إلى بضعة أيام، وخلال ذلك، يكون قد أجري لك فحص طبي شامل، وبعد ذلك ستحول إلى قسم الاستفسارات الشخصية للمجلس العسكري للتحقيقات في جرائم الحرب والجوسسة والتآمر على أمن البلاد، ومن ثم إلى قسم الاستفسارات العامة للمجلس العسكري ذاته لمتابعة الاستنطاق.

* * *

قرعات!
كان عبد القادر يجلس على كرسي قديم، وهو يمد ساقيه إلى الأمام، وكانت يداه تقبضان على ذراعي الكرسي. كان الليل في الحجرة، والستارة الثقيلة مسدلة. دوى انفجار، فاتسعت عيناه اتساعًا هائلاً، وراح ينظر إلى العساكر المصفوفة على البوفيه، وهي تحمل أسلحتها الباردة.
كان البوفيه يلتصق بالحائط، والحائط يقف أمامه. عادت القرعات من جديد، قرعات أجراس ومطارق أو أيادي هاون، وعبد القادر يرهف السمع، وقد تمزق قميص الفلانيلة الذي له، فبانت حلمة ثديه. كان بنطلون البيجامة مقصوصًا إلى ما فوق الركبة اليسرى بقليل، وإلى ما تحت الركبة اليمنى بقليل، وشعره ممشوطًا بدقة، مزيتًا، يلمع تحت ضوء الشمعدان. وما أن مضت دقيقة واحدة، وهو على حاله تلك، حتى صاح على حين غرة:
- أقتلوهم!
دوت طلقات أعقبتها صرخات أخته الحادة القادمة من الغرفة المجاورة. فكر عبد القادر في العساكر: (( لقد أذعنوا للأمر على التو، فها هم يقتلون! )) كانت صرخات أخته تدفعه إلى اللهاث، وزمخرة صغيرة تشبه إلى حد بعيد صوت النَّمِرِ بدأت تصاحب لهاثه، ثم غدا صنمًا: ذراعاه صُلِبَتا، ساقاه النصف العاريتين قف شعرهما، ظلاه اسودا. توقفت الصرخات التي تدوي، والمطارق التي تدق، والأجراس التي تقرع، وحل سكون حاسم: هدنة! كان يفكر: (( هدنة بسبب الليل )). سمع وقع خطوات أبيه قرب الباب، مما جعله يرهف السمع من جديد، ويقول لنفسه: (( سيأتي )). راح يتابع دفع المفتاح في فتحة القفل، وهو لم يزل يفكر: (( سأدعه يفعل ذلك عن طيب خاطر، وسأهلكه دون مقاومة. سأبقى كما أنا مادًّا ساقيّ من أمامي، صالبًا ذراعيّ على صدري، فاتحًا عن حلمة ثدي. سأدعه يرفع سوطه بهدوء، سأحدق في عينيه، وسأشاهد تقاسيم وجهه اللدنة، وسأجعله يبصق قبل أن يهوي بسوطه على ظهري. لن أحيد بناظري عن ناظره، ستتراقص دفات وجهه، وسأشاهد الوجه السنيّ ذا الخدين السمينتين اللتين تهترئان تحت نظراتي. سأواجهه دون غضب، هكذا، دون أن أبذل جهدًا، ولن تعدو نظراتي أكثر من مجرد نظرات متتالية يتبع بعضها بعضًا دون توانٍ، لكنها ستكون عميقة، وسيهوي بسوطه على ظهري، ولن أحرك ساكنًا، سأشاهد فشله، وسأشاهد المائع الدبق الذي كان دمه إثر صهري لعروقه. سأهزمه دون عساكر، دون أية قوة، دون اللجوء إلى التكتيكات، وسوف لن يحتمل أكثر، سوف يعطيني ظهره، وسيتراجع بضع خطوات خفيفة بخفة راقص الباليه، وسيوصد عليّ بمفتاحه الباب، ولكني أكون قد هزمته، أنهيت عليه، ولن يصدق أحد أن المجنون انتصر. لسوف يغيب هذه المرة طويلاً، ثم سيأتيني في جلد جيفة نتنة، وحينذاك لن أحتاج إلى بذل نظرة واحدة، لا ولا حتى أصغر نظرة، سأعطيه ظهري، هذا كل ما سأفعله. ولسوف لن يجرؤ الميت على أن يرفع سوطه، أو بالأحرى لن يتمكن، بعد أن أكون قد سحقت القوة الجبارة التي كان يحسب أنها لن تقهر! ))
صاح على حين غرة:
- أطلب إليكم أن تضعوا السلاح!
كان يخاطب العساكر. وكانت للعساكر بذلات حمراء، على رؤوسهم طرابيش، وهم يحملون بنادق عثمانية.
رأى قبضة الباب، وهي تنثني، فقال لهم:
- لا حاجة بنا إلى إطلاق النار، فلدي وحدي من القوة ما يكفي مائة عسكري.
أخذ يجهز في زوايا عينيه نظراته القاتلة، وقال:
- إن هذه تسمى بالقوى الخفية، أفعال سلبية، وهأنذا أتحصن بالسلبيات.
صاح بالعساكر:
- اخلعوا البذلات!
دوّر عينيه حتى تلاصق البؤبؤان في الزاوية، وهمهم:
- هأنذا أبذل جهدي كي نكسب!
ثم انفجرت من حلقه صيحة حرب:
- ارموا السلاح، يا عساكر، المعركة بدأت!
انتظر أن ينفرج الباب، بين لحظة وأخرى أن ينفرج، لكن القبضة استدارت، وعادت إلى حالتها الأولى، تبعتها طرقة القفل، وخطوات ابتعدت، كانت عدولاً، تراجعًا لم يكن في محله. كان حدس عبد القادر لا يحسن اختيار وقته، فاعتبر ذلك انكسارًا، إذ لم يدخل أبوه لينهال بسوطه عليه. فكر بأسى: (( لقد هزمني! )) راح يفتح عينين كدرتين انعدمت فيهما الحياة، وبان حاجباه المحفوران في جبينه كقوسين رخوين، ثم ما لبثت صرخات أخته الحادة أن مزقت ستار الليل، فنشبت في صدره ألسنة اللهب، وصاح:
- الحراب! الحراب! سنطفئ النار بالحراب! إلى الحراب، يا عساكر!
أخذ عبد القادر يفكر في أن أباه قد بدل رأيه في اللحظة الأخيرة: ((لقد فهم، إذا ما دخل حجرتي الليلة، أنه مهزوم لا محالة، آه! يا له من رعديد! شرير! ماكر! يا له من غادر! فإذا به يقفز عن حائط أختي القصير! )) بدأت تجتاح صرخات أخته رنة الاسترحام، وتتحول إلى نداء حار من التوسل، وأخذت همهماتها تحاصره، تلح عليه، تقتحم قلبه، وفي ذات الوقت تجعله مبتئسًا، وكان ذلك لا يرضيه: أن تجعله همهمات أخته وتوسلاتها مبتئسًا. فكر بتلاشٍ: (( أنا أفقد أثمن لحظاتي! ))
صاح بالعساكر:
- أوقفوا هجومكم!
لكنهم، حسبما بدا له، لم يذعنوا للأمر، فطار صوابه، وراح يضرب بكفه ذراع الكرسي الضربات تلو الضربات، ضربات تنم عن حنق ووطنية:
- أطيعوا الأوامر، يا عساكر!
ثم صاح بأعلى صوته:
- تقهقروا!
وبعد قليل، داعبت محياه ابتسامة بائسة، وكان ذلك طبيعيًّا، لكنه راح يقهقه:
- نحن الآن نقف على خط المواجهة، في مواقعنا الأولى، هذا حسن!
جاءه نواح، فأصاخ سمعه. نواح صغير، ورائحة دموع، وهمهمات شقية، ولم يلبث خدش لأظافر أن بدأ يتصاعد من وراء الحائط، فتحركت أذناه، شد رأسه في الفراغ، وجمد تمامًا. حصل صوت لجر، جر خزانة، أو تخت، أو ما شابه ذلك، فأخذ عبد القادر يقول لنفسه: (( نحن في هدنة )). ومع ذلك، فلم تبد عليه دلائل الارتياح ولا الطمأنينة. كان يفكر: (( نحن نشعر بالاستقرار! خطوط قتالنا هادئة تمامًا! أنا في ناحيتي! بذلات العساكر حمراء! في ناحية مشروعة! هدنة! )) صاح على إيقاع الخدش المستمر القادم من وراء الحائط:
- هذا يسمى اعتداء! اعتداء! وإذا رأيت أن من الضروري التحرك، فلن أتباطأ ثانية واحدة عن إصدار الأوامر! أحتفظ بالحق! فأنا أقعد في مكاني دون أن أحرك ساكنًا بينما هناك من يحاول السعي إليّ من وراء الحائط!
ثم امتطى صهوة العظمة:
- قوى رادعة لدي، هذا لا يهم، فليأتوا، وسأعرف كيف أتصرف!
نهض كقالب الجليد، ودفع ذراعيه العصبيتين باتجاه المرآة الطويلة. كان الشمعدان إلى جانب، فرفعه، وتقدم مسافة أخرى في المرآة. رأى هناك رجلاً آخر، رجلاً شبحيًا هناك، فقال لنفسه: لربما هذا هو من يحاول أن يتجاهل وقف الهدنة. أخذ فجأة يهدر:
- ما زالت لدينا مبادئ، ما زالت لدينا مبادئ!
استطال عنقه، وانحنى حتى لاصقت ذقنه الذقن الأخرى في المرآة، وغمز الرجل الشبحي بعينه: (( اطمئن! )) مطمط شفتيه، وطبعهما على الشفتين الأخريين، وهمس:
- هناك أماني عذبة!
ثم نتع نفسه، وحرك إصبعًا محذرة:
- لدينا ذخائر، وعساكر أقوياء.
وصرخ غاضبًا:
- أما الاعتداء غير المشروع دوليًّا، فسأسحقه!
أطلق ضحكة مجلجلة، ورأى البوفيه يتحرك، وقد بدأ العساكر يهتزون إلى الوراء والى الأمام، سقط بعضهم، والبعض الآخر ثنى كوعه. انفجرت عيناه عندما شاهد رأسًا حيوانيًّا بشعر فاحم أشعث ينهض نهضات متتالية من ثقب محفور في الحائط. كان الرأس الحيواني ذو الشعر الفاحم الأشعث يصعد في ليل الحجرة رويدًا، رويدًا، فيضاعف من كثافته، لكنه يجعل منه بحرًا متموجًا. قرص قلبه الخوف، فتهدل لحمه على الفكين، ورفع الشمعدان إلى أعلى، إلى أعلى ما يكون. خطا خطوة، وهو يفكر في أن العساكر لم يزالوا معه، ولم يعد هناك من يهدد في المرآة. كان العساكر موجودين معه، رغم أنهم تحطموا فوق بعضهم البعض، وكانت البنادق على أكتافهم رغم أنها باردة، وكان عبد القادر يفكر لما خرج الجسم الحيواني كله من الثقب، ونفض رأسه المجنون، إن ذلك لم يكن سوى أخته. عندما رفعت أخته يدها إلى شعرها، وأزاحته، رأى وجهًا أسمر جميلاً، لكنه قاسي القسمات. حدجها بعين الكره، وشعور بالجرم كان يكبر في صدره. سار بضع خطوات عسكرية من أمام السرير معطيًا إياها ظهره، وبصوت أجش نبر:
- عليك اللعنة!
سمع نباحًا دقيقًا يجيء من وراء ظهره، كان ضحكة:
- أعرف أن هذه تحيتك.
رمى عبد القادر رأسه إلى الوراء، ونادى:
- يا شياطين!
عاد النباح الدقيق:
- لا حاجة بنا إلى أن تستدعي أحدهم، فليس هناك مكان كاف سوى لاثنين.
- بلى.
- أهذه جزء من صلواتك؟
- مجنونة! مجنونة!
أبدت عن نواجذها، وكانت شعلة لهب، جرت إليه، وجذبته من كتفه، فاستدار، انطرحت عليه، وغصبته قبلة.
دفعها عنه بمخلبه، فانشق ثوبها. قال لها، وهو يسرف نظرات احتقاره:
- داعرة!
أبرزت مخالبها، وزرعتها في وجهه، وهي تهر، وتهر. كان يدعها تفعل، والدم ينهمر، وينهمر. وعلى مستوى عينيه، كانت جذوات الشمعدان تتقد. حط في أوصالها ارتياح، ورشفت الدم دون أن تلعقه، كان يكفي أن تراه. راحت ترقب رد فعله، لكنه رسم بسمة ماعت على شفتيه. وضع الشمعدان جانبًا، وقال لها بهدوء ميت:
- أرجو أن تزيلي ما ألحقته بي من تشويهات، فأنا أفضل الاحتفاظ بمظهر عادي.
نظرت إلى الدماء المتجلطة على ثنايا وجهه، وبحركة نشطة، مزقت طرف ثوبها، أجلسته على السرير، وراحت تمسح له جراحه بأصابع متوترة، وهي تتوعده، وتهمهم في وجهه بوجه مبتئس:
- داعر صغير! وأنا لهذا سأقتله...
بينما كان عبد القادر يفكر: لها أصابع كالمخمل!
- سأقتله لبرودته، ولقسوته، وستكون لي نفس مريئة.
اشتعلت في عروقه فجأة نار شيطانية، فانتصبت يداه، ودفعها عنه بكل ما أوتي من قوة مزمجرًا:
- يا عساكر!
سقطت على الأرض فزعة، لها وجه مجنون وعينان متحجرتان. انفجر يقهقه:
- سأخرأ عليك رصاصًا!
عاد يقهقه، والخدوش في وجهه تتلوى إثر تراقص الشفتين وصناج الضحكات الجازية، بعد ذلك حل صمت عميق.
قال لها:
- أنا أمزح.
كان ثوبها الأسود الطويل قد انحسر عن فخذيها، فراح يحدق في الفخذين الجميلتين اللتين يطبعهما ازرقاق متوتر بان كالوشم الحار، ورأى أن ربلة الساقين قد تحززت بألسنة السياط. فجأة أحنى على كتفه رأسه مشيحًا عنها بناظره، وهو يفكر: (( من العيب أن أرى فخذي أختي!))
قال لها:
- غطي فخذيك، قليل من الحشمة!
رفعت ثوبها حتى خاصرتها، فبان سروالها القصير، مما أطار صوابه. رآها من طرف عينه، وهو يفكر: (( سروالها القصير أسود! )). انكمش، وحاول أن يرد عليه كرامته في الوقت الذي فطن فيه إلى أن هذا شرفه، وكانت كرامته موجودة، إلا أنه لا يقدر على شدها. وهو يملي الطرف إلى النصف الأسفل لأخته العاري، أخذ يفكر: (( إن هذا لا يحتمل، فهو فظيع! )) وكل ما فعله، أعطاها ظهره، واستدار.
قالت:
- أريد أن أريك بصمات أبيك، فليس لي من قصد آخر.
كان يمنع سعاله، وفي الأخير هدر:
- هذا عار! هذا عار!
اعتمدت على قدميها، ووقفت:
- ليس فيه أي من عارك، فقد فعله أبوك.
التفت إليها بوجه مكفهر، وهو لم يزل يهدر:
- هذا عار! هذا عار! ولا يسعني أن أقبل أي تعليل!
- لك مظهر المتعلل مع هذا!
حنى رأسه حتى لامست ذقنه صدره، وتأوه:
- يا لها من توبات!
- أية توبات؟
- كلها! توبات رزينة تبدأ من خنصر القدم، وتصعد، وفجأة، فإذا بنا كفرة!
جرت بضع خطوات، ومزقت القميص عن صدره، فبانت ألسنة السياط:
- وهذه، أليست عارًا؟ أليست هي الأخرى جزءًا من توباته؟
- إنها تخصني وحدي.
- ومع ذلك، فهي من صنعه.
أخذ يضرب رأسه على كتفيه يمنة ويسرة:
- إنها تبقى تخصني وحدي، إنها تبقى جزءًا من معصيتي.
هزت رأسها غير موافقة، وعبد القادر يمنع سعلته من الإفلات.
أضافت:
- وأنت المجرم.
- أنا! وما شأني أنا؟
- يجب أن تفهم، أنت المجرم، أما هو، فسيبقى في الخارج بعيدًا! أنت من يحمل على عاتقه كل الذنب، فأنت المجنون، بينما يظل هو، في موقف العاقل.
جلست على كرسي، أنزلت شعرها فوق اندفاع نهديها، وأخذت تضغطه على خديها. عاد عبد القادر إلى تحذيره:
- إياك أن تشككيني!
- يخيل إليّ أن كلينا العاقل، بينما هو المجنون.
صاح متوترًا:
- كنت أخشى أن يجرك التفكير إلى هذا، فأشك، وأنجر معك في السخام.
غدت عيناه السوداوان ليلاً ممتدًّا، وهي تفغر فمها.
انتفض عبد القادر:
- أنا أحذر الشك منذ أن بدأ جنوني، فلا أريد أن أعتقد على ضلال.
- إذن، لماذا بدأت؟
- بدأت ماذا؟
- بدأت التفكير في أنني، لربما، أدفعك إلى الشك بعينه، إنما بطريقة أخرى.
استلقى على سريره، وبسط كفه على شعر ساقه:
- اسمعي، إن كلينا ضحية، ومع ذلك، فالأمر يبدو لنا سواء، أنا أبقى جالسًا في مكاني، وأفتح عن صدري للضربات، وأنت لا تفعلين أكثر من أن تصرخي، وتذرفي دمعاتك، ثم لا يلبث كل شيء أن ينتهي، وكأن شيئًا ما كان.
قالت بانفعال:
- لكنه قوي وشرير!
- ليس حسب ما تتصورين، فلو أردنا أن نقهره، لأمكننا ذلك.
وكأنه أنهى لها قصة مرعبة لأناس يقطعون الرؤوس الصالحة من البشر ثم يبيعونها، فاقشعرت، ثنت ساقها تحتها، وقالت، وهي تجمع نفسها على صدرها كالطفل الضائع:
- لن أسمح لنفسي التفكير في هذا، لن أسمح لنفسي التفكير في الانتصار عليه، فهو غول... غول مروع! لا انتصار عليه بل هزيمة!
نصب عبد القادر ذراعه في الفضاء فجأة، وهدر بصوت مدو:
- وهذه عساكره! وسنزحف!
قفز، وهو يشد قبضتيه على سلاح خيالي، وصاح صيحة حرب مجلجلة:
- هجوم!
تقوست ساقاه، وأخذ يطلق من فمه الطلقات المتوالية: طررررر... رك... طررررر...رك.. رك.. رك. رك. رك. دفنت المجنونة رأسها في حضنها، متكورة، وهي تسد بإصبعين أذنيها. أبدى عبد القادر عن نواجذه، أخذ يركض في أنحاء الحجرة، ثم صعد على السرير، وهبط، وعلى البوفيه، وهبط، وعلى المدفأة، وهبط، وعلى الطاولة، وهبط، إلى أن استقام في الزاوية، وبعد قليل، أطلق قهقهة راضية. كان قد أوقف قتاله، وكان لها منظر يضحكه، وهو، لذلك، استمر يقهقه. رفعت أخته رأسها قليلاً قليلاً، وعندما تلاقت عيناها بعينيه، خفضته بعجلة.
قال لها، وهو يتقدم منها:
- هذا مزاح! هل أخفتك؟
أعطاها ضربة بقفا اليد، فنهضت تجري صوب الثقب، ثم التفتت إليه:
- كل هذه القتلى، وتدعوه مزاحًا!
- لا تدعيني أفكر أنك مجنونة! تعالي!
- لا أستطيع، لقد خالفت الهدنة، وسأعود إلى غرفتي.
ضحك بقوة:
- من الثقب! أمن الثقب ستعودين؟
- نعم، من الثقب كالجرذان.
ضاعفت من ضحكاته، ضحك حتى كاد ينفتق، وهي تنحني مدخلة رأسها في الثقب.
- لو ذهبت أو بقيت فالأمر سيان، إذ ليس هناك من منفذ آخر، وستظلين جرذة، ولن يبدل ذهابك من شيء، اللهم سوى تبديل مكاني، فطالما هناك ثقب في الحائط، باستطاعتي أن أتبعك، وأنا فاعل على التأكيد.
عادت تخرج نصفها من الثقب، فخر متوسلاً:
- أرجو أن تبقي، فأنا لا أستطيع أن أحمل ذنبًا.
تقدمت منه، وهو لم يزل يتوسل:
- وأنا بطبيعتي لا أقوى على الإجرام، أما أنت، فيخيل إليّ أنه يمكنك.
وصلته، وهي تستمع إليه بحزن:
- وجودك هنا يعني إقدامك عليه، أو بالأحرى، يعني اعتداؤك، وأنا أفزع من مجرد التفكير فيه. أستطيعه، لكني أفزع منه. لا يمكنني أن أدعى معتديًا، أرفضه، أرفضه، أسمعت؟ أرفضه، نعم، أرفضه!
همست له بمحبة:
- يا لك من داعر!
نهض، وسار في اتجاه الشمعدان، وهو يفكر: (( من وضعه على الأرض؟ ))
- وهل تقبل أن أحمل كل الذنب وحدي؟
انشد إليها:
- أنا لا أوصمك.
أضاف بسرعة:
- لن تكون هناك وصمة!
لاح عليها كمن تنعي حظًّا، فقالت متأسفة:
- آه منك! أنت لا تفكر في أختك كما يجب، أنت دومًا ما تهضم لي حقي.
أثارت عواطفه، فاتجه نحوها، وهي لم تزل تقول:
- أنا غير التي تتصورها على الإطلاق.
كان هناك عبد القادر آخر في المرآة. قالت مشيرة إليه:
- انظر هناك.
اصطفقت نواجذه لما رأى نفسه: (( الرجل الآخر، الرجل الشر! )) بدأ يهر، ويزفر، فقالت:
- أنا رهينة كما ترى.
أخذ عبد القادر يخرج من جنون ليدخل في جنون.
- أنا لا أملك حتى حق الدخول من الثقب، فكل منكما في طرف، وأنا مزقة، أنا فخذة دجاج، فلتكن في قلبك بعض الرحمة، يا أخي.
دق خنصريه في عينيه، وبدأ يردد:
- مأفون! مأفون! مأفون!
أسقط نفسه لاهثًا على السرير، وأخذ لهاثه يتناقص، ثم رفع رأسه، وسألها:
- هل ذهب؟
أجابت كسيرة النفس:
- لقد ذهب كلاكما.
ضحك، وعاد يضحك بقوة أكثر، وعاد يضحك بقوة أكثر وأكثر، وأخذ يتفعفل، وهو يضحك بجنون غير مصدق، وصنع من السرير أرجوحة. كانت تتمنى لو تطأ عتبة العالم، لكنها كانت تخشى الخروج، فتغلفها قسوة، ويردمها موت. كانت تنتظر العالم أن يأتي، هو، إليها، ولكي تحثه على الإسراع، جلجلت بذراع ممدودة هاتفة:
- يا شياطين!
سقطا في مستنقع، في خراب، وذراعها تنسحب رويدًا، رويدًا، وقد انشد إليها عبد القادر مفكرًا: (( لقد أتوا... لقد أتوا! )) أخذ يشاهد قطرات الدموع على خديها النحيلين، وهو يقول لنفسه: (( يهلكونها! )) هبت مشاعره نحوها، فناداها:
- أختاه!
لكنها نبرت:
- فلتخرس! إني أستحضرها!
راح بدنه يقشعر، وأسنانه تصطك، ولم يستطع أن يتماسك. عاد يستفسرها، وهو يوقف كفيه جانب عينيه:
- هل أتوا؟
لم تجبه، ففكر بارتعاب: (( لقد أتوا! )) وعاد يسأل:
- بحق السماء أن تجيبي، هل أتوا؟ إذا لم يأتوا بعد، فقولي، كي أحتاط للأمر.
خرجت من فمها قرقرة، رفعت ذراعًا ممدودةً باستقامته، وتركت الذراع الأخرى تلاصق جنبها ميتةً كحطبة. اقتربت منه بتؤدة، فدخل في الفراش، وأمضى عنه الرؤية. لكنها وقفت عند رأسه، وراحت تجمجم بكلمات شيطانية جعلته يكشف عن وجهه بسرعة، ويطلق صيحة استنجاد:
- عساكر!
ثم يعيد على وجهه الغطاء بسرعة، فانقضت عليه، وركبته كالحصان. راحت تصعد، وتهبط، وفي خيالها لجام تشده في قبضتيها. أخذت الرياح تهب، فيطير شعرها، وهي تهمهم همهمات الفارس العادي في البراري، وتقهقه بين آونة وأخرى. فجأة تقلصت عضلات الذراعين، وكسى الوجه شحوب وتعاسة، فحطت إلى جانبه، وهي تفكر: (( إنه ليل الآخرين، وكم هو صامت وحزين! )) مدت يدها، وكشفت عن وجهه، وهو يتقنفذ، وشعره يتساقط في كل مكان. بدأت ترمي إليه نظرات مزيجة من هوى معذب ونفس مغتمة، وقالت له:
- انهض، فقد ذهبت الشياطين منذ زمن بعيد.
ارتفع عبد القادر حتى وسطه، ونبر في وجهها:
- قذرة!
كانت تتأمله بولع، وتقول لنفسها: (( له وجه طفل أخافوه! )) همست في أذنه:
- كم أنت جميل! آه! كم أنت فاتن!
فردد:
- قذرة! قذرة!
وبعد لم يتلاشَ خوفه. كان يرمي النظر إلى عينيها الواسعتين اللتين خضبتهما المطاردة، وإلى شفتيها الرقيقتين اللتين جرحتهما الرياح. راح يحدث نفسه، ويقول: (( شفتان كرزيتان يجب أن تقضما! نعم، يجب أن تقضما! )) بدا من تحت ثوبها الممزق طرف نهديها فحدق في استدارتهما، وهي بشغف تفكر: (( أشعث الشعر كطفل! )) مدت يدها، وراحت تزيد شعره فوضى، وهو صامت، يراقب، بحذر يراقب. قالت له:
- هيا نلعب.
وسألته:
- ألم يحن الوقت بعد؟
لكنه لم يحر جوابًا. أمرّت يدها على صدره، وأملست مليًّا حلمتيه، وهو يغمض عينيه طوال الوقت. خلعت عنه قميص الفلانيلة الذي له، وألقت عنها ثوبها، وما هي سوى بضع لحظات حتى تجردا من باقي الأسمال، ودخلا السرير معًا. أخذت تهب من الثقب في الحائط أنسام لم يعرفا من أين تأتي، بينما كانت في جوف السرير رائحة بارود ثقيلة وغبار وآثار حوافر وحركات وآهات انتشاء وحركات أخرى وحركات، وكان هناك الحرام الحلال والجريمة البريئة والعار الأبيض والسيقان التي التفت كل منها بالأخرى كأول يوم من تاريخ الخبز والإنسان.

* * *

أنهى (( اللاجئ )) عمله كأجير لدى مجوهرات مجيدة، حوالي الساعة السابعة مساء، وكان عليه أن يقوم بتنظيف درج العمارة حيث يعمل، إلى جانب أنه كان مكلفًا أيضًا بكنس حجرات المخيطة الواقعة في الطابق الثاني، وجمع الأوراق المطروحة في سلات مكاتب وزارة المالية الشاغلة لجناحي الطابق الثالث.
وبطبيعة الحال، كان عمله الإضافي يحتاجه إلى ساعتين من الزمن، هذا إذا ما أسرع.
وهو يقفل باب المكاتب، كان اللاجئ يفكر أنه ينهي آخر أعماله. نزل الدرج، وبين ذراعيه صندوق كبير من الكرتون مليء حتى حافته بالأوراق وقمع السجائر. كان يتمنى لو يسهو بعضهم مرة، فيدعك ورقة مال بدلاً من ورقة للكتابة. وفي كل مساء، كان اللاجئ يفتش السلات، ورقة ورقة، علَّها تصدق أمنيته، لكنه لم يكن يظفر إلا بتلويث يديه وحشو أظافره بالأوساخ.
أفرغ اللاجئ الصندوق في برميل القمامة، الموضوع خارج الباب الرئيسي، وألقى نظره على السوق التجاري: شارع عريض وطويل مليء بالدكاكين، أبوابها مجرورة، كلها، وعلى الجانبين، مصابيحٌ واهنٌ ضوءها. كان السوق التجاري يسقط في الهدوء المطبق، بينما الساعة تقارب التاسعة. لاحظ اللاجئ من بعيد ضوءًا أخضر على شكل هلال، يطفئ، ويشعل، ففكر: الصيدلية المناوبة. رأى أحدهم يسير ببطء تحت المصابيح، وهو يضع يديه في جيبي سرواله، وبسبب الظلام لم يستطع تبيان وجهه. هبت نسمة باردة، فرفع رأسه إلى أعلى. رأى غيومًا كثيفة تجري بسرعة، وكانت ثلاث نجمات أو أربع تسقط من لحاف الغيم هاربة. قال اللاجئ لنفسه: (( لقد تأخر بي الوقت! ))
أراد أن يلقي على السوق التجاري نظرة أخيرة، لكنه لم يكن ليحصل على السرعة المناسبة لتنفيذ ما يريد. كان قد دخل العمارة، وقد قرر أن يغادرها قبل ذلك بكثير. رمى الصندوق في حجرة صغيرة من الطابق الأرضي، وأحضر أدوات التنظيف، فعاندت المكنسة ذات الذراع الطويل الدخول عالقةً بالباب. تمكن بعد جهد جهيد من إدخالها، وأطلق نفسًا تعبًا. حاول أن يرفع ذراعيه إلا أنهما بقيتا متدليتين على جانبيه شبه مشلولتين، وراحتا ترتجفان. أطفأ الكهرباء، فسقطت العمارة في الدجنة. كانت عمارة نهار، عمارة عمل، وبأقصى سرعة، خرج اللاجئ، وأقفل من ورائه الباب العام بالمفتاح.
سار اللاجئ تحت المصابيح المزروعة في الرصيف، وبينما هو يغذ السير، لسعته عقرب الهواء، فرفع ياقة سترته، حط يديه في جيبيه، وراح يفكر: (( نابلس بيت للدجاج ))، فأهلها يذهبون إلى بيوتهم مع الغروب، يخلون الشوارع، ويقفلون أبواب ديارهم على أنفسهم، ولا يسمع لهم صوت. كان يخيل إليه أنهم لا يقومون في بيوتهم بالحركات، وبالطبع، كان ذلك مستحيلاً. لذلك كان اللاجئ يكره أن يحاصر أهل نابلس حركاتهم، ويمنعوها من الخروج، فيشعر بالضيق. ازدادت الغيوم كثافة، وغدا الليل متعاظمًا، متعاليًا، ممتطيًا فرس الحرية، وسُحقت الأضواء الواهنة ما دون الحوافر العملاقة. فطن إلى أن أحدهم قد مر به، فأدار رأسه إلى طريق فرعية، ووصلته الأضواء المتداعية لمطعم ومقهى جامعة الدول العربية، ثم ما لبثت الأضواء أن تلاشت مع تقدمه. كانت المقاهي تقفل أبوابها عند منتصف الليل، وفي الشتاء، كانت تبدو مهجورة، رغم أضواء النيون البيضاء لواجهاتها، فهم كانوا يقفلون الأبواب، وكانوا يلعبون النرد والورق، وكانوا يتصايحون، ويتضاحكون، ومع ذلك، فلم يكن العابر يسمعهم. كانت هناك أياد حاذقة تتقن اللعب، وفي ذات الوقت، تضغط على الأفواه، وكان هناك سُمك المعاطف والجدران والدخان والقهوة الثقيلة.
أحس اللاجئ بكونه وحيدًا، بينما أخذ السوق التجاري ينجذب في قدميه انجذابًا، كان يحس بالعزلة رغم أن ضوء الصيدلية الأخضر قد بدأ يلطف من حدة الظلام. أراد أن يصفر، فيسلي نفسه. وبالفعل، بدأ اللاجئ يصفر، راح يصفر كيفما اتفق. وهو يستمع إلى الصدى، أحس بحاجته إلى رثاء أحدهم، فكم كان صفيره سيئًا. ومع ذلك، فقد تابع صفيره وتفكيره: (( أنا أقطع الليل، وأقطع الطريق، أنا أقطع الصمت، أعبر بُعدًا شائهًا! )) غدا السوق التجاري معظمه من ورائه، كانت نظرة واحدة إليه تكفي لدفعه إلى البكاء. عاد اللاجئ يفكر: (( لم يزرعوه بالأشجار، وإلا، خفف ذلك من الشعور بالعزلة بعض الشيء! )) وهو على مقربة من الصيدلية، أقفل فمه، وتوقف عن الصفير. قال: (( سأرى إذا ما كان الصيدلي هو بعينه من يسهر هذه الليلة )). كان يعرفه من نظارته الطبية، وكان لا يحبه، هكذا، رغم أنهم قالوا عنه "رجل إنسان!"، فهو يؤدي الزكاة كل سنة عدا عن الضرائب الأخرى. كان الولد الصيدلي الذي عمل عنده في العام الماضي قد أخبره أن صاحب الصيدلية رجل قذر، بعد أن طرده لأنه لم يضف إلى إحدى الوصفات الطبية الماء الكافي. وهو على وشك أن يدنو من مدخل الصيدلية، اندفع بابها الزجاجي، وخرج الطاهر، فهوى قلب اللاجئ عندما رآه، لكن الطاهر تصنع الدهشة، وهتف:
- مرحى، يا لاجئ!
لم يبد على اللاجئ السرور.
- أعرف أنني كمن يفقس على رأسك بيضة، ولكنها الصدفة كما ترى، وهذه أقراص كي تساعدني على النوم. آه، لو تدري كم أنا أرق هذه الليالي، ليلة أمس بطولها لم يغف لعيني جفن!
أخذا يسيران جنبًا إلى جنب، واللاجئ يفكر في أن الطاهر رآه من خلف زجاج الواجهة الأمامية للصيدلية، وإلا كيف عرف بوصوله. قال اللاجئ:
- من الضروري أن تكون قد لجأت إلى فراشك، فأمرك سيء حسب زعمك.
- وأنا لا يسعني سوى أن أؤيدك، لكني كنت في المقهى، هنا ليس ببعيد، برفقة أبو العثمان، ثم أردت الأقراص، وليست هناك من صيدلية أخرى مناوبة.
سكت الطاهر ليستجمع أنفاسه، فاللاجئ يسير مسرعًا، وهو لم يكمل بعد ما يريد قوله:
- الحقيقة أنني حدثت نفسي وقلت لربما التقيتك، فأنت تنهي عملك في مثل هذا الوقت (سكت متصنعا الاهتمام): لقد حصل ذلك بالفعل، فإذا بها فرصة طيبة.
كانا قد دخلا الخان بسوقه المسقوف، وكانت دعساتهما على أرضه المبلطة كدعسات الجنود. سأل اللاجئ:
- ماذا تراك تخترع؟
بدا للطاهر وجه مدلهم، وعينان حمراوان، وهناك قناديل خافتة كانت تتدلى من سقف فيه بين مسافة وأخرى طاقة عتيقة مزججة، وكان الخان ممتدًّا.
- وماذا يمكنني؟
- أنا لا أصدقك، فقد كنت تنتظر خروجي.
رفع الطاهر يده إلى شعره، ومسح الضوء الميت عليه، ولامس بيده كتف اللاجئ، وهو ينزلها:
- إذا كنت لا تصدقني، فما عليك سوى أن تسأل أبو العثمان إذا ما كنا في المقهى. وإذا أردت، ذهبنا عنده.
- دعك من هذا! حتى ولو كان الأمر صحيحًا، فأنت تعرف أنني لن أذهب.
صمتا، وراحا ينصتان إلى وقع خطواتهما، كان الطاهر يحاول أن يستمد من الصدى القوة على مواصلة الحديث.
تأوَّه اللاجئ:
- كم هو ليل مهلك!
- أرى ذلك.
إذا بمجموعة من القطط المتلاحقة تثب من أحد الأزقة، وهي تعض ذيول بعضها، بينما تموء بألم، تقاذفت بين قدميهما، ثم تسلقت أحد الجدران، واختفت.
سكب الطاهر ضحكة:
- إنها تنكح بعضها، فالموسم على وشك الانتهاء.
ابتسم اللاجئ، فتابع الطاهر بعد أن شجعته الابتسامة:
- لقد شاهدتها بأم عيني، ورأس أمي لكأنه نكاح رجل وامرأة!
قال اللاجئ:
- حتى الأرانب، فكلها حيوانات، وهي تسمى باللبونة.
لكن الطاهر كان يضغط رأسه، فتبين له رقبة قصيرة:
- مع القطط الأمر يختلف، قلت لك شاهدتها بأم عيني، وهي لها رغائب مثلنا تمامًا.
نفخ اللاجئ:
- أفت!
علق الطاهر:
- كم هو ليل مهلك!
وسأله:
- كيف تجري الأحوال معك؟ أكل شيء على ما يرام؟
فكر اللاجئ: ((التقينا منذ ثلاثة أيام، وطرح عليّ السؤال ذاته)).
- كالعادة.
- وأخوك، هل ما زال في السجن؟
- ما زال في السجن.
- سيهرب، اطمئن، لا بد أن يجد طريقة، ولكن، ما الفائدة؟ إنهم كالكلاب الشرسة!
قال اللاجئ لنفسه: ((آن الأوان ليدخل في الموضوع)).
- أما عن أحوالي، فهي مثل الزفت! (سكت ليضيف): البطالة،
ولا محالة، لا يمكنني الإفلات.
رمى اللاجئ:
- أنت كبرت، ومن هم في مثل سنك يحملون على عاتقهم مسؤولية!
- أتظنني لا أريد العمل، لقد حاولت الذهاب إلى الكويت، ولكن...
- ولكن ماذا؟
- قلت لك البطالة، ولا محالة، فلا أحد يقدر إمكانياتي.
- ولِمَ لا أحد يقدر إمكانياتك؟
- لقد سألتني مرة نفس السؤال.
كانا قد تركا الخان، وها هما بجوار جامع الحنبلي. أطلق الطاهر زفرة، وقال:
- لماذا لا أحد يقدر إمكانياتي؟ هذه هي!
اشرأب اللاجئ بعنقه بعد أن سبق الطاهر خطوة.
- ما لك؟
- أخشى أن يكون اللحام قد أقفل، فقد تأخرت قليلاً. من العادة أن أكون على بابه الساعة التاسعة والنصف، وها هي تشير إلى العاشرة إلا ربعًا.
أوضح:
- من أجل العظام.
رمى الطاهر بدعابة:
- حدثت نفسي، وقلت، يمكن أن يكون اللاجئ قد ورث (( مجيدة ))، فها هو يفرض على نفسه ألا يعود إلى الدار إلا بقطعة ضأن، وإذا بها عظام!
- وماذا نفعل؟ فهي للكلاب ولنا!
حط الطاهر يده على كتفه، وأوقفه، بينما راح اللاجئ ينتظر ما يود قوله:
- سأجعل منك غنيًّا بِرَمْشِ عين لو أردت، وبعد ذلك لن تكتفي بقطعة ضأن، ولا بضأن كامل، ولا بعجل كبير، سأذبح لك جملاً.
لم يرفع عينيه عنه، دام ذلك مدة أحسبها اللاجئ طويلة إلى أن قال:
- أنت صاحب خيال، وأنا أحسدك!
وسار باتجاه اللحام، بينما صارت على حنجرة الطاهر حبل تحكها، وهو لهذا ضاق، وكاد يختنق. صاح به:
- أحمق!
أدار اللاجئ رأسه بسكون وهدوء قاسيين، وجمجم:
- ليست لدي رغبة في الفهم.
والطاهر لم يزال يصيح:
- أحمق! أحمق!
جرى من أمامه، وراح يرجع مع خطواته إلى الوراء، ووجهه عليه:
- خبطة! سمها خبطة! لحظات قليلة، فإذا بنا نملك ثروة. إنها مجرد لحظات قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد، بينما لو تركنا ذلك للغيب، احتجنا إلى أعوام وأعوام، ولربما مات كلانا على فقره. وفي كل الأحوال، لن نحمل معنا إلا ذلنا، وليس هناك ما هو أفظع.
- وما الفائدة إذن؟
- حياة تسمى عشناها.
تنفس اللاجئ الصعداء:
- الحمد لله، فلم يقفل بعد.
باتا على مقربة من اللحام، فهمس الطاهر مبهورًا:
- جواهر! ذهب! كنز يسقط علينا من السماء! فقط أعطني كلمتك، ودع الباقي عليّ، إنما أنا بحاجة فقط إلى أن تعطيني كلمتك.
توقف اللاجئ، كان ممتقعًا، وكان الليل في عيني الطاهر أهوج شريرًا. راح اللاجئ يفكر في الكنز الذي سيسقط عليه من السماء، تحركت يده على ذقنه، ومسحتها بخشونة:
- سأحضر العظام.
دخل دكان اللحام، وحالما رآه صاحبها، فتح الثلاجة الكبيرة، فظهرت للاجئ خرفان معلقة، ونصف ثور لحمه أحمر. قال اللاجئ للحام:
- خشيت أن تكون قد أقفلت، فلم أحضر في الوقت المعتاد.
استدار اللحام، وبيده كمية من العظام:
- كنت على وشك الإقفال.
قطع عن الحائط ورقة خشنة، واللاجئ يلتفت حواليه، فيرى في كل مكان، على الحائط، سكاكين من كل حجم مرتبة بتناسق، إضافة إلى ذلك شاهد ساطورًا كبيرًا وآخر صغيرًا ومنشارين. كانت الطاولة التي يقطع عليها اللحام اللحم مجوفة في الوسط على شكل واد من جراء هبوط وصعود شفرة الساطور الحادة.
- إذا أردت قطّعتها لك.
- لا حاجة لي بذلك، فأنا على عجلة، وقد تأخر بي الوقت.
وتناولها منه:
- كم؟
- كالعادة.
قدم له خمس قروش، وقبل أن يعطيه ظهره ألقى عليه بتحية.
أفضى اللحام:
- غدًا، إذا أردت، ستكون لدي بعض العروق.
التفت اللاجئ، وقال:
- حسنًا، واحفظ لي بعضًا من الشحمة.
- على الرأس والعين!
- إلى مساء الغد.
- مع السلامة، ليلة سعيدة! وقبل أن تنام، أدع لي، فهي عظام ليست عادية، أمخاخها تطعم عشرة! أنا واثق من أنك ستدعو لي.
بحث اللاجئ عن صديقه، وبعد جهد جهيد، رآه يقف تحت مصباح منطفئ.
سار باتجاهه، وهو على مقربة منه، سأله الطاهر:
- هل أحسنت اختيارها؟
- أنا لا أنظر بتاتاً، يلفها، ويدفعها لي، فأتناولها، هذا كل ما هناك.
- عليك في المرة القادمة أن تتفقدها، ولتختر التي لم يجردوا عنها اللحم تمامًا، وخصوصًا، عظم القفص والسلسلة.
سمعا نصف إغلاق، فالتفتا، كان اللحام قد جر باب دكانه إلى منتصفه، دخل ليطفئ الكهرباء، وبعد ذلك، أتم الإغلاق، وسار في الطريق المعاكسة.
اخترق اللاجئ والطاهر سوق الحدادين، والأضواء الخافتة تهرب على إيقاع قدميهما، واللاجئ يفكر: ((أضواء خافتة دومًا، أنفاس خافتة دومًا، تتبعها خفقات منهارة، وليل يسقط من جوف المعمورة)). سأله الطاهر:
- فيمَ تفكر؟
- أفكر في أننا إذا ما أقدمنا على السرقة، فلن نجد طريقًا أسهل من الطريق الذاهبة إلى السجن.
- ما أريده منك فقط موافقتك، أما باقي الأمور، فدعها لي.
واجهتهما أضواء سينما ريفولي إلى اليسار، والإعلان الدعائي الضخم: (( الهروب الكبير )) بطولة ستيف ماكوين. كانت هناك جملة مخططة تقول: تقدم سينما ريفولي بكل فخر أحدث إنتاجات هوليود، بينما كان يبدو من صورة الإعلان الباهتة أنه فيلم مضت عليه عدة مواسم. وتحت كتبوا: قمة أفلام هوليود لهذا الموسم. أرسلا إلى الإعلان نظراتهما حتى دلفا إلى شارع الشويترة الباهر بكهربائه.
قال اللاجئ:
- لنفترض أني أعطيتك موافقتي، فماذا أنت بفاعل؟
رمى الطاهر رأس قدميه بنظرة طويلة بعض الشيء، وأخذ يفكر، ثم أجاب:
- بعد العملية ستذهب في الصباح إلى عملك كالعادة، وسنحتفظ بالذهب حتى تمضي الأيام، وينسون.
ارتعشت ابتسامة شاحبة على فم اللاجئ:
- أتظنهم مغفلين إلى هذه الدرجة؟
- أعرف أنهم ليسوا بمغفلين، لكن هذا لا يعني أننا كذلك.
احتد اللاجئ:
- سيجري تحقيق، ولن تكون لي أية ذريعة للتملص، فالأصابع العشر تشير إليّ مهما كانت أقوالي، فأنا هو من يرتع وحده في العمارة، بعد أن يغادرها الجميع، وأنا هو آخر من يغادر عتبتها، والليل يتساقط في كل مكان، وأنا هو من يقفل بيده الباب العام.
فرقع الطاهر إصبعيه:
- ولهذا كله أرى من الضروري أن تذهب إلى عملك صباح اليوم التالي كالعادة، لربما اعتبروك مسؤولاً لو حصلت السرقة قبل مغادرتك العمارة لا بعدها، والوقت الذي تغادر فيه العمارة رغم أنه متأخر إلا أنه ليس بآخر، ستظل هناك فسحة من الليل.
والنسمة على الرغم من قسوتها كانت تهب بهما دون أن يشعرا بها، اقتربا من محمص إدريخ للبزورات، ففكر الطاهر في صاحب المحمص: (( ينتظر خروج رواد السينما ليشتروا بزورات تساعد على قطع طريق العودة إلى البيت)). مرَّا من أمام الدكان، ورأيا ابن صاحب المحمص: شاب سمين قصير لم يبلغ الخامسة عشرة، يظل بلطف يبتسم. حياهما برفع اليد، في الوقت الذي مرا فيه، وهو يقول: (( تفضلوا، يا شباب! ))
التفت اللاجئ إلى الوراء، كان هناك سطر طويل من الدكاكين المجرور ستارها الحديدي، ورصيف (( بريء )) على استواء واحد. وكانت هناك دكان المحمص الصائحة بالضوء، مع المصابيح القوية التي تعمل أعمدتها صفًّا عسكريًّا واحدًا، فكر اللاجئ: ((لا فرق! )) بدا له الشارع كله ساهرًا، بدكاكينه وبيوته، ولم يكن ابن صاحب المحمص وحده من يحصي عدد النجوم وحبات الحمص المبهرة والساخنة. غدوا كلهم موجودين، رغم أنهم لم يكونوا هناك، وغدا أكثر ما يثير فضوله: حضورهم الوهمي!
قال الطاهر:
- لديك المفاتيح، وسنعود مع منتصف الليل، ستكون معي أدواتي، هناك خزانتان، إحداهما في الحائط يصعب عليّ فتحها، فهي تقفل بالأرقام، لقد قمت بزيارة، ألم أخبرك؟ خسارة! فهي خاصة بالجواهر، وليس من السهل نقلها، إلا إذا تزحزح الحائط، وهذا ليس بممكن. خطر ببالي أن أذيبها بالأكسجين، لكني لن أحصل على الآلة بسهولة، أو بالأحرى لست راغبًا في إثارة الشكوك. أنا أكتفي حاليًا بكوني سارقًا صغيرًا مبتدئًا، لربما في المستقبل، إذا ما حالفني الحظ، واحترفتها، أن أسخر بعض الإمكانيات، وأبني عملياتي على أسس أفضل. أما الخزانة الحديدية الطويلة الشبيهة بالصندوق، بيت الذهب، أو صدفتي السحرية، فستكون محور عمليتنا، بل أعتبرها هدفنا، ولا يسعني سوى أن أطمئنك، فلن تحتاج مع أدواتي إلى جهد كبير. يخيل إليّ أن لها قفلاً عاديًّا، أليس كذلك؟
تركا شارع الشويترة الطافح بالضوء خلفهما، فغطس اللاجئ في بحر الليل، وهبت رياح عاتية على خيمته، اقتلعتها من جذورها. نظر الطاهر إليه، وقال لنفسه: (( يفكر في العملية، أشغلت له باله! )) انتظر أكثر من اللازم، وقد أصبحا يسيران جنبًا إلى جنب هما والمستشفى الإنجيلي. عبرت عينا الطاهر إلى الطرف الآخر، فبدت له البساتين المعتمة. كانت هناك أشجار كبيرة لا يمكن تمييزها، بينما يُسمع لها حفيف واضح، واللاجئ كان يفكر: (( ومع ذلك، فإن اسمي عبد الله! )) سمع الطاهر يقول:
- لن تحملني، بالطبع، إلى ضربك على الإليتين كي أدفعك إلى الكلام!
انتهي اللاجئ إلى أنه غير مسمى، وأنهم يقسون عليه، دون أن يفطنوا، عندما يدعونه باللاجئ، فأحس في الكلمة بحرًا من الضياع.
قال:
- طالما تستطيعها، فلماذا لا تفعلها وحدك، وتدعني وشأني.
ضحك الطاهر بتوتر:
- يا لك من مأفون! أتعتقد أنني سأتخلى عنك؟
همس اللاجئ لنفسه: (( أرغب في فقري حتى ولو كان لدي مال! )) وقف على مقربة من البوابة الحديدية لمدرسة البنات، وأمسكها بيده:
- إذا كانت مشاركتي لك تتوقف على كوني أملك المفاتيح، فسأهبك إياها عن طيب خاطر.
- لا يمكنني قبولها.
- لماذا؟ قل لي لماذا؟ أقسم أني لن أفشي سرك لأحد.
بدا الطاهر كمن يضع قدمه في قعر الماء، هادئًا... مستقرًّا.
- منذ الوقت الذي بدأت فيه أفكر في المشروع، وأنت لم تفارق خيالي. أنا أعتبرك جزءًا من العملية، إذا ذَهَبْتَ، ذَهَبَتْ، ومنيت بالفشل.
عادا يسيران، والطاهر يضيف:
- بإمكاني أن أسرق البنك العربي، وأن أنفذ ذلك وحدي، أما مجوهرات مجيدة، فالأمر يختلف، إن لك فيها حصة، وستبقي لك فيها يد، حتى ولو وهبتني مفاتيحك، حتى ولو قبضوا عليّ، وبقيت أنت حرًّا.
سأله:
- هذه فلسفة سارق أم ماذا؟
ارتد الطاهر مخيبًا:
- قل إنك تهزأ بي بطريقة أو بأخرى.
تابع بتأن:
- فهذا كل ما أملك.
وما لبث الطاهر أن توقف تحت مصباح الكهرباء، وقال بصوت متهدج:
- أنا بائس بالفعل، لو تعلم، ومع ذلك، فأنا أقول لنفسي، إنها أمور لا بد أن تمضي.
- وماذا لو مضت؟
- على الأقل يمكن أن يشعر المرء برد فعل معاكس.
واصلا السير، انطفأت فجأة أضواء الملعب البلدي، فسقطا في الليل، وراحت أضواء مصابيح قتيلة تترامي على طول الطريق الخلفية للملعب. وهناك، في آخر الطريق، كان يقوم مخيم عين بيت الماء: معسكر اللاجئين! وكانت في الجهة المقابلة لسور الملعب بساتين تمتد على مسافات بعيدة، وحلكة داكنة، وهوام.
قال الطاهر، وهو يطلق ضحكة تائهة في الليل:
- هناك أيضًا (( أنت )) ككل، (( أنا )) ككل، كلما فكرت أن هذا (( نحن ))، أكاد أفقد عقلي، فكلانا قذارة وكفى.
- في الداخل سنظل (( نحن )) على كل حال.
- ولكنه أمر مفجع، أن نظل في الداخل (( نحن )) على كل حال! فهي لا في الداخل، ولا في الخارج، وأنا أحار في كوني ابنًا (( بارًّا )) لمخيم عين بيت عين الماء، الوحل والرماد ولا شيء غيرهما!
جمع الطاهر نفسه، وأضاف:
- وأنت، بربك، هل أنت راضٍ؟
- أنا لست براضٍ على الدوام.
- أرأيت؟
- أنا أطعم أخوتي الصغار، وأطعم أمي، وأقوم بأعمالي كاملة، وأعبد الله، ولا أؤذي الناس، ومع ذلك، فلست أدري.
- ومع ذلك، فأنت تأكل العظم على العشاء.
ثم ما لبث أن راح يهدر، وصوته الحبيس لا يؤثر في السكون العميق:
- سخافة... حماقة... أكبر حماقة... إنه يسمي خضوعك!
لمعت عينا اللاجئ إثر مشاهدته الوحش الخارج من بدنه، ولما اكتشف أن الوحش لا يعدو أن يكون أحدًا آخر سوى الطاهر، شد بحزمة العظام إلى صدره، وقال:
- في إحدى المرات، خطر على بالي أن أقتلهم، تمامًا كما فعل أخي، وكنت جادًّا، ثم عدلت عن تنفيذ ذلك في اللحظة الأخيرة، فما زلت أحتفظ بضمير.
كانا قد اقتربا من ساق شجرة جافة فوقها مصباح يرسل ضوءًا ميتًا.
قال الطاهر:
- أما أنا، فلم أعد أحمله، ضميرك هذا.
تذكر اللاجئ أن للطاهر أخًا مشلولاً في حوزته كتب تروي أحدث طرق التعذيب، كانت تلك هوايته!
قال له:
- أنا أحسدك!
ضحك الطاهر بقسوة.
أضاف اللاجئ:
- بل لنقل أهنئك! لأنه، مع ذلك، فها أنت تقف بقدمين عاديتين، وترتفع بقامة عادية! لقد تغلبت عليهم!
عاد الطاهر يضحك بقسوة، واللاجئ يستمع إلى الضحكة، وصداها يرن طويلاً في أذنه.
سيدخل(( الغيتو )) بعد قليل، وسينسى، نعم، لن يلبث أن ينسى، كان يريد أن ينسى. كانت ضحكة صديقه لم ينفك بعد صداها في أذنيه، لم ينقلها مركب تائه في الموج المدمر. فكر اللاجئ لقد كذبت عليه، فأنا لا أحتفظ بأي ضمير، أعبر الليل بلا رادع، وأفكر في بعض الأحيان أن آخذ في أحضاني العارية زوجة أخي الشابة، وأخي يكاد يموت تحت أدوات التعذيب. راح يشد العظام إلى صدره، وهي تحك عظامه، والليل من حوله لا يكف عن خفق جناحيه العملاقين، ومصباح من بعيد تتحطم أشعته المريضة. لقد بدأ اللاجئ منذ لحظات، فإذا به يدب بقدم ميتة! عاد يفكر: (( كم هذا تافه! كم هذا تافه! ومع ذلك، فهو لا يعدو أن يكون شيئًا آخر غيري! ))
فجأة، أخذت صيحات تشق الصمت كسكين البرق، كان السكير الصائح قد خرج من البستان المجاور، وكان يغني أغنية قديمة لأم كلثوم، أغنية عن الحب تفوح منها رائحة خمر ورائحة ليل وأنفاس تعبة. راح السكير يترنح على مقربة منهما، ولم يبد عليه أنه شاهدهما، كان يتابع أغنيته مندمجًا مع اللحن، كان يغني حبه، وها هو ذا يترنح، ويترنح. مرّا به، فرأيا زجاجته العتيدة. كانت فارغة، أو هكذا خيل لهما، وهو- رغم ذلك - لم يزل يحتفظ بها. زجاجة فارغة، وسكير يغني الحب، واللاجئ يفكر: (( لم أذق طعم الحب يومًا، كيف هم يحبون؟ )) كانا قد عبرا، وهما صامتان، كئيبان، يشلهما النواح الباكي. عاد اللاجئ يفكر: (( لربما هذا أحب ))، كان يقصد الطاهر. أراد أن يسأله، لكنه لم يجد أن الوقت مناسب. كان يبدو عليه التعب، وعيناه تتحطمان في الليل على مهل. التفت اللاجئ إلى السكير، فرآه يغرق في الليل.
كانت ثمة زجاجة فارغة، زجاجة خمر فارغة ينقلها بيده، كان يحتفظ بها، وكان يغني أغنية حب حزينة. كانت تلك قصة واقعية، ولربما كانت في ذات الوقت حلمًا، ومع ذلك، فقد ظلت الزجاجة الفارغة تشده، لربما دفعها السكير بعد قليل في البستان، فلا تعدو أكثر من حطام وآلاف الشظايا، ولربما يحملها إلى الأبد دون أن يدري أنها التصقت بأصابعه. وكان هو الآخر على وشك أن يدفعه أحدهم، راح ينتظر يدًا، أية يد، أصبحت تقلقه حركة اليد المندفعة على كتفه، بحقد، وتقوى، وغدت كالصبوة ملحة، مذلة، ومع ذلك، فلم يمتنع عن التفكير: (( حتى وأنا هكذا، فلن أغدو شيئًا آخر غير الحطام )).




12
خرج عدنان من دارهم: كانت كلية النجاح الوطنية من ورائه، ودكان البقالة من أمامه. رأى الممحون يجلس على كرسي، وهو يبتسم له، فابتعد عنه بعينيه. صاح الممحون بصاحب الدكان: (( النهار مشمس! )) فخرج صاحب الدكان، وهو يدفع كرشه، وخداه يصطفقان. كان عدنان قد أوغل في السير، فناداه صاحب الدكان، وقال: (( لم تلقِ علينا التحية، يا سيد عدنان! )) استدار عدنان، وفي ذات الوقت، رأى حشائش معبرهم الخضراء، واكتفى بإطلاق ضحكة صغيرة. قال صاحب الدكان، وهو يرفع جبهته إلى قرص الشمس المتراقص (( نهار جميل مشمس اليوم! )) فهز عدنان رأسه، وتابع طريقه. أحضر صاحب الدكان كرسيًا، وجلس محاذيًا الممحون، التصق بفخذه، ثم أخذ يجسّ رقبته، ويقول (( يا له من أحمق مغرور! )) مشيرًا بإصبعه إلى عدنان: (( لم يسدد أبوه حسابه منذ شهور ثلاثة، وها هو في كل يوم يبدل قميصًا! أنت شاهدت بأم عينك كيف راح يهز كالأتان رأسه! إنه لا يملك حق النطق باسمه، أو باسم غيره، ومع ذلك، فأنت يخيل لك أنه، هو وأمثاله، قد ولدتهم أمهاتهم ديوكًا! )) كان يشد شعر الممحون موجعًا حتى لم يعد الاحتمال أكثر، إذا به يطلق صيحة حادة: (( أنت تؤذيني! اتركني، يا الله! )) وتنحى بكرسيه جانبًا، فسلط عليه صاحب الدكان نظرة فظة: (( لم يعد يحتمل المزاح، يبدو لي أنه متعكر المزاج اليوم!)) لف الممحون فخذيه، وهو يضع ساقاً على ساق، بعد أن استدار مواجهًا سقوط أشعة الشمس مباشرة: (( أنا أشعر بالبرودة! )) سارع صاحب الدكان إلى القول: (( أنت تشعر بالبرودة! دعني أدفئك...! )) وقبض عليه من فخذه، فلم يبد على الممحون أنه يشعر بالحيوان الذي قفز على فخذه فجأة، وعضها. ضغط صاحب الدكان بأصابعه اللحم اللدن، دون أن تبدو على الممحون علامة أخرى غير عدم الاهتمام. حرك صاحب الدكان يده، ومس فرجه، ثم هتف: (( آه! كم أنت لذيذ... كم أنت طري... كأنك فتاة! ))
صعد الدم إلى وجه الشاب، رفع أصابعه، وبكل بساطة، أبعد يد صاحب الدكان عنه:
- أنا أبحث عن الشمس.
وراح يفتح عينيه في الشعاع، فيذهِّب له الشعاع رمشيه.
قال صاحب الدكان:
- في الداخل نار إذا أردت؟
لكن الممحون مد ساقيه، وقال:
- أنا أرغب في حرارة طبيعية.
استند صاحب الدكان على ظهر الكرسي، وأرسل نظره إلى نهاية الطريق، فرأى ظهر عدنان مبتعدًا. قال صاحب الدكان:
- إذا شئت أدر لها مؤخرتك، فهي الطريقة الوحيدة!
وفي اللحظة ذاتها، عبرت الخادمة عائشة، وهي تطرق كعبيها في الأرض، فتخفق إليتاها. أدار الممحون رأسه إليها، ورأى حاتم يتبعها عن كثب. صاح به صاحب الدكان:
- إذن فهي شمس الجميع اليوم!
أطلق حاتم ضحكة كبيرة، وهو يفتح فمه الواسع، وراح يخلل شعره الأشقر بأصابعه.
رسمت عائشة بسمة صغيرة على شفتيها، وفجأة، أخذت تحدث نفسها كمن بوغتت في أمر كادت تنساه: (( آه، يا إلهي...! )) ودلفت إلى داخل الدكان، فتوقف حاتم، وهو ينظر إلى عجيزتها المثيرة. صاح به صاحب الدكان: (( تابع طريقك، وإلا مسختك فأرًا! )) لكن حاتم لم يحرك ساكنًا بل قال ضاحكًا: (( إنها طريق الجميع، يا عم الحاج! )) وانفجر يضحك بشكل مبالغ فيه، وأسنانه الناصعة البياض ينعكس عنها الضياء، فيزيدها بياضًا. نهض صاحب الدكان من وراء الخادمة بعد أن شد الممحون من شعره، فتلوى هذا بدلع، وأطلق شتيمة، وما لبث أن راح يهمهم بشفة مرتعشة: (( ربما كانت الشمس جليدية!)) بعد قليل، خرجت عائشة، وهي تحمل ظرفًا، ومؤخرتها تهتز بإيقاعٍ مع خطواتها. جاء صاحب الدكان من ورائها، ولما وقع نظره على حاتم، وجده لم يتحرك من مكانه، فصاح به: (( آه، يا أبو الخدامات! اطو كشحك عنا الآن! )) خف حاتم إلى الذهاب حتى حاذى عائشة، وسار إلى جانبها محدّثًا، والطريق خالية تقريبًا. كان سور مدرسة الخالدية المرتفع بمثابة حصن يحميه، وكان هناك بائع واحد فقط وعربة وذباب، والأولاد بعد لم يخرجوا.
أخذ صاحب الدكان يتحدث إلى الممحون، وهو يتابع بعينيه قامة الخادمة من بعيد: (( سينام معها الليلة، فهو وحده في الدار! )) سكت قليلاً ثم أضاف: (( لكنها قذرة تمامًا، قالت لي إنني أفزعها! )) بدا مغلوبًا على أمره، وكأن خسارة لحقت بتجارته، أخذ يهمهم بشيء من الحسرة، وفقدان الذات: (( ستكون عظيمة في الفراش، ما في شك! )) بقي يتابع بعينيه قامتها بنظرة آسفة، وطرقات كعبيها لم تزل مسموعة، ثم رأى حاتم يجري عنها مبتعدًا، فجذب صاحب البقالة كرسيه، وقال دونما حاجة إلى التأكد من حقيقة الأمر: (( انتهى كل شيء، وإذا أردت أن تتحقق من صحة كلامي، فما عليك سوى أن تخفي نفسك من وراء عامود، وتراقبها الليلة، وهي تذهب إليه )). وضع الممحون يديه خلف رأسه، وقال: (( حتى ولو كان الأمر صحيحًا، فلن أفعل )) (( لأنه يذلك )) (( إنه لا يؤثر فيّ على الإطلاق )) (( قل إنه يذلك، لكنك لا تملك الشجاعة الكافية )) (( الحقيقة أنني لن أسمح لنفسي يومًا بالتلصص على داعرة، من السخافة أن أقوم بذلك! ))
دفع يده في وجهه ساخرًا:
- أتسميه تلصصًا؟ أتسمي هذا بالتلصص؟
قال الممحون:
- لا يمكنني أن أشرح لك.
أطلق الرجل ضحكة طنانة، فشم الممحون رائحة قذرة لأنفاسه. راح يطرف بعينه باتجاه الشمس، وهو لم يزل يشعر بالبرودة، وبأشياء أخرى كان يريد أن يجد لها تفسيرًا. صاح صاحب الدكان:
- تنقصك الشجاعة!
خرجت الكلمات من فم الممحون تباعًا:
- لا حاجة بي إلى الشجاعة من أجل التلصص على داعرة متطهرة لا كما ينبغي! (وراح يلهث): فلن يحتاجني ذلك إلى أكثر من تحريك القدمين، والذهاب في أثرها دون أن تنتبه إليّ.
عاد صاحب الدكان يقهقه، وأهوى بيده على فخذه، مما جعله يصيح متوجعًا، وهو يقفز.
قال صاحب الدكان:
- هذه مزحة ليس إلا!
بدا الممحون، وهو يمسك بفخذه، كالبنت الصغيرة:
- سمها كيفما تشاء، أنا... أنا أستكثر عليهن أقل نظرة.
مال الرجل، وقال ساخرًا:
- هيا، هيا! وفر علينا نظرتك، وفرها، فأنت تشتهيهن من القفا، إياك أن تقول لي أنا لا أشتهيهن، فهن غزالات، كلهن غزالات، إنهن يجذبنك من العنق، نظرة واحدة إلى أردافهن كافية!
كان عدنان لم يزل يسير تحت الشمس، والربيع القادم يضمه مزهرًا في الحدائق، وكان في صدر عدنان لحنًا نغمته تقول: (( بديع! كم هذا بديع! )) وما كان يفعله: كان يمد يده متلمسًا قميصه المخطط، فاتحًا عن ياقته الواسعة. كانت الفتيات الصغيرات اللاتي لم تتعد أعمارهن الخامسة عشر ربيعًا يمررن به، وهن يلقين عليه نظرات مزيجة من الإعجاب والاغتراب. وكانت الفتيات الصغيرات لا يفعلن غير إلقاء نظراتهن عليه، لهنيهات قليلة، ثم لا يلبثن أن يرمين غيره بها دون عفوية، فيحتفظ لنفسه بحق النظرة الأولى، وبالعطاء غير المجاني. سمع إحداهن تقول للأخرى: (( لو قدّر لي لقضمته كحبة السكر! )) ثم وصلت إلى أذنه ضحكات رقيقة. أراد أن يلتفت، لكنه لم يفعل. بدت المدرسة الفاطمية للبنات على يمينه، ومجموعة من البنات في زيها الأخضر الموحد، كانت تشكل باقة تحت الدرجات القصيرة. نظر إلى ساعته: الحادية عشرة. فكر: (( يمكن أن تكون فادية قد خرجت. )) كان مثقل الضمير، فقد نهض من نومه متأخرًا كالعادة. دفع يده في جيب سرواله، ووجد ورقة مطوية منذ ما يزيد عن الشهر باسمها. كلمات رقيقة، ناعمة، تكلم فيها عن ألمه. قال لها إنه يتعذب، ويتعذب لأنه يحبها. قال لها إنه يحبها لا لأنها جميلة، ولكن لسبب آخر لا يدري ما هو. من أجل ذلك، كتب، ومن أجل شيء أسمى. قال لها: أعرف أنك لا تحتاجين إلى شرح، ومع ذلك، فقد رأيت أن من اللازم عليّ أن أكتب لك. كانت نظراتي لا تكفي، رغم أنني قرأت طويلاً في عينيك ما يجعلني أموت عذوبة. ولقد قرأت في عينيك بعض الهوى، ومع ذلك، فأنا خائف، ولهذا كتبت لك. كان بإمكاني أن أبقى على حالي مليون عام آخر، دون أن أقول، مكتفيًا بما تقوله عيناي، لكنني خشيت أن أجرحك على الخدين، وأن تسمل النسمة عينيّ. إنني خائف، ولهذا كتبت لك. إنني أحبك، ولا يمكنني أن أضيف شيئًا آخر. إن مشاعري طوفان! إنني أحبك!
أعطى لنفسه خمس دقائق أخرى بين وضع الدفاتر في المحفظة، وإقفالها، وقطع الممرات. كانت، هي بالذات، تحتاج دومًا إلى وقت خاص، على اعتبار أنها ليست كالأخريات. كان يكفي التفكير في مَشْطِ حرير الليل... كان ذلك وحده يحتاج إلى خمس دقائق قبل الخروج من القسم، هذا إذا ما تم الأمر بعجلة. قال لنفسه، وهو يصنع تفاؤله: (( لم تخرج بعد، وإن حصل، فمن العادة أن تكون الأخيرة. )) راح يجيل نظره بين الواقفات علَّه يهتدي إلى رؤية واحدة من رفيقاتها. لم يكن يظهر على الفتيات الصغيرات الرغبة في العودة إلى الدار، كن يتخاطبن بصوت عال، وهن يرمين بضحكاتهن الصبيانية. همهم عدنان بأسف: (( ليست معهن! ))

* * *

كان يوسف يقف وسط حجرته، وهو يلتفت من حوله بهيئة حذرة، وبدت نظراته كدرة. اقترب من الخادم، وسحب من يدها الغطاء بحنق. جمعه بعصبية، ثم رماه صائحًا بأعلى صوته:
- ما هذه طريقة لترتيب السرير!
ألجم الخادم، وهي تتابع حركات ذراعيه القصيرتين. أحضر من الخزانة غطاء آخر، وفرشه. قال لها بنبرة آمرة:
- أمسكي من الطرف الثاني!
فأطاعت.
ذهبت إلى الناحية المقابلة للسرير، وأخذت تجذب الغطاء بحيث تدلى من الناحيتين بالتساوي. ابتعد يوسف، وهو يعاين تساوي طرفي الغطاء، ورأسه المدور الحليق ينحني بعظمة... فتح عينًا، وأقفل عينًا، وبعد ذلك، افتر فمه عن ابتسامة أظهرت سنه الأمامية المخلوعة. بدت من ورائه أدوات جراحية يزدان بها الحائط، أشار إليها دون أن يقصد ذلك، وقال مخفضًا صوته:
- يجدر بي أن أكافئك، فأنت تحذقين ترتيب السرير بالمليمتر!
أخذت تنظر إليه بنوع فاتر من الشكر، وبشيء بارد من الإخلاص. جمعت ذراعيها على صدرها، فعلا نهداها بصورة مثيرة. لحوس شفتيه، وطلب إليها:
- هلا ثنيته من تحت؟
عندما انحنت لتثني الغطاء قلبها، وسقط عليها بجسده الضخم. فغرت الخادم فمًا فزعًا تريد الصياح، لكنه ضغطه بكفه، فماع صياحها تحت أصابعه. أخذته الهمهمات، ووجهه الهائل يهتز على الخدين:
- إنها عملية صغيرة... إنها عملية صغيرة!
ودفع يده بين فخذيها.

* * *

خفض صاحب الدكان صوته:
- إذا ما طرحت عليك سؤالاً، فهلا أفدتني بجواب؟
قال الممحون:
- اطرح ولا تتردد!
سالت من فم صاحب الدكان بسمة طويلة مائعة، فاستحثه الممحون:
- ها أنت تشاور عقلك!
قال صاحب الدكان، وهو يغمز بعينه:
- قل الصدق، ألك فرج؟

* * *

صاحت الخادمة:
- اتركني، بحق الصليب أن تتركني!
حاولت أن تزحزحه دون فائدة، كان ثقيلاً كالرصاص. بدأ يكشف عن فخذيها، وقد أصابه العياء، فعاد يهمهم بجهد، والعرق يكاد يغرقه:
- إنها عملية صغيرة... إنها عملية صغيرة!
انقض على شفتيها، ، فانتزعتهما من بين أسنانه:
- سيأتون، وسيروننا!
أخذ يفك أزرار سرواله، شبه غائب، دون أن يتوقف عن ترداد:
- إنها عملية صغيرة... إنها عملية صغيرة كدق الإبرة!
انتهزت الخادمة فرصة يده المشغولة، ودفعته عنها بكل قواها، ليسقط على الأرض، فأحس في رقبته كسرًا. أرادت الهرب، لكنه أمسكها من قدمها، وجذبها، وراح يدفن وجهه بين ساقيها. كان نصفها الأعلى يقف خدرًا في الفضاء، ويوسف يفكر: (( ترفض لذتها! الحمقاء! )) توسلت:
- بحق الجحيم أن تتركني! دعني أذهب، فهم سيأتون!
أخذ يلهث كالكلب الغائب عن رشده مرددًا:
- إنها عملية صغيرة... إنها عملية صغيرة...
وأخذت تتوسل ككلبة في كامل وعيها:
- أليس بالإمكان أن نؤجلها إلى وقت آخر؟
فكر قليلاً: (( تريد! القحبة! )) سألها:
- متى؟
إلا أنه أضاف متراجعًا، وهو يمسكها من كتفيها، ويحنيها:
- لا يمكنني الوثوق بك.
- ولكني أعدك.
- الليلة؟ هل ستأتين الليلة؟
- سآتي.
- أنا لا أصدقكن، فأنتن بنات كلب!
أكدت:
- قلت لك سآتي.
فجعلها تتحرر:
- سأترك لك الباب مفتوحًا.

* * *

كانت بسمته قد سالت حتى غمرت كل وجهه، تردد الممحون قليلاً، وأصبح له لون الأضاليا الصفراء. كان يفكر: (( ابن الكلب! سأفتح له فخذيّ، ولن أدعه يكتفي برؤيته فقط، بل وبلمسه كي يفطس. من يظنني هذا الثور؟! يخيل لي (( أنه )) جميل جدًّا، فهو رفيع وحار له رأس مدبب.)) أخذ بعض الأولاد يتلاحقون، وهم يتبادلون الشتائم: (( أمك الشرموطة! )) (( دين أمك الشرموطة! )) (( ياللي أختك أمها شرموطة! )) ركن صاحب الدكان كوعه بين فخذي الممحون، وهمس:
- لم يقل شيئًا بعد، أيصنع يا ترى جوابًا؟ (ثم أضاف): سألمسه لمسًا خفيفًا.
كان قد ترك كوعه تنزلق رويدًا... رويداً...

* * *

نظر عدنان إلى ساعته، وقد ساورته أفكار حائرة، فتوجس قلبه: الحادية عشرة والنصف ودقيقة واحدة، ولم تظهر فادية بعد! أصبح الشارع خاليًا على التقريب، ذهب بعينيه إلى نهايته، فرأى شرطي المرور، وهو يقوم بحركاته الرياضية المعتادة. فكر: لربما خرجت من الباب الآخر، حث الخطى، فصدمه صوت من الخلف يناديه، عندما التفت، رأى يوسف، وهو يتقدم باتجاهه:
- ماذا بك تعدو؟
- لا شيء. كنت مزمعًا المرور عندك.
أطلق يوسف ضحكة ضخمة:
- يا لك من جرذون كاذب!
وسار إلى جانبه:
- هل نمت جيدًا البارحة بعدما تركتك؟
قال عدنان دون أن تتلاشى الحيرة من رأسه:
- لم أنهض إلا منذ ساعة.
تهدل خدا يوسف العريقان:
- وماذا وراءك؟ فأنت عاطل عن العمل، لا شيء ينتظرك، هذا لا يهم.
أخذ عدنان يجذبه من ذراعه، وهو يغذ في السير، ويوسف يسأل:
- هيه! على مهلك! من تطارد؟
- تعال معي.
- ولكن ما لك منفعل؟
راحا يقطعان إلى الرصيف الآخر، دلفا إلى شارع الشويترة، وقال عدنان:
- هناك فتاة ستخرج من المدرسة.
همهم يوسف:
- إنني أتركك.
- ابق، أريدك أن تبقى.
- لا أقدر.
وقبل أن يعود أدراجه، قال يوسف:
- لا أريد.
ابتعد، وهو يقهقه:
- إلى هذا المساء.
غضب عدنان:
- إذن هكذا!
أعاد يوسف:
- إلى هذا المساء.
توقف عدنان قرب باب مدرسة البنات وحده، كانت أوردته تنقبض دون أن يحس بها، وكان الناس يمرون به، وهم يلقون عليه بالنظرات المؤنبة، كان بعضها سريعًا، وبعضها بطيئًا نوعًا ما، وكان يعرف معظمهم، وهو لذلك، تحاشى أن تتلاقى بأعينهم عيناه. حكَّ بعضهم بكتفه كتفه، وسمع نحنحة اثنين أو ثلاثة تريد أن تفهمه ذنبه، بل عاره الكبير، فتقدم من واجهة مكتبة الصلاحية المجاورة للمدرسة ليمكنه الهرب من الملاحقة، وتطلع إليه بائع الفلافل والقضامة والحلوى التي تفترش بسطته الصغيرة. كان يعرف عدنان منذ زمن بعيد، فقال له بهيئة وقار، وباتزان توهمه التجعدات:
- لقد خرجن كلهن.
تظاهر عدنان بعدم السماع، فعاد البائع يخاطبه:
- عندي فلافل ساخنة!
طرف بعينه إليه، ولم يفتح فمه على كلمة واحدة، كان يحاول بقدر الإمكان تجاهله. صاح البائع بالمارة: (( فلافل! فلافل ساخنة! ))
لاحظ عدنان فتاة سمراء نحيلة، تستند بظهرها على السور، وتضم بين ذراعيها حقيبتها. بدأت الفتاة ترميه بنظرات تفيض حنانًا، فصاح به البائع:
- لما كنتم صغارًا كنت أدينكم بالقرش وبالقرشين، أما اليوم، فها أنتم تنسوننا!
كانت مناسبة لتزجية حاجته:
- قل للآخرين المحظوظين، أما أنا وأنت، فالأمر لدينا سواء.
راح يسمع صوت الزيت الهائج في المقلى، وحاولت الفتاة السمراء الابتسام.
قال البائع:
- لا تقل أنا وأنت، فأنت وحدك، وأنا وحدي، وما أتمناه أن تصبح طبيبًا، كي أظفر بمعالجة مجانية فقط لا غير.
لم يكن عدنان معه، أخذته زهرة الحزن المركونة على الحائط، والتي تحاول الابتسام. فكر: ((سأشحذ عزيمتها))، بادلها نظراتها، والبائع لم يزل يثرثر:
- لكنكم جميعًا جاحدون، ومع ذلك، فالأحوال تتغير معكم باستمرار، أما أنا، فسأقضي طول العمر على هذه البسطة الحقيرة.
اضطر عدنان إلى الابتسام، ولم يكن الموقف يتطلب ذلك، لكنه كان يفكر: (( إن ذلك من أجلها. )) قال عدنان بشيء من الدعابة:
- لو كنت جائعًا لطلبت منك ساندويتش على الحساب.
رفع البائع يديه إلى أعلى كمن يستغفر ربه، وهتف:
- انتهت أيام زمان، اليوم لا تمشي غير النقديات!
وعلى حين غرة، ابتسمت الفتاة السمراء ابتسامة واهنة أحس عدنان بالحزن من أجلها. تابع الابتسامة التي ما لبثت أن ماتت على الشفتين الضامرتين، ورأى الفتاة السمراء تتقدم من البائع، وترميه بقطعة نقدية. تناولت حبة حلوى، واندفعت إلى داخل المدرسة. وقفت على بعد وجيز، وهي تجمع أنفاسها، ومن بين رمشيها رمته بسهام الحب، فشاهد هزال خديها، وشحوبًا لا يمكن لمُّه. كانت ترتعش، وكان لا يستطيع من أجلها شيئًا، كان لا يستطيع من أجله هو شيئًا. بادلها ابتسامة خفيفة، وسرعان ما ضربت الفتاة السمراء قدمها في الأرض، وعادت تندفع مبتعدة.
قال البائع:
- حتى هذه يمكنها أن تصبح (( شيئًا ))، أما حالنا، فستظل هي الحال.
لم يعط عدنان لكلامه أية أهمية، فهو لم يكن يعتقد أنه سيصير إلى حال خاص، إذ كانت الأحوال في نظره كالأسمال، ومهما اختلفت حاله، تظل له نفسه المنفية.
عزم على أن يتركه مع حاله يتشادها، إذ كان ذلك بالنسبة إليه نوعًا من تبكيت الضمير والمقايضة الذاتية. سار على الرصيف الموبخ، وبعد عدة خطوات عاودته شكوى الرجل، فشعر بالندم. كان يشعر بالندم لمجرد عبوره، وفي النهاية، كان يلقي على عاتق فادية كل شيء، ويقول لنفسه: (( هذا لأني أحبها! )) وعند ذلك، كان يشعر بالأمل.

* * *

دفع الممحون يد الرجل الحيوانية بعيدًا عنه، ونبر:
- يا لك من قذر!
نهض صاحب الدكان:
- إن هذا بمثابة اتفاق.
وقف على باب الدكان، تهدل بحنكه، وماع ببسمته:
- هكذا في ظنك، يا عكروت!
كانت هناك حجرة داخلية صغيرة يفتح بابها على الدكان، وقبل أن يدلف الرجل إليها، صاح به:
- عد إلى المئة، وادخل.

* * *

بعد استنطاق دام ثلاث ساعات...
- خذ سيجارة.
- أنا لا أدخن.
- ومع ذلك، فخذ سيجارة.
...........................
...........................
...........................
- إذا كانت الأحوال حسبما ذكرت، فهي أحوال محزنة، وأنا لا يسعني سوى أن أرثي لكم! لقد ملك حديثك عواطفي، ولن تتصور كم أنا راغب في مساعدتك، وتقديم يد العون لك. هل قلت لي إنك أب لطفلة؟
- نعم.
- تتحرق شوقًا إليها، أليس كذلك؟
- لا أفكر فيها إلا لمامًا.
- آه! تجعلني أعتقد أنك قاس بعض الشيء، فهي تحتاج إلى أن تبثها عواطفك من بعيد على شكل التناجي أقل ما يمكن.
- حتى ترتاح أفكاري، وأهدأ نفسيًّا، لربما أمكنني ذلك.
- هذا صحيح، فأنت مشوش الفكر، أستطيع أن أفهم.
- ...........................
- وماذا عن الأصدقاء؟
- لم يعد لي أصدقاء.
- لا، أنت تبالغ! أطلب إليك ألا تتهجم على الأصدقاء، وألا تتجهم، فالأصدقاء موجودون، ابحث عنهم تجدهم، هذا كل ما هنالك. ما أقصده: أصدقاؤك يعرفون، بالطبع، كل شيء عن مجيئك إلينا.
- نعم، بعضهم. هناك محمود الذي حدثتك عنه، وريتا، وزوجتي، والراعي إسحق.
- محمود وريتا وزوجتك! هذا حسن! ومن قلت أيضا؟
- الراعي إسحق.
- فقط؟
- هناك الرجل الأسود أيضًا.
- أي رجل أسود؟ لقد قلت إنه قتل.
- قبل أن يقتل.
- هذا حسن!
ثم همهم المحقق، وهو يقلّب أوراق ملف أمامه:
- بقي موضوع واحد نُوَفّيه، وننتهي.
نظر إلى ساعته بقلق:
- لقد طال بنا الوقت كثيرًا، وأنا على عجلة من أمري.
أشعل سيجارة أخرى، فملأ وجه شعبان بالدخان.
قال المحقق:
- جاء في ترجمة وثيقة العمل خاصتك الجملة التالية: (( بناء على مناصرته للصهيونية )) (ماعت بسمة المحقق قبل أن يردف): أحتاج إلى شرح بسيط.
- من الطبيعي أن يذكروا شيئًا كهذا، فهم يعتبرونه كتبرير لعمل لا يمنحونه إلا بناء على ذلك.
- لكنك أنت، لنقل، لنقل، بالطبع، لا أريد أن أقول إنك مناصر للصهيونية، ولكنك ميال إليها، وإلا، كان رفضك للعمل المزمع قبل أن يعطوه، وليس بعد أن أعطوه، طالما أنت (( رافض رافض )) كما قلت لي.
- أؤكد ليس فقط عدم ميلي إلى الصهيونية، بل ورفضي لها، لأنني فلسطيني، والصهيونية عدوي.
- أنت تنفي ما خُتم عليه إذن؟
- نعم.
- ولكن... (أطفأ سيجارته) لم يذكروا في الوثيقة خاصتك أنك فلسطيني أو عربي، وهذا ما يزيد الأمر تعقيدًا، ويجعل من أقوالك براهين تتحول ضدك (طرقه أسف شديد): أنا أسف لأجلك.
- ولكنك صدقتني.
- نعم، نعم، صدقتك! وهم؟ ماذا تريدني أن أقول لأقنعهم؟ فأنت تدري أن مدى تفهم أمر من الأمور يختلف من شخص إلى آخر (كسته سحابه حزن مفتعل): ومع ذلك، فسأحاول (وبعد أن قلّب أوراق الملف ثانية، قال): وماذا عن رفضك، لم تخبرني كيف كان موقفك قبل إلصاقك بالصهيونية، فهي تهمة بشعة!
- لم يكن لدي الخيار وقتها.
- كيف؟؟؟!!!
- لم يكن لدي أي خيار.
- ماذا تقصد؟ أفصح!
- جرى ذلك دون أن أُسأل، لم يأخذوا رأيي، قرروا ذلك وحدهم، دون أن يكون عندي علم بالأمر، وإلا، كيف أعطوني عملاً؟
- ها أنت تعود إلى منطق (( التبرير )) الماضي الذي حدثتني عنه (استند المحقق بظهره على ظهر كرسيه، وأرخى شفتيه بعد أن مدد ساقيه دون المكتب): لم تشرح لي جيدًا هذه النقطة. لماذا لم ترفضه من الأساس طالما أنك كنت تعرف ذلك جيدًا؟
- لم أكن أعرف أنهم يكتبونه.
- إذن كنت تريده؟!
- لم أكن أريده، نفذت ريتا كل ذلك دون أن أعرف.
- آه! ريتا! أهي جميلة؟
وبقبق.
- نعم.
- شيطان! وهل كل اليهوديات على شاكلتها؟ حسبما نسمع، معظمهن شقراوات، وهن فاتنات تمامًا، حتى السمراوات منهن، فاتنات بحق! أهذا صحيح؟
- لا.
- آه! هذا مزاح! سأعتبره دعابة!
- لست أدري.
- طيب... ماذا قلنا؟ نعم، لنعد إلى موضوعنا، كنت تريده، ولكن لم تكن تعرف؟
- نعم.
- تريد ماذا؟ ولم تعرف ماذا؟
- أريد العمل، ولم أعرف...
وتراجع شعبان، وهو يرمي رأسه بعياء إلى الوراء، وراح يستصرخه:
- بحق الإله أوقف هذا، فأنا لم أعد أفهم، ولم أعد أعرف ما أقول، بحق الإله أوقف هذا!
نهض المحقق بجسد متوتر، ومال على شعبان بوجه مرعب:
- أكمل، كنت تريده، وماذا أيضًا؟
رفع شعبان إليه وجهه اليائس، ودموعه على وشك السقوط، وراح يحرك رأسه البائس، وهو يهمهم:
- لم أكن أريده، لم أكن أريده، جعلتني أقول ذلك خطأً، لم أعد أقدر على الكلام!
ولم يستطع التماسك أكثر، سقطت دموعه، وسال النهر المالح على خديه، أحس شعبان بالتضاؤل، كان يعاني أقسى اللحظات.
قال المحقق بنبرة نشطة، وهو يجلس من جديد:
- يكفي قسم الاستفسارات العامة للمجلس العسكري للتحقيقات في جرائم الحرب والجوسسة والتآمر على أمن البلاد - مكتب رقم 1- ما أجريناه من استنطاق معك، وستحول إلى - مكتب رقم2- للمتابعة.

* * *

مضى عدنان يسير في الشارع الطويل، كانت سينما غرناطة إلى يساره، ومطعم الكلحة إلى يمينه، مقهى الكمال إلى يساره، ومستودع يعيش لقطع الغيار إلى يمينه، وصيدلية النجاح إلى يمينه، وعمارة الدبس إلى يساره، وعيادة الدكتور أبو رباح إلى يساره، وحلويات بسيس إلى يساره، نوفوتيه (ليس له اسم) إلى يساره، تجارة-استيراد-تصدير مقداد إلى يساره، شركة باصات الدبس إلى يساره، إلى يساره، إلى يساره، إلى يساره، ثم (( الدُّوَّار )) العظيم من أمامه. كانوا يدعون ميدان الملك حسين بالدوار، ورأى البركة، والنافورة، والساعة على شكل صندوق وسط حوض مزروع. رفع عدنان رأسه إلى الساعة، فرآها تشير إلى الثانية عشرة إلا الربع، ولم ير فادية بعد! غدت الحرارة لاهبة، وبناية العنبتاوي الضخمة إلى يساره هادئة. نظر إلى الواجهات، والى صف تاكسي الأجرة المحاذي لرصيف البناية، واستمع إلى صبيين يقتربان منه، بينما أحدهما يقول للآخر:
- وبعد عامين، يمكننا أن ندعوها باريس!
- من؟
- نابلس!
- انظر بالله عليك، هل رأيت في حياتك مثل هذه الساعة؟
قال الثاني معجبًا:
- آه!
- يقول أبي إن بلدتنا ساهرة على تزويق المدينة، رغم أنهم يلهطون نصف الميزانية كل عام.
- أهذا صحيح؟
- بالطبع صحيح، فقد قاله أبي.
أضاف، بينما اشرأبا إلى أعلى:
- ألا تدري أننا نقرض الحكومة مليون دينار كل سنة، ويبقى لنا فائض كبير؟ لنا بلدية غنية!
أشار الصبي الثاني بإصبعه إلى الساعة:
- كان من الأفضل لو رفعوها قليلاً.
تراجع كلاهما إلى الوراء ليتحققا من صواب ما قال، فرمى الصبي الأول:
- أتريدنا ألا نعرف الوقت؟ إنها صغيرة بما فيه الكفاية حتى أن الرائي ليحسبها علبة ثقاب!
همهم الثاني:
- لديك الحق! (وما لبث أن سأل): طالما أن بلديتكم غنية إلى هذه الدرجة، لماذا اختارتها صغيرة؟
- لكنهم سيبدلونها في المستقبل.
- ربما سيبعثون بها إلى قريتنا!
اكتفى الأول بقول:
- ربما!
واختفيا في شارع فلسطين.
هتف أبو العثمان من ورائه:
- لقد أمسكتك!
التفت عدنان:
- أهذا أنت، أيها المفتري!
ضحك أبو العثمان مِلءَ شِدْقيه، وسلم عليه بحرارة.
- لماذا لم تأت إلى موعدك منذ عشرة أيام؟ لا تقل لي كانت لديك أشغال رئيس الوزراء!
قال أبو العثمان، وذقنه الحليقة المحفورة تومض، والنقرتان اللتان في منتصف خديه تزدادان غورًا:
- لا وكما رئيس الوزراء! يجب أن تصدق، فقد حصلت على عمل.
وراح يجود ببسمة ساطعة، فتدفق عدنان:
- أتقول الصدق؟
فتح أبو العثمان سترته، فإذا بأكداس مكدسة من ورق المال في جيبه، مما جعل عدنان يصفر دهشًا:
- هل سرقت البنك؟
وأبو العثمان لم يزل يجود ببسمته الساطعة:
- بل أعمل في البنك، وهذا جزء من عملي، أقوم بتسليمها إلى البنوك الأخرى.
- لست مصدقًا أن تكتفي نفسك الملوثة بالقيام فقط بدور الحلقة، أيها الواطي، فأنا أفهم باطنك الرديء جيدًا!
أخذ أبو العثمان يضحك مزهوًا:
- أمس حاول معي الطاهر لنسرقه.
- ماذا؟ تسرقون البنك؟
كاد أبو العثمان يموت من كثرة الضحك، بدا قصيرًا جدًّا بشاربه المكسيكي، وبذلته العريضة:
- يا له من مجنون! وهل قبلت؟
- أتظنني فقدت عقلي مثله؟ وهو عمل جديد كما ترى!
- وكيف استطعت الحصول عليه؟
بدت على أبو العثمان سمات الجد:
- أتظنني ضائعًا مثلك، أيها الكسول! فلي ظهر قوي!
- أي ظهر؟ أي فخذ؟
- واسطة قوية، وقد حصل دفع مال.
- إذن هكذا!
كان عدنان يفكر: أبدًا لن أتوسط أحدًا حتى ولو قضيت طوال العمر مشردًا!
- وماذا تظن أيها المشرد؟ أنا ذاهب، يمكن أن يكونوا قد بعثوا بتلفون، بعد أن تأخرت بسببك، وإذا مضت خمس دقائق أخرى دون أن يستلموا نقودهم، انطلقت صفارات الإنذار.
- ومتى أراك؟ أم أنك مقبوض، ولكي أراك أحتاج إلى أن أوقع على شيك.
عاد أبو العثمان يضحك، وحفرة ذقنه تكز تحت الشمس:
- أنا مشغول هذه الأيام، كما ترى، فقد انتهى عهد التسكع، ولكني سأمر عليك في داركم.
- متى؟ اليوم؟ الساعة؟
كان أبو العثمان قد ابتعد:
- ما عليك سوى أن تنتظرني، سآتي دون أن أحدد موعدًا، وسنقضي معًا أمسية طيبة كالماضي. أما إذا احتجت إليّ، فبنك إنترا معروف.
صاح عدنان من ورائه:
- حاذر أن يغتالوك!
وعاد يجعل فادية محورًا لأفكاره، كان يجد في حبه لها ما يحتاج إليه من عزاء، وكان يعول النفس على أن يراها، وأن يعطيها الرسالة المعتصرة بأصابعه في جيبه، وبعد ذلك كل شيء لا يهم. دار من حول (( الدوار )) مرة، ومرة، ومرة، ووقف طويلًا على مقربة من بائع الفواكه المواجه لشارع المستشفي الوطني. كانت طريقها، وقد حان موعد عودتها إلى المدرسة لقضاء فترة ما بعد الظهر. راح يرقب قدومها دون أن يحس بألسنة الحرارة، ولا بأنفاس العابرين، ولا بدخان سيارات الأجرة المرسيدس التي تملأ الطريق. كانت هناك نساء متحجبات بملاءات سوداء، وفلاحات يرتدين أثوابًا مزركشة طويلة، ويرمين على رؤوسهن شالات الحرير. وكانت هناك فتيات (( باريسيات )) أنيقات أغلبهن معلمات في الطريق إلى المدارس، وطالبات مدارس، وطلاب مدارس، ورجال غلاظ لهم شوارب، وآخرون ينعمون بالظرافة. كان هناك صبية وبنات في الخامسة يجرون، وهم لا يقدرون إلا على أن يتصايحوا، وهم لا يقدرون إلا على أن يشد بعضهم شعر بعض أو أن يتراشقوا بالحجارة، ويشتموا. كان أولئك جميعًا هناك، أما عنه، فقد كان بعيدًا، يطوف وحده، ضالاً وهو بينهم، تائهًا وهو معهم. كانت فادية لم تأتِ بعد، وهو لم يزل يعتصر بأصابعه الرسالة في جيبه، فتسري بعض كلمات إليها، وفجأة، لا يشعر إلا برغبة أكثر في ألا تأتي.

* * *

كان شريف يقف في حديقة دارهم، وشجرة لوز منه على مقربة. كان اللوز أخضر، وبالأمس القريب، كان أبيض. وكانت في الحديقة الكبيرة أشجار تين وأشجار كرمة وأشجار خوخ وبنفسج وأشجار أسكى دنيا. كان شريف يفكر في الصعود على كتف شجرة اللوز، والاختباء بين أغصانها حتى يأتي ابن الجيران، ويمسكه على غفلة منه. رفع قدمًا فأخرى. اتخذ مكانًا في أعلى الشجرة، وتدارى. أهاب بحواسه كلها إلى البقاء يقظة، وهو يحط عينيه على فتحة السياج، فلم يكن بإمكانه العبور إلا من هناك. كان ذلك موعده، فقد أنهى غداءه، وسيأتي عما قليل ليتسلى، فإما أن يقطف اللوز، وإما أن يقطف البنفسج. نظر إلى ساعته، والتفت إلى الدار، فرأى مصاريع النوافذ المقفلة، وفكر أن أمه، إما أن تكون في السرير، وإما أن تكون في المطبخ. أبوه قد تغدى، ونزل، وأخوه مازن قد ذهب عند سعيد منذ الصباح، وبعد لم يرجع. كان شريف قد انتظر إنعام طويلاً في حجرته الصغيرة المستقلة، دون أن تأتي. كان على موعد معها بعد عودته من القدس، لكنها لم تأت. ولم تأت ذلك الصباح، كان يريدها أن تأتي من كل قلبه، فيحكي لها عن الحاكم، وعن المحامي، وعن اليهود، يحكي لها عن اليهود، فهو لا يمكنه أن يفعل شيئًا آخر غير ذلك: أن يحكي. خيبت أمله لأنها لم تأت، وغدا ضجرًا، سئمًا، ولكي يخفف عنه بعض الشيء جاء يتربص لابن الجيران. فكر: ماذا لو ألقي بنفسي من فوق الشجرة؟ كانت الشجرة عالية، ولربما تكسرت له ساق، أو تحطمت له ذراع، وبما أن الموت غير محتمل، لهذا، فقد رأى أنه ليس من الطرافة قضاء باقي عمره عاجزًا. قطف حبتي لوز، ولاكهما بسرعة، ثم ألقاهما في معدته. أحس أنه يغرق في الكآبة، ومع ذلك، فهو حليق، ومعطر، وشعره مسرح، وهو يرفع ذراعيه إلى أعلى، ويفتح قميصه عن صدره، فيظهر حقل القمح الأسود، والسلسلة، والقلب.
غدا الصمت ثقيلاً من حوله، بينما ظلت حواسه كلها متنبهة: سيأتي الولد بين آونة وأخرى! لم يكن يدري لم كل هذا التعلق به، فلم تكن تلك المرة الأولى التي يدخل فيها إلى الحديقة، بقصد السرقة، لكنها المرة الأولى التي يفكر شريف في القبض عليه. أي عقاب، يا ترى، سيلحقه بالمسكين؟ تساءل: نعم، أي عقاب سألحقه بالمسكين؟ عقاب لا يستحقه، فهي أشجار كثيرة، تثمر، وتبقى على حالها حتى تتعفن. أخذ يفكر: أريد أن أقبض عليه أولاً، وبعد ذلك سنرى. وكلما أوغل في التفكير، ورأى أن ساعة القبض عليه قد حانت، كلما ازداد تعلقًا بمقدمه، وأصبح الولد: الطائر الصيد! كان شريف يقول لنفسه: ومع ذلك، فسأكون رحيمًا بعض الشيء، ولن أقوم سوى بضربه ضربة واحدة على الإليتين. وبعد أن أهدده، سأملأ جيوبه باللوز، وسأقطف له باقة كبيرة من البنفسج. سكت قليلا ً ثم أضاف: ولربما لعبنا معًا بعد ذلك.
أيتها النحلات! أيتها النحلات!
غدا في رأسه طنين نحل، ولم تكن في الحديقة نحلة واحدة. أخذ شريف يوسع عينيه الحشيشيتين، وما لبث أن رفع إصبعًا، وحك حاجبيه الكثين. لم يطرق بباله بعد: أنه لن يأتي، كان قد (( قرر )) حضوره منذ زمن بعيد.
مضت ساعة، وهو فوق، دون أن يشعر بالحرارة، فهو يقبع في الظلال. راح يردد لنفسه: لئيمة! لئيمة! كان يقصد إنعام. ومع ذلك، فستضرب موعدًا آخر، وستأتي، فهي لا تقدر على ألا تأتي. كانت تقول له دومًا: آه! يا آسري! وتنعته بالولد الشقي لأنه يتعاطف مع سائر الفتيات على حد سواء. لم تكن إنعام أجمل الفتيات، كان شريف يعتبر الجمال ثانويًّا، المرأة هي الأهم، وهو عندما يحب يكون الجمال لديه مهملاً. وكان تعاطفه النسائي غالبًا ما يبدأ باكتشاف، هكذا كانت غرامياته كلها. كان يخشى أن تهلكه الزوايا، فقد كانت له عينان زائغتان، وحساسية نسائية مطلقة. كان يرى الفتاة من زاوية معينة، بالطبع، زاوية وقوفها وقتها. وكان مدى الانعكاس يعتمد على مدى ما يؤثر فيه، مثلاً حركة أخيرة للردفين، أو انحسار مهمل يتبع ثني الساقين، أو جانب أشد تهدمًا للنهدين، وأشد هدمًا للخاطر. فمقاومة المعلق، وتوتره، وانغماسه الخفي، كل هذا، كان يطير صوابه.
همس شريف: إنني أقاوم صبري، وهن لا يفعلن أكثر من أن يسحقهن. آه، كم أموت حبًّا! كان يطلب ألا يلقى حتفه سوى فوق فرج، مبررًا ذلك بقوله: إنها الميتة الوحيدة التي يمكن المرء فيها أن يضمن ذهابه إلى الجنة! هذا وقد احترق شريف من الحب مرارًا، أما في تلك اللحظات، وبعد عودته من القدس، فهو يحترق رغبة في أن يقتل حبًّا، ربما كان حبه الضائع. أخذ يتساقط في تفل اللوز! كان يموت كآبة! ورجا أن يموت حقدًا، لكن تعاسته كانت هي الأقوى. غدا رمليًّا، منسحقًا، وقد تشقق حلقه الجاف. لم يأت الولد، وفي الأخير، قال يائسًا: لن يأتي! وصمم على النزول من الشجرة مفكرًا في الذهاب إلى عدنان، فلربما خفف عنه ذلك قليلاً. احتكت الأغصان تحت يديه، دون أن يشعر بتوترها الأخضر، كان جافًّا... كأنه تمثال رمل. وكانت أحشاؤه حطبًا، ويا ليته كان يستطيع القيء. آه! أنزل قدمًا، فانقصفت بعض العروق، وفي اللحظة ذاتها لمح خيالاً لأرنب يعدو من ساق إلى ساق، ثم يختفي. فكر بدهشة: هو! جمع نفسه، وأخفاها، وأخذ يراقب. مضت لحظات دون أن يفطن للغصن المكسور المشتبك بشعره، كان معه، من وراء الساق. كان هو، الأرنب الشقي! وكان يفكر: يجيل النظر! وشريف يهمس: النوافذ مغلقة ما عليك سوى أن تظهر! وبدأ يعد الثواني، ثانية، ثانية. كان على وشك الاكتشاف، يتعلق على الساق، أو هو من ورائه. كان يريد أن يعرف مدى الانعكاس، فقد باتت لديه الزاوية. وفجأة، أطل الولد برأسه، فرأى أول ما رأى عنقه، عنق أبيض عاجي يحوي أذنًا صغيرة. رأى أذنًا صغيرة على عنق أبيض، ولم يفطن إلى باقي الوجه إلا بعدها. عند ذلك، عادت الأذن إلى موضعها الأصلي. كان قد استهلك اكتشافه، أكمله بِرَمْشِ عين. عمل الولد دورة يريد زيادة الاطمئنان، وعندما أيقن أن أحدًا لا يراه، أخذ يجري من شجرة إلى أخرى، ويلعب من ساق إلى ساق. كان شريف يخشى أن يكتشفه الولد بدوره، ولم يكن ذلك من صالحه، يريد أن يمسك بالولد أولاً، وبعد ذلك لا يهم، مهما حصل. قضى فترة من الزمن، وهو متوتر الأعصاب، إلى أن وقف الولد تحت أغصان شجرة لوز مدلاة في الجهة المقابلة لشريف، تكاد تلامس وجه التربة المخضرة. كان وجهه عليه، وجه أرج كوردة، فهمست لشريف رغبة خاطفة: جميل! وما لبث الولد أن استدار، مد يدًا، ولامس الجذع، ثم رفع قدمًا، فإذا به في الأعلى، وقد حجبته عنه الكثافة الربيعية. أصغى شريف، فلم يسمع سوى هسهسة الينابيع، وانقصاف الأعناق. فكر: لحظتي، هذه لحظتي! زلق انزلاق الحية، وتقدم. بدأ انتشاؤه، انتشاء صغير يصعد في الأصابع. كان الولد في الأعلى، وشريف يفكر: لقد وقع، لقد وقع! باعد الأغصان المتدلاة، ورفع رأسًا إلى أعلى. كان الولد يضع ساقًا في الشرق وأخرى في الغرب، وقد بدت عليه الغيبوبة، كان هو الآخر منتشيًا لسرقته، وكان انتشاؤه لم يكتمل، فلم ينتهِ من القطف بعد. تركه شريف حتى ينهي قطفه، وهو غائب مع سحر السرقة، غارق في بحر الحبور، يدندن لحنًا. رأى ذراعيه العاريتين، كان قد رفعهما إلى أعلى، فسقط كُمَّا قميصه. ولم يعد يحتمل أكثر، ارتسمت في خياله الصورة، اكتملت، والذي بقى أن يعلقها، أو أن يمزقها، فالأمر لديه سواء. كان يفضل التمزيق، فله حدة، وله طعم كامل تستهلكه الأصابع في لحظات وجيزة. لكنه كان يخشى أن يخيفه، فليس من صالحه ذلك. كان يضع في حسابه ألا يرعب الولد، بإمكانه أن يصرخ به صائحًا: انزل، يا حرامي! لكن ذلك لن يكون في صالحه، فستسقط دموعه، وهو تخضعه الدموع. أو لربما بال على رأسه، فهي هزة. غادر شريف مكانه، وتظاهر أنه قادم دون علم بوجوده، أرسل نحنحة مسموعة، فلاحظ جمود الحركة في الأعلى. فكر: لقد سمع النحنحة، وها هو يصغي منتبهًا. أمسك شريف بغصن، وشده، وقطف بعض حبات لوز، ثم أزاحه، وعاد إلى وقفته الأولى، اتخذ هيئة تأمل، ورفع رأسه متظاهرًا بالعفوية، فاصطدم نظره بنظره، وفي الحال، قال ببشاشة:
- ماذا يفعل هناك ذاك الطائر، يا ترى؟
كان لا يبدو على الولد أنه خائف، لكنه يتظاهر بأن يكونه، فرنا شريف إلى لون الحليب، ورأى اللوز بين أصابعه.
قال له:
- ما عليك سوى أن تنزل، فهو سهل لا كما الصعود.
بان على الولد أنه لا يسمع، كان يفكر: من أين خرج لي؟ دفع اللوز في جيبه، وانحنى، وما هي سوى بضع لحظات حتى قفز، فإذا به وجهًا لوجه مع شريف، وبسرعة حط يده على كتفه لئلا يباغته هاربًا:
- إذن أنت السارق! كنت أفكر أنك أكبر سنًّا.
سرى الولد غديرًا حييًا، وغدت عيناه الزرقاوان حلمًا زجاجيًا:
- أنا ابن الجيران.
- أعرف ذلك، فقد راقبتك، وهأنذا أقبض عليك في الأخير.
ولأول مرة أصاب الصغير الخوف، فتقلص كتفه تحت قبضته، وأحس شريف بلحمه المتوتر. انشد الصبي إليه، وأخذت الموجات في جبينه تنضغط، وتنفلت، كان شريف يفكر في الموجات العاجزة، ويقول: أقبض على طفولة! كان قد شد طفولته القديمة، فإذا بها آثار رجاء.
قال له:
- ماذا أفعل فيك؟
لاح لشريف أن الولد قد صار يحسب بدقة عقابه:
- أتوب! أقسم لك!
تدافع محاولاً الإفلات، لكن شريف قبض عليه من عنقه، وثناه حتى أجلسه على الأرض.
قال شريف، وهو يلهث إعياءً:
- انتظر حتى أصفي معك حسابي.
ثم دفعه على جذع الشجرة، وضغط بكف مفتوحة على صدره ما لبث أن أرخاها. كان يراه يندف، وكان يشغف بذلك حبًّا.
- منذ متى وأنت تقدم على السرقة؟
تساقط شعر الحرير على وجه الطفل، وبدا نقيًا كقطرة الندى.
- منذ أثمر اللوز.
- كاذب!
- أقسم بالله العظيم!
- كاذب! لا تحلف كذبًا، منذ تفتح البنفسج.
كان شريف يفكر: البنفسج واللوز يزهران في وقت واحد. أراد أن ينفجر ضاحكاً، ومع ذلك، فقد تمالك، وتظاهر بالغضب. كان شغفًا بشكله، كان يتأمل وجهه، ويرى أن له شفتين جميلتين ناضجتين:
- وإذا ما عملنا حسابًا لما سرقتنا إياه طوال تلك المدة لساوى ذلك مئة دينار.
تصايح الولد بحنجرة رقيقة:
- ليس لدي مال، ليس لدي مال!
- ليس أنت من سيدفع، بل أبوك، فهو يملك أكثر من مئة دينار بلا شك.
عاد الولد يتصايح، وقد اصفر لونه تمامًا:
- سيضربني أبي، وسيعلقني في السقف، لا تقل له أرجوك.
خشي شريف أن يغشى على الطفل، فقال مسرعًا:
- يبدو لي أنك ولد عاقل، وأنك تسمع الكلام، وأنا لهذا، لن أقول له.
رد إليه روحه:
- ولن ألحق بك الأذى.
ابتسم للطفل، وحاول أن يجسّ ذقنه، لكنه دفع وجهه بعيدًا عنه، وظلت أصابع شريف مفتوحة في الهواء.
قال الولد:
- إذا كان الأمر كذلك، فدعني أذهب.
قال شريف محددًا النظر في شفته السفلى، وقد تظاهر بالغضب من جديد:
- أتظن أني سأدعك تذهب بمثل هذه السهولة؟ لم أزل لم أصفِ معك حسابي بعد.
- ولكنك ماذا قلت لي؟
- أتجرؤ على سؤالي؟ لقد قبضت عليك تسرقني، في حديقتي، وما عليك سوى أن تنتظر.
توسل الولد:
- أنا أعدك. لن أعود إلى ذلك. أقسم بالله العظيم!
وراح يبكي، فربت شريف على كتفه، وطمأنه:
- لا تخف!(أضاف مشجعا إياه): لن ألحق بك الأذى!
اعتدل الولد، وأراد أن يقف، إلا أنه ضغطه على رأسه، فارتمى على الأرض من جديد. قال شريف:
- ولماذا لم تأتِ من الأساس إلى دارنا، وتطلب مني الإذن؟ هل كنت تظن أني لن أسمح لك؟
- كنت لن تسمح لي على التأكيد.
- آه! يا لك من عاق! ولماذا؟
- هكذا.
حاول شريف أن يبدو مرحًا، فكنس له شعره:
- إنه يلذ لك، أليس كذلك؟
- ماذا؟
- أن تسرق، فأنا كنت مثلك، وأنا صغير في سنك.
ضحك الولد بعفوية، وشريف يفكر (( ملكته! )) :
- أريدك أن تضحك هكذا، فلن آكلك، يا عفريت!
- وهل ستدعني أذهب في النهاية؟
- طبعا، فأنت تبدو لي ذكيًّا، وسنصبح منذ اليوم أصدقاء. وهأنذا أعطيك الإذن بأن تأتي دومًا، وفي الوقت الذي تريد، وبإمكانك أن تدخل من الباب الرئيسي، فلن يمنعك أحد.
تنهد الولد، وعاد إليه لونه، وبعد قليل، أخرج من جيبه حبات اللوز، وراح يدفعها في فمه الحبة تلو الحبة، ويقضمها. قال شريف، وهو يربت بظاهر يده على خده، فلا تفعل الطراوة إلا أن ترتد:
- هيا، انهض، هأنذا أطلقك.
نهض الولد، وسار عدة خطوات، فسارع شريف إلى القول:
- من العادة أن تقضي نصف نهار بأكمله! إذا أردت أن تبقى، ابق كما تشاء، فأنا ذاهب.
أخذ الولد يبلع آخر حبات اللوز، وشريف يحس في حلقه بالجفاف، كان لا يريده أن يذهب، اسودت الدنيا في عينيه، طفت كآبته عن حدها، وغدا حزينًا:
- وإذا أردت قمنا بجولة، فأنت لا تعرف الحديقة كلها، في الطرف الآخر أشجار تفاح وكرز، هل تعرف ما هو الكرز؟ حبات تشبه اللآلئ، ولكنها حمراء دموية. وهناك قفص دجاج، وبركة.
كان يكذب عليه، فليس هناك لا كرز ولا تفاح، لكن الولد قال:
- أفضل أن أذهب.
وسار، وشريف يفكر مندحرًا: فقدته، ذهب، لقد ذهب! كيف جعلته يفلت من يدي؟ رأى مؤخرته الملتفة في الوقت الذي راح فيه ينحني تحت السياج، دون أن يتوقف عن مخاطبة الذات: يا لي من أحمق! لماذا لا أجري، وأمسك به... لا أحرك ساكناً؟ كان جميلاً، كانت أصابع شفيفة تعتصره، وتشده إلى الطفل بقوة لا يدري كيف سلم الأمر إليها، ناداه:
- هيه!
عاد الولد يخرج بنصفه من تحت السياج، والتفت.
قال شريف:
- هناك حجرة تشبه السفينة، وبإمكاني أن أعطيك المجداف، وإذا أردت علمتك السباحة، كما أقول لك، ولدي أيضًا بعض الطيور ذات الأرياش الملونة، وهي تتكلم مع من هم في مثل سنك، لأنها صغيرة قدك وجميلة! وسأطعمك شوكولاطه!

* * *

مرق قاهر كالسهم، بعد أن فتح باب دارهم بسرعة، واحتضنها، وهو يهتف:
- لقد وقعتِ بين يديّ!
حاولت ابنة الجيران أن تقاومه، إلا أن ذلك لم يكن مجديًا معه. حصر وجهها بين كفيه، وقبلها، وهي تقاوم، ثم ما لبثت مقاومتها أن تلاشت. تمنت لو يحملها بين ذراعيه، ويهرب بها، لربما يفتح أحدهم الباب، ولربما يصعد أحدهم الدرج بين لحظة وأخرى. قال لها:
- ادخلي، فليس هناك أحد.
وهو لم يزل يحتويها.
- أفضل الذهاب، فأختي الكبيرة بانتظاري، وعليّ أن أتم نشر الغسيل.
لكنه سحبها:
- ادخلي، ادخلي، إنني وحدي.
ذهبت مع الذراع القوية، ونصفها الأعلى ينحني في الاتجاه المضاد، بينما هي تقوس نظرة خائفة باتجاه بابهم المقابل. بدت عليها أمارات قلقة، وفي عينيها انتشاء مسبق. وعندما سكر قاهر الباب، ارتمت في أحضانه:
- وإذا صعدت أختي، ولم تجدني؟
- ستتدبرين أمرك، أعرف أنك ستتدبرينه.
ضغطها بشفتيه، وأخذها من ذراعها:
- إلى أين؟
- إلى حجرتي.
- لا، لا، دعنا نقف!
- لا يمكننا، فسنسقط، ثم، أريد أن أعاتبك، فأنت تخفين نفسك عني منذ ثلاثة أيام. يا جاحدة!
بدرت عنها همهمة استسلام، أدخلها حجرته، وأقفل الباب:
- فلن تتوفر لدينا فرصة أخرى.
- وأين ذهب أهلك؟
- يعملون (( الربيع )) في دار عمي. لقد فضلتك على أهلي الذين أحبهم أكثر من كل شيء في العالم! أرأيت؟
ضحكت، فقطفها من فمها، ثم رماها على السرير:
- انتبه، انتبه، أنت توجعني!

* * *

سأل الولد:
- وهل تنام هنا؟
أخذ شريف مجلسه على السرير، واستند بذقنه على خشب الديكور المتساقطة عن حافته قصاصات طويلة من الورق الملون:
- في بعض الأحيان، على اعتبار أنها حجرة جلوس. وفوق، لي حجرة نوم خاصة.
أخذ الولد يجيل نظره في أنحاء الحجرة، مأخوذًا، هناك أضواء حمراء تنعكس على السقف، وأمامه على الحائط المقابل سقف هابط كعريشة، سقف من ورق أحمر. وتحت العريشة، كان مقعد طويل وكرسي وطاولة عليها مزهرية. نظر الولد إلى صورة فتاة ساذجة مرسومة بالفحم، فبدا بتقاسيمه المنزاحة، وكأنه القمر يطل على العالم. أطل شريف عليه، وعلامات استفهام في عينيه: قمر يستطيع جمعه بلحظة واحدة، وبإمكانه أن يذيبه بين ذراعيه، فيتلاشى وزنه منحصرًا في الأصابع. ومع ذلك، فقد كان لا يجرؤ حتى آنذاك. كان الولد يقلب النظر في أنحاء الحجرة، وهو يبدو كالمسحور، كان السحر ابن الدهشة، وكان قد سمعه يسأل:
- وأين هي الطيور ذات الأرياش الملونة؟
أجابه شريف، وذقنه تهبط وتصعد على الحافة التي يستند إليها:
- طارت.
- طارت! لماذا كذبت عليّ؟
- لم أكذب عليك، فمن عادتها أن تذهب في نزهة، ثم لا تلبث أن تعود.
تدحرجت ضحكة الصبي كحبة حصى:
- إذا ما ذهبت الطيور، فهي لا تعود.
رمى شريف نفسه محاذيًا إياه، وأمسكه من خاصرتيه، وأخذ يدغدغه، والولد مغشي عليه من شدة الضحك. ثم قلبه، بحيث أنام صدره على ركبتيه، وأعطاه ضربة على قفاه.
قال:
- هذا لأنك تضحك.
اعتمد الولد على مرفقيه، واعتدل، فقال شريف:
- سأحضر لك لوحًا من الشوكولاطه.
جاءه بلوح أخرجه من جرار الطاولة، فمزق الولد عنه الغلاف، وبدأ بالتهامه.
- هل أعجبتك السفينة؟
- أية سفينة؟
- هذه التي تجلس فيها، إنها سفينة.
فحص الولد السرير، نظر من فوقه، ونظر من تحته، ثم قال:
- هذه ليست سفينة.
- وما هي إذن؟
- هذه فراش.
- يا شرموط! أنت لا تخفى عنك خافية!
لف كتفيه بذراعه، وأخذ يرفع له كمه حتى عراه، وهو يغترف الطراوة اغترافاً، بينما الولد لا يأبه بما يفعل، كان يقول:
- أنا أحب حجرتك، يبدو لي أنك غني، وهذه الأضواء الحمراء تشغف النظر. سأطلب من أبي أن تكون لي حجرة مماثلة، كل هذا ممكن، أستطيع أن أصنع كهذه (( الدنادش )) بسهولة، فلدي مقص كبير.
بدأ شريف يلعب بأصابعه تحت إبطه، وهو غائب. كان يفكر: إنني أجرم في كآبتي! سأقتلها، سأقتلها! وكانت تحت الإبط شعيرات شقراء كالزغب.
نهض الولد فجأة، فشيء ما قد لفت انتباهه قرب الستارة المسدلة، إبريق فخار معلق من عنقه في خيط، ونبتة خضراء تتدلى من رأسه، ومن فمه الصغير، خرجت ساق عليها برعم لم يتفتح بعد. قال بإعجاب:
- الله! ما هذا؟
وأخذ يتأمله مفتونًا، دار دورة ثم عاد يلتصق بشريف:
- أنا أفضله عن الطيور ذات الأرياش الملونة.
طرف بعينه إلى شريف، فرآه مشغولاً، كان يحدجه دون أن يجده، وكان شكل شريف يبعث على الفزع، فخفض الولد رأسه بسرعة، رفع ساقًا بحيث اعتمد بقدمه على السرير، ودفع في فمه قطعة كبيرة من الشوكولاطة، وهمهم:
- حجرتك عجيبة! (غدا على وشك أن ينهي لوح الشوكولاطة) أعجبتني!
عاد شريف يلفه على الكتفين، عرى له ذراعه من جديد، وغمس أصابعه تحت الإبط، ولم يعد الولد يفوه بكلمة واحدة. أخذ شريف يفكر: إنني ألذه! خفقت عضلة ذراعه، فسأله:
- هل أؤذيك؟
- لا. ولكن لماذا تفعل هذا؟
- طالما لا أؤذيك، فدعني أفعل.
تطلع إليه بعينين أخريين، وهو يفكر فيه: (( في فمه قطعة شوكولاطة لا تلبث أن تذوب! )) قال شريف:
- أشعر بالحرارة!
نزع قميصه، فبان شعر صدره الغزير. أخذ الولد يضحك على منظره، فأمسكه شريف من ذراعه، وثناه، بحيث غدا يربض فوقه، وبسمة مائعة تلوث فمه:
- سأجعلك تضحك حتى تنفقع!
أخذ يدغدغه، والولد يضحك، ويضحك، حل له الأقفال، وبلحظة واحدة، لاصق الصدر الأشعر المجنون الصدر الأملس العاري. دفن نفسًا ساخنًا في عنقه، وقد وصلت الدغدغة أقصاها، لحس له تحت أذنه، فسمعت له ضحكات ثقيلة بعض الشيء. أقفل على أذنه بفمه، ودفع لسانه مغرقًا إياها باللعاب. لعقها، فتشنجت ضحكة الصبي، وأغابه عن الوعي.

* * *

فادية!
لمحها من بعيد، وهي تتهادى. كان شعرها الأسود عاصفة حمام، وقد جمّد عدنان مطلعها، أخذ يفكر: كم أنا أهوج! كانت لم تره بعد، كان يقف على الرصيف نحيفًا، طويلاً، مقوسًا، وفي عينيه نداءات غير مسموعة. كان يحتاج إلى عون، وها هو يغرق، ولم يكن ليطلب عوناً. اكتسحت رأسه أمنيته الغالية: ليتني أغرق، ليتني أموت، أغرق، أموت، أغرق، أموت، أغرق، أموت، ليتني انتهي!
حاول أن يرفع قدمًا، كان يحطها في حديد. ابتهل: آه! يا إلهي! كانت الفراشة تقترب، وهي تتهادى، لم تره بعد، كان من عادتها أن تنظر دومًا باستقامة، وكان يفكر: عدنان أهوج! عدنان أحمق كبير! فها هو ذا لا يفعل شيئًا! كان لا يمكنه أن يفعل شيئاً، فهم يحاصرونه، يغدون ويروحون، ويصنعون من حوله منعهم له. كانوا يمنعونه من الاقتراب منها، وغدت على مقربة منه، وإذا لم يقم بحركة، مضت دون أن تراه. كان لا يستطيع أن يقوم حتى ولا بحركة صغيرة، وها هو ذا يفقد كل شيء، حتى نداء العين. أخذ يفكر: لا يمكنني ذلك، فهو من الخطورة الشيء الكثير! والرسالة التي لها ظلت محاصرة، في جيبه، تذبحها الأظافر بالتدريج. تساءل: أي حب هو حبه؟ مثل هذا الحب من اللازم حرقه، نسفه! حب مريض، فهو حب ممنوع! حب مقهور! فهو حب لا يعطى ولا يؤخذ! حب يظل هكذا دون قوة مع أنه يسمى حبي! كم بدا بائسًا: كانت شفتاه مزمومتين، وعيناه ينكمش ما فوقهما حاجباه، فيهما بكاء بغير دموع. نزل الرصيف، فالتفتت إليه. كان شعرها قد تطاير في الفراغ والسكون، وكانت سيارة قد جاءت مسرعة، فإذا بها تنحرف عنه متحاشية صدمه، ولما رأت فادية السيارة على وشك أن تصدمه، فتحت فمها لتصيح، لكنها، عندما قفز على الرصيف من جديد، رفعت يدها إلى فمها، ومنعت انسكاب الصيحة. حكت السيارة صفحة الزفت مولولة، وخفت صوبها أقدام العابرين. لم يكن هناك، كان غائبًا مع ابتسامتها. كان يتابع الابتسامة المنخطفة على شفتيها، ابتسامة له، له هو، ابتسامة له وحده. كانت هي العبور الهنيء، وكان هو الحزن العميق.
تساقطت الشتائم:
- افتح عينيك، يا ابن الدابة!
- أنا ابن الدابة، يا ابن الغرابة! لماذا تركته وحده؟
- الله أكبر! أمسك به من الرقبة، وتقول لي تركته وحده! هؤلاء هم سائقو اليوم الذين لا يتقنون شيئًا آخر غير القتل! كيف أعطوها لكم رخصة القيادة؟ بالله عليك قل لي كيف؟
صاح واحد من الجمع:
- كفاكم جدالاً، اعملوا ما يمكن إسعاف المسكين! يخسر دمه!
- ابن الدابة الأعمى!
- اسمع! اسمع! لا تكثر الكلام! سامع!
رفع الآخر قبضته:
- انتظر حتى أفتح عينيك!
- تفتح عينيّ؟ تعال! افتح مؤخرتي!
- أفتح مؤخرتك؟ طيب، انتظر!
رمى السائق بقبضاته، وفعل الآخر مثله، فأمسكهما الجمهور:
- كونوا عقلاء!
كانت السيارات في الخلف قد بدأت تطلق النفير، وقد حصل ضجيج كيوم الحشر.
- قلت كفاكم جدالاً، أسعفوه قبل أن يموت!
أخذ عدنان يدفع الجمهور ليرى.
- انتظر! انتظر! صارت لديكم سيارات! كيف لما كنتم تخرأون في لباساتكم؟
- احفظ لسانك، يا ساقط!
- أحفظ لساني أنا، يا ابن الساقط؟ لقد قتلته، لقد قتلته! دعوني أشفي غليلي!
صاح أحدهم:
- نادوا على الشرطة... على الشرطة... يا شرطة!
- أسعفوه أولاً، أسعفوه، يا ناس! اسعفوا (( الشهيد ))!
والآخر يصيح بأعلى صوته:
- يا شرطة!
رفع عدنان قامته، فاستطاع أن يشاهد الشهيد، لكنه أقفل عينيه بسرعة. كان قد رأى بطنه، وقد فُغرت فيه حفرة كالفم الكبير: لثته مهترئة وحواشيه مدماة. كانت أمعاؤه بائنة، وقد قطعتها الدعامة الأمامية للسيارة، فسال الغائط، وأصبح للمزيج منظر تعافه النفس. شاهد القبضات، وهي ترتقي من فوق الرؤوس، وتتلاحم، وسمع الشتائم، وهي تتلاحق الواحدة تلو الأخرى، إلى أن وصل نفير سيارة الإطفاء، فابتعد الناس، وفتحوا الطريق لرجال يرتدون ملابس زرقاء، ويضعون على رؤوسهم خوذات فضية. انحنى أحدهم على الضحية، وقال:
- لا فائدة هناك!
صاح الرجل:
- لم يفتح عينيه، فهو الظالم!
كان وجه السائق يحترق اصفرارًا، وكان يقول:
- كيف يقطع به الطريق؟ هذا ممنوع!
قال رجل المطافئ:
- صحيح، هذا ممنوع كما قال، منعته البلدية!
صاح الرجل بالجمهور:
- اسمعوا ما يقوله الإخوان! ولكنه حمار البلدية!
كان رجال المطافئ قد رفعوه، ورموه في السيارة:
- حتى ولو كان حمار البلدية، فهذا طريق عام محرم على الحمير أمثالك! وهم سيدفعونك ثمنه!
أخذ الرجل يصيح على أسماع الجميع كمن يطلب الدعم والمؤازرة:
- سأشكو... سأشكو...
ذهبت سيارة الإطفاء، فقبض على عنق السائق، إلى أن جاء رجال الشرطة، وصاحب الحمار لا يتوقف عن ترداد: سأشكو، سأشكو! أركبه رجال الشرطة في السيارة التي عملت الحادث، وانطلقوا إلى المركز.
وبينما أخذ الجمهور يتفرق، خرج عليه هذا النداء فجأة:
- يا أمة العرب... يا أمة العرب...
التفت عدنان، فرأى أحدهم قد اعتلى درج مركز الدفاع المدني، وهو يرتدي قنبازًا رثًّا، تمزق في أعلاه، وبرز منه رغيف خبز ملوث. كان شعره متلبدًا بالأوساخ، ونظره متساقطًا فوق لحية مشوكة:
- لم نولد جياعًا، يا أمة العرب! ومع ذلك، فكلنا جياع، يا أمة العرب! وهأنذا أجهر بصوتي صراحة، أما أنتم، فما زلتم تخفون في صدوركم ما تخفون خوفًا وخفرًا. كلنا جياع، يا أمة العرب! لن تنفع الشكوى، ولا البكاء على الموتى، لن ينفع شيء آخر غير السواعد، ومع ذلك، فالسواعد موجودة، ولكن أين الأعمال التي يوفرونها للسواعد؟ كانت لنا أعمال، وكان لنا وطن، ولكن أين الأعمال، وأين الوطن؟ مطاردون إذا ذهبنا إلى الخبز، ومطاردون إذا ذهبنا إلى الوطن! ومع ذلك، فلنا سواعد قوية (شمر عن ساعد رخوة) ولهم أن يختاروا بين أن يعطونا عملاً أو بندقية.
ضحك البعض على الساعد الرخوة، وغضب البعض الآخر، وما لبث أن تفرق الناس، وبقي الرجل البائس وحده يصيح:
- لا أطلب منكم صدقات، تعالوا، فأنا بخير، عندي من الخبز ما يكفيني!
أخرج رغيف الخبز المخبأ في صدره، وقضمه، فهمس أحدهم في أذنه:
- حذار أن ترفع صوتك ثانية، البندقية غير الخبز!
اقترب الرجل البائس منه:
- ولم لا؟ أنا لا أحتاج إلى صدقة! أنا أغنى رجل في العالم!
صفق الرجل البائس، وضحك المارة. اقترب من أحدهم، وجذبه من ذراعه:
- اسمع! أعطني قرشًا واحدًا فقط لا غير!
- لا أدري إذا ما كانت عندي قطعة نقدية.
مد يده إلى جيبه، والرجل البائس يقول:
- من واجبنا أن نتعاون، أنا وأنت، وإلا كيف سننتصر عليهم كلانا؟
- وجدت لك قرشًا.
ناوله إياه، فحاول أن يكلمه على طريقته، لكنه تركه، ومضى. سمع عدنان الرجل يصيح من جديد:
- يا أمة العرب... يا أمة العرب...
همست امرأة محجبة تسير إلى جانب عدنان:
- يا له من مجنون! لماذا لا يجمعونهم؟
قال عدنان لها: لن ينتهوا حتى ولو جمعوا ما جمعوا! لكنها أشاحت عنه وجهها كمن لدغتها عقرب، وتابعت طريقها مسرعة. أراد أن يسير، فليس لديه غير ذلك: أن يسير، إلا أن سيارة أجرة مرسيدس سوداء وقفت قربه، وبعد سماعه لخفقة بابها، رأى شريف يقترب منه، ونظرة مبهمة في عينيه.
قال شريف:
- لماذا لم تتناول طعام غدائك؟
وسلما على بعضهما:
- كيف عرفت؟
- هذه هبطتي من عندكم، قالت لي أمك إنك لم تأت إلى الغداء.
- ليست لدي شهية.
- وتبقى هكذا متسكعًا؟
- أفضل ذلك، آه، لو تعرف كم أنا سيء المزاج!
- أرى ذلك.
سار بضع خطوات، ثم وقف أمام دكان الساعاتي تفاحة. نظر شريف إلى النافورة في وسط (( الدوار ))، وتابع سقوط الماء في الحوض، قبل أن يقول:
- أما أنا، فقد تحسنت أوضاعي، أشعر أنني بحال أحسن.
ركز عليه عدنان عينيه، وراح يفحصه:
- ومع ذلك، فأنا أرى في عينيك نظرة مبهمة لو تدري!
- أتظن أني سيء المزاج دون أن أدري؟
- سيء جدًّا! أنا أرثي لكلينا!
ابتسم شريف، ورمق عدنان شفته السفلي المتدلية لا كما العادة، قال شريف:
- لم تأت إنعام.
- أعرف.
- تعرف!
- رأيتها تتسكع هي وابنة عمها منذ ساعة.
- بلا مزاح!
- كما أقول لك. كانت تحمل حزمة ملفوفة بالورق، ثياب جديدة على ما أظن، وقد دخلتا نوفوتيه الشخشير.
- هل رأتك؟
- لا، لو رأتني لبادلتها ابتسامة، لكني لا أذكر أنه حصل.
- حسناً!(بعد قليل سأل): قلت لي رأيتها منذ ساعة؟
علا صوت عدنان:
- ماذا أصابك؟ هيئتك! آه! أمتعلق بها لهذه الدرجة؟
- كنت أفكر، ومع ذلك، فقد أهملت موعدها، ولم تأت على العاشرة! كان لديها وقت!
- ربما لم تكن لديها رغبة، فماذا يدريك؟
- طيب!
أخذ شهيقًا، وأطلق زفيرًا. ضرب عدنان بظاهر يده ضربة خفيفة، وابتسم له بود:
- وأنت، مع ذلك، فمنذ ساعة تدور!
- تركت الدار على الحادية عشرة.
كانت ساعة المدينة تشير إلى الثانية وخمس دقائق، فصفر شريف:
- مشرد حقيقي!
- يا ليت! قلت لك إنني سيء المزاج، سيء جدًّا! ولو دعوتني بمشرد حقيقي، لما أوفيتني حقي. إنني أقف تحت الشمس، وأعرق، ومع ذلك، فأنا لا أحترق. كيف أجمع شتاتي كي ألتهب؟
أشعل شريف سيجارة، وسأل:
- هل رأيت أمل؟
زم عدنان شفتيه، وحرك رأسه بمعنى لا.
سأل شريف من جديد:
- حتى ولا آمال؟
- حتى ولا أختها.
نظر شريف إلى ساعته، وهو يفكر: الأختان في المدرسة الآن، ثم قال:
- لا أريد الوقوف دقيقة واحدة أخرى أكثر.
تلفت من حوله، فرآهم يعبرون، وهم يرمونهم بالنظرات الفضولية ذاتها. نبر عدنان:
- أنا أكرههم، أكرههم!
أحس شريف بوجع في حلقه:
- لا داعي لأن تكره أحدًا طالما هي عادتهم، ومن الأفضل أن نتجنبهم قدر الإمكان.
- لكنها عادة سيئة.
- عادة سيئة تمامًا، فليس لهم من شغل شاغل غيرنا (سكت قليلاً قبل أن يضيف): أتدري؟
- ماذا؟
- لقد أوصلوا الكلام عن علاقتي بإنعام إلى أمي.
- ليس بصحيح! وماذا قلت لها؟
- قلت لها لربما كان بعضٌ من ذلك صحيحًا، وليس كله، واكتفت بأن بادلتني نظرة توبيخ.
- كلاب! قذرون!
- كلاب وقذرون، ماذا يمكننا أن نفعل؟ وهأنذا أتساءل الآن؟ ماذا يمكنهم هم أن يفعلوا؟ فليفلقوا رأس الحجر لو استطاعوا؟ (سكت قليلاً قبل أن يسأله): ماذا تقترح؟ نذهب إلى المقهى، النادي، الأوتوماتيك، أم نتمشى؟ ولكن يبدو عليك العياء... نأخذ تاكسي إلى دارنا، إلى داركم، إلى القرد؟ اقترح شيئًا.
- أفضل الذهاب إلى مقهى، لكني لا أملك ثمن القهوة، فأنت كما تعلم، لقد أعلن أبي إفلاسه، أما أبوك، فهو وارث لتركة عظيمة، ولم يمض على ذلك عدة أشهر.
ارتعشت شفتا شريف، قبل الضحكة التي أتبعها بشتيمة:
- يلعن أبوك!
- يعني موافق؟
- ليس لي خيار.
- اعتبره دينًا أسده يوم تتغير معي الأحوال.
- يا لك من فاسد! ستسده يوم القيامة. إلى أي مقهى نذهب: الخيّام، الهموز؟
- أفضل الخيام، سنأخذ مجلسنا على السطيحة، وهو ليس بعيدًا من هنا.
حث عدنان الخطى، لكن شريف تباطأ، وبدت على محياه أمارات التردد:
- ما رأيك لو نقطع شارع المستشفى، ولو فيه تطويل للمسافة، لدي حدس بأننا سنرى أمل.
- لن نراها، فهي على مقعد الدراسة الآن، ومع ذلك، فلنذهب، هيا بنا!
قطعا الطريق إلى الدوار، وتركا الدوار إلى رصيف عمارة العنبتاوي. كان سائق سيارة مرسيدس أجرة قد مر بهما، أخرج رأسه صوبهما، وصاح:
- انتبه على بيضاتك!
التفتا إليه، رأياه، وهو يرفع يده إلى أعلى، ويسلم. كانا يعرفانه، فبادلاه ضحكة من داخل القلب، وتعلق أحدهم بذراع الآخر. نفخ شريف:
- حر! يا له من حر!
خفض عدنان عليه عينيه:
- ومع ذلك، فأنت ترتدي البذلة!
مرا ببناية البنك العربي، وأصبح إلى يسارهما سهل فسيح مزروع بالخضروات، وإلى يمينهما محطة بنزين وكراجات. رأيا الباصات الواقفة في صف طويل، واستمعا إلى صياح الباعة: بيض، خبز، جبن، فلافل! كانت تلك أغذية شعبية، وكان الشعب المسكين بعضه يشتري، وبعضه يكتفي بالنظر، كان الشعب المسكين الراغب في السفر في الباصات معظمه من فلاحي القرى، لأنها كانت أرخص، ولأنهم كانوا يحملون سلالهم على ظهرها. رأيا فلاحًا، وهو يقف قرب حائط، ويرفع قنبازه، ثم يطول فرجه، ويشخ. بصق شريف:
- أية قذارة!
اكتفى عدنان بقول:
- أخلاق عربي!
ابتعدا، والفلاح يبتسم كالأبله لهما.
اقترب شريف وعدنان من محطة البنزين الواقعة عند نهاية الطريق، رأيا بوضوح بوابة المستشفى، والبواب، وبعض النساء المتحجبات، وهن يتوسلن إليه بالدخول. قرأ شريف بصوت مرتفع، وهو يرفع عينيه إلى نافذة البيت المقابل: (( شل! )) وقال لعدنان وبائع البنزين قد خرج على التو لما رآهما: متى ستشتري سيارة لنملأها بالبنزين من هنا؟
استند البائع، المعلق لحقيبة نقوده حول عنقه، إلى باب علبته الزجاجية.
أجابه عدنان:
- قريبًا.
ابتسم شريف للبائع، بينما ظل البائع جاد التقاسيم.
جاءتهما إشارة من الشرفة، فدق شريف مرفقه في خصر صديقه:
- ألم أقل لك؟
- ماذا؟
- ألم تر بعد؟ أين نظاراتك؟
- ولكني لا أملك نظارات.
- اشتر نظارات، اشتر نظارات... هناك... على الطرف الأيسر... ها هي تومئ، وتشير.
كان يحادثه بطرف الشفة خشية أن يسمعه أحد، وعيناه تدوران في محجريهما، تلفان، تعلوان، تنزلان، تركعان، ترقصان، ورأسه باستقامة.
- رأيت! رأيت! لكنها تخفي نفسها من وراء الخشب تمامًا! كيف لاحظتها؟
خلال ذلك، كان شريف قد قام ببعض الحركات، وأصابعه تعمل عمل الموسيقار. في الأخير، تنهد، وأدار إليه وجهًا مضرجًا:
- انتهى.
أطار صوابه:
- ما الذي انتهي؟
- ستأتي غدًا.
صاح:
- أنا لا أصدق! كيف جري ذلك؟
- قلت انتهى، وكفى. هيا بنا إلى الخيّام.
جذبه من ذراعه، وركض به عدة خطوات. هتف عدنان:
- يا لك من عصفور شقيّ! وهل فهمتك؟
- طبعًا.
أضاف:
- وستُحضر أختها من أجلك.
أطلق عدنان صيحة دَهِشَة:
- من أجلي! ولكن ليست لدي رغبة في لقائها.
- رغبة أم لا رغبة، غدًا على العاشرة كن عندي.
اغتم عدنان، وقال:
- سنرى.

* * *

قالت ابنة الجيران:
- لقد تأخرت، يجب أن أذهب.
- قبلة أخيرة وأدعك تذهبين.
لكنها قفزت كالمهرة من حضنه.
قال قاهر:
- وهل فكرت في هذا؟ لن أعطيك المفتاح! قبلة أخيرة!
أنام إصبعًا على شفته، فثبتت عليه نظرة استثنائية، وابتسمت له، وهي تفكر: كم هو ماكر! وفي ذات الوقت كان يعجبها كونه كذلك. خفت إليه، فتباعد. سقطت على السرير، واكتسحها. راح يقبلها... ويقبلها، وهي تتنهد... وتتنهد.
قالت له:
- آه، يا حبيبي! كم أنت قوي!
لمست عضلاته المبرومة، وطبعت قبلة على زنده.
قالت:
- أحبك، أحبك، أحبك!
اعتدل قاهر، وقربها منه:
- وأنا أيضًا أحبك!
- وهل ستتزوجني؟
حط سكون مفاجئ، وقاهر يقول لنفسه: لماذا لم أدعها تذهب؟
- قل، بعد لم يقل، هل ستتزوجني؟
- ليس هذا وقته الآن.
ضحكت، وهجمت عليه، قبلته من عنقه، وقاهر يقول لنفسه: في قبلتها تجربة!
- أعرف ليس هذا وقته الآن، وهل تظنني أريده على التو؟
نظر إليها قاهر رغم ذلك مأسور الفؤاد، لقبلاتها طعم خاص. مال عليها، وطبع على خدها قبلة مفكرة:
- أريد أن أنهي دراستي أولاً.
- هذا حسن! إنهِ دراستك أولاً، وبعد ذلك تزوجني. أليس كذلك، حبيبي، أليس كذلك؟
- وهل ستقعدين بانتظاري؟ لم تزل أمامي سنون طويلة.
رمت يدها كلعبة ورق، وقالت:
- هذا لا يهم، فأنا أحبك!
أمسك كفها، وأخذ يعضعضه من كل جانب. عاد يفكر: لماذا لم أدعها تذهب؟
سمعها تقول ضاحكة:
- أنا أحلم دومًا بالأولاد، هذا عار أن تحلم فتاة مثلي بالأولاد، أليس كذلك؟ قل، أليس عارًا؟
أوجس خيفة، فسأل:
- أي أولاد؟
ضحكت مرة أخرى، وهي تشد يده في حضنها:
- أقصد أولادي... أولادك... أطفالاً ينجبهم كلانا.
احمرت وجنتاها، وأخذ يقهقه، جمعت نفسها على صدره، ثم همست على شفتيه:
- هل فهمت الآن؟
- نعم، فهمت.
- وهل تحلم مثلي بالأولاد؟
تلعثم:
- أنا... إنني... نعم، الحقيقة لا! معذرة!
لعبت بأصابعها على صدره، وأخذت تضغط ثديه بتوان. وهي تدفعه عليه، كان يحس بمعاشرة حقيقية، وكانت لها أصابع الحليب والحديد.
قالت:
- أنا وحدي إذن التي تفكر في هذا! سأتوقف. هل أتوقف؟
- هذا شأنك.
- يعني تريدني أن أتوقف!
- لا أريد، ولكن، أظن أن هذا ليس وقته الآن. هناك دراستي، وأسرتي، وأنا أريد، نعم، أريد أن أبني الوطن، المهندس خلق من أجل هذا، وإلا لِمَ يصبح المرء مهندسًا؟ لهذا، لا تفكري في الأولاد، ليس هذا وقته الآن.
حملت وجهًا مثقلاً، وقالت:
- هذا حسن! ليس هذا وقته الآن!
أخذ ينثر شعرها، ويهذبه، وقسمات وجهها ساكنة. سألت:
- ومتى ستغادرنا إلى القاهرة؟
- عندما تنتهي العطلة.
- وهل بقي لها الكثير؟ نحن لم نبدأ عطلتنا بعد.
- لم يبق لها الكثير... عدة أيام.
اندفعت تضمه، وتقبله من شفتيه، وعينيه، وعنقه، تقبله من شفتيه، من شفتيه، من شفتيه، وتكاد تنفجر الدموع من عينيها.
- حبيبي، أنت لن تنساني، أليس كذلك، أنت لن تنساني؟
شدها عنه مبعدًا، فاستطال عنقها المرمريّ:
- ما بالك؟ ماذا جرى لك؟
واحتوى بأصابعه عنقها.
- لا شيء، سأفتقدك، هذا كل ما هناك.
شاهد دموعها تتساقط على خديها، فضمها بين ذراعيه، وهي لا تتوقف عن ترداد:
- أنا أعرف، أنا أعرف، أنت لا تحبني، أنت لا تفكر فيّ كما يجب!
انزاحت، وذهبت تجري نحو الباب، خلته دهشًا لما قالت. صاح بها:
- ماذا أفعل كي تصدقيني؟
أخذ يفكر بإلحاح: لماذا لم أدعها تذهب منذ البداية؟ لماذا لم أدعها تذهب؟ جاء من ورائها، فرآها تمسح دموعها بكم فستانها.
رجاها:
- ماذا تريدين أن أفعل كي أثبت لك؟ يجب أن تصدقيني، فأنا أحبك!
جرت، وجرت، وجرت باتجاهه، وتلاحمت معه. أخذت تقبله، بكل ما أوتيت من شجاعة، وهي لا تدري إنما هي تستبسل ضدها، ومع ذلك، فقد كان لديها هاجس يقول: لن تملكيه، لا، لن تملكيه، إنه لعبة مفقودة! أخذت تقبله بقوة حلم مكبل، وهي تثني عنقها بتوتر رافعة قدمها إلى أعلى. كانت تريد أن ترتقيه، تود لو تصعد منه إلى الأعالي، وكانت تبكي، فيتساقط المطر مالحًا من عينيها. وفجأة، رن الجرس، كان أحدهم على الباب.

* * *

قبل أن يدنوا من باب المقهى، إذا بأصوات كعب عال تصلهما، وما لبثت فتاة جميلة أن تجاوزتهما، وهي تعمل تسريحة كبيرة، بحيث ارتفع شعرها كله إلى أعلى على شكل تاج.
تسربت إلى أنفيهما رائحة عطر ومساحيق، ففكرا: قادمة من عند الحلاق! وعندما التقت عيناهما، تبادلا ابتسامة متفاهمة. قال شريف:
- رائعة!
وقبل أن يفتح عدنان فمه، ليعلق بدوره، إذا بحاتم يهرول من ورائها، مقتفيًا خطواتها ككلب الأثر. صاح شريف مناديًا:
- حاتم!
توقف، تركهما يتقدمان منه، وهو لم يزل يعطيهما ظهره. كان حاتم يريح ذقنه بين السبابة والإبهام، ويركن مرفقه بذراعه المضمومة على الصدر. بقي يعطيهما ظهره، وقد أخذهما هديل الضحك. وهما على مقربة منه، هتف به شريف:
- أدر وجهك، يا ابن الكلب!
التفت إليهما كالصنم، وهو يواصل حدجهما، وفي نفس الوقت، يمنع ابتسامة صغيرة مهتزة على شفتيه. دفعاه من كتفيه، وكلاهما يكاد يغشي عليه من شدة الضحك، إلى أن زأر:
- خسئت الوجوه!
انفجر ثلاثتهم بضحكة واحدة.
قال حاتم:
- لقد أفسدتما عليّ أعمالي.
سأل عدنان:
- أية أعمال؟
- أعمالي! أعمالي!
كان شعره ممشوطًا على طريقة الفيس بريسلي ثابتًا لا تزحزحه ريح، وكومة كبيرة منه تقف كناطحة سحاب فوق جبينه. وكان حاتم طيبًا، وجهه المحمر المتجعد يسرق العواطف.
قال شريف:
- أية أعمال أفسدناها لك، يا ابن الكلب؟
- كلها، أعمالي كلها!
أخرج من جيبه دستة أوراق مصفوفة، أنيقة، معطرة، وقال:
- هذه جميعها رسائل.
- رسائل! رسائل ماذا؟
- رسائل غرام، يا بليد!
قال عدنان:
- رسائل غرام! لك؟
قال حاتم:
- ولمن، يا بليد! رسائل غرام لي! ولقد ضيعتما عليّ أثمن فرصة في حياتي، لقد أفقدني كلاكما مُنى.
رمى شريف:
- تلحس قفاي! عمن تراك تتكلم؟
- مُنى، تلك التي مرت منذ قليل، ذات الشعر ال...
وكوم يديه الاثنتين فوق رأسه، فانفجر ثلاثتهم ضاحكين.
- وهذه هي الرسالة التي باسمها.
فضها، وما لبث أن تراجع:
- لا، ليست هذه (راح يهمهم) لقد أفقدتماني صوابي، يا أبناء الكلب! (وهو يقلب على يده مجموعة الرسائل، وفي الأخير، أخرج الرسالة): ها هي رسالتها! (فتحها، وأقرأهما الاسم، ثم ضرب على صدر شريف، وصاح): بسببك، يا بليد! (قهقه قليلاً ثم تابع): أتعرفان منذ متى، وأنا أركض من ورائها؟ منذ أربع ساعات أو خمس، كدت أنفقع تحت الشمس بانتظارها إلى أن عملت الميزامبليه (طرف بتحسر إلى الناحية التي اختفت منها الفتاة): يا خسارة!
قال شريف:
- هذا جزاؤك، يا داعر!
قال عدنان:
- أهلكت نفسك، فماذا جنيت؟
وكأنهما كانا يدغدغانه، كان ينطنط ضاحكًا ومسرورًا. قال لهما:
- خذا هذه الطرفة.
فتابعه كلاهما بنصف تبسم، بنصف توقع.
- في طريق المحكمة، من يومين أو ثلاثة، أوقفت نهلة، أتعرفانها؟ فتاة سمراء جميلة جدًّاً، لكنّ عينيها صغيرتان مع الأسف. ألم تعرفاها؟
حرك شريف يده على جانبه:
- أما وصف عجيب!
دفعه حاتم من كتفه:
- تلك التي أريتك إياها في سينما غرناطة الخميس الماضي، كانت تجلس في الصف الأول على اليسار.
- آه! عرفتها، أكمل.
- ناولتها رسالة باسمها حسب ما كان ظني، وبعد أن أعطيتها ظهري، ومشيت، قلبت باقي الرسائل، فإذا بي أرتكب خطأ مجرمًا، كنت قد أعطيتها رسالة باسم سعاد (فانفجرا ضاحكين، أضاف): ولو كان المشكل يتوقف على الاسم لاخترعت لها أسطورة، يمكن أن أقول لها هذا اسمك الآخر، الاسم الخيالي الذي أناجيك به، لكن اعذريني، في المرة القادمة، سأخط اسمك المطبوع في عقلي بدماء قلبي، يا مصهور ذاتي! لكني علقت في رسالة سعاد على ذكريات لنا معًا، وحوادث يعرفها كلانا، وحكيت فيها عن المواعيد. ماذا أفعل؟
كانت قد ذهبت. ضربت حالي أربعة كفوف أو خمسة، ومشيت. البارحة قعدت في طريق المحكمة منتظرًا الست نهلة، وهو طريق خالٍ كما تعرفان، وأنا لا أحتاج مع غرامياتي هناك إلى جرأة قاطع الطريق التي تعرفانها فيّ! بعيدًا عن العيون أتصرف كأني في بيتي! اقتربت منها، وأنا أطقم نفسي بأناقة متناهية من فوق لتحت، وابتسمت لها قبل أن تصل قربي ابتسامة مفرطة الخجل، في تلك اللحظة، كنت أخشى أن أخطف نفسي من عيني، فأنا جميل جدًّا أثير حتى البهائم! عندما صارت محاذاتي، عسلت صوتي، وهتفت: هالو... نهلة! اعذريني... لقد... وإذا بصفعة ساخنة طيرت وجهي، وبسرعة، مزقت الرسالة، وقذقتني بها، وراحت تجري.
كانا على وشك أن يفطسا ضحكًا، وحاتم يسخر من نفسه مقلدًا إياهما:
- ها ها ها ها ها ها ها ها!
ثم أخذ يدفعهما بيديه، وهما ينزاحان إلى جانب:
- ها ها ها! خسئت الوجوه! هأنذا أضحككما إذن؟
صفق:
- أترككما على خير!
وابتعد.
صاح به شريف:
- يا لها من خسارة!
استدار حاتم متصنعًا الأسف:
- لقد فقدتها إلى الأبد! (أضاف وهو يمسح عينيه): كان ما بيننا انجذاب!
قال شريف:
- ولماذا لا تدع رسائلك بلا أسماء؟
قال عدنان:
- نعم، هذا أفضل.
عاد حاتم، وجاء قربهما.
قال ساخرًا:
- تعالا وعلماني المهنة! وما يدريكما، أيها البليدان! لقد جربتها، وكانت تجربة فاشلة، فهي تبعث على الشك لدى الجنس اللطيف. ثم، هناك الوقائع التي تختلف، ولكن... ( وكأنه اكتشف ذلك على التو): يخطر على بالي الآن أن أترك كتابة الاسم حتى اللحظة الأخيرة (وأمضى مفكرًا): يمكن أن أتابع هذه الطريقة مع كل رسائلي الساذجة، فما أن أحظى بتجاوب إحداهن، أتحرى عن الاسم، أكتبه، وبسرعة، أنهي عملية التسليم. من الضروري دومًا التنفيذ الخاطف، وهذا لا يأتي عفوًا، بل يُحذق بعد تجارب. اسألا صاحب سوابق! (قال كمن يحدث نفسه): حسنًا، حسنًا، هذا حسن! (ثم صاح بهما): خسئت الوجوه!
فسبه شريف.
قال حاتم:
- أستودعكما الله، أيها البليدان!
- هيه! وهل لديك بعض الوقت لنقعد معًا؟
لكنه افرنقع.
زفر كلاهما بواقي ضحكاتهما، ثم قال شريف:
- حاتم هو حاتم!
قبل أن يضيف:
- هل نصعد إلى المقهى؟ أم نتابع الطريق؟
كان عدنان قد سبقه إلى الصعود إلى المقهى قبل أن ينهي كلامه.
- أريد ان أجلس، لن تتصور كم أنا بحاجة إلى كرسي.
تبعه شريف، وهو يفكر: عجيب أمر حاتم! منع ضحكة أخيرة، ودلف إلى سطح المقهى. كانت هناك عريشة، فاختار عدنان مجلسهما قرب السور القصير، ليكشفا الطريق العام. رأيا في الوجه المقابل حلويات الشحروري، وصيدلية أبو حجلة، وصناديق صابغي الأحذية. أغمض عدنان عينيه، وهو يثنى ظهره على ظهر الكرسي، وراح يفكر بألم: أشعر بالتعاسة! رنا شريف إليه دون أن يفوه بكلمة، كان يحبه، وكان يفكر: لم يبق لي سواه! لا اليوم ولا الأمس وليس منذ أعوام طويلة، بل منذ كانا طفلين صغيرين. وجده في تلك اللحظة على غير حاله، فأراد أن يحكي له عن اليهود الذين رآهم في القدس، لكنه تركه يتألم بصمت. راح يقول لنفسه: لربما يتألم لأجلي!
سأل الخادم الواقف على مقربة منهما منذ فترة طويلة دون أن يشعرا بوجوده:
- ماذا تريدان أن تشربا؟




13
- ما هي الأهداف؟
- أية أهداف؟
- لقد ألقي عليك القبض في أرضنا، وفي حوزتك أسلحة فتاكة، ومن هم على شاكلتك، لا بد أن تكون لديهم أهداف. ما هي الأهداف؟
- ......................................
- إنني أعتبرُ سكوتَك تغطيةً، مما يؤكد!
- يؤكد ماذا؟
- يؤكد أن لديك أهدافًا هدامة ترفض الكشف عنها. ليكن في علمك أن ما أتيت من أجله قد بطل في الوقت الذي ألقي فيه القبض عليك، ولأهدافك لم تعد أية أهمية، لا مادية ولا معنوية، بعد أن جردناك من سلاحك، وسيكون من صالحك الاعتراف، ليخف عقابك. إن كشفك عن الأهداف التي بُعثت من أجلها والكلام عنها سيهوّن علينا وعليك الشيء الكثير.
- أي كلام؟
- الكلام عن الأهداف، عن كل ما في جعبتك.
-......................................
- ها أنت تعود إلى السكوت من جديد، إنني أنذرك للمرة الأخيرة.
- ليست لدي أهداف.
- أتنكر ذلك؟
- لا داعي للإنكار، فلو كانت لدي أهداف، لما تأخرت في الكشف عنها.
- بلى، بلى، من يأتي من أرض العدو، وبحوزته أسلحة فتاكة، لا يحمل معه إلا الأهداف التخريبية.
- قبل أن آتي كان لدي هدف واحد، أما الآن، فقد انتهى كل شيء.
- ما هو هذا الهدف الواحد؟
- أصبحت أتردد في قوله.
- لا تتردد، قل، ما هو هذا الهدف الواحد؟
- لا أجد داعيًا لقوله.
- بل كل الدواعي التي تحتم عليك الإفصاح عنه.
- كان هدفي أن آتي، بل لنقل، كان حلمي أن آتي.
- أتسخر بنا؟ حلمي! هدفي! هذه سخرية!
- كانت الضفة لي بمثابة حلم.
- كفى! قلت لك هذه سخرية!
- ولقد ظننت أنني سأحقق هنا ما عجزت عن تحقيقه هناك، وأن أحظى بعونكم.
- اسمع، اسمع، كفانا عواطف!
- منذ بداية استنطاقي إلى الآن، وأنا أكرر، لقد أتيت إليكم بمحض اختياري، بدافع شخصي، ولقد أتيت إليكم لأني رفضت حياتي الماضية.
- عن أية حياة تتكلم؟
- ......................................
- لماذا لا تجيب عندما أطرح عليك أسئلتي؟ أية حياة تقصد؟
- بعد الآن لن أفتح فمي، لن أنبس ببنت شفة.
- أفي صالحك ألا تنبس ببنت شفة؟
- . .....................................
- قل، أجب، لماذا لا تقول شيئاً؟ أنت إذن تعتصم بالصمت! ستدفعني إلى اتخاذ قرار يكون مفاجأة لك، ولن يكون في صالحك بحال من الأحوال، إذا ما بقيت معتصمًا بصمتك. إن إقلاعك عن الكلام إدانة، هل تفهم هذا أم أنك بحاجة إلى شرح؟ وأنا، حتى الآن، استطعت أن أتماسك، فهدفي أن يكون تقريري عادلاً وواقعيًّا، لكن تماديك في حجب ما نتوقع أن يكونوا قد حملوك إياه قبل عبورك أرضنا يعتبر تضليلاً للعدالة. هذا وإنني لأعتبر اعتصامك بالصمت مراوغة، وأجد في سكوتك ألف معنى، وما أطلبه منك أن تكون عاقلاً، أن تفكر قليلاً، وأن تتراجع قبل أن يتدهور وضعك... لم يزل الوقت مناسباً، حتى هذه اللحظات، وأعلمك ألا فائدة من سكوتك غير إثارة الشك، فمن يزرع الريح يحصد العاصفة!
إنني أجد في سكوتك ألف معنى، وما أرجوه، وبنبرة احترام بالغ أن تكشف النقاب عما لديك، ولا تدعني ألجأ إلى التكهنات، وإلى التنقيب بخيالي، عما يمكن أن يكون في حوزتك من معلومات، سيحتاجني ذلك إلى كثير الجهد، فهو عمل شاق كما ترى، ولن أرحم، وهأنذا أعطيك فرصة أخيرة، قل شيئًا، أفصح، ما هي الأهداف الكامنة من وراء عبورك أرضنا؟ من بعثك؟ ولماذا في هذا الفصل بالذات؟ لماذا في هذا الوقت على الخصوص؟ لماذا وقع اختيارهم عليك أنت لا على شخص آخر؟ لماذا حملوك السلاح، ولم يدعوك تأتي بيدين فارغتين؟ لماذا أدخلوك من جنين وليس من طولكرم؟ لماذا جعلوك تدخل الضفة وليس القطاع؟ وتذهلنا قائلاً: أتيت إليكم بمحض اختياري، ولأني أحلم! أي منطق متهاو علموك لتقوله لنا؟ وما هو حسابنا في نظركم؟ أيمكن أن نكون قد وصلنا في ظنكم إلى هذا الدرك من الانحطاط الذهني؟ أي منطق رمزيّ تريد إقناعنا به؟ صرت عاجزًا عن إدراك أيهما الطفل: أنت أم نحن؟ الواقع أنني أشك في كونك الطفل، وأمانع أن يتسرب لديك أدنى شعور بأننا كذلك.
لقد أَضعت بصمتك الفرصة التي أعطيتك إياها، ومنذ الآن، سأرفض بشدة أن تدلي بشيء، وأنا لا يسعني سوى أن أرثي لك. وعلى كل حال سأحصل منك على كل ما أردت قسرًا، طالما هذه هي الحال معك.
هذا ونتيجة للظروف المتدهورة التي انجر إليها الاستنطاق، ولما تخول إليه صلاحياتي العسكرية، أجد نفسي مضطرًا لتحويلك إلى - المكتب رقم 5 - متجاوزًا المجرى الطبيعي للتحقيق، وذلك من أجل الحصول على نتائج عاجلة ومفيدة، تجعلني أشعر براحتي النفسية، وبما يمكن أن يعود علينا في المستقبل كمواطنين صالحين من ضمان.




14
Swing... Swing... Swing…-
- ترنح... ترنح... ترنح...
كانت الحجرة حمراء، وقد اشتعل فيها ضوءٌ وانٍ. وكان شريف يجلس على كرسي، ويثني رأسه فوق الأسطوانة، بين إصبعيه سيجارة، وعلى وجهه تبين أمارات التعب. كان عدنان يحتضن سابو، ومازن يحتضن سعيد، وقاهر يحتضن غسان، واسكندر يحتضن أحمد، ويوسف يحتضن مصطفى. كانوا يترنحون وسط النعاس والدخان والضوء الواني والموسيقى. أصغى شريف إلى سحبات أقدامهم الرخوة، وازداد على نفسه انطواء، بينما راح يفكر: (( أما عني، فأنا أحتاج إلى فتاة! )) بدا جسيم الوجه، مثقل الجفنين. أخذ يمتص أنفاس سيجارته على مهل، وجميعهم لا ينبسون ببنت شفة. كانوا مأخوذين في أحضان بعضهم، بينما غلفت انتباههم لذة مائعة صبيانية، لذة سابخة شهوانية، كان بعضهم يحاول منعها بدافع الخجل، وبعضهم لا يقدر على تحاشيها، فيتمادى بحثًا عنها، حتى يتهدم في وضع أقرب إلى الغيبوبة.
على السرير، كان مجدي يرتمي، وهو يرمي النظر إليهم بجفن واهن. كانت بسمة حالكة تظلم على شفتيه، وكان يخنفر بين تارة وأخرى، أو يجدف بقدمه بين آن وآن. رفع شريف رأسه إليهم: شعر مبلل، جبين أملس، خصلات سائبة، أنف طويل، ذقن أنيقة، عينان حشيشيتان، مجرمتان، كئيبتان. عاد الوتر العنيد يضرب في رأسه: (( أما عني، فأنا أحتاج إلى فتاة... أحتاج إلى فتاة...! )) حط نظره على قامة يوسف الضخمة، ومع ذلك، فقد كان راقصًا خفيفًا، وكانت له حركات ماهرة. تأرجحت في عينيه إلية يوسف، وهو لم يزل يفكر: (( أما عني، فأنا أحتاج إلى راقصة! )) كان يوسف يقوم بدور الفتاة، وكان مصطفى يحاول أن يدنيه إلى صدره، لكنه يصر على أن تبقى مسافة ما بينهما. ابتسم مصطفى الجميل بخبث، غمز شريف، وجذب يوسف، فإذا برأسه يخبط بصدره. ناجاه، قال له: آه... يا حبيبتي! كم أحب حبيبتي! بينما تراخى يوسف تحت ضغط الذراع التي تطوقه. اجتاح شريف شعور بالترنح، فقال لنفسه: (( إنني أترنح رغم جلوسي على الكرسي! )) ولم يكن من الممكن أن تهزم اليد اللينة الخصر اللينة، هكذا كانت خصر عدنان ويد سابو. كان سابو نحيفًا، نحيفًا، طويلاً، طويلاً، حتى لتحسبه عود زان، وكان سيدًا للرقصات بلا منازع، ملكًا لكل حلبة، ساقاه من هواء، يجذب عدنان بنعومة، وفي ذات الوقت، يتوتر خد عدنان في القفص الناتئ المقوس قليلاً مع انحناء العنق. ارتعش شريف عندما خطر على باله أنه تافه، أنه منفضة رماد. سحق عقب سيجارته، وهو ينفث. اكتسحه بحر ليس بمائع، وأغرقته أمواج لا يمكن لمسها. راح يلقي بنظرة دائخة على الأسطوانة، أسطوانة لا تتوقف عن الدوران: ترنح... ترنح... ترنح... أصابه الدوار، وصرخ في صدره صوت أخرس: (( ليتني أستطيع الوقوف، والترنح، ثم السقوط الأبدي! )) تقلصت عضلة عنقه، فألصق يده عليها. بدأت حشرة كبيرة تضرب جناحيها في الداخل، أكبر حشرة على وجه الأرض، وهو يقبض عليها محاولاً سحقها. راح يفكر في الطاعون، فلم يكن يملك وسيلة أخرى. كان يفكر في الطاعون، ولم يكن يدري لماذا! كانت حكاية الطاعون حكاية طويلة مشوقة يسردها على نفسه في الأوقات غير المناسبة. وكانت حكاية الطاعون حكاية طويلة لا تتعدى اسمها: الطاعون وكفى! كل الحكاية! ومع ذلك، فقد كانت تحتاجه إلى عام من السرد المتواصل، عام يمضي في ثلاثة أرباع الثانية! هتف: آه، يا لي من بائس أنا وطاعوني! ولمح أصابع قاهر، وهي على وشك أن تلامس إلية غسان، كان وجه قاهر يخفق دومًا كالوردة الحمراء، في القر والقيظ. سقطت الحشرة في حلقه، وراحت ترفرف، وترفرف، فجرفته عاصفة من الرغبة في القيء، فغر شريف في إثرها فاه، ومال على نفسه، متمنيًا أن تخرج، وهي تصفق له حلقه، لكن الحشرة ظلت ترفرف، وترفرف. غدا لأجنحتها صفير دسم، وأخذ شريف يفتح فاه إلى أقصاه، ويقيء تعاسته. لم يكن للسائل المزبد الملطخ لفخذيه ملمس ولا مرأى ولا حتى أية قذارة: كان قد قذف أشعة صفراء ميتة تدفقت على دفعات! والجمع ظل يترنح، ويترنح، والحشرة ظلت ترفرف، وترفرف. أراد أن يجمع أبعاده في خفقة واحدة وحيدة، فعصر يديه فوق قلبه مباشرةً، كان لا يمتلك حتى الخفقة التي أرادها. رفع رأسه بأسى، فتح عينيه الكئيبتين، ورأى اليد التي زحفت قليلاً فوق الإلية، فأقفل فاه، والحشرة لم تزل ترفرف، وترفرف.
قال أحمد:
- انتهى.
جرى سعيد صوب البك أب:
- سأختار الأسطوانة التالية.
كان ضجيجهم يعني أنهم عادوا من رحلة موت. سمعوا مصطفى يصيح بيوسف:
- لو كنا وحدنا في مرقص حضاري لارتكبت الكبائر!
جسّ رقبة يوسف العريضة، وراح بمكر يقهقه. قال يوسف:
- يا عرص! كدت تفقدني رشدي!
كان قاهر لم يزل يسدل جفنيه معانقًا غسان:
- لا أريد أن أفلتك.
فصاح مجدي بغسان:
- تعال، إذا بقيت، فإني أشك في إنقاذك.
وعلى التو، خلع غسان نظارتيه، وناولهما لمجدي:
- احفظهما لي أمانة.
- ألن تأتي؟
- إنني أقوم بدور العذراء، كما ترى، وصاحبي لا يريد أن يفلتني.
ألقى قاهر رأسه الدائخ على كتف غسان، وغسان يطمئن مجدي:
- لا تخش شيئاً، فهو لا يبدو بذي خطر، وأنا، كما تعرف، فتاة متمنعة!
صاح سابو:
- أريد (( سلو )) آخر.
التفت سعيد، وسأل:
- من هذا الذي قال؟
رد مازن ضاحكًا:
- إنه الزرافة!
راح عدنان يردد مؤزارًا سابو: (( سلو)) آخر، (( سلو )) آخر!
كان اسكندر قد تناول مجموعة من الأسطوانات، وقرفص مقلبًا إياها، بينما انحنى أحمد من فوقه، وهو يردد بإلحاح:
- جد لنا روك آند رول.
دفعه اسكندر، الذي من عادته إذا ما تكلم أن يصيح:
- يا له من اختيار فاسد!
سأل مصطفى أحمد:
- ماذا تريد؟
- روك آند رول!
- مع أنها (( بليّة )) حضارية! إلا أنها نافعة لإذابة بعض الشحم! ضعها لنا.
قال اسكندر:
- لن أضعها، فهي رقصة قديمة!
لاح على أحمد الانزعاج:
- الأخ المودرن! إنها الرقصة الوحيدة التي أتقنها تمامًا!
صاح سابو:
- (( سلو )) آخر! أريد أن أحلم!
وأحمد يصيح في نفس الوقت:
- روك آند رول! روك آند رول!
فدفع اسكندر يده في وجهه:
- اسكت أنت!
علق عدنان:
- ما بال القصيران يتشاجران!
التفت اسكندر إليه بوجهه الأبيض وعينيه الساذجتين وأنفه القصير وابتسامته الدائمة. كان أحمد بوجهه الأسمر ورأسه الكبير وأنفه المدور وعينيه الصارختين بالذكاء قد تناول بعض الأسطوانات، وراح يبحث بدوره عن معزوفته.
صاح غسان بسعيد:
- عجل، يا ابن الكلب!
وضع سعيد أسطوانة، وأنزل شريف الإبرة، فانساب النغم، ليقفز سابو محتجًّا:
- هذه ليست (( سلو! ))
جمجم قاهر إثر سماعه اللحن:
- خراء!
أسقط غسان من بين ذراعيه، واتجه مسرعًا نحو البك أب ليغير الأسطوانة، فدفعوه:
- اتركها، اتركها إلى أن تنتهي!
- إنها تشا تشا تشا، وليست لدي رغبة في أن أرقصها حاليًا.
- لأنها تقضي على مجونك، يا عربيد!
- يجب أن أبدلها.
أمسكه مصطفى وسعيد واسكندر، سحبوه حتى السرير، ورموه إلى جانب مجدي. قال له مجدي:
- أهلاً بك، يا رفيق!
قال مصطفى لاهثًا:
- اتركنا حتى نتم الرقصة، يا ملعون!
صاح به:
- هيا! اذهب وهز خصرك الآن! (نادى): يا يوسف، انتبه على فتاتك، وإلا اختطفوها منك!
وأطلق ضحكة رنانة، فقال له مصطفى ممتعضًا:
- من الفتاة فينا، يا ممحون!؟
أخذ يوسف يراقص أحمد، واسكندر يراقص مازن، وسعيد يقف قرب شريف، وعدنان يراقص سابو، ومصطفى تداعب ثغره ابتسامة ماكرة. اقترب من شريف، وجذبه إليه:
- لك سحنة متخلفة لو تعرف، تبعث على الاشمئزاز ككل شيء في هذا البلد، ومع ذلك، فسأراقصك!
- لا أريد، إنني تعب!
- أرى جيداً! سيلهبك الرقص نشاطًا.
عاد شريف يجلس على كرسيه، ثم مال على نفسه. قال مصطفى:
- كنت مزمعًا التنازل لك عن القيادة.
فاتجه سعيد نحوه، وشابكه بالأصابع، مقلدًا صوت المرأة:
- يا للعار! أيجري هذا، وأنا موجودة؟
قهقه مصطفى بقوة، وقال لشريف:
- لقد وجدت لقيطة! لقيطة متحضرة، تراقص الغرباء، لهذا أقبل بها!
وبدأ الاثنان يقومان بالحركات الإيقاعية، فقال له عدنان مبتسمًا:
- حظ سقط عليك من السماء!
عمل مصطفى دورة، وقال:
- إلية سمينة! أليس كذلك؟
وراح يقرض ضحكته بتلذذ، فانتهره سعيد:
- ارقص جيدً، يا ابن الكلب!
ترامى غسان إلى جانب مجدي على السرير، وصاح بهم:
- ولكنها فلامنكو! لماذا تخلطون!
فرد عليه سابو بنبرة رصينة:
- تشا تشا تشا، يا غبي!
وراح سؤال يدور في رأس شريف: (( كيف لا يمكنهم أن يفكروا مثلي؟ )) كان مجرد طرح السؤال لديه مفزعًا، فهم كانوا يبدون، من خلال سؤاله، كشياطين مسحورة. بدأ يتخيلهم، كلهم، بأجسامهم الضخام، وبرؤوسهم الممشوطة، وبحركاتهم العنيفة، الذاهبة الآتية في أخذ ورد، وهم ينقضون عليه، يريدون إحالته إلى قطع صغيرة. ومع ذلك، فقد ظل، هو، منطويًا على ذاته، وظلوا، هم، لا يستطيعونه. أخذ شريف يؤكد لنفسه: إنني لا أفكر مثلهم أنا، ولم يكن يبدو عليهم أنهم قلقون من أجله. كانوا قد حشروه في الزاوية، تاركينه وحده.
- شريف، ما بك؟
لكن السائل ضاع في الحلبة قبل أن يعطيه جوابًا.
قال: (( لقد سأل عما بي، لكنه لم يسمح لنفسه بالقدرة على أن تحزر جوابًا! )) كان شريف مهملا ً، منسيًا، أما عنهم، فلم يكونوا يتقنون سوى بذل بعض الحركات. فجأة، فكر في حركاتهم وإيقاعاتهم، فحسبها ثورة. إلا أن شريف بقي منطويًا على ذاته، يتابع وحده رقصته اللامرئية. وما هي سوى بضع دقائق، حتى انتهت الأسطوانة، وسقط شريف في مستنقع.
صفق قاهر صائحًا بهرج:
- برافو! برافو!
جاء مصطفى، وترامى إلى جانبه، ففصل عنه مجدي، ولف كتفيه بذراعه. كانت تفوح من مصطفى رائحة الشهوة والعرق، اقترب منه بفمه، وهمس في أذنه:
- لا أدري لماذا أحبك، أجد نفسي مندفعًا من وراء عواطفي نحوك، هل تصدق؟!
احمرت وجنتا قاهر:
- لم أرفع عيني عن إليتي سعيد منذ اللحظة التي راح فيها يراقصك.
قال مصطفى:
- إنه (( يروح )) إذا أردت!
وأطلق قهقهته الخبيثة المتصادية.
- ماذا تعني؟
- أعني أنه يفتح بين إليتيه.
وعاد يقهقه.
ابتسم مجدي، وقال بنبرة أبوية:
- لا تبالغ، أرجوك، لا تبالغ!
- بماذا أقسم لك؟
- لا تبالغ!
نادى مصطفى سعيد، وعندما جاء، قال له مشيرًا بإصبعه إلى قاهر:
- يحتاج فقط إلى فرج واحد!
رفسه سعيد، وأطلق شتيمة، ثم التحق بالمحيطين بالجهاز ثانية، وقد غدا جمرًا على الوجنتين، ولبنًا على الإليتين. لم يمتنع مصطفى عن التعليق الضاحك:
- انظروا إلى إليتيه، تعملان رفًا لكبرهما، ولاندفاعهما يخيل للمرء أن سعيدًا يحشو مؤخرته!
فانفجروا جميعًا ضاحكين، وعلق قاهر:
- لسعيد شعر جميل كشعر البنات، وهو كثير الشبه من أودري هيبورن.
ناداه مصطفى متفكهًا:
- يا (( أودر ))!(ثم توجه إلى شريف): أتذكر عندما قلت لنا إن سعيد فتح كرخانة تفوق أكبر كرخانة في هذا البلد المتخلف؟
كان شريف جادًّا، وعندما استفسره الأصدقاء عن صحة ذلك، أوضح: لقد رأيته في حضن سائق تاكسي بينما يقوم هذا بتعليمه القيادة!
أعاد مصطفى ما كان شريف قد أوضحه حينذاك، وعلق:
- أضف إلى ذلك، لقد كانت المنطقة خالية تماماً!
فانفجر الأصدقاء ضاحكين.
قال مصطفى:
- اليوم لا يحتاج سعيد إلى أن يفتح كرخانة، هو نفسه كرخانة متنقلة!
انفجروا ضاحكين أكثر من المرة السابقة. لهذا، إذا أرادوا استفزاز سعيد، ساوموه على إليتيه، لينهال شتمًا على رؤوسهم.
تدخل شريف:
- ليس ما تقوله صحيحًا، فسعيد ذو أخلاق عالية، أما أن سائق التاكسي الذي كان يعلمه القيادة، فهذا أمر لا جدال فيه.
انفجروا ضاحكين مرة أخرى، وأخرى، وكانت تلك المرة الأولى التي يشاركهم شريف فيها المزاح، هكذا فكر عدنان، فبعث ذلك في قلبه السرور... ثم ما لبثوا أن وضعوا لأحمد روك آند رول، وراح يتشقلب كالسعدان.
التفوا حوله يصفقون له، ويحمسونه، فشد أحمد اسكندر من ذراعه، وهو يلهث قائلاً:
- تعال، يا أخي!
لكن اسكندر دفعه عنه، وصاح:
- هذه رقصة القرود، وأنا لي خاصرتان شائختان!
نادى أحمد:
- يا مصطفى!
وهو يواصل حركاته الجنونية، فوثب مصطفى، وهو يقول:
- إلى الجحيم نصف كيلو من الشحم الثمين! وفوق هذا، فهي رقصة حضارية!
صاح يوسف به:
- وعصير الحامض أيها المتحضر، ألا يكفيك؟ أم أن شحمك يقاوم الأسيد!
لكنه لم يجبه، كان قد انسجم مع الرقصة الحيوانية.
تذكر عدنان وصفته لمصطفى، ذات مرة، لما قال له: (( اشرب نصف كأس من عصير الحامض كل صباح بعد نهوضك من النوم مباشرةً دون أن تضيف إليه لا السكر ولا الماء، فينقص شحمك! )) كانت تلك وصفة ((عدنانية )) كما كان يدعوها مصطفى، وقد قبلها رغم أنها ليست ((حضارية )) .
أشار عليه عدنان أن يذهب إلى الكلية مشيًا على قدميه صباحًا ومساء، مما يساعد أيضًا على تنقيص بعض الوزن، طالما ليس باستطاعته تنقيص بعض الأكل، مع أن مصطفى لم يكن بالسمين إلى ذلك الحد المفزع الذي كانه يوسف مثلاً. كان يقول إن لي صدرًا سمينًا ((متخلفًا )) تخشاه البنات، إذا ما وقعت نظرتهن عليه، فلا يعدن يغرمن بي. ولهذا السبب، تمنى أن يكون له صدر نحيف مقوس، صدر ((حضاري )) كصدر عدنان أو سابو. البنات كن همه الوحيد، وكان لا يريد أن يمتنعن عن حبه بسبب صدره العريض! على عكس يوسف، كان هذا الصدر العريض، وسيلة إغرائه الوحيدة، وقد كان به فخوراً.
راح يوسف يضحك متابعًا الرقصة المجنونة، وهو يهتز مع الريح، فهمس مازن في أذنه:
- لك جثة حقيقية! جثة عبقرية!
فضاعف يوسف من اهتزازه مزهواً.
كانوا يطلقون على جسمه الضخم كلمة (( الجثة! ))، وفي نفس الوقت، على كل جسد أنثى جميل. وإذا ما أراد عدنان أن يسيء إلى شريف، فما كان عليه سوى أن يدعو أول فتاة جميلة يصادفونها بالجثة. شريف وحده من كان يثور، وينفعل، ويشمئز، عند سماعه للكلمة، فيقول لهم: قولوا عنها جسدًا، فخذًا، شيطانًا، قولوا عنها جحيمًا، ودعونا من الجثة، فهي للأموات!
أخذ مازن يصفق بحماس، وعندما تلوى أحمد بين ساقي مصطفى قاذفًا بنفسه كالسمكة، فتح فمه على سعته، وبانت أسنانه المسوسة. رنا سعيد إليه بمحبة: كان لا يشبه شريف، رغم أنه الأخ الأصغر بعام. بدا مازن ناعمًا جدًّا، رقيقًا جدًا، شفافًا جدًّا، بقامته النحيلة، وكبسة شعره كعرف الديك، وأنفه كحبة التين.
حك قاهر شعره الأجعد، على منظر الشيطانين اللذين يرقصان على إيقاع السكسفون، وسالت سعادة (( محسوسة )) من عينيه، سعادة معللة، فلم يكن قاهر ليقبل إلا ما هو معلل، وحتى سعادته: (( يجب أن يجد سببًا ))، ومع ذلك، فقد كان الأصدقاء ينظرون إليه نظرة تقديرية، لم تكن صادرة عن سبب، ولم تكن معللة لديهم على الإطلاق. وهو بالذات، مع أنه كان يرتضيها عن طيب خاطر، إلا أنها كانت بالنسبة إليه ضرورية، تدفعه إلى الشعور بقيمته، التي كان من العادة ما يحتاج إليها بعد تعليله لبعض المواقف.
من قلب الضجيج، صاح مجدي بشريف، صياح من له بطبيعة الحال حنجرة مبحوحة:
- لماذا عدت تنطوي على نفسك؟
رفع عليه شريف وجهًا طافحًا بالضجر، فقال مجدي:
- تعال، أريد أن أحادثك.
نهض شريف في اللحظة التي سقط فيها أحمد على مؤخرته، فتضاعف صياحهم الصاخب. انحنى يوسف على أحمد، ورفعه كالطابة، ثم ألقاه بين أذرعهم. كان يوسف يحبه لحظتذاك كثيرًا، وقد توهج وجهه إثر رفعه له.
راح يردد، وهو يلهث:
- يرقص بلا عظم! بلا عظم! يرقص بلا عظم!
دفع أصابعه عليه، وأحمد يتقهقر متلاهثًا متفاخرًا مبتسمًا، ويوسف لا يتوقف عن ترداد:
- يرقص بلا عظم! يرقص بلا عظم!
قال أحمد مزهوًا:
- إنها الرقصة الوحيدة التي أتقنها تمامًا.
انطرح شريف إلى جانب مجدي، كانا (( وحيدين ))، أما عن سائر الأصدقاء، فقد كانوا يحيطون بالجهاز، وكانت تبدو بينهم مشاجرة صغيرة: كان كل منهم يريد (( أسطوانته )) .
مال مجدي على شريف، وسأله:
- لماذا لا ترقص؟
أجابه شريف، وهو يشعل سيجارة:
- أنا أغرق في الدخان!
ضحك مجدي:
- منذ متى لم تلتق بإنعام؟
- منذ عدة أيام.
عاد مجدي يضحك:
- هل هو الحب الذي يهلكك؟
قال شريف بنبرة وخيمة:
- أنا لم أعد أحب!
مد مجدي يده، وتناول من صندوق شريف سيجارة:
- أنت تحب، يا عزيزي شريف، أنت تحب، ورب الكعبة!
اقترب منهما عدنان واستند بذراعه على العريش، فأشار شريف إليه:
- لو قلت عن هذا يحب لصدقتك، فهو لم يزل طفلاً، أما أنا، فلم أعد أحب، أقول لك الصدق، أنا لم أحب أبدًا!
شدت كلماته عدنان، فانحنى، وجلس نصف جلسة. قال شريف:
- إنني تعب، إنني بائس، إنني حزين، إنني نجوى هاربة، إنني كابوس مرعب، إنني دخان سيجارة، إنني أهوج أو مستسلم، إنني جميل أحيانًا، إنني بشع أحيانًا، أما أن أحب، فهو من السخافة!
ضحك مجدي، وتكلم، لكن أحدهما لم يفهم من كلامه شيئًا. كان شريف قد سمع أنه قال شيئًا فيه دفاع عنه، وكان عدنان قد أصغى، ورأى كيف خرجت من بين شفتيه الكلمات، لكن مجدي، أحياناً، كان له منطق الأبله.
قال عدنان:
- ونحن نرقص سألتك عما بك؟
رفع شريف إليه رأسًا يضج بالذكرى: لقد جرى ذلك منذ دقائق، ومع ذلك، فقد حسبه منذ زمن بعيد. راحت عينا شريف تلمعان بضياء شديد:
- إذن أنت هو من سألني؟
هتف عدنان بقلق:
- لا أدري ما الذي أصابه!
سكت ثلاثتهم عندما انبعثت الموسيقى من جديد، أخذت الموسيقى تنوح، وبدأت الخصور تتمايل. كانت خصورهم تصنع غابات، وكانت رجولتهم تشرأب إلى أعلى مقاومة ضغط أصابع الطاعون، وكانت في الحجرة رائحة إناث.
قال شريف فجأة:
- إنني أشتهي كأس بيرة.
دبت من حولهم ضحكات متتالية فيها مجون ورغوة تلطخ المسامع، انشدوا برؤوسهم إلى سعيد. كان يضحك كعاهرة، وسنه الأصفر الصناعي المحتل نصف لثته العليا يكاد يسقط. انحنى على الأرض، وراح يواصل الضحك. من أمامه، وقف مازن باهت اللون، وهو يرفع ذراعيه. كان مازن يبتسم بغضب لأن سعيد يضحك منه، ومع ذلك، فلم يكن يعرف لماذا.
طرف قاهر بعينه إليه، ثم غاب في أحضان أحمد. كان يقوم بدور الأنثى، فأحمد دومًا يرفض الدور. وبين يديه المشدودتين، كان أحمد ذو القامة القصيرة يبدو قزمًا. ضربه مازن بقدمه:
- ماذا جرى لك، يا ابن الكلب؟
نهض سعيد بنفسه نصف نهضة، وهتف:
- لقد دفعني بقضيبه، إنه يريد إثارتي!
ضحك اسكندر بملء فمه، بينما ابتسم عدنان وشريف، وأخذ مجدي ينفخ سيجارته. ومرة أخرى، ضربه مازن بقدمه:
- هل أريد إثارتك، يا فرج الحمار!
استطال سعيد، واقترب منه مصالحًا:
- هيا! هيا! لا تغضب! أريد أن أراقصك، فلم تنتهِ الرقصة بعد!
لكن مازن أخذ مجلساً على طرف، وقد ازرقت شفتاه. كان مغتاظًا، مما دعاه إلى النبر في وجهه:
- اذهب عني، أنا لا أراقص مماحين!
قال عدنان لشريف:
- ماذا تقترح؟ إذا أردت بعنا الخاتم، وشربنا بثمنه بيرة.
نظر شريف من طرف عينه إلى خاتم الذهب في إصبع عدنان الأوسط، وقال:
- لا حاجة لنا إلى بيع الخاتم، فسأتدبر أمري.
ونهض.
قال مجدي:
- لا تضعني في الحساب، فأنا ذاهب.
- لن تذهب.
- كما أقول لك، لقد وعدت الوالد ألا أتأخر.
- اسمع الحاج! لن تذهب!
نهض مجدي واقفًا، وأمسكه من ذراعه:
- سأذهب على التو (ثم أضاف بهيئة مهيبة): لقد جئت من أجل كلمة.
بانت على محيا شريف علامات الاهتمام.
عادا يتراميان على السرير، وشريف يلتفت منشدًا إليه، والحشائش في عينه تغدو سوداء. قال يستحثه على الإفضاء بما لديه:
- ماذا هناك؟
خفض مجدي صوته:
- لقد استدعوني إلى المحكمة.
ومن جهته، أخذ عدنان يصغي إليه بكل حواسه.
أضاف مجدي ببسمة مستنكرة:
- إنها القضية ذاتها.
وغدت رموشه أشواكاً.
قال شريف:
- ها هم إذن يقومون بالتحريات!
- ماذا تعني؟
- أعني أنهم لم يستدعوك إلا بعد أن عرفوا أنك صديقي.
أرغى مجدي وأزبد:
- إنني متهم من السابق، فهم لم يمسكوا عليّ شيئًا، وقد وجدوها فرصة.
- وماذا تعتقد أنهم فاعلون؟ ليس لديهم أي برهان ضدك، وصداقتي معك لا تعني وضعك في قفص الاتهام.
ضرب مجدي السرير بظاهر يده:
- ولكنك لم تفهم ما أعنيه!
قال شريف بنبرة عاجلة خالية من الاضطراب:
- قل لي بالله عليك، ما هي علاقتك بالحزب؟ وما مدى انغماسك فيه؟
- إنني متهم كقومي عربي.
- وما علاقة هذا بذاك؟ أنت بعيد كل البعد عن حزب تدور حوله قضيتي. هل أزيدك علماً؟ لقد استدعوا أيضًا ثلاثة شيوعيين وثلاثة بعثيين وأحد الإخوان المسلمين واثنين من حزب التحرير! ستكون مهزلة! مهزلة حقيقية! وأنا لا يهمني الأمر طالما هناك خلط. إن هذه القضية مآلها الزوال، وسترى، كما أقول لك، ولتقل شريف قال. إن قضية كهذه لن تدوم أكثر من جلستين أخريين، وبعدها سيتركوننا نسحب الكفالة.
همهم مجدي:
- أخشى أن يكون مآلها الانفجار!
صاح شريف باسكندر الجالس قرب البك أب:
- أوطئه قليلاً، يا اسكندر.
أوطأه اسكندر قليلاً، ثم عاد يرفعه.
قال مجدي:
- أصبحت لا تهم حزبًا واحدًا فقط بل أحزاب.
ضحك شريف بلا صوت، وهو يزم رؤوس أصابعه، ملقيًا إياها:
- ستكون مهزلة!
- آه! لا تتفاءل، لا تتفاءل!
- كما أقول لك، تصور الحاكم بأبهته العسكرية، الجالس من وراء حاجز التبريك، ومن أمامه أصحاب القضية والشهود والحضور والحاجب الماسح لشاربيه الصنميين، تصوره وهو غارق في الحديث عن شيوعية حزب البعث وناصرية حزب التحرير! سنفطس من شدة الضحك! وسينتهي بنا الأمر إلى البصاق عليه.
- على كل حال، سنرى، أرجو أن يصح حدسك.
- لا تسمه حدساً، ولتقل شريف قال.
نهض مجدي مبكرًا كما وعد أباه، وأخذ يسلم عليهم واحدًا واحدًا، بينما أرجع لغسان نظارتيه. سأله شريف:
- وهل تخشى أن يطردك أبوك؟
- إنني لا أخشى، ولكنني أحترم.
سار شريف معه حتى الباب، وسعيد يدلف من أمامهما إلى المرحاض. قال شريف:
- من الأفضل أن نقلل من لقاءاتنا هذه الأيام.
- هذا رأيي أيضًا.
صاح مجدي بالأصدقاء:
- إلى اللقاء، يا إخوان!
هتف مصطفى بمكر من طرف:
- إلى اللقاء، يا رفيق!
ومزقت زوبعة الضحك حنجرته. عندما أصبح مجدي في معبر الحديقة، سأل قاهر بمكر صاحبه عن الطريقة الساخرة التي هتف فيها مصطفى:
- لماذا دعوته بالرفيق، أيها المتحضر؟
ولم تزل ضحكة مصطفى الرنانة تتصادى في آذانهم:
- أعرف أن ذلك يسره، أيها المتخلف، فكلمة الرفيق تلعب ببيضاته!
قال عدنان:
- تأدب!
وزأرت الموسيقى، فدقوا أقدامهم في الأرض بمجون.
بعد أن ودع شريف مجدي، اعتلى الدرج، ودخل منزلهم. كان أبوه يقرأ جريدة في حجرة الجلوس، فاقترب منه، ووقف مقابلاً إياه. وحالما خفض أبوه الجريدة، بادره شريف بقول:
- أنا بحاجة إلى نصف دينار.
تفحصه أبوه ملياً، ثم عاد يرفع الجريدة. قال شريف بإلحاح:
- أنا بحاجة إلى نصف دينار، أريد نصف دينار!
بدأ شريف يرتعش، وقدماه ترتجفان. اصفر وجهه كحبة الليمون، وأبوه كالتمثال لا يحرك ساكناً. سمع شريف حركة في المطبخ، ففكر: هذه أمي! وكأنها مدته بالشجاعة، مد أصابعه، وثنى الجريدة. قال بنبرة متماسكة:
- إنني أتكلم معك.
فهب أبوه صائحًا:
- دع الجريدة! ماذا تريد؟
- نصف دينار.
- أخذته أمس.
- اليوم هو اليوم والأمس هو الأمس! الأمر يختلف!
تساءل الأب ساخرًا:
- ما هو هذا الذي يختلف؟
- اليوم ليس الأمس.
صفق الأب الجريدة، وهو يهتز من شدة الغضب:
- اهبط وإلا أهبطت على رأسك الدنيا!
- أنت تهددني؟
- أعطيتك أمس نصف دينار، وها أنت اليوم، وبعد لم يكتمل النهار، تطالب بنصف آخر، أين تذهب بنقودك، قل لي، أريد أن أعرف أين تذهب بنقودك؟
- ليس من شأنك أن تعرف.
- ليس من شأني! طيب! إذن، اذهب من هنا، لن أعطيك مليمًا واحدًا!
صاح شريف، وقد ذهبت عنه رجفة قدميه:
- سوف تعطيني، سوف تعطيني، وإذا لم تعطني أخذت.
- أخذت!
- نعم، أخذت!
طوى الأب قدميه من تحته، وجحظت عيناه:
- اذهب، وخذ، لنرى!
صفق شريف نعله بحمية، وهرول صوب حجرة النوم، فصاح الأب بأم شريف:
- تعالي تشاهدين ابنك ماذا يفعل!
لكن الحركة في المطبخ كانت كبيرة، فلم تسمعه أم شريف، مما اضطره إلى النهوض لاحقًا إياه.
في المرحاض، كان سعيد يقبض على فرجه، وهو يستجدي فخذين بيضاوين انتصبتا في خياله، عجن فيهما الزبدة والنار، وأخذ يلهث. عندما وجد أبو شريف ابنه، وقد فتح الخزانة، ودفع يده في جيب بذلته، أطار له عقله:
- انزع يدك، يا لص!
قبض شرف على الأوراق النقدية بأصابع محتقنة، وجعله الغضب يهتف:
- لا تدعُني لصًا، فهذه ليست سرقة!
أمسكه أبوه من ذراعه:
- ماذا تسمها إذن؟ قل لي، ماذا تسمها إذن؟ هات النقود!
- لن أعطيك إياها!
أنشب الأب أظافره في وجنته، وهو يتوسل مجيء الأم:
- تعالي تشاهدين ابنك! أردته أن يكون محاميًا لا سارقًا، يسرقني وأنا حي!
انتزع شريف ذراعه من يد أبيه، وأخذ دينارًا ثم ألقى بالباقي على السرير، وانسحب بخفة. سالت دموع الأب، بينما هرولت الأم مذعورة، وسعيد يلهث، ويغوص في الفخذين البيضاوين، يلهث، ويغوص في الزبدة والنار، إلى أن هدمته اللذة، فأطلق بين أصابعه، وغطس في المائع المهلك.
لم تتوقف الموسيقى عن الزئير، دخل شريف في الدغل، وهو يمسح خيوط الدم عن وجنته. جذب عدنان المراقص لسابو، فلاحظ سوء حاله:
- لقد حصل شيء.
- أبدًا، ذهبت أقطف بعض اللوز، فجرح وجنتي عرق (أضاف بسرعة، وهو يشاهد آثار دمه على المنديل): أرغب في التمشي، لتقترح عليهم الخروج.
انعطف عليه عدنان، وقد ضرب قلبه بعنف:
- ماذا جرى؟ قل لي! لا تخف عني شيئًا!
ابتسم شريف ابتسامة غريبة، فراح عدنان يتابع الابتسامة بخوف وهلع، كان عدنان يرقب بصبر، منذ مجيئه الوجود، ويكاد يفرغ صبره، ابتسامة كهذه، كانت ابتسامة تعنيه، وهو لهذا شقي... شقي...
قال شريف:
- كذبت عليك! لقد تشاجرت أنا والوالد. يريدني أن أصبح محاميًا.
وخرجوا إلى الطريق.
كانوا أينما ذهبوا ينقلون معهم صخبهم وفوضاهم، وكان سابو قد خف سابقًا الجميع، وصاح بصوت دقيق:
- الكبش الذي له إلية كبيرة أول من يقفز!
انحنى سابو بحيث عمل العدد ستة، ثنى رأسه الحليق بشعره المنتصب كفرشاة النايلون، فبان كالكُلاب. جاء يوسف يجري، كالداخل في معركة، بعد أن ابتعد مسافة مناسبة، حط كفيه على ظهر سابو، ووثب. كان ظهر سابو المقوس قد انهزم إثر القوة الطوربيدية التي عبرت من فوقه، بعد أن جثمت عليه لحظة، فتزحزح مرتخي المفاصل. اصفر لونه، وشعر بالجوع، بينما أخذ يوسف مكانًا على مقربة منه، ألقى برأسه كالمرساة، وهو يخنفر بسبب الجهد الذي بذله، و(( اللحمة )) التي في أنفه. جاء اسكندر يعدو، وهو يصيح محذرًا:
- اخفض رأسك!
وثب، ووثب، وأخذ مكانًا إلى جانبهما.
تبعه قاهر ومصطفى وعدنان، وجاء دور أحمد:
- أشك في قدرتي، فسابو من الطول، بحيث يحتاجني ذلك إلى سلم.
وثب، وإذا به يركبه، فسقط كلاهما.
- يا ابن الجن!
- لم أكن أقصد.
ضرب سابو بقدمه الأرض، وصاح:
- هذه لعبة غزلان!
جذب يديه وساقيه، ورقّص رأسه، فإذا به يعود كُلابًا:
- اقفز من جديد، ضاعف المسافة، واعدُ بقوة.
رفع يوسف رأسه، وأحمد يضاعف المسافة:
- أفت... أوجعتم لي ظهري، يا أبناء الكلب!
بينما أخذ مازن يخاطب أحمد بعصبية:
- هذا يكفي، هيا اقفز، هذا يكفي!
ولم يزل أحمد يتقهقر بروية، ووجهه إليهم، ومازن يصيح متحمسًا لدوره:
- ما بالك تدعس على بيض!
قال أحمد:
- المسافة ليست كافية.
ضرب مازن بقدمه الأرض، وهو يصيح بحنق:
- يدعس على بيض! يدعس على بطاطا!
انخطف كالبرق من أمامه، ووثب، ثم راح يكرر الوثبات، ومن تحته عروش تتهدم!
اندفع بعده سعيد، وغسان يراقب. صاح به:
- سوف تزل قدمك.
كانت لسعيد أول وثبة ناجحة، وبعد ذلك، تراخت قدماه، فاصطدم بيوسف، وانهدم عليه، بينما أخذ يوسف يلعن:
- طالما لا تعرف، لماذا وثبت؟
ضحك غسان بقوة:
- كنت أعرف أنك لن تنجح، فلك ساقا نعجة!
أخذ يوسف يحس أنفه، وسعيد يفتح باطن يديه، ويتابع الانبثاق الدموي الخجل فيهما بعد أن انسحقتا مع ملامسته لحصى الطريق. صاح سعيد بغسان مغتاظًا:
- لقد نحستني!
رد عليه غسان رد النابلسيّ القح ملوحًا بيديه:
- الداءات!
سار غسان وشريف بحيث تجاوزا الفريق، التفتا إلى أحمد، وهو يعدو متصايحًا:
- انتبهوا! انتبهوا على بيضاتكم!
أمسك يوسف ذراع سعيد، وجذبه:
- تنح جانبًا، يا سلحفاة!
- إنني أتنحى.
هتف سعيد بيوسف بعد أن وثب أحمد من فوق سابو:
- تماسك!
ووثب أحمد من فوق يوسف بنجاح، وعاد يثب، وعاد يثب، وعاد يثب، ولم يستكمل انتصاره، انطرح من فوق مازن، فانقدف الاثنان.
- يا عرص! كسرت رأسي!
- لقد تعثرت.
- أسمعتم؟ لقد تعثر الغزال؟
جاء صياح سابو المغرور:
- الدور لي الآن!
سارع أحمد يأخذ مكاناً، وهو يفكر: إنه دور الزرافة!
قال شريف مشيرًا إلى سابو:
- انظر إلى الهندي، وهو يقفز!
كانت أم سابو فعلاً هندية، فحلّقت الفيلة بأجنحة سحرية في اللحظة التي تقوست فيها قدماه باطمئنان شديد، وارتفعتا عن الأرض نصف قدم، ثم ندفتا قبل أن تطآ الأرض من جديد. كان بإمكانه أن يعبر من فوق ظهورهم المتعبدة لحجارة المنازل المقابلة دونما حاجة به إلى القفز: كان لا يتطلب منه ذلك غير فتح الساقين، ثم الاجتياز، وكفى.
سأل غسان:
- ألا يأكل، يا ترى؟ زرافة، وقلنا نعم، أما أن يكون هيكلاً عظميًا...
- يرعى دومًا كالغنم، وفي إحدى المرات لشراهته أراد أكلي!
- ليس لديه قفا!
- يكون عوده هكذا!
وصل مسامعهم زامور سيارة، فصعد بعضهم على الرصيف، وبعضهم الآخر رفع ساقاً، وفتحوا لها الطريق. وبعد أن مضت السيارة، عاد أحدهم يقفز من فوق الآخر، وهم يصنعون اللجب والضجيج.
قال غسان:
- لو كان سابو في الكويت لرموه للكلاب!
التفت شريف مصغيًا:
- لقد كنت في الكويت أنت.
- مكثت فيها أعوامًا، وكانت لي وظيفة محترمة، لكني آثرت الرجوع لأبقى قرب أمي.
افتر ثغر شريف:
- أما أنت، فكان بإمكانك أن تفتح سوقًا هناك، فهم يشتهون أمثالك.
أرغى غسان، وأزبد، بلهجة نابلسية عريقة:
- غراب البين يأخذك! كان بإمكاني أن أعود محشوًا، وتحت مؤخرتي سيارة، لو شئت لنفسي أن أخلع.
أضاف، وهو يرافقه ذراعًا بذراع:
- أنا لا أحتمل بعصة، فكيف الفرج!
سأل شريف:
- وهل راودوك؟
- قلت لك كان بإمكاني أن أعود محشوًا ( ثم أضاف بشيء من الرضى): أفضّل أن أبقي قرب أمي، وعاطلاً عن العمل، على أن أعيش منعمًا في الفجور.
سمعا سعيد، وهو يقعر صوته:
- دعوني أقفز للمرة الأخيرة.
ولكن الجمع كان قد تفرق، بينما راح يوسف يعدو في إثر قاهر. علق مازن ذراعه على ذراع عدنان، ويوسف يهدر:
- يجب أن أسدك إياها... يجب أن أسدك إياها...
احتمى قاهر بشريف وغسان، بعد أن ارتدا مع اندفاعه. كانا قد فصلا بينهما، ويوسف يمد يده بينهما محاولاً إمساكه:
- لن أتركك حتى أسدك إياها.
سأله شريف بعصبية:
- تسده ماذا؟
لكنه اخترقهما، فاستدار قاهر لهفًا، وأخذ مكانه.
- أريد أن أسده إياها، حتى ولو صعد إلى السماء!
زعق شريف حانقًا:
- تسده ماذا؟ أصبح الأمر لعبة أطفال!
غدا لون يوسف أبيض، والدم في وجهه باردًا تمامًا. قال قاهر وعيناه الذكيتان تتقدان:
- أردت ممازحته، فأنا مسافر.
وفي اللحظة ذاتها انقض يوسف عليه، وهو يشبك أصابعه، وبظاهر يده اليسرى أهال على رأسه، فارتج. انفرجت هموم يوسف، وجعله الانتقام يهتف:
- لقد أرجعتها... لقد أرجعتها... (( فَقُّوسَةَ الوداع ))... لقد أرجعتها!
كان مازن وعدنان يتهامسان كطيرين أنانيين، فخاطب مصطفى سابو بلهجة حردة:
- تعال، لديهما أسرار، هذان المتخلفان!
بدا عليه التألم، وفي تلك اللحظة، ناداه غسان:
- يا مصطفى!
فتمتم مازن:
- الحمد لله الذي بعث في طلبك!
عاد مازن وعدنان يتهامسان، قال عدنان إنه بحاجة إلى وساطة عمه الوزير لأجل أن يصبح أستاذًا. لم يفكر في هذا: في وساطة العم الوزير، وفي أن يصبح أستاذًا، إلا الآن، وهو متفاجئ للأمر: لِمَ لا يكون ذلك، فيحل مشكلاً مزمنًا؟ طلب إليه مازن أن يحدث شريف في الأمر، ثم مال على أذن عدنان، ووشوشه بالإنكليزية:
- حدثني الآن عما يجول في خاطرك من خيالات جهنمية.
- إذا بدأت، فلن أنتهي.
- لا عليك، ابدأ، ولا تنته!
كان ينشد على كتفه كطفلة!
قال عدنان:
- أنا سيد قصر مليء بالجواري، وأنا وحدي، والجواري كلهن عرايا. وفي كل ليلة، نجتمع معًا في الصالون الباذخ، ونأخذ مجلسنا على الأطلس. أجلس أنا في الصدر، ومن حولي الجواري، ومن حولي العواميد. أنام مع سبع منهن، أطرحهن لصق بعضهن، وأضاجعهن في آن واحد...
قطعوا شارع (( رفيديا )) كله، وكل واحد منهم يغرس رأسه قرب رأس الآخر، فيتشعب الخيال والحديث والنَّفَس، وتتشعب الأيادي والأعناق والأحلام، يركبون المحيط، أو يحلقون صوب أجرام مجهولة، وصوب سماوات أخرى، لكن نقطة واحدة تبقى تغطيهم، نقطة أهملها رأس قلم، تبقى سرهم.
تساءل شريف: أحقًا أقطع أبعادي؟
صاح يوسف مجلجلاً، وصياحه يصنع في الآفاق مدًّا وجزرًا. رفع قبضته إلى أعلى، ثم خفق بقدمه الطريق:
- لقد قرر أبي منذ كنت طفلاً صغيرًا أن أصبح طبيبًا، ولكن الطب ليس بالأمر الهين.
قال قاهر:
- ولماذا لا تصبح مهندسًا، الهندسة شيء جميل! وأنا، أتظن أنني فكرت يومًا في أن أكون مهندساً، لكني مزمع على مواصلة الدراسة، لأعود، وأبني وطني.
استنكر يوسف:
- هذا عار!
- ماذا تقصد؟
- كيف تقبل؟ كيف ترضى؟ لقد جردوك من جوهرك تمامًا!
- وماذا يمكنني أن أفعل؟ فهو المعدل، وأنت تعرف أنني لم أحصل على (87) لأتمكن من دخول كلية الطب، مسألة المعدل هذه مصيبة كبيرة! ثم، المهندس بإمكانه أن يبني الوطن، وأنت تعرف كم أنا أعشق نابلس، أعشقها حجرًا حجرًا، رصيفًا رصيفًا.
بدا يوسف على وشك التمزق إشفاقًا عليه:
- ما يتبقى أن تضاجعها هذه الحجارة المنهارة وتلك الأرصفة القذرة! أنا أعرف لن تقول لي هذا لو غدوت طبيبًا.
ضحك قاهر، وحاول التخفيف من تحامله:
- خلصنا، يا أخي! فهو أنا من ألزم نفسه بذلك. كان بإمكاني، فيما لو اجتهدت أكثر، أن أدرس (( رئيسًا للوزراء ))، كان الأمر بيدي.
أكد يوسف:
- أما أنا، فسأثبت لك أنني طبيب منذ صغري، ومسألة المعدل هذه فارغة، لن أسمح لنفسي أن تقبلها علة. لقد اخترعوها للتعقيد، وأنا قررت يعني قررت!
سأل قاهر محاولاً استدراجه:
- كلمني بصراحة، ما هو السبب الحقيقي الخافي وراء عدم متابعتك لدروس الهندسة؟ إنه قرار تراجعي، وأنا، على أي حال، أشك في أن تكون انهزامات لديك!
- دوافع لا انهزامات! وما أرجوه أن تذكّرني بحديثنا هذا في العام القادم.
تظاهر قاهر بالحرص على صالحه:
- أتمنى لك التوفيق، هذا كل ما أتمناه لك! (وبعد قليل سأل): قل لي، وماذا أنت بفاعل، كي تحققه هدفًا؟ هأنذا أعتبره هدفًا كما ترى.
قال يوسف بثقة عميقة:
- سأهزم المعدل بأصحاب المعدل، القانون بأصحاب القانون! إن أبي يتصل ببعض المهمين!
أخذ الشارع يطلع إلى فوق، يطلع إلى فوق، وسور الحديقة الدائر بمنزل الدكتور الخالدي يطلع إلى فوق. كان الشارع هادئًا، وبين مسافة وأخرى، كان يمضي بهم عابر يتبع ظلاً أو بنت صغيرة تحمل غرضًا.
فجأة، إذا بشلال من الشتائم يصب من فم سعيد، وهو يركض في أعقاب مازن:
- يلعن دين! يلعن دين! يلعن دين!
التفت مصطفى إليه ملدوغًا، واكفهر وجه شريف، وثارت غيرته. اندفع سعيد من وراء مازن، قرب شريف، وشريف يجمجم:
- دينك يسخطك!
- يلعن دين!
- اخرس، يا ابن الكلب!
- يلعن دين!
- اخرس، يا عاهر!
لمح مازن فتاتين، وهما تتهاديان من أمامهم، فابتسم، وأسنانه ((اللبنية )) تثير حب عدنان.
نبر شريف:
- خلصونا من عهركم!
رمى سعيد بيده صوب مازن:
- هات النظارات!
- لن أعطيك إياها! أكره أن أشاهدك بها، وطالما لم تضعها طوال نهار كامل، فعليك أن تستمر دونها. هذه نظارات للمطالعة، وإذا وضعتها دومًا، لحق بعينيك ضرر.
صفق سعيد قفاه، وأخذ يقول بلمسة جنونية:
- علمني ما ينفع عينيّ وما يضرهما! أنا أدرى بصالح عينيّ منك، أيها الجبان! أنا من يرى بهما، وليس أنت!
لم يتماسك شريف:
- خلصنا من عينيك ومن حماقتك! ( ثم خفض صوته، وأخذ يخاطبهما معنفًا مؤنبًا): ألم تريا من أمامنا؟ ( عاد يلتفت إلى سعيد): أم أنك بحاجة إلى نظارات؟ (وقال لمازن): أعطه نظاراته ليجد أخلاقه.
- سأعطيه بشرط ألا يلبسها.
هدد سعيد، وهو يلوح بإصبعه:
- إذا لم تعطني كفرت! وحطمت الدنيا على رؤوس البشر كلهم!
قبض شريف على ذراع أخيه، وأخذ منه النظارات، ليأخذها سعيد بدوره:
- خذ، يا فضيحة!
نبر سعيد بنهاية بطولية:
- يلعن دينك!
وتّر شريف أصابعه في وجهه، وجعله الغيظ يهدر:
- وفر علينا أخلاقك! وفر علينا لعناتك!
وضع سعيد نظارته ذات الزجاج الشاحب، وأجال نظره بين شريف والفتاتين اللتين تهتزان بردفيهما أمامهم، ثم أطلق ضحكة قوية، وهتف:
- بعصة! بعصة قوية!
قذفه شريف بيده حتى أسكته. قال سعيد، وقد لاح عليه الندم:
- بعد الآن يمكنني أن أصلح نفسي.
نبر شريف:
- اذهب عنا، واتركنا وحدنا!
لكن سعيد همهم:
- لا تخش مني سوءًا بعد الآن، لقد عادت لي أخلاقي.
تنهد شريف، وتوجه بالسؤال إلى مصطفى:
- هل تعرفهما؟
- أعرف إحداهما، الطويلة المتحضرة!
سكت قليلاً ثم أضاف:
- وهي تسكن في الجبل الشمالي، ليس ببعيد عن دارنا.
- والأخرى؟ إن ما يهمني الأخرى، الصغيرة.
ضحك عدنان، كان شريف قد فهمه، ومع ذلك، فقد توجه إليه بالسؤال:
- لماذا تضحك؟
تمتم عدنان:
- آه منك، يا ساقط!
علق غسان:
- مؤخرة الصوص مؤخرتها، أما الأخرى، فتؤكل!
علق مصطفى:
- إنها صغيرة بما فيه الكفاية، لم تتعد الرابعة عشرة، كيف أعجبتك، تلك المتخلفة؟
قال شريف متأملاً طفولة الساقين، وصلوات الردفين، والخطوات المهملة:
- إنها (( لوليتا )) رائعة!
ضحك مصطفى بقوة، ونادى بأعلى صوته:
- لوليتا! لوليتا!
جدف شريف:
- اسكت، اسكت، لقد سمعتك!
بينما كان سعيد يجمجم:
- بعصة أخرى!
قال عدنان:
- أنا أشتهيها ناضجة! أشتهيها ذات جسد ملتف كالجثة!
صرّ شريف أسنانه:
- إبليس رجيم!
قال غسان:
- لكل ذوقه.
عاد مصطفى ينادي بأعلى صوته:
- لوليتا!
ضغط شريف بيده على كتفه، والفتاة الطويلة تلتفت، وتبتسم. قال مصطفى بزهو:
- أرأيت؟ هذا هو الشغل!
سحب شريف عدنان من ذراعه:
- تعال معي.
صاح بهما مصطفى:
- صيد موفق، أيها المتخلفان!
عندما اقتربا من الفتاتين، همس شريف في أذنه:
- خذ الجثة، أما لوليتا، فهي لي.
- وماذا سنفعل؟
- سنتجاوزهما إلى الطرف الآخر، وما عليك سوى أن تلتفت بين آونة وأخرى، وتبتسم.
- هذا سهل. وبعد ذلك؟
- إذا وجدنا تجاوبًا ألقينا الشبكة.
قال أحمد:
- بإمكاني أن أسوق السيارة الفورد الرسمية، لكني أكتفي باللاندروفر.
علق اسكندر:
- أبوك القائد، تستطيع أن تفعل كل ما تشاء.
- كل ما أشاء ما عدا شيء واحد فقط.
- ما هو؟
- أن أحبه.
تحمس اسكندر:
- وهل تكرهه، هل تكرهه إلى هذه الدرجة؟
- أتساءل أحيانًا إذا ما كان حقًّا أبي!
انحنى قاهر على يوسف دون أن يتوقف عن السير:
- أما أنا، فأحب أن أجد نفسي مهندسًا، أرى ذلك من الفنيّات، والهندسة تروق لي! الهندسة تبني الوطن!
مطمط يوسف شفتيه، ونبر:
- طز في الوطن!
بينما عدنان وشريف قد ابتعدا، وفيلا رئيس البلدية قد منعت عن مصطفى وغسان متابعة الجولة التي بدآ مشاهدتها منذ زمن وجيز.
قال اسكندر لأحمد:
- أما أنا، فأحب أن أكون قائدًا، وقائدًا كبيرًا كأبيك.
قال غسان:
- كان بإمكاني أن أصبح ضابطًا في الجيش، ولكني رفضت، أولاً لأن النابلسي مغضوب عليه، وثانيًا لأنهم يبعثونه دومًا إلى حدود السعودية. ورغم أن أختي تعمل معلمة في جدة إلا أنني أقول لك لا، فليبعث الله!
صهل سابو كالفرس البري، فأضاف مازن:
- إن لي خالة في القدس، في القدس الجديدة، وأنا أزورها من وقت إلى آخر، وإذا صدف أن ذهبنا، أنا وأنت، في الأيام القليلة القادمة، حددنا موعدًا، أين قلت لي تسكن عمتك؟
- في القدس الجديدة.
سكت قليلاً قبل أن يضيف:
- سأعطيك العنوان كاملاً فيما بعد.
عاد غسان إلى القول:
- أنا أفضل البقاء عاطلاً عن العمل على أن أكون قائدًا كبيرًا!
أفصح مصطفى:
- أؤيدك... كل شيء صغير في هذا البلد المتخلف حتى ولو كان كبيرًا، أؤيدك من كل قلبي!
كانت الفتاتين قد دلفتا إلى شارع كلية النجاح الوطنية، وسارعتا الخطى، بينما شريف يبتهل تارة ببسمة، وعدنان يبتهل تارة بمطة، وكم كانا ثقيلي الظل. كانت لوليتا شريف تبتسم دون توقف، تبتسم لطفولتها، ولسذاجتها، والفتاة الطويلة الناضجة إلى جانبها تغنج دون توقف، ولم يصدق عدنان أن هاتين الفتاتين سهلتان إلى درجة الغنج والابتسام، وفي الحال المعاكس، لن يصدق عدنان، دومًا عدنان، أنهما صعبتان، وسيقول عن (( فتاته ))، وهو يلهث كالكلب من ورائها: آه، كم هي حمقاء، لها نهدان، ولها سرة، ولها جدار تضرب عليه رأسها قبل أن تنام كل ليلة، وأب وأم أصلهما فلاح على الأغلب، بائعا إصلاح، وهي مسجلة في هويتها كمسلمة. غابت الفتاتان عن الأنظار، بعد أن دخلتا الكلية، فهمهم شريف متفاجئًا:
- لم أعرف أنهما طالبتان.
- وماذا سنفعل؟
- ربما خرجتا بعد قليل.
- وهل سننتظر؟
- بالطبع، ريثما يأتي الأصحاب. دعنا ندخل دكان أبي حميد، وننتظر بعض الوقت عنده.
دخل أمامهما المختار، كان يرتدي قنبازًا مخططًا، ويضع على رأسه عقالاً أسود حريريًا وحطة بيضاء حريرية. وكان أبو حميد ينشر قطعة خشب، قرب خزانة غير مكتملة، تنقصها الأبواب. ومع أبي حميد، وقف شاب جميل قصير القامة، عرفا فيه ابنًا لإقطاعي. كان الشاب الجميل يلتهم قرص حلوى، سلما عليه، وسمعا المختار يقول لأبي حميد:
- ستقول لي، غدًا إن شاء الله!
استقبله النجار بحفاوة مبالغًا فيها:
- ماذا أقول لك؟ ابتليت في الزوجة والابن، كليهما! منذ الصباح الباكر، وأنا أنتظر دورًا في العيادة. وفي النهاية، قالوا للمرضى إن الطبيب لن يأتي. هذا هو سبب التأخير، وإلا كانت الخزانة في حجرتك قبل آذان العصر.
ابتسم الشاب الجميل بمكر:
- لا تصدقه، فهو يكذب، ابنه كان هنا منذ قليل، وقد طرده لأنه أكل ثلاث قطع كبيرة من حلاوة السمسم.
قفز أبو حميد باتجاهه، وراح يفتح فمه ويديه، وقد ضحكت عينه المفقوءة:
- اسكت أنت، يا عكروت، الله يفضحك!
قال الشاب الجميل للمختار:
- ها هو الإثبات!
ابتسم المختار ابتسامة صفراء، وسأل الشاب:
- كيف حال أبوك؟ هل تعافى؟
طفر الدم في وجه الشاب، ورد عليه بخجل:
- تعافى.
- لم يكن لدي وقت لأزوره. هل صار يخرج؟
- صار يخرج.
- سلم عليه. قل له المختار، وهو سيعرف.
أخذ الشاب الجميل يقطر سكرًا، فالتفت المختار إلى أبي حميد:
- وهل حالة الزوجة خطيرة لا سمح الله؟
- كلاهما، قلت لك، كلاهما، الزوجة والابن.
- وهل الحالة خطيرة؟
- ليست خطيرة جدًّا، لكنها تبعث على القلق.
- ولماذا لا تأخذهما إلى طبيب آخر؟
- سآخذهما غدًا.
فكر الرجل: الخزانة لن تنتهي في الغد! كظم غيظه، بينما راح يتفقد الهيكل الخشبي.
- وما هو المرض؟
أجابه، وهو يحملق بعينه المفقوءة:
- إسهال.
- إسهال!
- المرض الشرير الذي بإمكانه أن يهرئ العامود الفقري!
تقدم أبو حميد من شريف وعدنان، كان يعرفهما، فسأل شريف:
- ما الذي تريده، يا جوهرة؟
- قطعة (( كيكس )) بقرشين.
وتوجه إلى عدنان:
- أتريد قطعة؟
- أفضل قطعة حلاوة بقرش واحد.
تناول النجار سكينًا ليلبي الطلبين، فقال المختار:
- إذن هذه الخزانة لن تنتهي غدًا.
بذل النجار ضحكة نخالة، وطلب:
- أعطني ثلاثة أيام، ستكون الزوجة والابن قد برئا تمامًا.
- لكني أحذرك، لن أزيد عليها ساعة واحدة.
وهو على الباب، رفع النجار صوته:
- إذا كانت ملابسك على الأرض، بعثت لك بخزانتي.
إلا أن المختار قبل أن يذهب قال:
- سأكتفي بوضعها فوق رف مؤقتًا، وكل ما أطلبه منك الإسراع، فأنا أخشى عليها من الغبار.
بعد أن ذهب المختار، علق النجار:
- لم يخش على ملابسه من الغبار إلا اليوم، وهو من عشرين سنة يعلقها بمسامير على الحائط.
قال الشاب الجميل في محاولة للتفكه:
- لماذا تهزأ بالناس؟ لماذا تهزأ بالناس الذين هم أحسن منك؟
انتهى أبو حميد من خدمة شريف وعدنان، واندفع بيده وقدمه نحوه:
- أهكذا فضحتنا أمام الرجل!
- ولا كلمة، قال لي سلم على أبيك، وقل له المختار! تفهم، يا نمس؟
- أفهم، يا نمس! ياللي أبوك (( الأقراطي )) !
وقصده الأرستقراطي.
قدم له شريف دينارًا، فقال النجار:
- ليس لدي صرف، يا جوهرة!
وهو يتناول الدينار بخفة.
- مِمَّ كان يشكو أبوك؟
أنهى الشاب الجميل قرص الحلوى، كان غني التقاسيم، لا يمكن وصفه:
- ذبحوه في مؤخرته، فانهالت عليه الوفود لتعوده.
قهقه أبو حميد، والشاب يضيف:
- (( باصور )) جعل منه بطل معارك، فكيف لو كانت عملية جراحية من النوع الثقيل؟
فتح أبو حميد صندوقًا، ونزع ورقة عن مجموعة عشرات قروش كوّن منها أسطوانة.
سأل الشاب، وهو يعد النقود في يد شريف:
- وماذا عنك؟ ألست بحاجة إلى واحدة من النوع الثقيل؟
- أية واحدة؟
أوضح النجار:
- (( السدة )) درجها من ورائك، وما عليك سوى الصعود لأوضح لك.
التهبت الوجنتان الورديتان، وجعل الالتهابُ الشابَّ يشتم:
- فرج أمك مغارة!
قال النجار:
- بلا مزاح! أتظنني أمازحك؟ أنا لا أمازحك!
كان شريف وعدنان يبتسمان، وهما يمضغان، وقبل أن يخرجا، سمعا النجار يقول:
- سأذبحك من المؤخرة كما ذبحوا أباك، ولكن الفرق أنك ستنزف دمًا أبيض.
صفق مصطفى:
- لقد وصلنا.
تناول باقي الحلوى من يد شريف، والتهمها:
- أين لوليتا؟
- يا لك من متحضر كاذب! كيف تقول إنها جارتك؟
- بعدما ذهبت فكرت أنها تشبهها.
وأطلق ضحكة مجلجلة، فاكتفى شريف بنعته بما لا يحب:
- متخلف!
عاد مصطفى يضحك، ثم سأل:
- وهل نستمر؟ أنا عطشان.
- سنشرب في دار عدنان، فهي على مسافة ليست ببعيدة من هنا.
سار مصطفى إلى جانبهما، بينما أخذ باقي الأصدقاء يتواردون من ورائهم. التفت شريف، فرأى يوسف وقاهر في اللحظة التي دلفا فيها إلى داخل دكان النجار.
قال عدنان:
- إذا صدف، وكانت أمي في البيت، عملت لي زفة، فأنا لم أرها منذ أمس.
قال مصطفى:
- سآتي معك لأنقذك من براثن أمك المتخلفة!
- أفضل لو يأتي شريف.
- سنأتي كلانا، لكنّي أخشى أن ننهزم أمام غضبها، وجبروتها، ونفشل في الدفاع عنك.
- أريدكما أن تأتيا في كل الأحوال.
كان شارع كلية النجاح الوطنية مليئًا بالطلبة، وهم في حالة ذهاب وإياب، ففترة الدروس المسائية قد حانت، وقد بان الدرابزين الأصفر لدار عدنان، والبوابة الكبيرة، وأصص الزهور على الدرجات، والنوافذ الزرقاء الست على الجانبين. وكان أولاد صغار يلعبون (( الحفر السبعة ))، دحدل أحدهم الطابة، فسقطت في حفرة. ركض من هي حفرته، وتناول الطابة بسرعة، بينما هرع سائر الأولاد إلى نواحي الطريق مبتعدين. رأى عدنان أخاه، وهو يعدو خارجًا من باب دارهم، وانضم إلى اللاعبين.
قُذفت الطابة، فلم تصب أحدًا، فهللوا فرحًا، وعلت أصواتهم حتى أعتاب السماء. قال عدنان لصديقيه:
- ذاك الذي يأتي من بعيد، أرأيتماه؟ أستاذ مصري.
حطوا أنظارهم عليه، ومن بين أصوات الصبية، قذفه أحدهم بهتاف حار يقول:
- يعيش جمال عبد الناصر!
رأوا بسمة خجلة على ثغر الأستاذ، وما لبث الهتاف أن ازداد حماسًا:
- يعيش جمال عبد الناصر!
تحولت البسمة إلى بوادر ضحكة، وباتت الضحكة على وشك الرنين. كان الأستاذ أنيقاً معطرًا، يحمل محفظة كبيرة. وكانت خطواته موزونة، محسوبة بدقة المسافة بينها، حتى انحناءة الرأس، حتى رفيف الجفنين. كان أخو عدنان هو من هتف، واختبأ، وذهب يختلس النظر إلى أخيه الكبير خشية أن يكون قد رآه.
وفي اللحظة التي أدار فيها الأستاذ الأنيق رأسه نحو الطفل، ليرد له التحية، كانت جارتهم تمدد رأسها من فوق سور قصير مبتهلة لوجهٍ ترقب مرآه كل مساء، تناغيه بعينيها، وترسل إليه ابتساماتها. كانت تقول إنني أحبه لأنه مصري، ولأنه يشبه عمر الشريف. وعندما لم يهتف أخو شريف للمرة الثالثة، هتف الصوت الأنثوي:
- يعيش جمال عبد الناصر!
فرن دينار الذهب، كان الأستاذ قد ضحك للفتاة.
قال عدنان:
- من حسن الحظ أن أمي ليست في الدار.
كان الأصدقاء قد وصلوا، وشربوا، وكانت الشمس على وشك السقوط في الغروب الدموي، ومع ذلك، فلم يزل النهار أبيض في عيونهم. كان عليهم أن يقوموا بالجولة المسائية المعتادة، أن يهبطوا إلى وسط المدينة، ويصعدوا طريق البريد، ويمروا بالبلدية، ويتجولوا في شارع الملك فيصل المشجر، حتى (( العمارة ))، مركز القيادة، ليودعوا أحمد هناك، وليشاهدوا بنايتها القديمة وشبابيكها الضيقة المستطيلة الشبيهة بشبابيك السجن، ثم يعودون، وقد سقطت الشمس، وهجم الليل أخوهم. ليل بلا أم ولا أب، ليل لقيط! إذا ما حط انتهت كل روابطهم إلا به. ويكون قد أخذهم الجوع أيما مأخذ، فيقترح قاهر أن يتناولوا الساندويتش الصغير من كباب الفقراء: (( الفلافل )) . لكن مصطفى يصر على أن يأخذوا مجلسًا ككل المتحضرين في دكان (( فلافل الشعب ))، رغم أنه للشعب، بينما يسبق يوسف الجميع. كانت هناك (( علية )) من الخشب، يصعدون إليها، والدكان الضيقة تغص بالزبائن، وهناك مقلى كبيرة تشبه وعاء العجين فيها زيت يقدح، وفي الزيت أقراص تُقلى حتى يصبح لونها قهويًّا. وكان الخادم يجيء، خادم نصفه إفريقي، فيسألهم عن طلباتهم، وبعد أن يتردد بعضهم، ويبدل البعض الآخر طلبه مرتين أو ثلاث، يتفقون في النهاية. كانوا، في النهاية، يتفقون، وكان من فضائلهم أن يتفقوا، ولو على ساندويتش فلافل لا يعدو ثمنه أكثر من قرشٍ أو قرشٍ ونصف القرش. كان الخلاف يقوم بينهم، في البداية، لكنه لا يلبث أن ينتهي. أما يوسف، فقد كان طلبه مضاعفًا دومًا، وسابو كان لا يطلب إلا العجة، وقاهر كان يختار، في الأخير، بيضة مع رغيف. وكان الخادم لا ينسى أن يحضر لهم (( الشطة ))، لئلا يضطروه إلى الرجوع ثانية، فصعود الدرجات الضيقة الصادمة للرأس والكتفين لم يكن حتمًا مسليًا.
وعندما كانت تنتهي وجبتهم الصغيرة تلك، كانوا يذعنون، في الأخير، لمطلب قاهر، أو مصطفى، فيأخذون طريقهم صوب صانع الحلويات، وقد اختارا لهم، على الخصوص، الذهاب إلى محلات حلويات العكر. كان بعضهم يقف أمام كشك الجرائد والمجلات لدكان صحافة القطب المجاورة، فيقرؤون أخبار الصباح في المساء بعد أن ماتت كحدث. وكانوا يجدون لذة في جمع رؤوسهم بين أصحاب الطرابيش والشيوخ والتلاميذ الصغار الذين لم يعودوا بعد إلى بيوتهم. كانت تلك - بالنسبة إليهم - لذة بائتة كالأخبار، ومع ذلك، فقد كانت لها طرافتها الخاصة.
وكان الخادم في دكان الحلويات يقوم بفروض استقبالهم جيدًا، وهو يبالغ في الاحتفاء بهم: كان يجمع لهم طاولتين، ويطلب إليهم بأدب أن ينتظروا خروج صدر الكنافة الجديد من الفرن، مضيفًا بنبرة احترام بالغ: لن يحتاج ذلك سوى إلى بضع دقائق، فيقطعون عشر دقائق في حديث مرح، شادين أنظار الزبائن. كانوا يتركون أنفسهم على سجيتها، لكنهم يظلون في دائرتهم هم، وتبقى لهم مزاياهم. وكانوا يهرعون من وراء لهوهم، ومع ذلك، فقد كانت لهم طبيعة غنية، ورغائب ذاتية لا تنتهي.
كان قاهر يهمس في أذن يوسف:
- قميص عدنان جميل! ألم تلاحظ ذلك؟
فيسمعه عدنان، ولا يفعل سوى الابتسام، بينما يوسف يفكر: إن قاهر لا يقصد سوى لفت انتباهي إلى قميصه هو، فمن عادته أن يحول النظر إليه بطريقة غير مباشرة.
- وقميصك أيضًا جميل!
فيلقي قاهر على قميصه نظرة خاطفة، ويلمس أزراره:
- لا أحب ارتداءه، رغم أنه غالي الثمن!
فيبالغ يوسف عن عمد في إطرائه:
- على العكس، إنه جميل عليك! إن لك ذوقًا رفيعًا!
كان يتطلع إليه، فيجده راضيًا تمام الرضاء. وكان يفكر: أثقلت له بيضاته! لقد كان ذلك همه الأوحد، أن يشعر بالأهمية! وهم كذلك، كانت تصل إليهم كلمات سعيد:
- بإمكانك أن تستعملها خمس مرات أو ست، وتظل تتمتع بانسيابها على الجلد كأول مرة.
وكان مازن يقول:
- لم أجربها بعد.
- جربها، اعمل بالنصيحة.
فيسأل قاهر:
- ما هي؟
ليجيب سعيد بشيء من الفخفخة:
- شفرات جيليت الفضية!
فيضحك مصطفى من كل قلبه:
- وهل تبقى صالحة مدة طويلة للاستعمال السفلي؟
- لست أدري، لكني سأجيبك في المستقبل، يا سافل!
أخيرًا، خرج صدر الكنافة: دائرة يقارب قطرها المتر، والكنافة تتوهج بعد أن استرقت لون النار. راح صاحب المحل يصب عليها السكر المعقود، بينما ازدحم المحل بالزبائن، فهو صدر طازج. ارتفعت أصوات الزبائن: وقية، نصف وقية، 2 كيلو في (( صفط )) ، وقية ونصف في صحن، أضف قليلاً من (( القطر )) ، أريدها ناشفة. وصاحب المحل يقطع بالمجرود، ويضع في الصحون، فتظهر على أطرافها شرائح الجبن الأبيض.
هتف اسكندر:
- نابلس أم الكنافة!
أضاف مصطفى، وهو يلحوس ملعقته:
- والصابون، أيها المتخلف!
وفي دقيقة واحدة، كان يوسف قد أنهى صحنه. قال اسكندر:
- أما قريتنا (( جفنا ))، فهي أم اللوز والمشمش!
التفت شريف إليه:
- وعدت مرة أن تدعونا إلى قريتك وقت اللوز والمشمش، أيها القروي المفتري، وها نحن في الموسم!
- لم يبدأ الموسم بعد، أيها المدني الجاهل! ولكن إذا أردتم، ذهبنا يوم الخميس القادم لقضاء يومي الخميس والجمعة، وصباح السبت نعود.
هتف مصطفى:
- أنا آخر من يذهب، ما يبقى أن أدفن نفسي يومين في مزابل الحضارة!
هتف قاهر:
- أنا أول من يذهب، لكني لن أنام في داركم، فأنتم تعلقون الصليب فوق الفراش!
- من قال لك هذا؟ أنا شخصيًّا لا أعلق الصليب فوق فراشي، حتى ولا في حجرتي هنا، أيها المتعصب!
قال يوسف:
- أما أنا، فأعلق الصليب، وقبل النوم أقوم بصلاة صغيرة.
علق شريف:
- الآن عرفت لماذا أنت سمين إلى حد الهلاك، لأنك حظيت برضاء الرب!
مما أضحك عدنان، ودفع الوهم الديني سابو إلى قول:
- لو كان الأمر كذلك، لكنت أسمن رجل في العالم، فأنا أعلق صليبين من البرونز، وأقوم بالصلاة قبل النوم وقبل كل وجبة.
قهقه مصطفى، وقال بحماس:
- أنا لا أصلي، ومع ذلك، فلي صحة (تردد وهو يلمس صدره العريض): لا بأس بها!
أجابه قاهر:
- هذا لأنك مسلم شقي!
- مسلم متخلف تريد القول! (وانفجر مقهقهًا).
انحنى يوسف على أذن مازن الجالس إلى يمينه، وتابع حوارًا كان قد بدأه منذ فترة:
- ...ولدي أيضًا أدوات جراحية قديمة، فالجديدة غالية جدًا، أزين بها الحائط، كي يبثني مرآها الشعور بأنني طبيب منذ صغري.
ضحك مازن دون أن يذهب بضحكه حتى النهاية، وقال له متفقًا:
- على التأكيد، إن هذا يدعم.
قال غسان:
- أريد أن أتكلم.
فأصغوا جميعًا لما يود قوله، ولكنه نهض صوب باب الخروج. دفع ثمن صحنه، وأخذ ينتظر في الخارج. تركهم في دهشة ضاحكة، فشتمه مصطفى، ودعاه بهجين التخلف والحضارة، ثم تبعوه واحدًا تلو الآخر. قال سابو إني أنصرف! شبك يوسف وقاهر ذراعًا بذراع، وغادرا. قال مصطفى:
- سآخذ تاكسي، فأنا تعب، بشرط أن يكون آخر موديل!
طلب إليه اسكندر:
- أوصلني طالما هي طريقك.
سأل سعيد مازن:
- ما رأيك لو ذهبنا إلى السينما؟
أجاب مازن:
- ليست لدي رغبة في ذلك.
خاطب شريف عدنان:
- أنا أشتهي كأس بيرة.
- وأنا أيضًا، وعلى الخصوص، بعد ما أكلت كنافة.
التفت شريف إلى غسان:
- وأنت؟
- أنا ذاهب إلى لقاء أمي، تكون قد عادت من عمان.
وضاع بين العابرين.
عاد شريف يتوجه بالكلام إلى عدنان، عدنان من يجد فيه دومًا عزاءه. قال بصوت على غرابته إلا أن نبرة دافئة قد صاحبته:
- دومًا ما نبقى أنا وأنت في الأخير!
فابتسم له عدنان.
قال شريف:
- كي نعملها سهرة، نم عندي الليلة.
التحق مازن وسعيد بمجموعة من الناس الواقفين في دائرة، ومازن يقول لسعيد:
- ستنام عندي الليلة، أفضل أن نتجاذب أطراف الحديث على أن نذهب إلى السينما.
تساءل سعيد:
- لماذا هم مجتمعون هكذا؟
في الوقت الذي أخذ فيه غناء غير واضح يصل إلى مسامعهم.
- لم تجبني، هل ستنام عندي؟
قال سعيد:
- عليّ أن أطلب الإذن من الوالد.
أكمل شريف حديثه مع عدنان:
- إذن سنمر على داركم لتأخذ الإذن من الوالد، وعليك أنت القيام بشراء البيرة.
قال عدنان:
- سأفعل.

Il est né le divin enfant
Jouez hautbois. Résonnez musettes
Il est né le divin enfant
Chantons tous son avènement

Depuis plus de quatre mille ans
Nous le promettaient les prophètes
Depuis plus de quatre mille ans
Nous attendions cet heureux temps

Il est né le divin enfant
Jouez hautbois. Résonnez musettes
Il est né le divin enfant
Chantons tous son avènement

Ah! Qu’il est beau, qu`il est charmant!
Ah! Que ses grâces sont parfaites!
Ah! Qu’il est beau, qu`il est charmant!
Qu’il est doux ce divin enfant!

همهمت امرأة عجوز:
- أنا لا أفهم شيئًا!
وتوجهت بالكلام إلى شريف:
- هل تعرفه؟ المغني، هل تعرفه؟
لم يكن شريف يعرفه، فسمع أحدهم يقول:
- كان راهبًا، وهذا، على ما أظن، ترتيل.

Il est né le divin enfant
Jouez hautbois. Résonnez musettes
Il est né le divin enfant
Chantons tous son avènement

سألت المرأة العجوز:
- هل هو مجنون؟ المغني، هل هو مجنون؟
- كان رجل دين، وهذا، على ما أظن، قداس.
كان الرجل يغني، وهو يجلس على الأرض مخفضًا رأسه، ويستند بظهره على عامود في أقصاه مصباح يبذل ضوءًا واهنًا. كان ثوبه القصير قد تلوث على صدره، وشعره الطويل قد تساقط على وجهه. تطلع شريف، فرأى صحنًا من البلاستيك فيه قطعة نقود نحاسية.
أمسكت المرأة العجوز بكتف مشاهد آخر:
- هل هو مجنون؟ المغني، هل هو مجنون؟
- ألا تسمعينه يغني؟
- أسمعه.
- ألا يطربك غناؤه؟
- يطربني.
- إذن هذا يكفى.
غطت المرأة وجهها، وقالت لنفسها: وماذا يعني أنه يغني؟ المجانين أيضًا تغني! ربما كان يغني للجان! انتقلت المرأة إلى مكان آخر، وشريف ينظر إلى الرجل الخافض رأسه، ويقول لنفسه: (( أريد فقط أن يرفع رأسه ))، كان صوته ملائكياً.
سألت امرأة عجوز أخرى:
- ما السبب الذي أفضى به إلى هذه الحال؟
تمتم جارها:
- لا أعرف.
- وما الذي يقوله؟
- قبل أن يبدأ الغناء قال إن المسيح قد عاد.
ضربت المرأة العجوز بيدها على صدرها، وهتفت مستنكرة:
- أية حماقات!
أعطت للجمع ظهرها، وغادرت مهرولةً.
والرجل لم يزل يغني، وشريف لم يزل يفكر: ما أريده فقط أن يرفع رأسه. كان الهاجس التالي قد أخذ يطارده: من المحتمل أن يكون المسيح قد عاد! وغدا في أشد الحاجة إلى هداية. كان الرجل لا يتوقف عن الغناء بصوته الملائكيّ، وكان شريف يفكر: ما أريده فقط أن يرفع رأسه، أن يرفع رأسه! كان الرجل لا يتوقف عن الغناء، وكان الناس من حوله يصغون إليه. كانوا يحسون في غنائه دعوة الأنبياء، رغم أنهم لا يفهمون ما يقوله، وكان الرجل تعسًا، رغم أن قداسه يقول: الطفل الإلهي ولد... انفخوا المزامير! رغم أنه يردد: كم هو جميل! كم هو ساحر! كم هو حلو هذا الطفل الإلهي!
ألح شريف، وهو يخاطب نفسه قائلاً: ما أريده فقط أن يرفع رأسه، ما أريده فقط أن يرفع رأسه! عاد الهاجس يطارده مطاردته للملعونين المنتظرين على باب الجحيم: من المحتمل أن يكون المسيح قد عاد! وتضاعفت حاجته إلى هداية. نبوة كتلك كانت مستحيلة، ومع ذلك، فقد كان يخضعه اعتقاد.
فجأة، توقف الرجل عن الغناء، والناس من حوله قد جرفهم الصمت، بدأ ينمو على جباههم القلق، وأخذوا ينتظرون أن يعود الرجل إلى الغناء، وشريف أخذ يردد لنفسه، ويلح في الترديد لنفسه: ما أريده فقط أن يرفع رأسه! ما أريده فقط أن يرفع رأسه! رفع شريف رأسه إلى المصباح الواهن الضوء، وتساءل: بماذا يمكنني الاعتقاد؟ ضغطت أمواجٌ بعضها البعض خافقةً على التوالي، كان الرجل قد رفع رأسه، فشاهد شريف دمعه. أخذت عيناه تبثانه همًا طويلاً، طويلاً، طوله أكثر من ألف وتسعمائة وسبع وستين سنة. وما لبث شريف أن رأى في العينين بريقًا عنيدًا يقاوم الدمع، فامتدت يده إلى جيبه، ووضع في الصحن كل ما في جيبه من نقود، وانطلق يعدو في الشارع الأضيق من كل الأماني.

* * *

وضع عدنان يده على كتف شريف، فاستدار، وأخذ يصرخ:
- اتركني، اتركني، لماذا لحقت بي؟
رجاه عدنان:
- لا تصرخ! خذ نفسًا طويلاً!
أخذ شريف نفسًا طويلاً، وسأل عن عدنان:
- هل أنت معي؟
وضع عدنان يده على كتفه، وهمس:
- أنا معك.
وبعد هنيهة:
- هل أنت على ما يرام؟
قال شريف:
- اقتربت من قلب العالم منذ قليل، ولكنه عالم شاسع لم أستطع جمع أبعاده بين ذراعيّ. كنت وحيدًا، كما أنا الآن وحيد، محاصرًا من كل جانب.
رأى عدنان كيف تشمع وجه شريف، وكيف بذل جهدًا من أجل ابتسامة صغيرة.
تمتم شريف:
- كنا قد حلمنا بسهرة!
وأطلق ضحكة متوجعة قبل أن يضيف:
- لا بد أن هناك بداية أخرى على التأكيد، وأنا أفكر في المحاكمة، وفي القدس، وفي الطاعون، أفكر في كل هذا دفعة واحدة، ولكن هل من مخرج؟
قال عدنان:
- لا تقتل نفسك بالتفكير (وألقى بسؤاله الحاسم): هل يمكنك أن تغدو غير ما أنت عليه؟
لم يقل له آن الأوان لنعرف طريقنا، كان لا يعرف. رمى بعينه على الطريق المنحدرة، كانت تعبر بهم بعض السيارات، ومع عبورها، تطلي وجه شريف المتشمع باللون الأصفر، فيبدو كالشبح باهتًا.
همهم شريف:
- عدت كالماضي: مجموعة من الأعضاء المتناسقة.
أخذا يهبطان الطريق المنحدرة، وشريف يفكر: الهبوط إلى أسفل! الهبوط إلى أسفل! هكذا هو الهبوط، في الحصار وفي غير الحصار! الهبوط إلى أسفل!
تركه عدنان، ودخل محل صياغة يعيش، فشاهده من خلال الواجهة الزجاجية، وهو يخلع خاتمه، ويرميه في يد الصائغ. بعد فحص الصائغ للخاتم، خرج عدنان، وهو يبتسم ابتسامة صغيرة كتلك التي كانت لشريف، ويقبض على ثلاث ورقات نقدية. وتحت طوفان تقاسيم شريف المستنكرة، قال عدنان:
- كنت تشتهي كأس بيرة...
فنبر شريف:
- ولكنها سخافة! كيف تبيع الخاتم؟
كان عدنان يفكر دون طرب: لقد بعت الخاتم للقديس، وبالثمن سنشرب دم المسيح!

* * *

مرتكزًا على سور ملعب كلية النجاح الوطنية كان شريف ينتظر خروج عدنان من دارهم، ومن حوله ضجيج طلبة الكلية، تعاليقهم، ضحكاتهم، نفير سيارات الأجرة المرسيدس، ضوءُها، هديرها، وقد انتهت فترة الدراسة المسائية. بعد مضي خمس دقائق، أصبح الشارع خاليًا على التقريب، واثنان أو ثلاثة من المارة يخفضون رؤوسهم، وهم يسيرون إلى بيوتهم مبطئين. كانت هناك شجرة سرو، الشجرة الوحيدة التي يعرفها منذ تسع عشرة سنة كانت تترامى في الليل، وتظهر من بعيد كغمامة، ليس لها شكل، تدغم واجهة الكلية.
لفت انتباه شريف أحدهم، وهو يتطلع إليه مراقبًا بين حين وآخر، كان يقف في باب دكان البقالة المنبثق منه الضوء، ولم يكن باستطاعته تمييز وجهه. رآه يدخل الدكان، ثم يخرج، ويتقدم منه، وفي نفس اللحظة، نزل عدنان درج دارهم.
رمى شريف:
- تأخرت! هل وافق؟
أجاب عدنان:
- بعد زهوق الروح!
ونفخ قبل أن يضيف:
- لم أحضر معي بيجامة.
- سنتدبر الأمر.
قطعا مسافة بين عامودين، وأدار شريف رأسه، فرأى من كان يراقبه يتبع في العتمة من ورائه.
قال عدنان:
- طلب مني أبي شرحًا، بحجة أني أكثر من التغيب عن الدار هذه الأيام، وقد سألني بدهاء لماذا لا تأتي أنت لتنام عندي (علق ذراعه على ذراع شريف): كنت على وشك أن أقول له لأننا في داركم نستطيع أن نسكر دون أن يراقبنا أحد.
- ولماذا لم تقل له؟
- خشيت أن يضربني!
- وماذا يعني أن يضربك؟
- يعني أنني سأرد له الصاع صاعين.
- وهل ستضربه؟ هل ستجرؤ على ضربه؟
تردد عدنان:
- لست أدري ما سيحصل، ولكني في كل الأحوال، سأرد له الصاع صاعين طالما أني لم أعد جبانًا كما كنت في الماضي.
أضاف بعد إعمال فكره:
- إن كون المرء أبًا أذية كبيرة!
- ولكنك ستصبح أبًا أنت!
لهج عدنان بصيغة قطع:
- إنه لمن المحال!
- إنه لمن البلاهة! قولك هذا، إنه لمن بلاهة! ماذا يعني ألا تتزوج؟ ستتزوج، وستصبح أبًا، وإذا رفضت أجبروك، وجعلوك تنجب أولادًا لتلقي بهم في عرض الطريق كي تصنع منهم لصوصًا.
رسم عدنان بسمة على شفتيه، بسمة لا معنى لها، وقال:
- لن أتزوج على الإطلاق، إن الأولاد جرم كبير. إنني أنا بالنسبة لأبي وأمي أكبر جريمة، وأفكر أنه لمن العدل أن يقاصصا، لكني لم أصدر حكمًا بعد.
طفرت حلكة الليل في العينين، وغدت الطريق دامسة. قال شريف:
- ومع ذلك، فأنت تحب، أنت مع ذلك تحب، وتريد أن تصنع أسطورة!
أجابه بتأس:
- أنا أطمع في حب عذري، حب ظلال ورحيق وأنسام! أعرف أنه لمن المحال، فالرذيلة موجودة!
اختلس شريف ضحكة، ضحكة لا معنى لها، وأدلى:
- وُجدت الرذيلة في الوقت الذي وُجد فيه أول كائن، ومع ذلك، فحبك العذري ليس بالبديل المطلق. تجعلني أكرر التساؤل: ماذا يعني ألا تتزوج؟
- ألا أتزوج يعني ألا أنجب أطفالاً أشقياء!
- هذه مسامرة!
- ربما كانت مسامرة، لكنها تبقى مجرد أنفاس، وهذه هي معضلتي.
غدا لخطواتهم صدى، والهواء باردًا، والطريق دامسة، جد دامسة. بدا على شريف أنه يعتصر الذات تحت وطأة أصابع فكرة تطارده، ثم ما لبث أن تساءل بصوت فيه غل:
- متى، يا ترى، نكف عن المطاردة؟
- لقد سألتني نفس السؤال، ولكن بطريقة أخرى، بعد أن رحت تجري صوب قلب العالم، وسألتك إذا كان بإمكانك أن تغدو غير ما أنت عليه. أما أنا، فأقول لك بصراحة، لا يمكنني ذلك، أنا عذري في كل شيء، في الحب وفي الحقد وفي السياسة!
قال شريف:
- ولكني أنا لا أريد أن أكون عذريًّا في كل شيء، في الحب وفي الحقد وفي السياسة، ولا أستطيع. هل سأستطيع يومًا؟ لست أدري. لقد سبق واتصل بي الحزب، أنت تعرف القصة، حتى الحزب كان لا يكفي طموحي. أترى؟ أنا أستعمل، لأول مرة في حياتي، كلمة (( طموح )) .
أحس عدنان بسخونة الذراع الملتصقة بذراعه، وسمع شريف يقول بنصف ضحكة، لا يهم أن يكون لها معنى:
- لقد قرأت (( طاغور )) هذا الصباح (وبعد أن سكت قليلاً، قال ساخرًا): كم هو رجل بائس!
- لماذا؟
- لقد جعل من الحب ملاجئ للعجزة!
قال عدنان:
- ومع ذلك، فأنا أحب شعور طاغور.
- لا بد أن تحبه طالما بقيت عذريًّا، إنه اكتشافي الأخير.
- اكتشافك الأخير من سلسلة اكتشافات تفاجئني بها، أيها المدعي!
لم يسمعه شريف، كان يقول:
- من اللازم ألا يكون للمرء حد واحد فقط يقف عنده، ومن يتعلل بالحب عن الحياة، حبه بائس يحتاج إلى شفقة، نعم، يحتاج إلى شفقة. لا تقل عني، بين يوم وليلة، صار الأخ ثوريُّا! أنا أفكر، وأصل في بعض الأحيان إلى بعض النتائج، فأدوخ، وأتساقط. لقد عرفت الكثيرين ممن لهم كهذا الحب البائس، فمثلاً هناك طاغور أنت، وطاغور أنا، وطاغور أخي، لكن ما يختلف أن طاغور قد وجد من يرثي له، أما نحن، فما زلنا نبحث عمن يرثي لنا إن لم يكن عمن ينسفنا.
تضاعف صدى خطواتهما، وشريف، في نفس الوقت، يفكر: أحدهم يتبعني، لكنه لم يشأ أن يدير رأسه هذه المرة. كانا قد تركا كلية النجاح الوطنية في الوراء، وها هما الآن بمحاذاة مقبرة المسيحيين.
قال عدنان:
- أنا لا أبحث عن رثاء بل أجد في الحب تعويضًا عن أشياء كثيرة يمكن أن تمتنع عن التحقق. عند ذلك، تصبح لحبي قوة فاعلة وأصابع سحرية...
قاطعه شريف مكملاً بتهكم:
- ...في الخيال! استيهام وتحليق وعادة سرية، أهذه هي قوة حبك الفاعلة؟
أفلت شريف ذراعه، خبط قدمه بحجر، ورفع في الضوء الواهن قبضة مهددة، ثم جعله الغضب ينبر:
- لا تدعني أعتقد بأنك أحمق! أنت تعطيني تبريرًا لماذا؟
- أنا في كل الأحوال لا أبرر حبي.
- أكبر حماقة!
وكان عدنان يفكر: (( ما باله؟ كنا بالأمس متفقين )) .
سأل شريف:
- هل فكرت يومًا كيف يمكنك أن تفكر؟
ابتسم عدنان ممتعضًا:
- أتحسب نفسك أنك أصبحت محاميًا لتدافع الآن عنك ضدي؟!
انحنى شريف عليه بهيئة المتعبد المضيَّع، وأمسك بكتفيه، واستطاع عدنان أن يشاهد في عينيه دموعًا حبيسة:
- إننا، يا عدنان، لم نفكر يومًا كما يجب كلانا.
سأله بتأثر:
- وما يؤكد لك بأننا لم نفكر يومًا كما يجب كلانا؟
أفرط في التعبد المضيِّع، كانت لصلواته نكهة فاضلة ومشاكسة:
- هناك واجبات، واجبات كثيرة، هناك فروض مهملة يتحتم علينا إنجازها (وسكت قبل أن يضيف مركزًا على كلماته): من يفهم هذا اليوم عليه أن يكون فدائيًا غدًا.
ابتعد شريف عنه بيديه قليلاً، قليلاً، ثم قال بوجه متهدم:
- هل فكرت في أن اليهود سيأكلون في نابلس كنافة ذات يوم؟
هدر عدنان:
- إنه لمن المستحيل!
أخذ شريف يتصايح:
- سيأتون، كما أقول لك... سيأتون، وسيأكلون كنافة!
ابتلع حلقًا متحجرًا:
- أنا لا أريدك أن تبقى طاغور، ومع ذلك، فأنا أقبلها لنفسي!
سبقه بضع خطوات، فجاء صوت عدنان من ورائه متراجعًا:
- وما يجعلك تؤكد، الآن فقط، أنهم سيأتون؟
أجابه شريف، وهو يقاوم ألا يهزمه الجزر المتراجع في أعماقه:
- أنا، أنت، الأصدقاء، الناس، الأوضاع، الأوجاع، الحكومة، الكوابيس، العالم! وبعد أن (( رأيتهم )) في القدس على بعد أمتار، وهم ينشرون الغسيل، وينتقلون من مكان إلى مكان بكل بساطة، بينما أحدهم يجلس على كرسي في الشمس، وهو يطالع باطمئنان... شيء لا يصدق، فهم يثقون بالمجيء، طالما نحن نبقى نحن، طالما لا نتغير: نحن لا نشعر بحركة الأرض رغم أننا في حضنها!
وأضاف بكثير من إمعان النظر:
- بعد آخر جلسة في المحكمة، فكرت في أن أتصل، أنا، بالحزب هذه المرة.
أحدهم تقدم منهما خطوة، كان وجهه تحت الضوء الواهن لزجًا حييًّا، وعندما التفت عدنان إليه عرفه: إنه الممحون!
قال الممحون بأدب:
- أطلب منك سيجارة، يا سيد عدنان.
أجابه عدنان بنبرة جافة:
- أنا لا أدخن.
أخرج شريف صندوق سجائره، وقدمه إليه، فتناول الممحون سيجارة وضعها في فمه، وهو يقول بأدب جم:
- أشكرك.
أشعلها شريف له، فتراجع الممحون خطوة، وهمهم مبتسمًا:
- هذا لطف منك!
أرادا أن يتركاه، وشريف كان يفكر: ها هو من كان يتبعني. وتساءل: هل كان ذلك من أجل سيجارة؟ وفي الحال، قال الممحون متوجهًا بحديثه إلى عدنان، وقسماته تخفي شيئًا مبهمًا:
- إن لدي كلمة معك، يا سيد عدنان، لو تسمح، بل، الحقيقة، مع كليكما، فأنا أعرف السيد شريف من بعيد، لكنه هو لا يعرفني، لم أحاول أن أعمل معه معرفة، وهأنذا الآن أجد الفرصة المناسبة.
كان شريف يحدث نفسه، ويقول، طلعته قريبة من القلب، يبدو عليه ابن عائلة:
- حصل لي الشرف.
أضاف الممحون بسرعة:
- وأنا أثق بالسيد عدنان ثقة كبيرة.
لعب في صدر عدنان إبليس، فسأله بفوقية:
- ماذا عندك؟
انتحى الممحون بهما تحت سور المقبرة، بحيث وقف ثلاثتهم في العتمة، وبعد أن تلفت يمنة ويسرة، خفض صوته، وقال:
- هناك حركة نضالية، ونحن بحاجة إلى الشبيبة.
سأل عدنان متفاجئًا:
- أي نوع من الحركات النضالية حركتك هذه؟
تردد الممحون:
- أنا... أنا لا أملك التفاصيل.
فرد عليه شريف:
- إذن كيف تريدنا أن ننخرط؟
تابعاه، وهو يمج سيجارته، وعدنان يفكر: لديه تفاصيل أخرى يتقن شرحها في الفراش.
سمعاه يقول بحمية:
- أستطيع أن أؤكد لكما الإخلاص الكامن من وراء أهدافنا، فالقادة همهم الوحيد حاليًا أن يعملوا تعبئة، وإذا أردتما، حصلت لكما على موعد، فبعضهم بإمكانه أن يقدم شرحًا وافيًا. (توجه إلى شريف): أعرف أن هذا يهمك.
قال شريف:
- إن هذا يهمني تمامًا، ولكن ما أريد أن أعرفه، ما المقصود من وراء أن يعملوا تعبئة؟
قال الممحون بخيلاء، وهو يسحق سيجارته بنعله بعد أن سحب نفسين أخيرين منها:
- إننا نخطط جيدًا لعمل ثورة مسلحة ضد الحكومة، وإذا حصل انتصارنا في الداخل، صار لنا خط المواجهة مع إسرائيل مفتوحًا، وعند ذلك، نبدأ معركة التحرير.
لم يتمالك عدنان:
- كلام فارغ! كلام غير معقول!
فنفس خيلاءه.
أضاف عدنان بسورة غضب:
- ثورة مسلحة في الداخل، بينما إسرائيل تتربص لنا في الخارج... ستحصل مجزرة! ولن يقف الأمر عند هذا، ستكون فرصة سانحة للعدو كي يحتلنا.
أصيب الممحون بخيبة، أشعل شريف سيجارة، والممحون يقول متراجعًا خطوة:
- الحقيقة أنني لم أفهم المقصود تمامًا، فقد سبق أن قلت، في البداية، إني لا أملك التفاصيل، وأقصى ما أستطيعه من أجلكما أن أحدد لكما موعدًا، فتقفان جليًا على كل ما تريدان استفساره.
انحنى الممحون، وهو ينهي:
- أترك لكما التفكير في الأمر، وليبق ما قلته سرًا بيننا (توجه إلى عدنان): أنا كما هو في علمك ألازم دومًا دكان البقالة، إذا ما قررتما شيئًا، فلن يحتاجك ذلك إلى أكثر من أن تعمل لي إشارة، وسأفهم في الحال (كان يباعد قدمًا ويقدم أخرى كمن يرقص (( رومبا ))، ثم قال لشريف باغتباط): كانت سيجارتك لذيذة، أنا أشكرك! (فبسم له شريف بسمة خفيفة، وكان من الممحون أن هتف): مساء سعيد، يا إخوان!
ردا عليه:
- مساء سعيد!
دفع قدمًا من أمام أخرى صاعدًا الدرج المنتهي معه سور المقبرة، ولبسهما ليل.
نفخ شريف سيجارته:
- من هذا؟ أنا لا أعرفه.
رمى عدنان:
- من الأفضل ألا تعرفه، إلا إذا كنت لوطيًّا!
تابعا طريقهما، والصمت يحط بينهما، بعد قليل، سأل عدنان كمن يتابع فكرة سابقة:
- وهل هؤلاء أيضا يتعللون بالحب عن الحياة؟
لم يجبه شريف، كان يسحب ويطلق من حلقه سحابات الدخان، وبعد تفكير، قال:
- أن يكون لوطيًا، فهذا شأنه، أما أن يدعو إلى حركة نضالية، فهذا شأننا، إنه يتعلل بالحياة عن الحب... (( الحياة المعللة )) تبدأ من هنا.
- حتى ولو كان الهدف تخطيطًا لمجزرة؟
قال شريف مبتسرًا الأمور:
- مهما يكن، أريدها أن تتفجر.
صفق عدنان، وهتف:
- تدفعني على التو إلى ارتكاب معصية!
قال شريف بهدوء:
- ارتكبها، لِمَ لا ترتكبها؟ ارتكبها، هذا إذا ما استطعت!
وقف قرب سور حديقة منزل الدكتور الخالدي، وتناول بيده فرجه، وراح يبول. أضاف، وهو يدير رأسه إلى اليمين ليراه:
- لست أدري! أفكر أنه ليس من الخسارة في شيء أن تطلب تحديد موعد لنا.
تناول عدنان بيده فرجه ليبول بدوره، وقال:
- سأطلب تحديد موعد لك، لك وحدك، أما أنا، فلا أريد.
انتفضت أصابع عدنان إثر ملامسته للحيوان، وعمل الشلال حفرة ورغوة. راح عدنان يفكر في الحشائش التي يسقيها، والتفت إلى شريف، رآه يقفل أزرار سرواله، وقد غمرته راحة عارمة. جاء شريف من ورائه، وهو يسمع بدوره هدير الشلال المنعش لحشائش الرصيف الترابي، وقال له:
- لا تريد، لأن لديك لم يختمر أي دافع.
- ألأن صاحبنا تحدث عن الإخلاص الكامن من وراء أهدافهم تريد أن يكون لي دافع مختمر؟
كان لفرار البول بعد أن عمل رفرفة خائرة لجناحي فرخ قد انقطع تمامًا، أحس عدنان، وقتذاك، بالأسف، دون أن يدري لماذا.
- يجدر بنا أن نقوم بخطوة مهما كانت.
نفخ عدنان، وقال بضجر:
- دعنا، دعنا... سنفكر في الأمر فيما بعد.
تذكر ما قاله لمازن بشأن وساطة العم الوزير ليصبح أستاذًا، فكلّم شريف، وهو يشعر بالضيق، إذ لم يكن الوقت مناسباً. شعر بالأسف لأنه عامل الممحون بفوقية، وندم لأنه كلم شريف، بينما شريف وعده بأن يقوم باللازم.
فجأة، إذا بشريف يحط يديه على كتفيه ممسكًا به من ظهره، دافعًا إياه، مع الانحدار، دفعًا متواصلاً، تبعه عدو طويل، ولهاث يزداد به القلب خفقًا، وكل العضلات اهتزازًا. كان عدنان يصيح به طالبًا منه التوقف، لكن القوة المفاجئة التي حطت عليه قد أنهت مقاومته منذ اللحظة الأولى. وفي الأخير، أطلقه، وليوقف اندفاعه، احتضنت ذراعاه عامود الكهرباء المقام أمام دار شويكة. وقف شريف مواجهًا إياه، وكل عضلة من عضلات جسده تتراقص على حدة، وشفتاه بيضاوان تمامًا. رمى عدنان بنفسه في وسط الشارع منفقًا باقي لهاثه، بينما راح وشريف يتبادلان ابتسامة منتشية. كانا يبتسمان، في نفس الوقت، للنسمة الباردة، ولليل، وللانحدار. وبعد أن استطاع شريف أن يتماسك بعض الشيء، صاح بكلام متقطع:
- بمثل هذه الطريقة تكون المعارك!
كان عدنان لم يزل يلهث، وهو يخفض رأسه حتى صفحة الزفت، كأنه لم يسمعه. وبعد قليل، اقترب شريف منه، أعطاه يده، وأوقفه.
قال عدنان وشيء من التعلق بشيء وهمي يلح عليه:
- لدي رغبة، رغبة تتأكلني، رغبة ما.
اندفع إلى الناحية الواقف فيها شريف اندفاع المحارب معربدًا، مما جعل شريف يتنحى مطلقًا ضحكاته. تركه يضم بين ذراعيه هشاشة الليل، وانتحار النسمات.
وقف عدنان فارعًا، عملاقًا، تجرفه رغبة، رغبة ما، تفتح أصابعه رغبة، رغبة ليست بعد معلومة. أخذت تجرفه رغبة كأمواج الوحل، وشدته ضحكات شريف في قلب العتمة، وكأنه وقع على رغبته، كان يفكر: أرغب في العواء!
وما لبث عدنان أن حط يديه حول فمه، بحيث جعل منهما بوقًا، وراح يعوي:
- عو! عو! عووووووووووو...
انبثق العواء من عروقه، وشريف يواصل الضحك. كان عدنان يفكر: أطربته! ويعود ويعوي:
- عوووو... عووووو! عو!
سيقول عني بعضهم: هذا كلب ضل سبيله! وسيفكر آخرون: كلب يقوم بالحراسة! ورغم ذلك، فأنا أسقط في الليل في كل الأحوال! جاء نباح حاد من الجوف الدامس جوابًا، فقهقه عدنان قهقهة الملتاث. كان هناك أحدهم قد فهم، وها هو الآن يدفعه التفكير إلى أن يقر تقديره للصوت المنطلق من حلقه، وأن يقدر المدى، وأن يذهب مع الصدى المتناقَلِ على أمواج الليل، من وراء ذلك التجاذب الحيواني الذي انبثق بتعاطف بعد أن عوى. أصبحت ثلاثة كلاب أو أربعة تتناوب النباح في أركان متفرقة، وعدنان يقهقه، وشريف يرنو إليه باهتًا، بعد أن ألجمه ذلك التعاطف المريع، وكأن أنيابًا قاطعة تنهش قلبه.
وعلى حين غرة، صاح عدنان:
- ما تبقى أن نمزقه بأسناننا قطعة قطعة!
تساءل شريف: (( عم يتحدث، يا ترى؟ )) ظن أنه يعنيه، فسأله مغتمًّا:
- ما هو؟
- ليل المقابر هذا؟
كان شريف يفكر: هراء! أصابه جنون!
اندفع عدنان نحو عامود الضوء، وأخذ يكيله اللكمات، وهو يشتم.
صاح به شريف مشجعًا:
- عضه بأسنانك!
مما دعاه إلى التفكير بأسى: (( هأنذا، في الأخير، أبدو كلبًا في عينيه!)) عاد شريف يصيح بعدنان مشجعًا ومحمسًا، وعدنان لم يزل ينفذ جريمته الصغيرة في عامود الصلب، تحت مخالب ضوء باهت اللون. وبعد عدة ثوان، انقطع النباح، وعادت لليل سكينة الموت، وبقيت نوافذ الديار مغلقة. كانا في مقبرة ممتدة، وكان عدنان يفكر: ومع ذلك، فقد بقي كجوهر كل شيء جامدًا! بعد أن أعياه الجهد الذي بذله ضد العامود المزروع في الأسمنت. رآه شريف ممزقًا كقطرة ندى على رأس شوكة، وعدنان لم يزل يفكر: إن الموتي من حولي لا ينفع معها نزال! بدا شريف مسحورًا بوضعه المليء بالخيبة. ابتسم من الخيبة، وتسللت ابتسامته في الليل نثرةَ عذابٍ ضاوية. أخذ عدنان يفكر، وهو يحاول ألا يجعل من خيبته علة لحياته: جبيني سماء، وشعري غيم، والقمر زورق! احتار، فرضت عليه الحيرة بضع لحظات من الصمت، ثم صاح قافزًا باتجاه صاحبه، كان عليه أن يفعل شيئًا، فثبت شريف قدمه في الأرض، وتلقفه كما يتلقف دجاجة. فجأة، أخذ كلاهما يضحك، كانا يضحكان هذه المرة كطفلين، بنقاء من لا يبحث عن ظله في قلب البهيم، وبدأ أحدهما يربت على خد الآخر ربتات حارة متتالية فيها شغب عصافير، وتحولت تلك الربتات الحارة المتتالية إلى كفوف ودودة متناغمة. فاض من حولهما بحر الزمن، وفي القلب كان الاحتفال بالألم العظيم. أخذ كل منهما يفكر في الآخر، ويقول: لقد امتلكني! كانا، لحظتذاك، يجدان أنهما ما عادا شخصين غريبين في العالم. ابتعد شريف عنه ليقترب منه، وأخذه التفكير: هناك ما ينتظرنا على التأكيد! وهمس عدنان لنفسه: ما ينتظرنا ما سيأتي!




15
هوى بسوطه عليه، فسقط عبد القادر مثل غصن عن جذع مارد، وتراءت اليد الشبحية الصاعدة الهابطة بآلية، ونصف الرأس الأصلع الزاحف في حريق المشيب، والقامة الرهيبة المضاعفة من حدة الليل، ومن تراجع البطولة. فكر عبد القادر أنه يتلقى حصة من العقوبات المفروضة ضده، ومن جديد، يهوي بالسوط عليه، وتهب في بدنه عاصفة زنابير، فيتمرغ في الجحيم كحيوان ذبيح، وقد انزلق لسانه لاعقًا نعلي أبيه. أنّ عبد القادر، وهو يلفظ الدم، وفي اللحظة ذاتها، أخرج أبوه من ردائه الأسود سكينًا نصله اللامع كان حلمًا مستحيلاً، وأسقطه على مقربة منه، فانغرز النصل، وتوقد الليل. بعد ذلك، انسحب، ومعه أنفاسه الملتهثة، وأغلق الباب.
بقي عبد القادر يتكور دون حراك، مضت ساعة، استجمع فيها أنفاسه، ثم اعتمد على مرفقيه، ونهض بصعوبة: وجهه حطام، ظهره حطام، مركبه حطام. فكر بقسوة: إلى المحرقة! وهو ينظر إلى السكين البديع نظرة نصف مغمضة. فجأة، ومضت في عينيه لوثة نقية، ورذيلة تقية، ومن حلقه انطلق هتاف أبح. زحف إلى السكين، إلى شفرة النار، وحمل أجساد المعذبين. لم يحتمل الثقل الواقع بين يديه، فانقلب على ظهره، وهو يقفل عينيه، ويضم السكين بين ذراعيه. انطفأ الشمعدان، وبقي اللهب الفضي يخفق وحيدًا في بحر البهيم. انعرك في موج الفضة والليل، وراح يتلاطم. كان عبد القادر قد اندفع نحو الحائط، وعاد يندفع نحو الحائط. انقذف بنصله إلى الستائر المسدلة، وعاد ينقذف إلى الستائر. غاص بنصله في المرآة، فحصلت شروخ، وغاص بنصله في الشروخ. وعندما فكر أنه يهدم حصاره، تسلل في عروقه هلع مارد، لكن حركة مجنونة رفعت قبضته، وغرز النصل في قلب الدجنة والموت، فهوت هياكل في المرآة، وهوت هياكل المرآة. كان قد صنع فجوة، دفع رأسه فيها ليفلت من عقاب الأمس وجريمة اليوم إلى عذاب الغد السعيد، فصدمه حائط آخر. فكر: لقد أقاموه على التو ليمنعوا عني المنافذ! وشيئًا فشيئًا، راحت الأشياء في عالم الموت والعقاب تأخذ بالظهور: طرف مضجع، كرسي منقلب، بقعة مفحمة، حذاء مهمل، زجاج محطم، آثار دماء تبرق. وفي لحظة الحسم تلك، جذبه (( شيء )) يشق بالألم والضوء الستارة، (( شيء )) يأتي من هناك، من ناحية لا يجزم معرفته لها. خفق قلبه كالجناح، وتقدم في الألم والضوء، وما لبثت خطواته أن انطوت متراجعة، وفي نفس الوقت، أخذه التفكير في أنه لمن الجنون أن يمخر في مستنقع، أن يسعى في ردم! أخذ يصبو إلى عكس التراجع، وعندما تعلق بـ (( الشيء )) من جديد، اندفع نحو اليقين الحزين، وراح يهمس بحقد وغضب: يا لهم من لئيمين! كيف طاوعهم قلبهم أن يقفلوا عليّ العلبة؟ ألم يروا أني في الداخل؟
(( في الداخل لا يوجد سوى مجنون هو أنت! ))
أطلق عبد القادر تأوهة حارة، وقال: آه! حتى وأنت خارج العلبة، لن يتركوا لك إلا جنونك، فهم لا يستطيعون سلبه! ولأنه لك، لك وحدك! وهو بعيد بعيد ليس في متناولهم! قذف عبد القادر النصل والضوء في الستارة المسدلة، وراح يسدد في سمكها الطعنات، إلى أن تراءت له النافذة المحنطة، والعيون الواسعة، العيون السوداء! تساءل: أهي نار الليل، أم ليل النار واحتدام الاشتعال في نجم أسود ومخمل أحمر؟ أهو البعد الآخر؟ وهناك، أتوجد عساكر وقذارة وأب شرير وسوط تقي ومخالب تنقض في الفضيلة وأساور من شوك وسلاسل؟ أيوجد قمر هناك ونجوم كالعرائس؟ عندي لا توجد حتى ولا نجمة صغيرة! ماذا يوجد هناك؟ ربما كانت أساطير تشغف الألباب!
بذل قوة باتجاه الجواب، فتحطم الخشب المحنط للنافذة، وفج في عينيه ليل العالم.

* * *

كان مصباح البطارية يصنع هالة، واللاجئ ينحني من فوق رأس الطاهر الدائر به فرجار حاذق! كان الطاهر في قلب الهالة يصنع سرقة: بيده مفك طويل، وهو يداعب بالمفك قفل الخزانة، وتقاسيم وجهه تنطق بالثقة. لم يدر اللاجئ لماذا كان يفكر: أراهن على أنها فارغة! كان يريد الفشل من كل قلبه، بينما لا يرى الطاهر إلا النجاح، وهو لذلك، يعمل بحذق واطمئنان دون أن تزحزحه الرياح.
وبحركة أخيرة، ضغط الطاهر المفك، فسقط على الأرض، وانفتح قفل الخزانة. هب الطاهر واقفًا كالزوبعة، بينما انطفأت جذوة اللاجئ على مرأى الذهب المتوهج. لمست أصابع الطاهر المفرطة رقة أقراطًا وأساور وعقودًا وأطواق وسلاسل، وفكر في أن سرقته قد تمت. ملأ الكيس حتى الاختناق، واستقام ليذهب، ولكنه اكتشف، لأول وهلة، أنه يقع بين جدران أربعة، وأن اللاجئ يبكي.
دفعه في كتفه مهتاجًا:
- هيا بنا! لا تكن امرأة!
لكن اللاجئ ظل يبكي، أطفأ مصباح البطارية، فسقطا في العتمة. علا صوت الطاهر من الغضب عليه:
- ماذا تفعل، يا حماقة!
اندفع نحو الباب، ودفع عليه قبضته، فوجده مقفلاً. عاد إلى حيث كان اللاجئ، فلم يجده. كان يسمع في الليل نحيبه، وكان يشم رائحة دموعه، فيتضاعف غضبه عليه:
- أية بلاهة! أية بلاهة!
راح الطاهر يصرخ: أية بلاهة! أية بلاهة! وغدا خائفًا كريحٍ لقيطة ولدت بلا أعاصير.
توسل إليه:
- أنا أمقت أسلوبك، وليس هذا وقته الآن، دعنا نخرج أولاً.
جاءه صوت اللاجئ من سنة 48:
- المفتاح في الخارج.
- ماذا تقول؟
كان اللاجئ قد توقف عن البكاء، فقد بكى بما فيه الكفاية:
- نسيت المفتاح في الخارج.
صفر الطاهر بيأس، وراح يدفع بكتفه الباب. قال اللاجئ:
- من ينسي المفتاح في الخارج، سيقعد منتظرًا مجيء أحدهم كي يفتح له، أو يقذف بنفسه من الحائط.
كان صوت اللاجئ صوت نكبة وأسى وشيخوخة، فلم يتمالك الطاهر:
- أي أبله فاقد لعقله! كيف حصل ذلك؟
- لا أعلم.
- أشعل الضوء لأرى أي أحمق أنت!
لكن اللاجئ لم يحرك ساكنًا.
- أي أبله! أي منهزم! بعدما نجحت سرقتنا، تريد لنا الوقوع في أيديهم؟
كان اللاجئ يفكر: (( أنا غريب، أنا محاصر! )) وكان يشعر أنه في أعمق منفاه.
قال اللاجئ:
- أنا لا أفكر في شيء من هذا.
- لكنها هزيمة: أن نستسلم لهم بعد أن أصبح الذهب لدينا.
- أنا لا أفكر في شيء من هذا... أنا لا أفكر في شيء من هذا!
- أنت أحمق وكفى!
عاد الطاهر يدفع الباب بكتفه، بقوة هرب من نار الجحيم، بقوة فزع من الوقوع في أيديهم، بقوة اللحظة المعلقة بين النصر والهزيمة، واللاجئ دومًا في منفاه. كان هواؤه ممنوعًا، كان هواؤه في الخارج، والمفتاح في الخارج، وقواه أيضًا كلها في الخارج، أما في الداخل، فكان يعجز عن تحقيق كل شيء.
قال اللاجئ:
- قلت لك منذ البداية إنه لمن المحال!
لكن الطاهر لم يتوقف عن دفع الباب بكتفه. أخذ اللاجئ يستمع إلى لهاثه، وبشعور من السلوى يفكر: أحدهم معي! كان ذلك بمثابة عزاء أحمق يركبه وقت الأزمات.
كان بإمكانه أن يشعل مصباح البطارية، كان بإمكانه أن يراه، وأن يصنع له طريقًا، وأن يفتح له النافذة، كان بإمكانه أن يهبه الحرية بِرَمْشِ عين، لكنه كان يحيا حصاره، وكانت هزيمته بعد لم تنته، بعد لم تبدأ، كان لا يعرف على التحديد.
أحس بقفزات تحب الحياة من حوله، بقتالها المستميت، ففكر: معي حيوان على وشك أن يفترسني!
والطاهر راح يهمهم كأسد في قفص حديدي، وعندما اصطدمت يده بوجه اللاجئ، ارتد فزعًا إلى الوراء، وجعله شرطه ينبر:
- أنا أكرهك، أنا أكرهك، لن تتصور كم أنا أكرهك!
كان نهر العتمة يصنع على خده جروفًا، فجرفه الخوف، وفاحت رائحةُ ضيقِهِ وعرقِهِ. كان لا يمكنه تصديق أنهم سيقبضون عليه بمثل تلك السهولة: الذهب بين أصابعه، والحلم الرهيب الذي تحقق بين الجدران الموصدة. دفع بكتفه النافذة دفعة هائلة، فإذا بها تنفتح على مصراعيها، وإذا باللاجئ يصرخ من الرعب:
- ماذا أنت بفاعل، يا مجنون؟!
جرفه سيل الليل الهادر بالصمت والظلام، وبينه وبين نفسه، عزم اللاجئ على ألا يتحرك من مكانه، فهو، وإن كان في الخارج، الذي سيجري امتداد الجدران.

* * *

كان يوسف يفرش أدواته على الطاولة القصيرة، وهو يفكر: (( لدي رغبة في أن أدندن لحنًا! )) وعلى الحائط، كانت تتدلى بعض السكاكين. تناولها واحدًا واحدًا، وراح يشمها. كانت لها رائحة دماء، وكان لهذا سعيدًا. قال لنفسه: إنني طبيب منذ الصغر! لقد دعوني كذلك دون أن أتعلم الطب، ومع ذلك، فأنا أدعى بالطبيب! غدت لديه رغبة في أن يدندن لحنًا لموزارت، ونقب في ذاكرته: أيُّ لحن؟ أيُّ لحن؟ فلم يجد ولا أيَّ لحن.
ألقى على أدواته نظرة إعجاب، وراح يفكر في الخادم: (( إذا دقت الباب تركته موصدًا، وإذا استمرت في الدق خرجت وطردتها! )) كان مشغوفًا بالأدوات القاطعة. أحضر من الخزانة مغلف قطن كبير، ولفائف وضعها على طرف الطاولة مع بعض العقاقير. ومن تحت الخزانة، تناول جاط الفواكه، ووضعه في وسطها. ثم نزل عليه إلهام، إذ راح يدندن لحنًا لموزارت. ورغم ذلك، فلم يكن متأكدًا. كان نصف غائب عن وعيه، وكان لم يزل يفكر في رائحة أدواته هامسًا لنفسه: رائحة دماء... رائحة دماء حقيقية! وقد تهدلت أوداجه، فصار كمن له وجه كلب عجوز. رفع أكمام البيجامة، وقال بعد أن تذكر الخادم مرة أخرى: (( سأطردها لا محالة، سأطردها! )) التفت إلى النافذة. كانت النافذة مفتوحة، وفي الخارج، ليل هائج، ونجوم دموية. أخرج رأسه من النافذة، ورأى قسمًا من الحديقة، وبلاط المعبر الطويل، ورأى الطابق الأول للبناية المجاورة. وللهدوء الشامل، أحس يوسف بالانقباض، كان الليل كمرآة سوداء، عميقًا بلا نهاية، ورغم تساقطه الرهيب، إلا أن العين تبقى في انشداد غريب معه، فيغشاها، ثم يلقي بها في زاوية، ومن بعيد، يمضي مركب الوقت.
في أقصى المعبر، كان يوسف يحدد نظره، ويفكر فيه: سيأتي، وسأناديه! كان يفكر في القط الذي جذبته قطعة اللحم في الأمسيات الماضية. ولّى على عقبيه، ومن تحت فراشه، أخرج ورقة ملتفة بعناية، شمها، ووضعها على حافة النافذة. تذكر أن لديه حساسية "استشمام" مفرطة، رغم أنفه المسدود، ورغم إصابته دومًا بالزكام الطبيعي. طال قدوم القط، فعاد يوسف يلقي بالنظرات على الليل، وهو يهمهم بعناء: الليل، الليل دومًا، الليل الهائل دومًا! كان واقفًا ما وراء الحافة، في ((منعزل ))، وهو، لهذا، راح يفكر بعشق: أي ليل عظيم! دون أن يجرؤ على الانحناء إلى الخارج. حدث نفسه بورع: لم يحن ذلك بعد، أما إذا حان ذلك، فلا بد لي من جرأة عظيمة! رغم أن نصفه العلوي قد راح يميل إلى الخارج، دون أن يفطن إلى أنه قد جرؤ، فما كان يشغل باله مجيء القط.
وصلته طرقات حذرة على الباب، كانت الخادم من وراء باب حجرة يوسف تفكر: (( سأدخل عما قليل من بوابة العالم! )) وكان يوسف قد انتفخ بطنه همًا، فتثاقل باتجاه الباب كامرأة حامل، وقال لنفسه: كيف يمكنني التخلص منها؟ كانت الطريقة الوحيدة أن يطردها بحزم. لكنه كان يفكر في طردها بهمّ بعد أن فقد مشاعره نحوها، أو بالأحرى بعد أن فقد مشاعره من مشاعره نحوها.
قال: (( إنها لا تتقن أكثر من أن تشدني بين فخذيها، فأبصق في سروالي! )) وهي لدنة فوق التصور، حتى ليحسبها المرء قطعة من الشحم المذاب! أخذت الطرقات ترجو، فانحنى يوسف، حط عينه في الثقب، وهمس معنفًا:
- من هناك؟
كان يعرف أنها هي.
جاءه همس مريض، همس عاشق كجواب:
- أنا.
- (( أنا ))، عرفت أن هذا جوابك! اذهبي إلى فراشك، فأنا لا أريد هذه الليلة، من الأفضل أن تذهبي إلى فراشك!
أوجعه ظهره المنحني، إذ لم يزل يدس عينه في الثقب، فعملت مؤخرته العريضة: واحد... اثنان! مجرد رقصة صغيرة، مما دعاه إلى أن يستند بذراعيه على ركبتيه، ووصله صوت منخذل:
- لي معك كلام.
انتهرها:
- ليس الآن، ليس الآن! اذهبي الآن إلى فراشك، أسمعت؟ لنؤجله إلى الغد، إلى الغد!
انتظر أن تقول شيئًا، لكن السكوت ابتلعها. رفع قامته، وهو ينفخ، وفي اللحظة التي التفت فيها، إذا بقط أبيض جميل كالقمر يتطلع إليه من النافذة، وبعد أن تبادلا تحية بالعينين، أخذ القط يحاول تمزيق الورقة الملتفة. رسم يوسف على شفتيه بسمة عاشقة، وراح قلبه يخفق على غير العادة. كان قد تقدم من القط خفيفًا كطائر، وراح يهمهم بمحبة. عندما أصبح على مقربة منه، نفض القط رأسه، وثبت عليه عينه، فماعت بسمة يوسف حتى أغرقته. راح يمطمط فمه، انحرفت شفته العليا إلى الداخل، بينما اندفعت شفته السفلى إلى الخارج، فبان كمن على وشك البكاء. لم تنقطع مناغاته لحظة واحدة، بينما أخذ يفرك إصبعيه بنعومة مقتربًا منه. فكر يوسف: أنا في صدد إدخاله العيادة! وفجأة، هجمت عليه الفكرة التالية: إنه طبيب مزيف! فتعثرت قدمه، وسقط على القط، الذي قفز إلى الخارج.
لم يتمالك يوسف، أخذ يجمجم بنبرة مؤنبة: طبيب فاشل! طبيب فاشل! لن أصبح يومًا ولا أي طبيب! تذكر أن أمه كانت تناديه طوال الوقت بيا نطاسيّ! بدلع خفي، وبفخر سابق لأوانه. جدف:
(( نطاسيّ من قفاي! )) زحف بصدره على حافة النافذة، لكن النجوم الدامية في الأعالي تحولت إلى جمر أسود بعد أن اكتسحها جيش السحاب، وطار القط على أجنحة الظلام.
نقل يوسف على يده قطعة اللحم بعد أن مزق الورقة التي تلفها، ووثب واقفًا على حافة النافذة. كانت الخادمة من ثقب الباب تنظر إليه، وتضع يدها على صدرها الصاعد الهابط، وهي تفكر: عما قليل سيسقط يوسف!

* * *

اجرِ، اجرِ، اجرِ في الليل!
أخذ عبد القادر يجري، لكنه مهما يجري تظل مسافته قصيرة، فالعالم يترامى شرقًا وغربًا، وهو له قدم البزاق.
كان عبد القادر يفكر: أنا لا أجد أحدًا غيري! وفي كل مكان ديار ذات كوى مقفلة، والامتدادات تخططها شوارع، وعندما رفع رأسه إلى السماء، وجدها بعيدة، ليست في متناوله. كانت سماء بقدر الليل العملاق، وبدا عبد القادر عائمًا في بحر أسود بلا شطآن... بلا مراكب. عاد يفكر بإلحاح: أنا لا أجد أحدًا غيري! كان لا يجد أحدًا غيره، ولا أحد يجد طريقه إليه. كان طوال الوقت في الصَّدَفَة، والآن خرج، فمن البديهي أن يضيع.
عندما دخل عبد القادر نابلس القديمة، طرقه غم الحجارة، وموت الأنفاس، وهم الرطوبة. أحس في نفسه بدبيب الأسى، وفي الطرف الآخر من المدينة، قرب المحاجر المحفورة في الجبل، سمع عواء الواوي.
(( لكنه عالم ممتد، وأنا لا أصل إلى جدراني! )) راح اللاجئ يجري مع الطاهر، دخلا سوق الخان، وصعدا درج اليهود، ثم دخلا سوق الصياغة. كان اللاجئ يصطدم بجدران الأزقة، فيرتد على عقبيه لكن الطاهر يمد يده، ويجره، وهكذا كان زحف اللاجئ.
أحس الطاهر بقيمته المفقودة، وهو يضم على صدره قطع الذهب المغتصبة، ويجر اللاجئ بين جدران الأزقة. جرى على إيقاع الدم الصاعد إلى قلبٍ من الذهب والمجد، وسرى كالنهر الجارف لكل شيء. قال: إنني في الأخير أملك (( سرقتي! ))، وكان يعني ذلك، بالنسبة له، أنه قد أنهى العملية.
(( العملية لم تنتهِ طالما بقي هناك ليل! )) هكذا فكر اللاجئ. أراد أن يصيح به: انتظر متى يأتي النهار! لكنه ولى على عقبيه حزينًا، وأخذ يتخيل أمه، وهي تأتيه بحساء العظم في طاس من الألمنيوم، مقدمة له إياه من بين القضبان. قال: نعم، أينما أذهب أجدني في حصاري! إذن... إن الأمر لا يهم أينما أذهب، إن الأمر لا يهم!
خفت حركة القدم التي كانت تطمع منذ قليل في عبور أكبر مسافة من مسار الليل الطويل، فقال اللاجئ خانعًا: ماذا أترك، يا ترى، من ورائي، غير خطوة في الامتداد الشاسع؟ غير موجة في محيط الحلكة؟ ماذا أترك، يا ترى، من ورائي؟ أنا لا أترك شيئًا!
توقف عبد القادر قرب المنارة القديمة، في القلب الحقيقي لنابلس قديمة أسموها شكيم، وكان عبد القادر يفكر: أي حظ! أي حظ! وهو يحسد نفسه على الوقوف هناك في القلب الحقيقي لمدينته، وفي ذات الوقت، كان يشده التفكير إلى غريمه في المرآة. كان غريمه لم يزل ينتصب ما وراء الحائط، وكان عبد القادر يمني النفس: لو خرج لي من بين الحجارة لسحقت رأسه. وبكل عزم، هوى بقبضته المطوقة للسكين التقيّ على جسد الليل، وراح به تبضيعًا، فسالت في حلقه المرارة، وهدمه الشعور بالهدوء المغلف للكون، وبموت الليل، ونفسه، والقناديل القديمة في ساحة المنارة، والدرج العريض للجامع الكبير.
اضطر الطاهر إلى جر اللاجئ من جديد، وجاء به من وراء الجامع. كانت ساعة المنارة تقرع بصخب، فتقلصت نفس اللاجئ كالدودة المنسحقة، ورفع رأسه نحو الزمن المعلن عن هويته. صاح به الطاهر حاثَّا إياه على العدو، وفي ظنه أن الوقت فات. فكر اللاجئ: لقد فوَّت كل شيء، لقد فوتَّ كل شيء، لقد فوتّ كل شيء من قبل أن أولد، وهأنذا أترك الآن كل شيء، للعناكب! انجر من أمامه، وما لبث أن دق قدمه في الساحة المبلطة، وانشد برأسه إليه، كان قد رأى عبد القادر، وهو يخرج من الظلال، ومن الموت، ومن الماضي كله الذي تركه من ورائه.
وفي نفس اللحظة، كان عبد القادر يفكر في اللاجئ، ويقول: واحد من أصحاب تلك الأساطير الشغفة بها الألباب! كان عبد القادر يحدث نفسه باستهجان، ويقول: غريمي! نعم، غريمي! وكان اللاجئ مشدودًا إليه، لا يدري كيف. التفت الطاهر بدوره، فرأى عبد القادر، وبحركة عفوية وقف بينهما. ومن على بعد قريب، برز عبد القادر من على بعد قريب، كشجرة عتيقة، ومن على بعد قريب، تحركت ظلال بيوت هرمة، وظلال أعمدة قديمة، ومصابيح تقذف الضوء بوهن قبل أن يموت. غدت نابلس القديمة كلها تقف من على بعد قريب، وهي تطل من عيني عبد القادر المجنونتين. سال ما بينهم نبع غراء، راحوا يلتصقون ببعضهم، ومن حولهم ليل الموت العظيم. همهم اللاجئ: أي ليل عميق! أي ليل خيالي! دون أن يتوقف الوقت عن المضي لحظة واحدة، وظل الوقت يمضي. رفع الطاهر رأسه إلى الساعة القديمة، فرأى العقرب الضخم المنكسر من منتصفه. كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحًا، بينما كان ثلاثتهم معلقين هناك، على حافة العقرب الضخم المنكسر، ومع زحفه البطيء، كانوا يتساقطون واحدًا تلو الآخر.
فجأة، دق عبد القادر قدمه في الأرض، وقفز نحو الطاهر، وهو يشهر سكينه، لكن اللاجئ دفعه مبعدًا إياه بكل قواه، فانغرز النصل في قلبه المنكوب.
انفجر عبد القادر يقهقه قهقهة عربيدة، بينما أخذ الليل يضمحل رويدًا، رويدًا، والطاهر قد أطلق ساقيه للريح.
لفظ اللاجئ نبعًا من الدم القاني، وفكر لآخر مرة، وهو يبتسم: (( لقد انتهى حصاري! )) ومات اللاجئ مقتولاً. وعلى مرأى الدم المتفجر، عاد عبد القادر يقهقه من جديد، فانتشر الصدى في كل مكان، والليل كان يضمحل، وفي خيال المجنون انهدام جرى في الحائط. أخذ برعب يفكر: أنا أصبح في الضد، في الطرف الآخر من الجدار، ومع ذلك، فالعالم يترامى شرقًا وغربًا، والوقت لا يتوقف!

* * *

العلبة المعدنية فيها ثقوب، وها هي ذي ترشح بتواصل!
كان شعبان يجلس على بلاط الزنزانة، وهو يُلْصِقُ فخذيه بصدره، ومن حوله يضم يديه، كان في ثلاجة ميكروبات، في علبة محفورة في الجليد، ولم يكن هناك منفذ. كانت قطرات دقيقة تغطي سقف الزنزانة، تبدأ بنقطة كرأس الدبوس لا تلبث أن تكبر حتى يهزمها ثقلها، فتتفجر.
فكر شعبان أن وضعه في زنزانة القبو ما هو سوى بداية: في الماضي كانت لي بداياتي، أما اليوم، فلا بدايات ولا نهايات لي، البدايات كالنهايات تبقى لهم، وتبقى بالنسبة لي خارجة عن إرادتي. تكورت قطرة في السقف، وتكورت، ثم استطالت حتى صار لها شكل الحَرْبَة، ومن فوقه تمامًا سقطت، فانفجرت على جبينه، وسالت تشق في حاجبيه قناة. وحَرْبَة أخرى انطلقت كالسهم، وقد اكتسحت من أمامهما مجموعة من القنابل المائعة، عملت قنبلة كبيرة، وسقطت، فحصل على قمة رأسه انفجار. عبرت حَرْبَة ثالثة كالصاروخ، وألقت بنفسها إلقاء من ينتحر، فصفقت له أرنبة أنفه، وتسرب طعمها إلى فمه، فذاق ملوحة مكبرته. فكر شعبان: يبولون عليّ! لقد وضعوا شعبان في مختبر تجريبي لاستنباط ظواهر إنسانية معجزة، إذ كانت تلهب عواطفهم معرفة مدى الصمود البشري، ومدى الاحتمال الجنسي، فحسب اعتقادهم أن العينة التي تدور حولها تجاربهم هي عينة يهودية بحتة!
جاءت قطرة تعدو من وراء قطرة من وراء قطرة، وتساقطت على التوالي: ثلاث قنابل! كانت القطرات الثلاث قد حققت أهدافها، بعد أن أطلقتها يد ماهرة. سقطت على العنق وسالت في الظهر، واكتسحت الراسلين. تكورت قطرة أخرى، وبعد أن ترددت، تمطمطت يسرة ويمنة، فأصبح لها شكل الدمعة، لتبكيها عينا شعبان. كان لا يبكي، كان يشخ من عينه بولهم. تحول شعبان إلى قطعة خراء في بالوعة مسدودة، وجعله السقوط الإنساني يتحرق رغبة إلى تبديل سرواله الداخلي: (( لقد أعادوني طفلاً في قماط! )) تتابعت القطرات متوترة، متحدية، حاسمة، صارت ما إن تسقط عليه حتى تطز، وتتناثر عنها كريات وشظايا. وصارت تزداد مضاء واكتساحًا، كلما تقدم الوقت، وتزداد حيوية واحتداماً.
فكر شعبان دهشًا: إنني ما زلت أفكر! كان باردًا برودة الجدران الصقيعية من حوله، ومن حلقه تتصاعد تجشؤات لها رائحة كريهة. قال: لقد بدأ جلدي يمتص غذاءه، آه! يا إلهي، أية قذارة تصبحني! ولم يعد يمكنه الاعتقاد بكونه لم يزل بعد على صلة بهم. همس: أحكي مع نفسي المنفية، هذا كل ما بقي لي. وهأنذا في كوكب وحدي، أنتظر موتي ببطء! سقطت قطرة افترشت وجهه، فاضطر إلى لعقها كلسان فطر مزروع في قفص تجارب. وسقطت قطرة أخرى، تبعتها قطرات، فنشقها، وهو يلهث. ومع ذلك، فقد قاوم شعبان تحليله. أي ضلال! كان مثلهم، واحدًا منهم، لكن الذي اختلف، أنه موضوع علمي (( فريد )) . سقطت القطرة التي هي موعدها، كانت قد زلقت على خده، فانزاح شعبان، وألقى بنفسه في زاوية أخرى، لكنه ما أن التصق بالحائط، حتى جرفه سيل نتن ينهمر من شق، فغرق شعبان في بحر من قذارة. دفعه السيل إلى التفكير في أن هناك مصرفًا، وإلا امتلأت الزنزانة بالخراء.
راح يلمس بيده أرضها بلاطة بلاطة، وهو يفكر بحمى من الانشداد، بمليون على مليون من التعلق: هناك مصرف! بينما كان واقعًا من قمة الرأس حتى أخمص القدم في قلب الأمراض، ومن حوله ملايين لا تعد ولا تحصي من الجراثيم المهلكة. لقد أصبح المصرف الخارجي الذي بدأ يداعب خياله صلته الوحيدة بعالم الأحياء اللامبالي.

* * *

جثا يوسف على يديه وقدميه، والقط الذي أمامه فعل مثله، ووشوشة الشجرة لم يفهمها. كان يفتح عينيه، ويرمش بين حين وآخر، بينما كانت للقط عينان خضراوان متقدتان بالعشب والعتمة، وكانت ما بينهما قطعة اللحم حدًّا حاسمًا. حادث يوسف نفسه، وقال: أي قط جميل مفكر! وحاول التخفيف من سرعة أنفاسه، إلا أنه عجز، وعاد إلى التنفس كالمزكوم. همس: كلانا يقع وسط العالم! كان بينه وبين نفسه يفكر: ومع ذلك، فأنا لا أملك شيئًا! بدا القط من أمامه كأنه السيد، ليل أخضر في عينيه، وله مخالب قوية! فكر أن هذه المخالب كلها ملكه، وهو أيضًا ملك للقط، وهو أيضًا. بدا يوسف غير مصدق، كان يرى في عينيه انتهاءه، بينما هو، في الحقيقة، لم يبدأ بعد.
نفض رأسه لمرات ثلاث، وقال: لأنني أبقى جاثمًا من وراء حد لا يمكنني تجاوزه! كان القط الجميل لا يراه بعينيه الساحرتين إلا عندما يرى نفسه في عينيه. هزمه التفكير، فراح يكرر على نفسه كي يبثها بعض الشجاعة: إنني طبيب منذ الصغر! طبيب عظيم منذ الصغر! وما أن توقف سرده الشخصي حتى انبثقت في رأسه نجمات قاتلة، كان قد اهتدى إلى أنهم (( هم )) الذين دعوه بالطبيب. قراره لم يكن سوى دعابة، لأنه في الحقيقة قرارهم (( هم )) دون أن يأخذوا برأيه تمامًا كولادته. جمجم: كيف أجرم بهم؟ آه! كيف أجرم بهم؟ وكم كان يحس بنفسه مهملاً، كان يحس بنفسه مهملاً وشقيًّا، وها هو ذا قد بدأ يلهث. نظر إلى الأعالي، ونظر إلى الحشائش المجتاحة بالصفاء والعتمة في عيني القط الجميل، وقال إن في الأعالي سماء لا تنتهي، وفي عينيه الخضراوين حشائش لا تنتهي، أما أنا، ففي حلقي بلغم! آه! يا إلهي! لم يعرف كيف أطلق ابتسامته العاشقة، ولا كيف حمل على يده قطعة اللحم الفائحة بالوقيعة، وقربها من أنيابه البيضاء، ولا كيف اقترب القط من غابة الأفكار، ولا كيف لامسه ملامسته لطفل كبير، ولا كيف حمله بين ذراعيه، وكأنه شريان دم في ذراعه، ولا كيف نقل خطواته هاربًا، ولا كيف ترك العالم من ورائه.

* * *

وقف مازن قرب النافذة، ومسح أنفاسه عن الزجاج، فتبين ضوءًا في حجرة البناية المقابلة. كانت الحديقة بينهما والليل، وكان من ورائه، سعيد وعدنان وشريف يلعبون الورق فوق السرير، وهم في ثياب النوم، وقد تبعثرت حولهم زجاجات فارغة وكؤوس وبقايا. رآها تقف في دائرة الضوء، ففتح زجاج النافذة، وفي نفس اللحظة، تطلع شريف إليه، فقد تسللت نسمة باردة، وما لبث أن عاد يغرق في بحر اللعب.
أخذ قلب مازن يخفق، وهو يفكر: لقد اقترب موعدها، وفي ذات الوقت، كان يفكر فيهم، في أصدقائه، ويقول لنفسه إنهم مشغولون. كان خائفًا، فهو يراها من خلال الليل. وكان الليل من أمامه موجًا متلاطمًا كأنه المحيط، وحبيبته في دائرة الضوء كأنها تطل من نافذة مستديرة في سفينة قراصنة غرقى.
سمع مازن ضحكات سعيد، ففكر أنه، كالعادة، يضحك بلا سبب! سمع لغطهم، وقال لنفسه: ستخرج في الليل مع ذلك! انقبض قلبه، بينما راح سعيد يردد: بعصة كبيرة! بعصة كبيرة! وكل ما كان يفعله شريف أن يشتمه إلى أن يتوقف عن قول ذلك.
فكر مازن: (( إنهم يلعبون من ورائي يلعبون، ومن أمامي ها هي تنتظر! ))
هب الهواء، فتحركت أغصان الشجر الليلي. كان ذلك وحده كافيًا ليخاف، بردت أطرافه، وبرد جبينه، وبرد قلبه. كان لم يزل يشاهدها في دائرة الضوء، من أبعد نقطة غائرة في الليل. لاحظ أنها تحمل كتابًا، فقال لنفسه: آه! كم أنا أبالغ! ليس الأمر بداعٍ لكل هذا الخوف!
تتالت ضحكات سعيد مرة أخرى، كالطلقات، وفي تلك المرة، لم تكن ضحكاته على عادتها، إذ سمع مازن فيها رنة انتصار لم تطربه، ومع ذلك، فقد أصغى إليها، وتابع دون صبر انطفاء الضوء في الوجه المقابل. جرفه إحساس بالخوف فاق طاقته، فقال: (( إنهم يلعبون من ورائي، ومن أمامي ها هي تقرأ، وتنتظر، وأنا، ها أنا أقف وسطهم، أعيشهم جميعًا!))
راح يهمس لنفسه مشجعًا: (( كم أنا أبالغ! كم أنا أبالغ! كل ما يحتاجني أن أنزل إليها! )) وتردد: (( كيف أنزل إليها؟ )) كان باب الحجرة مغلقاً.
قال عدنان:
- لقد هزمنا! الداعر!
وراح عدنان يضحك بمذلة، وشريف يطلق تنهدات المنهزم.
كان قلب مازن قد توقف لحظة واحدة عن الدق، كان يرسم في مخيلته حادثة غرام: كيف سيهمس، وكيف سيلمس، وكيف سيعانق. وكان ذلك وحده كافيًا ليجعله قطعة من زجاج النافذة. وضع مرفقيه على حافة النافذة، وانحنى، فشم رائحة الليل، وشم رائحتها، وشم رائحة كتابها، وشم رائحة تنهدات أخيه، كان لا يستطيع إلا أن يشم رائحة تنهدات أخيه، وفجأة، انطفأ الضوء، ولم تعد ظاهرة لديه، كان قد غمرها الظلام، فضاعفت في قلبه الخوف، وهو لا يني يفكر: موعدها، لقد حان موعدها. نشبت من ورائه معركة، فاضطر إلى الالتفات. رأى شريف وعدنان، وهما يركبان سعيد، بعد أن أوثقاه، محاولين تعريته. كان سعيد يقاوم بكل قواه، وهو يرفس كبغل انسحق تحت حمله الثقيل، وهو ينهق، وهو يطلق الشتائم، وكان سعيد يقهقه، ولكن، تلك المرة، باستسلام. وفي اللحظة التي قلباه فيها على بطنه، وشدا عنه ثوبه، كان مازن قد نزل من النافذة، وراح يلطم في الليل خطاه.
راح يجري بين الأشجار، والنسمة الباردة تلسعه، وفي قلبه يردد: أحث خطاي! أجري! إنني أجري! كان اللهاث يطغى على دق قلبه، رآها، وهي ترفع سلك الحديقة، وتختبئ بين عنب العتمة، فابتسم مازن، لأول مرة، في الليل، وأخذ الليل يلين مع عبوره، وأمواجه، كل أمواجه، تستضيء بمنارة الحب العظيم. في تلك اللحظة، سمعها تهتف:
- عجل!
ترامى قربها، وهو يلهث، ويبتسم، وتبين أسنانه، كان لا يدري ماذا يفعل. تعلق بعينه على الكتاب الذي بيدها، فأشار إليه. لم يكن الكلام يأتيه، كان في حضرتها، ففهمت:
- إذا اكتشفوا أمر خروجي، قلت لهم كان ذلك من أجل الكتاب.
أحس في أصابعه طيورًا، وخفقت الأجنحة، وكان شعرها الذهبي أكمة، فحطت أصابعه في الأعشاش. كان يحبها، وصار حارًّا كأنه يجلس في الشمس.
سألها:
- هل أنت خائفة؟
تجاذبت والتفت بذراعيه:
- لا أشعر بالخوف وأنا معك.
غدا مازن هو، وهي، العالم كله. وعلى الرغم من كونهما ملقيين على طرف، إلا أنهما كانا يعبران الأبعاد الأربعة، يقطعانها في لمحة. فكر مازن براحة جرفت قلبه: إنني لا أنتهي، إنني أكتمل! إنني لا أخاف، فهي لا تخاف، وهي معي! لكنه بقي يتعلق بحادثة صغيرة لم يشاهدها حتى نهايتها.
نادت أمه:
- يا شريف!
كان نداؤها الثالث أو الرابع، وكان نداؤها بمثابة انسحاب أجبرا عليه. تركا سعيد يرتدي ثيابه، وفتح شريف باب الحجرة، فشمت الأم رائحة عري. أغلق شريف باب الحجرة، وبقيت الأم تشم رائحة عري. قالت له بنبرة على حدتها إلا أنها كانت نبرة أم ليست محسوبة:
- أليس بكاف في النهار جعلت الدار مقهى وفي الليل لا تريدنا أن ننام!
- الراديو مطفأ.
- ليس الراديو، ليس الراديو اللعين، وإنما صياحكم!
أعطاها ظهره.
- ها أنت ذاهب إذن!
- أنا حر في حجرتي، أصنع ما أشاء.
وأقفل باب الحجرة، بينما راحت أمه تقول بصوتها الآسن المنهزم:
- أتراك تغنينا بأفعالك؟ أتراها حقًّا حريتك؟ يا رب، لم ولدته!

* * *

(( كي آخذ بثأري )) !
كان يوسف يهمهم: لسوف آخذ بثأري، هذه ليست دعابة! أبعد قطعة القطن المضمخة بالمخدر والعشب عن أنف القط الذي يرفع أطرافه مستسلمًا في جاط الفواكه، في قلب الضوء المسلط عليه من فوهة
(( التيبل لامب )) . أحس بتنمل في أصابعه، وراح يتأمل القط بعينين تذوبان في عنف الخطوة التالية، لقد أصبحه، أما بعد لحظة، فلن يكون. فرك أصابعه بالشرشفِ الأبيضِ الرابطِهِ حول رقبته، فتدلى كسترة الجزار، وانطلقت من شفتيه بسمة متوترة لم تلدها بعد أية شفة أخرى مشرقة في الليل. أخذ خدر عميق يتسلل إلى أعماقه، والقط يرفع قدميه دومًا باستسلام، فنقل يوسف المبضع بين أصابعه، ووقتذاك كان يوسف في استقبالٍ لثأره. رفع المبضع إلى أعلى ما يكون، وقلبه يخفق على غير العادة، وقلب القط يخفق، وقلب الخادمة الناظرة من الثقب يخفق، وفي ذات الوقت، تصل إلى استنتاجها الخاص: من أجل هذا أغلق يوسف الباب! أعادت وضع يدها على صدرها، ودموعها على وشك الانهمار، وشفتاها تجمجمان قصيدة: القط جميل، القط جميل ورائع! ويوسف يفكر: إنني جميل، إنني جميل ورائع! كان لا يدري أن أحدهم يفكر من وراء الثقب أنه على وشك أن يحيل القط الجميل إلى شرائح!
اكتمل خدره في اللحظة التي نشبت فيها الحركة القاتلة، وجرفته تفجرات الدم، ومن وراء الباب دوت صيحة شاهده الأوحد. كان قد انتهى، وكان قد بدأ، وكان قد جرى صوب الباب، فجر سلك الضوء الكشاف، وسقط المصباح، وسقط في الظلام. استطاع أن يتبين شبحها، ويديها المرفوعتين حول فمها، وفمها المفغور، ونظرتها الفزعة، نظرتها المتهمة: قاتل، قاتل، جبان، قاتل، جبان، وقاتل! وكان المبضع لم يزل في يده، بينما يتوهّج دمًا وإخلاصًا. جذبها إلى صدره الخافق بعنف، فراحت تتلوى بين ذراعه، في الدم، بطريقة مدهشة. أمّر النصل قرب عينيها اللتين انفجرتا بصمت عظيم، فرثا لها، وهو، لذلك، عدل عن زرع النصل المقدس في عنقها. كانت وقتذاك بخسة، بخسة، كان ثمنها أقل من ظِفْرٍ لقط. وعندما قضم شفتيها بأسنانه، انبثق صوت أمه النائم:
- ما هذا؟ من يصيح هناك؟
دفعته الخادم عنها، وهي تنقل لا إرادتها وخضوعها، كونها خادمة حقيرة، وراحت تعدو. انبثق ضوء في ردهة الدار، فدخل يوسف حجرته بسرعة، بينما عاد صوت أمه بقلق يسأل:
- من يصيح هناك؟ من هناك؟
فكر يوسف في صاحبة الصوت الذي يتخلله قلق وتساؤل، وقال لنفسه: (( لن تكون هذه أمي! ))




16
طرق السجان على شعبان باب الزنزانة، وكأنه رده إلى واقعه. كان يقطر ماء من قمة الرأس حتى أخمص القدم، والرائحة الكريهة تجتاح أنفاسه. انتفض على تيار بارد يجرف كيانه، فتجاذب، ونهض محني الظهر، فالسقف الواطئ لا يسمح له بالوقوف. سمع حركة المفتاح العابثة في قفل الباب، ووصلته لهثات السجان (( الإنسانية )) وأنفاسه (( الحية )). انفتح الباب، فإذا به وجهًا لوجه معه، مع شاربيه الكثين، وخديه المتلاطمين. جذبه بسوطه، فخبط بصدره، ثم دفعه على القضبان، وانفجر يقهقه. انتزعت القهقهات المجلجلة من شعبان كل أفكار ليلة البارحة، انتزعته من أفكار ليلة البارحة، ولم يعد بمقدوره أن يعيدها إليه، أو أن يخترع لنفسه غيرها. أحس بأنه على وشك الدخول في شيء من هذا، من هذه الأفكار، لكنه كان يفتقد إلى الاستعداد، وكانت تنعدم لديه المقدرة على أن يحوك لنفسه مصيرًا آخر، وها هو السجان يعود إلى جذبه بقبضته، ساحبًا إياه في الممرات الرطبة شبه المعتمة، بينما شعبان يتبع ككلب ذليل من ورائه، عار من كل ما يمكن الإنسان أن يجد في الإنسان، أو أن يجعل مما في الإنسان مرامًا وملاذًا.
وهو في قبضة السجان الحديدية، كان شعبان يحس بنحوله، وقهره، وخذلانه. وكان السجان، بين الحين والآخر، يلقي عليه نظرة غريبة، وهو يلمس بخيلاء لا يصدق سوطه المتدلي على خاصرته. وبعد أن قطعا الممرات الطويلة، وصعدا الدرجات الضيقة، دلفا إلى ممر قصير عند نهايته باب يُفتح على ردهة واسعة، يدخلها شعبان لأول مرة.
قال الضابط للسجان:
- هذا حسن، يمكنك الذهاب.
حدق شعبان في كل شيء من حوله، فرأى أن الردهة عارية على التقريب: جدران صخرية، وطاولة مدقوقة، وكراسي حطبية، ومعطف أسود، وعلى الحائط، صورة لميزان، كفٌّ تهبط بثعبان يمد لسانه المتشعب، وكفٌّ تصعد بأفراخ مغتبطة دون أن يبدو عليها أدنى شعور بالخطر. وفي أقصى الردهة، طاولة أخرى أطول وأعلى من الأولى، تنتصب من فوقها آلات غريبة يقف قربها ثلاثة من الرجال العراض، راحوا يحدقون في شعبان. لاحظ شعبان من ورائهم مقعدًا طويلاً عليه بعض الجلود، وفي الزاوية، رأى فرنًا فيه نار، ومن جوف الحائط المواجه، انبثقت خزانة حديدية مفتوحة، لكنه لم يستطع تبيان، حتى تلك اللحظة، فحواها. كان كل ذلك يبعث على السحر، حلّق شعبان كالعصفور، وذهب في غيبة قصيرة، ثم انطلقت في رأسه زقزقة الأفراخ: (( حجرة تعذيب! حجرة تعذيب!)) كان ذلك يُسمى لهوها، فهي لا تدرك ما تعنيه حجرة التعذيب، رغم وقوعها في نفس الحجرة، وتهديدها بنفس الخطر. وكان ذلك يُسمى سَهْوُهُ، رغم قابلية اللمس لكل شيء فيها، ويقينه الأكيد.
هوى الضابط بكفه على شعبان، وبصفعة هائلة لطمه، فدك صُدْغَهُ دكًا، وراح يهدر:
- اجلس!
انتزعه من غيبته القصيرة تلك، ليعيش قصته بالفعل. الْتَهَمَ بأصابعه وجهه، لكنه لم يترك له فرصة تجميع الألم، ولم شمل الصفعة السخية التي أشعلت النار في عنقه وصُدْغِهِ وطرف جبينه، إذ دقه بكعبه في ساقه، فكاد يكسرها له:
- قلت لك اجلس!
أخذ شعبان يلتفت من حوله بحثًا عن مقعد في ذلك العراء الشديد، ولم ينتظر الضابط ثانية واحدة، إذ جذبه من قامته، ودون كبير عناء، ضغطه ضغطًا ساحقًا على البلاط. استدار على نفسه بحركة عسكرية، واتجه نحو طاولة الغاب، وشعبان يحدق دون ذهول. كان في ساقه خدر يموت حتى الآن، أما آلام صدغه، فقد جعلت من رأسه كرة فولاذية. بدا الضابط ضخم القامة في اللحظة التي نزع فيها عن رأسه قبعته، وظهر منكوش الشعر، حجري العينين، كث الحاجبين، ناصع الياقة. وقبل أن يرفع بيده ورقة، امتدت أصابعه، وكنست جبهته المسطحة. كان أكثر ما يغيظ فيه ذلك الأنف الدقيق الحار وسط تلك الصينية المستديرة التي كانت وجهه. جلس على كرسي حطبي، وراح يرمي النظر إلى شعبان، وهو يفكر: رديء، التقرير رديء! لكنه ما لبث أن انفعل:
- التقرير رديء!
نهض منحنيًا من وراء الطاولة، وفتح جرارًا، وهو لم يزل يقرأ التقرير. كان لا يختلج، لا يرتعش، لا يتنفس، كالصنم، كالوثن، كصخور الجدران. رفع عصا مخروطية، وهو لم يزل يتابع قراءة التقرير، ووضع العصا على الطاولة، وشعبان يرقب بهدوء. كان شعبان لا يفكر أنه يرقب لأنه ينتظر ما سيجري عما قليل، لكنه كان يرقب بهدوء، مجرد أن يرقب بهدوء. أراد أن يحرك ساقه، فلم يستطع. أما يده المضغوطة على خده، فقد زلقت من تلقاء ذاتها، وحطت على صفحة البلاط. رفع الضابط عن التقرير عينيه، واستدار بحيث استند بظهره على حافة الطاولة مواجهًا شعبان:
- اسمك شابان ديفيد؟
لم يجبه.
انقض عليه، كأنه جبل، وقبض عليه من خناقه، جذبه إليه، فارتفع شعبان بين يديه دون صعوبة، بينما تأججت عينا الضابط، وراحتا تذرفان دمعًا ناريًا، احتقن، فأخذ يلهث إثر كلماته المتتالية:
- اسمع، ستقول لي كل شيء دون مواربة، أسعى إلى تحقيق مباشر، وإلى أجوبة صحيحة حاسمة، وإلا عذبناك، وإلا جلدناك، وشويناك، وإلا انتزعنا لحمك، وفتفتنا عظمك. أنت يهودي، نعرف ذلك، فلا حاجة بك إلى التمسك بالقناع، وإلا سأحرقك، والله سأحرقك! ستقول لي كل شيء، أفهمت؟ كل شيء، وإلا سأحرقك، والله سأحرقك.
تركه يسقط من بين أصابعه، ونفض ذاته، سوّى أكمام بزته، واستعاد وجهه حيويته:
- إننا نهتم جيدًا، لنقل إنه من دافع قناعتنا أن نهتم جيدًا بأن يأخذ التحقيق مجراه الطبيعي، وأظن أنك تفهم تمامًا ما أعنيه. أعطيك مهلة دقيقة واحدة، فقط لتفكر، ولتضع كافة الأفكار التي ربما تخالج قلبك نصب عينيك، واعمل حسابك على ألا تنسى أيًا منها، فلم تعد هناك أية فائدة بعد وصولك إلى هنا. لقد قالوا في التقرير الأخير إنك أزعجتهم، أما معي، فكن مطمئنًا، كن مطمئنًا تمام الاطمئنان، لن يكون معي أقل إزعاج. دقيقة واحدة!
كشف عن معصمه، وأحدد نظره إلى ساعته، وشعبان لم يعد يفكر أنه قال حقيقته، فأبوا أن يصدقوها. يهوديٌّ هو، هكذا هو في عرفهم، يهوديٌّ، وهم لا يصدقون سوى شكوكهم.
تأججت عينا الضابط من جديد، وهو يكشف عن معصمه، وسال الدمع الناري. كان معصمه يحلق كالجناح قرب حزامه الجلدي، وكان شعبان يحس بانشداد إليه، كان هناك، في صميم ذلك المعصم القويّ، كان في عروقه، في أعماق عروقه. ومع ذلك، فقد كان ذلك المعصم وصمته.
نبر الضابط:
- لقد تعدى صمتك الدقيقة!
وماذا يمكن شعبان أن يقول أكثر مما قال؟ في كل مرة كان يقسم، وما قاله في كل مرة كان صادقًا، لكنهم رفضوا تصديقه على أساس أن صدقه أمر لا يسر، ولأن في كذبه راحة لهم، كان كذبه مبتغاهم. كانوا يسعون إلى تزويره، ولم يكن يخطر على بالهم إنما هم الذين يسعون إلى تزوير أنفسهم.
فتح شعبان فمه، فاعتدل الضابط في وقفته، وانتظر متأهبًا، لكن شعبان التجم عن الكلام. أطبق فمه، ليعبر بذلك عن يأسه. استدار الضابط برأسه غاضبًا، حيث طاولة التعذيب، وبإصبعه –إصبع إلهية في الواقع- قام بحركة عصبية. تقدم أحد الجلادين من شعبان، فرأى شعبان على صدره سترة جلدية كسترة الجزار تصل الركبتين. خرجت من فم الضابط كلمات ضبابية، إذ رأى شعبان فورة من الضباب على شفتيه... وهاتان الكلمتان اللتان يلفهما الغموض حتى تلك اللحظة:
- المرحلة الأولى.
لم يبد على وجه الجلاد أي تعبير، كان متيبس الوجه كوجه الطاولة، ارتفعت ذراعاه الحطبيتان قبل أن تلامس شعبان يدا الجلاد من تحت الإبطين، وشعبان يرى القامة العملاقة، والذراعين الماردتين. حشا المارد أصابعه في إبطي شعبان، ونفضه، فإذا به يحس بنفسه خفيفًا بعد أن طار في الهواء. ألقاه على طاولة التعذيب، ضغط ذراعيه على الجانبين، مدد ساقيه، وصلب رأسه، بحيث توازى والطاسة الكهربائية المدلاة بخيط على ارتفاع قصير، تمامًا من فوق وجهه. تفجر في عيني شعبان ضوء شرس، فانقفل جفناه، وانسحقا في مقاومة غير مجدية لطوفان الضوء. اندست إصبع في جفنه الأول، فالثاني، واقتلعتهما، ففتح شعبان عينيه، وتلاطم نظره مع أمواج الغضب الشفاف، غدا شراعًا كالحلم يرق ويذوب باستمرار دون أن تتمكن الأصابع العاشقة من التحقق في امتداده. لم يعد بإمكان شعبان أن يجد ذواتهم، لم يعد بإمكان شعبان أن يجد ذاته، غدا، هو، ذلك الانبهار القوي، انبهار فجّر أعضاءه، وفتها. فجأة، أطفأوا الضوء، فأعادوه إليهم، وفي هذه المرة، كانوا هم في الظلام يغرقون.
قال ضابط التحقيق:
- النقطة الأولى التي من الواجب أن ننهيها هي إقرارك بأصلك (أضاف بغطرسة): أعطيك دقيقة واحدة أخرى وأخيرة.
وأطبق فمه.
كان الجلادان الآخران قد انهمكا في العمل، أخذ أحدهم يدير يدًا خشبية أدارت بدورها، بواسطة جنزير، بَكَرَةً بدأت تجذب ذراعًا حديدية تنتهي بيدٍ تقبض على كُلاب، بينما أخذ الآخر يجذب قرب رأس شعبان آلة أخرى فتح ملقطها، وأنزله بحيث حاذى طرفاه أذنيه. تطلع شعبان على مستوى ساقيه، فوجد أن الذراع الحديدية قد انفصل عنها فرعان أخذ يبتعد أحدهما عن الآخر، سائرًا في خط أفقي، وغدا هناك كُلابان يتدلى كل منهما من ناحية.
نبر الضابط:
- انتهت الدقيقة!
ودون أن يملي على الجلادين أوامره، ألقوا على صدر شعبان وبطنه حتى أعلى فخذيه غطاء جلديًا سميكًا عقدوه ما دون الطاولة بأقفال حديدية، ثم أحاطوا عنق شعبان بطوق جلدي، بينما كبلوا يديه بلويهما على حافة الطاولة.
عاد الضوء الشرس إلى التفجر، فثنى البرق عنق شعبان، ولوى الوجع أمعاءه. كان الضابط يجمجم دون توقف:
- لقد فقدت عقلك، أيها اليهوديّ! لقد فقدت عقلك!
وفي أقل من لحظة، كَمَشَهُ الكُلابان من الركبتين، وبدآ يفسخانه من الفخذين، بينما تهادى الملقط في سيره المنزلق حتى جمّده من الأذنين، إلا أنهم أطفأوا الضوء.
- لديك ثانية واحدة، ثانية واحدة أخيرة، اعترف!
ولكن دون أية فائدة.
رفع الضابط يده كمايسترو، وأنزلها، فذهب الموسيقيون في عزف غريب. بدأت نغمة الكرة الجنزيرية منسابة إلى أن دخلت في ذلك النشاز المتواصل، بمهارة فائقة أبداها العازفون. أخذت البكرة تدور، وتدور، والذراعان الحديديتان تتلولبان، تتلولبان، بينما رفع شعبان الكُلابان قليلاً إلى أعلى، وحدث صرير جاف، وأزيز صدئ لجر وسحب. راحت الذراعان الحديديتان تسيران في اتجاهين متعاكسين، بينما انفرجت ساقا شعبان، وانفسخت فخذاه حتى أحس في عضوه توترًا تبعه تقلص إبري: كانوا على وشك أن يمزقوه. وكان ضغط الملقط قد وصل إلى غور غائر في لحم صُدْغيه، حتى آنذاك لا يؤذي.
ارتفعت يد المايسترو من جديد –يد إلهية في الواقع- واهتزت بعصبية، فتوقف العزف، ولما يبدأ بعد! فحت في أُذني شعبان حيايا الحلق العاجي، كان ينحني فوقه، وأوداجه تنتفخ:
- هاه! ماذا قلت؟ هذا لا يسمى بالعذاب حتى هذه اللحظة!
حاول شعبان أن يحني رأسه ليتأمل ملاك العقاب، لكن الملقط كان يجمده بين قطبيه. استدارت عيناه، وحلقتا منه على مقربة. اعتقد الضابط أنه شاهد طائرين محترقين ينطلقان منهما، فصرخ بأعلى صوته:
- عذبوه!
فسخوا لحمه، فصاح شعبان صياحًا مجنونًا مع الضغط الرهيب للملقط الباعج لصدغيه، الداكك لأذنيه. رفسته قوة مهولة من أعماقه، فتقوس ظهره المعاكس لضغطٍ استطاع مقاومته، وتشنجت أصابع يديه المكبلتين، أصابع يديه النحاسيتين تشنجت، وشعبان يبدو كالوردة اليانعة.
كفوا عن تعذيبه، بعد أن راح يسيل من بين فخذيه، فسقوا طاولة الغاب، وتوردت وجنات الجلادين وأطراف أصابعهم.
وصل شعبان صوت حائر كأنه القبلة المنتحرة:
- سنعطيك فرصة أخرى (ثم تلك الهمسات التي كأنها الحلم): اعترف... اعترف... قل إنك يهوديّ... اعترف... اعترف... قل يهوديٌّ أنا... اعترف... يهوديٌّ أنا... اعترف...
لم يفطنوا إلى أنهم أضاعوه في غابة الحلم، فأعادوا الكرّة، ودكت عبثًا جدران الردهة الصنمية صرخات شعبان الجنونية، قبل أن يغيب عن الوعي.
صحا شعبان كالوردة الذابلة، كانوا قد ألقوه في الزاوية، هو ومزقه في دمه، أحس تحته ديدانًا تزحف أو تغطس وتعوم، وتصنع منه مستنقعًا مثاليًا على أرض حجرية.
- انهض!
ولكن كيف ينهض؟ لم يطرح على نفسه السؤال.
- انهض! انهض!
لم ينهض شعبان، كان يضغط رأسه على الجدار.
- انهض! انهض، انهض!
لم يرعش شعبان، كان يفتح عينه على الجدار.
رفع الضابط قدمه، ودق الأصابع النحاسية بكعبه، فتلوى شعبان كالحيوان المهيض، وحاول النهوض. رأى شبح الضابط يذهب، فظن أنه يجيء، وكان قد جاء قبل ذلك بكثير، بسيخ ملتهب، أخذ يتراقص على مقربة من وجه شعبان كلسان من جهنم، والضابط يجمجم بعصبية: لقد جاء دورك، أيها العاشق! لقد جاء دورك! دفع السيخ الناري قريبًا من عينيّ شعبان، فحسب أن نيزكًا يريد افتراسه. أخذ يدفع رأسه على الجدار، ليشق منه منفذًا. والضابط لم يزل يجمجم: لقد جاء دورك، أيها العاشق! لقد جاء دورك! وعما قليل ستقبله الشفة الزمردية من الثغر، ومن العين، ومن الذقن، وسيذيبها الغرام الأهوج في عنقه إلى أن يصطلي عنقه، ويحيلها إلى رماد في مجمرة الملعونين.
- قلت لك انهض! انهض!
قبله بالجمر من جبينه، فعوى ذلك اليهوديّ، ودغدغه بالجمر من ثغره، فعاد يعوي ذلك اليهوديّ، وعضه بالجمر من أنفه، وذلك اليهوديّ يعوي في كل مرة يلتحم فيها شعبان بالجنون وبجهنم، أحرقه في كل مكان، فغرد لحمه، وذوى، وإثر الكي، انتشرت في الحجرة رائحة إنسانية كريهة، حتى أن الجلادين لم يقاوموا دموعهم التي تساقطت، ولأن حرائق التبن أيضًا يكون لأدخنتها نفس المفعول مع دموع الراعي والذئاب.

* * *

كانت إنعام تجلس على السرير، على مقربة من شريف، وهي تكشف عن معظم فخذيها. وكان شريف يستند بظهره إلى الحائط، بينما تداعت قدماه العاريتان ما دون الحافة. كان يمج دخان سيجارته، وعيناه تطفوان على سطح الوهم. لم يمتنع شريف عن التفكير: ها هي ذي حاضرة بحضورها الكلي إلى جانبي. انزاحت إنعام برأسها، وألقته على كتفه، ثنت ساقيها، وهو تدس يديها بين فخذيها السمراوين، وطفت على سطح الوهم مع عينيه، لم تكن تفكر إلا فيه.
قالت له:
- أنت لم تزل غاضبًا لأني لم آتِ ذاك النهار.
لم يجبها. كانت تريد تقبيله، لكنه يمتنع عن إعطائها شفتيه. منذ ساعة، وهما معًا، قبلها حينما جاءت، وكان ذلك فقط بدافع العادة. كان يكره ولعها الغريب، إذ كانت تحبه. همس شريف لنفسه: أنا أحب حبها لي. انتفضت في جلستها، وتكومت بعيدًا عنه في الزاوية.
- أعتقد أنك لم تزل غاضبًا مني لأني لم آتِ ذاك النهار.
اجتاح صوتها العتاب:
- أنت تهمل الإجابة! شريف، ما لك؟
التفت إليها، وابتسامة باهتة على شفتيه، كان ينزف على مهل.
- شريف، ما لك؟
بقي ينزف على مهل. كان يفكر: ها هي ذي تبدو جميلة اليوم على غير العادة! تأملها بعين مفرغة، وما لبث أن ألقى نظره على فخذيها، وجعل عينيه توغلان في المعصية. كان يبحث عن اللذة، عن تطبيق اللذة دون عراك شهواني، لكنه لم يفلح، إذ أثارته البضاضة النابضة بالحياة. غلى الدم في عروق يديه، وسرى تيار الوجع، فتمزق غلاف غريزته الشافّ.
جذبها، فجن جنونها. طواها حتى تراخى عنقها في حضنه، وراح يتأمل ذلك الألق الأحمق لذينك العينين الرماديتين في مجمرة عتيقة: مجمرة هواها. قرَّب من شفتيها سيجارته، فشمت بدورها ذلك الألق المحترق، بلذة مجنونة تطمح إلى امتطاء سرجها، ودك العالم بحوافرها. قرَّب العين المتوهجة أقرب ما يمكن من شفتيها، فراحت تلهث، وراح صدره يهبط، ويصعد، كأنهما الفارس والفرس، كانت تحدق في حياتها معه، فلا ترى سوى ذلك الألق المختطفها من العدم، ليبعثها من جديد. راح شريف يفكر: إنني أرعبها! إنني أتصرف بقدرها! وكان ذلك وحده كافيًا كي يدفع تلك العين المجبولة بالموت والشمس على شفتيها، إلا أنه لم يشأ سماع صراخها المريض ولا آهاتها الملتاعة. كان بحاجة ماسة إلى إطفاء الحريق، فقلبها من تحته، وغاص بيده بين فخذيها. راح يعجن أصابعه في الدسم والحرير، ثم انتزع ثوبها، فناداه نهداها المستسلمان، لكنه جعلها تموء مواء طويلاً يعقد بين فخذيه غرورًا يعني رجولته. وفي الأخير، انطلقت تصرخ صراخًا مكتومًا، متواصلاً، وقد انقلبت إلى الوراء، وهي تهمهم شبه غائبة:
- حبيبي! اقتلني، حبيبي! اقتلني، حبيبي! اقتل قلبي!
انتزعت أظافره، وطحت شفتيها بين أسنانه، فاجأتها قوة غريبة في اللحظة التي نزفت فيها شفتاها.
- اقتلعني، حبيبي!
فخلع سرواله.
غدا بينه وبين نفسه ولع أحمق، لكن عدنان لم يفطن إلى ماهية ذلك الولع المتكاثر في دمه كجرثومة نهمة تشقى حبَّا في الحياة. اعتصر بين أصابعه الرسالة، وقال مصممًا: سأسلمها لها اليوم، يدًا بيد. سأعترض طريقها، وأدفع ذراعي لأقبض على كفها، أفتحها، وألقي فيها رسالتي، ثم أنقلب على أعقابي عاديًا. توقف تحت عامود، ومن فوقه تمضي بالشمس مراكب ذهبية وبحيرة زرقاء أقرب إلى العفوية، لاحظ أن الناس في حالهم اليوم، فهم لا يحسون بوجوده. خيل إليه أنه يقف وحده على الرصيف، رغم عبور الآخرين. وخيل إليه أن الشارع له وحده، وهو يتصرف فيه بحرية. رمق ساعته على عجلة، وخفض يده، ثم أودعها في جيبه، واعتصر الورقات المطوية. قال: ستأتي عما قليل. راح قلبه يخفق كالحافر في الرمل، دون أن يترك آثارًا، بينما رفع شريف سرواله، ونهض، وهو يصرخ صرخات مكتومة:
- أكرهك، كم أكرهك!
رفعت ثوبها حتى نهديها، وجلست تتكوم على نفسها كقطة قرب منقل استنفد دفئه. أشعل شريف سيجارة، ووقف قرب النافذة معطيًا إياها ظهره، فقالت له بذل:
- لقد سببت لك الألم.
حنى رأسًا متوترًا، وهي لم تزل تقول:
- لا يمكنني أن أسلمك نفسي.
أغمضت عيناها، وتكاسل شعرها على ظهرها. أضافت متثائبة:
- أنا عذراء.
نفخ عدنان، وقال لنفسه: الشمس حامية ككل يوم! أحس بالعرق ينفذ من أصابعه إلى الرسالة، فأخرجها من جيبه، ورأى أن بعض الحروف تسيل بالملح، غضب قليلاً لأن ذلك سببه الحرارة، فتطلع إلى نهاية الطريق، وراح يمسح بمنديله جبينه.
قال شريف:
- أنا لن أفسدك، أتظنينني وغدًا إلى هذه الدرجة؟
رمت عليها ثوبها، ونهضت إليه.
راح ضحك خافت متواصل يصل من جوف الحجرة كأنه صهيل مهر عمره يومان، شدها حاتم مبعدًا عن صدره، وقال لها:
- اسمعي، إنني جائع، فما رأيك؟
عاد الصهيل المديد يدغدغ له ذقنه.
- أنا جائع، فأنت قد أنهكت لي قواي.
رفعت فرح رأسها الأشقر إليه، كانت بسمتها هلالاً طفلاً، وكان حاتم لا يفكر في القمر الحار المرتمي في أحضانه. دغدغته من خاصرتيه، وهي تقهقه، فاندفع إلى الوراء، وراح يصيح دون أن يطلب نجدة من أحد:
- كفى، كفى، أنا لا أطيق مثل هذه اللعبات!
وبعد جهد جهيد، استطاع أن يشدها من ذراعيها، وأن يوقفها. عندما هدأت، جمع على وجهها ذهبها، ونثره، ثم همس:
- يا طفلتي، يا طفلتي!
نهض حاتم إلى الباب، فقالت فرح من ورائه:
- إنه لمن حسن الحظ أن يكون أبواك في القرية، فهذا يجعلنا نلتقي دون رقيب.
تطلع إليها، وراح يضحك بقوة، وتجعدات وجهه تصنع الجروف. قال لها:
- فخذاك جميلتان، يا حبيبتي!
سحبت على فخذيها ثوبها، وقذفته بفرشاة من خزانة الزينة:
- يا لك من شره خنزير!
انحنى لتفادي الفرشاة، وهو يقهقه، لكنها جذبته من ذراعه، فالتفت شريف إليها، وتعلقت على عنقه:
- أنا آسفة، لن تتصور كم أنا آسفة!
تخلص منها وراح يهمهم:
- هذا لا شيء، لم يعد هذا مهمًّا!
سحبته من ذراعه، وظلت تسحبه، حتى عادا يجلسان على حافة السرير، وعادت تفك أقفال ثوبها. ألقى شريف نظرة خاطفة على نهديها، فلم يثر ذلك في نفسه إحساسه الماضي. همهم:
- لا أريد، لم أعد أريد.
تناولت أصابعه وفرشتها على نهدها، وراحت تعصرها، وهي تغمض عينيها بقوة، وكأنها في حالة اختراق. لكنه لم يكن معها، كان قد تحول إلى عاصفة من القرف والهموم والشكوى الذبيحة، وكان يحس في أعماقه بابتذال مذل، وها هو على وشك أن يقذف أحشاءه، ويقيء. انتزع يده عن نهدها، وراح عدنان يفكر: لقد تأخرت عن العبور! ورفع عينيه إلى شرفة دارها علها تكون قد عادت دون أن يراها.
قال حاتم، وهو يمضغ، وقطعة خبز بالمربي في يده:
- قولي، متى سنتزوج؟
راحت فرح تضحك كأنه فجر في خاصرتيها نكتة غريبة، أوقف مضغه، وقال بأسف لا يدريه:
- لقد أورثني أبي منذ ثلاثة أشهر، لأنه على حد زعمه، يكرهني، فتركني أفكر في أن أرد إلى نفسي اعتباري.
- اعتبار أم ضلال اعتبار؟
- سمّه ما شئت (ثم أضاف بروية): ما رأيك لو نتزوج الآن؟ قولي، ما رأيك؟
جعلها تفكر لبعض الوقت، وفي النهاية أوضحت:
- إن لي أبًا صعبًا كما تعلم.
ترك قطعة الخبز بالمربى جانبًا، نزل قربها، وأدناها منه:
- هذا لا يهمني، لا يهمني هذا بتاتًا! (وأضاف بلهجة واثقة): لدينا المال، وإذا رفض أبوك، هربنا.
تسلل خوف مارد في عروق ساقيه، وابتلع عدنان في حلقه، كان قد رآها. راح يهمس لنفسه: سوف أظل في مكاني ريثما تدنو منّي، وما أن تصبح على مسافة مترين، أتقدم منها، وبسرعة أنهي العملية.
راح عدنان يحرق الأُرَّمَ على ذكرها: فادية... فادية...! وهتف في روحه صدى آخر للاسم، تراخت نهايته في مسمعه متراجعة. أحس عدنان أنه على وشك الانزلاق من على سلك معلق في الفضاء، أو، أنه، لربما، سيستمر في قطع الشوط حتى النهاية. وبينما كانت تقترب، كان عدنان يخفق كالجناح، بدا مهمومًا، ولم يمنعه اقترابها من أن يفكر بأن خفقاته عمياء وجنونه هو حبه، هذا الحب الممنوع! أصبح باردًا كلوح الثلج، وقف كشبح له، أو أنه كان الشبح ذاته. اعتصرت بين أصابعه الحروف، وصار ما بينهما متران، والنسمة تتلاعب بشعر الليل في مجون. وكانت هي قد أذابت في عينيها تلك القامة التي تختفي في امتداد العامود ليصبح لها ذلك الطول، وذلك القنديل المطفأ في رأسه. خبأت عنه ابتسامتها، وفي نفس اللحظة، تراجع عدنان خطوة، فأشاحت بوجهها عنه، ثم خفضته بين قدميها، وراحت تحث الخطى عابرة من أمامه.
أحمق!
تطلع من حواليه، كان الشارع خاليًا، لكنه تفاجأ عندما رأى ظلا له على الرصيف، فحدق في ظله طويلاً، وعرقه يسيل على خديه، وعلى شفتيه. أحس بالضآلة، بينما أشعة الشمس باقية دومًا عبر الأبعاد. قال: حب غير معقول! حب ممنوع! واكتسحه شعور بالتفاهة واللاجدوى. ردد: حب غير معقول! حب ممنوع! وراح يحدق في ظله، وفي الأشعة الشاقق فيها خطًّا. رفع عينيه إلى شرفة دارها، فرآها ترفع الستارة، وتنظر إليه. ابتعد بنظرته من نظرتها إلى ظله، فمزق الرسالة، وقذفها، وراح يتدافع قاطعًا المسافة من ظله إلى نفسه.
فكر شريف: أمل وأختها ستأتيان عما قليل، ونظر إلى ساعته. كانت إنعام تدخن سيجارة، وقد راحت تمج الدخان بشراهة، بعد أن تتركه مدة في صدرها. تساءل شريف: أتراها تحرق مجدًا؟ والتفت إليها هادئًا، أغرقها في عينيه الآسيتين، ثم قال لها:
- لم أكن أعرف أنك تدخنين على مثل هذه الطريقة.
أطلقت إنعام نفسًا دخانيًّا هائلاً، وتمتمت:
- أود لو أحترق.
أبدى شريف:
- هذا مضر.
فرسمت على ثغرها بسمة ساخرة. عاد شريف ينظر إلى ساعته، فسألته:
- هل تنتظر أحدًا؟
- نعم.
كان شريف يفكر في الفتاتين، وفي عدنان، ويقول: لم يأت هو الآخر. قال شريف:
- أنتظر فتاتين.
بقيت عيناها تتعامدان في الصدى، في ذلك القول اللطيف، وفكرت: إنه يسخر مني! مجت دخان عقب سيجارتها، ثم قذفته، فاصطدم بالحائط، وانتك نثاره الألق. كان شريف قد شاهد النيزك المبتذل الذي فر، والتهمه الفضاء الشاسع، بعد أن نثر إرادته، وامحت، وامحى عنه ابتذاله.
- سيأتي عدنان، لكني لا أعرف لماذا تأخر.
وقام، أزاح الستارة قليلاً، وراح يتطلع في معبر الحديقة. فجأة، صارت هناك خطوات على سطح الحجرة، فانقبض قلب إنعام. قال شريف:
- هذه أمي، تقوم بدور الحراسة (سكت قليلاً قبل أن يضيف، وهو يرتكز بيده على حافة الديكور): إن لي أمًا طيبة لو تعرفين.
- لا أشك في ذلك.
أحس بالضيق، وبالكره لنفسه، وتمنى ذهابها، وفي نفس الوقت، كان عدم ذهابها بالنسبة إليه واحدًا. توقفت أمه عن الحراسة، فقال:
- لقد توقفت أمي عن الحراسة.
- هذا لأنها أم طيبة.
داعب بأصابعه الدنادش الحمراء الورقية المتدلاة من فوق السرير قبل أن يقول:
- وأنا، لهذا، أكره أن تكون أمي كذلك.
لاحظ حركة فاترة في عينيها، ففكر: لم أعبر عن قصدي تمامًا!
- لأن أمي تمثل دور الواثق من أبنائه، وفي نفس الوقت، تتجاهل ((علاقاتهم )). إنني أعتبرها ثقة في غير محلها، فمن المفترض أن تكون الثقة في محلها، بغض النظر عن علاقاتنا، وبغض النظر عن مصارحتنا لها أو عدم مصارحتنا. لقد فكرت أنني سأكره أمي يومًا لسبب كهذا.
امحت الحركة الفاترة في عينيها، ونهضت، وهي تدس حذاءها في قدميها.
- إلى أين؟
- أنا ذاهبة.
- لن أمنعك، أما إذا أردت البقاء، فهو أمر مستحب أن يجري ما بينكم تعارف، لقد طلبت مرة أن أقدمك لعدنان.
- ستقدمني له في وقت آخر.
- حسنًا.
نقلت على يدها حقيبتها، وعلى الباب، قالت له:
- متي أراك ثانية؟
- لست أدري، فغدًا المحاكمة، لربما كانت آخر جلسة، لكني لا أدري على التأكيد، لربما اعتقلوني.
- لن يعتقلوك، عمك الوزير سيستعمل صلاحياته، أليست للوزير صلاحيات؟ وستكون جلستك الأخيرة، هأنذا أطمئنك! وبإمكانك ألا تذهب على الإطلاق، أو، أن تذهب، وتطالب باعتقالك.
باغتته لهجتها الحاسمة، رآها تريد الذهاب بأي ثمن، فأراد أن يقول لها: انتظري مني كلمة، سأكتب لك كلمة. لكنها طرقت من ورائها الباب، وتركته وجهًا لوجه أمام قراره الحاسم.

* * *

ذهب شريف بعد خروج إنعام مباشرة إلى مركز الكهرباء الواقع على طرف المدينة، حيث يعمل العامل أسعد، صاحب الدور الأساسي في الحزب الذي اتصل به مرة. وأول ما واجهته ضجة المحركات الضخمة، أغمض عينيه، دون أن يستطيع احتمالها، أحس للحظة أن الأرض به تميد، فتماسك بعد حين، وهو يفتح عينيه بقوة، ووطأ بقدميه بداية الحلم.
قال لأسعد دون مقدمات:
- جئت لأنتسب إلى الحزب، جئتكم، فاقبلوني!
ابتسم أسعد حتى أشرق كل كيانه، وشريف يميز الضوء في عينيه، يميز الضوء، ويعي صعوبة الضوء.

* * *

دفعوا شعبان إلى حجرة التعذيب من جديد، وقد جعلت الحروق من وجهه المشوه قناعًا رهيبًا. لم يعد شعبان الحاج داود بعد أن غدا ذاك الآخر، حتى أن أمه لو رأته لما صدقت أنه هو: لقد نزعوا لحم وجهه، وألبسوه ذلك القناع الرهيب. وفي المصحة التابعة للسجن، شاهد وجهه الآخر في المرآة، فارتعد من شدة الخوف. كانت الحروق قد مزقت وجهه في حروق أخرى، وحروق، وصنعت كتلاً لحمية كالألسنة الفاحمة الملتوية على بعضها بانحرافات دموية. وهو يدفع قدمًا من أمام أخرى حيث ضابط التحقيق في انتظاره، أحس بالداء يفتك في كيانه. لم تعد هناك مرحلة انتقال أخرى نحو شخصه الآخر، فقد كانت النهاية، والاستقرار الأخير في العذاب الأخير.
تقدم منه الضابط مبتسمًا، فأخذ يتابع بسمة الضابط، وهي توسخ له فمه، تصلب عنقه، وغدا قلبه حجرًا، لكن البسمة انطفأت فجأة، وأعلن الضابط:
- غدًا يوم محاكمتك.
تقدم من شعبان خطوة، وأشار إلى السجان بالانسحاب، فانسحب، وأقفل من ورائه الباب. أخذ الضابط يقول، ونغمة (( حنان )) مفاجئة تكتسح صوته:
- ولكن بإمكاننا أن نتفاهم هذه المرة.
جر لشعبان كرسيًا، وساعده على الجلوس، ثم حط ذراعيه على كتفيه، وجعل يديه تتدليان. ركز نظره في عيني الحيوان الفزعتين، وقال:
- سأساعدك، هذا وعد أقطعه على نفسي، وسيكون الحكم مخففًا (سكت ثم رفع إصبعًا منبهة): تحت شرط واحد.
تناول من جيبه سيجارة، وأشعلها:
- أن نتفاهم (وأضاف بعجلة): أفهمت ما أعني؟
كان شعبان يحدق في الصنم، ويعجز عن إشاحة وجهه عنه. راح يتابع ذبذبة الشفتين المرسومتين بدقة دون أن يتساءل كيف أمكن أن تكونا للضابط:
- ما أعنيه أن نتفاهم على أمرين.
وقدم لشعبان علبة سجائره:
- خذ سيجارة.
لكن شعبان لم يقم بحركة واحدة. أعاد الضابط العلبة إلى جيبه، وأملس مليًا على وسام مغروز في صدره:
- الأمر الأول أن تقر بكونك يهوديًّا، أما الأمر الثاني فهو أن تعترف بأن دخولك كان بعد مخطط عسكري سابق إلى أراضينا.
التقم الضابط سيجارته، وصفق مبتهجًا:
- ثم ينتهي الأمر، وسيأتي الحكم مخففًا.
تركه، وحسب ظنه، يفكر في عرضه، في تفاهم كهذا يمكن أن يحصل. كان الضابط قد نسي أن الوحش مات، وأنه لم يدق القطبان متمردًا، ويدقهم، وينفذ بجلده، كي يكملوا إحراقه في نار المجد. نفث ضابط التحقيق دخان سيجارته في وجه شعبان الرهيب، ثم قذفها. اهتزت عضلات وجهه البدين مهتاجة، وراح يرتدي ثوب الصياد الطموح، في اللحظة التي اندفع فيها صائحًا:
- لا يمكن أن تكون أخرس اللسان، فقد سبق أن حادثوك، ولكنك معي تعاند! سأنتقم!
انحنى فوقه، وأنهضه بذراعين فتيتين، ثم ما لبث أن أسقطه. كان شعبان يسقط بالغضب، غضب الضابط، دون أن يبحث عن التنفيذ، فلم يعد ينتظر ما انتظر، لم يعد ينتظر أكثر مما رأى. راح الجلادون الثلاثة يتحركون من حوله بأجسامهم الخيالية كغيلان جزيرة مسحورة لم يكتشفها سندباد من قبله، والضابط لا يتوقف عن إعطاء الأوامر:
- انقلوه إلى المنضدة! سأحطمه!
وفي لحظة الحسم الأخيرة، وثب ثعبان على قدميه متحفزًا، وكأنه استعاد وحش الأعماق، وراح يهمر كاشفًا عن أنيابه، وعن فكرة أخرى، غير التي فهموها، وغير التي يصدقها فيما مضى، كانت فكرته أن يقتلهم، نعم، أن يقتلهم. أن ينزع لحمهم عن عظمهم، وأن يعوم في الدماء، بعيدًا عن دوافع العمل اليومي.
انقض عليه اثنان منهم، فغرز مخلبًا في عين أحدهما، واقتلع لحمًا نيئًا، لكن الجلاد توهج بلون أحمر قان متوتر كلون كل الدماء. تقهقر الجلادون، فأتى ضابطهم بعصاه المدببة، وراح يكيلهم الضربات، ثم انقلب على شعبان، مجمجمًا، لاهثًا، وعصاه تطيع بسحر غريب. كان شعبان قد لف رأسه بذراعيه، متفاديًا الضربات دون جدوى، والذئب في أعماقه يصرخ دون صراخ، ويعوي دون عواء. وكلما أهوى بعصاه على رأسه، انفجر نبع الدم في الصخر العتيق، وهدر، في الأخير، جاء الصوت الأخير، وحضرت القوة الأخيرة، هكذا، فجأة، قبل أن يتساقط في هاوية الموت وحش الأعماق. كان شعبان قد انقض على الضابط، ثم غرز في عنقه أسنانه. راح الضابط يستصرخ أعوانه، فهجموا على القوة الأخيرة، وحاولوا نزع الأسنان المتشبثة بالحياة، إلا أنها كانت شهوته الأخيرة، فلم يستطيعوا معها شيئًا. راحوا يصرخون به، ويلكمونه، ويحاولون فقأ عينيه، ونتف رمشيه، وحاجبيه، وما زالت عضلة الرقبة الدسمة تئن بين أسنانه، والضابط يعوي عواء شل أيادي جلاديه، وأطلق في جسد شعبان خدرًا أزرق لا يمكن وصفه. إلى أن ارتمى اثنان منهم على ساقه اليسرى، وبمجهود العتاة والجبارين، زحزحاها، أمسكا بكعبه، ولوياه، ثم أخذا بفتل ساقه كالمبرد، فجلجلت من أعماقه صرخته الأخيرة، وهوى كالجبل على الأرض، وقد ترددت على فم غريمه صرخته ذاتها، إذ أنه اقتلع بأسنانه قطعة لحم من عضلة عنقه. كان أعوان الضابط قد أخذوا في طحنه من جديد، وهم لا يتوقفون عن الهمهمة لحظة واحدة: (( قل إنك يهوديّ! اعترف، قل إنك يهوديّ! )) وهو يواصل صرخته الأخيرة من الأعماق، ومن أعماق الأرض يعوي...
(( قل إنك يهوديّ! اعترف، قل إنك يهوديّ! أيها القذر! قل إنك يهوديّ! اعترف، قل إنك يهوديّ! )) بينما راحت تمزق حنجرته والأرض أعتى صيحة أطلقها حيوان منسحق:
- يهوديٌّ أنا... يهوديٌّ أنا... يهوديٌّ أنا...
وفقد اليهوديُّ حواسه كلها، بعد أن أغابوه عن الوعي.

* * *

جاء في إحدى الصحف الفرنسية أن (( أسرى الحرب اليهود يعاملون في بعض سجون الدول العربية معاملة تمجها الإنسانية ومعاهدات جنيف والقوانين الدولية وشتى الشرائع، باعتبارهم بهائم، أو ينقصون عنها مرتبة ))، وقد ضربت مثلاً في (( اليهودي شابان ديفيد الذي يجري تعذيبه الآن في الأردن ))، وهي في هذا المقام تناشد (( الرأي العام العالمي والقوى العادلة في كل مكان أن تتدخل للحد من تعذيب هذا الإنسان المناضل والعمل على إطلاق سراحه )) .



* يتبع القسم الثالث في كتاب مستقل



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الأول
- أنفاس الديوان الثالث
- أنفاس الديوان الثاني
- أنفاس الديوان الأول
- أربعون يومًا بانتظار الرئيس
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة -سيدتي-
- كتب وأسفار
- الذئاب والزيتون
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب
- الكناري
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية
- باريس


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - المسار أضخم رواية في الأدب العربي القسم الثاني