|
مرض الزعامات البارونية في الأحزاب الشيوعية العالمية / 1
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3667 - 2012 / 3 / 14 - 22:40
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مقدمة تعرض هذه الورقة للزعامة البارونية بتحديد ملامحها العامة و تمظهراتها أولاً بالمقارنة مع الأنماط الأخرى للزعامة ، و من ثم تتطرق إلى إستعراض مساويء القيادة البارونية ، قبل أن تستعرض مظاهر تجليات هذا النمط من القيادات في الأحزاب الشيوعية العالمية و مدى تأثيرها في تطور هذه الحركة ككل . و مفهوم الزعامة البارونية ليس بالجديد ، و سنرى كيف أن زعيماً بارونيا مثل ستالين يطلقه على غريمه الباروني الثاني و الأكفأ تروتسكي لإزاحة الأخير من كرسيه و ذلك في خطابه في جنازة لينين . كما يذكره الروائي جنكيز أيتماتوف في روايته الرائعة "وداعاً يا غولساري" . أولاً / تعريف مصطلح "الزعامة البارونية" إزاء الأنماط الأخرى للزعامة المقصود بالزعيم الباروني هو ذلك الشخص الذي يستطيع - بحكم الظروف و/أو التحركات الإنتهازية - أن يتسنم الموقع القيادي في أية مؤسسة أو منظمة أو حكومة أو دولة أو شركة ، و الذي يحوّل تابعيه إلى مجرد بيادق شطرنج لتلميع عظمته كقائد "فذ" لهم ، و خدمة "صورته" على حساب المصالح المصيرية و الأهداف الستراتيجية للمؤسسة التي يفترض فيه خدمة مصالح أفرادها و تحقيق أهدافها . و هو يحكم على رفاق دربه بالتقريب و الإستبعاد بمقدار قيامهم بتبجيله و الإنصياع الأعمى لأوامره ، أو على الأقل مهابته . و من مميزات هذه الشخصية إجتماع كل هذه الصفات السلبية فيها بهذه الدرجة أو تلك من الشدة: 1. الإيمان الطاغي و غير المتزحزح بكونه شخصية فذة و غير إعتيادية و مركزية في المؤسسة التي يقودها ، و هو معصوم من إرتكاب الأخطاء لكونه صاحب خبرة طويلة و متميزة تجعله يميز بين الخطأ و الصح ؛ كما أن لديه "تاريخ" طويل و مجيد في قراع الخطوب و البطولات ، و لذا ينبغي للجميع ممن هم حوله الإعتراف به و تأدية مستحقاته من التعظيم و التمجيد و الإنصياع له في كل شيء . 2. أنه هو الشخصية القيادية الأجدر للكرسي الذي يتربع عليه ، و بدونه سيفسد أو يتهدم كل شيء بدليل إنجازاته (الحقيقية أو المزيفة) العظيمة التي يشهد عليها الكل و التي ما كانت لتحصل بدونه . 3. أن كل شركائه و أفراد معيته مدينين له كلياً بالمناصب التي يتسنموها ، و لذلك فأن عليهم (أي من هم أدنى درجة منه) إظهار إمتنانهم لجميله عليهم عبر التوقير و الإنصياع و "الإخلاص" المستمرين لشخصه و الحفاظ على سمعته و مركزه حتى الممات أو الإستقالة الطوعية أو الإجبارية . 4. أما من هم أعلى منه ، فينبغي له خدمتهم و الإنصياع الأعمى لهم مثلما يريد من أتباعه الإنصياع له . 5. و في حالة سنوح أية فرصة ملائمة ، فلا يجب له أبداً التواني لحظة عن إزاحة أقرب و أقوى المنافسين له عبر كسب الأشخاص المؤثرين الذين يشاركونه في إتخاذ القرارات بحكم مناصبهم و ذلك عبر خطب ودهم و التصاغر تكتيكياً أمامهم ، و إن حتى حين . 6. الإستهتار بمصائر كل التابعين و الشركاء و المنافسين بازاحتهم بدون رحمة و بلا أدنى تبكيت ضمير ، و إسدال ستار النسيان عليهم بهذا الشكل أو ذاك دون مراعاة المصلحة العليا للمؤسسة أو المنظمة التي يترأسها هو . 7. الأنفة في التعامل مع من هم دونه من غير القياديين و من الناس الإعتياديين ، أو الإمتناع عن إستقبالهم و الإختلاط بهم ، مع إبداء بعض التنازلات في الحالات الحرجة خصوصا عند بزوغ نجم صاعد منافس أو خطر جسيم يمكن أن يتهدد زعامته الواحدة . 8. تمييز الذات عن الآخرين في المظهر و الملبس و المأكل و المسكن و التصرفات السلوكية عبر كسر العادات السائدة فيما حوله في كل ذلك . و يمكن أن يأخذ تمييز الذات أنماطاً متفاوتة من أقصى القمم إلى قعر أدنى الوديان . ففي الملبس مثلاً ، يمكن أن يتراوح تمييز الذات بين الحرص على إرتداء أفخر الملابس إلى أشدها تقشفاً ، و كذا بالنسبة للمظهر : شكل الشوارب و اللحى ، تسريحة شعر الرأس و لون الشعر و لباسه ، تسطير النياشين ، لبس الأحذية العالية أو الطويلة أو الصغيرة جداً ، إختيار صورة للقطة معينة بالذات لتمثيله دون غيرها ، مع الإبقاء عليها حتى الوفاة ، مسك العصي أو الكتب أو غيرها باليد ، ركوب الخيل أو العربات أو السيارات أو الطائرات المتميزة و غيرها ، و تدخين صنف نادر من السجائر أو أكلة معينة ، إرتداء بذلة رسمية أو غير رسمية متميزة بعينها ، إلخ . 9. تكلف التواضع و تأكيده ألإلتزام به شفوياً و استعراضياً بهذا الشكل أو ذاك و في كل حين . 10. غالباً ما تكون الشخصية البارونية كارزمية ، و لكنها متدنية الثقافة و الكفاءة الذهنية (معدل ذكاء متوسط أو دون المتوسط) و كذلك في قابلياتها العملية و التنظيمية . و هي برجماتية ، و تعتاش على إنجازات غيرها من الشركاء التابعين أو الزعماء السابقين من ذوي الشخصيات المتوازنة ؛ و هي غير قادرة على إستشراف آفاق المستقبل ، مع وجود إستثناءات أو فلتات سياقية نادرة جداً . و إزاء الزعيم "الباروني" ، هناك الزعيم "المتوازن" ، و الذي قد تتجلى فيه بعض الصفات السلبية أعلاه بهذا الشكل أو ذاك ، و لكنها تتعادل بالسمات الإيجابية المتوافرة فيه ، كما أن معايير السلوك لشخصيته تتقاطع حتماً مع التجليات المتطرفة للسمات 3- 8 . أما الزعيم "المثالي" ، فهو على الضد تاماً من الزعيم الباروني ، حيث تنتفي عنده كل من الصفات أعلاه . و هذا النمط من الزعامة نادر المثال جداً مثل روزا لكسمبورغ و كارل ليبكنخت و غاندي و مصدق و مانديلا و عبد الكريم قاسم و جيفارا و لومومبا و الليندي و سوار الذهب و بالمه ( يلاحظ هنا أن ثمانية من هؤلاء الأحد عشر هؤلاء قد ماتوا شهداء . و لو حرصنا على إدراج كل الزعامات المثالية خلال القرن العشرين مثلاً لازدادت نسبة الشهداء على 8/11؛ هنا الزعامة المثالية تغري الزعامة البارونية بالعمل سراعاً لقطع الطريق أمام مسيرتها و إزاحتها أو التسلق فوق أكتافها و تسنم الكرسي منها) . كما أن هناك الزعامة "الخامدة" أو "المغمورة" أو "السلبية" و التي تكتفي بمحاولة إدارة الأزمات مثل عبد الرحمن عارف و حكام الكويت و بروناي و غورباتشوف و رؤساء الوزارات في أغلب بلدان أوربا الغربية حالياً (سويسرا و فنلندا و النرويج و هولندا و بلجيكا و النمسا و إيطاليا و أيرلندا ، الخ) . ثانياً / تجليات الزعامات البارونية و أضدادها في التاريخ الحديث يزخر تاريخ البشرية بملايين الزعامات البارونية في كل العصور و على المستويات كافة . و لكن أعظم قادة الفكر و السياسة و المجتمع في التاريخ لم يكونوا بارونيين ، بل كانوا على العكس تماما: شخصيات مثالية أو متوازنة: كلكامش و سرجون و جوديا و هانيبعل و حمورابي و إبراهيم و عيسى و محمد و كونفوشيوس و بوذا و سقراط و أفلاطون و ماركس و إنجلز و غيرهم كثير . و من أشهر الزعامات البارونية في القرن العشرين : هتلر و موسوليني و ستالين و تروتسكي و أتاتورك و نوري السعيد و تشرتشل و ماو و فرانكو و سالازار و دوفاليرا و خروتشوف و كيم إيل سونغ و أولاده و أحفاده و إيدن و ثاتشر و بلير و ساركوزي و كل الرؤساء الأمريكيين من ولسن إلى أوباما (و من واشنطن إلى ولسن) ، و بول بوت ، و شاوشيسكو و شاه إيران و من تلاه باستثناء خاتمي ، و كل رؤساء باكستان باستثناء بوتو و إبنته و زوجها ، و كل الملوك العرب من أصحاب السلطة المطلقة و أمراء المشايخ العرب عدا الكويت ، و هيلاسلاسي و السادات و عبد السلام عارف و الأسد الأب و الإبن و البكر و النميري و مبارك و زين العابدين و القذافي و صدام و البشير و صالح و الجميّل القتيل و المالكي ، و أغلب رؤساء الوزارات في إسرائيل من بنغوريون و بيغن إلى شارون و نتنياهو ، و يلتسن و بوتن و كثير غيرهم ، و البقية تأتي . هذا على مستوى القمم ، و لكن هناك الآلاف من الزعامات البارونية على صعيد المستويات التنظيمية كافة ، و في كل المؤسسات ، من الوزارات إلى أدنى الملاحظيات الحكومية ؛ و من اللجان القيادية العليا للأحزاب السياسية و الجيوش إلى الخلايا القاعدية و المجاميع الصغيرة بمستوى الرهط و الدوريات القتالية . و يلاحظ أن الزعامات المغمورة أو الخاملة تسود في البلدان الصغيرة الضعيفة التي لا تواجه تحديات مصيرية كبرى أو التي "لا يحصل فيها شيء من الأخبار" على حد قول الصحفيين ؛ كما يلاحظ عموماً أن تواتر حكم الزعامات البارونية على مستوى القمم السياسية في الدول القوية إقتصادياً و عسكرياً و ذات الموقع الستراتيجي الحساس يزيد بكثير على عدد الشخصيات المثالية فيها . و لكن لا توجد هناك علاقة مباشرة بين نوع نظام الحكم القائم و بين تواتر القيادات البارونية على قيادته . و كل هذا لأن القيادات البارونية تمتلك المقدرة على تسلق كل القمم المتاحة و في كل الأوقات كائناً ما كان نظام الحكم السائد ؛ فالعقل البشري لم يخترع بعد نظاماً للحكم أو للإدارة ذي معايير مؤثرة تكفل قطع الطريق المفتوح دوماً أمام الزعامات البارونية لتسنم أعلى المناصب . و من الزعماء المثاليين أو المتوازنين بهذه الدرجة أو تلك في القرن العشرين ممن تحضرني أسماؤهم : لينين و سفردلوف و ديغول و شيراك و ديمتروف و تيتو و هوشي منه و دوبتشيك و بالمه و مكاريوس و عرفات و أديناور و براندت و شمدت و كول و أمري ناجي و كل رؤساء الهند و مصدق و هسياو بنك و الليندي و باباندريو و جمال عبد الناصر و عبد الكريم قاسم و البزاز و سوار الذهب و قادة اليمن الجنوبي و ولد عبد العزيز و سوكارنو و بورقيبة و منغستو و إمبيكي و محاضير محمد و سنغور و كاسترو و غيرهم . و المقصود بالزعامة المثالية أو المتوازنة ليس خلو مسيرتها من الأخطاء تماماً - إذ لا وجود لمثل هذه الزعامات في أي زمكان في العالم - و إنما عدم تجلي أي من الصفات (3-10) فيها بشكل منهجي . و يلاحظ أن التوجه العام لمسيرة أصحاب الشخصيات الزعامية المتوازنة و المثالية تؤشر صوب الإبتعاد عن العمل في النشاط السياسي أو الفشل فيه أو الإكتفاء بتسنم الموقع المساند كمستشار أو خبير ، أو التفرغ للعلم و الأدب و الفن و البحث الأكاديمي . و هم أولى الشخصيات التي تهمش أو تزاح من القيادة في كل المؤسسات و المنظمات بفعل حركية القيادات البارونية إزاء زهدهم بالكراسي و تقديمهم لأنفسهم أهدافاً سهلة للغدر بلا عواقب ، و من ثم خلاص البارونيين من وجع الرأس و خطر المنافسة . كما أنهم غالباً ما يحيون و يموتون فقيري الحال لكونهم كرماء و يحتقرون المال رغم مقدرتهم على جمعه . و أخيراً ، فإن الزعماء المثاليين قدموا للتاريخ أمجد الشخصيات المأساوية المغدورة ، من أنكيدو و سقراط و بروتس و سبارتكوس ، إلى الليندي و كنفاني و مارتن لوثر كنك ، ناهيك عن تزويدهم التاريخ و الإنسانية بأعظم الثوريين .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرأة في العالم العربي : بين جدران و باب موصد كلما حركه الس
...
-
كشكش و شركاه
-
حكاية تنين العراق
-
حنقبازية سوق الصفافير
-
ليس في الأمر غرابة
-
إجوبة مختصرة على أسئلة مهمة
-
ملحمة السادة العميديين في الكفل عام 1983
-
هل نسي رافد ؟
-
ريما أم عظام
-
ليلة زيارة الموتى للمقابر
-
القتل و الإبتزاز و الدفن : مجرد تجارة ، ليس إلا
-
رجع الوجع / الحلقة الأخيرة للرواية / 20
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 19
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 18
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 17
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 16
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 15
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 14
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 13
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 12
المزيد.....
-
توجهات دولية في الحرب التجارية الضروس
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 600
-
العدد 601 من جريدة النهج الديمقراطي
-
ارتفاع أسعار الذهب اليوم الأربعاء 16 أبريل 2025.. توقعات باس
...
-
الجبهة الشعبية في يوم الأسير: الأسرى في قلب المعركة الوطنية
...
-
الفصائل الفلسطينية: سلاحنا للدفاع عن النفس والغزّيون طليعة ج
...
-
م.م.ن.ص// من يمول الإبادة الجماعية؟ ومن يسهلها؟
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي المكتب السياسي :بيان للرأي العا
...
-
بلاغ إخباري للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع
-
لا لإعادة تسليح الاتحاد الأوروبي! لا لاتفاقية ترامب – بوتين
...
المزيد.....
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
-
قراءة ماركسية عن (أصول اليمين المتطرف في بلجيكا) مجلة نضال ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسائل بوب أفاكيان على وسائل التواصل الإجتماعي 2024
/ شادي الشماوي
-
نظرية ماركس حول -الصدع الأيضي-: الأسس الكلاسيكية لعلم الاجتم
...
/ بندر نوري
-
الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية
/ رزكار عقراوي
المزيد.....
|