|
في فِقْه -المؤامَرة-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3665 - 2012 / 3 / 12 - 14:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مناخ "الربيع العربي"، وفي مناخ "الأزمة السورية" على وجه الخصوص، انتعشت وازدهرت نظرية "المؤامَرة"؛ ويطيب لأنصار كل نظام حكم عربي يوشك أنْ ينهار ويسقط أنْ يَفْهَم، ويُشيع فَهْم، "المؤامَرة" على أنَّها شَرٌّ (سياسي) يهبُّ من "الخارج (اللعين)" على "الدَّاخل" المليء بـ "الخَيْر" و"الأخيار"، أو المحسود على ما أنْعَم به الحاكم (العربي) على شعبه ووطنه من طيب عيشٍ وأمنٍ واستقرارٍ ووئامٍ وحرِّيةٍ..
"المؤامَرة" هي مكيدة تُدَبَّر، وتُحاك، وتُحْبَك، ويُخطَّط لها، سِرَّاً وخِفْيَةً، ضدَّ خَصْم، أو عدو؛ فإذا كانت خارجية المَصْدَر فلا بدَّ لها، ولأصحابها، من "أدوات داخلية" للتنفيذ؛ وإنَّ كثيراً من هذه "الأدوات" يكون على هيئة أُناسٍ جَهَلَة، مضلَّلين، مخدوعين، ليس لديهم من قوَّة البصر والبصيرة ما يسمح لهم برؤية "الأيادي" التي تحرِّكهم، وإدراك المقاصِد والمآرب الحقيقية لأصحابها.
ومن نظرية "المؤامَرة" تتفرَّع نظريات أخرى؛ منها، على وجه الخصوص، نظرية "الأجندة الخارجية"؛ فهذا "الدَّاخل"، الذي يمثِّل "الخير"، بمعانيه كافة، أو ببعضٍ منها، يمكن أنْ يَضُمَّ جماعات منظَّمة، تَنْتَسِب، بقولها وفعلها، إلى "كلمة حقٍّ يُراد بها باطل"؛ فهي تُظْهِر نقيض ما تُبْطِن، وتُبْطِن نقيض ما تُظْهِر؛ نيَّاتها وغاياتها وأهدافها ومقاصدها الحقيقية (والتي هي جميعاً اسْتَنْبَتَتْها مصالح قوى خارجية) لا تشبه أبداً نيَّاتها وغاياتها وأهدافها ومقاصدها المُعْلَنة؛ وإنَّها لا تتسربل بكل "كلمة حقٍّ"، أي بكل مطلب، أو شعار، أو هدف، يَقَع موقعاً حسناً من نفوس العامَّة من الناس، إلاَّ لتُسَيِّر، ولتُحْسِن تسيير، رياح كل حراكٍ شعبي بما تشتهي سُفُن الأعداء والخصوم الخارجيين الذين يتربَّصون بنا الدوائر.
و"المؤامرة"، عند "التنفيذ"، نراها، أيضاً، أو نرى بعضاً من "أدواتها الداخلية"، على هيئة "قوى مندسَّة"، أي جماعات تندس بين المتظاهرين (الأبرياء الصادقين في نيَّاتهم ودوافعهم ومطالبهم..) فيأتون بأعمال من شأنها إخراج "القطار" عن "سِكَّته"، وتسيير الأمور في اتِّجاه غير الاتِّجاه الذي أراد المتظاهرون السير فيه.
هل نربأ بعقولنا (السياسية الذكية) عن قبول نظرية "المؤامَرة"، ونَقِف، من ثمَّ، ضدَّها وكأنَّها "الخطأ المُطْلَق"، و"الوهم الخالص"؟
كلاَّ؛ فإنَّها لمؤامَرة أيضاً أنْ نناصِب نظرية "المؤامَرة" هذا العداء؛ فأنتَ تعلَّمْتَ من بعض تجاربكَ الشخصية أنَّ الكذَّاب يحضك دائماً على أنْ تتحلَّى بفضيلة "الصِّدْق" حتى يَسْهُل عليه جَعْلِك تُصَدِّق كذبه؛ واللص يحضك على التحلِّي بفضيلة "الأمانة (والاستقامة)" حتى يستسهل سرقتكَ؛ والثرثار يدعوكَ إلى "الصَّمْت الذَّهبي" حتى يجعلكَ لثرثرته في الكلام أُذْناً صاغية.
وعلى هذا النحو، يمكننا وينبغي لنا أنْ نَفْهَم ونُفسِّر "الحرب الفكرية" التي تُشَن على نظرية "المؤامَرة"؛ فإنَّ للمشتغلين بالسياسة اشتغالاً تآمرياً مصلحة (حقيقية ولا ريب فيها) في أنْ يُقْنِعوكَ بتهافُت منطق نظرية "المؤامَرة" حتى يَسْهُل عليهم التآمر عليكَ.
إنَّ الواقع (التاريخي والسياسي) والذي يشبه، دائماً، الكأس نصف الممتلئة بالماء، نصف الفارغة منه، يَدْعوكَ إلى أنْ تَفْهَم "المؤامَرة" على أنَّها جزء من التاريخ، ومن العالم الواقعي للسياسة، ولا تَعْدلهما أبداً، فلا تغالي في نبذ نظرية "المؤامَرة"، ولا تغالي في الأخذ بها.
وأحسبُ أنَّ حُسْن الفهم لـ "المؤامَرة (ونظريتها)" لا تقوم له قائمة إلاَّ إذا وَقَفْت من نظام الحكم الدكتاتوري (الفردي، العائلي) في عالَمنا العربي موقفاً يَنُمُّ عن أنَّكَ تَفْهَمَه على أنَّه "مؤامَرة"، لجهة الطريقة التي فيها يَحْكُم، ويستمر في الحُكم، ويقي نفسه شرَّ الهلاك والسقوط.
وحُسْن الفَهْم هذا لا ينمو ويكتمل إلاَّ إذا اتَّخَذْتَ من التاريخ، والعالم الواقعي للسياسة، ميزاناً تَزِن به "المؤامَرة (ونظريتها)"، فَتَقِف، من ثمَّ، على وزنها الحقيقي (في الأحداث التاريخية والسياسية).
إنَّ ضيِّقي الأُفق، قصيري النَّظر، ومَنْ لهم مصلحة في معاداة ما هو في منزلة بديهية هندسية، يمكن، مثلاً، أنْ يَفْهَموا ويُفسِّروا ويُصوِّروا إضراب عُمَّال مصنع ما على أنَّه ثمرة ونُتاج تحريض مُحرِّضٍ آثِمٍ شرِّير، لا يريد للسِّلْم الاجتماعي أنْ يدوم، وللاقتصاد أنْ يزدهر، وللأمن أنْ يستتب، وللاستقرار أنْ يَرْسُخ؛ وكأنَّ "المُحرِّض (على الشَّر)" لديه من القوى ما يجعله يأتي بالخوارِق؛ أمَّا سَوْء أحوال العُمَّال، وما يُعانونه، فلا وَزْن له، ولا أهمية، في التفسير والتعليل؛ وكأنَّ كلام "المحرِّض" يمكن أنْ يقع على أسماع عُمَّال تشبه سمعه لو كانت أحوالهم جيِّدة، وحقوقهم في الحفظ والصون!
حتى إبليس نفسه لا يستطيع أنْ يُزيِّنَ لكَ ارتكاب الآثام والذُّنوب والمعاصي إلاَّ من طريق نفسكَ "الأمَّارة بالسوء"؛ ولو اجتمعت كل القوى في الكون فإنَّها لا تستطيع أنْ تؤثِّر في شيء ما تأثيراً مخصوصاً إلاَّ بـ "إذْنٍ" من داخل هذا الشيء؛ فـ "المؤامَرة الخارجية"، ومهما عَظُمت، لن يكون لها فِعْل النار الحارقة إلاَّ إذا وَجَدت في طريقها هشيماً.
إنَّني لا ألوم "النار"، والتي هي كناية عن مؤامرات ومكائد الأعداء والخصوم الخارجيين؛ لكنَّني ألوم أنظمة حُكم لا تَعْرِف (لأسباب تكمن في مصالحها المنافية للمصالح العامَّة) من طرائق وأساليب ووسائل الحكم إلاَّ ما يَجْعَل مجتمعاتنا ودولنا وأوطاننا هشيماً لها (أيْ لتلك النار).
إنَّهم لم يحكموا، ويستمروا في الحكم، إلاَّ بما غَذَّى وسَمَّن كل عصبية بغيضة كريهة، منافية لكل ما نحتاج إليه من قوى في صراعنا الديمقراطي والقومي؛ ثمَّ شرعوا يُحذِّروننا من الشُّرور والمخاطِر الخارجية المُحْدِقة بالوطن والمجتمع؛ وكأنَّهم لم يكونوا للمؤامرات الخارجية ممرَّاً ومَنْفَذاً (ولو بالمعنى التاريخي، ومن الوجهة الموضوعية الصرف)!
لقد تباروا في لعن وسب وشتم سايكس وبيكو؛ لكنَّهم لم يحكموا، ويستمروا في الحكم، إلاَّ بما يُدْخلهم التاريخ بصفة كونهم مُتَمِّمي ومُكْملي ما بدأه الرَّجيمان سايكس وبيكو!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-يوم المرأة العالمي- في -عالَم الرَّجُل-!
-
نشكر أوباما.. ونهنِّئ الشعب السوري!
-
-الربيع العربي- يَطْلُب مزيداً من -الرُّوح القومية-!
-
هل يَثِق نتنياهو ب -تَعَهُّد- أوباما؟
-
مصر التي طُعِنَت في كرامتها!
-
نيوتن في -استنتاجه الخاطئ-!
-
هذا الخلل المنطقي في مفهوم -النقطة الكونية-!
-
هذا -الثقب- في مجرَّتنا!
-
من وحي -دستور بشَّار-!
-
رسالة -تونس-!
-
سؤالٌ تثيره نظرية -الثقب الأسود-!
-
شيءٌ من الجدل!
-
لماذا غابت -فلسطين- عن إعلام -الربيع العربي-؟
-
-الفاسِد- فولف!
-
-النسبي- و-المُطْلَق- في -النسبية-
-
-التمويل الأجنبي- مَصْدَر إفساد ل -الربيع العربي-!
-
خصوصية الصراع في سورية!
-
منعطف مصر التاريخي!
-
-المادية- في التفكير!
-
-الأكوان الأخرى- و-إشعاع هوكينج-!
المزيد.....
-
الملكة رانيا والأمير الحسين يهنئان ملك الأردن بعيد ميلاده
-
بعد سجنه في -معسكر بوكا-.. ماذا نعلم عن أحمد الشرع الذي أصبح
...
-
الجولة الثالثة.. بدء إطلاق سراح الرهائن في غزة و110 أسرى فلس
...
-
من هي أغام بيرغر الرهينة التي أطلقت سراحها حماس الخميس؟
-
هواية رونالدو وشركائه.. هذه مضار الاستحمام في الماء المثلج
-
سقطتا في النهر.. قتلى في اصطدام طائرة ركاب بمروحية عسكرية قر
...
-
مراسم تسليم الرهينة الإسرائيلية آغام بيرغر للصليب الأحمر في
...
-
-كلاب و100 ضابط من أوروبا على حدود مصر-.. الإعلام العبري يكش
...
-
أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يصل إلى دمشق في أول
...
-
دقائق قبل الكارثة.. رجل يكشف آخر رسالة من زوجته قبل حادثة مط
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|