|
المتسولة
فريد الحبوب
الحوار المتمدن-العدد: 3664 - 2012 / 3 / 11 - 12:17
المحور:
الادب والفن
آه يا آيار .... آنتظر حتى تصبح أغنية .... .... .... فهمت الآن لما أنا مكبل طوال حياتي بالأحلام.... لقد وجدت واحدا في مكان مخبوء... آه يا آيار غني ..... أحلامي ليست محض أحلام.... لم تكن لديه أدنى فكرة في ظهيرة من ظهيرات شهر آيار أن إملاء الفراغات الموجودة في دماغي بأي شيء، فوحدتي جرتني أن أسهو عن الحياة بالكامل. كان ذلك اليوم في صيف حار سرق عذوبة الهواء التي كانت تهب من نافذة وحيدة مطلة على بستان يقع خلف منزلي على مسافة ليست بالقصيرة، لم يكن يوماً عادياً بالنسبة لي، لقد كان نهاية التعاسة التي عشتها طوال حياتي، فجميع أضابير حياتي الماضية آلام وشجون شديدة العذاب. في ذلك اليوم كانت الشمس غاضبه أيما غضب وهي تحاول إن تمد مخالب من السخونة الشديدة لتحرق كل شيء، حتى إن الأرض تفطرت وملأتها الشقوق وصارت موحشة مثل وجه عجوز هرمة غضنت التكسرات وجهها، كان يوم انفتحت فيه فاه الجحيم منتفضة لاكت الأشجار وغصت أطراف السواقي باليباس والإقفار، كان يوم صعب فيه الشهيق والزفير ونحلت فيه الأفياء معولة وصارخة حتى لم تعد مجدية لمن يهرب من قسوة الحر، كنت مضطجعاً في أحدى أركان الغرفة على الفراش، وفي جانبي بوفية مليئة بالكتب والمجلات، كما أستخدمها كخزانة للثياب والكثير من الأشياء، كنت متعباً وحزين وتندفع من عيوني أحلام بين الحين والآخر تمتزج بتصببات العرق فاترة الهمة. ورغم مرارة حياتي التي مرة سريعاً لم يأخذني الأسف عليها يوما ما، ورغم شعوري بالضياع الذي ضننت أنه سيدوم ألا أنني كنت جاد وحساس وأحاول إن أقطع مضمار الحياة بقدر كبير من الالتزام، كنت حي رغم موتي، أثمن بهمة جدوى العيش أياً كان شكله. لكني لم أبلغ حتى الآن ذروة السعادة. بعد منتصف النهار فيما يزال الله محتقن الوجه والأغصان جائعة وهالكة بين الحياة والموت، وأنا محاصر بتفكير نزق... خرق اغلب حجب راحتي، طرق أحدا ما بابي بقوة ترافقه صوت شابة .....(( أعطنا مما أعطاك الله )) . أخذت تلهج كلماتها بحنين بالغ يخرج من بذره نمت في قلبها في ميلاد الفقر الذي أكسى حياتها، تحركت من على سريري وصرخت ( لا املك شيئاً )، وعادت تسهب في التوسل وترسم في ذهني جوعها وفقرها، وثبت من فراشي وخرجت أمشي ببطء البط، فتحت الباب فتحة صغير ونظرت نظرةٌ خاطفة، كانت فتاة في بدء العشرينات متوسطة الطول ترتدي ثوب أصفر فاقع لونه ذو زر وحيد يتوسط صدرها المندفع مثل موجات يبعثها بحر صاخب، أما عباءتها السوداء فكانت تمسك برأسها الذي بدا كوكب لا أعرفه، وتحد الجبين أشبه ما يكون بدرب طويل، سوداء مغبرة ومتهرئة من لسعات الشمس، كانت تضع فوطة ممزقة بعض الشيء على أكتافها، رأيت عينيها تتسم بالاستغراب، زنبقتان يتوسطهما سواد كالح لم أرى مثلهما قط، ووجهها سحابة بلون قمحي وَشمت العصافير جفنيها بالأحلام والإسرار وشفتاها ذائبة ومحتفظة برونقها رغم الحر والكلام المتواصل طوال النهار. كانت الشمس اللاسعة تضربني بشدة ونحن نحدق في بعضنا البعض فيما هي ما تزال تتكلم دون أن تتكلف الرقة والعذوبة. ــ في سبيل من تحب أرجوك ساعدني.. أحنيت رأسي وشعرت بالأسف الشديد وهتفت بصوت حانق ( يا لأولاد الكلب الذين دفعوك للجدية). نظرت نحوي مباشرة دون إن تلتفت وتكلمت بنبرة طبيعية ( أرجوك لا تشتم احد أنه قدري). رق قلبي ونالني حزن شجي، قلت لها.. ــ أنا فقير مثلك ألا إن الفرق بيننا أنني لا أتسول وقد يأتي يوم أتسول فيه معك.... ابتسمت وبان في وجهها جمال كبير أدهشني وقالت بصوت مرتجف وهي تهز عباءتها وتضرب بها قرب وجهها من أجل تحريك الهواء الساكن، فيما رحت أنا اهويها بمروحة يدوية صنعتها بنفسي من سعف النخيل. ــ أذا كنت لا تملك نقود إذن أعطني قليل من الماء. رفعت رأسها تنظر إلى داري كانت نحيفة وواهنة، وبدا على وجهها وداعة بالغة وعينيها تومض بالخير، ورغم إن الفقر يفسد الحياة ألا أنه لم يستطع إن يفسد جمالها، فتحت الباب أكثر وقلت لها ... لا يستحسن إن تبقي في الخارج تفضلي خلف الباب لتقفي في الظل أنا أعيش لوحدي وأخاف من ثرثرة الجيران إن يظنوا سوءاً بنا ... بالتأكيد قلت تلك الكلمة بدافع تختبئ في طياته رغبتي في دخولها داري كان شعرها المحلول ووجنتيها البارزتان هما من دفعاني أن فجر تلك الرغبة اللعينة، فكرت بتمهل وأنا إملاء قدح الماء... كيف سأطلب منها إن تدخل الدار...! شعرت أنني عاجز عن قول أي شيء، وبالفعل لم أقل شيئاً يلمح إلى رغبتي بها، جلبت لها الماء، وجدتها واقفة تحت شجرة الحديقة الوحيدة وقد توسدت برأسها أحدى الأغصان تطالع حدود الظل الذي رسمه ضوء الشمس القوي، وانساب حلم من أفق ذهني أننا نسير بمحاذاة نهر صافي، تدفعنا تيارات هواء بارد إلى مصب قوي... حجر أبيض يعترض طريق الموجات ... كلمات ونسمة.. أشياء أحسست أنها تشبه الحب، ربما أكون قد بالغت بخيالاتي ذلك اليوم لحاجتي الجامحة إلى أحداً ما بجانبي، انتهى الأمر، انتهى حين طلبت منها إن تعود في الأيام القادمة فقد أحضا بنقود، هربت من الظل وبيدها القدح، شربت الماء ومشت صوب الباب تنظر ألي بامتنان وقالت بنبرة حنونة ( أعدك سأمر...مع السلامة). وقلت لها متوسلاً...(بالله عليك مري ثانيةً)........... وقبل إن تغلق الباب استطعت إن أرى في التفاتتها الأخيرة نحوي، حبات العرق على وجهها والتي علقت في بالي بعد إن عدتُ إلى وحدتي ممتثلاً لصفنات طويلة على غير أرادة مني . فكرت بها كثيراً وامتد ليل طويل في ذهني سقطت أشياء صامتة فوق قلبي وبعضها صارت وسائد نمت عليها في أخر الليل.
استيقظت فجراً في اليوم التالي، بعد إن سطعت الشمس بضوء اصفر فوق سطحي، نظرت إلى المنازل الممتدة بلا نهاية، كانت الملاءات المنشورة على الحبال جافة ومدمدمة مثل أرواح ساحرات، وتتطاير كما لو أنها أجنحة كبيرة تحلق بمحاذاة السماء، كنت أنصت إلى سكون الفجر وأطالع بحبور ضوء الشمس البارد وهو ينزلق فوق كل شيء ويتخلل أوراق الأشجار ليعبر عن أشياء كثيرة تثير أمامي كآبة تبلغ أقصى مدياتها ، نزلت من السطح بعد انتهاء الفجر بكل صورة، أعددت فطوري على عجل وخرجت لعملي الذي لم يكن أكثر من تنظيف إحدى أروقة المستشفى القريب للحي الذي أعيش فيه مقابل مبلغ زهيد يكفي لوجبة غداء متوسطة تخلو من اللحم والدجاج والفاكهة والعصير، أجر يومي لا يساوي أكثر من صحني تمن ومرق في أبسط مطعم، استطعت إن أبارح العمل مبكراُ بعد أن أنهيت ما علي بهمة ونشاط وقبضت بيدي النقود من المحاسب الذي طالما ما يردد عبارته المشئومة.... حين يقوم بتسليم أجورنا نحن العمال( روحة من غير رجعه). خرجت من هناك وأنا في حال مشدوه يستحيل معه التركيز في أمر ما، ولكن هذه المرة لم أذهب للمطعم بل عدت للمنزل، أدور في فنائه الضيق بلا توقف وأفكر بتلك المتسولة الجميلة التي سببت لي القلق منذ يوم أمس، كانت الضوضاء الشديدة تطبق على الخارج وخفت أن تطرق الباب ولا يمكنني سماعها لذلك جلست تحت شجرة التين أستمع لوقع الخطوات... كانت لهفتي تعبر عن تمنياتي الكبيرة، عن كل شيء ظامئ وتواق، أنها المرة الوحيدة التي اجد نفسي متلذذاً بعذوبة الصبر، بعد نصف ساعة من تأوهاتي وصبري طرقت بابي وهي تكلم نفسها ولم أفهم حينها ماذا كانت تقول، فتحت الباب وابتسمت بوجهها ابتسامة عريضة وفكرت بسرعة بحجة قوية تقنعها بالدخول إلى الدار، كان وجهها بارز وبدا لي موتور بسبب الفوطة التي لفتها حول وجهها، وفي صوت هادئ وخجول قلت لها ..( هلا تفضلتي بالدخول ) نظرت بقوة في عيناي وكأنها تبلور فكرة عن المكر، وتدس في ملامحها ذهول أربكني وهو يبحث في نواياي.... جعلني أندم للحظات .... ولكن سرعان ما ذابت الملامح الخائفة وامتلأت شفقة وقالت( سأثق بك.. سأدخل... لا تخن أمانتي لك). جرت الحياة في ذراعاي ومن ثم إلى إنحاء جسدي، مشت أمامي وولجت إلى الغرفة الصغيرة كان كل أثاثي قديم وبالإمكان إن ينهار بأي لحظة، جلست على طرف الأريكة فيما جلست أنا قبالتها، تصرفت بشجاعة ومسحت عن وجهها نفس قطرات العرق التي وشحت وجهها بالأمس، وطلبت منها إن تحدثني عن كل شيء في حياتها وان تجعل مني صديق من أعماق قلبها ونظرت لهالة النور التي تمدها نظراتها وأردفت.... ( سأكون صديقك ما حييت ) وخلال بضع ثوان بدأت الحديث، وتكلمت بنبرة فيها أسف على كل شيء مر بحياتها، كانت رثة ثيابها تدثرني بدفء غير محدود. ــ يا صديقي الفقر حُفر وأن تكون متسول تمد يدك لطلب العون، أعلم أنك في أعمق حفره ...أسمي فَجر وأعيش مثل أغلب الناس وحيدة مع الحزن والفقر، ماتت أمي ثم تبعها أبي، وكان مبكراً على عمري الذي لم يكن سوى ستة عشر عاماً، وها أنا في الثامنة والعشرين .. لي بيت صغير تركه لي أبي دون أخوة أو أخوات بيت يعبث به الحر والبرد والمطر والهواء وكل شيء، ولا أدري من أعاتب، قتلني هذا الاستجداء المذل (وكانت تقطع سيرة حياتها وتقول ... لا تؤاخذني دعني أتوقف لا أريد أن أسبب لك العناء والأذى). كنت أصغي كمن يتوجس شيئاً مفاجأ اكبر من طاقتي على سماعة، كانت ملامحها بلا دهاء ولا خبث ولهجتها غدت ناعمة ودافئة وهي تقول .. دروب الحياة واسعة وجميلة ولكنها ليست لنا نحن الفقراء...ظالم ومظلم هذا الفقر) استغرقت في هدوء تام، واعتذرت عن قص مصيبتها، فأجبتها على الفور بنبرة مواسية... ــ لا، بل يسرني أن استمع إليك ليتني أستطيع إن أقف بجانبك لا شيء عندي أرهنه واشتري لك حياة طيبة.... ولكن ألا تظنين أني سأوقف يوماً هذا الفقر الظالم ....... ورحنا نتغامز بعبارات خفيفة وحنونة وهي تبتسم وتقول بضع كلمات وتصمت لتحتسي الشاي، أما أنا فلم أصمت مطلقاً حتى مغادرتها كمن تستيقظ في ذاته لوعات العمر، شعرت بالاضطراب ومزق قلبي حزن فراقها. ولكني بلغت ذروة السعادة حين شعرت أنني قد أدخلت لقلبها السرور. وكان حينها هي ما أهدف إليه. مرت أحد عشر يوماً لم تمر، وضقت ذرعا بالهدوء الساهر معي والذي يأتي بحفنة اشتياق شديدة ينسج اللوعة في نفسي أثناء الليل، وبعد تلك الأيام التي لم يعرف جفني فيها سبيلا إلى نوم هادئ، رأيتها في أحدى أركان الحي تجلس على الأرض وقد زادت حلاوة، ومظهرها بدا لي أنها في حال أحسن مما كانت عليه حين رأيتها أول مرة. كنت واقف على مسافة خطوات منها طالعتني بود كبير وارتسم على جبينها حلم هارب وفي يديها بعض المال، كانت تعدهم ولم أشأ إن أكدر عليها فرحتها مما جمعته، فألقيت عليها التحية....مرحبا... ووضعت كل أجري بيدها... وهتفت للمرة الأولى بصوت عال جدا ( شكرا لكل ما تفعله من أجلي). ومضيت دون إن أقول كلمة. فلم تزل بعض الأفكار غير مستقرة ولا أدري إن كنت متأكد أني أحبها، كنت أقول لنفسي لابد من أعطاء الفرصة لعاطفتي، وفجأة كان يتلقفني إحساس رهيب يمسك بي يجعل الأمور أكثر صعوبة وعناء.
بت أراها كل يوم، فمرة أبحث عنها وتارة أشعر أنها تبحث عني، كما لو أننا نحلق ونحوم فوق في سماء ساكنة ليس فيها غيرنا. كما تأكدت أننا نشترك في الكثير من الأمور وأولها الفقر، وهذا قاسم كبير يجعل هبوطنا في الحياة بسيط وطيب، ومضت أيام.. أسابيع نلتقي ونتبادل الكلام والنظرات.... النظرات التي تجول في خبايا حواسنا ...النظرات التي لا تفهم شيئا أطلاقا، كنا نغيب لفترة قصيرة وطويلة، الحقيقة حصلت بيننا تفاهمات كثيرة جعلها ترغب بي وأرغب بها. حتى أني شعرت وللمرة الأولى أن ما ينقصني الآن هو وجودها معي بشكل دائم . وفيما تطير أجوري بسرعة دون فائدة، وتمر الأيام مذعورة لعسر حالي، حصلت على عمل دائم في المستشفى وبمرتب شهري جيد، صرت أدخر منه .....أقصد أني بدأت أشبع................وقد برد الجو بعض الشيء وصرت امشي المسافات الطويلة كنت أسير بين الأزقة ومرات أحضى بالسير بين صفين من الأشجار أشرب الخمر حتى الثمالة. وذات يوم كنت في مزاج رائق أسير في الطرق التي تتقد بذكرياتي ، إلا أنني كنت أشعر بدوار بسيط وأنا أضرب بقدمي برك ماء صغيرة تتناثر من تحت قدماي قطرات تلمع حين تصادفها أضواء الشوارع الصفراء، لم تكن أفكاري منسجمة مثل كلمات غير مترابطة إلا أني أعبر عمدا بروحي عبر نفق شفاف تنمو فيه وردات فوق وحشة ليلي، أمتع فيها نفسي، أخذ الطنين يؤثر بشكل كبير ويرن في أُذني ودوار رأسي صار أعنف، في تلك اللحظة، رجعت لداري وجدت قصاصة ورقة معلقة على قفل الباب تساءلت.. من يا ترى ترك هذه القصاصة......! ورغم آلامي أمسكت بالورقة وقرأت ما هذه الكلمات .
يا صاحب الخواطر الطيبة والغريبة لم أرك منذ أيام وقد لا أراك ثانيةً ... أتمنى إن تكون بخير فَجر.....
في تلك اللحظة ارتجفت بعنف واهتز كياني، واستولت علي عاطفة جامحة، وفكرت بالطبع أن هذه الكلمات ما هي إلا عبارة عن إيحاء بالحب كما أنها تشرح لي ما يجب علي فعله..
لذلك في اليوم التالي رحت أبحث عنها بعد عودتي من العمل الذي صار ساعاتِ أكثر حتى الثالثة بعد الظهر، اجتزت أكثر الأزقة والدرابين ولم أجدها، وتأهبت الشمس للأفول ووضع الليل ذراعية على أطراف الحي وتورمت ساقاي ولم أعثر عليها، ضاقت أنفاسي إلى حد منعني تلك الليلة من العودة بسهولة إلى داري، وخشيت إن يكون قد أصابها مكروه، مما سبب لي حزن كبير يحمل أسم فَجر مسح كل ما كان في مزاجي من رواق. بعد أيام عثرت على عنوانها من خلال صديقة لها تقوم بالاستجداء في نفس الأزقة، رأيتهما أكثر من مرة يتناولن طعامهن سويتاً في أحدى الأركان التي تكتنفها الظلال، انطلقت صوب الحي الذي تعيش فيه كانت هناك شجرة ضخمة تغطي بيتها الصغير الراقد على ضفة نهر، كان باب المنزل رمادي قديم متصدأ والجدار الذي يحيط بغرفتين منزوعتي الشبابيك تغطيهما خرقتان من أسمال رثة وبالية قد أنهار جزء كبير منه، كان مثل أثر من أثار قديمة، وهي الشيء الجميل الوحيد الذي كان يلوح داخل ذلك المنزل، حين رأتني جاءت تمشي بعناء صوب الباب تجر ثوبها الطويل شاحبة ومنكسرة يهزها المرض من كل جانب، كانت هذه المرة أنحف مما رأيتها من قبل وملامحها قاسية بسبب الجوع ، وشكلها شاحب غائر في الآلام مثل إنسان يستقبل ملك الموت، وقلت في نفسي وأنا أدخل أحدى غرفها، حيث جلسنا هناك أكثر من ساعتين ..( أية حياة تعيشين).. نزعت من الحائط سجادة صغيرة مرسوم فيها غابة محترقة ووضعتها على الأرض وقالت بصوت حزين (أجلس أرجوك... لا تسخر مني أنا فقيرة). لا ادري كلما طالعتها تسطع الآمال في نفسي بكل قوتها وبعض همومي تحترق وتتلاشى، مددتُ يدي للفانوس وزدت من شعلة الضوء وسألتها في عجب وأنا أشعر بدغدغة تملأ صدري.... ــ لم تزوريني منذ وقت طويل ... أجابتني وهي محاطة بغبار التعب والأسى. ــ سئمت، وأشعر أن حياتي ذبلت إلى حدا كبير وها أنا كما تراني أدنو من الأفول. واسيت روحها زاعماً إن حدس في روحي يقول أن حياتها ستتبدل سريعاً وما عليها سوى الصبر. واستغرقنا في حديث شيق عن حياتها وحياتي، شعرنا بالاطمئنان وأحسست أني أهدهد آلامها قامت وجلست بالقرب مني شعرت أنها تشمني فطوقتها بيداي وظهر في وجهها بريق والتمعت عيونها المجرورتان براحة بال لم تشعر به من قبل، وغفونا لبضع دقائق كأننا وحيدين في هذا العالم، ولكن بعض الأشياء ظلت حزينة في عيونها وماثلة أمامها بقوة، هناك أحداث كثيرة لن تغيب حتى أخر العمر، عرضت عليها إن تبقى من الآن فصاعداً في المنزل وأنا سأقوم بما يلزم وأجلب ما يلزمها من حاجيات، عبرت لها عن قلقي وقلت لها بمنتهى البساطة ....أحبك.... سطع نور على جبينها غمرني بالفرح وكان ضوء الفانوس الموضوع في باحة المنزل ينفذ من خلال الخرق المتهرئة على الشبابيك يرسم تماثيل ترتفع وتهبط بانسجام تتسم بجمال ساحر.... كان الجدار قلبي..... عندما خرجت منها حملت كيس القمامة الموجود على دكه في طرف الحجرة، كأن البيت بيتي والسرور يلوح لها ولي مع السلامة.
....مر الصيف وتلاشى عطش الأشجار وحل شتاء بارد يبعث المطر كل يوم تقريباً، كنت أمر بها أكثر من مرتين كل شهر، أدفع مبلغ المال الذي يمكن إن يجعل من حياتها المقفرة والموحشة أكثر راحة. ألا أني كنت أشعر إن لا متعه لها أطلاقاً سوى زيارتي لها، وذات مرة في أحدى تلك الزيارات رأيت المطر قد فاض دخل الحجرتين وأغرق بيتها وهي جالسة على أحدى القدور مطرقة العينين ويديها حائرتين يبثان حزناً عميقاً، كانت دموعها تقول لي.. ليتني ميتة.. مسحت دموعها بمنديل وسحبتها من يدها وهتفت .. هيا نذهب لداري لا تخافي... في تلك الإثناء أحسست أن كل شيء يسير وفق مخططي ورغباتي، وضعت يديها فوق رأسها وقالت باكية ــ لا، كيف يكون ذلك . ــ قلت لا بد من إنقاذ حياتك هيا... هيا نذهب. وفي هذه اللحظة دوت رعدة قوية في السماء ضوت خوفها واضطرابها، رفعت عينيها المشدوهتين وحركت شفتاها مغمغمة لنفسها بسكون، وقلت لها وأنا أمسك بيدها اليسرى ...لا...لا تقولي شيئاً ..لا تفكري بالرعد والليل والشياطين..أنا لست شيطان، شدت على يدي برضا شديد. وخرجنا هاربين تحت المطر، توسلت أن تنثر شعرها، وبجنون نثرته... قطعنا بحور وجرفنا نهر الفرات. وجدنا المفاتيح على ضوء شمعة..وزادت قطرات المطر، زادت بشكل كبير... ووعدتها سأدفع حياتي ثمن لسعادتها، وانتصر الجنون على الفقر، وضاع الطريق من فرط زحام المطر. ضحكنا وغنينا ونسينا المنفى. ومنذ تلك الليلة شعرنا بالهدوء ولم تعد فَجر إلى بيتها بل بقت في داري، تزوجنا وعشنا سويتاً، ولم تعد ترى الشرير الذي دعاها أول يوم أن تقف خلف الباب.
#فريد_الحبوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جُناة العراق
-
المصطبة
-
اثار الأحلام الرطبة
-
رعد وبرق
-
المهدي هادي بوعزيزي
-
عضة خيانة
-
حياة قصيرة جداً
-
الريف والمدينة قريتان ليس ألا....
-
نصوص توشك إن تنام
-
جحافل جيش المهدي تنادي جيش عمر
-
حب لليله واحده
-
حب لليلة واحدة
-
نحن والساسة كاذبون
-
الكافرون ملائكة التسامح والحياة
-
الذكريات المملحة بالإسرار
-
من أجل حفنة من الدنانير
-
نازك العابد.....نازك الملائكة
-
حكاية مروان... عزائي إن لا شيء ثابت
-
أحمد المهنا :ينتقد الاسلام السياسي
-
مظاهرة تحت المطر ورائحة الطين
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|