|
العدالة وإرث الماضي
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3660 - 2012 / 3 / 7 - 17:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طرحت الثورات العربية المنجزة منها أو تلك التي ما زالت تعيش مخاضات ولم تكتمل، مسألة التعامل مع إرث الماضي، سواء على المستوى العام بالنسبة إلى الدولة والمجتمع أو على المستوى الفردي لكل شخص، والأمر لا يتوقف على الجانب السياسي والشخصي، بقدر ما يشتبك مع الجانب القانوني والقضائي والأمني، فضلاً عمّا له علاقة بالتاريخ، سواء ذاكرة الضحايا أو ملفات وأرشيفات المؤسسات الأمنية وما يتوافر فيها من معلومات بهذا الخصوص .
وإذا كانت الانتهاكات كثيرة ومتنوعة لدرجة لا يمكن حصرها، وشملت فترة زمنية طويلة، الأمر الذي قد يجعل مسألة البحث في السُبل السليمة للتعامل مع إرث الماضي مطلوباً، بل هو حاجة ماسّة، خصوصاً وقد أصبح مطروحاً على بساط البحث، سواء من قبل الضحايا أو من مكوّنات المجتمع المدني، والأحزاب والقوى السياسية، أو من قبل الدولة، لاسيما والحاجة ترتفع إلى إرساء آليات قانونية مقبولة لإنصاف الضحايا من جهة وتعويضهم وكشف الحقيقة كاملة من جهة أخرى، ناهيكم عن مساءلة المرتكبين، فضلاً عن إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني المؤسسي، لكيلا تكرر مثل تلك الارتكابات، ولكيلا يتم الإفلات من العقاب في الوقت نفسه .
وعلى الرغم من بعض المبادرات التي اتخذتها بعض التجارب العربية بشأن تشكيل لجان للتحقيق أو لتقصي الحقائق أو لملاحقة قضايا الفساد المالي والإداري وهدر المال العام، فإن مثل تلك الإجراءات لا تزال في بداية الطريق وبعضها غير كافٍ وقد لا يوصل إلى مبتغى هدف تحقيق العدالة الانتقالية، بأركانها الأساسية .
ولعل فكرة العدالة الانتقالية كانت قد دخلت الأدب الحقوقي والسياسي منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان، وجرى اعتمادها وسيلة ناجحة في نحو 40 بلداً في العالم، وهو الأمر الذي يمكن الأخذ به في عدد من البلدان العربية التي شهدت تغييرات وثورات، لاسيما بعد إطاحة الأنظمة السياسية السابقة، دون أن يعني ذلك استنساخاً أو تقليداً أعمى للتجارب الدولية، ولكن بمراعاة الخصوصيات القومية والوطنية والثقافية والتاريخية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه للإفادة من عوامل نجاح أو إخفاق بعض التجارب الدولية، ناهيكم عن دلالات ذلك على التطور الديمقراطي اللاحق .
وباختصار شديد فإن ما تستهدفه العدالة الانتقالية هو تجاوز نواقص العدالة العادية في ظروف بالغة التعقيد وفي فترات انتقالية من حكم دكتاتوري إلى حكم ديمقراطي أو بعد انهيار النظام القانوني والقضائي والأمني أو عدم صلاحيته أو بعد الانتقال من النزاع المسلح أو الحرب الأهلية إلى حالة السلام، بما يحقق العدالة بمعناها الإنساني الكبير وبما يضمن استعادة كرامة الإنسان وأمنه وتوفير الحماية الضرورية لحقوقه وحرياته الأساسية . وبالطبع فإن العدالة الانتقالية تسعى في الوقت نفسه إلى استعادة ثقة المواطن بالنظام القانوني الجديد وإعلاء شأن حكم القانون والاحتكام إليه في بحث مسائل الماضي وإرثه الثقيل .
إن أهم ما يواجه التغييرات الحالية هو ضرورة إجراء حوار وطني شامل حول كيفية التعامل مع الماضي في إطار العدالة الانتقالية بحيث يتم كل شيء بإشراف الدولة مع إشراك مؤسسات المجتمع المدني، الذي بدأ بعضها حواراً من خلال مؤتمرات وندوات حول فكرة العدالة الانتقالية والسبيل لتطبيقها، الأمر الذي يحتاج إلى شراكة وتشاور وتوافق بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، بما يؤدي الى رفع الوعي القانوني وتعزيز الثقافة الحقوقية بأهمية التعامل إنسانياً وقانونياً مع الماضي وبطريقة تجنّب المجتمع ردود الفعل بالانتقام أو الثأر أو الكيدية أو تغذّي عوامل الكراهية والحقد والضغينة . ولكي تنجح مهمة العدالة الانتقالية والقائمون عليها، فلا بدّ من تحديد فترة زمنية لتتبع المتهمين بارتكابات جنائية خطرة، وللبحث عن الحقيقة والعمل على تعويض الضحايا وجبر الضرر المادي والمعنوي وتحقيق مصالحات حقيقية وإجراء إصلاحات مؤسسية شاملة، قانونياً وقضائياً وأمنياً .
وقد تتداخل الآليات القضائية مع غيرها من الآليات، لاسيما في إطار المجتمع المدني، الأمر الذي يحتاج إلى تدقيق وضبط، بحيث يعود الناتج لمصلحة العدالة خياراً لا غنى عنه للانتقال الديمقراطي والتعامل مع إرث الماضي، وهذا الأمر يتطلب تحديد أطر قانونية وغير قانونية لتتبع الجناة وتشكيل لجان لكشف الحقيقة وتحديد آلياتها وفترات عملها، كذلك يتطلب الأمر تحديد معنى الضرر وكيفية تحقيق التعويض، ثم كيف يمكن إصلاح المؤسسات، خصوصاً الأمن والقضاء، ووفق أي برامج وأهداف بغية تحقيق المصالحة وآلياتها؟
وإذا كانت تونس ومصر قد بدأت فيها بعض الإجراءات الحكومية وغير الحكومية بشأن العدالة الانتقالية، فإن ليبيا واليمن لا يزالان يعانيان نقصاً فادحاً في هذا الميدان، أما سوريا فالأمر مازال محط صراع بين النظام ومعارضيه، وقد يحتاج الأمر إلى جهد استثنائي لاحقاً لتحديد مسار العدالة الانتقالية . أما في المغرب فقد جرت إصلاحات ومتابعات للعدالة الانتقالية في إطار النظام ذاته ولكن ضمن حزمة دستورية وقانونية جديدة وأجواء سياسية مناسبة، كما خطت المغرب خطوات مهمة بخصوص المصالحة والعدالة وكشف الحقيقة، بما فيها جبر الضرر وتعويض الضحايا منذ أواسط التسعينات ولحد الآن، وهي تجربة تستحق الدراسة والتعمّق لما لها من دلالات وعبر .
لعل مثل هذا الأمر يحتاج إلى خبراء ومختصين محليين ودوليين، وأولاً وقبل كل شيء إلى حوار معرفي وثقافي وحقوقي، وهو ما اضطلع به المعهد العربي لحقوق الإنسان، الذي نظّم عدداً من الفاعليات والأنشطة الفكرية والعملية ودرّب وأهّل أعداداً من النشطاء العرب على هذا الصعيد، خصوصاً من البلدان التي تعيش حالة ثورات أو احتجاجات شعبية، وأخيراً نظم المعهد بالتعاون مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة مؤتمراً حول تحدّيات وفرص إرساء منظومة العدالة الانتقالية في البلدان العربية بمناسبة مرور “سنة بعد انطلاق الثورات العربية”، وهو ما يطرح سؤالاً ملحاً وفي غاية الأهمية: أين نحن من العدالة الانتقالية على المستوى الدولي، خصوصاً في البلدان التي حصلت فيها تغييرات، سواءً في ما يتعلق بتجارب المغرب والعراق وتونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا .
لعل أهمية المؤتمر العربي للعدالة الانتقالية هو إعداده وثيقة توجيهية ارتقت إلى مستوى الوثائق الدولية التي عرفها العالم بما فيها وثيقة شيكاغو، لاسيما بخصوص صياغة مشروع قانوني وهيكلي للمساءلة والمحاسبة للمنتهكين وللتعويضات وجبر الضرر وللمصالحة والإصلاحات لضمان القطيعة مع الماضي ولتوثيق الشهادات وتنقية المجتمع من الانتقام والثأر .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنادرية والروح الجامعة
-
العدالة الانتقالية وخصوصيات المنطقة العربية
-
العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!
-
كلام في ثقافة التغيير!
-
الهوِيّة الوطنية والربيع العربي
-
الربيع العربي منظور إليه استشراقياً
-
فريضة التسامح وجدلية القطيعة والتواصل!
-
مصير الإمام موسى الصدر: متى خاتمة الأحزان؟
-
التواصل والقطيعة في فريضة التسامح
-
مقهى وروّاد ومدينة: ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!
-
العنف واللاعنف في الربيع العربي
-
محنة العراق بين الديمقراطية والحرية
-
الربيع العربي وردّ الاعتبار إلى السياسة
-
تعويم الدستور العراقي
-
إشكاليات ما بعد الربيع العربي
-
الشيخوخة
-
اللحظة الثورية وربيع التغيير
-
الإسلاميون والعلمانيون
-
ماذا بعد الربيع: العرب والجوار والعالم؟
-
الانسحاب الأميركي من العراق.. من الأقوى؟
المزيد.....
-
هل يضغط ترامب على مصر والأردن لتنفيذ خطته بشأن غزة؟ حسام زمل
...
-
نتنياهو يجيب على سؤال -هل وجود الجيش الأمريكي ضروري- لتطبيق
...
-
زملط معلقًا على مقطع لترامب حول ضم الضفة الغربية: يتعين علين
...
-
السجن لجندي إسرائيلي أساء معاملة فلسطينيين في سجن -سدي تيمان
...
-
شاهد.. هدية نتنياهو لترامب تخليدا لذكرى هجوم إسرائيل على لبن
...
-
بعد خطاب ألقته من المنفى.. متظاهرون يهدمون منزل رئيسة وزراء
...
-
-غزة أرضنا ولن نرحل-.. فلسطينيون في دير البلح يحتجون على تص
...
-
ضربة موجعة للصين: بنما تتخلى عن -طريق الحرير- لإرضاء ترامب
-
سلسلة زلازل تضرب جزيرة سانتوريني في بحر إيجة
-
مسؤول عربي كبير يحدد طريقة إفشال مخطط تهجير سكان غزة
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|