ما زالت احداث ايلول الشغل الشاغل للناس، يستعيدونها ويتأملونها بقدر ما يعيشون في اجوائها وسياقاتها، او على ايقاعها ومفاعيلها، كما هو شأن الاحداث الكبيرة والخطيرة، الاستثنائية والخارقة لحدود المكان ومفاصل الزمان.
لقد بدا ايلول الفائت اميركياً بامتياز، ولكن ايلول الحالي يبدو عالمياً بالكامل. واذا كان الاول شكل صدمة للعقول، فإن اللحظة الآن هي لحظة الازمة، ولعل ما تغير بين اللحظتين، هو ما يفصل بين الكارثة والازمة. ولذا يبدو ايلول الحالي اشد وطأة من سلفه. ولا عجب، فنحن نحصد الآن ما خلفه الاول من الذيول والآثار او ما ولده من التعقيدات والمشكلات، سواء على ارض الواقع او على مستوى الوعي والفكر.
حالة طوارئ عالمية
على صعيد الواقع، لقد خلق الحدث بعد عام انفجاره وضعاً بمنتهى الخطورة، هو اشبه بحالة طوارئ عالمية. اذ هو اصاب بشظاياه المادية والمعنوية الناس في مختلف ارجاء القرية الكونية المضطربة، بقدر ما افضى من جديد الى قسمة العالم الى معسكرين، ولكن غير متكافئين أو غير متناظرين، تقوم بينهما حروب باردة او ساخنة: اميركا ومن معها حرباً على الارهاب او ضد محور الشر على ما أطلقت التسميات.
وهكذا فإنه بعد عام على الكارثة، نجد ان مسلسل التطورات المتسارعة والاستراتيجيات المتناقضة، يكاد يحشر الجميع في الزاوية الضيقة. الكل يجد نفسه معنياً بالمجريات، مستنفراً لاتخاذ موقف من المتغيرات التي خلقت معطيات جديدة، تسهم في خلط الاوراق او في تبديل خريطة المواقع والمصالح. هذا ما يشعر به الحلفاء والاصدقاء، الخصوم والاعداء. فالصديق ما عاد يثق بصديقه، والحليف يخشى على نفسه من حليفه بالذات. وأما الخصوم فإنهم، بوعي او بغير وعي، يتواطأون بعضهم مع بعض، بقدر ما يتشابهون من حيث لغة التهديد والعقلية الفاشية منطق الصدام والاقصاء.
هذه حال الدولة العظمى التي استهدفتها الضربة على ارضها لكي تخرق سيادتها وتهز ثقتها بقوتها، من حيث لم تحتسب. فهي بعد شهور من إسقاط نظام طالبان لم تنه المشكلة ولم تقفل الملف. بالعكس، فقد ازداد الوضع تعقيداً، لأن التطورات تركت تبعات جديدة اكثر جسامة وخلقت ذيولاً من الصعب معالجتها او تصفيتها. وها هي اخبار الاغتيالات والمجازر في افغانستان باتت لا تستثير المشاهد، لأنها اصبحت من اليوميات العادية، الامر الذي يفضح هشاشة الادعاء بالحسم والحل.
يضاف الى ذلك ان الدولة العظمى، نفسها، تعمل جاهدة منذ شهور لتسويغ الحرب ضد محور الشر ودوله المارقة او لتعبئة الرأي العام العالمي لهذه الغاية. ومع ذلك فهي تلقى معارضة من الداخل ومن الخارج. والمعارضة من الداخل لا تقتصر على التيارات المناوئة للحزب الجمهوري او للنظام السياسي. هناك ايضاً معارضة داخل الادارة بين الاجنحة المختلفة.
في الخارج نجد ان اوروبا الحليفة، مع ضعفها وتقادم عهدها، تقاوم الاذعان وتعارض الاصطفاف، مطالبة بحقها في ان تكون شريكة في انتاج القرار، لا في تنفيذه وحسب، كما في ألمانيا، وخاصة في فرنسا ذات التقاليد الديغولية في مقاومة سياسة الهيمنة من جانب الولايات المتحدة. هذا ما يجعل بعض المفكرين الاميركيين يتحدث عن الانشقاق داخل الصف الغربي، فضلاً عن الذين يتكهنون بنهاية الغرب نفسه.
الشركة الملغومة
هذا ما يشعر به ايضاً حلفاء اميركا وأصدقاؤها العرب، خاصة في المملكة العربية السعودية التي اقامت منذ تأسيسها علاقة صداقة مع الولايات المتحدة، تحولت في ما بعد الى تحالف عقائدي واستراتيجي ضد الخصم المشترك، كما كان يتمثل في المعسكر الاشتراكي ذي الحظ السيئ والمصير البائس. وهذا ما جعل البعض يشبه العلاقة الممتازة بين الدولتين بعقد الزواج. ومن ثمرات هذه العقد، مثالاً لا حصراً، الشراكة الاقتصادية التي كانت قائمة بين افراد من آل بوش وأفراد من ابناء لادن. وهي وقائع تكشف عن مدى التبسيط والخداع في ما يُقال او يُشاع عن صدام الحضارات والديانات.
غير ان التطورات المأساوية التي نتجت عن تفجيرات ايلول وما استتبعها من الافعال وردات الفعل، قد احدث شرخاً في العلاقة بين واشنطن والرياض، كما تجسد ذلك في الانتقادات والاتهامات المتبادلة من هذا الجانب الرسمي او ذاك، فضلاً عن حملات العداء وموجات التعصب من جانب المتطرفين على الجبهتين: اميركيون يطالبون بالتعامل مع السعودية كدولة عدوة ينبغي محاربتها او معاقبتها او اجبارها على تغيير برامجها التربوية. وفي المقابل، وجد المثقفون السعوديون، تراثيين وحداثيين، الفرصة سانحة لكي يقولوا ما لم يكن بوسعهم قوله من قبل وينضموا الى اشقائهم العرب في شن حربهم الثقافية والرمزية على الولايات المتحدة.
وهكذا، كلما اكد الطرفان على متانة التحالف بينهما تأتي الوقائع من المواقف والتصريحات والمطالب لكي تشهد بخلاف ذلك، خاصة من جانب الولايات المتحدة، التي تتقن سياسة الابتزاز والإحراج لحلفائها وأعدائها على السواء. وها هي تضع اكثر العرب بين حلين احلاهما مرّ في اعلانها الحرب على العراق: إما تأييدها في هذا الموقف وهذا ما يخشونه او الدفاع عن العراق ونظامه وهذا ما لا يريدونه. مثل هذه المعاملة من جانب الدولة الاقوى، حملت الامير سعود فيصل رئيس الدبلوماسية السعودية على القول ذات مرة: ان سياسة الرئيس بوش الابن، تدفع العاقل نحو الجنون. ولا غرابة فالعقل الذي تقوده القوة الصرفة مآله إمّا الحمق او الجنون، وكلاهما يجعل صاحبه اسير وسائله العقيمة او مقاصده المستحيلة التي ترتد عليه بضرر أشد مما كان يريد دفعه او تجنبه. هذا ما يحصل الآن: الكل في الورطة في ما يفكرون ويفعلون او يخططون ويدبرون، لأن العمل العالمي يقوم على الابتزاز وزرع الالغام أكثر مما يقوم على الشراكة والتعاون وحمل المسؤولية المتبادلة.
زعزعة القناعات
على مستوى الفكر، لقد افضى الحدث الى تعويم نظرية هنتنغتون حول صدام الحضارات. فقد غدت هذه النظرية محور السجالات الهادئة او الصاخبة على امتداد العام الفائت سواء في العالم العربي او في خارجه. غير ان ما جرى قد اسهم من جهة اخرى في زعزعة الكثير من الثوابت والقناعات الراسخة في عقول الناس حول نظرتهم لأنفسهم ولغيرهم او حول ما يعرفونه عن منطق الاشياء ونظام العالم، الأمر الذي حمل الكثيرين على التشكيك بمصداقية الاقوال ومشروعية الافعال بقدر ما حمل العديد من المفكرين والمنظرين والمعنيين بشؤون العلاقات الدولية على مراجعة المبادئ والنظريات او المذاهب والاستراتيجيات المستخدمة في الفهم والتشخيص او في العمل والتأثير، كما تجلى ذلك في سيل القراءات والتحليلات والتكهنات حول وضعية العالم وسيره بعد أحداث ايلول.
وإذا كان انهيار جدار برلين قد فسر لمصلحة العالم الرأسمالي والنظام الليبرالي والعولمة الناشئة والكاسحة بمخلوقاتها وشبكاتها وأسواقها، فإن انهيار ابراج مانهاتن يمكن ان يفسر بوصفه ضربة لليبرالية الجديدة وللعولمة التي تقودها الولايات المتحدة. فالحرب على الأرهاب وردات الفعل اللاعقلانية على المأساة، دفعت الولايات المتحدة الى ممارسة عالميتها بشكلها الخشن والفظ، وذلك باستخدام لغة ارهابية او باتخاذ اجراءات وتدابير قانونية او امنية تعسفية تنتهك الحقوق وتقيّد الحريات على نحوٍ يذكّر بمعسكرات الاعتقال المرعبة.
في حين ان العولمة تعني غلبة الناعم والعابر للقارات، واتساع حركة الانتقال والاختلاط بين البشر، وتزايد اعمال التداول والتبادل، واحترام حقوق الإنسان وقيم التسامح والانفتاح على الآخر.
عولمة الهويات
ومع ذلك لا ينبغي الوقوع في التفسيرات الأحادية الجانب. فأحداث ايلول تشهد من جهة اولى على تضعضع السيادات الوطنية والقومية، بما فيها سيادة الدولة الأقوى والأغنى، مما يعني اننا نتجاوز الآن عصر الدولة القومية والأمبريالية. ولن نعود اليه الا بأثمان باهظة وخسائر فادحة.
وهي تشهد من جهة ثانية على عولمة الهويات، وعلى رأسها الهوية الإسلامية، بقدر ما تكشف عن الطلب على الإسلام ومعرفته او عن وجود المسلمين وتأثيرهم في مختلف أنحاء العالم، وبخاصة في اوروبا وأميركا، مما يؤكد على وحدة المصير البشري، ويعني ان كل واحد بات الآن مسؤولاً، عن كل واحد، بقدر ما يعني تشكل مواطن عالمي او حق كوني يخص مستقبل البشرية ومصير الكوكب. ومؤدى الحق الكوني ان لا هوية لجماعة تخصها دون غيرها ما دامت هذه الهوية تترك اثرها على الناس اجمعين. وإذا كان لكل جماعة الحق في ان تمارس حريتها في الاعتقاد والتعبير، فليس من حقها تنزيه الذات بصورة نرجسية لرمي الجماعات الأخرى في دائرة الكفر والرذيلة او الشر والبربرية. هذه عملة عقائدية دفعت البشرية اثمانها القاتلة حروباً وأهوالاً وفواجع. بهذا المعنى يحق للولايات المتحدة ان تطالب المسلمين بتغيير برامج التعليم التي ترى الى الغربيين والمسيحيين من منظار اقصائي او سلبي وعدائي، كما يحق للمسلمين وسواهم ان يناقشوا ويشاركوا الولايات المتحدة بسياستها العالمية وطريقة إدارتها للشأن الكوكبي.
الخديعة المزدوجة
كارثة أيلول لم تهبط من السماء. وإنما هي نتيجة لما سبقها من تراكمات وتفاعلات بقدر ما تخلف بعدها من آثار وتداعيات.
هل يقف وراءها ابن لادن وبقية الانبياء الكذبة الذين يريدون إنقاذ البشرية بتخريب العالم وهلاك العباد؟
هل فعلها ابن لادن فيما كانت الولايات المتحدة تنتظرها او تريدها لتفعل ما تفعله الآن كما فسر الأمر المشككون؟
قد لا يتمكن أحدنا من ان يلعب دور المحقق الذي يهتم بالبحث عن الصندوق الاسود لكي يكشف السر ويعلن عن اسم الفاعل: ولا يعني ذلك ان ليس من المهم ان نعرف من هو المسبب والجاني. ولكن الاهم والاخطر ان صانع الكارثة مع مفتتح هذا القرن وبداية هذه الالفية الجديدة هو الانسان نفسه بالحرف الكبير والخط العريض، وتلك هي فضيحة انسانيتنا المعاصرة التي تفاجئها صنائعها بما تنشره من الفوضى والفساد او بما تحدثه من الخراب والارهاب والدمار.
على هذا المستوى الوجودي من التأمل والتدبر، نتجاوز المناقشات الدائرة حول صدام الحضارات كما نتجاوز التقسيمات الدينية او القومية في فهم ما حدث. لأن الكارثة تشهد على افلاس الانسان في معالجة المشكلات والكوارث التي تولدها شراسته وتكالبه او يصنعها جهله وظلمه. وهكذا فبعد اربعة قرون تفصلنا عن بداية الحداثة، هي تباعا عصر العقل وعصر التنوير وعصر التقدم وعصر التحرر، نجد ان البشرية تتقن اليوم العنف والحرب اكثر من اي يوم مضى، وذلك هو الإشكال الاعظم. بل هذه هي الخديعة المزدوجة.
من هنا ليست المسألة مجرد تضليل اعلامي تمارسه الولايات المتحدة، كما يعتقد تيري ميسان في كتابه <<الخديعة المزدوجة>>، حيث يذهب الى التشكيك بالرواية الرسمية الأميركية حول تفجير البنتاغون. المسألة اكبر من ذلك بكثير اذا نظرنا الى الأمور بمنظار كوكبي. ذلك ان المهم، أياً كان الفاعل، هو ما احدثته الضربة وتداعياتها من المآسي والكوارث في غير مكان من العالم، بخاصة في نيويورك وفي افغانستان. هذه هي المشكلة على المستوى الوجودي: إستراتيجيات متضادة، ولكن متواطئة، وقودها أجساد البشر ومشاعرهم وارزاقهم.
أكذوبة التمثيل
كذلك ليست المسألة مجرد صدام بين الإسلام والغرب او بين اميركا والعرب، كما يريد لنا الاصطفاف والانغلاق داخل سجوننا العقائدية اصحاب الهويات العنصرية ودعاة الحرب المقدسة والمواجهة الشاملة على الجبهتين. من ينظر ويتأمل بعقل مفتوح وعين متأنية فاحصة يرَ الأمور بصورة مختلفة. فالقاعدة وطالبان ومن معهما او وراءهما كانوا البارحة حلفاء للأميركان، ثم تحولوا في ما بعد الى خصوم وأعداء. ولم يكن الأمر في الحالة الأولى تحالفاً بين الإسلام والغرب او بين الإسلام والمسيحية، ضد الكفر والشر، كما لم يكن في الحالة الثانية صراعاً بينهما، يمثل فيه احدهما الإيمان والخير او العدالة والحرية، والآخر الكفر والشر او التخلف والبربرية، وإنما يتعلق الأمر، فيما وراء الأقنعة الدينية والستارات العقائدية، بتحالفات وصراعات استراتيجبة بين دول ومنظمات او بين حكومات ومجموعات من اجل السيطرة على العالم ومقدراته او على الناس وعقولهم.
وهكذا فلا بوش يمثل الغرب المسيحي ولا ابن لادن يمثل العروبة والاسلام. فلعل الاول ابعد ما يكون عن تجسيد المسيحية. وأما الثاني فإنه اخطر النماذج وأسوأ النّسخ التي انتجها الإسلام والحداثة معاً. وتلك هي خدعة التمثيل وفضيحة الصراع. فآخر ما يهمّ اميركا هو حرية الشعوب العربية وتقدمها، اذ هي طالما تعاملت او دعمت الحكومات الديكتاتورية والانظمة الفاشية. وهي طالما قاتلت بمن تقاتلهم الآن او يقاتلونها. وذلك هو مآل الشراكة الملغومة التي ينصب فيها الواحد الأفخاخ للآخرين لكي يقع فيها في ما بعد. وفي المقابل ليس مرمى ابن لادن تحرير العرب من اميركا والغرب او انقاذ المسلمين من براثن الكفر والفساد، وإنما هو يريد تحويل الحياة الى مسلخ او جحيم كما تترجم من افكاره البائدة وفتاواه المدمرة وتقسيماته المانوية للبشر الى فريقين مؤمنين وكفرة : قديسين وشياطين هما وجهان لعملة رمزية واحدة تفتك بالبشر الذين يقعون ضحاياها لسبب او لآخر.
تواطؤ الأضداد
والنظر الى المسألة بهذا المنظار، يعني امرين:
الاول ان الاسلام ليس كتلة منسجمة ولا هو بنيان مرصوص يحتكر النطق باسمه جماعة او دولة او منظمة. انه ليس عالماً وموحداً في مواجهة الغرب، كما يتعامل معه اصحاب الشعارات التبسيطية والمحميات العنصرية، وإنما هو متعدد بتعدد اللغات والقوميات وخاصة بتعدد الدول التي لكل واحدة منها مصالحها وحساباتها على المسرح الدولي. هناك اسلام تعددي عربي وافريقي وايراني وتركي وماليزي... ولعلنا الآن بصدد الكلام على اسلام اوروبي او اميركي. وهذا شأن المسيحية من حيث تعدد طوائفها ومساحاتها الثقافية وتلاويناتها الحضارية او القومية. ومن باب اولى ان يكون الغرب كذلك اذ هو مبتكر مفهوم التعددية كما جرى ذلك في الولايات المتحدة بشكل خاص . الاحرى عندما نرى الى الاسلام والغرب، ان نتحدث عن عالمين ثقافيين متعولمين يتعلق واحدهما بالآخر. وكلاهما عالم مركب بقدر ما هو مبني او منسوج من المغايرة والتعدد. الامر الذي يحملنا على قراءة ظاهرة العولمة بصورة غنية ومركبة تفتح الفكر على تعدد الانماط والنماذج او المذاهب والمناهج او اللغات والهويات.
الثاني، اننا لسنا ضحايا بعضنا البعض كما يعتقد الذين يفكرون بحسب خرافة المماهاة وعقيدة الاصطفاء او عقدة الضحية التي لا تتقن سوى لعبة التماهي مع جلادها. الاحرى القول اننا نتواطأ بعضنا مع بعض ضد انفسنا بقدر ما نحن ضحايا تصنيفاتنا الارهابية واستراتيجياتنا الملغومة وعقولنا المفخخة الذئبية او الانتحارية. فما عاد يجدي حلاً او يغني حالاً، من جانب اي فريق او معسكر، ان ندير العالم بأصولياتنا الخانقة، ومسبقاتنا المعيقة، بثقافاتنا العاجزة وحداثتنا الهشة، بشعاراتنا المستهلكة وتقسيماتنا الفقيرة والخادعة.
المأزق البشري
وتشخيص الازمة على هذا النحو يعني عجز العقل عن الفهم والتدبير بأنماطه القديمة والحديثة، الدينية والعلمانية. وذلك هو الإشكال الاكبر: ما يحدث يضع الانسانية امام مأزقها بقدر ما يكشف عما تولده المساعي البشرية والمشاريع الحضارية من المآسي الاجتماعية والازمات الاقتصادية والمعضلات الامنية، فضلاً عن الكوارث والانهيارات البيئية.
وهذه قمة جوهانسبورغ تقدم مثالاً حياً بنتائجها الهزيلة، بعد عشر سنوات تفصلها عن قمة ريو دي جنيرو، تفاقم خلالها تلوّث البيئة وتزايد استنزاف الطبيعة وانقراض العديد من الانواع الحية. وتلك هي الفضيحة. وأما الكارثة فهي تتمثل، ليس في كون الدول المصنعة والغنية والمتقدمة لا تريد اتخاذ اجراءات للحد من التدهور البيئي، بل لكونها لا تقدر على ذلك، بسبب انسانيتنا المركبة، من حيث تعاملها مع الحيوان والطبيعة. على التسخير والاستنزاف والتدمير. ولا يوجد فارق جوهري بين نمط ثقافي وآخر، يستوي في هذا الخصوص الخطاب اللاهوتي والخطاب الديكارتي، فلسفة الانوار وتقدمية ماركس، أمبريالية الانظمة الرأسمالية وثورات الحركات التحررية. من هنا الحاجة الى الاشتغال على عقولنا لكي نتخطى الفكر الماورائي والمتعالي والأحادي بحقائقه الثابتة وقوالبه المسبقة وحتمياته القاطعة، كما نتجاوز التقسيمات العرقية والدينية الى عقل عربي وغربي او اسلامي. فالافكار الخلاقة والخصبة لا تخص قوماً دون قوم، ولا هي مطلقات يقينية او قيم مقدسة، وإنما هي طاقة الانسان على أن يتحول بها ويحولها بقدر ما هي قدرتها على الانتشار والتداول لفتح مجالات للتعايش والتبادل والتفاعل.
العجز العربي
من الطبيعي ان يتأثر العرب والمسلمون بالحدث اكثر من سواهم، بعد ان تبنت حفنة منهم التفجيرات او فرحت بها من منطلق ديني او قومي، بوصفها حرباً ضد المشركين او ضد الاميركيين كما أطلقت التسميات ايضاً من هذا الجانب، الامر الذي وضع الاسلام موضع الاتهام بقدر ما سلط سيف التهديد على دول المنطقة العربية، لاتهام بعضها بإيواء الارهابيين، والبعض الآخر بكونه من الدول المارقة، وبعضها الثالث بكونه يعلم أبناءه كره اليهود والمسيحيين.
وما أراه ان المستهدف بالدرجة ليس العالم الاسلامي الذي تقف دوله على الحياد الملغوم. بل العالم العربي الذي غدا بؤرة لممارسة العنف وخوض الحروب المدمرة منذ قيام اسرائيل. والآن تضعه الاحداث على حافة الانفجار، بقدر ما تتعرض دوله للضغوط والتهديد والابتزاز.
هذا تحدٍّ كبير لا مجال لمواجهته من جانب العرب، كما كانوا يفعلون من قبل، بعد ان استهلكت الشعارات وأخفقت المشاريع.
لنعترف بأن جزءاً مما يتهمنا به الآخرون والغربيون نحمل نحن تبعته، اي هو من صنع عقولنا وأيدينا. فبعد اكثر من قرن من رفع عناوين الاستنارة والتقدم والديموقراطية والتشديد على دور العقل وعلى اهمية العلم والمعرفة في البناء والتحديث، لم نفلح حتى الآن في تحقيق إنجازات يعتد بها في هذه المجالات امام العالم الذي نحسن استعداءه ولا ننجح في اقناعه، لأننا لا نتقن المشاركة في صناعته على النحو الايجابي والبنّاء، او لأننا نرفع قضايا لا نحسن الدفاع بل نكون اول من ينتهكها.
نحن نتقن لغة الشكوى او التهمة، كما تفعل الاكثرية الساحقة من المثقفين في ردات فعلها على احداث ايلول او على التهديدات الاميركية. ففي اميركا، منذ اللحظة الاولى للانفجار، ظهرت اصوات واقلام تمارس النقد الذاتي لبلدها ثقافة ونظاماً وسياسة. أما عندنا فالكوارث والهزائم والإخفاقات تزيدنا تشبثاً بما يولّدها من المرجعيات والاولويات او من المقولات والشعارات او من الوسائل والادوات.
وهكذا فنحن نتهم الغرب واميركا بممارسة الهيمنة والقهر والفساد والعنصرية واللاعقلانية والأحادية، في حين ان هذه الآفات هي من خبز مجتمعاتنا ومن أبجدية ثقافتنا. ونتهم الغير بظلمه لنا، فيما نحن الاكثر ظلماً لأنفسنا، لأننا الاكثر تعصباً لذواتنا وجهلاً بأحوال العالم. أما الحرية فهي دوماً المنتهكة او المغتصبة من قبل عشاقها وخصومهم على السواء كما تشهد الساحة اللبنانية.
والشواهد البليغة تقدمها الشرائح الثقافية بنرجسيتها ونخبويتها، بمفارقاتها وفضائحها وأكاذيبها. اذ دأبها ان تعارض التسلط والاستبداد والفاشية والبربرية في مكان لكي تدافع عنها في مكان آخر. انهم ضد شارون ولكنهم يدافعون عن نظيره العربي. وهم ضد بوش، ولكنهم يؤيدون من ليسوا افضل منه في بلدانهم.
وإلا فكيف نفهم كل هذا الإخفاق بعد كل هذه المطالبات والنضالات؟ الإخفاق اولاً في إغناء وتطوير مفاهيم العقلانية والحرية؟ والاخفاق ثانياً في ممارسات العقلنة والديموقراطية على ساحات العمل؟ مما أفضى الى افلاس الشعارات وجعلها غير قابلة للتداول بين الناس. إزاء هذا الاخفاق المركب، ما عادت النخب تمتلك مصداقيتها في قيادة مجتمعاتها.
من هنا فالمهمة الاولى هي المحاسبة ونقد الذات. والمحاسبة هي على قدر الادعاء. والمثقفون هم الاكثر ادعاءً في طروحاتهم ومواقفهم، ولذا فهم الاكثر إخفاقاً، والمهمة النقدية هي العمل على الذوات والافكار والهويات والسلطات والانظمة والمؤسسات لإعادة البناء والتركيب بخلق صيغ وشبكات ومعايير أكثر جدوى وفاعلية في التعاطي مع الاحداث ومواجهة التحديات.
مشروعية عالمية جديدة
ختاماً، هل سوف تقع الحرب على العراق كما نسمع ونقرأ ليلاً ونهاراً؟ وهل المطلوب حقاً إنهاء نظام صدام؟ وهل سوف تتغير خريطة المنطقة العربية؟ وأي عالم سوف يتشكل اذا ما انفجر الوضع؟
التساؤلات تتلاحق بقدر ما تزدهر التكهنات والسيناريوهات. وأيا يكن الحدث المرتقب، ففي رأيي وانسجاما مع مفهومي للأزمة ارى ان لغة الصدام وعقلية الاستقواء والخيارات القصوى لن تحل مشكلة العنف والارهاب بل سوف تزيد الامور تعقيدا وتأزما، اي فوضى وفساداً او عنفاً وارهاباً. وكما ان احداث سبتمبر، اياً يكن فاعلوها، قد أضرّت بأميركا وبالعرب والمسلمين وبالبشرية جمعاء، فإن العنف الذي يندلع في اي مكان، وأياً كان الشعار، سوف يعود بالضرر على الجميع، بمن فيهم اصحابه، بعد ان باتت المصائر والمصالح متشابكة متداخلة. بذلك ينفتح المشهد العالمي على خيارين كبيرين لكل منهما ثمنه وثمراته:
التبسيط والتطرف والاقصاء والصدام لصنع الحروب والكوارث، او تحمل المسؤولية المتبادلة وإتقان لغة الشراكة والمداولة، في معالجة المشكلات وإدارة المجتمع الكوكبي، من اجل تشكيل مرجعية عالمية مختلفة وفتح آفاق جديدة امام العمل الحضاري والتنمية البشرية تكون اقل كلفة ووطأة او اقل تسلطاً وعنفاً، بل اقل عبثاً وجنوناً
جريدة السفير