نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1077 - 2005 / 1 / 13 - 10:59
المحور:
الادب والفن
1
لم تفترقا أبداً, و عندما ماتتا ماتتا سوياً, بقذيفة من السماء.
في حياتهما ظلت كل منهما بجوار الأخرى و تعهدت كل منهما للأخرى بلحظة موت كتلك, موت يجمعهما سوياً و لا يقضي على واحدة فقط و يترك الأخرى و بذلت كل منهما ما في وسعها لتقلل من فرص خرق الموت لهذا التعهد. كانت كل واحدة تسير بجانب الأخرى و تنام بجانبها و تساحقها. لم تعرف أي منهما مذاق الرجل حتى نهاية حياتها. كل ما عرفته سميرة كانت صفاء و كل ما عرفته صفاء كانت سميرة.
و الآن تموتا معاً. بقذيفة سماوية
اخترقتهما القذيفة. لم يصرخا. كانا في لحظة حميمة و خشيا إن هما صرخا أن تفسد اللحظة. تناثر مخاهما على الأرض. كتلتان تلطخان المكان. و عندما حملوا جثتيهما لم يلتفت أحد إلى المخين. ظلا في مكانهما.
كل مخ بجوار الآخر الآن. الآن يمكننا تأمل المشهد من وجهة نظرهما.
إنقطاع هائل للإضاءة و الصوت و الحرارة. عزلة مفاجئة. الأشياء تدور بطريقة مختلفة. هكذا بدت الأمور بداخل كل مخ. و هكذا ما زالت تبدو.
بين المخين مسافة لا تتعدى نصف المتر. كم هو محزن أن نقول أنه برغم هذه المسافة البسيطة لا يعرف أي مخ بوجود صاحبه, لأنه لا يراه, لأنه انفصل عن عينيه و أذنيه و أنفه و قلبه و جلده.
الآن كل مخ جزيرة معزولة. و لو بعثت صاحبتيهما من قبريهما لانتابهما فزع هائل و لسعيتا في جهد محموم و يائس لدمج المخين ببعضهما البعض عسى وحدة ما أن تتحقق بينهما و لن يجدي أمر كهذا. كم هو محزن أن سميرة و صفاء نفسهما متورطتان في قصة حب عميقة في قبريهما. و أن الأمر في موتهما لم يختلف عنه في حياتهما. فقط ظل مخاهما نقطة تعكر قصة الحب تلك.
لم يعرف أي مخ بوجود الآخر. لم تكن إلا أشياء كالرياضيات هي ما يستطيع مخ بائس استيعابها. بالإضافة إلى ذاكرة عنيدة لا تتوانى عن استرجاع كل التفاصيل. ذاكرة تحوي العالم. كانت أمور كالخبرات و المشاعر هي ما تعوز كل مخ. و في عالم باهت كذلك تنمو الرياضيات و تبني نفسها بعنفوان اعتماداً على أكثر المعلومات سذاجة.
2
قال مخ سميرة: أنا كنت أرى أشياء و أسمع أشياء و فجأة لم أعد أرى أو أسمع. قد تكون حواسي قد ماتت و قد تكون انفصلت عني و قد تكون غيرت نشاطها إلى التفكير المحض.
و قال مخ صفاء: كانت صاحبتي بجوار صاحبتها و عندما حدثت الطامة لم أعد أرى شيئاً أو أسمع شيئاً. قد تكون صاحبتي ماتت و صاحبتها ما تزال حية و قد تكون الاثنتان قد ماتتا و قد تكون صاحبتي لم تمت و إنما ضمرت حواسها فحسب.
كل احتمال من تلك الاحتمالات كان يولد عدة احتمالات أخرى. و لم يبد أن أي مخ سيتعب يوماً من تكديس الاحتمالات فوق بعضها البعض. كان سعي كل مخ وراء الحقيقة يتم عن طريق إضافة المزيد من الحقائق البديلة و المتناقضة. غدت الحقائق المحتملة كلها خرائط تتشعب طرقاتها بعيداً عن بعضها البعض.
و قام حوار طويل بين المخين, الذين لم يعرف كل منهما بوجود الآخر إلا عن طريق الافتراض, حوار مفترض كذلك.
إفترض كل من المخين وجود مخ الآخر بجواره. قال مخ سميرة قد يبعد مخ صفاء عني مسافة 50 سنتيمتر و قال مخ صفاء قد يبعد مخ سميرة عني مسافة 70 سنتيمتر. و قرر كل من المخين بناءً على هذا الافتراض إقامة حوار مع المخ الآخر. و سأل كل واحد الآخر سؤالاً و افترض عدة ردود على السؤال و رد على الرد بعدة ردود. نما بداخل كل مخ مونولوج لا ينتهي, مونولوج حواري في الأساس, و بدا كل واحد سعيداً بهذه اللعبة.
الآن يمكننا القبض على حقيقة ما. هي الحوار القائم فعلاً بين المخين. فعلاً يسأل كل مخ سؤالاً و يرد عليه الآخر, في مصادفة لا بد منها بداخل احتمالات لا نهائية. حوار كهذا ندعوه الحقيقة و إن لم يمثل بداخل كل مخ إلا قطرة في بلايين الحقائق. يدرك كل مخ أنه في داخل احتمالات لا نهائية لا بد أن يكون احتمال واحد فقط هو الصحيح, و يشكل زهوه بكونه توصل إلى الحقيقة الفعلية بدون أن يعاينها دافعاً لكي يستمر بنشاط أكبر. حتى و إن كان هذا التوصل إلى الحقيقة حتمياً. يعامل كل مخ كل احتمال بحرص شديد, أليس من الممكن أن يكون هو الاحتمال الحقيقي, و لا يهمل أي احتمال صغير قد ينجم عنه.
3
و في قبريهما تراقب سميرة و صفاء هذه العملية بفزع و حنق. تمسك كل منهما بخريطة عليها مسار الاحتمالات التي يستنبطها المخان. و قد خططت كل منهما على الخط الحقيقي, بقدر ما تستطيع الرؤية من قبر سيء الإضاءة, بأكثر من خط. و أكثر من مرة أعربتا عن رغبتهما في الخروج و لو لساعات للإشارة أمام كل مخ إلى هذا الخط. مفزع أن نرى مخاً يتوصل إلى الحقيقة بمفرده و برغم ذلك لا يتعامل معها بتوقير أكثر مما يتعامل به مع الحقائق الأخرى المناقضة التي توصل لها. تساءلتا كيف يمكن للمخ أن يتجاهل هذا الوجود الفعلي, المحسوس دوماً, و يتعامل ببرود هكذا معه. رغبتا في دهس هذين المخين المارقين. لأن الواحد منهما لا يبدي الحب اللائق تجاه الآخر و لأنهما يخلان بالعهد الذي قطعته كل منهما أمام الأخرى عندما قالت أن شيئاً لن يفصلهما أبداً. في الواقع أن ما لم يستطع الموت و لا القبر أن يصنعه قد صنعه جزء من جسدهما. جزء ترك وحده ليمارس عربدته و مروقه و انفصاله عن سائر الجسد الممتثل.
و عندما ستنتهي مسيرة تحلل جسدي سميرة و صفاء سيكونان قد كونا بالفعل واحداً صحيحاً منذ زمن طويل, ربما منذ تعرفا على بعضهما البعض قبل موتهما بخمس و ثلاثين عاماً, ستقل قليلاً يقينية هذا الخبر لدى موتهما. سيكون الواحد صحيحاً غير أنه ليس صحيحاً بالشكل الذي كان عليه قبل موتهما. سيء أن نتوصل إلى هذه النتيجة وقت كان اختلاطهما أكثر مادية عما كان عليه قبل موتهما, أي باختلاط عناصر جسديهما و تحللها. سيء أن يشعرا هما في وقت كهذا أن اختلاطهما قد قل كثيراً عما كان عليه قبل الموت. هنا فقط يكون الموت مرعباً, عندما ترى مخك ينفصل عنك و عن توجيهاتك و يمضي معلنا استقلاله و لا تقدر أنت على منع هذه المهزلة السخيفة. في لحظاتهما الأكثر رومانتيكية كانا يفزعان متسائلتين عن وحشية هذين المخين التي أدت بهما إلى كل عدم الفهم هذا و التخبط و سد الأبواب أمام الحب الحقيقي.
4
تشاجر المخان مرة فيما بينهما. كانت ضراوة الاحتمالات تزداد و كان كل رد يفترضه مخ منهما على ما قاله يحمل استفزازاً لا يحتمل. كان هذا في خط واحد هو الخط الذي يعنينا لأنه يمثل الحقيقة, باعتبارها هي النقطة التي يتلاقى عندها خطان سائران إلى ما لا نهاية. في خطوط أخرى كانت العلاقة بينهما أكثر من رائعة و أحياناً كانت علاقتهما تحوي بعض المناوشات غير ذات التأثير.
قال مخ سميرة: سأسأل مخ صفاء عن الحقيقة و سيقول لي حقيقتي هي وجودي و سأقول له و وجودي أنا أليس بحقيقة و سيقول لي أنا لا أحسه فهو ليس بحقيقة و سأغضب لأنني أشعر بوجودي و لا أشعر بوجوده و سأسأل نفسي كيف يمكن له ألا يشعر بوجودي و سأخطط لأجعله يشعر به.
و قال مخ صفاء: سيسألني يوماً مخ سميرة عن الحقيقة و سأجيبه بأنها وجودي و سيغضب هو لأنه لن يشعر بوجودي أبداً. قد نتبادل الكره لهذا السبب و قد يضمر لي الكراهية و يخطط لكي يجعلني أشعر بوجوده هو و أتنازل عن وجودي. في وقت متأخر قد أخطط أنا لأجعله يشعر بوجودي كذلك. هكذا أدافع عن نفسي و أخترقه في آن.
و يغدو كل مخ, منغمساً في حوار لا ينتهي مع نفسه, في جزء منه مشتعلاً و لا يرغب إلا بالنصر الكامل. في أجزاء أخرى سيكون كل مخ غارقاً أشد ما يكون في التصالح مع العالم و في رؤية العالم, و المخ الآخر بالخصوص, كساحة وردية للهو الزهور و المرايا و الموسيقى.
في يوم سيقول احتمال في مخ سميرة: لا بد من قتل مخ صفاء.
و سيقول احتمال في مخ صفاء: لا بد من قتل مخ سميرة.
و سيكتشف الاثنان أن أياً منهما لا يستطيع القيام بهذا. أن هذا ليس من مفردات الحوار مع الذات. في حوار مع الذات لا يمكن قتل أي شيء بخلاف الذات نفسها. قال مخ سميرة: سأقنع مخ صفاء بالانتحار حرصاً على سلامة البشرية و قد يقنعني هو بالانتحار كذلك و قال مخ صفاء سأقنع مخ صفاء بالانتحار و سيقنعني هو بالانتحار و سأقتنع. و قال مخ سميرة: سأقتنع بالعرض الذي سيعرضه علي مخ صفاء. سأنتحر.
"ننبه: ما زالت الاحتمالات الأخرى في كل من المخين تدور في أكثر المناطق عذوبة بل و ما زال كل منهما يفترض مشهداً إيروتيكياً يدور بين جسدين شابين في قبر بعيد".
في القبر كانت صفاء و سميرة تتابعان الحوار المونولوجي بين المخين. في يوم سيكونان قد ملتا من تتبع الخطوط اللانهائية التي تسم احتمالات الحقيقة في داخل المخين. أيضاً سيكونان قد عجزتا عن معرفة أي خط من تلك الخطوط هو الحقيقي و أيها زائف. ستكونان قد ألقيتا بالخريطة و مضيتا في ممارسة ألعابهما المحمومة. في يوم, بعد أن علت الأتربة الخريطة, سيقرران فتحها ليفاجئا بالخطوط و قد بهتت تماماً و لم تعد تشع مثلما كانت. سيكتشفان أن الخطوط قد توقفت عند حد معين و لم تعد تواصل التقدم و أنه حتى تلك الخطوط المتوقفة قد بدأت تتراجع إلى الوراء. لم تسجل الخريطة أي نشاط حديث للمخين و كأن المخين قد توقفا عن العمل أو أنهما قد انتحرا. لن يحزنا كثيراً على هذا المصير بل من المؤكد أنهما سيفرحان. كان معنى انتحار المخين المارقين هو عودة الانسجام لمسيرة التوحد التي قام بها جسداهما و أنه لم يعد هناك ما يعيق توحداً كهذا إلى الأبد.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟