|
توأم الروح - قصة قصيرة
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3651 - 2012 / 2 / 27 - 09:13
المحور:
الادب والفن
{ إلى روح الأديب الساخر محمد عفيفى } ـــــــــــــــــــــــــــــــ جلس ملتصقًا بها . كفٌ فى كفها وبالأخرى أمسك خطاب ابنته وقرأ (( أمى الحبيبة. أبى الحبيب. تعلمان أننى لم أُكمل العام فى كندا . ومع ذلك تمكّنتُ من تدبير المبلغ المحوّل على بنك ( ... ) بالقاهرة قيمة تذكرة الطائرة لأمى . وتمكّنتُ من تدبير مبلغ علاجها فى أهم مستشفى فى كندا . كنتُ أود يا أبى أنْ تكون مع أمى فى رحلتها ، ولكننى أعدك بأنْ أرسل لك مبلغًا فى أقرب وقت لتطير إلينا ويجتمع شملنا. أبحاثى فى مادة اليورانيوم متقدمة . قبلاتى لكما . ابنتكما المخلصة (... ) . سحبتْ كفها من كفّه واستدارت بوجهها . قالت وعيناها فى عينيه (( إسمعنى يا عفيفى كويس . إنت عارف وبنتى حبيبتى عارفه ، إنْ حالتى ميئوس منها )) قال (( العلاج فى كندا متقدم . ولابد من المحاولة )) قالت (( وكمان بصراحه أنا ما أقدرش أسيبك لوحدك )) أمسك كفها المعروقة وضمها إلى شفتيه وقال (( مين اللى قال إنك ح تغيبى عنى وإنت جزء منى ؟ )) قالت (( آه ياعفيفى . أرجوك بلاش تضاعف من ألمى . إنت نسيت كلامك اللى قلت فيه إنْ خيالاتنا الشعرية هزمها الواقع ؟ )) قال (( خيالاتنا الشعرية كانت لتحسين صورة الواقع . ولكن أحاسيسنا لم تنهزم يا توأم روحى )) تنهّدتْ بعمق وقالت وهى تغالب آلامها (( أرجوك ياعفيفى . أحلّفك بالستين سنه عمر علاقتنا ، ما تتعب ش قلبى . أرجوك اذا كنت غاليه عليك . وافق إنْ الأيام اللى باقيه من عمرى أقضيها وأنا جنبك )) . هاجمته عاصفةٌ من الشجن والأسى ، تغلّب عليها بأسلوبه الساخر ، الذى عرفته عنه رغم كل معاناته . قال (( ح تسافرى يعنى ح تسافرى . أو أكتب ضدك بلاغ للنيابه أقول فيه : شريكة حياتى ح تقتلنى بعنادها . وح أكتب لبنتك أقول لها إنزلى على أول طياره ، علاشان تشوفى لك صرفه مع الست والدتك ، بعد ما غلب حمارى )) . توجّه إلى العصافير فى أقفاصها وتحدّث معها . وإلى الأسماك فى أحواضها واشتكى لها . وإلى النباتات ، وطلب منها التدخل لفض النزاع بينه وبين شريكة حياته . ابتسمتْ رغمًا عنها ، وهى تراه وتسمعه يمارس هوايته الأثيرة منذ أنْ ارتبطت به : لايكف أبدًا عن مخاطبة كل الكائنات الحية . اختفتْ الشمس فاختفى الجسدان الضامران فى الظلام . يتابعان قفزات القطة دلال والقط مشمش وهما يتبادلان الجلوس على فخذيها مرة ، وعلى فخذيه مرة أخرى . أرهقهما الكلام فاستسلما لصخب الصمت . إرادتان متصارعتان . تعلم أنه يرفض الهزيمة . ويعلم أنّ هزيمتها قهرٌ لها . وتوقن هى ويوقن هو أنّ بقاءهما معًا هو ما يوحّد بينهما . وأنّ فراقهما لايختلف عن نزع الرضيع من ثدى أمه . وبينما هى تتشبث بالبقاء ، كانت قناعته أنّ إرادة الحياة يجب أنْ تنتصر على رغباتنا . فى الليلة الأخيرة ، قبل السفر ، تملّكهما شعور الوداع . كتمتْ مشاعرها وخنق مخاوفه . اصطنعا بهجة توضع فى ألبوم حياتهما . تكلّما مع العصافير . لعبا مع دلال ومشمش حتى الإرهاق . تابعا رقصات الأسماك . تحسّسا وقبّلا كل وردة وكل ريحانة . ارتسمتْ ابتسامتان عفويتان على الوجهين المتغضنين . استشعرا سعادة النباتات وهى ترقص على شرفهما . أدارا كونشرتو البيانو الثانى لرحمانينوف . حوّطتْ خصره وحوّط خصرها . ظلاّ يرقصان حتى باغتتهما أشعة الشمس الأولى ، فانتفضا مذعورين . فى المطار حاولت هى كبح مشاعر الفراق ولم تستطع . بكت . جفّف دموعها بشفتيه ، كأنما يمارس أعذب معزوفة أنسته الناس والوجود . بعد أنْ رطّبتْ شفتاه الجمر المشتعل داخلها قالـــــــــت (( ملعونه الفلوس . يعنى لو كانت الفلوس أكتر موش كنت سافرت معاى ؟! )) استجمع قدرته على السخرية وقال (( ياتوأم روحى . إزاى نسيتى اللى كتبته فى كتابى ( سكة سفر ) أنا يانور عينى – من سوء حظى – من الزواحف موش من الطيور . وأنا زى صديقى الأديب نجيب محفوظ أكره السفر . وكتبتْ إنْ أنا من الناحية النفسية أشبه بالأشجار . عمرك شفتى شجره ماشيه ؟ ولولا ضرورة السعى للرزق لقبعتُ فى المنزل لاأبرحه . ولربما تناولتُ الطعام فى السرير ، كى لاأتجشم مشقة السفر إلى حجرة المائدة ، اللهم إلاّ اذا فضّلتُ أنْ أنام فى المطبخ )) ابتسمتْ فتابع (( وكتبتْ أيضًا عن النفس البشرية وكم هى غامضة . واذا فوجئتُ ذات يوم بأننى أريد السفر ، زالت عنى تلك النزعة الشجرية ، وحلّتْ محلها نزعة عصفورية مناقضة تقول لى طير يا واد )) إتّسعت ابتسامتها وقالت (( يعنى توعدنى إنك تغير من طبيعتك وتكون عصفور وتطير إلى كندا ؟ )) ابتسم وقـــــــــال (( علاشان خاطرك أكون فراشه موش عصفور وبس )) سألته (( وعد ياعفيفى ؟ )) قال (( وعد يا توأم روحى . وإزاى نسيتى رغم إنى من جنس الشجر ، فىّ كل تناقضات البشر . وإنى زرت لندن . ولما وقفت قدام المسلة المصرية اللى هناك شفت العجب . شفت الجهل الإنجليزى الأصلى . سمعتهم بيشاوروا على المسلة ويقولوا عليها : إبرة كليوباترا *. كنت ح أموت من الغيظ بعد ما كنت ح أموت من الدحك . تانى يوم مشيت على شاطىء التايمز لغاية ماوصلت لمكان المسلة المصرية . وقفت قدامها أتلو صلاة فرعونية صامتة )) * . تأخّر إقلاع الطائرة . حكى لها نكتة المريض الذى تحدى المرض وقال له (( إنت جبان )) فقال المرض (( أنا موش جبان )) قال المريض (( لو موش جبان بصحيح إطلع لى . وح تشوف مين ح يغلب التانى )) أسعده أنْ أشرق وجهها بابتسامة مضيئة ، فانتقل إلى النكت السياسية . ازداد وجهها إشراقًا . سألته (( فاكر ياعفيفى قصيدة صلاح جاهين اللى بيتكلم فيها عن المرض ؟ لو فاكرها سمّعها لى )) شرد قليلا وقال (( فى القصيده دى ياستى ، لو كانت ذاكرتى ما بتخرف ش صلاح قــــــــــال (( إسفخص على لون الإصفرار / والفقر والخوف والمرض / ما شفته إلاّ ودمى فار / وحلمت بيه زال عنى وانقرض )) . أسند رأسها على صدره واستكانا لحوار الصمت . وعندما حلّقت الطائرة فى السماء ومعها توأم روحه ، حلّقت روح كل منهما فى فضاء الغيب . فى اليوم الأول بعد سفرها ، شغل نفسه بما كانا يقومان به معًا . نظّف أقفاص العصافير ووضع لها الطعام . ثم اطمأن على الأسماك وسقى الزرع وتحدّث معه وأحسّ بتجاوبه وهو يتراقص بفرح . وكلّما مشى وأينما مشى تتبعه دلال ويتبعه مشمش ، يتخبّط فيهما بسرور ويضع لهما طعامهما . أمسك الصحيفة . مشت عيناه على العناوين . أيقن أنه ينسحب إلى دوامة من الحزن بلا قرار . أحضر ألبوم صور العائلة . تأمل صورة زوجته . صور تحكى رحلة ستين عامًا . لكل صورة موقع ومناسبة وتاريخ . انتقل إلى صور ابنه الذى مات شابًا فى الحرب . وصور ابنته التى طارت إلى كندا بأبحاثها عن تصنيع اليورانيوم من التربة المصرية . دمعت عيناه وهو يتذكّر كلماتها قبل الهجـــــــرة (( ح أموت وتموت أبحاثى لو قعدت فى مصر )) يضم الألبوم إلى صدره ، ثم يعود ليفتحه من جديد. فى بداية الأسبوع الثالث لسفر زوجته ، اكتشف أنّ العصافير لاتأكل ولاتصوصو ولاتتحرك إلاّ اذا شاغبها . وأنّ الأسماك لاترقص والنباتات تذبل . سأل كائناته الحية (( أنا قصّرتْ معاكم فــــــى حاجه ؟ )) سمع وردة تخاطبه (( عاوزين نعرف إنت ليه حزين ؟ )) . فى بداية الشهر الثالث ، أطلق العصافير . وأهدى أحواض السمك والزرع للجيران . أقلقه مشكلة دلال ومشمش ، بعد أنْ رفض كل الجيران تبنيهما . يداعبهما بفتور ويتجاوبان معه بانكسار . يتلقى يوميًا مكالمة من ابنته تطمئنه على أمها . يحن للطبيعة العصفورية ويكره طبيعته الشجرية . سأل دلال ومشمش : ماذا يفعل كى يطير ؟ نظرا إليه بإهتمام وهويتابع حديثه (( قيودى تضاعف آلامى . أتوق إلى الطيران . لايهم إلى أين . روحى تختنق فى جسدها . أطير إلى كندا أو إلى العالم الذى لايعود منه أحد )) اندهش عندما اكتشف أنهما مازالا ينظران إليه بإمعان . تساءل فى همس وخشى أنْ يفهما هواجسه (( إزاى كنت ح أرتكب جريمة التخلص من دلال ومشمش ؟ )) . تذكّر شاعره الأثير صلاح جاهين . ترنّم ببعض رباعياته الفلسفية . راوغته الذاكرة وهو يستدعى بعضها . قال إنها شيخوخة الجسد والروح . تلا على نفسه الرباعية التى أحبها كثيرًا وراوغته ألفاظها كثيرًا (( خرج الإنسان من العدم قلت ياه / رجع تانى للعدم قلت ياه / تراب بيحيا والحى بيصيـــــــــر تراب / هوّ الأصل للموت ولاّ للحياه ؟ )) تسللتْ إلى روحه دفقةٌ من نشوة أسيانة . وضع دلال ومشمش على حجره وراح فى غفوة طويلة . ـــــــــــــــــ • هذه كلمات المرحوم محمد عفيفى بالنص . فى حين أنّ وصف المسلة بالإبرة ليس عن جهل وإنما لأنّ الإنجليز رأوا أن المسلة تشبه الإبرة ، خاصة الجزء العلوى المدبب . • هذه الفقرات كتبها الأديب الراحل محمد عفيفى فى كتابه ( سكة سفر ) وكتابه (تائه فى لندن) أما عن الجانب الإنسانى فى علاقته بالسيدة زوجته وأحاسيس الوحدة فى أيامه الأخيرة بعد سفرها للعلاج فى أمريكا ، فإنّ الفضل يرجع إلى الناقد الكبير الأستاذ فاروق عبدالقادر فى كتابه ( أوراق من الرماد والجمر ) كتاب الهلال – ديسمبر 1988 . *****
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرأة المصرية والعربية بعد الثورات
-
قارئة ودع - قصة قصيرة
-
موسيقى من السماء - قصة للأطفال
-
عادل لا يقول الحقيقة - قصة للأطفال
-
الأحادية المصدرالرئيسى للتعصب
-
الغموض الفنى فى مذاق الدهشة
-
سمير عبدالباقى وحكاياته مع معتقلات عبدالناصر
-
أمونه تخاوى الجان وتوظيف التراث
-
عبد العزيز جمال الدين واللغة المصرية
-
لقاء البهجة والتوتر - قصة قصيرة
-
عادل مطلوب للشهادة - قصة للأطفال
-
ثنائية الكمان والبيانو: قصة قصيرة
-
الحرية أو الموت : شعار الأحرار
-
روح الفراشة - قصة قصيرة
-
محمد على بين التأريخ العلمى والأيديولوجيا السياسية
-
تلك المرأة - قصة قصيرة
-
رحم الحياة - قصة قصيرة
-
امرأة البرد والظلام - قصة قصيرة
-
حالة تلبس - قصة قصيرة
-
تلك اللوحة - قصة قصيرة
المزيد.....
-
مبادرة جديدة لهيئة الأفلام السعودية
-
صورة طفل فلسطيني بترت ذراعاه تفوز بجائزة وورلد برس فوتو
-
موجة من الغضب والانتقادات بعد قرار فصل سلاف فواخرجي من نقابة
...
-
فيلم -فانون- :هل قاطعته دور السينما لأنه يتناول الاستعمار ال
...
-
فصل سلاف فواخرجي من نقابة فناني سوريا
-
-بيت مال القدس- تقارب موضوع ترسيخ المعرفة بعناصر الثقافة الم
...
-
الكوميدي الأميركي نيت بارغاتزي يقدم حفل توزيع جوائز إيمي
-
نقابة الفنانين السوريين تشطب سلاف فواخرجي بسبب بشار الاسد!!
...
-
-قصص تروى وتروى-.. مهرجان -أفلام السعودية- بدورته الـ11
-
مناظرة افتراضية تكشف ما يحرّك حياتنا... الطباعة أم GPS؟
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|