|
قلة أدب
إكرام يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 3651 - 2012 / 2 / 27 - 08:56
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
لم يحدث أبدا أن أبدى جيل الآباء في أي زمان أومكان رضاه عن أخلاق جيل الأبناء..ويكاد ألا تخلو أحداث رواية أو فيلم مصري أو أجنبي في أي زمن سابق، من عبارة على لسان أحد الكبار، تتحسر على الزمن الجميل الذي كان الشباب فيه أكثر تهذيبا. في جيلنا ـ الذي عاش طفولته في الستينيات ـ كنا نستغرب عندما يحكي الكبار أنهم كانوا يهبون قياما كلما دخل الأب عليهم، وكلما وقف للخروج. وكانت الجدات ترى في أن يتقافز الأبناء لعناق الأب أو تقبيل خده، بدلا من الانحناء في أدب على يده لتقبيلها في خشوع، قلة حياء. وطالما تندرنا على الحوار في الأفلام القديمة، عندما يحيي الابن والدته بطريقة رسمية للغاية "نهارك سعيد يا نينة" ثم ينحني لتقبيل يدها..في المشهد يبدو لنا كوميديا. وفي بواكير الشباب، عندما صرخت فاتن حمامة في فيلم "إمبراطورية ميم" معنفة أبنائها الأشقياء "ياولاد الكلب"!.. شكل اللفظ صدمة لا تنسى لأمثالنا أبناء الطبقة المتوسطة. وبمرور الوقت صارت العبارة تقال بين كثيرين من الشباب على سبيل الدعابة. و كثيرا ما كنا نفاجأ بتعبيرات ترد على ألسنة أبناء الناس "الطيبين"، في غياب الكبار. ومع تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية، تتغير ثقافة المجتمعات، وبالتالي يتغير أسلوب الأجيال الأحدث في التعبير، و يستمر عدم تقبل الأجيال الاٌقدم لهذا التغيير! ومع تعرض المجتمعات لطفرة تغيير قوية: سواء كانت حربًا، أو كارثة طبيعية، أو ثورة، تشهد الثوابت الثقافية والاجتماعية هزات عنيفة، تعبر عن نفسها في توترات اجتماعية وعصبية وحدة في سلوكيات الأشخاص؛ خاصة إذا صاحبت هذه التغيرات حوادث عنف وقتل، مع تكرار المشاهد الوحشية، وصور الضحايا. وفي هذا الصدد، لا يكاد ما تشهده مصر من توترات بعد الثورة يذكر، عند المقارنة بالتغيرات المماثلة في مختلف الأزمنة التاريخية وسائر المجتمعات. ومن ثم، لا يجد المثقف المطلع على تاريخ الثورات في العالم، غرابة حقيقية في لجوء بعض الشباب الى استخدام تعبيرات خشنة، تعتبر في أزمنة الاستقرار والسلام الاجتماعي، خارجة عن الآداب العامة واللياقة. وإذا كان طبيعيا أن يستغل أعداء الثورة أي فرصة للنيل من الثوار؛ فلا شك أنهم يجدون في تعبيرات بعض الشباب والفتيات مطعنا للنفاذ منه إلى تشويه الثورة. غير أن من يريد الإنصاف عليه أن ينظر إلى الصورة من جميع جوانبها. فلا شك أن الخشونة اللفظية، والتعبيرات الخارجة، تمثل نوعًا من أنواع العنف غير المقبول. غير أنه في كثير من الأحيان، يعتبر وسيلة هؤلاء الشباب للرد على عنف أكثر وحشية يتعرضون له يوميا. وعلينا ألآ ننسى أن كثيرين من شباب هذا الجيل سمع منذ سنوات طفولته عن حوادث تعذيب بشعة في سجون وأقسام نظام المخلوع، صارت خبرا معتادا في وسائل الإعلام المحلية والعالمية. وعلى مدى ثلاثين عاما ظل التعذيب ممارسة روتينية طالت الجميع، يستوي في ذلك مواطن لم ترق للضابط طريقته في الحديث إليه، أوأبدى اعتراضا على إهانة "الباشا" له، أو محتجز لمجرد الاشتباه، أو متهم بجريمة جنائية. ولم تشهد هذه العقود حالة تذكر تم فيها توقيع عقاب رادع، يثبت رفض الدولة لهذه الممارسات. بل أن كثيرين من شباب هذا الجيل من أبناء المعارضين لنظام المخلوع، مروا بتجارب نفسية قاسية، شهدوا فيها الآباء ينتزعون من بيوتهم فجرا، ليزج بهم في سجون يذوقون فيها الأهوال. ولاتستطيع كل أنواع المواعظ والمحاضرات الآخلاقية أن تمحو من ذهن طفل ما يسمعه يوميا في الشوارع من سباب، يكيله ضابط أو حتى مخبر لسائق سيارة أجرة أو بائع متجول، أوقعه حظه العاثر في طريقه. وبعد سنوات من الاحتجاجات ضد الفساد، والمطالبة بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية، ووقف التعذيب، يئس الشباب من أي أمل في الإصلاح، فخرج إلى الشوارع ثائرا، لتواجهه آلة القمع الوحشية بشراسة. ومع استمرار المواجهات العنيفة، وأساليب القمع الإجرامية، لم يمر شهر منذ اختفاء المخلوع عن المشهد رسميا إلا وأضيف عدد آخر إلى قافلة الشهداء والمصابين. وصار من المشاهد المألوقة دهس الشباب بالمدرعات، وقنص أرواح بعضهم وأعين البعض الآخر، وضرب السيدات المسنات، وسحل الفتيات وتعريتهن. وفي بلدان أخرى، وفي أزمنة سابقة؛ سرعان مايرد الثوار على هذا العنف بعنف مماثل، قد يصل إلى التمرد المسلح، خاصة عندما يشهدون تباطؤَا، أقرب للتواطؤ وحماية القتلة، ويفقد أصحاب الدم الأمل في عدالة حقيقية ترد لهم حقوقهم. فهل يكون مستغربًا، إذًا، أن يلجأ الشباب المحبط واليائس إلى التعبير عن غضبه بخشونة لفظية ـ وهذا أضعف الإيمان ـ وأن تلجأ الفتيات ـ قبل الفتيان ـ إلى العنف اللفظي، ردًا على عنف وحشي يتعرض له الجميع على مدار الساعة؟ وسرعان ما يجد الباحثون عن مطعن لضرب الثوار فرصة للحديث عن التهذيب الذي يجب أن يكون خلق الفتيات، وينعون عليهن انعدام الحياء، غير مدركين أن من خرجت للمطالبة بوطن تنعم فيه بالحرية والكرامة، لم تخرج بوصفها أنثي، وإنما بصفتها مواطن يستحق الحياة الكريمة. وإذا بها تواجه بمن يتعاملون معها كفريسة يتلذذون بانتهاك الأنثى فيها وإهانتها. فأي سلاح يتبقى لديها كي تطعن به من طعنوا إنسانيتها وسحقوا كرامتها؟ هل تنكرون عليها مجرد أن تصرخ من لهيب القهر لتقول للمجرم "أنت لست رجلا؟" وهل تلام اذا استخدمت لذلك تعبيرا خارجا وبذيئا ـ ربما كانت هي أول من تعتبره نابيا وتخجل منه عندما كانت تنعم بحياة وادعة بين صويحباتها أو أهلها ـ أملا في أن تفضحه أمام نفسه، وتجرحه جرحا موجعا، لا يقاس على أي حال بجرحها؟ لا شك أنه ما من شخص سوي، ناهيك عن أن يكون متحضرا، يقبل أن يستبدل أسلوب الحوار الراقي والمهذب، بالشتائم واللعن. ولكن على من يجلسون في بيوتهم ينعمون بالأمان والدفء وسط أفراد الأسرة، بعيدا عن خط النار، أن يتحلوا ببعض الرحمة الإنسانية..وأن يدركوا الفارق بين أسلوب الحديث في النادي أو على المقاعد الوثيرة، وبين من يقفون في مرمى النيران، يتوقعون الموت بين لحظة وأخرى، ولا يجدون ما يردون به على الخرطوش والمطاطي والرصاص الحي وقنابل الغاز، إلا ألسنتهم؛ يحاولون بها إيلام قاتلي أخوتهم وقناصي عيونهم، وهم يتوقعون أن تطالهم ـ هم ايضا ـ أيدي المجرمين. وعلى من يجيدون توجيه النقد بينما أيديهم في الماء البارد، ألا يطمئنوا إلى أنها ستظل هكذا طويلاً.
#إكرام_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلطان العلماء وفقهاء السلاطين
-
حبال الكذب
-
فرق تسد
-
لا تزايدوا عليهم
-
الرهان الرابح
-
لعله صباح ديمقراطي
-
عاجل.. إلى وزير التربية والتعليم
-
كنيسة قصر الدوبارة
-
رجَّع راسك فوق
-
الكاذبون!
-
عبقرية صناعة الأعداء
-
خالد.. بشارة الفجر
-
ذكاء هنا.. وأخطاء هناك
-
جدع يا باشا!
-
إلا شباب الثورة!
-
مشاركة القوى اليسارية في الربيع العربي
-
أي علاء!.. وأي أم علاء!
-
ضابط ابن ناس
-
للصبر حدود
-
احذروا غضب الشعوب
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|