عادل صالح الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 3650 - 2012 / 2 / 26 - 10:30
المحور:
الادب والفن
الحداثة والعلم الحديث (القسم الثالث)
تقديم: تحاول الدراسة الحالية إثبات الدور الحاسم والكبير الذي لعبه العلم الحديث في بلورة حركة الحداثة الأدبية والفنية التي بدأت بالتشكل خلال العقود الأولى من القرن العشرين، وبالأخص الحداثة الشعرية الأنكلوأميركية التي تبلورت على أيدي روادها الأوائل مثل عزرا باوند وت. س. أليوت، من خلال النظر إليها في سياق العلم والنظريات العلمية التي بدأت تظهر وتهيمن على المشهد الفكري والثقافي منذ منتصف القرن التاسع عشر وما رافقها من مخترعات ومكتشفات، وما لهذه من مضامين ومدلولات كان لها الأثر البالغ على أفكار ورؤى الشعراء والحساسية الشعرية والفنية عموما.
الحركة الأخرى من حركات أواخر القرن التاسع عشر والتي تعد أكثر أهمية وأبعد تأثيرا في شعر القرن العشرين وعلى الفن الحداثي عموما هي الرمزية الفرنسية. فخلال مراحل تطورها وحتى ظهور بيانها الذي نشره جان مورياس عام 1886 فضلا عن ما تضمنته أفكار منظريها وشعرائها الرئيسيين(بودلير، رامبو، فيرلين، مالارميه وفاليري)، دعت الرمزية، شأنها شأن الجمالية، إلى مبدأ الفن من أجل الفن وكذلك "الشعر الخالص" ووقفت ضد الطبيعية في الرواية والبارناسية في الشعر، متطلعة إلى خلق واقع يسمو على الواقع الحقيقي من خلال الفن والشعر.
ما يهم الدراسة الحالية من الرمزية في سياق العلاقة بين الشعر والعلم هو ذلك الجانب الذي يجعل منها محاولة للهروب من العالم العقلاني الميكانيكي بوصفه واقعا ماديا قاسيا نحو عالم من الأفكار أو "المثال" بالمعنى الإفلاطوني. يسمى هذا الاتجاه في الرمزية أحيانا بـ"الرمزية المتسامية" وهو اتجاه يصفه الناقد تشارلز تشادويك بكونه اتجاها "تستخدم فيه الصور الحسية كرموز لا للدلالة على أفكار وأحاسيس معينة لدى الشاعر وإنما للدلالة على عالم مثال واسع وشامل يكون العالم الحقيقي مجرد تمثيل ناقص له." إن مفهوم الرمزيين عن وجود عالم مثال يقع فيما وراء العالم الحقيقي يعود إلى افلاطون عبر فيلسوف القرن الثامن عشر عمانوئيل سويدنبورغ (1688-1772) وهو مفهوم له دور مهم في اللاهوت المسيحي، إلا أن فكرة بلوغ هذا العالم الآخر لم تصبح فكرة قابلة للتحقيق إلا خلال القرن التاسع عشر وذلك لأن انحسار وتراجع العقيدة المسيحية أمام العلم الوضعي استدعى البحث عن وسائل وطرق جديدة تفضي إلى الهروب من الواقع الحقيقي لا من خلال الصوفية أو الدين بل من خلال الشعر. فمحاولة الرمزيين خلق عالم أسمى تنبع من اعتقادهم بأن عالم الواقع الحقيقي لا يبقى كما هو عندما تلامسه رؤيا الشاعر أو العالم، فنظام كل من الشعر والعلم هو "التحول" كما يصفه أم. أي. بَيـْم موضحا ذلك بقوله: "كلاهما يعيد تشكيل الأخلاط الخاملة، ليؤثر فيها بوساطة الطاقة ويرفعها بفعله هذا إلى مستوى أعلى من الإمكانية الكامنة تمثل الموسيقى فيها النوع والرياضيات نغماتها. وبهذه الطريقة فان تطلعات العلماء والفنانين تلتقي في نقطة الموسقة—تمثيل خالص يترك الحواس خلفه في طريقه نحو الشكل." ويشير بَيـْم أيضا إلى أن الإجراء الرمزي هذا الغرض منه استعادة الجو الذي خلقه موت المثالية (بعد هيغل) وانتصار المادية العلمية. وبذلك "لم تصبح الفلسفة فحسب بل الشعر أيضا تحت رحمة العلم الذي أصبح الآن يتربع على عرش الواقع. ولغرض استعادة وإنقاذ هذا الجو جاءت الرمزية بطاقة جديدة. فالإنسان، وحيدا بين آلاته ومكائنه، ينكفئ على رغباته."
ان السعي لأجل خلق عالم سام سامق وخيالي نجده مثلا عند فيير دي لايل آدم في مؤلفه المعنون ((آكسل)) (1890) الذي يرسم فيه صورة لنمط حياتي عقلي متخيل يسمو على نمط الحياة الطبيعي المألوف، نمط حياة تظهر فيه الرغبات غير المتحققة أكثر إشباعا للنفس وأكثر اكتمالا مما هي عليه في الواقع الحقيقي. وفي مؤلف يسماس بعنوان ((ضد الطبيعة)) (1884) يتحقق أيضا شكل من أشكال الحياة النقيض للطبيعة وللحياة المعاشة وذلك من خلال شكل روحي معين. وهذا يجعل من الرمزية شكلا من أشكال الصوفية بمعنى ما. يرى الناقد سي. أم. باورا ان الرمزية كانت أساسا حركة صوفية عبرت بوسائل لفظية عن "احتجاجها على فن علمي لعصر فقد الكثير من إيمانه بالدين التقليدي فراح يبحث عن بديل لذلك في خلال بحثه عن الحقيقة. فالشاعر بالنسبة لبودلير هو كاهن أو نبي وبالنسبة لرامبو هو راء، وقد أصبح هذا الدور الجديد الذي أضفي على الشاعر فيما بعد ذا أثر كبير في الشعر الحديث. وما شكل عامل جذب للحداثيين في دور الشاعر هذا، من بين أشياء عدة، هو انه دور يمكن للشاعر من خلاله تجريد عالم الحواس من صفاته الطبيعية والبشرية وذلك بمنع هذه الحواس من أداء مهامها الاعتيادية سواء أثناء العملية الإبداعية أو في العمل الإبداعي الذي ينتج عنها.
حاول ستيفان مالارميه (1842-1898)، الممثل الرئيس للرمزية الفرنسية، خلق شكل من أشكال العالم الأفلاطوني هذا، عالم مستقل استقلالا تاما عن الواقع الاعتيادي العملي والعقلاني وذلك من خلال خلق نموذج حدسي لا عقلاني مستقل ومكتف بذاته مصغر من هذا العالم، يدور في فلكه، وهو يرى أن الواقع التجريبي الاعتيادي هو شكل مشوه وفاسد للواقع المثالي السرمدي المطلق. يوضح مالارميه هذا في عبارة شهيرة يفصح فيها عن سعيه ليس إلى خلق زهرة حقيقية بل "الزهرة الجوهر" التي لا يمكن أن يكون لها وجود في العالم الحقيقي. إن هدف الشعر، كما يقول في عبارة شهيرة أخرى، هو خلق "جوهريات صرفة لا يعيقها أي صدى للواقع المادي الحسي المحيط بنا."
تحاول الرمزية الفرنسية ردم الفجوة بين العلم والشعر، وهي المحاولة التي مثلها خير تمثيل بول فاليري (1871-1947) في المرحلة الأخيرة من سيرته الشعرية. في توصيف ذي أهمية خاصة لعلاقة شعر فاليري بالعلم يقول عالم الفيزياء الفرنسي الشهير لوي دي بروغلي في مقدمة كتبها لمؤلف فاليري المعنون ((مفكرات)) ما يأتي:
تمكن] فاليري[ أن يجد في تطور العلم الحديث كل ما يتناسب مع عقليته: وضــــوح
المفاهيم والكلمات، الآفاق الفكرية الواسعة المكتشفة بشــــكل مفاجئ، الدقة المتناهية
للنظريات التي فتحت أمام الفكر البشري منظورات غريبة وجديدة من خلال كشـفها
حالات من انعدام المنطق وخصائص غير متوقعة من الأشكال والأرقام، ونســـــبية
الزمان والمكان والشـــكوك التي تكتنف العالم الذري. وبول فاليري، الشــــــاعر ذو
النظــــرة الثاقبة، عرف كيف يرى من وراء جفاف الحقائق التجريبيــــــــة وبرودة
اللوغاريتمات والنظريات هذا الفتح الظافر لأبواب المجهول، هذه المسيرة الصاعدة
نحو جلال الحقيقة التي تتكون منها قيمة وشعر العلم.
إن كان أصحاب المذهب الطبيعي يرفضون رسم صورة مثالية للتجربة، والجماليون والرمزيون يسعون لخلق عالم آخر، فان النظرة الفلسفية التي تحكمهم في كلتا الحالتين هي في نهاية المطاف النظرة المادية الحتمية الميكانيكية ما بعد الداروينية. عند نهاية القرن، أدى الشعور بالخواء الذي خلفته هذه النظرة إلى البحث عن بدائل للمعتقدات الدينية التقليدية، فظهرت "أديان" وعبادات مختلفة عديدة مثل دين الجمال، والفن الخالص، الثيوصوفية والإيمان بقوى خفية، الهندوسية والبوذية والحيوية وحتى الامبريالية. لعل خير من يمثل هذه الأشكال الروحانية الشاعر الايرلندي و. ب. ييتس (1865-1939) وهو شاعر يجمع في شخصه شخصيات شعراء رؤيويين مثل بليك وشللي والناقد والمنظر الجمالي وولتر باتر وثيوصوفية مدام بلافاتسكي وحركات مثل حركة الشفق الكلتي وحركة مكريغور ميذرز الروزكروشية القبلانية الخيميائية، وصولا إلى الرموز الهندوسية والبوذية وغير ذلك من الممارسات والطقوس الروحانية المختلفة. ان القصد من ذكر الشاعر ييتس هنا هو لإيراد نموذج واضح لردة فعل الشاعر الحديث تجاه عالم طغت عليه القيم المادية وانحسرت فيه القيم الروحية، عالم حل فيه، بعبارة الناقد وليم يورك تندال، علم الطبيعة (الفيزيقيا) بدلا من علم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا)، في حين ان عالم الشعر يتجاوز عالم المادة نحو عالم الروح الذي يحلق الشاعر ورؤاه في أجوائه. يقول تندال بهذا الصدد ما يأتي:
"حتى بعد خضوع كون دارون ونيوتن إلى الفيزياء الحديثة التي حلت محل النظرة الحتمية التي كانت شائعة في أوائل القرن العشرين فان الثورة الروحـــــــــانية ضد المادية اســـــتمرت وذلك لأن الأنباء عن الفوضى الجـــــديدة وصـلت بطيئة إلى الشــــــعراء الذين لم يتعلموا حســـاب التفاضل والتكامل. وحيثما وصــلت فان فيزياء القطيعة، بينما هي تســــمح بأنواع مختلفة من الحقيقة على مســتويات عدة، شـــجعت على الممارسات الروحانية."
----
الهوامش:
See Hauser, The Social History of Art, pp. 880-1.
Quoted in Spears, Dionysus and the City, p. 22.
Ibid.
Michael Bell, ed., The Context of English Literature 1910-1930 (London: Methuen, 1980), p. 37 (Introduction).
Charles Chadwick, Symbolism (London: Methuen, 1971), p. 3.
Ibid.
#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟