سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1075 - 2005 / 1 / 11 - 09:51
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
جل ما أخشاه أن أتحول, من دون وعي, الى كاتب متخصص في تسطير المراثي, لكثرة ما كتبت من المراثي في أيامي الأخيرة. فما أن أفرغ من كتابة مرثية, وربما قبل الفراغ منها, حتى أسمع بصديق أو قريب أو زميل جديد يرحل عن عالمنا.
فما أكثر الراحلين في هذا البلد المقيم!
إنهم يرحلون لأسباب شتى, وفي أحيان كثيرة يرحلون من دون أسباب أيضا. وهنا, في أسباب الموت, يختلف الموت العراقي عن الموت عند الآخرين. ومن طرائف الموت العجيبة عندنا, أنني نفسي كتبت مرة رثاء عن نفسي. حدث ذلك عقب الانتفاضة الشعبية بعامين, حينما التقيت هاتفيا, أول مرة, بأحد أخوتي, بعد فراق دام عشرين عاما في ذلك الحين. أخبرني أخي باسماءعدد من الموتى من أهلي, وكان من بينهم اسمي. فقد استلمت عائلتي في نهاية الحرب العراقية الإيرانية تبليغا رسميا من السلطة, يؤكد أنهم نفذوا حكم الإعدام بي, بعد أن ألقوا القبض عليّ. وبما أنني حي يرزق, فقد حملت في داخلي إثما عظيما, ظل وسيظل يعذبني ويطاردني حتى يوم رحيلي الحقيقي. إثم ذلك الإنسان البريء – لست بريئا من مقاومة ثقافة الموت والعنف وصناعها- الإنسان المجهول, الذي نُحر نيابة عني.
بيد أنني أجد لنفسي دائما أعذارا وأنا أكتب مراثيي المتكررة, لا لأنني أعتبر الموت في الزمن المسلح لعنة حقيقية فحسب, بل لأنني أكتب عن أناس لا يعرفهم الكثيرون, والأهم من هذا أنهم أناس لا يرثيهم أحد. فهم ليسوا قادة أحزاب نفخر برثائهم تقرّبا من أحزابهم, وليسوا أصحاب ثروات أو مصالح أو زعماء عشائر ومافيات. إنهم بشر عاديون, عراقيون خالصون, عراقيون حتى العظم في حياتهم وفي موتهم, عراقيون الى حد اللعنة.
ففي وطني, الذي حتى الظلام فيه أجمل, كما يعتقد السياب, يمر خبر مقتل آلاف البشرمرور الكرام, وربما مرور اللئام أيضا. لا أحد يحصي, لا أحد يصغي, لا أحد يُحاكِم أو يُحاكًَم, لا أحد يتفكر أو يتدبر. لكنهم, جميعا, ومن دون استثناء - وأنا منهم- يتفننون في إلقاء التهم على بعضهم.
أهي لعنة!
أهو ذات الشيء, الذي يسمونه الشقاق والنفاق؟
لذلك أحس كما لو أن السياسة لدينا تحولت الى بازار لبيع النفايات.
إنني أكتب الآن عن زهرون. أرثيه بطريقتي الخاصة, وأنا واثق تماما, من أنه لا أحد يعرف من هو زهرون.
قبل أيام اتصل بي أخي من العراق- هو ذاته الذي أخبرني من قبل عن موت أخوي: علي في الحرب مع ايران, وطالب قبيل سقوط الصنم بزمن قصير, وهو أيضا الذي أخبرني بموتي من قبل- كما لو أنه يعمل ساعيا في بريد عزرائيل! قال لي: البقاء في حياتك, مات زهرون. قال ذلك وأراد أن يضيف شيئا. أما أنا فقد ظللت ساكتا بغطرسة مشوبة بالأسى. مات زهرون! زهرون لا يموت. نعم, لا يموت. فهو موجود في أعماقي, موجود في غير عمل من أعمالي القصصية. اعتاد أن يظهر لي بوجهه السومري النقي, مثل كل القديسين, حالما أشرع في كتابة نص عن مدينة العمارة, وحالما أشرع في البحث عن نموذج يمثل الفطرة البشرية النقية, التي خلقها الله من طين الجنّة الحرّ.
قال أخي مستكملا: لقد مات قبل أيام, بعد أن اطّلع على الجزء الأول من رواية (زهرة الرازقي) . قرأه, ومات عقب ذلك بأيام.
هل اكتمل الحدث القصصي باطلاع البطل على دوره في النص؟
المرء يحزن حينما يموت له قريب, ولكن ماذا تفعل حينما يموت بطل من أبطال رواياتك؟
زهرون لم يكن بطلا في روايتي, بالمعنى الشائع للبطولة. فهو من نمط البشر الذين لا يكونون عادة أبطالا, إلا عند دستوفسكي, حينما راح يرسم صورة الأمير ميشغن في رواية الأبله. وحتى عندنا, في ميسوبوتاميا, لم يبك على انكيدو سوى جلجامش, نصف الإله, سارق المراثي!
فلكي تكون بطلا عليك أن تخرق القاعدة اليومية, وربما أنت مطالب بأن تجترح الكبائر, أن تكون أي شيء, حتى قائد فرقة للإعدام. لكنك لن تكون ذلك إذا كنت إنسانا من طراز زهرون. فحينما تكون كزهرون سينظر الناس اليك كما ينظرون الى الطيور والفراشات والنباتات والينابيع, ينظرون اليها على أنها مجرد طيور ودويبات وأعشاب ومياه, لا أكثر ولا أقل. وفي حقيقة الأمر كان زهرون ينتسب الى أولئك في جوهره, لا على سبيل المجاز, بل كواقع. فما ان تفتش عن الخير والأمل والتسامح حتى تجد نفسك مرغما على البحث عن زهرون, خاصة لو كنت كاتبا قصصيا مثلي, من مدينة جنوبية مغدورة, اسمها العمارة, جرى تنفيد حكم الإعدام بها مرارا, في زمن الطغاة وزمن اللاطغاة, الصغار والكبار.
زهرون الصابئي هو أول من علمني كتابة لغتي العربية, وهو أول من علمني مبادئ الحساب, لكنه أيضا أول من أطلعني على دستور البشر السرمدي, القانون الخفي, الذي يفرق بين الشر والخير, بين التسامح والأحقاد, بين أن يكون المرء حيوانا خالصا أو إنسانا خالصا. ففي قائمة زهرون الانتخابية لا توجد طريق ثالثة.
كانت مقاييسنا, نحن الأطفال الفقراء في الأحياء الشعبية, معقدة وغريبة. ربما كان الزمن الذي عشناه غريبا بمقاييس اليوم. فكنا نحب معلم الرياضة في مدرستنا الابتدائية, رغم أنه لا يملك موهبة تذكر. مأثرته الوحيدة أنه كان صديقا مقربا من الزعيم عبد الكريم. لذلك أحببناه بإخلاص وتعصب, على الرغم من أن مدرستنا كانت تفشل سنويا في السباقات الرياضية. كنا نحبه إكراما للزعيم. وكم كان مؤلما ومربكا أن نكتشف, عند انقلاب رمضان الفاشي, أنه لم يكن على معرفة بالزعيم لا من قريب ولا من بعيد. لكنه أفاد كثيرا من حبنا الصادق,المُحوّل, المبني على "ثقافة الإشاعة", والحب بالنيابة. أحد أصدقاء طفولتي أسرّ لي يوما بأنه كان يعرف سر تلك الشائعة, مع ذلك فقد أحب معلم الرياضة, بنفس القدر, الذي كنا نحن معشرالمغفلين نحبه فيه. فقد أحبه لأن ابتسامته كانت تشبه ابتسامة الزعيم!
ومديرنا القاسي, صاحب العصا المسماة: الحجية! فقد أحببناه أيضا, لأن زوجته كانت في فرق المقاومة الشعبية. أما زهرون فقد أحببناه هكذا, لوجه الله, الله الواحد الأحد, رب الجميع, المسلمين والمسيحيين والصابئة. فربنا, نحن أولاد الفقراء, واحد دائما, نكتشف سر وحدانيته بالفطرة, كما نكتشف مهارات وخصائص أجسادنا, نتعلمها من الحشرات والنباتات, من الرعد والبرق, من الضفادع والأوزاغ.
حبنا لزهرون جزء من حبنا الفطري للجداول, للشجر, للسماوات المضيئة. فلدينا دائما, في مدننا الجنوبية, التي لا حياة أرضية حقيقية فيها, أكثر من سماء واحدة. حبنا لزهرون جزء من حبنا الأزلي للسماوات المتعددة الطباق, لشموسها ونجومها الساحرة الصامتة الوديعة البعيدة. لذلك لم يكن زهرون بطلا في رواياتي من حيث سعة الدور, لكنه كان كذلك من حيث سعة وعمق ونبل الجوهر. فبعض الصابئة يمتهنون صناعة القوارب, وبعضهم يمتهنون صناعة الحلي, أما زهرون فكان يمتهن صناعة البشر, وبوجه خاص صناعة الخير فيهم.
أن ترثي كائنا كزهرون, ليس كما ترثي زعيما أو كاتبا مشهورا أو رجلا له مآثر يذكرها الناس أجمع. أن ترثي راحلا كزهرون, في زمن الموت بالمجان, يعني أنك ترثي وطنا بأكمله. فذهاب زهرون يقلص حجم الوطن, كما يقلصه انسلاخ فيدرالية في الجنوب أو الوسط أو الشمال. فزهرون فيدرالية خاصة, تضاريسها الجغرافية والتاريخية والإنسانية أكثر عمقا ووضوحا من بعض الفيدراليات المعلنة والمستترة, التي يتقاتل من أجلها الناس خفية وعلنا. إنه فيدرالية النقاء والطيبة الوطنية المتوارثة على مر العصور. إنه العراق. الوجه الآخر للعراق. وجهه المضيء, القدسي, الحكيم, الكريم, الصابر, والأبدي.
أيها الأصدقاء والأعداء, سأنخرط فورا في فيالق جندكم اللعينة, لو أنكم قاتلتم من أجل قائمة زهرون الانتخابية الأزلية!
أما أنت يا زهرون فنم, حرسك الله ورعاك يا وجه الوطن الخفي, يا وجها لا يقاتل – في زمن القتل بالمجان- من أجله أحد!
نم شفيف الروح, فأنت البطل الحقيقي في أعراس الدم الوطنية!
ونحن, الذين ننظر الى موتك بخدر الموتى واستسلامهم, لسنا سوى ممثلين هامشيين في نص غريب, نص وحشي, كتبته أقلام لا تعرف لغات العراقيين, ولا تكاد تعرف شيئا عن قارب الأمل السومري, الراحل نحو غبش الأبدية.
#سلام_عبود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟