|
محاولة تحليل نفسي لقصيدة -رصيف القيامة-
رفيف رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 3645 - 2012 / 2 / 21 - 03:01
المحور:
الادب والفن
قصيدة "رصيف القيامة": كنت أظن و أنا أعبر شارع الموتى أنّ القيامة مجّرد حكاية في كتاب حتى جاءت الساعة بغتة وانفلقت الجبال العظيمة عن فئران صغيرة سوداء ورياح شديدة الفتك فجاء الملوك و المنجمون وجاء الحكماء من الكتب القديمة وجاء أدونيس وادّعى أنه المتنبي وجاء عبد المنعم رمضان فسألته العصفورة عن ناريمان وجاء قاسم حداد ليدل الوعول على قبره وجاء الصّدّيقون فكذبوا وجاءت مدام إدواردة عارية فتغوطت أمام الخلق وجاء إسرافيل وملائكة الحراسة وجاء الكهربائيّ وبائع الطاقيات المطرزة بألوان الفرح وجاء باعة السجائر بالتقسيط وجاءت سيارة الإسعاف وجاءت الطفلة بتنّورتها البيضاء وجاء العاشقان على متن وردة وجاء الجابي والبهلوان والمهرّج ذو الرنين المرّ وجاء حلمي سالم فبدا رومانتيكيا للغاية وجاء ابن سيرين عاريا من أحلامه وجاء أسامة بن لادن ومجاهدو بيشاور والملّا عمر أمير قندهار وجاءت حاملات الطائرات وصواريخ الكاتيوشا وعميلات الموساد الشقراوات وجاءت الناقة فعقروها وجاء الكسعيّ ولم يكن نادما على الإطلاق وجاء معاوية بن أبي سفيان وكان محرجا للغاية وجاءت مرام المصري وبيلين خواريث وسوزان عليوان ورحنا جميعا ننفخ على النار لتصير بردا ونعض بأسناننا على لهب مطّاطي قديم لم يلتفت أي منّا نحو شجرة الخروب حيث كان ابن حزم يمسك بخناق شاعر مغربي حديث لم نلتفت فقد خذلتنا الأعناق والعيون صارت مجرد سحائب غامقة على الوجوه لم نعد نرى ولم نعد نتبين سحنة العالم لكن الحكماء بيننا قالوا إن الأشجار صارت رمادية والشرفات التي على الجدران سالت كما تسيل العيون التي كانت تتوسّط الأحداق. لم نعد قادرين على الفرح. ولا على التعب من الوقوف لأن أرجلنا تقلّصت بالتدريج ذابت الأصابع أوّلا..ثم انمحت الأقدام ولم تعد هناك في العربية كلمة اسمها الخطى قلوبنا هي الأخرى صارت مثل مجوّفات فضية صغيرة فغرقت كلمة الحب في القاموس المحيط وصرنا ننظر إلى بعضنا دون أن نشعر بأي شيء ودون أن نتذكر أسماءنا ولون أعيننا فظننت مثلا أن المعرّي الذي كان ينفخ بجواري على النار لتصير بردا هو الذي كتب "أنا باز" و أن عبد الرحمن بن ملجم من اغتال السادات. لم أكن جذلان ولا ناقما كنت مشدوها فقط حيث اختلطت في الجو روائح كثيرة قال بعضنا: هذه رائحة السماء التي كانت فوقنا وقال آخرون: هذه رائحة الأطفال وقد كبروا بغثة و أضاف جنين من بطن أمه: هذه مصائرنا تشوى فهمست لعريشة القصب: متى يأتي رجال الإطفاء ؟ لكن الحكماء الذين كانوا يتأمّلون مصير العالم في الكتب القديمة بدوا منشغلين بمشاهدة فيلم (بازيك انستانكت) على جهاز فيديو حتى أن (شارون ستون) منعتهم من مواصلة النفخ مع رفاقهم على النار الموقدة في أرواحنا لكأنما اكتشفوا داخلهم نارا أخرى فصارت الأولى سلاما دون نفخ وكان العازفون ينفخون في النايات أيضا من مكانهم على غرّة التّل كان بعضهم ينزف وهو يعزف على أوتار مجندلة في نوتاتها وكان الآخرون يراقبون الكهرباء وهي تطعن ضوءها الأخير بشمع القيامة الفتاك. فعم ّالظلام قلوب الرّضّع والغرقى وحلقت طيور عظيمة الأجنحة على علوّ عشرة أقدام. وعمّ الظلام. فجاء المصلّون على النبي الأمّي.وجاء الدكاترة العاطلون جاء الملثمون على بعرانهم والساحرات على مكنسة كهربائية جاء الضباط في سيارات مصفّحة وضباط الصف راجلين جاءت المواعيد في وقتها بالضبط وجاءت الساعة وجرس المنبه والنواقيس عادت من حيث رنّت فجاء أهل الكهف يتبعهم كلبهم وجاء رجال الأمن يسبقهم المخبرون وجاء من أقصى المدينة صحفيون مستقلون حتى عن ضمائرهم وكتبوا… فقال الشعراء إنهم لم يسمعوا النفخ في الصور وقال شهود عيان إن ضوءا دافقا غسل السماء ثم عرّش مثل لبلاب في الأرواح وقال راع أعمى إن ريحا عظيمة مرت ولم يسمع دويّها أحد لكنّ امرأة بعيدة شهقت فعمّ لغط وسادت جلبة وتعب الواقفون ممّا تبقّى من أقدامهم والنائمون من جنوبهم والموتى من فكرة البعث. كانت الشمس نارا صادقة اللّهب لذا سالت الأعضاء على رصيف القيامة فاكتشف الكثيرون أن الذوبان ليس مجرد استعارة و أنه ليس منذورا للشمع وحده فبدؤوا ينفخون من جديد لم يبصروا وردة اللّهب العظيمة وهي تتصبب حمما فوق الرؤوس ولا رأوا الريح تلهث حيرانة خلف نوايا الجبل كانوا منهكين تماما ولم يسمعوا شيئا مما قالته شجرة الخرّوب لظلها كانت كل المحلات المجاورة مغلقة باستثناء مقهى صغير في زقاق وكان صبي المقهى يقطع الساحة لاهثا وهو يحمل صينية الشاي لملائكة الحراسة على الجانب الآخر من المحشر فيما أعضاؤه و أحلامه الأولى تسيل على تراب قديم وكان ملوك قصيرو القامة يتلون خطبا مطوّلة بتفان و نكران ذات لم يكن واضحا أنهم معنيون بما طرأ على الكون كانوا مهتمين فقط باحترام قواعد النحو ومخارج الحروف وكان واضحا أنهم يقرؤون نصوصا مشكولة بلون مغاير وفيم الملوك يقرؤون والرعية تنفخ حلّقت قبرة داكنة اللون فوق رؤوس الخلق ففكر الشيوخ في الهدهد وغمغموا بكلام غامض لم تفهمه الريح وقالت امرأة في سرها: لكل محنة طيرها الأثير وقال العرافون: لكنها المحنة التي لا محنة بعدها و استغفروا الله ومثلما كان يحدث قبل الموت حين كان للعشاق دوما رأي آخر فإن عاشقين انتبذا ظل زيتونة قصية وتمازجا تحتها بعد أن صارت الأجساد مائعة بسبب وردة اللهب التي تقصف الكون تمازج العاشقان تماما وكانا متعانقين ربما لم يقتنعا بجدوى النفخ فآثرا العناق وكانت الفراشات تحوم حول الكتلة اللّزجة التي خلّفها تمازج جسديهما فتحلّق من حولهما خلق كثير وهكذا اغتاظ الملوك و مزّقوا خطبهم و اغتاظت النار فلم تكن بردا وتحكي المرأة التي شهقت أن العاشقين كانا يبتسمان ومن عناقهما سال دفق بنفسجي انسرب كجدول من بين أرجل الرجال وعند البئر المهجورة استوى نبتة بزهرة شفيفة حتى لكأنها ضفيرة ماء فقالت المرأة التي شهقت لابنتها اشربي من عين الزهرة قالت البنت أنا لا اشرب من عين معلّقة في السماء قالت الأم للهواء كن هدنة النار ودع ماءك يجري على تراب اليقين قال الهواء أنا إسكافي المحبة.سادن زهرة العشاق ولن أسقط في حبائل الطين فقالت البنت سأتسلق الهواء لأشرب من العين، وشربت. لكن الشيوخ الذين كانوا تحت الجمّيزة المأهولة بالأرواح العطشى لم يصدقوا الماء و لا الهواء ولا بركة العاشقين وواصلوا النفخ على النار التي تأكل أحلامهم وحينما اختارت بنت في عمر فراشة البكاء لتبرد نارها لم يسعفها الدمع فحفرت حيث كانت العينان إنما كمن يحفر في ريح و إذ حفرت أعلى قليلا فارت من رأسها بعض الوصايا شهقات غرقى وليل قتيل و أفرغت نسوة ما في صدورهن عدى الرئتين عسى الهواء يرضى ووضعن أحشائهن في صندوق زجاجي معقّم وعلقن أرواحهن قرب عمارة الكهّان لكن الأرواح أورقت في غفلة منهن على حبل الغسيل ثم استطالت الأوراق وصار لها رفيف كانت تبدو مثل أحصنة خضراء مجنّحة فتساءلت إحداهن و كانت تشكيلية قبل الموت أين رأيت مثل هده اللّوحة؟ أين؟ فأجابتها عجوز قرأت الكتب و أدركت ما في الأسفار: ليست لوحة. إنها المشيئة وقد أطبقت على مصائرنا الآن يمكنك أن تهبي جسدك للنار فقد صارت الحياة مجرد حكاية تروى وكان ثلّة من مروّضي المصائر في طريقهم إلى حانة القيامة حينما استوقفتهم ريح مجندلة عند قدم الجبل كان واضحا أن البرق الأعمى اغتصبها فجرحها ينزف غيوما و عواصف في لون الفضة لكن الهدوء المخادع لذئبة الظهيرة جعل المروّضين يرتابون قليلا فتركوا الريح للرّيح وواصلوا صعودهم باتجاه النبيذ الأخير كانت ألسنتهم تسيل على صدورهم من فرط اللّهفة وحين مروا بمحاذاة البحيرة الحكيمة نادتهم شجرة سرو : أيها الراكضون إلى حتفكم العقوا الألسنة من على صدوركم وعودوا إلى هدنة الظهيرة قبل أن تحوّلكم القدرة الجبّارة إلى ربوة آثام لكنّ المروّضين كانوا جادّين في صعودهم الصّادق نحو المعصية لم تكن الطريق ما يشغل بالهم ولا باب الحانة الذي صار ريحا لم تكن الكؤوس ولا الصّفرة التي طالعت وجه الغيب كانوا مستغرقين في السّير دون أن يبالوا بمواطئ أقدامهم وكانت النار تجري من تحتهم أنهارا وكانت سماؤهم قد استحالت كبّة لهب صفراء تحجب الغيب لكن لا شيء يشغل بالهم فقد كان رنين الخطى كلّ زادهم في الطريق إلى فضّة المعاصي لم يسمعوا وهم يصعدون لا النفخ الذي كان ولا غرق المجرّات في مداراتها لم يسمعوا الرضيع يصرخ في القماط أمّاه إني أجفّ. أريد دموعا لأبكي أريد حليبا لكيلا تغادرني نجوم الله لكن الأمّ دفنت وجهه في صدرها فغاص الصبي بالداخل حتى لم يبق منه شيء بلى كانت رجلاه تتدلّيان من بين نهديها فقالت الأم بشرى لك يا بني الأعضاء التي تحرض على المعاصي غادرتك فطوبي لروحك يا قرة عيني ستعود إلى السّدرة البيضاء بيضاء وفي طريقها إلى النور الشاهق استوقف الروح نيزك ضجر قال: يا روح الصبي التقطي أنفاسك عند سفح ناري إنها برد منذ كانت و يا روح الصبي من أي البلاد أنت؟ من أمك؟ من أبوك؟ ومن علّمك الطيران؟ قالت الروح لا اعرف لي أمّا ولا وطنا كل ما أذكر أني كنت محبوسة في طين عفن وكان لي قلب وعينان و أعضاء أخرى لم أعد أذكرها فيا نيزك الشؤم دعني إن لي عمرا هناك ومضت تحرسها النجوم والعين التي لا تدركها الأفلاك وما إن غابت الروح الطفلة حتى تدفّقت المزيد من النيران تدفق المزيد من اللّزج اللاّهب والمزيد من عشب القيامة الضّاري فإذا جرار اللّغة تتهشم على صخرة العدم وأظلم صوتي بعد أن زلزلت تحت سقيفته اللّغات فلم أعد أعرف الفرق بين الشاهق وسيارة نقل اللحوم ولا بين عواء الذئبة والحب لم أعد أعرف هل هي بابل أم نيويورك هل وردة الرمل أم زهرة الكهرباء؟ كان العالم قد أغلق كتابه و انسحب إلى الخارج الأعمى وبقيت نهبا لذئاب الحيرة فالأحاسيس غادرتني تباعا الإحساس بأنني كنت. والإحساس بأنني لن أعود و الإحساس بأن هناك شيئا اسمه الجسد كنت أرتديه كانت ألسنة اللّهب تنهش الرّمق الباقي فيما الدّويّ الأخير يتغمّد الألباب. ياسين عدنان
- محاولة تحليل القصيدة:
يحاول الشاعر "ياسين عدنان" وصف فكرة الموت وخصوصا يوم البعث... و للعلم فليست هذه القصيدة هي الوحيدة التي يتحدث فيها الشاعر عن الموت، فلديه في نفس الديوان "رصيف القيامة" قصيدة أخرى عنوانها "في الطريق إلى عام ألفين"، وأخرى عنوانها "زهرة عباد اليأس" فيها سأم شديد يكاد الشاعر يفضل معه خيار الموت على بؤس الحياة.
- دلالات العنوان: لكن في القصيدة المركزية التي أعارت هذا الديوان عنوانه، يمكن البدء من العنوان "رصيف القيامة" والذي يمكن أن يعني يوم العبور من الحياة إلى الموت، أو في انتظار الموت، أو الطريق المؤدي إلى الموت... والحديث عن القيامة ليس كالحديث عن الموت، أي موت. فالقيامة هي نهاية كل شيء، أو هي الموت الكامل، حيث تنتهي كل مصادر الحياة بكل ما فيها من فرح وحزن وألم... ومن معاني القيامة يوم الحشر، وهو اليوم الذي "يجتمع" فيه كل من وجدوا على وجه الكرة الأرضية. و ربما هذا ما يحاول الشاعر وصفه في قصيدة "رصيف القيامة" بتكرار فعل "جاء" حيث أنه بدأ يعد أسماء لأشخاص من أزمنة مختلفة وجغرافيات متباعدة واهتمامات متباينة... وكأنه بذلك يريد أن يصف لنا يوم القيامة الذي سيحشر فيه كل الناس من كل الفئات والأعمار والجنسيات ومن كل المستويات الثقافية. وهكذا نجد ابن حزم إلى جانب أدونيس، والمعري إلى جانب مرام المصري وأسامة بن لادن إلى جانب عبد الرحمان بن ملجم و أهل الكهف إلى جانب رجال الصحافة والمخبرين..
- مظاهر القيامة: و يعبر الشاعر عن يوم القيامة أو عن فكرة الموت أيضا بعدة أساليب، كانفلاق الجبال عن فئران صغيرة سوداء (الطاعون) والرياح الشديدة الفتك. الذوبان: و أيضا هناك فكرة مركزية تكررت أكثر من مرة في هذه القصيدة وهي فكرة الذوبان وما يليها من سيلان للعناصر: (الشرفات التي على الجدران سالت كما تسيل العيون التي تتوسط الأحداق / أرجلنا تقلصت بالتدريج، ذابت الأصابع أولا... ثم انمحت الأقدام... / كانت الشمس نارا صادقة اللهب/ لذا سالت الأعضاء على رصيف القيامة / فاكتشف الكثيرون أن الذوبان ليس مجرد استعارة، و أنه ليس منذورا للشمع وحده .../ فيما أعضاؤه و أحلامه الأولى تسيل على تراب قديم / إن عاشقين انتبذا ظل زيتونة قصية و تمازجا تحتها بعد أن صارت الأجساد مائعة.. ) لماذا إذن اختار الشاعر الذوبان طريقة للموت و للتلاشي؟ وهو يصف الذوبان كمن يريد مشاهدة اندثار الأجساد.. حيث أن ذلك يبدأ من الأقدام. و يلاحظ أيضا أن الشاعر استغل الفكرة الدينية للروح والجسد، حيث إنه أعطى قيمة للروح على حساب الجسد الذي اعتبره مصدراً للمعاصي:
(فقالت الأم بشرى لك يا بني الأعضاء التي تحرض على المعاصي غادرتك)
أو أن الجسد ليس إلا عبارة عن طين عفن يسجن الروح: (لا اعرف لي أمّا ولا وطنا كل ما أذكر أني كنت محبوسة في طين عفن وكان لي قلب وعينان و أعضاء أخرى لم أعد أذكرها)
وبالمقابل فهو يمجد الروح و يعطيها أهمية على حساب الجسد كما المنظور الديني فيقول مثلا:
(وعلقن أرواحهن قرب عمارة الكهّان لكن الأرواح أورقت في غفلة منهن على حبل الغسيل ثم استطالت الأوراق وصار لها رفيف)
يمكن أن يفهم من ذلك أن ذوبان الجسد و انصهاره، هذا الجسد الذي يقدمه الشاعر باعتباره سجنا للروح ، بل وسجنا غير لائق بالروح ولا جدير بها ما دام من طين عفن و ما دام يحمل على المعاصي ويحرض عليها، هذا الذوبان يقابله ازدهار الروح وتبرعمها والانتصار لحيوية هذه الروح التي أورقت في "رصيف القيامة" وصارت ترف... وبذلك فالشاعر تنعدم لديه قدرة الإحساس بكل ما يصيب جسده من ذوبان:
(فالأحاسيس غادرتني تباعا الإحساس بأنني كنت. والإحساس بأنني لن أعود و الإحساس بأن هناك شيئا اسمه الجسد كنت أرتديه). موقف الشاعر: لكن الشاعر يبدأ قصيدته بقوله:
(كنت أظن و أنا أعبر شارع الموتى أنّ القيامة مجّرد حكاية في كتاب) وهذا ربما يعني أنه كان يشك في أن القيامة ستحصل فعلا، وأنه كان يعتبرها مجرد حكاية أو نوعا من الخرافة أو بعضا من أساطير الأولين. غير أن القيامة حينما اندلعت في مخيلة الشاعر وتدفقت شخوصها وأحداثها وأهوالها على امتداد هذه القصيدة فإن هذا الحدث المهول لم يخلق لدى الشاعر أي إحساس بالغضب أو الندم لما كان يظنه عن القيامة التي تعتبر يوم نهاية الحياة و "انصهار" الجسد و اختفائه. هذا الإحساس أكده ياسين عدنان حينما قال:
(لم أكن جذلان ولا ناقما كنت مشدوها فقط).
ا- لسخرية: و القارئ لقصيدة "رصيف القيامة" يمكنه ملاحظة أن الشاعر يسخر بشكل غير واضح من عدة أشياء أو أشخاص، وكأنه يريد القول بأن ليس كل ما يقال وما يرى هو صحيح دائماً... وليس كل ما تناقلته الأجيال والناس من معلومات أو حكايات لا بد و أنه صحيح... إذ نجده يسخر من السلطة بشكلها الديني و السياسي بشكل غير مباشر فمثلا يقول:
(وجاء الصّدّيقون فكذبوا) وكأنه يريد القول أن ليس كل من كانت له علاقة بالدين صادقا، وليس كل من يتكلم باسم الدين صادق بالضرورة، فربما هم أيضا يكذبون ويخترعون القصص والحكايات... وأن السلطة الدينية أو الاعتقاد مفروض على الناس، وبسبب هذا الفرض لجأ الكثير منهم إلى الكذب والمبالغة في الأقاويل. ويلاحظ ذلك أيضا في:
(لكن الحكماء الذين كانوا يتأمّلون مصير العالم في الكتب القديمة بدوا منشغلين بمشاهدة فيلم (بازيك انستانكت) على جهاز فيديو حتى أن (شارون ستون) منعتهم من مواصلة النفخ مع رفاقهم على النار الموقدة في أرواحنا لكأنما اكتشفوا داخلهم نارا أخرى فصارت الأولى سلاما دون نفخ). إذ يمكن أن نفهم من هذا المقطع الشعري أن الحكماء الذين كانوا مصدر العلم والفهم، و ملجأ العامة في الأزمان الغابرة لمعرفة خبايا الأمور واكتشاف حقائق الأشياء، وملاذ البسطاء في المحن، حتى هؤلاء تخلوا عن الناس وخذلوهم ليهتموا بغرائزهم فقط، أي أنهم لم يكونوا سوى مدعين للحكمة،و تأملاتهم ما هي إلا أكاذيب ليست نابعة من اعتقاد. و أنهم يدعون ما لا يفعلون. ونجد أيضا:
(فجاء المصلّون على النبي الأمّي.وجاء الدكاترة العاطلون) إذ يمكن فهم أن هناك تساؤل: كيف لنبي أمي أن يجد كل هؤلاء المصلين والأتباع الذين اقتنعوا به و مشوا على خطاه و اتبعوه؟ في حين أن هناك العديد من الحاصلين على شهادات عليا ومن أفنوا جزءا غير يسير من حياتهم في البحث والعلم أن يكونوا عاطلين، بلا عمل و بلا أي شخص يسمع لهم و يهتم بهم؟ وربما يحاول الشاعر في هذه المواقف الشعرية اللاذعة السخرية من التمازج الموجود بين التقاليد والحداثة التي تعطي في الغالب أشكالا ليست منطقية أو ليست مألوفة. وفي قوله: (والساحرات على مكنسة كهربائية) فقد يكون القصد أنه بالرغم من كل ما وصل إليه العالم من علم ومن خبرات في مجالات كثيرة و متنوعة، إلا أن الناس لا زالوا يقتنعون بما هو متناقل من خرافات و أساطير و حكايات، و أن محاولة المزج بين التقاليد والحداثة، أو بين الخرافة و العلم تخلق أشياء و حالات ليس لها شكل محدد أو مألوف أو منطقي. أما عن رجال السلطة فهو يعتبر أنهم يهتمون بما هو شكلي فقط، وبأنهم لا يبالون بما يحدث في الواقع من أمور و مصائب، وأن كل ما يهمهم هو أن يمتثل لأوامرهم و بمكانتهم، وأن يكونوا دائما في مركز الاهتمام:
(وكان ملوك قصيرو القامة يتلون خطبا مطوّلة بتفان و نكران ذات لم يكن واضحا أنهم معنيون بما طرأ على الكون كانوا مهتمين فقط باحترام قواعد النحو ومخارج الحروف وكان واضحا أنهم يقرؤون نصوصا مشكولة بلون مغاير)
وكأن الملوك هنا يريدون تعويض نقص قامتهم أو قصرها بتطويل خطبهم. وفي مقطع لاحق يعبر الشاعر عن أن الملوك أو رجال السلطة يحبون أن يكونوا هم مركز الاهتمام، و أن يحضوا بكل الترقب و المتابعة إذ بعدما انصرف الناس عنهم وتحلقوا حول العاشقين:
(وهكذا اغتاظ الملوك و مزّقوا خطبهم). و في مقطع آخر حيث يقول الشاعر: (وجاء من أقصى المدينة صحفيون مستقلون حتى عن ضمائرهم وكتبوا…) تبدو السخرية واضحة من الإعلام الذي تغيرت وظيفته من الإخبار والتحليل وإبداء الرأي إلى ترويج الإشاعات واختلاق الأكاذيب وتلفيقها دون تمحيص ودون احترام لخصوصيات الناس ودون أية أخلاق مهنية.
و يتعدى الأمر إلى سخرية "ياسين عدنان" اللاذعة، بطعم المرارة من أشخاص و أمور و ما يحدث في العالم اليومي الروتيني، الذي يجده الشاعر مبعثا للسؤم و الحزن. فنجد مثلا:
(وكان صبي المقهى يقطع الساحة لاهثا وهو يحمل صينية الشاي لملائكة الحراسة)
و كأنه يسخر ممن يمضي كل وقته في المقهى، دون القيام بأي شي مفيد، أو أي عمل، سوى مراقبة الناس و محاولة معرفة أخبارهم و أبسط أمورهم الشخصية. و مثل هذا النوع من الناس كثيرون في نظر الشاعر، إذ ان (صبي المقهى تعب من تلبية الطلبات الى درجة اللهاث. و السخرية أيضا من عادة عدم احترام المواعيد المنتشرة. و التي قد تعني في طياتها عدم احترام الاخر بشكل من الاشكال:
(جاءت المواعيد في وقتها بالضبط) مع أن الشاعر يصف في القصيدة يوم القيامة، التي لا موعد لها، و لا علم لأحد بوقتها، و هو يؤكد حدوثها فجأة في مطلع قصيدته: (حتى جاءت الساعة بغتة).
- تمظهرات الحب: و نرى في قصيدة "رصيف القيامة" سخرية ممن يدعون الاحساس به، من حب المظاهر و الجسد. و اهتمام غالبية الناس للشكل و مكانة الشخص... عوض محاولة التعرف على جوهر الشخصية و روحها.
(فغرقت كلمة الحب في القاموس المحيط وصرنا ننظر إلى بعضنا دون أن نشعر بأي شيء ودون أن نتذكر أسماءنا ولون أعيننا) فادعاء المشاعر و الحب، أو بمعنى آخر النفاق الاجتماعي، و الكذب، سواء على الآخر ام على الذات. سريعا ما يندثر و يتلاشى. فيصير الناس محايدون، دون أي مشاعر، و كانهم لا يعرفون بعض. و يسخر ياسين عدنان أيضا ممن لا يؤمنون بالحب، و لا يعترفون بقوته على بعث السلام و الحياة. من الذين ينغرسون في كل ما هو مادي، و لا يآمنوا بالمشاعر الانسانية الصادقة
(لكن الشيوخ الذين كانوا تحت الجمّيزة المأهولة بالأرواح العطشى لم يصدقوا الماء و لا الهواء ولا بركة العاشقين وواصلوا النفخ على النار التي تأكل أحلامهم). إذ أن "ياسين عدنان يعتبر أن الحب و الاحساس بالعشق لن يكون صادقا إلا إن تجاوز الجسد و كل ما هو مادي، فهو شعور روحي، يتعدى الاعجاب بالمظهر، ليصل إلى أعلى درجات التفاهم الوجداني و الانسجام الروحي. بل أيضا إلى حد التمازج، حيث يصير الإثنين واحدا، لا يمكن التفريق بينهما
(ومثلما كان يحدث قبل الموت حين كان للعشاق دوما رأي آخر فإن عاشقين انتبذا ظل زيتونة قصية وتمازجا تحتها بعد أن صارت الأجساد مائعة بسبب وردة اللهب التي تقصف الكون تمازج العاشقان تماما وكانا متعانقين) و قد يكون لعبارته (للعشاق دوما رأي آخر) معنى عدم انصياع المشاعر الانسانية العميقة و النبيلة لرأي الاخرين، و عدم السماح للسلطة، أي سلطة، بالتدخل في الأحاسيس. فمن كان صادقا بحبه إلى درجة الرغبة في التمازج لن يهتم و يبالي لكل القيود التي يحرص المجتمع و الدين لفرضها على مشاعر الحب، و سيقاوم كل ذلك إلى درجة التماهي في المحبوب. أيضا فإن ياسين عدنان يعتبر أن الصدق في الحب، الذي يؤدي الى التمازج، هو مصدر للحياة، و راحة يلجأ اليها الشخص أثناء موته في عالم روتيني، قاس و مؤلم، تسود فيه كل أشكال العنف و القهر، مليئ بالتناقضات و الصراعات.
(وتحكي المرأة التي شهقت أن العاشقين كانا يبتسمان) فالمشاعر الانسانية الصادقة بصفة عامة، و الحب بصفة خاصة، هو الدواء ضد كل هذه الآلام و حتى ضد الموت، حيث يصير الانصهار و التمازج بين الحبيبين مصدرا رئيسيا للسعادة و الاطمئنان. لذلك يجب تعليم و حث الناس منذ صغرهم على الارتواء منه. إذ ان الحب هو من يعيد للحياة بهجتها و خصبها، و يقاوم الموت
(ومن عناقهما سال دفق بنفسجي انسرب كجدول من بين أرجل الرجال وعند البئر المهجورة استوى نبتة بزهرة شفيفة حتى لكأنها ضفيرة ماء فقالت المرأة التي شهقت لابنتها اشربي من عين الزهرة [...] فقالت البنت سأتسلق الهواء لأشرب من العين، وشربت.) لكن، ليس بمقدور الجميع أن يتعلموا و يرتوا من هذا الحب الصادق إلى أبعد الحدود، بل إنه يتطلب الكثير من الصدق و العزم، يتطلب عشقا و ولها لهذا الحب، إلى درجة تسهيل و تذليل كل المستحيلات (تسلق الهواء).
- البياض: زيادة على أن المشاعر الإنسانية و العلاقات الاجتماعية لن تصل الى المستوى المطلوب من الصدق، إلا إن تحلت الروح بالحرية و العفوية. فككل إنسان يتوق الشاعر إلى البراءة والعفوية والنقاء في الإنسان، ويعتبرها الشاعر صفات لصيقة بالأطفال " مع أن التحليل النفسي مع فرويد، يؤكد أن الأطفال ليسوا أبرياء، بل لهم هم أيضا ميولات جنسية، ويمارسون الكذب". بل و يؤكد التحليل النفسي أن الطفل الذي لا يكذب ولا يخترع القصص، لديه نقص في القدرات العقلية الفكرية، إذ أن الكذب هو نوع من الخيال، وبذلك فهو ينمي القدرات الفكرية والعقلية". و يعبر الشاعر عن التلقائية والبراءة في قوله:
(وجاءت الطفلة بتنورتها البيضاء)
إلا أنه من خلال استحضار الطفلة في القيامة، يؤكد على أن كل الناس بمختلف مستوياتهم الإنسانية سيتعرضون إلى الذوبان و الموت. و يلاحظ أيضا أن الشاعر يلبس الطفلة اللون الأبيض، رمز النقاء والصفاء و البراءة و الشرف كما هو معروف. والشاعر يكرر صفة البياض مرة أخرى للسدرة (تحضر هنا بمعنى سدرة المنتهى) ولروح الرضيع. أي أنه مرة أخرى يقرن اللون الأبيض بالطفولة وبمرحلة عمرية معينة. و يتكرر لدى ياسين عدنان إعطاؤه اللون الأبيض معاني الشرف والطهر زيادة على المعاني الدينية في كتابات أخرى له غير قصيدة "رصيف القيامة" و نجد ذلك واضحا في قصته "ثرثرة بالأبيض فقط" من مجموعته القصصية "من يصدق الرسائل؟".
#رفيف_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحلم
-
الجمال و الحب
-
تمثل المغتربين لبلد الإقامة و علاقته بالاندماج. 4/4... الهوي
...
-
تمثل المغتربين لبد الإقامة و علاقته بالاندماج. 3/4 الاندماج
-
تمثل المغتربين لبلد الإقامة و علاقته بلاتندماج -الاغتراب- 2/
...
-
تمثل المغتربين لبلد الإقامة, و علاقته بالاندماج
-
جمال و رموز الجسد في الثقافات العربية الاسلامية
المزيد.....
-
-نقطة فارقة-: كيف غير عدوية تاريخ الغناء الشعبي في مصر؟
-
-طيور مهاجرة- لإبراهيم السعافين تفتح صندوق الذكريات وتؤكد: ا
...
-
“حليمة تعطي ترياق السم لــ علاء الدين“ مسلسل المؤسس عثمان ا
...
-
البلاغي المغربي سعيد العوادي يكشف عوالم جديدة لحضور الطعام ب
...
-
الكريسماس .. قائمة أفلام رأس السنة الميلادية 2025 الجديدة
-
مصر: وفاة أحمد عدوية أحد رموز الغناء الشعبي عن عمر 79 عاما
-
الغرافي يرصد مظاهر البلاغة الجديدة في الخطاب البلاغي الحديث
-
الممثلة الأسترالية ريبل ويلسون وزوجتها رامونا أغروما تحتفلان
...
-
مؤرخ أميركي للمقابلة: واجهت الرواية الإسرائيلية لحرب 48 من م
...
-
وفاة الممثلة دايل هادون بسبب تسرب غاز قاتل في منزلها
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|