أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بلال سمير الصدّر - دراسة مطولة حول فيلم التضحية(أندريه تاركوفسكي)1986: الخلاص الفردي بناء على مقدمات فلسفية ودينية















المزيد.....


دراسة مطولة حول فيلم التضحية(أندريه تاركوفسكي)1986: الخلاص الفردي بناء على مقدمات فلسفية ودينية


بلال سمير الصدّر

الحوار المتمدن-العدد: 3643 - 2012 / 2 / 19 - 09:35
المحور: الادب والفن
    


دراسة مطولة حول فيلم التضحية(أندريه تاركوفسكي)1986: الخلاص الفردي بناء على مقدمات فلسفية ودينية
قبل البداية في تحليل الفيلم،دعونا نعود قليلا إلى كلام تاركوفسكي في كتابه(النحت في الزمن) حول تبلور هذه الفكرة وكيفية :
:Sacrificeنشأتها...
شخص ما تمنح له الفرصة لأن يصبح سعيدا،إنه يخاف من استخدام هذه السعادة لأنه يظن بأنها مستحيلة وأن المجنون هو القادر على أن يكون سعيدا،الظروف بطريقة ما تمنح بطلنا بأن ينتهز الفرصة وبوسيلة إعجازية، يصير سعيدا.عندئذ يصبح سعيدا،عندئذ يصبح مجنونا،إنه يدخل عالم المجانين،الذين قد لا يكونون،بل أيضا قادرون على الاتصال بالعالم بواسطة خيوط صعبة المنال للأسوياء.(من يوميات تاركوفسكي).
من الممكن القول أن بداية فكرة فيلم التضحية(القربان) قد تبلورت في ذهن تاركوفسكي بهذه الطريقة،رغم أن هذا الكلام ليس دقيقا تماما،إذ أن هذه الفكرة أخذت العديد من الأشكال قبل أن تختم في فيلم التضحية عام 1986 ليعرض في كان.
الذي يعنينا في هذه المقدمة هو أن فكرة فيلم التضحية كانت مشتعلة في رأس ابن الشاعر منذ فترة طويلة نستطيع أن نقدرها بين عامي (72-73) ولكن الظروف التي كان يمر بها تاركوفسكي ظروف واضحة معلومة لا داعي للتطرق إليها،كما أن فكرة الساحرة لها دور كبير في هذا الفيلم سننوه إليها في حينه....
قبل أن نخوض في أحداث الفيلم،علينا أن نحيد كلام تاركوفسكي ودفاعه عن نفسه عندما يتهم بأن أفلامه مليئة بالرمزيات والمجازيات ونعتبر أن أفلامه-على الأقل هذا الفيلم- مفهومة من وجهة نظر شخصية ونستطيع أيضا أن نتطرف في هذا الاعتقاد لأن كبار النقاد قالوا عن فيلمه هذا –محترمين وجهة نظره الشخصية-بأن الفكرة في هذا الفيلم تكمن في أعماق الأعماق
يقول الناقد العراقي المختص بشؤون السينما(جواد بشارة) بأن فكرة هذا الفيلم (التضحية) تذكره بالفكرة الرائعة التي قالها فردريك انجلز بشأن الفن حين قال:يكون الأثر الفني ذا مستو رفيع عندما تكون الفكرة والرسالة التي عبر عنها ويريد إيصالها مدفونة في أعمق الأعماق،حيث من الأفضل أن تكون مختفية يكشفها المتلقي بدلا من أن تكون مباشرة وواضحة تثير نفوره وهذا هو المبدأ الذي يقود تاركوفسكي في اختياره لأسلوبه السينمائي وبنائه لعالمه الفني.....(وقفة مع شاعر السينما).
ومما يدعم تحييد آراء تاركوفسكي حول خلو أفلامه وهذا الفيلم بالذات من الرمزيات والمجازيات هو خضوع هذا الفيلم لرمزيات دينية توراتية ليأتي الناقد أحمد النسور مؤكدا كلامنا حول رمزيات ومجازيات تاركوفسكي ليقول أن فيلمه هذا استبدل فيه الاستعارة بالرمز بالهام توراتي بشكل قاطع.
إذا كنت كتبت سابقا عن فيلم المرآة بوصفه اختلافا في طريقة الفهم في مسيرة تاركوفسكي إلا أن أسلوبه كان واضحا ولا يشكل أي اختلاف عن أفلامه السابقة هذا من حيث استخدامه للقطات (الأمر الذي سنشير له أيضا لاحقا).
ولكن الأمر الذي يستدعي الانتباه هو اعتماد تاركوفسكي على الفلسفة في هذا الفيلم وخلطه بين الرمزيات الدينية(التوراة-ثقافة الشرق الدينية) واعتماده على حوارات فلسفية تذكرنا قطعا ببيرغمان(الذي له كلمة حول هذا الفيلم) الأمر الذي لم نلحظه أبدا في أفلامه السابقة،بل إنه مزج بين الواقع والخيال،الخيال الذي يختلف عن (سولاريس)... الخيال المقصود به ليس تحييد الواقع بل تحييد الشخصية نفسها(مثل شخصية ساعي البريد) وهذه فكرة في الحقيقة يصعب التعبير عنها لمن لم يشاهد الفيلم،وللتوضيح فأننا لا نستطيع أن نصف بعضا من شخصيات الفيلم(بالقادمين من عالم آخر)،مختلف عن الواقع الذي نعيشه رغم أنهم يعيشون على الكرة الأرضية.
أنها حالة أستطيع تشبيهها بحالة بطل رواية كافكا(المسخ) عندما عامله الناس على أنه حشرة ولم يناقشوا أبدا فكرة التحول إلى هذا الكائن،فتحيدت فكرة التحول إلى مثل هذا الكائن وفقا لمصطلح في فن الرواية (الكيتش) والذي أثاره الكاتب التشيكي ميلان كونديرا,وعامل الناس بطل الرواية على أساس أنه حشرة كأمر لا يثير الاستغراب أو العجب.
أتمنى أن أكون قد وضحت الفكرة،فأنا لا أقصد التعقيد ولكن مثل هذا الأفلام قد تفرض عليك التعقيد في بعض الأحيان......لنبدأ مع الفيلم وسيكون لنا وقفة-كالعادة- مع كل أمر يستدعي ذلك :
هناك لوحة تظهر مع الموسيقى الافتتاحية في الفيلم سنتحدث عنها لاحقا.... في بداية الفيلم شخص ما-سنتعرف عليه قريبا- يحاول أن يزرع شجرة ويطلب من ولده(طفل في الخامسة من عمره) أن يأتي ليساعده في زراعة هذه الشجرة ويقص عليه قصة من تراث الشرق الأقصى القديم فحوى هذه القصة: بأن أحد الكهنة يدعى بامثا قام بزراعة شجرة قاحلة في أعالي الجبال وطلب من تلميذ له بأن يقوم بسقاية هذه الشجرة كل يوم وتستمر هذه الحالة لمدة ثلاثة أعوام لتعيش الشجرة من جديد بعد هذه المدة.... إلى ما ترمز هذه القصة؟
يقول تاركوفسكي في النحت في الزمن: الشجرة ترمز إلى الإيمان ثم يتساءل في موضع آخر:هل ثمة أمل للإنسان في النجاة على الرغم من علامات الصمت الرؤيوي الوشيك؟
ربما يمكن العثور على الإجابة في اسطورة الشجرة الجافة،المحرومة من ماء الحياة والتي عليها بنيت هذا الفيلم (والذي يحتل موقعا مهما وحاسما في مسيرتي الفنية).
الراهب خطوة،خطوة،دلوا دلوا،يصعد أعلى التل ليروي الشجرة الجافة،مؤمنا على نحو مطلق بأن ما يفعله ضروري،دون أن يتردد لحظة في اعتقاده بالقوة الإعجازية لإيمانه بالله،لقد عاش ليرى المعجزة: ذات صباح الشجرة تنفجر بالحياة،تتغطى بالأوراق الصغيرة الطرية....تلك المعجزة بالتأكيد ليست سوى الحقيقة(نهاية الاقتباس).
في هذه الحكاية يربط تاركوفسكي مقصده بضرورة الثقة بالإيمان وجعله سدا منيعا أمام المغريات الحياتية المادية بأحد القصص الرمزية الدينية في الشرق الأقصى....لكن ما نوع الشجرة التي كان يزرعها ولماذا هذا النوع بالذات؟ إن الشجرة هي (الأيكونا-شجرة يابانية نادرة) رمز الإيمان كما يرى مخرجنا هنا يبدأ البطل بالتذمر من الروتين القاتل،في كل يوم ومع نفس دقات الساعة نقوم بعمل نفس الحركات والنشاطات،حتى أن تاركوفسكي يخضع الطقوس والشعائر لنفس هذا المبدأ بل يعتبرها أساس هذا المبدأ لأن الروتين الحياتي القاتل مثل الشعيرة،نقوم بها في كل يوم وفي نفس الوقت.
قد يكون تاركوفسكي استعار هذه الفكرة-وربما عن طريق توارد الخواطر-من مسرحية (بيت الدمية) (للكاتب النرويجي ابسن) التي تتحدث عن إمرأة تهرب إلى المجهول رفضا لحياة الروتين والأشخاص النمطيين الذين يحيطون بها من كل ناحية،وتشكل هذه المسرحية أحد أعمدة الأدب الوجودي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
هنا يظهر شخص غريب الأطوار،ساعي البريد على متن دراجة هوائية....يركز تاركوفسكي على المشاهد البعيدة،بحيث يجعلنا نرى ساعي البريد قادما من بعيد،بالإضافة إلى اعتماده على اللقطة الطويلة(سنعود إلى شرح هذا المشهد)...يدور الحوار بين هذا الشخص الذي يدعى (أوتو) (وألكسندر) حيث نكتشف أن ألكسندر محاضر جامعي في علم الجمال وكاتب مقالات وممثل سايق بالإضافة إلى التخصص في العلوم الأخرى،وقد حلّ عيد ميلاده الخمسون....إنه يقدم مراجعة حيايتة شاملة....
ليكتشف بأنه وفي تلك الخمسين عاما التي مرت من عمره لازال يقف في مكانه أو كما قال له ساعي البريد(إنه لازال ينتظر شيئا ما) تظهر في هذا الحوار ثلاثة أفكار رئيسية: يذكر اسم نيتشة،والقزمية،والروتين المتعفن.
لنتوقف قليلا عند هذه النقاط وماذا أراد تاركوفسكي أن يقول... تتلخص أفكار نيتشة في ثلاثة محاور رئيسية: 1-إرادة القوة 2 –العود الأبدي 3-فكرة الإنسان المتفوق والذي يهمنا في هذه الأفكار الثلاث محورين رئيسين: العود الأبدي وفكرة الإنسان المتفوق (السوبرمانية).
حين تحدث أوتو ساعي البريد عن القزم ذاكرا نيتشة،فهو يتحدث عن الكائن البشري الذي لازال قزما ولم يحقق أي شيء من نبوءات نيتشة حول الإنسان المتفوق....يقول ناصر أحمد كامل في شرحه لنظرية الإنسان المتفوق عند نيتشة....: حيث أنه (أي نيتشة) سيكرس أبحاثه اللاحقة لهذه المسألة خصيصا مطالبا بتوجيه التطور نحو حضارة جديدة(خلق شروط أفضل للإنجاب والتغذية والتثقيف،ويستطيع الناس إدارة اقتصاد الأرض بحيث يتم استخدام الطاقات البشرية استخداما متوازنا....أليس هذا ما عناه تاركوفسكي عندما قال في كتابه النحت في الزمن:يبدو لي أن الفرد اليوم يقف في مفترق طرق مواجها هذا الخيار:إما أن يمارس حياة مستهلك أعمى خاضع لزحف لا سبيل إلى تهدئته تقوم به تكنولوجيا حديثة وسيل لانهائي من السلع المادية (نهاية الاقتباس). إن فكرة القربان أو التضحية بالنفس وفقا للمفهوم الديني المسيحي أو حتى الفلسفي تتطلب من الإنسان النظر إلى أبعاد أخرى....تتطلب من الإنسان التفوق أو السمو ولكن الإنسان لازال قزما...بل قزما متوحشا.... هناك أبعاد أخرى لفكرة نيتشة حول الإنسان المتفوق بحيث أن هذا الإنسان الذي سيصل إلى مرحلة (السوبرمان) كما يرى نيتشة لم يكن بحاجة أبدا إلى الإله بل سيعلن موت الإله(راجع كتاب هذا تكلم زرادشت لفردريك نيتشة)،فهل هذا له علاقة بما يريد تاركوفسكي أن يقوله؟ لا أعتقد ذلك....إن أحد أسباب معاناة هذا الرجل هو جهره بالإيمان في دولة شيوعية....وكيف ستكون الشجرة رمزا للإيمان عند ذلك....لقد أراد أن يكون الإنسان متفوقا مع الله وليس من دونه... أما فكرة العود الأبدي لنيتشة-كما عبر عنها ميلان كونديرا –أحد أبرز المتأثرين بنيتشة- في روايته الشهيرة (الخفة غير المحتملة للكائن):العود الأبدي فكرة يكتنفها الغموض وبها أربك نيتشة الكثير من الفلاسفة: أن نتصور أن كل شيء سيتكرر كما عشناه في السابق،وهذا التكرار سيتكرر إلى ما نهاية.
أعتقد أن هذا ما عناه تاركوفسكي حين قال ساعي البريد :أتصور حياتي آخذة في الولادة من جديد دون أن أتذكر ما الذي كان في السابق،وطبعا إذا لم يصل الإنسان إلى مرحلة الإنسان المتفوق سيبقى عالقا إلى ما لانهاية في تصور العود الأبدي.يقول ميلان كونديرا:تؤكد خرافة العود الأبدي سلبا أن الحياة التي تختفي نهائيا والتي لا ترجع أنما هي أشبه بظل وميتة سلفا (عن رواية الخفة غير المحتملة للكائن). لنعود إلى أحداث الفيلم:بعد أن ينهي ألكسندر حواره مع ساعي البريد حول الجنس البشري يتحدث إلى طفله الصغير(لا ينطق اسمه أبدا في الفيلم) في البدء كانت الكلمة(رمز ديني) ولكنك أصم،أصم كالسمكة يقول تاركوفسكي حول هذا المشهد:في البدء كانت الكلمة،ولكنه صامت كالسلمون أبكم،يقول ألكسندر لولده في بداية الفيلم الابن يشفى من عملية حنجرة ولكنه لا يسمح له بالكلام،إنه يصغي في صمت فيما يروى له والده قصة الشجرة غير المثمرة،في ما بعد عندما يشعر ألكسندر بالرعب لدى سماعه أنباء كارثة وشيكة،يأخذ عهدا على نفسه بالتزام الصمت....سوف أكون أبكما....سوف لن أتفوه بأي كلمة أخرى لأي شخص...سوف أتخلى عن كل ما يربطني بحياتي (انتهى الاقتباس).
إن صمت الطفل هو تعبير رمزي لرفض الارتباط بالحياة،وإذا أردنا الخوض في الرمز أكثر،فإن هذا البعد يأخذ المنحى الغريزي عند الطفل(دافع لتجنب الألم كما يرى فرويد)،لأنه يتحدث في النهاية بالحكمة الإنجيلية (في البدء كانت الكلمة).
تحضر زوجة ألكسندر والدكتور فيكتور (صديق للعائلة وتلميذ سابق) لحضور عيد ميلاد ألكسندر بينما هو يتابع حواره مع نفسه حول(الحماقة البشرية) في لحظة يقوم بإيذاء ابنه بطريقة غير مقصودة فيرتمي على الأرض ليسترجع صورا بالأبيض والأسود توحي بأن الأرض مدمرة (يتنبأ بوقوع الكارثة).... هنا ينتهي المشهد الأول للفيلم الذي استمر ما يقارب 22 دقيقة هذا المشهد الذي مال فيه تاركوفسكي إلى استبدال اللقطات الطويلة والمقربة التي طبعت مرحلته الإبداعية الأولى من حياته السينمائية ورسمت بها أفلامه الروسية التي أتحفنا فيها بروائع وتحف من أمثال سولاريس وميله إلى استخدام أكبر عدد من اللقطات العامة والبعيدة جدا كما يرى جواد بشارة(انتهى الاقتباس).
إن تاركوفسكي يعطينا فرصة للتأمل عندما تتميز لقطاته في هذا الفيلم بالنفس الطويل والتركيز على المدى المفتوح،بل هي كاميرا تلاحق الشخصية وتركز عليها عندما نشاهد ساعي البريد قادما من بعيد،فقط في لحظة الاسترجاع التنبؤية تبدو الكاميرا تصور من الأعلى كأننا نشاهد المشهد من فوق.... يتساءل جواد بشارة:هل يمثل ذلك وسيلة للتعبير عن حالة البحث الدائم عن الحقيقة المطلقة؟! المشهد التالي:يتأمل فكتور داخل منزله كتابا من الصور هو هدية من فكتور(تلميذه) له ويبدى إعجابه بها شاكرا له(الصور التي ظهرت في الكتاب تشبه الأيقونات الدينية التي ظهرت في أندريه رابلوف.
يستمر الحوار حول الحمق البشري،ثم يسترجع ألكسندر برقية من أصدقائه فيها مزحة تذكره بأيام التمثيل عندما مثل هاملت،والأحمق... يقول تاركوفسكي عن هاملت:الضعف البشري الذي أجده جذابا لا يسمح بتوسعية فردية أو بتوكيد الوجود الشخصي على حساب الآخرين أو على حساب الحياة نفسها،ولا الإلحاح على تسخير شخص آخر لتحقيق أهداف ومتطلبات الفرد الخاصة،في الواقع أنا مفتون بقدرة الكائن البشري على الوقوف ضد القوى التي تدفع أشباهه نحو التنافس العنيف الأحمق أيضا هو أساس ولعي بهاملت. مأساة هاملت كما أراها،لا تكمن في موته بل في واقع إنه قبل أن يموت يكون مضطرا لأن يتخلى عن بحثه الخاص عن الكمال ويصبح مجرد قاتل عادي(انتهى الاقتباس)أما الأبله-يقول تاركوفسكي-:الفن يجب أن يرصد و يتخطى أيضا أن دوره هو أن يقدم رؤية روحية تتصل بالواقع كما فعل ديستيوفسكي :أول من عبر بوضوح-على نحو ملهم- عن مرض العصر.
لنعود إلى الفيلم:يتحدث ألكسندر عن المسرح ولماذا تركه،وتظهر زوجته التي تقول في النهاية أنها سعيدة بأنها أصبحت زوجة لممثل مشهور ....يحضر ساعي البريد(أوتو) ويقدم هدية خريطة لأوروبا من القرن السادس عشر (إشارة إلى أوروبا المنهارة الخالية من القيم الروحية)،يستقبل ألكسندر الهدية ببرود شديد،ثم يبدأ(أوتو) في الحديث عن نفسه ويقول إنه ساعي بريد في وقت فراغه فقط....يجب علينا التوقف قليلا عند شخصية أوتو،التي قلت في البداية أنها مزيج من الواقع والمتخيل: شخص ملغز،كأن تاركوفسكي وضعه ليلقن الحكمة،قادر على التنبؤ بالمستقبل وسبر أغوار الماضي وقص الحكايا من القرون الماضية،يعمل كساعي بريد لحبه للتجوال ومعرفة أحوال الناس....شخصية أشبه بشخصيات ألف ليلة وليلة ولكن على نمط فلسفي تحدث هزة شديدة في المنزل على أثر ارتداد صوتي لطائرات تحلق محدثة ضجيجا هائلا...ألكسندر في الخارج يشاهد مجسما لمنزله الذي
صنعه له الطفل الصغير وساعي البريد كهدية لعيد ميلاده كما أخبرته ماريا خادمة المنزل...ماريا التي ستكون هي الساحرة في المستقبل القريب بسيطة جبانة غير واثقة من نفسها على الدوام،ضعيفة أمام الزوجة التي ظلت طوال الفيلم تؤدي وظيفة تراجيدية:انها تقمع كل شيء يواجهها،أي طموح فردي حتى لو كان ضئيلا-لتوكيد الهوية الذاتية وهي تسحق كل شيء وكل شخص حتى زوجها...أنها تعاني من افتقارها للقيم الروحية (النحت في الزمن-بتصرف).
هناك لوحة تظهر في بداية الفيلم تدعى ب(هيام الملوك الثلاثة) لليانوردو دافنشي....تمثل هذه الصورة صورة مريم العذراء تحمل بين يديها المسيح وهو في المهد محاطة بجمع بينهم ثلاثة أشخاص واضحين يحدقون باستغراب،وأحدهم يضع يده على رأسه بطريقة من يحاول النظر من بعيد.... لم أجد في كتاب تاركوفسكي شيء ما يتحدث عن هذه اللوحة،ولكنها تشير إلى الخطيئة البشرية كما عبر ساعي البريد عن شدة خوفه من خطيئة هذه اللوحة ...خوفه من ليوناردو.
هنا أسأل سؤالا طرحه قبلي الناقد جواد بشارة:ماذا يريد مني أندريه تاركوفسكي أن أرى؟!
جميع شخصيات الفيلم تجتمع حول المائدة لمشاهدة التلفاز للاستماع إلى إعلان وقوع الكارثة إلى إعلان وقوع كارثة مدمرة...كارثة لا نعرف ما هي ربما زلزال والأرجح كارثة نووية وعودة إلى اسقاط المتخيل على الواقع.... مداخل الواقع على اعتبار أن كارثة نووية أمر مستحيل الحدوث أو التصديق...عليك أن تنسى الحدث وتهتم فقط بردات الفعل....ردة فعل الزوجة عصبية جدا،بكاء يظهر ضعف إيمانها وخوفها الأمر الذي توصلنا إليه عندما عملت على تأكيد الذات أمام ماريا بينما يتلقى الجميع الخبر بردات فعل هادئة... يتخذ ألكسندر عهدا أمام الله بالصمت وعدم الحديث بأي كلمة لو أنقذ منزله من الدمار وحافظ على حياة عائلته(شبيه نوعا ما بغاندي أو النبي ذكريا).... هنا تبدأ فكرة التضحية بالبروز حيث يبدأ ألكسندر بالتضحية بنعمة الكلام. إن فكرة التضحية-كما أرى-تختلف عن فكرة التضحية بالمعنى المسيحي للكلمة،إن ألكسندر يبدأ بالتضحية ليس من أجل الجار...ليس من أجل البشرية،بل عندما وصل إلى حد كبير من القرف من الجنس البشري!!!!
سأعود للحديث عن هذا الموضوع.....يبدأ ألكسندر في الغوص في أحلامه،وعودة إلى أسلوب تاركوفسكي المعهود هذه المرة....الطين والعملات النقدية والمياه والخلفية الموسيقية لخرير المياه....مشاهد شبيهة جدا بمشاهد فيلم الدليل(ستالكر) في المنطقة أو كما عبر في المرآة عن تداخل الأزمان واختلافها بتقليب المشاهد بين الأبيض والأسود،يعود تاركوفسكي في هذا الفيلم إلى إبراز العالم المتخيل (الحلم) بالأبيض والأسود .
يبدأ مقطع هام من الفيلم عندما يحث أوتو ألكسندر على الذهاب إلى ماريا خادمته(وهي في نفس الوقت الساحرة) لنغوص أكثر في عالم متخيل مسقط على الواقع،لأن ألكسندر إذا نام معها سينتهي كل شيء،ويقرر الذهاب كحل نهائي،ويقضي معها ليلة مستعيدا ذلك الحلم الذي حلمه في بداية الفيلم حول المدينة المدمرة ولكن بشكل تفصيلي أكثر لأن هناك كتل بشرية تهرب بخوف
يقول تاركوفسكي:بالنسبة إلى ابن ألكسندر الصغير والساحرة ماريا،فإن العالم مليء بالعجائب يتحركان في عالم الخيال(وليس الواقع) بخلاف التجريبيين والذرائعيين،هما يؤمنان فقط بما يستطيعان لمسه(النحت)في الحقيقة كان فيلم تاركوفسكي هذا سيقلب رأسا على عقب من خلال هذه الساحرة الذي كان سيدور حولها الفيلم برمته وستشفي ألكسندر من مرض السرطان وعند ذلك سيتخلى عن الدنيا بما فيها ويتبعها....هكذا كانت حبكة فيلم القربان....تسبر هذه القصة ضرورة الإيمان بالله،وقدرته على اصطناع المعجزات(حتى لو كانت على طريقة مخرجنا) لكن العالم لم يتخلص بعد من الكارثة النووية لأن قصة الساحرة كانت في أحلام ألكسندر.... يقرر الدكتور فيكتور السفر إلى أستراليا،وتستقبل الزوجة هذا الخبر بالحسرة،بينما يقرر ألكسندر أن يحرق بيته ويتخلى عن جميع أملاكه وعن أصدقائه وحتى ابنه الصغير الذي يحب لصالح عالم الجنون.
يقول جواد بشارة عن هذه اللقطة: قد يكون كل ذلك مجتمعا، وشيء آخر نحسه ولا نعرفه أو لا نستطيع صياغته لفظيا أو التعبير عنه ماديا، شيء ما تتسم به جميع أفلامه وسينماه الشخصية يمكننا أن نسميه ب ـ”نفس تاركوفسكي”. فلقطاته طويلة زمنيا، خصوصا اذا كانت مأخوذة من زوايا غريبة وشاذة، أو تكون بعيدة وعامة لتتيح للمتفرج الوقت الكاف للتمعن في محتوياته وجمال تكويناتها البلاستيكية تبدأ لقطاته عادة ساكنة ثم تتخللها حركات ترافلنج (ميكانيكي أو بصري او الاثنان معا ويتزامن
. كاللقطة التي ختمت فيلم “التضحية “ حيث (خلاق جانبية أو أفقية أو عميقة نقضاضية أو ارتدادية
تابعت الكاميرا بإصرار ودقة شديدتين الكسندر في قمة لحظاته النفسية المتوترة ابان توغله في عالم الجنون حارقا بيته خلفه الى أن أخذته سيارة الاسعاف. هل يمثل ذلك وسيلة للتعبير عن حالة البحث الدائم عن الحقيقة المطلقة المختفية في أعماق الكائن البشري وعندها لا يكون للسينما دور سوى الكشف عن العالمين(الخارجي والداخلي) للانسان وهو في حالة عري تام، حيث يتكفل الفنان بمهمة التعرية لهذا الكيان بأكمله قبل أن ينظر اليه باعتباره واقعا مباشرا لا سبيل لسبر أغراره، حيث تحل عين السينمائي - الرجل محل نظرة انسان الحياة اليومية؟
شكلت لقطة تصوير المنزل وهو يحترق معاناة وحسرة بالنسبة إلى تاركوفسكي ثم تحول إلى فرحة ونصر،فجأة تعطلت الكاميرا والمنزل لا يزال يحترق ولم يستطع المخرج مع كادر التصوير أن يطفئوا شيئا،وذهب تعب أربعة أشهر هباء منثورا كما يقول تاركوفسكي،لكنه بعد عدة أيام استطاع مع الكادر أن يبنوا منزلا مشابها للسابق...يقول المخرج:كان شيئا أشبه بالمعجزة،ويبرهن على ما يستطيع الأفراد أن يفعلوه عندما يكونون مدفوعين بالاقتناع والإيمان الراسخ.(النحت).
قبل أن أنهي الفيلم،يجب مناقشة فكرة التضحية أو القربان كما ظهرت في الفيلم:الشخصية الرئيسية في فيلمي الأخير(القربان) هو أيضا رجل ضعيف بالمعنى المبتذل والشائع للكلمة،إنه ليس بطلا،بل هو مفكر ورجل صادق ومستقيم،والذي يتضح في النهاية إنه قادر على التضحية باسم هدف(أسمى).إنه يرتفع إلى مستوى الأحداث بدون محاولة فصل مسؤولياته أو محاولة إرغام أي شخص على تحمل ذلك. إنه في خطر أن لا يكون مفهوما أو أن يساء فهمه،ذلك لأن نشاطه الحاسم هائل إلى حد أن ذلك الفعل بالنسبة لأولئك المحيطين به لا يمكن إلا أن يبدو هداما على نحو فاجع...ذلك هو التعارض التراجيدي لدوره.مع ذلك يقوم بالخطوة الحاسمة،وبتلك الوسيلة يمزق قواعد السلوك ((السوي)) ويكشف نفسه لتهمة ارتكاب الحماقة لإنه واع لصلته بالواقع الجوهري.
عذرا تاركوفسكي لكن ما الذي ستستفيده البشرية الحمقاء من شخص رأى في الجنون قمة العقل؟ ضحى بعقله بملئ إرادته؟
في نهاية الفيلم يقوم الطفل بالمشي خطوة خطوة،ويحمل دلوا دلوا لسقاية الشجرة وينطق لأول مرة في الفيلم بالحكمة الانجيلية: في البدء كانت الكلمة،ثم ينتقد والده قائلا:لماذا فعلت ذلك يا والدي؟!!
قال بيرغمان عن هذا الفيلم:لقد صنع تاركوفسكي ما كنت أحلم بصنعه طيلة تاريخه الفني بأسره ولم أفلح...إنه أعظم فيلم لم يخرجه بيرغمان بعد.



#بلال_سمير_الصدّر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحنين 1983 لأندريه تاركوفسكي: تأملات في شعور بشري خالص
- لفدريكو فليني: مرة أخرى عن ذكريات فلينيAmarcord
- ستالكر أو الدليل لأندريه تاركوفسكي 1980 :المنطقة أو لحظة زوا ...
- زوربا اليوناني 1964:اليكسس زوربا:الرجل المحاصر بين متطلبات ا ...
- Passion of ann 1969 لأنغمار بيرغمان: سرد واضح لشخصيات ضعيفة ...
- ساعة الذئب 1968:بداية الحقبة النفسية لبيرغمان
- سولاريس لستيفن سوديربيرغ: رؤية جديدة لرواية ستا نسلو ليم:سول ...
- الإغواء الأخير للسيد المسيح 1988:أكبر ثورة فكرية في تاريخ ال ...
- دراسة حول فيلم Persona(قناع الشخصية):رموز أدبية وتحليلات نفس ...
- فيلم المرآة1975:محاولة لفك رموز تاركوفسكي المعقدة-تجلي العنص ...
- الثور الهائج 1980: عن حياة ملاكم نيويوركي أصيل
- سائق التاكسي 1976 لمارتن سكورسويزي: فيلم عن اللحظة بامتياز-س ...
- أندريه رابلوف 1969:الفن والجمال،والفكرة والمضمون،وكل شيء عن ...
- للمخرج الألماني Tin Drum 1979:Volker Schondorffالحالة الغريب ...
- أكاذيب وجنس وأشرطة فيديو لستيفن سوديربرغ:عندما تلعب تقنيات ا ...
- طفولة ايفان 1962 لأندريه تاركوفسكي:ولادة شاعر السينما الأكبر
- رجل ميت 1995 لجيم جارموش: رحلة قدرية مرسومة مسبقا لتقرير الم ...
- زهور محطمة لجيم جارموش2005: عندما يرتاح جارموش من عناء الأسئ ...
- ماندرلاي 2006 “لارسن فون تراير”قصة نجحت في أن تكون كناية ولم ...
- الحياة حلوة 1960 لفدريكو فليني: تأريخ للحظات معينة في حياة ص ...


المزيد.....




- حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر
- فنان عراقي هاجر وطنه المسرح وجد وطنه في مسرح ستوكهولم
- بالسينمات.. فيلم ولاد رزق 3 القاضية بطولة أحمد رزق وآسر ياسي ...
- فعالية أيام الثقافة الإماراتية تقام في العاصمة الروسية موسكو
- الدورة الـ19 من مهرجان موازين.. نجوم الغناء يتألقون بالمغرب ...
- ألف مبروك: خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2024 في ...
- توقيع ديوان - رفيق الروح - للشاعرة أفنان جولاني في القدس
- من -سقط الزند- إلى -اللزوميات-.. أبو العلاء المعري فيلسوف ال ...
- “احــداث قوية” مسلسل صلاح الدين الجزء الثاني الحلقات كاملة م ...
- فيلم -ثلاثة عمالقة- يتصدر إيرادات شباك التذاكر الروسي


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بلال سمير الصدّر - دراسة مطولة حول فيلم التضحية(أندريه تاركوفسكي)1986: الخلاص الفردي بناء على مقدمات فلسفية ودينية