|
الأمم، العنف،الاتصال والرياضة
بشير السباعي
الحوار المتمدن-العدد: 3642 - 2012 / 2 / 18 - 11:06
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ترجمة: بشير السباعي السلطة (×) كلود لوفور CLAUDE LEFORT في جامعة كل المعارف هذه، يبدو من الطبيعي أن يتوفر متسع لدراسة السلطة. وأنا على وعي بالمجازفات التي ينطوي عليها تحمل المسئولية عن القيام بدراسة كهذه. فالواقع أنه لا وجود هناك لفرع تخصصي علمي موضوعه المحدد هو طبيعة ومنشأ وممارسة السلطة، مع أن هذه الظاهرة قد استثارت منذ زمن بعيد تأملات وتفكير كبار المفكرين. ويخامرني الشك من جهة أخرى في أن تكون هناك فرصة ما لتشكل مثل هذا الفرع التخصصي العلمي، وذلك لأسباب سوف تظهر خلال هذا العرض. وعلى أية حال، فليس هناك ما يسمح بتصور أن بوسعنا الاستفادة من حيازة معرفة تراكمية. ما الذي ندعوه بالسلطة ؟ هذا سؤال ضروري كمدخل للبحث، على ما يبدو، إلاَّ أنه لكي نجيب عن هذا السؤال يجب أن نحدد معياراً يسمح في التو والحال بحل مشكلة مجموعة من التمثيلات يحمل كل منها ميسم خبرة جماعية. وإذا كنا مستعدين للاعتراف بأن السلطة لا يمكن اختزالها في السيطرة أو القوة أو القيادة أو النفوذ، فليس مما لا سبب له أننا نميز علامتها، أكان في القدرة على البت في الأمور العامة أم في القدرة على حيازة وتجيير وسائل الإكراه أم في القدرة على القيادة أم في القدرة على تجسيد أو تمثيل قوة ما تعلو على الناس أو، أيضاً، تساعد على ذلك، أم في القدرة على امتلاك معرفة عملية لا يتوصل إليها الحس المشترك أو الدراية العامة. وباختصار، فإن السلطة يمكن ربطها بصورة الأمير أو الحاكم أو المحارب أو الكاهن أو الساحر. وفي جميع الحالات، فإن طابع السلطة إنما يرتبط بطابع الطاعة، والطاعة نفسها تنطوي على نمط معين من أنماط الإيمان والتسليم. وفيما يتعلق بسيطرة مبنية على القوة، يمكننا أيضاً أن نتساءل، كما يدعونا إلى ذلك لا بويسيه، ما إذا كان بوسعها في أي يوم من الأيام أن تحافظ على نفسها بصورة مقيمة ودائمة من غير الاستفادة من «العبودية الطوعية» والاطمئنان إلى توافرها. والحال أننا لن يكون بوسعنا تخليص أنفسنا من المسألة التي تطرحها طبيعة السلطة باللجوء إلى تعريف للكلمات. ثم إن كل واحد منا يحوز نوعاً من الفهم المسبق للظاهرة بحكم تجربة الطاعة والتبعية التي مر بها في طفولته قبل أن يكوِّن فكرة ما عن مصدرها. وليست هناك حاجة بالمرة إلى تبني النظرية الأفلاطونية عن النفس حتى نعترف بأن الحياة النفسية والحياة الاجتماعية لا تقبلان الفصل فيما بينهما. والفهم المسبق يوجه تحفظاتنا حيال تفسيرات يبدو مع ذلك أنها تستند إلى بداهات. ومن ثم فقد جرى اقتراح تصور السلطة من زاوية علاقات فيما بين أفراد. وعندئذ فسوف تتحدد السلطة بوصفها المقدرة التي تحوزها الذ1ت A لدفع الذات B إلى التصرف بما يتماشى مع مخططات الأولى. وما أن نعترف بأن كل ذات تتمتع بكم محدد من السلطة، فإن مهمة عالم الاجتماع سوف تتمثل في اكتشاف توزيع علاقات السلطة الفاعل ثم المتبدل، في نهاية الأمر، بحكم ائتلافات فيما بين فاعلين يهدفون إلى غاية واحدة ـ ويمكن لهذه الغاية أن تكون قيادة قطاع من جماعة أو قيادة الجماعة نفسها. على أن مخططاً تصورياً من هذا النوع إنما يتعارض مع الحس المشترك. فهو يفترض أن بالإمكان تجريد الفرد أو الفعل المشترك بين الأفراد من كل سياق خاص، وأن بالإمكان تنحية كل اعتبار يتعلق بطبيعة بواعث وغايات الفعل. ومن ثم يجري نزع الدلالة عن علاقة السيطرة والقيادة والنفوذ. والشيء الأقرب إلى الحس المشترك هو فكرة أن السلطة تمثل أحد بواعث السلوك البشري وأنها تستثير بالطبع شهية لا حدود لها وأن كل فرد، بمجرد تمكنه من ممارستها، سوف يجتهد في الحفاظ عليها، بل وفي زيادتها، إن لم يواجه عقبة تمنعه من ذلك. وهذا تمثيل يرافق التمثيل الذي يرى أن السلطة مفسدة، لأنها توِّلدُ لدى من يحوزها الثقة بأنه فوق القانون. وفي هذا المنظور، تختلط السلطة بالقوة. على أن اللجوء إلى الفكرة التي تتحدث عن طبيعة بشرية إنما يحذف الملاحظة المترتبة على المجريات الواقعية، ألا وهي الملاحظة التي تقرر أن تصرفات البشر إنما تصاغ إلى حد بعيد من جانب الوسط الذي يحيون فيه ومن جانب التربية والتعليم وخاصة من جانب أعراف وشمائل المجتمع بحسب ما إذا كان يعلي من شأن أو يحط من شأن مبدأ فعلٍ كهذا. لقد قلتُ أن السلطة لا تشكل موضوعاً محدَّدَاً لفرع تخصصي علمي. ولكن أَلَيسَ العلم السياسي هو هذا الفرع التخصصي العلمي [لدراسة موضوع السلطة]؟ إن هذا العلم الذي جاء متأخراً إلـى حقل العلوم الإنسانيـة إنما يعطي مساحة واسعة، كما تشهد على ذلك الأعمال التي تزعم الانتماء إليه، لأبحاث امبريقية حول اختيار القادة السياسيين وأساليب عمل الأحزاب وطابع جمهورها أو أيضاً أساليب عمل أجهزة الدولة وآليات اتخاذ وتنفيذ القرار السياسي، إلخ. أي أن ما يهم هذا العلم هو البحث في قطاع خاص من النشاطات، على نحو ما يتجلى في المجتمع الديموقراطي الحديث. وقد تسنى قياس الأخطاء التي يقترفها هذا العلم حين يطبق مخططاته التصورية على مجتمع من نمط شمولي ينمحي فيه التمايز بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي. والحال أن هذا التمايز هو الذي يعطي هذا العلم إمكانية إبقاء موضوعه مستقلاً بشكل نسبي عن الموضوعات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الحقوقية أو الجمالية. وعندما يرتفع العلم السياسي إلى مستوى النظرية، فإنه يتصور السلطة إمَّا بالإحالة إلى فعل الأفراد، أو من زاوية الاستراتيجية العقلانية أو أيضاً بالإحالة إلى منطق وظائف أو أنساقٍ ونُظم. وما يوجهه هنا أيضاً هو المفهوم التقليدي عن قطاع من قطاعات السياسة. والحال أن تحديد السياسة ليس معطىً طبيعياً أو عقلانياً: فهو يحمل ميسم نظامٍ خاصٍ جداً بالفعل ولا سابق له. وبهذا المعنى فإن له دلالة سياسية، بقدر ما أنه يقتضي خبرة حياة اجتماعية وخبرة بالعالم. وأنا أقترح على نفسي اقتحاماً قصيراً للحقل السياسي للمجتمعات. ففي هذه الأخيرة تظهر السلطة بوصفها مؤسسة. وبالإمكان التعرف عليها من خلال تلك العلامة التي يمكن لجميع أعضاء جماعة ما تسميتها. وبتعبير أدق، فإنها تلك المؤسسة التي تمنح كياناً اجتماعياً طابعه كتجمع سياسي. ثم إنها تملك تلك الخاصية التي تتمثل في كونها «جلية وظاهرة للعيان». وهي تتطلب، وإن كان ذلك بأساليب مختلفة، طقوساً ومراسيم ـ أي أن تتجلى على شكل شخصية أو أيضاً على شكل مجلس تتألق سيادته بالرموز وبالشعارات التي تشير إلى صدارته. فأخلاق الاعتيادية الديموقراطية لم تُلْغِ في أيامنا ضرورة مسرحة ظهور رئيس الجمهورية، الفرنسي أو الأميركي، إن لم نشر أيضاً إلى الاستعراضات الاحتفالية الباذخة لظهور الأسرة الملكية البريطانية. ومن المؤكد أنه يجب التساؤل عما يشمله اسم أو صورة المؤسسة أو ممثلها ـ الرئيس، الملك، الإمبراطور، رئيس الدولة ـ إلاَّ أننا لا يجب أن نهمل هذه السمة التي سوف أرجع إلى الحديث عنها. كيف يمكن التساؤل عن السلطة دون تناولها بشكل ملموس في إطار مجتمعات ذات أنواع مختلفة؟ إن حيلة العلم السياسي الحديث، الذي يزعم حصر السياسة في الفضاء الاجتماعي بوصفها قطاعاً خاصاً بين قطاعات أخرى ويزعم وصف خصائص هذا القطاع، إنما تتألف من الاستحواذ خلسة على الخبرة الأولى التي نحوزها عن هذا الفضاء لأجل إدعاء إعادة تركيبها انطلاقاً من افتراضات أولية. وهكذا يختلق العلم السياسي الحديث أسطورة علاقات اجتماعية سابقة في وجودها لأي تكوين ولأي تحديد للمعنى ولأي تنظيم. والحال أن المسألة التي تطرحها ظاهرة السلطة إنما تحيلنا إلى المسألة التي تطرحها «مؤسسة الاجتماعي». وهذا المصطلح الأخير، لا آخذه هو أيضاً بمعناه المتعارف عليه، بل بالمعنى الذي تحتفظ به له قوة الكلمة. والحال أننا بإزاء مفهوم لا يمكن تصوره، حرفياً، لأنه يشير إلى أصلٍ للاجتماعي ويسد في الوقت نفسه الطريق أمام الوصول إلى الأصل، بمنعه تمثيل حالة قبل اجتماعية. لكنه مفهوم لا يمكننا إهماله لأنه، مهما رجعنا في الزمن وأياً كان اتجاه تساؤلاتنا، فإن كل تجمع بشري إنما يبدو لنا أنه يحمل أثر صياغة يكون بفضلها لانقساماته الداخلية، بدءًا بأكثرها أوليةً، أي اختلاف الجنسين، معنىً بالنسبة لكل عضو من أعضائه. وذلك تماماً بقدر ما أن الأسطورة الليبرالية عن أفراد يحيون في حالة من حالات الطبيعة، وكذلك الأسطورة الدوركايمية [نسبة إلى عالم الاجتماع اميل دوركايم] عن جماعة تستمد من وجودها المادي تمثيل كائنات الطبيعة والأشياء، تؤديان إلى عدم القدرة على تمييز صدارة ما هو رمزي. على أننا لا يجب أن نتعامل مع النظام الرمزي بوصفه نسقاً مغلقاً. فكل مجتمع إنما يجد نفسه مواجَهَاً بعَرَضية تنظيمه وبضرورة محوه، أي أنه منشغل دائماً بالتوصل إلى مبرر ما هو موجود: ما هو موجود كما يجب أن يكون موجوداً عليه. والحال أننا إذا اعترفنا بذلك، أفلا يجب علينا أن نتعرف مع السلطة، مع الفارق الذي تُظهره، مع اللامساواة التي تُدخلها في الحقل الاجتماعي، على علامة استحالةِ تمكُّنِ الجماعة ـ أكانت قبيلة أم مملكة أم مدينة أم أمة ـ من التطابق مع نفسها، أو، بتعبير أدق، علامة الفريضة التي تتمثل في وجوب أن تبدي هذه الجماعة تبعية رئيسية ؟ إن مفهوم السلطة إنما يرتبط بمفهوم القانون. تتمثل مأثرة واحد من أبرز ملهمي علم الاجتماع وخاصةً العلم السياسي، أعني ماكس فيبر، في كونه قد أبرز أنماطاً مختلفة لشرعية السلطة، حرصاً منه على عدم خلطها بالقوة. وأنا أُذَكِّرُ بالتمايز الذي أجراه فيما بين ثلاثة أنماط من السلطة: فالنمط الأول، «التقليدي»، إنما يتم تبريره بالفضيلة المنسوبة إلى التماشي مع العادات والأعراف التي يضفي قِدمُها الشرعيةَ على السلطة؛ والنمط الثاني هو السلطة الكاريزمية، التي يتأسس نفوذها على الحظوة الشخصية الاستثنائية والتي يتمتع بها فرد ـ قائد عسكري، سيد حائز لأغلبية استفتائية، ديماجوجي خطير الشأن، زعيم حزب سياسي؛ والنمط الثالث يفرض نفسه بحكم الشرعية، أي بحكم الإيمان بمشروعيةِ وضعيةٍ معينةٍ، الإيمان بأهليةٍ مبنية على قواعد مقررة بشكل عقلاني: وهذا النمط هو نمط السلطة التي يمارسها موظف الدولة الحديثة. والحق أن فيبر يوضح أن هذه الأنماط الثلاثة من السلطة يمكنها، في الواقع، أن تتداخل وتتراكب بدرجات مختلفة. على أن هذا التحفظ لا يمكنه إخفاء أن دراسته للأنماط إنما تسترشد على نحو مستتر بمعاينة الديموقراطية الحديثة: فهذه الأخيرة تتميز بالتقليل من قيمة العادات والأعراف وهي تجمع صورةَ عقلانيةِ تقسيم العمل، المميز لبيروقراطية الدولة، بصورة الفاعل السياسي المتورط دوماً في نزاع والذي ترجع فرصه في النجاح إلى المكانة التي يتمتع بها. وبصرف النظر عن قوة إعجابي بعمل ماكس فيبر، فإن تصنيفه لأنماط السلطة والذي ثابرت على اجتراره أجيالٌ من علماء الاجتماع لا يبدو لي أنه يأخذ في الحسبان تنوع أشكال السلطة. وإذا كان هناك مفهوم أكل عليه الدهر وشرب، فهو مفهوم «السلطة التقليدية» الذي يمكننا أن نربط به مؤسسة الزعامة الهندية ومؤسسة الاستبداد ومؤسسة الملكية المسيحية. وإذا ما مددنا إلى دراسة نماذج السلطة التعريف الذي يعطيه ماكس فيبر للتجمع السياسي، فسوف تتأكد الفكرة التي تذهب إلى أنه كان منجذباً إلى تمثيل الدولة الحديثة. وقد كتب يقول: «إن الدولة، شأنها في ذلك شأن كل الجماعات السياسية التي سبقتها، إنما تتألف من علاقةِ سيطرةٍ للإنسان على الإنسان، قائمة على وسائل عنف شرعي». ويكفيني اعتراض واحد: في أثينا، كانت السلطة الديموقراطية تتميز بتناوب أداء المسئوليات العامة بين المواطنين. وقد لاحظ أرسطو أن الحاكم إنما يتعلم ممارسة السلطة من حيث كونه هو نفسه محكوماً. ومن المؤكد أن المواطنة التي أتاحت المشاركة في القرارات العامة كانت محصورة. ومفهوم الديموقراطية نفسه، والذي اخترعه مع ذلك أعداء هذا النظام، كان يعني أن الـ Kratos [السلطة] تعود إلى الشعب وليس إلى عدد محدود من «أرقى الناس شأناً»؛ وقد شهد على وجود نزاع في صفوف الأمة. وأخيراً، فإن تأسيس النفي قد كشف عن الخوف من تجريد الشعب من السلطة على يد أحد المتطلعين إلى الاستبداد. والخطر الذي أُشير إليه بالفعل إنما يتمثل في بناء نظرية عن السلطة، بل ومخطط تصوري لتطورها، يسترشدان كلاهما برصد عدد من السمات المميزة للدولة الحديثة. ومن ثم يجب أن نسلم باندهاشنا حيال مجريات واقعية تثير حيرتنا. وفي أصقاع متمايزة فيما بينها، مثل سكاندينافيا وميلانيزيا وبولونيزيا والشمال الغربي الأميركي، على مدار زمن طويل، تصور الناس علاقاتهم وفق نمط التبادل القائم على العطايا. والحال أن مارسيل موس، في عمله بحث حول العطية، يستخلص من ذلك درساً رئيسياً يتعارض مع أطروحات علماء الاقتصاد الكلاسيكيين: ففي المجتمعات المسماة بالبدائية، لا يوجد شيء يشبه الاقتصاد الطبيعي. إذ لا توجد تبادلات للخيرات بين أفراد؛ فالشركاء في التبادلات مجموعات اجتماعية. وما يجري تبادله فيما بينها ليس مجرد الخيرات الثمينة إلى هذا الحد أو ذاك، وإنما أيضاً الأعياد والولائم والمجاملات والخدمات العسكرية والنساء. وفي عدد من الحالات، فإن من المتوقع أن تحفز التقدِماتُ الآلهة إلى أن تكون سخيةً تجاه المانح. وتتم الإعانات والإعانات المقابلة بموجب شكل طوعي من الناحية الظاهرية، وذلك على الرغم من كونها من حيث الجوهر، كما يلاحظ ذلك موس، «إجبارية بصورة صارمة، وذلك تحت طائلة نشوب حرب خاصة أو عامة [في حال عدم الالتزام بتقديمها]. وهذه ملاحظة خطيرة الشأن، فمن الواضح أنه لا وجود لعلاقات محايدة في هذا العالم: فالآخر إمَّا أن يكون حليفاً فعلياً أو ممكناً أو عدواً. والظاهرة ليس ذات دلالة اقتصادية فحسب، فهي «ظاهرة اجتماعية كلية». فهي سياسية بمعنى أنها عنصر تكويني لشكل المجتمع. وهي سياسية أيضاً بالمعنى الدارج للمصطلح، لأنها تكشف عن فن سياسي، هو فن الزعيم الذي يسعى إلى إخضاع شريكه في التبادل للالتزام بتقديم ما هو أكثر مما أُعطيَ له، إذا كان لا يريد فقدان مكانته وكرامته. ومن شأن شكل حاد من أشكال التبادل، هو الـ Potlatch (وهو مصطلح مستعار من لغة هنود الشمال الغربي الأميركي) أن يساعدنا على تمييز المعنى الأخير لهذه المؤسسة. فالواقع أن الـ Potlatch هو مناسبة لاستهلاك ملحوظ للثروات، بل ولتدمير جنوني لخيرات ثمينة يمكن بفضله لزعيم و، من خلاله، لجماعة، أن تستعرض قوتها وتؤكد تفوقها. وفي ظرف كهذا، فإن الهيراركية تتأسس أو تتغير. ويشير موس إلى أن «المنح» إنما يعني إظهار التفوق […] وأنك أعلى؛ في حين أن الأخذ دون العطاء إنما يعني الخضوع للآخر وأن تصبح عميلاً وخادماً […] وأن تسقط إلى الدرك الأسفل». أَمَّا فيما يتعلق بدور الزعيم في عدد من المجتمعات البدائية، فهو يرتبط أساساً بتنظيم أداء الطقوس، وذلك بحسب ما يذهب إليه موريس هوكار (مؤلف كتاب ملوك ورجال بلاط)، حيث لا يتمثل هدف هذه الطقوس في صون نظام المجتمع، وإنما في تنظيم الحياة وتأمين خصوبه التربة وانجابية الجماعة. وتظهر وظيفة الملك، بفضل تنامٍ للعلاقات فيما بين الجماعات، كنتيجة لتركيز الطقوس التي يصبح الملكُ المنظِّمَ الذي لا غني عنه لها. والزعيم، حتى وإن صار ملكاً، لا يحكم، فمهمته هي تنظيم العالم من زاوية النظام الذي يَخضع هو نفسُهُ له. ولذا فإنه غالباً ما يبدو سجين تابوات لا حصر لها، وعبداً لمكانته، وذلك إلى درجة تؤدي إلى تثبيط تطلعات المرشحين لممارسة مسئولياته. وإلى جميع التزامات الزعيم، يضاف التزام السخاء والكرم حيال رعاياه. وأخيراً، فإنني أطرح افتراضاً ثميناً: بما أن الزعيم لا يتمتع بحرية إصدار أوامر إلى الوجهاء الذين يحيطون به، فإنه ينتج عن ذلك أن ممارسة السلطة إنما تسقط في أيديهم. ومثل هذا الافتراض يُدخل فكرة ازدواج للسلطة، فتصبح سحرية بالنسبة لطرف وإدارية بالنسبة لطرف آخر. والحال أن دراسة الجماعات الهندية في أميركا الجنوبية والتي انكب عليها على وجه الحصر بيير كلاستر، مؤلف كتاب المجتمع ضد الدولة، إنما تكشف عن نمط قانون أساسي ترجع أصوله إلى أزمنة بعيدة. فالزعيم ليس له من وظيفة غير تقديم الموعظة الحسنة. والحق المعترف له به والذي يتمثل في ممارسة تعدد الزوجات إنما يجعل منه كائنا إستثنائياً، لكن سلطته معدومة. وبدلاً من التشبث برصد انعدام وجود سلطة إكراهية، يرى كلاستر في مؤسسة الزعامة علامة رفض جماعي من جانب الجماعة لهذا النوع من السلطة. والخلاصة أن مؤسسة الزعامة إنما تقدم البرهان على أن السلطة الفعلية إنما تعود إلى الجماعة من حيث هي جماعة. وهذه اللوحة لا تسمح لنا بأن نغفل: أولاً، وجوب تحديد موقع له فرادته؛ ثانياً، تأسيس جماعة قائمة على استبعاد جزء من أعضائها، هو النساء؛ ثالثاً، وجود مؤسسة مهمتها السهر على احتواء الشبان عبر طقوس تربية تخضعهم لتجارب قاسية، يصفها المراقب بأنها أعمال تعذيب. وإذا افترضنا أن القانون يوضح لكل واحد، بشكل مطبوع على جسده، أنه لا يمكنه إلاَّ أن يكون نداً للآخرين، فلابد لنا من الإقرار بوجود سيطرة حقيقية للجماعة على أعضائها. وفي كتابه الشهير معجم المؤسسات الهندوـ أوروبية، يوضح لنا إميل بنفنست، إنطلاقاً من دراسة تفصيلية لجذوراللغات السنسكريتية والسلتية والإيطالية واليونانية، أن الـ Rex [الملك] هو في أصله مصطلح ديني بأكثر من كونه مصطلحاً سياسياً. فمهمته ليست هي القيادة أو ممارسة السلطة، وإنما تحديد القواعد، وتحديد ما هو، بالمعنى الدقيق، “droit” [قانون، حق، استقامة]. والحال أن الطريق المستقيم كانت له في البداية دلالة مادية تماماً، فهو يتألف من مسار خطوط يميز الحدود. وعندما درس [إميل بنفنست] اللغة الإيرانية، شهد مولد مَلَكية لم تعد ذات طابع ديني إرشادي، لكنها تشير إلى سلطة مطلقة ذات أصل إلهي. والحال أن المَلَكية الفارسية الأخيمينية [من القرن السابع قبل الميلاد إلى فتح الاسكندر فارس] سوف تجسد في أعين الغرب الكلاسيكي نمط السيادة الإمبراطورية. وفي بحثه الضخم حول مفاهيم المَلَكية في الشرق الأدنى، تحت عنوان الملوك والآلهة، يشير هنري فرانكفور إلى أن مثل هذه السلطة ـ سلطة الملك ـ الإله في مصر أو سلطة الملك نصف البشري ـ نصف الإلهي في بلاد ما بين النهرين ـ لا تعتبر سلطة سياسية في نظر رعاياهم. وهو يقول أن الحياة تشكل جزءًا من شبكة واسعة من العلاقات بين الجماعات المحلية والقومية تمتد لتشمل أعماق الطبيعة والقوى التي تحكمها. والاستبداد لا يسمح لنفسه بأن يُرَدَّ إلى تاريخ غابر سحيق. والنموذج مهم لماكيافيللي ولمونتسكيو ولماركس، خاصة. والحال أن المستبد الذي غالباً ما يجري تقديمه كحائز لسمات سيد مطلق يُخضع رعاياه لرغباته، حتى وإن كانت هذه الرغبات أكثر الرغبات إسرافاً وجموحاً، إنما يُعَدُّ مثاراً للفضول بسبب قدرته على استخدام جيش من الخدم المنتشرين في مجمل أرجاء الإمبراطورية. وسوف نجد أن البرتغاليين قد ذُهلوا هم أيضاً من مشهد الأعاجيب التي أنجزها الهنود الإنكا في التنظيم الاجتماعي وفي تعبئة يد عاملة ضخمة وفي استغلال الموارد الطبيعية. وحالة الصين تستحق الاهتمام لأنها تشير على نحو فريد إلى الارتباط بين سلطة مقدسة تعتبر مطلقة من الناحية النظرية، هي سلطة الإمبراطور، «ابن السماء»، وسلطة مدنية من حيث الجوهر، يمارسها موظفون يتم اختيارهم على أساس امتحانات أدبية. وقد أوضح ايتيان بالاز، في سلسلة من المقالات تم جمعها تحت العنوان ذي الدلالة: البيروقراطية السماوية، استمرار الظاهرة البيروقراطية في الصين على مدار تاريخ قوامه آلاف السنين. فعند قاعدة الهرم الاجتماعي، سوف نجد جمهوراً ضخماً من الفلاحين؛ وفي المستويات الوسطى، سوف نجد فئة من الحرفيين والتجار قليلة الشأن؛ وفي القمة، سوف نجد بيروقراطية يتولى أعضاؤها جميع وظائف الإدارة والسيطرة على مجمل المجتمع تحت سلطة الإمبراطور. وضمن دائرة اختصاص الموظفين نجد تحديد الجداول الزمنية للنشاطات وتنظيم التبادلات وبناء الطرق وأعمال الري الكبرى، لكننا نجد أن من اختصاصهم أيضاً تأمين الطقوس والتربية ورعاية فن الموسيقى والحفاظ على الأخلاق والآداب العامة. ويوضح بالاز أنهم «مديرون قبل ظهور مصطلح المدير»، لكنهم ليسوا اختصاصيين. فهم لا يعرفون غير فن الحكم. والدولة أبوية وسلطوية. ويسميها المؤرخ على التعاقب «دولة الرعاية كلية الانتشار والنفوذ» و«الدولة الشمولية». ومن الحقائق بالغة الأهمية أن البيروقراطية تعد كلية الجبروت من حيث كونها طبقة، لكن أعضاءها لا يستمدون من وظيفتهم لا الاستقلال ولا الأمن. فهم يراقبون أحدهم الآخر. ويبقى واقع أنه إذا كان الاستبداد الصيني ليس دينياً (إذ لا وجود هناك لأي موقع مخصص لعبادة منظَّمة)، فإنه يتغذى على الإيمان بأن الجنس البشري والكون لا يشكلان غير ملكوتٍ واحد. فماذا عن السلطة في الدولة الحديثة؟ أَلاَ ترمز إلى تقدم في سيطرة الإنسان على الإنسان؟ يقول لنا توكفيل أن السلطة قد فازت بأعظم قوة لها عندما صارت اجتماعية بشكل خالص: «لم نر قط في العصور الماضية سيداً مطلقاً إلى هذا الحد وقوياً إلى هذا الحد بحيث يمكنه الاضطلاع بأن يدير بنفسه ودون معاونة من سلطات ثانوية كل أجزاء إمبراطورية عظمى. كما لم يوجد قط من حاول أن يُخضع جميع رعاياه دون تمييز لتفاصيل قاعدة عامة موحَّدَة، مثلما لم يوجد قط من هبط عليهم لكي يحكمهم ويقودهم». وهو يستلهم هذه النظرة من التعارض القائم بين المجتمع الديموقراطي والمجتمع الارستقراطي خلال عهد النظام القديم [عشية الثورة الفرنسية]. ففي هذا الأخير، كان الناس مدرجين دائماً في جماعة وواقعين في شرك شبكات تبعية شخصية؛ وكانت سلسلة فاصلة طويلة تربط الفلاح بالملك. على أنهم قد أصبحوا، تحت تأثير تقدم تعادل ظروفهم، أفراداً لا يرون فوقهم غير الدولة أو غير المجتمع («وهو فكرة كانت في الماضي غامضة»). ويكتشف توكفيل، وراء تحول السيادة من الملك إلى الشعب، تسارع سيرورة المركزة الإدارية التي كانت قد دشنتها سياسة الملوك الحريصين على اختزال قوة النبلاء. والحال أن تبعثر وضآلة الأفراد يجعلانهم ينتظرون كل شيء من الدولة، منذ ذلك الحين فصاعداً: «ففوقهم ترتفع سلطةٌ وصيةٌ ضخمة». ومن المؤكد أن واقع أن هذه السلطة تُمَارَسُ على أفراد سوف يدفع توكفيل إلى أن يرى في النهاية أن «كلمتي الاستبداد والطغيان القديمتين ليستا مناسبتين». لكن النظام الجديد يحمل ميسم سيطرة قصوى من نوع جديد، والحال أن هذه النظرة قد لقيت في أيامنا نجاحاً لا يرجع فقط إلى اكتشاف سلطة تنظيمية وتفصيلية، تحجب معالمها نظريةُ الديموقراطية. ومن المؤكد أن هذه النظرة يستغلها منتقدو دولة الرعاية، وهي دولة تتزايد تدخلاتها من جراء نمو المجتمع؛ لكن نجاحها ليس أقل من نجاح الاستخدام الذي يتم للفكرة التي تتحدث عن سلطةٍ وصيةٍ وعطوفٍ وتفصيليةٍ ـ وهو استخدام يتم دون ذكر أصله ـ، سعياً إلى وصف حيل السيطرة في القطاعات الأكثر تبايناً، من قطاع المدرسة إلى قطاع المشروع الاستثماري. والواقع أن توكفيل لم يكتف برصد أن السلطة تصبح سيدة شئون المواطنين، فقد قال ساخراً بالفعل أنها «تعمل من أجل سعادتهم» و«تعمل على تيسير مسراتهم» مردفاً: «ما الذي يحول دون أن تتمكن من أن تنزع عنهم عبء التفكير ومشقة العيش». على أن نموذج نوع جديد من الاستبداد إنما يسمح بتفادي المسألة التي تطرحها طبيعة السلطة الملكية في عهد النظام القديم. فالواقع أنها قد رمزت بالفعل إلى قطيعة مع جميع الأشكال القديمة للمَلَكية المقدسة. وإذا كانت قد احتفظت منها ببضع سمات، كما أوضح ذلك مارك بلوك بشكل رائع في كتابه الملوك صانعو المعجزات، فإنها لم تكن رمزاً للكل: لقد كانت رمزاً للواحد. ومع احتفاظها دوماً بأثر إدعائها الأول بتجسيد المسيح أو الله نفسه على الأرض، فإنها قد أعطت مع صورة جسدها الفاني المرتبط بجسدها الخالد، صورة جسد سياسي، هو الأمة وصورة أرض مقدسة ضمن حدود محددة. وبالرغم من جمعها بين قوة روحية وقوة زمنية دنيوية، فإنها لم تتمكن من المزج بينهما في شخصها. وقد اصطدمت سلطة الكاهن بسلطتها. أَمَّا قدرتها على احتواء القانون فلم ترتفع بها إلى مستوى التحرر من مرجعية أسمى. ومن بين جميع أشكال المجتمع المعروفة، من المؤكد أن الديموقراطية تتميز بالتخلي عن الإيمان باندراج العلاقات الإنسانية في نواميس الكون، وإن لم تكن [الديموقراطية] أقل تميزاً بالتخلي عن الإيمان بقانون إلهي يُعْتَبَرُ حائزُ سلطته ممثلاً له. وهذا لا يعني أن «موقع» السلطة يكف عن أن يمثل في وعي الأمة علامة «شيء خارجي». على أن هذا الموقع، بمجرد تعذر تسميته وتعذر تصوره تصوراً مجسَّدَاً، بمجرد ما لا يتسنى لأحد شغل منصب وسيط أعلى أو قاض كبير، إنما يتم تصوره ضمنياً بوصفه «موقعاً شاغراً». وما يحدث هو أنه لا يجري وحسب الإبقاء على الفارق بين الرمزي والواقعي: فالرمزي يفلت من التجسيدي. ومن ثم فلا يجب لنا أن نتوقف أمام فكرة مجتمع تعتبر القوانين كلها فيه متصلة بضرورات تنظيمه المتغيرة. وأن تكون السلطة غير منتمية لأحد، فإن هذا ليس واقعاً مكتسباً، وإنما هو نتاج حاجة غير مشروطة، أى حاجة ينهار النظام في غياب تحقيقها. والحال أن الترتيب الحقوقي الذي تعتمد ممارسة السلطة بفضله على حق الانتخاب العام، إنما يشترط منافسة متجددة دورياً فيما بين الأحزاب ووجود معارضة في المجالس النيابية ولا يمثل ضمان الحقوق المدنية سوى استخلاص النتائج المترتبة على هذه الحاجة الإلزامية. في أي شيء تبدو الديموقراطية الحديثة مختلفة جوهرياً عن الديموقراطية القديمة [الأثينية] ؟ في هذه الأخيرة يجري أيضاً التأكيد على مبدأ أن السلطة لا يجوز احتكارها من جانب أيٍ كان؛ على أن هذه السلطة جرى تخويلها لمجلس المواطنين؛ فهي سلطة جماعية تتأسس بفضل محو للتقسيم الاجتماعي. وهي ظاهرة يشير إليها في آن واحد نظام تناوب أداء المسئوليات العامة الذي أشرتُ إليه وتبادل المواقع بين الحاكمين والمحكومين كما يشير إليها مبدأ الإجماع عند اتخاذ القرارات في مجلس الشعب. ومن ثم فلا يجب أن نخلط الفكرة التي تتحدث عن سلطة لا تنتمي لأحد بالفكرة التي تشير إلى موقع شاغر. وبالإمكان صوغ الفكرة الأولى وترجمتها في هذه الصيغة الأخرى: إن السلطة إنما تنتمي إلى جماعة المواطنين. أَمَّا الفكرة الأخرى فلا يمكن صوغها وترجمتها في صيغة أخرى كهذه، إذ مادامت سيادة الشعب مؤكدة فإنه إنما يجري الاعتراف ضمنياً بأن الأمة ليست من حيث الجوهر كياناً واحداً موحَّداً، أي بأنها، إذا تكلمنا بشكل مناسب، لا يمكن اختزالها في جماعة، لأن ممارسة السلطة إنما تظل دائماً متوقفة على الصراع السياسي، كما أن هذا الصراع إنما يشهد ويحافظ على تنازع المصالح والمعتقدات والآراء في المجتمع. وللسبب نفسه، فإن السلطة السياسية لا تحيل إلى «خارجٍ» يكون من نصيب الآلهة أو من نصيب ناموس كوني، كما أنها لا تحيل إلى «داخلٍ» ثابت تماماً. كما يجب تحديد أنه حيثما يشار إلى موقع شاغر، فإنه من غير الممكن أن يوجد اجتماع بين السلطة والقانون والمعرفة، كما لا يمكن أن توجد ضمانة لقيام السلطة والقانون والمعرفة. وهذا الموضوع محل نقاش لا ينتهي: وهو نقاش يتصل بأهداف الفعل السياسي وبما هو مشروع وما هو غير مشروع وبما هو حقيقي وزائف أو كاذب، كما يتصل، أخيراً، بالسيطرة وبالحرية. والحال أن الديموقراطية هي ذلك النظام الذي تنحلُّ فيه المعالم الأخيرة لليقين. ولا مراء في أن الديموقراطية تفضي إلى تطور سلطات الجهاز، جهاز الدولة أو جهاز المشروع الاستثماري بالأخص. وأسلوب ممارسة سلطات الجهاز هذه يتباين بحسب الفرص المتاحة لاستخدام القوة أو لاستخدام الترغيب. وهذه الممارسة، بعيداً عن أن تكون تحت تصرف ممثلي السلطة، إنما تتكيف مع التمثيلات الجماعية. إلاَّ أنه بقدر استمرار الثقة التي تتمتع بها السلطة الديموقراطية ـ والتي يوضحها تفوق الحياة الاجتماعية على كل تنظيم واقعي ـ بالرغم من فقدان الاعتبار الذي يعاني منه ممثلوها، فإن الأجهزة المتعددة لا يمكنها أن تذوب في جهاز واحد. والحال أن المغامرات الشمولية توضح لنا مدى الجاذبية التي تمارسها سيطرة البيروقراطية من فوق إلى أسفل في نظام يزعم محو كل علامة للنزاع وتحقيق نوع من الإقفال لدائرة المجال الاجتماعي. والآن، فإن توسع السوق ـ التي يقال أنها تتولى تنظيم نفسها بنفسها ـ وامتدادها لكي تستوعب كوكبنا، هو الذي يمثل تحدياً للسلطة الديموقراطية. فكرة المواطنة (×) ايتيان بيكار ÉTIENNE PICARD على الرغم من سهولة اتفاقنا، في النقاش المعاصر، على التذرع بالمواطنة والتأكيد عليها باستمرار، إلاَّ أنه نادراً ما يجري شرح ماهية المواطنة وما تتمثل فيه على نحو محدد. والحال أننا كلما تذرعنا على هذا النحو بالمواطنة، كلما تزايدت فكرتها غموضاً والتباساً وكلما وجدنا أن كل ما تكسبه من حيث الانتشار إنما تخسره من حيث الكثافة والقوة ـ أي من حيث كثافة وقوة معناها. وبادئ ذي بدء، سوف نحاول تقدير حجم ومعنى ظاهرة التضخم اللفظي هذه للمواطنة، وهي ظاهرة حديثة جداً نسبياً على أية حال. وسوف نحاول، في مرحلة تالية، تحديد هذه الفكرة [أو هذا المفهوم] بالإحالة إلى ماهية المواطنة في القانون العام الفرنسي المعاصر، على نحو ما أسسه إعلانُ حقوق الإنسان والمواطن في عام 1789، والذي ما يزال ساري المفعول، وإن كان قد جرى استكماله فيما بعد بمصادر أخرى. ومع ضرورة مثل هذه المقاربة، إلاَّ أنها لن تكون كافية على أية حال. وذلك، تحديداً، لأن النموذج الكلاسيكي للمواطنة إنما يعاني اليوم من توترات بالغة الاحتدام، تعمل على تحويله تحويلاً بالغ العمق، في الأذهان على الأقل، ويمكنها أن تجدد المواطنة على المستوى السياسي والحقوقي، وإن كان يمكنها أيضاً أن تؤدي إلى ذبولها، من حيث الشيء الأكثر جوهرية والأغلى فيها. تضخم المواطنة أسباب الظاهرة يرجع السبب الأول للتضخم إلى أن عدداً كبيراً من اللغات المختلفة ـ السياسية والفلسفية والأخلاقية والحقوقية والإعلامية ـ تستخدم كلمة «المواطنة» دون أن تُجمع كُلُّها على معنى واحد لها. ويبلغ التشوش أقصى مدىً له عندما لا يتموضع المتحاورون المختلفون في إطار حقل معرفي تخصصي واحد أو عندما يبدلون الموقع الذي يتموضعون فيه خلال المناقشة ـ دون أن يلحظوا ذلك دائماً من جهة أخرى. ولكي نعيد تكوين مفهوم للمواطنة يكون مقبولاً في هذا الصدد، سوف يتوجب علينا من ثم أن نتمسك بنسق مرجعي واحد. وهذا النسق سوف يتمثل بالنسبة لنا في القانون العام، لأن الكلمة [ كلمة " المواطنة " ] تتميز في هذا الحقل بمعنى واضح ودقيق ومستقر نسبياً وذلك مع اكتسابها لدلالات ملموسة جد محددة بجلاء. وهذا لا يحول دون الاعتراف بأنه، في المنتدى الذي تدور فيه المناقشة حول المواطنة، يمكن أن تكون هناك تمثيلات أخرى للمواطنة ولغات مسيطرة تؤثر على لغات أخرى. إلاَّ أنه سوف يكون من الأهمية بمكان أيضاً تقدير ملاءمة كل منها. على أن نقطة مشتركة واحدة على الأقل تميز كل هذه الاستخدامات لكلمة «المواطنـة»: ألاَ وهي أن هذه الكلمة تتميز بشحنة عاطفية قوية. والحال أن الكلمات من هذا النوع إنما تؤدي بسهولة وظيفة بلاغية: وتبعاً للقيمة الإيجابية أو السلبية التي تستحضرها هذه الكلمات، فإن مجرد التذرع بها إنما يستثير بسهولة بالغة الانجذاب أو على العكس النفور حيال الموضوعات التي يجري ربطها بها. كما أن الكلمة غالباً ما تستجيب لتلبية وظيفة مجازية، خاصة عندما يستخدمها المرء بين هلالين مزدوجين. والحال أن تكرار المجاز غالباً ما ينتهي بحذف الهلالين المزدوجين وتسهم سطحية بعض الاستخدمات المجازية في العمل على أخذها بمعانيها الأصلية التي تخصها! ونحن نرى فعل هاتين الوظيفتين عندما يجري استخدام كلمة «مواطن» كصفة، كما نجد ذلك في تعبيرات مثل «موقف مواطني»، «مشروع مواطني» ـ دون أن ننسى التعبير جد الرسمي وجد المثير للسخرية «لقاء مواطني». وفي صيغ من هذا النوع، فإن الصفة «مواطن citoyen» يمكن استخدامها بدلاً من الصفة «مدني civique»، لكن هذه الأخيرة تشكو من قدر معين من فقدان القيمة: فهي تعني بالأحرى الامتثال لواجب، لأخلاق، في حين أن الصفة «مواطن citoyen» تعني بشكل أوضح فعلاً قصدياً ومسئولاً من جانب طرف يملك سلطات ومن ثم مسئوليات وبالأخص حقوقاً، يؤكد أو يطالب عن طريقها بدمجه في الوسط المعني. نتائج التضخم يبدو أن كلمة «المواطنة» تنتهي اليوم إلى الانطباق على كل ما يعتبره المرء خيِّراً أو صالحاً أو مستقيماً في النظام السياسي أو الاجتماعي، بالمعنى الأوسع لهذه المصطلحات. ومن ثم فهناك اليوم حشد من المواطنات، بحيث إن كلمة «المواطنة»، لكي يتسنى فهمها إلى حدٍ ما، يتوجب تحديدها بشكل أو بآخر. ومن جهة أخرى، حيال هذا الحشد، فإن المواطنة الحقيقية نفسها، المواطنة التي سوف نحاول تعريفها، يجب أن تتحدد هي أيضاً. وهكذا، فنحن نشعر بالاضطرار من الآن فصاعداً إلى الرجوع إلى «المواطنة السياسية» (ولكن كيف يمكن للمواطنة أَلاَّ تكون«سياسية»، إن لم يكن ذلك لأن البعض غالباً جداً ما ينظرون إليها في خارج هذا المجال!)؛ ثم إننا قد شهدنا ظهور «المواطنة المدنية» (التي لا تنزعج من هذا اللغو الكلامي الماثل في اسمها). ويبدو أيضاً أن هناك «مواطنة أهلية»، يصعب تمييزها عن المواطنة السابقة وذلك بسبب الأصل الاشتقاقي المشترك بينهما، بل وهناك «مواطنة اجتماعية» (مصحوبة عند الضرورة بـ«دخل المواطنة»، الذي يمكن أن يشير في فرنسا إلى الحد الأدنى من الدخل اللازم للإدماج RMI)، أو أيضاً «مواطنة إدارية»، وأيضاً «مواطنة صناعية». ومن الواضح أن الانترنت لا تفلت هي الأخرى من ذلك، وهذا بقدر وجود الـ nettizenship [المواطنة في شبكة الانترنت]، والتي يمكن تشبيهها بـ«المواطنة في العالم»، والمعروفة منذ زمن بعيد. وهكذا فإن كلمة «مواطن» لا تأخذ وحسب شكل صفة: فالمواطنة نفسها سرعان ما تصبح مُرْدَفَةً بنعت أو بتكملة ما. ومن المؤكد أن الكلمة تكسب عندئذ قدراً من الدقة والتحديد. إلاَّ أننا لو تأملنا كل هذه الصفات لرأينا بوضوح، حتى بقدر ما أنها قد أصبحت ضرورية لإضفاء معنى على «المواطنة»، أنها تسهم بالمقابل في تجريد كلمة «المواطنة» من كل تحديد عندما تظهر غير متبوعة بصفة. وفي الحقول الجديدة التي تستخدم فيها أيضاً (الحقول الاجتماعية والصناعية والإدارية واستخدام الإنترنت …)، لاشك أن القيمة القوية التي تمثلها إنما تتواصل مع المجالات التي تدخلها، إلاَّ أنه، وراء هذه الإعلاءات الممكنـة للقيمـة، تتكاثر بالفعل الظاهرة المعاكسة تماماً: إذ من الممكن أن تنتهي كلمة «المواطنة» إلى أن تفقد دلالتها أو قوتها الأساسيتين، من جراء تهافت أو انعدام أهمية أو مجرد انعدام ملاءمة الأشياء التي يجري فرض كلمة «المواطنة» عليها: فمن الواضح أن فرز المرء لقمامته البيتية [حيث يقوم الفرنسيون بفرز قمامتهم البيتية وتوزيعها على صناديق القمامة في منور البناية بحسب ما إذا كانت هذه القمامة مطبوعات أم زجاجات فارغة أم بقايا مأكولات، إلخ] ليس «سلوكاً مواطنياً»، بل هو مجرد موقف متحضر لا أكثر. وإذا كان قد أمكن لفكرة المواطنة أن تصبح جد غامضة، إلاَّ أن اللجوء الذي ما يزال متكرراً إلى استخدام الكلمة إنما يشهد على أنها تواصل اكتساب قيمة عظيمة. والحال أنه بما أن القانون يتأسس ويعمل استناداً إلى مجموعة من القيم، فإن الحقوقي نفسه لا يمكنه صرف الاهتمام عن هذا الاستخدام. ففكرة المواطنة تظهر بوصفها فكرة إيجابية إلى حد بعيد بحيث يمكنها أن تنقذ من الرفض بعض الأشياء التي يجري إضفاء هذه الفكرة عليها. وعلى سبيل المثال، فبمجرد ما أن يقال عن واجبٍ أو عن قاعدةٍ أخلاقيةٍ أنهما «مواطنيان»، فإنهما يصحبان مقبولين بل وقابلين للدفاع عنهما. بل إن بوسعهما أن يتمتعا بقوة معيارية بالفعل. وقد شهدنا منذ عهد غير بعيد إتساعاً زائداً عن الحدِّ للظاهرة نفسها فيما يتصل بكل ما كان يسمى «جمهورياً»، كـ«القوانين الجمهورية» و«النظام العام الجمهوري» و«الأخلاق الجمهورية» وغير ذلك كثير من الموصوفات التي من شأنها، قياساً إلى المرجعيات الثقافية الحالية، أن تكون مثار ريبة عظيمة لو لم يجر تطهيرها على هذا النحو باستخدام هذا النعت. وفي مجال النظام السياسي والاجتماعي، فإن المواطنة، بدورها، إنما تبرئ هذا النظام مما قد يمثله بحد ذاته من عيوب. وإذا استخدمنا تعبيراً أفضل: فإن المواطنة إنما تضفي القداسة على كل ما تلمسه. ومن ثم فإن نقد الاستخدامات الغريبة لفكرة المواطنة، وهي استخدامات يتم القيام بها فيما يتعلق بمفهوم جد كلاسيكي للفكرة، لا يجب أن يستبعد وجود تهور وتحسب. فهذه الصيغ التي تتحدث عن «مواطنة اجتماعية» و«مواطنة إدارية» و«مواطنة استخدام الإنترنت»، إنما تعبر عن تطلعات عميقة إلى ما يمثل أو ما يجب أن يمثل مواطنة حقيقية. ومن المؤكد أن هذه الصيغ لا تمثل تعبيراً عن واقع حقوقي موضوعي، على أن مثل هذه الاستخدامات لكلمة «المواطنة» إنما تنطوي على إمكانية العمل على تطوير الواقع الذي تحيل إليه، وذلك، على أقل تقدير، في بعض مجالات الفكر واللغة ومن ثم الفعل ـ ثم القانون. وبهذه الروح، وبشكل أعمق، فإنه يبدو أن فكرة المواطنة تمثل اليوم المثل الأعلى لعلاقة الإنسان بالعالم السياسي عموماً. وقيمة هذه المثالية إنما تبدو من التفوق بحيث أن الواقع السياسي والحقوقي الحالي للمواطنة لم يعد بوسعه الاعتراض عليها اعتراضاً مشروعاً أو مقبولاً. وتميل هذه المثالية إلى أن تكون المرجعية الوحيدة المناسبة لتبرير صلاحية الكلمة وملاءمتها. وهي ليست بحاجة إلى تجسد ملموس قدر حاجتها إلى الإلهام والطموحات. ونحن نعرف الظاهرة جيداً: فمنذ عدة عقود، حدثت لأجل الدفاع عن حقوق الإنسان. ومن ثم فإنها تؤثر الآن على حقوق المواطن: فلم يعد الواقع الملموس لهذه الحقوق هو معيار صلاحية التمثيل الذي نكوِّنه عنها: بل إن التمثيل المثالي الذي نكوِّنه عنها، على العكس من ذلك، هو الأنسب لقياس صلاحية الواقع الملموس. ومن ثم فإن الحقائق الواقعية هي التي تكون خاطئة إذا لم تتماش مع هذه المثالية؛ والخطاب الذي يعلي من قدر المثالية هو أصدق خطاب، حتى وإن كان لا يلتصق بالواقع. وفي هذا، فإن هذا التمثيل إنما يصبح معيارياً. والمشكلة هي أن هذا التمثيل يظل غائماً وضبابياً ـ بل وذاتياً إلى حد بعيد جداً ـ شأن المثالية نفسها. ومن ثم فسوف يتعين محاولة تحسس تماسك وصلاحية هذا المثل الأعلى الجمعي والذاتي وغير المحدد. والحال أن دراسات فرنسية متنوعة في مجال العلم السياسي إنَّما تهتم بالمواطنة، وغالباً ما يتم ذلك حذواً لحذو التأملات والتناولات الفكرية الأنجلو-أميركية المنصبة على هذا المفهوم نفسه. على أن المفاهيم إنما تصاغ أيضاً من السياق الذي أدى إلى مولدها. والحال أن المواطنة في إنجلترا وأميركا لا تتشكل بالأسلوب نفسه الذي تتشكل به في فرنسا، خاصة من حيث أن إنجلترا وأميركا لا تميزان بالفعل بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن. والحال أن هذه التمثيلات التي لا تتماشى بالمرة مع التمثيلات الكلاسيكية التي يقدمها القانون الفرنسي عن هذه الحقوق، إنما يجري الآن إعادة استيرادها وإدراجها في الخطاب الفرنسي. وينجم عن هذا عدد من الالتباسات وإساءات الفهم. إلاَّ أن من شأن هذا التأثير أيضاً أن يؤدي إلى تجديد فكرة المواطنة. وقد أشارت مؤلفات في حقل علم الاجتماع السياسي من جانبها إلى المعنى المرتبط، في الرأي العام، بكلمة «المواطنة». إلاَّ أننا لو تحدثنا بالشكل الواجب، فسوف نجد أن هدف هذه الدراسات لا يتمثل في تعريف معنى كلمة المواطنة أو تحديد فكرة المواطنة في حد ذاتها، فهدف هذه الدراسات هو رصد التمثيلات التي تكوِّنها هذه الجماعة الاجتماعية أو تلك عن المواطنة. وهذا شيء مختلف تماماً. إذ لا شيء يشير إلى أن حقيقة الكلمة أو صلاحية المفهوم أو واقعية المواطنة لابد لها من أن توجد في الفكرة التي تكوِّنها عنها جماعةٌ سكانية معينة، حتى وإن كانت جماعة تتألف من مواطنين. وإذا كان على حقوقي أن يستنبط فكرة المواطنة من الرأي العادي الذي يمكن أن يشكله المواطنون عنها، فلابد عندئذ لفيزيائي أن يستنتج ماهية المحرك الانفجاري بالرجوع إلى الفكرة العادية التي يكوِّنها سائقو السيارات عنه! وفي نظام حقوقي معين، فإن القانون إنما يتميز بوجود موضوعي، بصرف النظر عن ماهية التمثيل أو التصور الذي قد يكوِّنه عنه رعايا هذا النظام، حتى ولو كانوا مواطنين. على أن الحقوقي يعرف أن قواعد القانون إنما تنشأ وتعمل وتتطور بحسب المعتقدات والقناعات وتبنيات الضمائر ومكونات الوعي. ومن ثم فلا يمكن تعريف فكرة المواطنة تعريفاً عمومياً ومجرداً، شاملاً وغير متجسد، أي منفصلاً عن سياق ثقافي معين. فلأجل تعريفها، يجب الرجوع إلى الثقافة النوعية الخاصة التي تتشكل ضمنها الفكرة على المستوى الحقوقي. تحديد المواطنة تشكل المواطنة تعييناً وتسمية لعلاقة معينة للبشر بالعالم (والمقصود بالعالم هنا هو الكائنات البشرية)، مأخوذة في جوهرها السياسي والحقوقي والاجتماعي. وبشكل أساسي جداً، فإن المواطنة هي تلك العلاقة التي يهدف البشر من خلالها، بدلاً من تلقي نظام العالم على نحو ما قد يُفرض عليهم على هذا المستوى، إلى أن يقوموا هم أنفسهم، على العكس من ذلك، بتكوينه بحسب ما يتراءى لهم: وبهذا المعنى، فإن المواطنة إنما تشكل علاقة للبشر بالأمة. وبشكل أكثر تحديداً أيضاً، فإن علاقة البشر هذه بالأمة هي عينها العلاقة التي يشكلونها عامدين فيما بينهم. فالأمة تشكل إضفاء طابع مؤسسي على علاقتهم السياسية والاجتماعية والحقوقية، وهي تلك العلاقة التي يقومون هم أنفسهم، عبر مواطنتهم، بتحديد أشكالها. ومن ثم فإن الأمة إنما هي الجماعة الاجتماعية القادرة على تقرير مصيرها بنفسها على المستويين السياسي والحقوقي: أي الجماعة التي يشترك الناس كلهم ضمنها في تحديد القواعد التي تحكمهم تحديداً جماعياً وداّلاً على سيادتهم لأنفسهم. وهو تحديد ذو سيادة لأن المواطنة لا تُمنح للناس من جانب طرف ثالث، يمكنه من ثم تجريدهم منها أو إثقالها بالشروط أو تقرير مقاييسها؛ ثم إنه تحديد جماعي لأن المرء لا يمكنه أن يكون مواطناً بمفرده، وإنما فقط بالاشتراك مع نظرائه: إذ ليست هناك مواطنة دون تشارك في المواطنة. والحال أن التشارك في المواطنة هو بالفعل أسلوب من أساليب التعبير عن جوهر المواطنة، والتي تعني سلطة مشتركة وذات سيادة: فالمواطنون الشركاء، إذ يتداولون في الأمور فيما بينهم، إنما يعتبرون بالضرورة شركاء في التمتع بالسيادة؛ وإلاَّ فلن تكون هناك مواطنة، بل مجرد دعوة إلى الإدلاء بالرأي وإلى مشاركة وإلى تشاور وتنسيق … وهي أمور لا تعدو أن تكون إفرازات غير مؤكدة ناتجة عن المواطنة. وإذا ما كان بوسعنا بالفعل اقتراح تعريف للمواطنة، فإن هذا التعريف سوف يتلخص في أن المواطنة هي المسئولية التي يتحملها أفراد أمة من الأمم بعضهم تجاه بعض، وإنما أيضاً تجاه أنفسهم، في تكوين هذه الأمة عن قصد، وفي أن يحددوا، بشكل مباشر أو غير مباشر، وإن كان بشكل ديموقراطي وبشكل يتميز بالسيادة، قواعد تأسيسها وسير عملها. إلاَّ أننا لكي نتوصل إلى هذا التعريف، الذي لا ينبغي له أن يكون غير نتيجة ختامية، فإنه يتعين البدء بإعادة تكوين شروط إمكانيته، ثم تعميق عناصره التكوينية. شروط المواطنة لا مراء في أن الفكرتين الرئيسيتين اللتين تنجبان فكرة المواطنة هما فكرة الحرية وفكرة المساواة. والأولى ليست حرية العبد الهارب من بيت سيده: فهي لا تشكل هروباً، كما لا تشكل تملصاً ولا فراراً ـ وهي كلمات ما أكثر ما يجري الثناء عليها اليوم. إذ من الواضح أن الحرية هي بالأحرى مسئولية تتحملها الذات تجاه نفسها، وهي مسئولية لا تتمثل في عمل ما يريده المرء بقدر ما تتمثل في «القدرة على عمل ما يجب على المرء أن يريده»، إذا ما تبنينا الصيغة التي استخدمها مونتسكيو. وأياً كانت الافتراضات، فلم يعد هناك لا سيد ولا عبـد ـ من حيث المبدأ ـ، وذلك بقدر ما أن المادة الأولى من الإعلان [إعلان حقوق الإنسان والمواطن] تعلن أن جميع الناس أحرار ومتساوون في الحقوق. والثانية ليست المساواة في الظروف ـ والتي سوف تتم المطالبة بها فيما بعد ـ كما أعلن ذلك توكفيل، بل هي بالأحرى المساواة في الحقوق: وهذه المساواة، خلافاً للمساواة في الظروف، لا تمنع الحرية من إنتاج الفوارق الجوهرية التي تترتب على ممارستها. ولا يدور الحديث بعد عن مجرد حرية القدماء، التي هي حرية جماعية، حريةٌ ـ مشاركةٌ، الحرية السياسية التي يمكن للناس بفضلها أن يشاركوا في السلطة. فهي أولاً حرية المحدثين، التي هي حريةٌ ـ حكمٌ ذاتي، أي حرية شخصية: حرية الفرد في أن يتخذ قراره بنفسه فيما يتعلق بأهدافه وفيما يتعلق بالأساليب التي يجب عليه استخدامها لتحقيق هذه الأهداف. لكن حرية المحدثين لا ترفض بالمرة حرية القدماء. على العكس، إنها تُدخل فيها روحها لكي تُحَوِّل شكلها وتقوم بتفعيلها بشكل غير مسبوق وجذري. والواقع أن ارتباط الحريتين إحداهما بالأخرى وارتباطهما سوياً بفكرة المساواة في الحقوق سوف يسمحان لهما بهدم مجتمع النظام القديم عبر ثورة غير مسبوقة سوف تستوعبُ روحُها، في غضون قرن، كل أوروبا، ثم العالم بأسره. وفي سياق كهذا، يتصور الإنسان نفسه من ثم ككائن مفكر، من حيث الجوهر. وبصفته هذه، فإنه يتصور نفسه أيضاً كائناً حراً: حراً تجاه جميع الأعراف التي لا يجد عقله مبرراً لها. ولأنه يتصور نفسه بنفسه ويفكر أيضاً متمتعاً بالسيادة ـ بالكمال المطلق ربما ـ، فإنه يتصور نفسه بالضرورة وهو في العالم مثلما يفكر في العالم. ومن خلال عقله النقدي، يمكنه إذاً أن يحكم عليه، ومن ثم أن يقوم بتفكيكه. إلاَّ أن بوسعه أيضاً، بموجب عقله دائماً، أن يعيد بناءه. وهكذا فإن روح الحرية تريد أن تجعل من الإنسان «سيد ومالك العالم» ـ وهو ما لن يتأخر، في الواقع، عن إدعاء أنه قد صاره، بحكم إرادته ومشيئته نفسها. ومن ثم فإن الثورة مستنبَطَةٌ برمتها من الكوجيتو ايرجو سوم [أنا أفكر، إذاً أنا موجود] الذي أعلنه ديكارت: فهي [الثورة] إسقاط عملي لهذا الكوجيتو. وانطلاقاً من هذا الانقلاب الجذري الذي يحدث من ثم في الأدمغة، فإن الناس يكفون بالفعل عن تصور نظام الأمور الاجتماعية والسياسية وكأنه لابد وأن يكون النتاج، الذي لا مفر منه، لضرورةٍ تاريخية أو طبيعية أو مفارِقة ومجاوِزة للطبيعة، ليس لهم من سيطرة عليها. وإذ تصوروا أن لهم الصدارة في تحديد نظام هذه الأمور، فقد شاءوا إخضاعها لأنفسهم. وسعياً إلى إعادة بناء هذا النظام في اتجاه تحقيق هذا الهدف، فقد عادوا إلى الإستجارة بالحكمة المؤسِّسة لـ«حالة الطبيعة» التي قيل أنها سبقت «الحالة الاجتماعية». إذ أصبح بوسعهم أخيراً، في حالة الطبيعة هذه الافتراضية إلى حد بعيد، أن يتصوروا أنفسهم وكأنهم «بحكم الطبيعة» أحرار من الأعراف الاجتماعية القائمة. لاسيما وأن ازدواجية حالة الطبيعة والحالة الاجتماعية تفترض أن الناس أنفسهم هم الذين يحققون التحول من حالة إلى الأخرى. وهذا يسمح لهم بأن يعيدوا بأنفسهم تأسيس هذه الآصرة السياسية والاجتماعية بحسب مشيئتهم وحدها. لكنهم بتعريفهم لجوهرهم ولطبيعتهم ولـ«حقوق»ـهم «الطبيعية» بالإحالة إلى حالة طبيعة كهذه، تصوروا أنفسهم أحراراً من حيث الجوهر؛ وعندئذ صار بوسعهم أن يفترضوا أنهم قد أسسوا هذا المجتمع وقانونه بفضل حريتهم الجوهرية وبفضل استقلالية مشيئتهم، معتمدين في هذا التأسيس على اتفاق مشترك فيما بينهم: فقد أسسوا هذا المجتمع وقانونه عبر عقد من نوع خاص، هو العقد الاجتماعي الذي قاموا هم أنفسهم طبعاً بتحرير جميع بنوده التي تجعل منهم، على المستوى الحقوقي، أحراراً، متساوين، و، بشكل مشترك، سادةً ذوي سيادة على هذا المجتمع. وهنا نتعرف على «الاشتراك السياسي» الذي رمى إليه إعلانُ حقوق الإنسان والمواطن بشكل صريح في مادته الثانية. كما يجب أن نفهم لِمَ يفصِّلُ الإعلانُ الخصائص المتنوعة للكائن الإنساني، الذي هو بالتناوب صاحب حقوق أو فرد أو إنسان أو مواطن. فبحريته نفسها، والتي هي حق أصيل لكل واحد ويمكن للجميع التمتع بها، يجري الكف عن تصور الإنسان كرعية أو كسيد إقطاعي بحسب قَدَرِ مولده. «الناس يولدون ويبقون أحراراً ومتساوين في الحقوق». ذلك هو مجمل الأساس الأنثروبولوجي للثورة والذي يسجله الإعلان على نحو مكثف بدءًا بمادته الأولى. وهكذا، فعبر انقلاب استثنائي، هو بالفعل ثورة في حد ذاته، نجد أن الذات، التي كانت ذاتاً مملوكة لآخر على وجه الحصر، ذاتاً خاضعة، ذاتاً تتحمل أعباء واجبات أساسية أولية، قد أصبحت ذاتاً تنتمي إلى نفسها بشكل أساسي. فهي تصبح ذاتاً للفكر وللقول، ومن ثم سيدة للفعل، أي تصبح ذاتاً لحرية المرء: فهي في آن واحد، ذات تتمتع بحقوق أصيلة كما أنها صاحبة الحق، وذلك بشكل متساوٍ وبالارتباط مع نظرائها ـ وهي تصبح على الأقل صاحبة القانون، فمن خلال اللقاء الضروري بين مبدأ الحرية المتساوية ومبدأ الوجود الاجتماعي المشترك إنما يولد المبدأ الديموقراطي، وذلك بشكل لا يمكن مقاومته: فإذا كان الناس من حيث الجوهر يتميزون بوجود اجتماعي مشترك وإذا كانوا من حيث الجوهر أحراراً ومتساوين، فلابد أن يكون بوسعهم، من حيث الجوهر أيضاً، أن يقرروا معاً، بشكل يعبر عن سيادتهم وبشكل يتميز بالمساواة فيما بينهم، شروط وظروف حياتهم المشتركة: ومن ثم فإن الإنسان مدعو من حيث الجوهر إلى أن يكون مواطناً. والحال أن حرية الناس وإرادتهم وتاريخهم وعقلهم وقوتهم أو عنفهم هي التي سوف تحدد الموقع الذي يجب فيه من الناحية الحقوقية ممارسة مواطنتهم المشتركة ذات السيادة. ووفقاً لمبادئ القانون العام الحديث، فإن هذا الموقع هو الدولة، أياً كان الكيان الذي يتقلد السيادة، في قلب الدولة. وفي فرنسا، وبموجب إعلان عام 1789، فإن الأمة هي التي تشكل الكيان ذي السيادة: ومن ثم فإن السيادة تسمى سيادة قومية. على أن دستور عام 1958، في مادته الثالثة، ينص بشكل ملتبس على أن «السيادة القومية تعود إلى الشعب، الذي يمارسها من خلال ممثليه وعن طريق الاستفتاء». فعن طريق صيغة كهذه، أراد كاتبو النص الجمع بين المفهومين، القومي والشعبي، للسيادة. وأياً كان الأمر، فإن السيادة تنطوي من جانبها على وحدة الموقع الحقوقي الذي تُمارس من خلاله، أو وحدة الكيان الذي يحق له تقلدها، أياً كان، الأمة أم الشعب: فالواقع أن السيادة إنما تنطوي على انفراد الموقع الذي يتولاها بممارستها. فبما أن السيادة سلطة عليا، فإنه لا يمكن لعدة مؤسسات أو مستويات ممارستها في آن واحد، بشكل متساوق، على أشياء متطابقة يتم تحديدها بشكل سيادي من جانب كل كيان من هذه الكيانات ـ إلاَّ إذا افترضنا ضرورة اتفاق هذه الكيانات على تحديد قواعد، كما يحدث ذلك في النظام الدولي، المعمول به فيما بين الدول. وبمجرد انتماء السيادة إلى كيان خاص، هو الأمة، الشعب، المجتمع بأسره، فسوف يبدو، على أساس المبادئ المذكورة أعلاه، أن جميع الناس الذين يشكلون هذا الكيان يمكنهم أن يكونوا مواطنين. لكن الأمر لن يكون كذلك بالضرورة، لأن هذه المفاهيم كلها ليست متماهية فيما بينها؛ وهذه الكيانات لا تتكون بالضرورة من مجموع الأشخاص المنتمين إليها. ثم إن المفهوم الكلاسيكي للمواطنة، وهو مفهومنا على أية حال، إنما يميز بين الإنسان والمواطن، وهو ما يفرضه بجلاء عنوان إعلان عام 1789 نفسه. وحتى إذا كان هذا التمييز بين الإنسان والمواطن قد ساعد، في الماضي، على تبرير فرض قيود على حق الاقتراع، وإذا كان لا يكاد يُعَدُّ مفهوماً اليوم، إلاَّ أنه يظل مبرَّراً تماماً من حيث مبدأه وثميناً من حيث النتائج المترتبة عليه، لأن المواطنة هي بالنسبة للإنسان شكل معين من أشكال وجوده يكفل حقوقه. وتذبذب فكرة الفرد إنَّما يعبر عن جانب من الإزدواجية فيما بين الإنسان والمواطن. وفي معناها الأول، وهو المعنى الأكثر شيوعاً، فإن فكرة الفرد إنما تحيل إلى فكرة الفردية، والتي تفترض أن كل فرد ندرسه سوف يبدي سمات أصيلة تخصه. والحال أن الناس من حيث هم أفراد نوعيون، يتميزون باستقلاليتهم وبذاتيتهم التي لا تقبل الاختزال وبمصالحهم الخاصة، قد عقدوا فيما بينهم، بحسب الظن الشائع، العقد الاجتماعي الافتراضي، لأجل تأسيس الآصرة الاجتماعية والسياسية والحقوقية، سعياً إلى ضمان حقوقهم الأصيلة على أفضل نحو ممكن. وهو ما تنص عليه صراحةً المادة الثانية من نص عام 1789: «إن هدف كل اشتراك سياسي هو صون حقوق الإنسان الطبيعية وغير القابلة للزوال. وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الاضطهاد». لكن كلمة الفرد، في معناها الثاني الذي يكشف عنه اشتقاقها، إنما تعني ما لا يعود بالإمكان تقسيمه. ثم إن الفرد نتاج لانقسام الجماعة على نفسها، وهو الانقسام الذي يتميز بأكثر تناهٍ ممكن، إلى العنصر الذي لا يقبل القسمة، أي عندما لا يكون بوسع الانقسام أن يؤدي إلى انقسام أصغر: وعندئذ فإن الفرد لا يعود بالإمكان أخذه في شخصيته النوعية، وإنما أخذه من حيث هو ذَرَّةٌ اجتماعية. وهذه المرة، لا يعود المجتمع من ثم هو الذي ينبثق ويتكون من أفراد: فالفرد هو الذي ينبثق من المجتمع. وهو [الفرد] يشكل وحدته [وحدة المجتمع] القاعدية ويقيمه من حيث هو وحدة غير متمايزة ولا شخصانية. والحال أن الشكل الذي يستوعب به القانون الذوات صاحبة الحقوق هو بالتحديد ما يجعل هذه الذوات ذرات اجتماعية؛ والقانون لا يريد بشكل محدد استبقاء الخصائص النوعية الشخصية لهذه الذوات، لأنه لا يسعى إلى إجراء تمييز في الأصل أو الرأي أو المعتقد بينها … فهؤلاء الأفراد هم من حيث المبدأ، بالنسبة له، لا اسم لهم ولا جنس (sexe) ولا عمر ولا حالة ولا دين ولا محل إقامة جغرافياً أياً كان … ومن ثم يمكننا أن نفهم في أي شيء تُعَدُّ هذه الخاصية، خاصية الفرد المجرد من الفردية، غاليةً إلى أبعد حد: فهي التي تضمن، على المستوى التقاني، كلاً من المساواة والحرية في آن واحد. والواقع أنه بما أن وضعية الفرد هذه مشتركة بين الجميع فإنها تُعَدُّ في الوقت نفسه متساوية بين الجميع. ولأنها لا تراعي الخصائص النوعية الشخصية ولأنها من ثم تعد مجردة ولا شخصانية نسبياً، فإنها تبقى عامةً نسبياً في متطلباتها، الأمر الذي يحفظ بالمثل الحرية للجميع. الجوهر النوعي لفكرة المواطنة غالباً ما يجري خلط المواطنة بإجراءات إعمالها أو بأهدافها أو بصلاحياتها أو بامتداداتها. وهكذا نجد ميلاً إلى تصور أن ممارسة المواطنة تتم ما أن يتم اقتراع أو انتخاب. وهذا الخلط، الرائج بشكل يدعو إلى الدهشة، إنما يسهل تبديده: فالبابا، مثلاً، يتم انتخابه من جانب مجلس، هو مجمع الكرادلة، لكن أحداً لم يزعم قط أن هؤلاء الكرادلة إنما يتصرفون بذلك كمواطنين أو أن البابا هو رئيس ديموقراطية! والاقتراع والانتخاب يمكن تحليلهما ببساطة على أنهما مجرد أداتين إجرائيتين للمواطنة، بوسعهما أيضاً خدمة أغراض وغايات أخرى: فهما لا يشكلان لا جوهر المواطنة ولا المعيار الوحيد لها. ومن المؤكد أن المواطنة تنطوي على المشاركة في قرارات أو في انتخابات ويمكن فهمها على أنها جمع بين حقوق ومشاركة. إلاَّ أنه لا يمكن أن نستنتج من ذلك أن مجرد المشاركة في اتخاذ قرار أو في انتخابٍ من شأنه أن يخلق ويصنع المواطن: فنحن نناقش ونصوت في مجالس المُلاَّك المشتركين لبناية لكي نقرر، مثلاً، إعادة طلاء السلم أو لكي ننتخب مجلساً نقابياً. إلاَّ أن من الواضح أن هذا التشاور واتخاذ القرار وهذا الانتخاب لا يكفيان لاعتبار هؤلاء الملاَّك المشتركين للبناية «مواطنين للبناية» ! كما أننا نمارس التصويت في جمعيات حملة الأسهم أو الروابط أو الأحزاب السياسية أو النقابات، إلخ. وهناك ما يحمل على تصور أن كل هذه الأمثلة تمس المواطنة، فهي تتصل كلها بحقوق الإنسان. إلاَّ أنه حتى إذا كانت حقوق المواطن وحقوق الإنسان تحتفظ فيما بينها بعلاقات جد وثيقة، فإنه لا يمكن مماهاة الحقوق الأولى بالحقوق الثانية. وهكذا فمن الواضح أن المواطنة تفترض المقدرة على المشاركة في اتخاذ قرارات ديموقراطية؛ والديموقراطية، الديموقراطية الليبرالية على الأقل، تحدد هدفها في ضمان حقوق الإنسان. ثم إن من الواضح أن الديموقراطية، حتى تتسنى ممارستها، إنما تتطلب احترام حقوق الإنسان. إذ كيف يمكن للمرء أن يعبر عن نفسه أو أن ينتخب أو أن يدلي بصوته على نحو ديموقراطي لو لم يكن يملك، بالأخص، حرية المعلومات؟ على أنه، ناهيك عن أن الهدف لا يختلط بالوسائل، فإن ما يحقق شرط الأشياء لا يحقق جوهرها: فأثينا كان بها مواطنون، لكن فكرة حقوق الإنسان كانت غريبة عنها تماماً. ومن ثم فلا يمكن إذابة حقوق المواطنة في بند حقوق الإنسان، ولا القيام بالعكس، كما يميل البعض إلى عمل ذلك بشكل متزايد الشيوع. وبوجه خاص، فإنه لا يمكن اعتبار حقوق المواطنة حقوقاً للإنسان، ولا هذه الأخيرة حقوقاً للمواطنة، وذلك بسبب معطى موضوعي آخر، عضوي بشكل دقيق (وإن كانت ترفضه مفاهيم أخرى للمواطنة): ليس كل البشر مواطنين؛ وإذا كانت حقوق الإنسان تفيد جميع البشر، مواطنين أم غير مواطنين، فمن الواضح أن حقوق المواطنة لا تعود إلاَّ إلى المواطنين. وهذه الاعتبارات كلها إنما تتطلب توضيح الجوهر النوعي للمواطنة. إن جوهر المواطنة، في ديموقراطية حديثة، إنما يكمن في المشاركة، المباشرة أو غير المباشرة، ولكن المعبرة عن السيادة المشتركة، في بناء وتنظيم الأمة. وهي تتمثل في المقدرة، المنصوص عليها في القانون،على تحديد القواعد الأساسية لحياة الأمة، وهذه القواعد هي الدستور والقوانين. وهي تشمل المقدرة، الممارسة ضمن الشروط نفسها، على المصادقة على الضريبة والمصادقة على النفقات العامة للأمة؛ كما أنها تشمل حق المواطنين في المشاركة في صوغ أو في تطبيق القانون، وذلك بوفرة من الأساليب والأشكال، أكان على شكل حكام ومحافظين أو قضاة أو موظفين أو منتَخَبين أو محلَّفين في المحاكم أو أعضاء في قوة عامة، مدنية أو عسكرية؛ وهي تشمل أيضاً المقدرة على الممارسة، غير المباشرة أو المباشرة، لرقابة معينة على الموظفين العموميين، بالمعنى الأوسع، وهي رقابة تشمل جميع الأجهزة التي تتمتع بسلطة عامة. لكن طول قائمة صلاحيات المواطنة ـ والذي لا يهم هنا سوى القانون العام الفرنسي ـ لا يجب أن يخلق الأوهام: إذ يجب الحكم على واقع المواطنة ليس بقدر عدد تطبيقاتها الخاصة، وإنما بالأحرى بقدر رسوخ أساسها. والحال أن الركيزة الأساسية للمواطنة إنما تكمن ببساطة في الحق الأساسي لكل مواطن، في أن يشارك مشاركة فعلية، بشكل أو بآخر، في ممارسة السيادة نفسها، والتي تتألف من التمتع بحق قول الكلمة الأولى و/أو الأخيرة أو، كما يقال في القانون، بالحق في التمتع بصلاحية الصلاحية. وما لم يتمتع هؤلاء المواطنون بهذه السلطة بوصفها سلطة أساسية، فإنهم لن يحوزوا في الواقع أية سلطة مهمة بالفعل، إذ من الوارد أن يجدوا أنفسهم محرومين من كل صلاحية، دون أن يكون بوسعهم الشكوى من ذلك محقين، ما أن يكفوا عن أن يكونوا سادة قواعد القانون الأساسية؛ وفي هذه الحالة، فإنهم لن يكونوا مواطنين فعلاً. وهذا هو معنى السيادة القومية الذي تكرسه المادة الثالثة من إعلان عام 1789: «إن مبدأ كل سيادة إنما يكمن من حيث الجوهر في الأمة. ولا يمكن لأية جماعة ولا لأي فرد ممارسة سلطة لا تصدر عن الأمة بشكل صريح». والمادة الثالثة من دستور عام 1958 تعيد تسجيل المبدأ نفسه، انطلاقاً من الجمع الذي تجريه بين مفهوم السيادة القومي ومفهوم السيادة الشعبي: «السيادة القومية تعود إلى الشعب […]. ولا يمكن لأي قسم من الشعب ولا لأي فرد اغتصاب ممارستها». وبصرف النظر عن هذا الالتباس، فإن هذه السلطة العليا لا يمكن أن تكون إلاَّ واحدة: فهي تعبر عن «الإرادة العامة» للكيان صاحب السيادة. وبهذا المعنى يجب أن نفهم المادة السادسة من إعلان عام 1789 والتي ترى أن «القانون هو التعبير عن الإرادة العامة» وتضيف أيضاً أن: «جميع المواطنين لهم الحق في المساعدة بصورة شخصية أو من خلال ممثليهم على صياغته». وفي هذه الظروف، فإن المواطنين، بانصياعهم للقانون، إنما لا ينصاعون، على ما يبدو، إلاَّ لإرادتهم الخاصة. وهنا نجد على المستوى الحقوقي التعبير الأكثر كثافة والأكثر كلاسيكية عن الديموقراطية الفرنسية وحقوق المواطن. والعنصر الثاني المميز للمواطنة هو أنها عامة من حيث الجوهر. وبالإمكان التعبير عن الفكرة نفسها بالإشارة إلى أنه لا يمكن أن تكون هناك مواطنة إن لم تكن هناك جمهورية ـ بالمعنى الأصيل للـ res publica ـ شيء مشترك بين جميع المواطنين، منفعة عامة غير منقسمة بينهم: مؤسسة أقاموها، وذات وجود موضوعي، وعامة بهذا المعنى. ثم إن الناس ـ الناس بوجه عام ـ إنما يحتفظون في داخل المجتمع بعلاقات فيما بينهم من حيث هم أشخاص خاصون ـ وذلك بقدر ما أننا نتذرع بمبدأ الفصل بين المجتمع والدولة. وإذا ما نظرنا إلى الأمر الآن من زاوية النظام الحقوقي العام، فإننا نرصد أن هذا النظام إنما يختص بالأحرى بأصحاب الحقوق الذين تتجلى حقوقهم وواجباتهم في العلاقات الخاصة أو العامة بحسب ما إذا كانوا في علاقة مع صاحب حقوق (خاص) آخر أو مع سلطة عامة. لكنهم لا يظهرون كأعضاء في الجماعة العامة التي يشاركون في صوغ وفي تنفيذ قراراتها إلاَّ من حيث كونهم مواطنين. ومن هذه الزاوية، فإن المواطنين هم من ثم أعضاء جسم عام حتى وإن كانوا فضلاً عن ذلك أصحاب حقوق يمكن أن تكون لهم نشاطاتهم الخاصة أو يمكن، من حيث كونهم منتفعين بخدمات عامة، حكمهم من خلال وضعية عامة ليست وضعية المواطن. ثم إنهم، بممارستهم سلطاتهم كمواطنين، إنما يمارسون وظائف عامة لا حريات أو حقوقاً ذاتية. وهذا يعني أن المواطنين، في ممارستهم سلطتهم، ليس من المتوقع منهم أن يقرروا مصيرهم من زاوية مصالحهم الشخصية، الخاصة، التي يجب عليهم تجاوزها، وإنما من زاوية المصالح العامة للجماعة أو من زاوية المصالح المشتركة لمجمل أعضائها. وفي مقام ثالث، فإن المواطنة، على نحو ما يجري تصورها في فرنسا، إنما تفترض صلة مباشرة وحصرية بين المواطنين والأمة أو الشعب. ونود أن نشير بذلك إلى أن هذه الصلة لا تقوم بين الجماعة العامة وكيانات جماعية خاصة، كطوائف الحرف أو الطبقات أو المراتب الاجتماعية في عهد النظام القديم، أو أيضاً كالأعراق أو الطوائف الدينية أو أي نوع آخر من الجماعات الاجتماعية، بل تقوم بشكل مباشر تماماً بين الجماعة العامة وأفراد مستقلين، أحرار. والمقصود من هذا المبدأ الدستوري أن الجماعة العامة إنما تتجسد كلها جماعياً في كيان واحد، في العمومية التي لا تنقسم لأعضائها الأفراد، أي للمواطنين. ثم إنه في حالة القانون الدستوري الفرنسي، وكما حكم بذلك المجلس الدستوري بالفعل، فإنه لا يمكن أن يكون هناك «شعب كورسيكي»، حتى وبالأخص من حيث هو«أحد عناصر الشعب الفرنسي». وإذا كان المواطنون لا يتميزون بآصرة جهوية خاصة في داخل فرنسا، فإنهم لا يشار إليهم أيضاً من حيث جنسهم (sexe) وذلك بقدر ما أن الدستور لم يفرض على المشرِّع تأكيد تناظر بين الرجال والنساء في تقلد الولايات الانتخابية السياسية. وأخيراً، فمن المؤكد أن المواطنة، من حيث طبيعتها، هي وظيفة ومن ثم مسئولية. وبهذه الصفة، فإنها تنطوي، هي نفسها، بشكل مشترك، على حقوق والتزامات، وعلى سلطات وواجبات. على أن حقوق والتزامات المواطنين، أياً كانت افتراضاتنا، لا يمكن اختزالها في حقوق والتزامات أصحاب الحقوق الخاصة. فالأولى والثانية ليستا منظَّمتين لأجل غايات واحدة. حيث أن الثانية إنما تُمَارَسُ من أجل المصلحة الخاصة لأصحابها، بينما تُمَارَسُ الأولى من أجل مصلحة الجماعة نفسها أو من أجل مصلحة جميع أعضائها، دون تمييز. ومن المؤكد أنه غالباً ما يجري إرجاع المواطنة إلى «الحقوق المدنية» وحدها، أي، من جهة، إلى حق التصويت في الانتخابات وفي الاستفتاءات و، من جهة أخرى، إلى حق الترشح في الانتخابات السياسية. وفيما يتعلق بالمادة الثالثة من الدستور الحالي، والمكرَّسَةُ للسيادة، فإنها تنص على أن: «الناخبين، ضمن الشروط التي يحددها القانون، هم جميع الرعايا الفرنسيين البالغين من الجنسين والمتمتعين بحقوقهم المدنية والسياسية». ومن ثم يمكننا أن نستخلص من ذلك أن المواطنة إنما تتلخص في هذه الحقوق المدنية. وهذه نظرة منتشرة، إلاَّ أنها حصرية تماماً. فالواقع أنه، بعد الثورة مباشرة، كان هناك مواطنون سلبيون، كانوا، بالرغم من عدم قيامهم بالإدلاء بأصواتهم، مواطنين على أية حال؛ وكانت النساء يعتبرن «مواطنات»، حتى قبل تدشين حق الاقتراع العام. ومن ثم فإن المواطنة لا تتلخص في الأهلية للاقتراع. بل إن المواطنة لا تتلخص بالكامل في الانتخاب أو في حق المشاركة، المباشرة أو غير المباشرة، في القرارات الرئيسية للجماعة. ثم إن الروح التي تُمَارَسُ فيها هذه السلطة إنما تكشف عن بُعد آخر للمواطنة، لا يجري ذكره بما يكفي: حق كل واحد من أعضاء الجماعة، أكان يتمتع بحق الاقتراع أم لا، في أن يتم تمثيله. والواقع، في روح الديموقراطية كما تفهمها الجمهورية، أن القانون قانون للجميع، بمن في ذلك غير الناخبين، أو بمن في ذلك من لا يشاركون في سَنِّه أو من لا يتم انتخاب مرشحيهم. وإذا ما نظرنا إلى المواطنة كما تصورها قانوننا العام الكلاسيكي من الناحية العملية، فسوف يتعين أيضاً أن نشير إلى أن فكرة المواطنة قد عبرت عن مجمل الروح التي جرى فيها تصور العلاقات بين أصحاب الحقوق والجماعة العامة أو الـ res publica ، والتي لا جدال في أن معناها آخذ الآن للأسف في التحلل. وفي هذا الصدد، يمكننا تصور أن البقاء والحضور، في القانون العام الفرنسي، لتيمة السلطة العامة، التي هي إمبريالية بأكثر من كونها جمهورية، قد أفسدا بشكل واضح مفاهيم المواطنة والـ res publica. فهما قد مسخا هذه المفاهيم إذ اعتمدا تلك الفكرة التي تذهب إلى أن السلطة إنما تنبثق بشكل أصيل عن هذه السلطة العامة، وإذ اختزلا المواطن في مجرد وضعية الناخب. ثم إن المواطنة من حيث هي وظيفة ومن حيث هي مسئولية إنما تفسر كونها تشتمل ليس فقط على حقوق أو على سلطات، بل تشتمل أيضاً على مسئوليات أو واجبات أو التزامات، كالواجب الانتخابي والخدمة القومية والمسئوليات العامة وأداء الضرائب أو المشاركة في هيئات المحلَّفين في المحاكم: إذ لا يمكن لجماعة أن توجد وأن تعمل إلاَّ إذا قبل أعضاؤها شروطها الضرورية. لكن هذه الشروط لا تبدو لهم غير محتملة إلاَّ بدءًا من اللحظة التي يكفون فيها عن التعرف على أنفسهم في هذه الجماعة ويكفون فيها عن اعتبار أنفسهم مسئولين عنها. ومن الواضح أن هذا كله إنما يشير إلى أن من شأن تطور للأذهان أن يهيئ دوماً لتطور للقانون، وأنه يتوجب من ثم إيلاء كل الانتباه اللازم إلى الضغوط التي تضغط اليوم بقوة شديدة على فكرة المواطنة. الضغوط على المواطنة من الوارد أن يبدو نموذج المواطنة الذي تَكَشَّفَ لنا للتو على أنه نموذج دوجمائي. والواقع أنه يتبدى لنا بهذه الصفة بالفعل. إلاَّ أنه كيف يمكن للأمر أن يكون بخلاف ذلك إن كانت قواعد القانون تستند بالضرورة إلى رؤية للعالم وللمجتمع وللإنسان، على شكل حقائق، وكانت تستند إلى مبادئ مستنبطة من هذه الحقائق ؟ ومن ثم فمن الوارد أن تبدو هذه العقائد الجامدة (dogmes) وكأنها قد أكل الدهر عليها وشرب أو أنه قد تجاوزها بالفعل، فيما يتعلق بتطور الممارسات أو الآراء، هذه المَّرة. ومن المؤكد أن هذا هو ما يحدث اليوم فيما يتعلق بالمواطنة. فالممارسات الاجتماعية لم تعد متماشية تماماً مع هذه المبادئ، والآراءُ السائدةُ لم تعد تؤيدها بالفعل. بل إنه يبدو أن هذا الاتجاه هو الذي يفسر نوعي الضغوط، جد المرتبطين أحدهما بالآخر، في هذا الصدد، واللذين يضغطان اليوم على المواطنة: وبوسعنا تمييز الضغوط التي تمس المواقع الحقوقية التي يتوجب ممارسة المواطنة فيها، ثم الضغوط التي تخص مسألة الأشخاص الذين يجب لهم التمتع بها. مواقع المواطنة منذ الثورة، تركزت المناقشة دوماً حول معرفة ما إذا كان المرء مواطناً في داخل الأمة، كما افترضت ذلك الجمعية التأسيسيةُ، أو ما إذا كان مواطناً من حيث هو عضو من أعضاء الشعب، كما أعلن ذلك المؤتمر [اليعقوبي]. واليوم، فإن المبدأ الذي نبحث عنه في أساس المواطنة إنما يؤدي إلى المطالبة بها في جميع مواقع الحياة الاجتماعية تقريباً، وذلك باعتبار المواطنة أداة للدمج الاجتماعي. وقد رأينا تجلي مبدأ هذا التعارض بين هذين المفهومين للسيادة [المفهوم القومي والمفهوم الشعبي] في جميع منعطفات النقاشات الحالية التي تطرحها المواطنة. وذلك لأن ما هو محل تساؤل من حيث الجوهر هو دوماً مسألة أساس المواطنة نفسه: هل يستند مبدؤها إلى انتماء الأشخاص إلى كيان جماعي يتجاوزهم ويحولهم إلى مواطنين، أم أن مبدأ المواطنة ينبثق مباشرة من خصائصِ أو من الحقوق الأصيلة للأشخاص الذين يؤلفون هذا الكيان؟ وبحسب الإجابة المقدمة، فإن المواطنة ليست واحدة بالضبط، والقواعد التي تؤدي إلى تفعيلها تتباين فيما بينها تبايناً جوهرياً. وفي الافتراض الأول، والذي يتشكل نموذجه من مذهب السيادة القومية كما تسنى لسييس صوغه، فإن المواطنة إنما تظهر تقريباً كملحق لقيمة أخرى، لها السيطرة الواضحة، وتتمثل تحديداً في الأمة. ومن حيث كونهم مواطنين، فإن الأشخاص إنما يعدون في هذا المنظور أقل أهمية بكثير: فهم لا أهمية لهم، على مستوى الاعتراف بالمواطنة، إلاَّ إذا أمكنهم أن يثبتوا أولاً، عبر هويتهم، انتماءهم إلى الأمة. فالأمة هي التي تجعل منهم رعايا، ثم، عند اللزوم، مواطنين؛ إلاَّ أن من المؤكد أن المواطنين ليسوا هم الذين يخلقون الأمة؛ وأن الأمة هي صاحبة السيادة، بأكثر بكثير من المواطنين. وفي الافتراض الثاني، الذي يتحقق هو نفسه في إطار المفهوم الشعبي للمواطنة، فإن الكيان الجماعي، وهو الشعب هنا، قلما يتميز بوجود خاص خارج الأشخاص الملموسين الذين يؤلفونه ـ إن لم يكن، دون ريب، بموجب الرؤى الأكثر جماعية لفكرة السيادة الشعبية والتي تسنى لها، في فرنسا على الأقل، أن تنزرع في المفاهيم الناشئة عن هذا التمثيل للسيادة. ومن نواح معينة، ليس هذا الشعب غير الجسد الجماعي الذي أقامته أطراف العقد الاجتماعي. ومن المؤكد أن مؤسسة الجسد الاجتماعي إنما تحل محل الاتفاق الأصلي، كما رأى ذلك روسو. وهنا، في الأصل على الأقل، فإن حقوق الناس الأصيلة، حريتهم ومساواتهم وإرادتهم، هي، بالأحرى، التي تصنع المواطنين، بشكل غير مباشر. لكننا نرى اليوم أن ما يتعين إعادة تأسيسه باستمرار، كاتجاه ملحوظ وبحسب الرأي المسيطر، هو المؤسسة، التي يجب إعادة تأسيسها على الاتفاق وأن الأطراف يجب أن تسهم في ذلك من جديد حتى يجد الاتفاق مشروعيته الكاملة. وهكذا فإن المواطنين لا يظلون شركاء في السيادة على الجسد الاجتماعي غير منقسمين إلاَّ لأنهم يظلون، في اعتقادهم، شركاء في التعاقد على تكوين آصرة سياسية واجتماعية فيما بينهم؛ فهم يرون أنه ليس صحيحاً من ثم أن المؤسسة هي التي تجعل منهم مواطنين، بل إنهم هم، بالأحرى، الذين يشكلون أنفسهم كل يوم كمواطنين، بحكم ما لهم من حقوق ذاتية. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، فإن كل شيء يجري وكأن مبدأ المواطنة لا يجب أن يستند إلى انتماء المواطنين إلى كيان يعترف لهم بهذه الخاصية، أكان هذا الكيان هو الأمة أو الشعب، بقدر ما يجب أن يستند بشكل متزايد دوماً إلى عين واقع أنهم بشر. ومثلما يستخلصون بشكل مباشر، من هذا الواقع وحده، مختلف الاستنتاجات التي يستمدون منها، بشكل فوري أو مباشر، حقوقاً حقيقية، فإنهم يتوصلون منذ تلك اللحظة فصاعداً إلى الإيمان بأنهم إنما يستمدون حقهم في المواطنة من كونهم بشراً لا أكثر ومن كونهم يحيون حياة اجتماعية مشتركة لا أكثر. ومن الواضح أن عين المبدأ الذي يسمح لهم بعقد الآصرة السياسية والحقوقية لا يختزل، في هذه الظروف، آثاره عند مجرد تأسيس الأمة العامة فحسب: فهذا المبدأ يمكن أن ينطبق على ما لا نهاية له من الكيانات في داخل هذه الأمة العامة. إذ يمكن أن ينطبق على كل تلك الكيانات التي قد تنزع حريةُ وإرادةُ الأشخاص إلى إقامتها، على أساس هويات مشتركة أو مصالح مشتركة. والحال أننا لم نعد اليوم نتصور أيَّ تشارك اجتماعي دون المطالبة في الوقت نفسه، من جانب كل كيان اجتماعي، بـ«مواطنة جديدة»! وهكذا، فعن طريق معاودة الاتصال عبر هذا السبيل بنماذج تسنى لتاريخ الأفكار أو الأساطير ـ وإنما أيضاً تاريخ المجريات الواقعية، أحياناً ـ أن يصوغها، فإن أشكال النزعات الفيديرالية والإقليمية والبلدية والجماعاتية المختلفة إنما تريد مواطنيها. على أن هذه الحركة تمتد إلى ما وراء هذه الكيانات؛ ويقال اليوم أن المواطنة يجب أن تُمَارَسَ أيضاً في إطار الحي والمشروع الاستثماري والمدرسة والجامعة والخدمة العامة والجماعة الإثنية والطائفية الدينية. بل لقد جرت المطالبة بممارسة المواطنة في داخل الكنيسة الكاثوليكية ! فإنسان اليوم يرى أو يريد الحصول على المواطنة «في كل موقع» ! وهذا الانتشارُ المطَالَبُ بهِ لمواقع المواطنة يمكن تفسيره بأشكال مختلفة كما يمكن أن ينطوي على معانٍ متنوعة. ونحن نرى لهذا الانتشار معنيين رئيسيين. حقوق المواطن كحقوق للإنسان بادئ ذي بدء، لن يدهشنا هذا الانتشار إذا ما عرفنا كيف أن الرأي العام يخلط بهذه الدرجة أو تلك بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن: فالمعنيون إذ يطالبون بالأخيرة إنما يريدون في الواقع الأولى. وعن طريق هذه المطالبة، فإنهم يعبرون عندئذ عن مجرد تمنيهم الحصول، ضمن هذه الكيانات الاجتماعية، على مزيد من الحرية ومزيد من الاستقلالية ومزيد من المراعاة ومزيد من المشاركة في جميع صور الحياة الاجتماعية. وبشكل عام، يبدو من الواضح أن تيمة «المواطنة الاجتماعية» إنما تُعَدُّ تعبيراً عن طموح، مشروع تماماً، إلى ما لم يتسن لخاصية الكائن البشري، الكائن الاجتماعي، صاحب الحقوق، «المواطن السياسي» إشباعه: أي الطموح إلى الاندماج المتناغم في المجتمع، على جميع المستويات، الاقتصادية والمهنية والثقافية و، بمنتهى البساطة، الإنسانية، وهو طموح يراود جماعة كاملة من الأشخاص المستبعدين اليوم من المجتمع. فعندما يقول هؤلاء الأشخاص أنهم يريدون «المواطنة»، فإنهم إنما يقصدون في الواقع أنهم يريدون «الاندراج في المجتمع»، لأن الانتماء إلى «مجتمع مدني» إنما ينطوي على تمتع المرء فيه أيضاً بعدد من القدرات وبعدد من الحقوق التي تسمح بالتواجد وبتحقيق الذات في هذا المجتمع دون أن تكون هذه الحقوق بالضرورة حقوق مواطنة بالمعنى الصحيح، أي حقوق مواطنة سياسية. وبالمثل، فإن ممارسة المواطنةِ الحقيقيةِ لا جدال في أنها تتطلب شفافية الإدارة. فمجرد صفة المستفيد أو المدار لا تعني البتة أن يكون المعنيون مستبعدين، من جانب الإدارة، من معلوماتها الخاصة ومن خياراتها ومن إجراءاتها. فأشكال الاستبعاد هذه إن هي إلاَّ نتائج نموذج إدارة نراه في الدولة الإدارية، أو دولة السلطة العامة، وهو نموذج ما تزال الإدارة الفرنسية مرتبطة به ارتباطاً صارخاً. ومن ثم فإن الدعوة إلى «المواطنة الإدارية» إنما تعني شجب مناهج الإدارة التي تهدف إلى عدم تقديم كشف محاسبة لها عما تفعله، إلى أيٍ كان. لكن هذا النموذج ليس نموذج إدارة لجمهورية ديموقراطية أو لدولة قانون مأخوذتين بصفتيهما هاتين. وإذا زعمت فكرة «المواطنة الإدارية» اتخاذها ساحة الحق موقعاً لها، فمن أهم ما يترتب على ذلك إدخال تشوش جسيم على توزيع سلطات ومسئوليات كل واحد. لأنه، مهما كان ما يمكن أن تكون عليه أهمية جميع حقوق المنتفعين والمدارين، فإنهم لا يمكنهم أن يحتفظوا، مع الإدارة، بعلاقةِ مواطنةٍ حقيقيةٍ: فالإدارة ليست جمهورية (وكل إدارة خاصة ليست، من باب أولى، جمهورية!). إن الإدارة، بجميع فروعها، هي جهاز من أجهزة الدولة. وفي دولةٍ جمهورية وديموقراطية، تخضع الإدارة لقوانين يقرها المواطنون أو ممثلوهم لكنها لا تخضع لمنتفعين يدَّعون أنهم مواطنون، بينما هم لا يتقلدون أياً من مسئوليات المواطنين. والحال أن الخلط بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن، وهو خلط حدث مؤخراً جداً، إنما يظهر غالباً كخلط مقصود ولا يرجع إلى مجرد الخطأ. إذ يبدو أنه يعني أن حقوق المواطنة أصبحت تُؤخذ بشكل مطرد على أنها حقوق للإنسان: فهي لها عين طبيعتها وعين هدفها وعين نظامها، بما أنها تستند إلى الأساس عينه. وإذا كان الأمر كذلك، فإن المطابقة إنما تعني أن حقوق المواطنة يمكن تحليلها بالشكل عينه على أنها الحق الأساسي في حرية أصحاب الحقوق: أي كاستقلالية أساسية وكنوع من السيادة الشخصية الأصيلة، الأساسية، التي لا تخضع البتة لإرادة كيان ثالث ما يعترف بمبدئها وينظم ممارستها الجماعية والعامة. فالحي سوف يكون مستقلاً في داخل الكومينة، مثلما ستكون الكومينة مستقلة في داخل الدولة؛ ولن تعتمد الجماعة الثقافية أو الدينية أو الإثنية على أيٍ كان لكي تحدد القواعد التي تنطبق عليها أو تنطبق في داخلها. حقوق الإنسان كحقوق للمواطن في المقابل، يمكن تصور حقوق الإنسان على أنها حقوق للمواطن. وبتعبير أدق، فإن المواطنة يمكن فهمها على أنها الوسيلة المباشرة لتحديد هذه الحقوق من جانب المعنيين أنفسهم، أي من جانب أولئك الذين يطالبون في آن واحد بهذه الحقوق وبهذه المواطنة. وفي هذه الحالة، فإن الوضع إنما يصبح، بشكل مفارق، أكثر جسامة بكثير، وذلك بقدر ما أن هذه المطالبة تعني عندئذ أن هؤلاء المواطنين يكفون، بشكل واعٍ تماماً، عن قبول أن صاحب السيادة هو المستوى الذي يحدد حقوق الإنسان هذه. وهكذا فإن سلطته في هذا الصدد، إنما تبدو محل رفض سافر، وذلك تحديداً لصالح الكيان الذي تجري المطالبة في داخله بالاعتراف بمواطنة. وعندئذ فإن هذه المواطنة النوعية تجرى المطالبة بها بوصفها سلطة جديدة تنازع المشرِّع في سيادته: وتحت غطاء المواطنة، فإن ما تجري المطالبة به في الواقع هو الاستقلالية. ثم إنه إذا كان كل كيان جديد مطالِبٍ بحقوق المواطنة لأعضائه لا يطرح بشكل سافر، إلاَّ نادراً جداً، مسألة السيادة، فإن هذه الكيانات كلها، مأخوذة معاً، إنما تحرص على الاتفاق فيما بينها على التعتيم الكامل على هذه المسألة. وذلك لأن من الواضح أنه يتعين على هذه الكيانات إيجاد تمفصل فيما بينها يُوَحِّدُ كل هذه المواطنات الجديدة وكل السلطات السيادية التي تنطوي عليها. والحال أننا نعرف أن من المستحيل التوصل إلى خلق تعايش، في الموقع الحقوقي الواحد، بين مواطنات متنافسة حقيقية. وذلك لأنها إنما تدخل، بالضرورة، في تنازع فيما بينها، ولابد عندئذ من معرفة ما هي المواطنة التي يجب لقواعدها أن تسيطر على المواطنات الأخرى، وبموجب أي معيار أساسي، مقرر من أية جهة. فهذه الجهة هي التي يجب أن يكون القول الأول والأخير لها. وذلك لأن المواطنة الحقيقية إنما تعبر عن نفسها في هذه الجهة. أمَّا السلطات الأخرى، التابعة بالضرورة، فهي لا يمكن أن تكون بحسب الأحوال إلاَّ حرياتٍ، حريات تسيير، حريات إدارة، سلطات تقديرية بحسب مقتضيات الأمور، تنسيقات، حقوق ـ مشاركة، حقوق ـ ضمانات، حقوق ـ تصديقات: جميع حقوق الإنسان أو الحقوق الأساسية، إلاَّ أن من المؤكد أنها ليست حقوق مواطنة بالمعنى الأساسي للمصطلح. وأخيراً، فإننا لا يجب أن نخطئ فيما يتعلق بمعنى أو بواقع بعض المواطنات المعلَنَة، حتى وإن كانت مواطنات على المستوى الحقوقي: وهكذا، مثلاً، فإن «المواطنة الأوروبية» ليست مواطنة حقيقية، بل إنها ليست أوروبية حقاً. وهي لا يمكنها أن تكون مواطنة وذلك بقدر ما أنها لا تسمح بالمشاركة في أية سيادة أيَّاً كانت. ومن الذي لا يرى أن هذه «المواطنة الأوروبية»، إذا كانت تكرِّس بعض الحقوق للمنحدرين من الدول الأعضاء، إنما تخدم بالأخص مصالح الاتحاد الأوروبي نفسه؟ إلاَّ أن بوسعـنا القول أن الضغوط الممارَسـة على فكرة المواطنـة فيما يتعلق بالمواقـع التي يجـب أن تمارَس فيهـا، لا تُعَدُّ من حيث الجوهر، وذلك بشكـل عـامٍ وأكثر أساسية، غير تجليـات لسلسلة أخرى من الضغوط: هي الضغـوط المنصبـة على مسألـة معرفـة مـن هم أو من الذين يجب لهم أن يكونوا مواطنين. المستحقون للمواطنة المشكلة الأساسية في المواطنة هي أنها لم يجر الاعتراف بها قط لكل إنسان وأنها غالباً ما تجد صعوبة معينة في تبرير تقصيرها هذا. ومن ثم فإن هذه المشكلة لا تحل، تدريجياً وجزئياً، إلاَّ من خلال المطابقة المطردة بين صفة الإنسان وصفة المواطن. كما تَوَجَّبَ، لأجل ذلك، أن يرقى الوعي السياسي إلى مستوى التعامل مع مختلف تجليات المشكلة، وذلك لأن الديموقراطيات القديمة [الإغريقية] قد مارَست العبودية، لزمن طويل، في حين أن الديموقراطيات الأحدث قد تمكنت من إيجاد ازدواجية بين المواطنين الفاعلين والمواطنين غير الفاعلين، و، بعد أن ألغت هذه الازدواجية، تأخرت أيضاً بشكل غير عادي في الاعتراف بحق النساء الانتخابي وأهليتهن للانتخاب ولترشيح أنفسهن في الانتخابات. ومن الطبيعي أن هذه التطورات قد أحدثت تقدمات في تنامي الديموقراطية. ولكن، هل من الضروري، اليوم، قطع شوط أبعد في اتجاه اعتبار أن كل شخص، بحكم كونه إنساناً لا أكثر، يجب أن يحصل على الاعتراف، تلقائياً، بكونه مواطناً ؟ أم أن المواطنة، على العكس من ذلك، تتماشى مع صفة نوعية لا يمكن الاعتراف بها لكل إنسان، ولكن على أي أساس واستناداً إلى أي معيار؟ وحتى لو افترضنا أن المواطنة يمكن أو يجب الاعتراف بها على أوسع نطاق ممكن، فهل تُبدي صفة المواطن أو يجب أن تُبدي أيضاً خصوصيةً ما قياساً إلى خصوصية الكائن الإنساني ؟ يبدو لنا أن هذه الخصوصية يجب أن تبقى وأن تَوَقُّفَ المرء عن التميز بها إنما يهدد بالضرورة بالحكم بالزوال على فكرة الموطنة نفسها. والحال أنه يبدو أن جميع الضغوط الممارَسة اليوم على المواطنة، والتي تتمثل في ابتذالها وفي تحويلها عن جوهرها، إنما تعمل، بشكل جد مفارق، على انحسارها. وإذا ما تأملنا التنامي المستمر للاعتراف ـ المُطَالَبِ به أو المتحقق، بحسب الحالة ـ بصفة المواطنة، فسوف نرى على أية حال أن هذه الحركة العامة إنما تشتمل في الواقع على ثلاثة جوانب جد مختلفة في دلالتها، حتى وإن كان من الوارد أن تتراكب هذه الجوانب في الممارسة العملية. والمرحلة الأولى، التي لم تنتـه من جهـة أخـرى، إنما تتألف ببساطـة، دون تغيير فعليٍ لتماسـك المواطنـة، مـن منحهـا لفئـات مـن الأشخاص متزايـدة الاتسـاع، ومن تجاوز الحدود التي كانت مفروضـة في البداية علـى هـذا التوسيـع، حداً بعد آخر. وعن هذا الطريق، تتجلـى كـل تقدمات الديموقراطيـة ولا يستثير هذا التطور اعتراضاً ـ وإن كانـت مبـادرات مـن قبيـل المبـادرة التي أدت بشـكل جــدي للغـاية إلـى تأسـيس برلمـان الأطفـال تستثير عدداً من التحفظات. أَمَّا الجانب الثاني للتطور فهو لا يتميز إطلاقاً بالمعنى نفسه. فهو لا يتألف بعدُ من مجرد منح صفة المواطن لعدد أكبر من الأشخاص، بل يتألف من تغيير خصائص المواطنة نفسها، سعياً إلى تحقيق الانطباق لها بأدق درجة ممكنة على شخصية المواطنين الجدد: ويتعلق الأمر هنا، بشكل عام، بإعادة شخصنة المواطن. والنتيجة النهائية لذلك هي أن تحديد القواعد الاجتماعية لا يعمل بعدُ من زاوية المرجعيات المشتركة والمجاوِزة، بل يستجيب لمواجهات ولتفاوضات على مصالح خاصة يفوز فيها الأكثرُ قوةً. وأَمَّا الجانب الثالث للتطور فإنه يقطع شوطاً أطول بكثير، وهو يشكل من حيث الجوهر الأفق النهائي لهذا التطور، أي يشكل القطب الذي لابد للجميع من الالتقاء في الاتجاه إليه: فالمواطن يميل إلى العودة إلى الذات، والذات تميل إلى التجاوب بشكل مطرد مع ما تطمح إلى أن تكونه بشكل أساسي، أي الذات المطلقة: الذات التي، إذ تمزج الحرية بالاستقلالية التامة، تعتبر نفسها ذاتاً تتمتع بالسيادة على وجه التحديد. ولا مراء في أننا نلمس هنا السبب الأساسي للنجاح الحالي لتيمة المواطنة ونجاح التذرع المستمر بها في الخطاب المعاصر: فهي تزوِّدُ هذا الفرد الجديد وديانة حقوقه الأصيلة بسلاحهما المطلق، لأن المستحق لهذه الحقوق إنما ينسب إلى نفسه بذلك صلاحية تقريرها وتحديدها بنفسه ولنفسه، على نحو فوري مباشر ومتميز بالسيادة. ومن ثم فإن المواطنة لا تخطئ فهم نفسها البتة فيما يتعلق بسيادة المواطن الضرورية، لكنها تفسد معنى هذه السيادة. لأن المواطنة، بما يمثل ميلاً كامناً فيها على الأقل، إنما تلغي المواطنة المشتركة، بمطالبتها بهذه السيادة للذات وحدها. وبنفيه الآخرية من خلال إخضاعها لنفسه، فإن صاحبنا المواطن هذا لا يتصور أنه لا يجب ولا يمكن ممارسة المواطنة إلاَّ في مستوى السلطة العليا الوحيدة، حيث تجتمع كل الآخريات على اختلافها بعضها بالبعض الأخر للمضاهاة بين مبررات آخريتها. لكن التوفيق بين الحقوق لا يهم هذا المواطن، وذلك ما أن يكون من شأنها تقليل حقوقه: ومن الواضح أنه يريد «المواطنة في جميع المواقع»، في جميع المواقع التي يمكنه فيها أن يفرض نفسه وأن يفرض حقوقه، لأنه يريد أن يكون صاحب السيادة في كل شيء: فهو يقنع نفسه عبر تماهيه مع حقوقه الخاصة، على نحو مطرد، بأن المستوى الأعلى للمواطنة الوحيدة والحقيقية ليس مجرد كل موقع من مواقع إندراجه الاجتماعي، وإنما هو شخصه الأصيل وإرادته الوحيدة التي لا تتوقف على أية إرادة أخرى. السلاح المطلق لحقوق الإنسان؟ بل بالأحرى موتها وموت مستحقها، لأن الحقوق ليست سوى خصائص نسبية لصاحبِ علاقاتٍ، ولأن الإنسان، لو توقف عن أن يكون صاحب علاقات، إنما يصبح مسخاً. مراجع
الدولة، أرضها والعولمة (×) ريشار كلينشماجر RICHARD KLENSCHMAGER بدأ علمُ الجغرافيا مرتبطاً بتعيين أراضي الدول. وأوصافه للفضاء الجغرافي تسهم في ذلك شاء أم أبى. وقد مَرَّ زمن طويل بالفعل على فضح إيف لاكوست زيف براءة هذا العلم، وهو زيف تَسَتَّرَ خلف مظاهر هذا العلم التي تزعم موضوعيته ونزاهته، وقد فعل إيف لاكوست ذلك في كتابه ـ البيان الذي حمل عنوان: الجغرافيا، علم يساعد بالدرجة الأولى على شن الحروب (××). والواقع أن «الحرب الجراحية» التي خيضت في البلقان بفضل إسهامات الدقة الجغرافية للرصد عن بُعد قد ذَكَّرَتْ براهنية هذا الكلام. والحال أن الجماعات المحلية التي تُنشئ أنظمة المعلومات الجغرافية، إنما تكفل لنفسها إمكانية تفعيل أكبر لتدخلاتها الخاصة بالأراضي وإن كانت تزوِّد نفسها أيضاً عن هذا الطريق بأداة للسيطرة على الأراضي تُعَدُّ من أقوى الأدوات. والواقع أن فريدريش راتزل (1844ـ1904)، مؤسس علم الجغرافيا السياسية في أواخر القرن التاسع عشر، كان قد أكد بالفعل على أهمية صلات الجغرافيا بتكوين الدولة في كتابه: الجغرافيا السياسية(×××) الصادر بالألمانية. وقد كتب يقول « إن الدولة إنما تتكون كجسم حي مرتبط بشريحة محددة من سطح الأرض، وذلك على نحو بالغ الوضوح بحيث أن خصائصها إنما تنبع من خصائص الشعب ومن خصائص الأرض التي يسكنها هذا الشعب». وقد أضاف «إن الدولة جسم حي ليس فقط لأنها تمحور حياة الشعب على ثبات الأرض وإنما لأن هذه الصلة إنما تتعزز عبر التبادلية، إلى الدرجة التي يكفَّان فيها [الشعب والأرض] عن تمثيل شيء سوى كُلِّ واحدٍ وإلى درجة أنه لا يمكن تصور أحدهما دون الآخر». وبعيداً عن الرؤية البيولوجية المضمرة التي تُشَبِّهُ الدولة بجسم حي، فإن راتزل يشترط الأرض كواحدة من الصفات الأساسية الملازمة للدولة. وهذا الشرط قد يبدو بالياً في الأزمنة الراهنة وفي أماكن كأوروبا الغربية حيث يظهر العبور الحر لحدود الدول كشيء بديهي. وعنف النزاعات على الأراضي اليوم في البلقان أو في وسط أفريقيا أو في الشرق الأوسط، حيث يجري طرح مسألة حدود الدول والسلاح في اليد ومن خلال مواجهات قاتلة، إنما يتجاوب مع الأهمية الأساسية لمسألة الأرض في خلق كيانات الدول، وهي الأهمية التي تَحَدَّثَ عنها فريدريش راتزل. فهل ترسمُ حركةُ عولمة الاقتصادات علاقةً جديدة بين الدول وأراضيها؟ وأَلاَ تنطوي هذه الحركة على ضرورة إلغاء الحدود، بما يهدد أحد أسس الدول، أي سيادتها على أراضيها؟ وأَلاَ تؤدي كيانات اقتصادية ـ يتزايد تجاوُزُ ثقلِ تدخلاتها على مستوى اتخاذ القرار وعلى مستوى الاتساع الجغرافي لهذه التدخلات ثقلَ تدخلات عدد من الدول ـ إلى إصابة قدرات الدول في السيطرة والتدخل على أراضيها بالاعوجاج؟ الحال أن مسألة معرفة ما الذي يبقى من سلطات للدولة على أراضيها في الوقت الذي تتخطى فيه الأوضاعُ العامةُ للاقتصاد حدودَ الدول إنما تُعَدُّ مسألة مطروحة اليوم. وبعض الكتاب مثل برتران بادي(×) [أو بديع، بالنظر إلى أصلة الإيراني] يصوغون، ليس دون مبرر، الافتراض الذي يذهب، إن لم يكن إلى اختفاءٍ فعلى الأقل إلى إضعاف إحدى الصفات التكوينية الملازمة للدول، أَلاَ وهي السيطرة على الأرض، ومن ثم، اختفاء السيادة نفسها. وقد لا يكون من المبالغة تصور أن إعادة صياغة الأسس الاقتصادية للمجتمعات، وهي إعادة صياغة تنطوي عليها العولمة، إنما تهدد قوة الدول من زاوية العناصر التكوينية التي صاغت هذه الدول منذ القرن السادس عشر. وبوسعنا التساؤل ما إذا كانت إعادة الصياغة هذه سوف تؤدي في نهاية الأمر إلى اختزالٍ مهم لقدرة الدول على السيطرة على أراضيها، وهي السيطرة التي تعد إحدى الخصائص الأساسية المميزة لسيادة هذه الدول. عوامل إضعاف سيطرة الدول على أراضيها تندرج العولمة في سياق يؤثر على الخصائص المهمة لأراضي المجتمعات المعاصرة ودولها. والحال أن الثورة الزراعية في القرن العشرين والتطورات المتوقعة للبيوتكنولوجيات لم تعد تجعل من حماية الأرض الزراعية ضرورة رئيسية لعمل الدول، وذلك بقدر ما أن التوقع المالتوسي باتساع الهوة بين نمو السكان ونمو الأغذية قد ثبت بطلانه. كما أن هذه الثورة الزراعية تترافق مع تخصص زراعي على مستوى كوكب الأرض بما يجعل البلدان معتمدة بشكل مطرد على إمدادات غذائية من الخارج. أَمَّا ثورة النقل الجوي فهي تلم شمل مختلف أطراف العالم وتختزل جميع المسافات. وأَمَّا الثورة الإليكترونية وشبكات الاتصال التي أنجبتها كشبكة الإنترنت، فهي تقدم مجموعة لا حدود لتنوعها من المعلومات، وذلك بأرخص الأثمان، وذلك في ذات الوقت الذي تحقق فيه فوريةً إعلامية لم يسبق لها مثيل قط. ومن شأن قدر ملحوظ ومؤكد من انخفاض الميول الحربية في المنازعات فيما بين الدول أن يخلق الظروف المهيِّئة لقانون دولي جديد لا يستبعد بعدُ إمكانية التدخل، خاصة التدخل الإنساني، ويختزل من ثم صلاحيات الدول. ضعف الدول في مواجهة العولمة الاقتصادية هناك ضبابية معينة تحيط بحدود أراضي الدول، لكنها تحيط أيضاً بقدرتها على إدارة تكوين بنيتها الداخلية. فترتيب أوضاع الأراضي إنما يقتصر على ممارسة أشكال من التأثير على القرارات التي، عندما لا تتصل بمجال الدولة بالمعنى المحدد، تناط غالباً بأهداف كيانات عبر قومية بشكل محدد. وفي تطور العولمة، تلعبُ بعضُ الخصائص دوراً فاعلاً وحاسماً في تحرير المؤسسات التي تعمل على هذا المستوى العالمي من ارتباط ضروري بالمستوى القومي للدول. والحال أن تداخل الأسواق وتنميط الطلب الذي ينطوي عليه هذا التداخل ودمج سلسلة إنتاج القيمة من مشاريع البحث والاستحداث إلى الاستهلاك النهائي، إنما تخلق كلها ظروفاً جديدة للإنتاج لا تعود فيها عناصر التمايز الحاسمة مرتبطةً بالدول قدر ارتباطها بالمتروبولات الحاملة للقدرات على الابتكار والحاملة لإسهامات حاسمة من جانب يد عاملة عالية المستوى تعمل في القطاع الثالث، وهي إسهامات يتغذى عليها نمو هذه المتروبولات. وهكذا يتكون «اقتصاد أرخبيل»، بحسب التعبير الذي اقترحه بيير فيلتز(×)، وهو اقتصاد يتبع المنطق الجغرافي لنقاط ارتكاز هازئاً بمواقع أراضي الدول. وهو يتماشى إلى حد بعيد مع تطور الشركات متعددة الجنسيات في مجال الخدمات والتي يعتمد توسعها على تحرير الاقتصاد وعلى تكنولوجيات المعلومات. ومنذ ذلك الحين فصاعداً فإن الحواضر العظمى والكبرى تصبح مستويات حاسمة في عمل المؤسسات المتعددة الجنسيات في حين أن المستويات القومية إنما تُعَامَلُ بشكل متزايد على أنها كوابح يمكن التغلب عليها. وقد زاد عدد سكان العالم بنسبة ضعفين منذ بداية ستينيات القرن العشرين وكان من شأن مكتسبات النمو السكاني أن تفيد من حيث الجوهر المواقع الحضرية الكبرى على كوكب الأرض. ويتوقع جان ـ كلود شونيه(××) أنه بحلول عام 2015، فمن المؤكد أن عدد سكان طوكيو سيصل إلى أكثر من 28 مليون نسمة. في حين أن عدد سكان بومباي سيصل إلى نحو 27 مليون نسمة، بينما سيصل عدد سكان لاجوس إلى نحو 25مليون نسمة، بما يؤدي إلى خلق أسواق واسعة أوسع بكثير من أسواق عدد من الدول. وتترافق العولمة مع تعمقٍ غير مسبوق للتفاوتات الاجتماعية ـ الاقتصادية على مستويات جغرافية عديدة، بين القارة الأفريقية وبقية العالم خاصةً. وإذا كان الناتج الداخلي الإجمالي بالنسبة للفرد قد عرف تطوراً سنوياً بمتوسط 1.8 + في السنة من عام 1973 إلى عام1993 في أوروبا أو بمتوسط 3.2 + في آسيا، فإنه قد انخفض إلى متوسط 0.1 ـ في أفريقيا. كما ظهرت تفاوتات أخرى ليست أقل أهمية، كما في داخل القارة الأوروبية بين غربيها وشرقيها، أو أيضاً في المتروبولات بين المناطق المركزية وبعض هوامش هذه المناطق. ولا شك أن توزيع الثروة العالمية على الصعيد الجغرافي ليس اليوم أسوأ مما كان عليه في أي وقت مضى، حتى وإن كانت بعـض البلـدان قد عرفت نمواً اقتصادياً مثيراً خلال العقود الأخيرة، في آسيـا خاصـة. وتؤدي العولمة إلى مفاقمة حدة تباينات النمو الإقليمية. فهي إذ تحرم الدول من بعض صلاحياتها الاقتصادية إنما تضعف قدرتها على تنظيم التوزيع الجغرافي للخيرات وللنشاط الإنتاجي. كما أنها تحفز بذلك نمواً محسوساً مهماً لبعض الأقاليم الرئيسية التي يمكنها أن تستحدث بالنسبة لحَمَلَةِ النمو العالمي استراتيجيات متعامدة على استراتيجيات الدول التي تحاول إيجاد تنظيم جغرافي للنمو الإقليمي. والحال أن تحليلات كينيتشي أوهمامي(×) عن النمو العالمي + المحلي إنما تأخذ بعين الاعتبار تلك التطورات التي تنسج بعيداً عن صلاحيات الدول ـ الأمم أشكال توزيعٍ جديدة وسلطات جيو ـ سياسية جديدة. ففي أوروبا على سبيل المثال، من الواضح أن رينانيا ـ وستفاليا ولومبارديا وكتالونيا تحوز قدرات على الاندراج في سيرورة العولمة لا تحوزها كالابريا أو غاليسيا أو نورثمبرلاند. إزاحة الحدود تؤدي سيرورة إضفاء الطابع الحضري الواسع والضخم على كوكب الأرض إلى تفكيك المنطق القديم لتنظيم المكان والذي تسنى للدول أن تتصور أنها المسئولة عنه. والحال أن الدمج الإقليمي والذي تهدف إليه سياسات تنظيم الأقاليم إنما يتراجع أمام إنشاء شبكة من معاقل النمو. وهذا الإضفاء للشكل الشبكي، إنما يؤدي إلى تشديد منطق هيكلةٍ للأراضي من خلال مفاصل ترتبط فيما بينها بمحاور. وتحفز هذه الهيكلة تصحر الأماكن الجوانية الواقعة بين المفاصل والمحاور كما تحفز خلق جيوب للتخلف. وقد يجد النمو الاقتصادي مبرره بفضل هذا المنطق الخاص بالتركيز الإقليمي للثروة عبر تعظيم الاقتصادات الرئيسية. وليس من شأن قصور الدمج الإقليمي إلاَّ أن يفاقم الظلم فيما يتعلق بوصول السكان إلى الثروة وإلى الخدمات. ولاشك أيضاً في أن بعض البنى متعددة الدول كالاتحاد الأوروبي لا تسهم في هذا التطور بمحو الحدود الداخلية. فهي تسهم في اختزال الحدود السياسية القديمة فيما بين الدول اختزالاً تدريجياً إلى وضعية حدود إدارية. والحواجز والمدن الكبرى الأوروبية في المناطق الحدودية تدمج بالفعل في نموها أراضي مناطق بلدان أجنبية مجاورة دون أن يلعب انتماء الدول دوراً حاسماً في ذلك. ففي إقليم الراين الأعلى، بين كارلسروه والألزاس الشماليـة أو بين بال وإقليم سان لوي الحدودي الفرنسي المتاخم لها، وحتى مع أن سويسرا لا تشكل بعدُ جزءًا من الاتحاد الأوروبي، تبدأ سيرورة تكوين كيانات مشتركة عبر حدودية آخذة في الاندماج الإقليمي والاقتصادي، وهو ما يعبر عن التخطيط الإقليمي أو كثافة التدفقات الاقتصادية. ومن الواضح أن الكيان عبر الحدودي إنما يتكون في انعدام للتوازن، حيث يفرض هذا القطب الحضري نفوذه على المنطقة الريفية المعنية. والحال أن الحدود، في هذا الإطار، لا تعود كابحاً لسيرورة اندماج لمناطق أقل نمواً من تلك التي تعد أقل نمواً بكثير. والواقع أن الحدود القانونية للدولة إنما تبهت إلى درجة أنها تكاد تصبح غير مرئية، وهو مالا يؤدي بالضرورة إلى اختفاء الحدود الثقافية ولا يولِّدُ بشكل تلقائي تكثيفاً للحيوات المعيشية للسكان على جانبي الحدود القديمة للدول. وتقتصر الحدود في داخل الأراضي على نقاط محدودة كالمطارات أو، كنتيجة لذلك، في بعض المراكز الحضرية في داخل البلد، على بعد عدة عشرات من الكيلومترات من خط السيادة الحدودي. وتتلاشى السيادة الإقليمية المطلقة لصالح سيادة نسبية حيث لا تعود السيطرة على التدفقات محكومة بحدودٍ بقدر ما تكون محكومة بطبيعة التدفقات التي يمكن السيطرة عليها في كل نقطة من الأراضي. وفي سياق تداخل معمَّم، أَلاَ يستشرف هذا النموذج نموذجاً جديداً للعلاقات بين الدول والأرض على مستوى كوكبنا برمته، نموذجاً تستشرفه أنساق الاندماج بين دول متعددة ؟ انتهاء السيطرة المطلقة للدولة تزداد علاقات الدول بأراضيها تعقداً. وقد ولت أزمنة السيطرة المطلقة للدول على أراضيها. وتؤدي تدخلات عديدة إلى تآكل العلاقات التقليدية للدول بأراضيها. وعلى المستوى السياسي، من المؤكد أن المنظمات متعددة الدول في أوروبا، ولكن أيضاً في أميركا وفي آسيا، تعد القوة الموجهة الحاسمة لتحولات هذه العلاقة وإن كانت تلعب دوراً في ذلك أيضاً بعضُ تطورات القانون الدولي التي تكرس إمكانيات تدخل جديدة. وعلى المستوى الاقتصادي، فإن تعميم قوانين السوق ونزعة التبادل الحر، والتطور غير المسبوق للاستثمار الدولي والتسارع غير العادي لحركة التركز الاقتصادي المسئولة عن قيام كيانات اقتصادية خاصة مهمة، قد أدت كلها إلى تصفية جانب مهم من الدور الاقتصادي ـ الجغرافي الحاسم الذي تلعبه الدول. وعلى المستوى الثقافي، فإن شبكات الاتصال على مستوى كوكب الأرض وانتشار المنتجات الثقافية الموجهة إلى سوق عالمية، إنما تخلق الظروف اللازمة لتحريرٍ للمجالات الثقافية من نفوذ الدولة. وهذه التدخلات المتنوعة تسهم على نحو غير مباشر في تفكيك الأشكال التقليدية لحيازة الدول ـ الأمم لأراضيها. فمحل دولة ذات سيادة وحارسة لأرض تحوزها بشكل واضح تحل صورة حائز جرى تجريده من حدود أرضه وبعض تخومها. والحال أن سيطرة الدولة على أرضها قد أصبحت سيطرة نسبية، خاصة في الأوضاع السلمية حيث لا تكون الأرض رهاناً مباشراً بالنسبة لوجود الدولة. ومسألة القابلية للحياة في الأمد المتوسط والطويل لهياكلِ دولةٍ لم تعد تعتمد على أرض محددة بشكل واضح إنما تعد مسألة تستحق الطرح. فأَلاَ يستدعي تطورٌ كهذا إعادة تعريف موقع الدولة كفاعل فردي في إطار حكم عالمي ؟ وأَلاَ نرى أن تمثيلات الدولة المتجسدة في أرضها قد تجاوزها بالفعل واقعُ استحالة سيطرةٍ ملموسةٍ على هذه الأرض ؟ وأَلاَ يجب أن نرى في ظهور نزعات الهوية الجغرافية المتعددة المزاحمة للهوية القومية أحد أعراض هذا التفكيك لواقع الدولة ـ الأمة الترابي ؟ إن تمثيل الأرض القومية إنما يصبح غائماً ويخلي المكان لتمثيلات عديدة متزاحمة غير متناسقة. ووراء صعود نزعات الهوية الجغرافية المتعددة التي تؤدي إلى تفكيك عدد من التآزرات القومية ذات النزعات الفيديرالية، فإننا نشهد ارتسام وضع جديد لحيازة الفضاء الترابي، وهو وضع يتمايز في ثلاثة أنواع من الأراضي: الأراضي التي هي بمثابة القلب، أي الأراضي التي تتركز فيها القوة والثروة كأميركا الشمالية وأوروبا الغربية أو جنوبي ـ شرقي آسيا، ثم الأراضي القريبة من القلب كأوروبا الوسطى أو منطقة البحر المتوسط في حالة أوروبا، ثم الأراضي الهامشية البعيدة عن هذه الأراضي الأخيرة التي تشكل محيطاً للأراضي التي هي بمثابة القلب. ويمكن لضبابية حدود الدول في داخل الأراضي التي هي بمثابة القلب بالنسبة للقوة العالمية أن تتعايش مع مُرشِّحاتٍ حدودية قوية منتشرة على حدود هذه الأراضي التي هي بمثابة القلب بينما يتواصل على نوعي الأراضي الآخرين وجـود منظمات دول ذات أنماط حيازة ترابية متغيرة بحسب السياقات الجيو ـ سياسية. ويجري تنظيم العالم بحسب أنماط جديدة. وتتلاشى يوتوبيا مجموع من الدول المتساوية في الحقوق وفي الواقع الفعلي بصرف النظر عن أحجامها ومواقعها. والحال أن واقع قيام أنساق جغرافية معقدة لكنها تنطوي على إمكانية التميز بالمراتبية إنما يتبدى في تفكك الارتباط بين الدولة والأرض، وهو تفكك تؤدي إليه العولمة. تسهم العولمة في محو الحدود السياسية التقليدية للدول ـ الأمم. وحيال هذه السيرورة، منذ سقوط سور برلين، فإن الدول المجبرة على أن تكفل الرخاء الاقتصادي للمجتمعات التي تتحمل المسئولية عنها، والمحكومة إلى أبعد حد بسياق التبادل الحر المُعمَّم الذي اندرجت فيه كلها تقريباً منذ ذلك الحين، لا يبدو أنها قادرة أو أنها تريد فعلاً إبداء أشكال من المقاومة. وفي هذا السياق تحديداً تولد معارضة من جانب المواطنين لسيرورة لا يبدو أن بالإمكان طرح شيء في مواجهتها إن لم يكن هذا الشيء هو يوتوبيا عالـم تعاد صياغتـه خـارج قرارات الشركات الكبرى والدول التي تقدم العون إلى هذه الشركات.
(×) نص المحاضرة 151 من محاضرات جامعة كل المعارف، وقـد ألقيت في 30 مايـو/ آيار 2000. (×) نص المحاضرة 152 من محاضرات جامعة كل المعارف، وقــد ألقيت في 31 مايو/ آيار 2000. (×) نص المحاضرة 153 من محاضرات جامعة كل المعارف، وقد ألقيت في أول يونيو/حزيران 2000. (××) Lacoste (Y.), La Géographie, ça sert d’abord à faire la guerre, Paris, Maspero, 1975. (×××) Ratzel (F.), Géographie Politique, trad. Rusch et Hussy, Paris, Economica, 1988. (×) Badie (B.), Un monde sans souveraineté, Paris, Fayard, 1999. [بالعربية: برتران بادي: عالم بلا سيادة، ترجمة: لطيف فرج. مكتبة الشروق، القاهرة، 2001]. (×) Veltz (P.), Mondialisation, villes et territoires: L’économie d’archipel,Paris, PUF, 1996. (××) Chesnais (J.C.), «Vers une recession démographique», Ramsès, Paris, Dunod, 2000. (×) Ohmae (K.), De L’État-nation aux États-regions, Paris, Dunod, 1996.
#بشير_السباعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وجوه الاجتماع البشري: المجتمع، الهوية والجماعات
-
أغنيةُ الغريب - أصواتٌ فرانكوفونية مصرية
-
الحركة الطلابية الثورية النظرية والممارسة - إرنست ماندل
-
الكومونة تحيا! - إرنست ماندل
-
النظرية الماركسية في الدولة - إرنست ماندل
-
الفاشية ما هي؟ كيف نهزمها؟ - ليون تروتسكي
-
الماركسية والدين
المزيد.....
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|