أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الذئاب والزيتون















المزيد.....



الذئاب والزيتون


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3639 - 2012 / 2 / 15 - 12:21
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
المجموعات القصصية (2)

د. أفنان القاسم

الذئاب والزيتون

قصص

الطبعة الأولى الدار العربية للكتاب تونس/ طرابلس العرب 1983
الطبعة الفرنسية دار لارماطان باريس 2003

إلى حسن حميد
بلزاك فلسطين


يوميات فدائي في الأراضي المحتلة

الخميس في 9 تموز 1970
أنا الآن في السجن. بعد أن نفذنا العملية في الشهر الماضي، أخذوني إلى المستشفى. أصبت بجرح في ظهري لانهيار السقف، واخترقت كتفي الأيمن رصاصة، ومع ذلك، نجوت من الموت بأعجوبة. بعد أن عالجوني علاجًا شبه تام، طرحوني بين القضبان. وبين تارة وأخرى، راحوا يأخذونني إلى حجرة (( التأديب ))، وهناك، كانوا يشرعون في تعذيبي.
لن أسترسل اليوم في الحديث عن الاستنطاق والمحققين، ولا عن حالتنا في السجن، ولن أصف زنزانتي، ولا حالي. سأحاول رسم صورة، بأقصى سرعة ممكنة، لما جرى معنا يوم التنفيذ، لأنني أتوقع، بين لحظة وأخرى، أن يأتي أحدهم.
* * *
على الساعة الثانية عشرة ظهرًا، توقفت سيارة الإسعاف أمام المركز الصحي. نزلت بعجلة، وأنا أضع على رأسي قبعة أمريكية، واتجهت نحو جندي الحراسة، بطريقة اقتحامية، وهو ينظر إليّ مبهورًا. فتحت محفظتي عن هوية مزورة، وأنا أقول بالعبرية: (( شاباك... ضابط مكلف بحادثة خطيرة! )). وصفقت دفتي محفظتي، ثم دفعتها في جيبي، وكأني صاحب الأمر والنهي. عندما التفت، رأيت أميرة في ثوب الممرضة، وسالم على صدره مئزر أبيض يصل الركبتين قد جذب الحمالة. ورأيت الرئيس، وأنا أتقدم لمساعدتهم، مضمدًا في كل طرف من جسده، وقد رُفعت قدمه الموميائية لكثرة ما التفت بالقطن والشاش على حامل. كانت له عين واحدة تبرز من وجهه، وقد عملت اللفائف انتفاخًا ضخمًا في جانب وجهه الأيمن وعند فكه، بينما شوهت ذلك البياض العذري لطخات من مادة اليود والميركروكروم.
نقلناه، وأميرة تحافظ على قدمه المعلقة ألا تسقط. وعندما صعدنا أول درجة من درجات المركز الصحي الأربع، اقترب مني جندي الحراسة مبالغًا في اهتمامه: (( هل من عون أستطيع أن أقدمه لكم، يا سيدي؟ ))
أجبته بنبرة جافة عاجلة كي أقطع عليه فرصة التفكير: ((عُدْ إلى مكانك، يا جندي، إذا احتجت إليك أرسلت في طلبك!))
انكفأ الجندي، وسارع بالانزراع في علبته قرب الباب، وما أن دلفنا إلى الداخل حتى كانت سيارة الإسعاف قد ذهبت. ونحن نصعد الدرج الداخلي، هبط أحدهم، وهو يهمس بحذر: ((تأخرتم!))، عرفت أنه من جماعتنا. قال سالم: ((بعض الشيء.)) وعاد الرجل يهمس، ونحن نصعد بحملنا: (( لم يبدلوا جندي الحراسة على الثانية عشرة إلا الربع كالعادة))، وأضاء فمه على الرغم من كتمه لسروره، وهو يضيف: (( من حظنا! )) تقدم باتجاهي إذ كنت أحمل من تحت، والثقل كله عليّ. ساعدني في الحمل، وأخذنا نصعد بصعوبة أقل حتى الطابق الثالث، وأنا ألاحظ أنه لا يوجد هناك ممرضون، ولا أي موظف.
دخلنا حجرة الرجل الذي استقبلنا، وأقفلها من ورائنا بالمفتاح، فنهض الرئيس بصدره توّاً، وراح ينزع عن وجهه الضماد، وأميرة تساعده، وسالم يفك رباط قدميه. كان الرجل قد وقف قرب النافذة، وهو يرفع ستارها بحذر، ثم قال لنا بصوت مطمئن: (( ذهب الشاهد، أتت سيارة عسكرية ركبها جندي الحراسة، وحل مكانه آخر )).
تنفس الرئيس الصعداء عندما أطلقت سراح يديه، فضربني على كتفي مبتهجًا، وقال لي: (( لقد أحسنت الدور! )) قلت له: (( لم أنس عبريتي بعد كل هذا الزمن. كنت أخشى أن تخونني لهجتي، فينفضح أمري. )) سحب سالم السلاح الرشاش المدفون في ضماد ساق الرئيس: تلقفه الرجل، وراح يداعبه بأصابع خبيرة. أخرج سالم رشاشًا آخر من تحت الساق الأخرى. كنّا قد أنهينا، أنا وأميرة، فك صدره، فقفز حرّاً طليقًا.
وبينما راح الرئيس يمسح عن جبينه آثار اليود، فتحنا الحمالة، وبدأنا بإخراج الذخيرة، كانت هناك بعض الصناديق إلى جانب ثلاث بنادق. لكن الرئيس استوقفنا: (( اتركوا كل شيء في مكانه ريثما يحين الوقت. )) ونظر إلى ساعته قبل أن يضيف: (( أمامنا ساعات طويلة نقطعها )). ابتسم سالم، وهو يردد: (( خطوة أولى، خطوة أولى ناجحة! )) تأملتني أميرة بتقدير، وقالت لي بنبرة فخورة: (( كادت تخونني قواي عندما هببتَ بالجندي صائحًا أن يعود إلى مكانه، وبعد ذلك، كدت أنفجر ضاحكة على صورة وجهه الآلي، لكني استطعت أن أتمالك. أنت شجاع يا موسى! )) أطربني أن أسمع ذلك من أميرة، نظرت إليها بامتنان، وعقدت العزم على البوح لها بحبي بعد العملية.
سأل الرئيس الرجل الذي استقبلنا: (( ألم يرنا أحد ونحن نصعد الدرج؟ )) (( لا أحد، أعتقد أن لا أحد رآنا. )) التفت الرجل إليّ قبل أن يضيف: (( اليوم الجمعة، ولا أحد يعمل سوى قسم الإسعاف في الطابق الأرضي )). عاد إلى النافذة، ومن جديد رفع الستارة بحذر، وهو يقول: (( المراكز الصحية الأخرى اليوم مقفلة، إلا هذا المركز والمستشفى الوطني ومستشفى الجيش في رفيديا، لقد انطلت على الجندي الحيلة. )) قال الرئيس: (( ظن الجندي أننا من هذه النواحي. )) كان سالم يحتضن السلاح، وأميرة تشبك على رأسها قبعة الممرضات. كم كانت جميلة وهي تتفتح في ثوب الرحمة! وكان الرجل قد ترك النافذة، وأتى يقول للرئيس: ((ثلاث مصفحات وعشرة جنود يحيطون ببناية السجن في الوجه المقابل. )) كانت هناك نافذة أخرى إلى اليسار، فاتجهت نحوها، ثنيت بحذر طرف الستارة، ونظرت... ما قاله صحيح. بدت بناية السجن كالقلعة العتيدة، ولفت انتباهي أحد جنود الاحتلال، وهو ينزل درجات السجن العريضة. تقدم إلى أن اقترب من جندي يقف في فوهة مصفحة، وأشار إليه بالمجيء، فما كان من هذا إلا أن هبط، وبعد أن نادى على آخر ليحل محله، سار إلى جانب من جاء في طلبه، ودخلا من باب صغير في البوابة ذات القضبان العملاقة.
انطلقت عيناي تتسلقان السور الحجري المحيط بالبناية التي نحن فيها، فرأيت في الوجه المقابل من الشارع العام طريقًا رملية تصعد من وراء السجن إلى هضبة ترابية، واستطعت أن أشاهد فوق الهضبة المستنبت الزراعي. سمعت الرئيس يقول: (( الرفاق في المستنبت الزراعي لم يأخذوا أمكنتهم بعد. )) التفتنا إليه، وهو يتقدم حتى وسط الحجرة: ((سيتسلقون جبل جرزيم، ثم يشقون طريقًا دائرية في (( الطور))، وقبل أن يصلوا إلى المستنبت، يكونون قد جلبوا معهم الأسلحة والذخيرة من غار هناك. )) وبعد أن تابع قليلاً طائر القلق المحلق في سماء عيوننا، أضاف: (( ليس هناك خطر كبير لاحتلال المستنبت، فهو مكان مهمل وغير محروس، لكن هذا لا يعني أن نضع أصابعنا في ماء بارد، لربما تحصل بعض المصاعب. ))
أخرجت أميرة من الحمالة ثوبًا مطرزًا بالورد الأحمر لفلاحة من عندنا، فابتسمت لها: (( الذي أتمناه أن أشاهدك في ثوب كهذا، ستكونين حقًّا جميلة! )) تضرجت وجنتاها، غدا لون البحر غامقًا في عينيها، وابتسمت بخجل، والرئيس يقول لي: ((تمن أن تشاهدها بعد العملية لا قبلها، فأنت تدري معنى أن تلبس أميرة هذا الثوب قبل العملية.)) اختفت الابتسامات، وحل محلها صمت راح يطول. جلسنا أنا وسالم على الأرض، والرجل وراء المكتب، وأميرة على كرسي، ووقف الرئيس وراء الستارة. رآني سالم، وأنا أخرج كراس مذكراتي من جيب سترتي، فسألني: (( ما هذا؟ )) قلت : (( كراس سأظفر حين قراءته ببعض المتعة.)) بعد مضي بعض الوقت، سأل سالم: ((هل مع أحدكم ساعة؟ )) قلت: (( الواحدة والربع )). قال، وقد غرق في أفكاره: (( تركت ساعتي لأمي، فالمرء لا يعلم.)) طوى ذراعه على السلاح الذي في حضنه، وغاب مع صمته.
(( تركت ساعتي لأمي! ))
كانت أنفاسه تصلني متقطعة، متوترة، مناقضة لكل رتابة الوجود، لكنه بقي غائبًا مع صمته. ترك ساعته لأمه كي تنصت إلى الدقات، وإذا ما قتلوه، ستحدث نفسها، وتقول: ((إنهم يكذبون! )) فكّرتُ فيها، في أميرة، نظرت إليها، فرأيتها في شغل شاغل عني. كانت تحلق في الخارج، كالنورس الباحث عن جناحيه. هكذا كانت أميرة تحلق في الخارج، وهكذا كنت أنا أفكر فيها، وهكذا كان سالم غائبًا مع صمته، وهكذا كان الرئيس يفكر في لحظة التنفيذ، وهكذا كان الرجل الذي عرّفني بنفسه قائلاً: (( أنا الملك فؤاد! )) وضحك، ثم كشّر، ليصبح له وجه قاسٍ، كزّت حزوزه، وانكمشت شفتاه. تراخى على معصمي لحم الوقت، وتهدل، وامتدت أفكاري، وطافت حول العالم، لم يبق لي سوى الانتظار. كان لدي شعور بالذهاب نحو اللحظة الحاسمة، لكنما كان يفاجئني شعور آخر، شعور من يقف على عتبة انتظاره، ويريد أن يبقى هناك دون حراك.
كانوا هناك كلهم، وكانوا كلهم مثلي هناك يفكرون، كنّا معًا، وكأننا شخص واحد، ومع ذلك كانت تنفصل عنّا مجموعة من الأشخاص. كنّا نحن المجموعة، وفي الوقت ذاته، كانت المجموعة لا تتعدى شخصًا واحدًا. كنا ننظر إلى السلاح، وفي عيوننا وردات محترقة. كنت أعيش لحظات الانتظار تلك، وفي الوقت ذاته، أعيش لحظات التنفيذ، وأقفز مع أميرة في البحر، وأبقى أنتظر، أنتظر، ولم تهاجمني أية رِعْشَة سببها الهلع.
* * *
أسمع بعض الجلادين وهم يقتربون في الرواق، لا بد أنهم يأتون في طلبي، سأخبئ مذكراتي تحت فراش القش، على أن أعود إليها بعد قليل.
* * *

السبت في 11 تموز 1970
عفوك، يا أرواح النور! كلماتي التي هي قناديلك قد انطفأت طوال يومين. نعم، حجرة (( التأديب! )) فهم يرفضون تسميتها حجرة التعذيب، لأنَّ هذا يتنافى، حسب زعمهم، مع ((عدالتهم))، ولكي يكنسوا عنها الضباب، فتشرق شمسها على مستقبلهم المظلم، ولأنهم إنسانيون بمعيار يتضاعف مرات عما هو عليه لدى باقي الأمم، وعلى الخصوص، كما قال لي ضابط التحقيق، الأمم المتحضرة! وضرب لي مثلا: ((أمريكا! )) قال لي: (( إذا ما قارنا إنسانيتنا بإنسانية أمريكا، تعتبر أمريكا دولة من عصر الكهف! )) ولم يضف حرفًا واحدًا على هذه الكلمات بعد أن تركني في عهدة جلاديه.
حقّاً، حقّاً، أعترف لهم بفرادة إنسانيتهم، فمثلاً أول أمس ما الذي فعلوه؟ اكتفوا بوضع يدي في ماء يغلي حتى غلى لحم يدي، وصار بالإمكان إذا ما لمستني ثلاث أصابع ناعمة لطفل أن تنزع لحمي عن عظمي، حتى أن كلمة تنزع هذه ربما كانت شديدة بعض الشيء، أن تسحب بكل بساطة أمشاط الأصابع، وبنفضة صغيرة، أن تتك لحمي. ثم عادوا ورموا يدي في ماء بارد برودة الجليد، وبعد ذلك، استنطقوني من جديد، والسؤال دومًا: لماذا أنت فدائي؟ ومن هم الفدائيون الذين تعرفهم؟ ولما لم أشأ الجواب سلطوا تيار الكهرباء على عضوي التناسلي، وأطفأوا سجائرهم في جبيني.
لهذا أنا طريح الفراش، وليس باستطاعتي إكمال قصة
(( عمليتنا )). هذه الليلة أحسّ بقواي تخذلني، سقط القلم من يدي مرات، وكان قلبي على وشك التوقف مرات. انعطفَ عليّ رفيقي الجديد في الزنزانة، ورفعني مرات، دون أن يجد صعوبة في ذلك، فما أنا سوى هذه الكتلة من الجلد والعظم التي في أنفها جذوة الشهيق والزفير. لم أزل حيّاً، وأتمنى أن أبقى حيّاً حتى أنهي الحديث عن العملية. لأول مرة، طوال اعتقالي، أفكر في الموت.

الأحد في 12 تموز 1970
سأروي باقي العملية:
كان الوقت قد حان، الليلُ الثريُّ في الخارج، ونحن في مواقعنا وراء النافذتين. كنا ننتظر إشارة للبدء بالهجوم من المستنبت، لكن المستنبت ظل قابعًا في الصمت. كنّا ننتظر إشارة صغيرة، مصباحًا يشتعل لحظةً ثم ينطفئ، فنشعل من فوهات بنادقنا الليل. لكن أمرًا مثل هذا لم يقع، وصارت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف، أما الهجوم المخطط له، فكان من اللازم أن يشن حتى الثامنة والربع كأقصى مدى. أعطى الرئيس أمره لأميرة بتبديل ثوبها من وراء ظهورنا، وما هي سوى لحظات قليلة حتى انتصبت ما بيننا فتاة قروية هبّت معها رائحة الورد وخبز الطابون. أسرع فؤاد إلى خزانة مجاورة، وأحضر لها جرة فارغة. وقبل أن تذهب، نبَّهها الرئيس: (( لا تنسي الخروج من الباب الخلفي ))، وانغلق الباب.
بعد دقيقتين، رأينا خيالاً يقطع الشارع إلى الطريق الرملية ما لبثت بنادق الأعداء أن أوقفته. خلتها تقول لهم: (( أنا ذاهبة إلى العين! )) تخيلتهم وهم يبحثون في جسدها عما هو محرَّم، فتمتد أياديهم إلى نهديها ووَرِكَيْها وساقيها. ستحتمل أميرة كل شيء من أجلنا، وستعض على شفتها كي تستمد من صبرها الشجاعة. وفي الأخير، رأينا خيالها الحبيب يصعد الهضبة إلى المستنبت، واختفت. وفي اللحظة ذاتها، مزّقت انتظارنا والصمت شحنة من الرصاص. لم يكن المصدر هو المستنبت، وإنما داخل السجن. كان الرفاق في السجن الذين نهدف إلى تحريرهم قد حدثوني، فيما بعد، عما جرى في الردهات الرطبة. لم يعد لدينا خيار بين أن ننتظر أن يبدأ الرفاق في المستنبت هجومهم في ظهر العدو وعند استدارته نهاجمه فيكون ساعتئذ حصاره، وبين أن ندع العدو يجهز على رفاقنا الذين كسروا قيودهم داخل السجن ودقوا أعناق الحراس واستولوا على بنادقهم. قذفت رشاشاتنا حمم النار، فدككنا مواقع العدو، وفجرت قنابلنا مصفحة.
ما هي سوى بعض اللحظات، وإذا بخيالات تعدو، وتقفز، من بوابة السجن الكبيرة، والرئيس يهيب بنا إلى تشديد الهجوم مرددًا: (( لقد نفذوا! لقد نفذوا! )) فجأة، فتح الرفاق نيرانهم من شرفات المستنبت. أصبح قتالنا ضاريًا، ووجد العدو نفسه بين فكي كماشة رغم الهدم الذي ألحقته المصفحات في بنايتنا. تحطم جناحها الأيمن، ثم جناحها الأيسر، وصرنا معلقين في الفراغ. لم نكن نفكر عندئذ إلا في زحف الرفاق الذين في المستنبت، وتقدمهم، لإسكات بنادق العدو. كانوا ثمانية أو أكثر، وكانوا قد فجروا هم أيضًا مصفحة. رأيت عددًا من جنود الاحتلال يسقطون، وأنا أطلق باستمرار، لم أكن أعرف أنني على مثل تلك المهارة. ثم انفجرت صيحة هزتني هزًا مهولاً، واختلطت أشلاء سالم بالحطام، لكن أوامر الرئيس جذبتني إلى النار من جديد:
- اضرب، يا موسى، اضرب!
وماذا أنا فاعل بالله عليك؟ أن أضرب وأضرب! عدت أعزف للرفاق على رشاشتي أنشودة حريتهم، وصرنا على قاب قوسين أو أدنى من هزيمة الأعداء، بعد أن وهنت طلقاتهم، وبدوا على وشك أن يستسلموا نهائيّاً، إلا أننا وجدنا أنفسنا محاصرين. جاءت قوى ضاربة من كل ناحية، وراحت تدك مواقعنا. قتلوا الرئيس، وقتلوا فؤاد، وانهار على ظهري السقف، وفقدت وعيي.

الاثنين في 13 تموز 1970
(على ضوء واهن يتسلل من نافذة الزنزانة).
استطاع المعتصم على أثر الهجوم أن يعبر نهر الأردن، ومعه سبعة آخرون من الرفاق المعتقلين. قال لي ضابط التحقيق: (( انضم رفاقك الذين غدروك إلى حركة المقاومة، وما عليك سوى أن تحمل على ظهرك ما نريد إنزاله من عقاب بهم جميعًا. ))
(( رفاقي الذين غدروني! لماذا هم غدروني؟ ))
(( لأنهم تركوك تقع في أيدينا، وفروا بجلدهم. ))
يا رفاقي، يا من تعدون عدتكم للمجيء، أبعث إليكم من قلبي الخافق تحية. ها أنا أسمع وقع خطواتٍكم وصهيل الأحصنة. يا أيّها الرفاق الطيبون، أحضروا لي معكم بندقية، أحضروا لي معكم حرية!

الأربعاء في 15 تموز 1970
اليوم لم يأخذوني إلى حجرة التعذيب، لكنهم أخذوا رفيقي في الزنزانة. هو واحد ممن اقتحموا المستنبت ليلة النور! حكى لي ما حصل معهم من صعوبات اعترضتهم أثناء الطريق. عندما كانوا على وشك الوصول إلى المستنبت صادفوا دورية في الجبل، فاضطروا إلى أخذ طريق أخرى أطول وأكثر وعورة. ومرة ثانية، قبل أن يصلوا إلى المستنبت، تفادوا من جديد دورية ثانية، فتراجعوا، وتسلقوا الأشجار ليخفوا أنفسهم بين أغصانها. وبمشقة، استطاعوا، في الأخير، أن يشقوا طريقهم إلينا، ليجدوا المعركة قد بدأت.
قال لي رفيقي إن الدورية الأخيرة التي صادفوها هاجمتهم من ظهورهم، وكانت الفرقة المرابطة في مركز الحاكم العسكري (( العمارة )) قد تحركت صوبنا من ناحية الغرب، والفرقة المرابطة قرب مخيم بلاطة قد تحركت صوبنا من ناحية الشرق، وعند ذلك، تمكنوا منا... وقال لي رفيقي إنهم لم يلتقوا بأميرة.
خطوات ذات دوي تقترب في الرواق، لربما عادوا برفيقي من الحجرة المذكورة.

الخميس في 16 تموز 1970
لطمني الضابط في حجرة التعذيب، ثم عاد ولطمني. لم يكفه ذلك، قبض عليّ من شعر رأسي الخلفي، وأدناني حتى حافة الطاولة، وراح يدق صدغي، يدق أنفي، يدق عيني، يدق حاجبي، حتى حفر وجهي، وغرس فيه شهوته. تركني أسقط على الأرض، وسال الدمع من عينيه. تلطخت عيناي بالدم، فمددت يدًا أشبه بيدي، ورحت أمسحهما لأرى، فرأيت وجه ((الضبع))، وقد غزاه جيش من العرق والدموع.
قال لي الضابط، مثل كل مرة، وهو يلهث من التعب: (( ما هذه سوى بداية، وها أنا أتركك لتعترف، اعتبرها آخر فرصة! ))
وإذا بقبضتين جبارتين انتزعتاني، وأجبرتاني على الوقوف. (( إنها الفرصة الأخيرة! )) سقطت من جديد، وقبل أن أصل إلى حضن الأرض، رفعني الجندي المرافق، وشدني إلى صدره، فسمعت دقات قلبه، وأحسست بأنفاسه على وجهي، أنفاس من يعدو وحده في طريق لا نهاية لها، إلا أن الضابط نبر: (( دعه يسقط، دعه ينسحق!))
انصاع الجندي للأمر، فإذا بي في حضن الأرض أتحطم، وأنا أئن، والأرض تئن. بدا على الضابط الحزن فجأة، أشار إلى معاونيه، فحملوني إلى كرسي، وقيدوا يديّ الاثنتين. كهرباء! ضغط أحدهم على زر. كان التيار خفيفًا، فتوترت أوداجي، ومرة أخرى سال الدمع من عيني الضابط. راح يصرخ بي كي أعترف دون أن يعرف أن الجسد يعتاد عذابه، ويبقى المثل الأعلى متلألئًا، الجلاد لا يعرف، أداة القتل لا تعرف، مخلب العُقاب لا يعرف حتى ولو امتلأ قلبه حنوًا. خدش الضابط زرًا آخر، فسرى فيّ تيار مجنون من طرف إلى طرف، ورحت أصرخ به كي يواصل تعذيبي إلى ما لا نهاية، وغبت عن الوعي.
أحسست برشات ماء بارد على وجهي، فتحت عينًا، وبقيت الأخرى مغلقة. حاولت أن أفتحها، لكني لم أستطع. لمستها بأصابعي، فإذا بي أجد هناك كهفًا دسمًا. دماء تجلطت أو بزاق مدهوك. اكتشفت الحقيقة، وأنا لا أحس بالألم، وإنما بذلك الخدر الأخضر: لقد اقتلعوا عيني! وسالت دمعاتي من كل مكان في وجهي، وهي تسقي عيني عطفها، ثم راحت تتساقط على خدي صامتة.

الجمعة في 17 تموز 1970
عدت إلى زنزانتي مع موعد تبديل الحراس بعد أن ضمد لي عيني ممرض فلسطيني، كان يعمل هنا قبل الاحتلال بسنوات، وكنت بحراسة أحدهم، فلم نتبادل كلمة واحدة. لكني رأيت بعيني الوحيدة تقاطيع وجه بارد، وسمعت حركة المقص الذي يعمل بدقة وحذق. وأنا أدخل زنزانتي، تقدم مني حارس محذرًا: (( إنه معلق حتى الصباح! )) وهو يشير إلى رفيقي. تناول أنفي، وقرصه: (( إياك ثم إياك أن تراودك الرغبة في فكه! )) كانت عيني الوحيدة قد جحظت حتى أحسست بها انفجرت، وانتشرت عنها في الهواء أجسام طائرة. بعد ذهاب الجلاد، تقدمت من رفيقي لأفعل شيئًا. كانوا قد علقوه في السقف من قدميه، وقد مزقت السياط لحم ظهره وكتفيه، ودقت هناك حروقًا انطفأ بعضها، وعمل قشرة دموية غامقة. اقتربت منه أكثر ما يمكن، ونظرت في عينيه. كانتا مفتوحتين على سعتهما، كان يحدق من شدة الرعب. سألته بسذاجة عقرب البحر: (( هل عذبوك؟ )) لكنه بالطبع لم يجبني، فرقص في صدري إبليس. هل هو ميت؟ كانت تكفي تلك النظرة المهولة لعينين متفجرتين بالصراخ الأخرس. ألصقت أذني بقلبه، فسمعته يدق دقًّا رتيبًا. قلت مطمئنًا نفسي: لم يزل حيّاً! مددت أصابعي إلى عينيه، وأقفلتهما، ولكنه عاد وفتحهما، وراح يحدق من شدة الرعب.
جلست على حافة السرير، وأنا أرنو إليه، وهو يحدق من شدة الرعب دومًا، فقلت لنفسي حياة هذا الرجل ثمينة، وإلا لماذا تراهم يريدون سلبها؟ عدت ألصق أذني بقلبه متابعًا دقاته الضعيفة، وأنا أفكر: سيموت قبل أجله! وعزمت على ألا أدعهم يظفرون بحياة كهذه حياة. بقيت زمنًا طويلاً أخاطب نفسي في الليل، وأردد: لا، لن أدعهم! وعلى مرمى ليس بالبعيد خطوات الحارس التي كانت تروح ولا تلبث أن تأتي. يجب أن أحفظها له، حياته. رفعت رأسي إلى فوق، واستطعت، بنصف النظر الذي تركوه لي نصف سليم، أن أرى العقافة التي في السقف، عقافة حديدية كعقافة الجزار. نهضت، ورحت أدور حوله، وهو لا ينقطع عن التحديق من شدة الرعب.
يا أيتها الوردات الجبلية!
جررت السرير تحت رأسه، رفعت قدمًا خائرة، وحاولت الانتصاب على السرير، ولضعفي الشديد، رحت أفك العقدة التي تربطه بالعقافة بمجهود العمالقة والجبارين. عندما تم لي ذلك، سقط الجسد، وأنَّ أنينًًا مديدًا.

الأربعاء في 23 تموز 1970
كان القمر يسبح في الفضاء، وكنت أعشق مثل تلك المنات الطبيعية. مسحت بضوئه الخصب جراحي، وتركتها تنساب مع مركبه الفضي. لطم قلبي فجأة حبي القديم لأميرة، أين هي أميرة، لربما ماتت أميرة، أو هي في مكان ما مليء بالظلام والصقيع، لربما كانت في الزنزانة المجاورة، بل هي معي في زنزانتي. أميرة... حبي القديم!
أدرت رأسي نحو رفيقي، كان هناك، يبحث عن حب قديم، ويبدو عليه، هو الآخر، أنه وجده، فقد بدا جميلاً رغم الجراح. أخذت جراحه تتحرك، وتدب على الأربع. رأيته يرفع ساقًا، ويلقي بأخرى على السرير. ووجدت نفسي أقول له: (( إنني أفكر في حبيبتي، وأنت؟ )) قال لي: (( وأنا. )) قلت له:
(( أتدري؟ إننا إذا أحببنا نموت حبّاً! )) فهز لي رأسه. قلت له:
(( إنني أحببت حبيبتي عمرًا طويلاً، ولم أقل لها أحبك، إن حبنا مستحيل! )) فهز لي رأسه. قلت له مؤكدًا: (( إن حبنا مستحيل، لأن حبنا ليس كمثله حب، ينمو في العروق، ويورق في العقل، ويتفتح في العين، ولا حاجة إلى أن تقوله الكلمات! )) فهزّ لي رأسه. قلت له: (( كانت حبيبتي معي حتى آخر لحظة، وإذا ما افترقنا، فنحن دومًا نلتقي، نلتقي هنا، ببأس كل جوارحنا! )) فهز لي رأسه. قلت له: (( ليس هذا فقط بل ونأتي أيضًا بالبحر معنا وبالبر وبكل مدننا! )) فهز لي رأسه. قلت له: ((لا يمكن للحب أن يكون من أجل شيء آخر غير الحب حتى عند عدونا وإن حصل فمن أجل ألا يبقى عدوًا إلى ما لا نهاية! )) فلم يهز لي رأسه. راحت دمعة رفيقي تسيل على خده، وبقي صامتًا. فتح فمه في الأخير، وقال لي: (( لقد أحببت، نعم، لقد أحببت أكثر من مرة، ولكني ما أحببت مرة، وقلت فيها أحبك، مثلك تمامًا. وفي آخر مرة قبل أن يعتقلوني، جاءني صوت يقول لي أحبك، فسهوت، ولم أفرغ سلاحي في صدر عدوي.))



بعدما هدموا المخيم


كان الليل بحيرة ظلماء ليست لها نهايات، وفي عمق الليل عبد الرحمن، وعشرون ألف لاجئ. كان عبد الرحمن يتمدد على الأرض، يداه خلف رأسه، وهو يُحْدِدُ نظره إلى نقطة هناك في الأعلى، في أعلى الأعالي، يفصلها عنه بعد ساحق. لم يكن البعد وهميًّا، ولا النقطة، وكانت له حدقتان سوداوان تتقدان حزنًا، وأهدابه مثل مرج تلتهب فيه الحشائش. كانت النسمات رطبة، ثقيلة، بطيئة، وكذلك أنفاسه. ليلة صيف قتيلة، فهذا كل ما تبقى: نسمات أخيرة.
خلال النهار، بدأ الجنود الإسرائيليون بهدم المخيم بالجرافات، وعملوا سياجًا كهربائيّاً، وبالأمس أحرقوا معظم الخيمات، لئلا يلد المخيم ظباءه. أمال عبد الرحمن رأسه ناحية اليسار، وناحية اليمين، فرأى الناس، وهم ينامون على الأرض، ويدفنون وجوههم في التراب. كان نجمهم التائه قد ذاب في السموات، فخلع عبد الرحمن سترته، ولفَّ بها زوجته. رغب في أن يلفها بذراعيه، ويغمرها بالدفء ليلين خافقها، لكنه عاد يحدد نظره إلى اللامنتهى. لم يتساءل أي لامنتهى؟
بالنسبة له، كانت اللانهايات، في الأخير، تصبح نهايات معقولة تحت شرط لازم. تلاشت النسمات، فتخيلهم يوصدون العالم من حوله. نظر إلى زوجته ، فظنها ماتت. قذفته من أعماقه يد ماردة، فجذب عنها السترة، وراح يدفع أذنه على قلبها. تحركت، وقالت ثلاث كلمات لملاكها، وابتسمت قليلاً، فنهض عنها ضائقًا. لم يكن جمر القلق مبررًا، راح يطوي سترته، والعرق يتصبب من جبينه. رنا إليها طويلاً، فابتسمت، هذه المرة، بجود. كانت على التأكيد تحلم! حسدها، فهي استطاعت النوم، وها هي ذي في نومها تحلم، ويمكن أن يكون حلمًا جميلاً! فجأة، امّحت ابتسامتها، وحلت محلها هيئة عابسة. انشق فمها اثنين، وبدأت شفتها السفلى تضرب كالوتر. عندئذ، ابتسم. غدا طبيعيًّا: وجهها الذي يتوتر بين أصابع الحلم الرهيب. رفع رأسه إلى أعلى، ولحاف الغيم قد بدأ يغطي السماء، فقال لنفسه: غدًا سيواصلون هدم المخيم، سيهدمونه عن بكرة أبيه! وفي اللحظة ذاتها، انطلقت سعلة حادة، راح يبحث بعينيه بين أكوام (( الجثث الحية )) عن مصدرها. أراد عبد الرحمن أن يسعل هو الآخر، أن يتنحنح، أن يقوم بأية حركة، لكنه ظل ساكنًا، وبدا غائبًا، مع أن أصابعه قبضت حجرًا، واعتصرته. مضت لحظات دون أن ينتبه إلى صوتٍ خافتٍ آتٍ من ورائه:
- ألا يأتيك النوم؟
التفت عبد الرحمن، فرأى أخاه الصغير عدنان يجلس من ورائه. تبادلا النظر، ثم رفعا عينيهما نحو هضبة المراقبة، فرأيا أشباحًا لجنود عشرة وأسلحة مصوبة نحوهم.
علّق عدنان:
- هناك عشرة جنود. من العادة أن يضعوا جنديين اثنين.
خفض عبد الرحمن عينيه، وراح يراقب أصابع أخيه، وهي تتحرك على الأرض كالجناح المضطرب. سمعه يقول بقلق:
- ها هم يضاعفون الاهتمام بنا على غير عادتهم منذ عشرة أيام.
- أتساءل لماذا؟
قال أخو عبد الرحمن بأناة:
- لأنهم سيعبرون بنا الجسر.
أزَّت السعلة من جديد، فهمهم عبد الرحمن:
- أحدهم لا يستطيع النوم.
ارتمى أخوه على بطنه، ثم ارتفع بصدره مواجهًا إياه. أراد أن يتكلم، لكن عبد الرحمن قال:
- إنه لمن المستحيل!
- لماذا؟
- ربما كان بإمكانهم أن يرحّلوا ألفًا منا أو عشرة آلاف... لكنهم لن يرحلونا كلنا.
فأكّد عدنان:
- سيكون بإمكانهم، سيكون بإمكانهم، ونحن، مسافات أكثر طولاً ستنفتح أمامنا ومعها بؤسها، مسافات أطول غير هذه المسافات وبؤس غير هذا البؤس!
ثم هتف بصوت نصف صائح:
- لنهدم الجسر.
انتفض عبد الرحمن مع انتفاضة الشفتين، وأراد أن يصعد مع صباح فكرة تقول: لنهدم الجسر! لكنه أحسَّ بلحم الليل على جسده، فنظر إلى لحاف الغيم، وقد غطّى السماء كلها، وأطلق نفسًا مديدًا، وعدنان يضيف:
- هكذا لن يمكنهم ترحيل شخص واحد من أهلنا، وسيجعل هدم الجسر من كل واحد طارق بن زياد آخر.
راح عدنان يخدش بأظافره التربة، ويقول:
- ربما كان هذا ضربًا من المحال، ولكن...
وفجأة، أخذ ينبر:
- أحس في قلبي الجفاف، جفاف هذه التربة الظمأى.
أراد عبد الرحمن أن يقول له ستعرض نفسك للخطر، أليس من أجل أن تسقي قلبك! لاحظ في فضاء عينيه سهامًا تنبت كالزرع، فانحنى باتجاهه، وقال:
- لا تتعجل الأمور!
وراعه ذلك الوجه القمري الغاضب الخارج من لحاف الغيم والذي بإمكانه أن يلامسه بملء يديه.
راح يردد:
- لا تتعجل الأمور! لا تتعجل الأمور!
انفتل عدنان على جانبه ملتصقًا بالأرض أكثر دون أن يجد إلى الطمأنينة سبيلاً. عندما كان طفلاً، كان يحس في قريتهم بالأمان وبالطمأنينة، أما الآن...
عاد عبد الرحمن يحدق في المنتهي متجاذبًا لحاف الغيم، ثم همس:
- غدًا سيواصلون هدم المخيم.
كان الليل يهبط ثقيلاً على صدره، فأراد أن يخفف قليلاً من وطأة الليل، أن يشعل عود ثقاب مثلاً، أو أن يبتسم، لكنه ظل ساكنًا لا يبذل أدنى حركة. سمع عدنان يقول بصوت منفعل:
- هدم الجسر ليس بالعقبة أمام عشرين ألف من البشر.
وتخيلهم عشرين ألف رأس ترتفع، وأربعين ألف أذن تصغي، لكنهم كانوا ينوءون بعبء أجسادهم، فأطلق تأوهة.
قال عبد الرحمن:
- كل شيء يأتي في أوانه.
وابتسم له بود.
رفع إصبعًا في الليل الهائل، وأشار إليهم، وهم ينامون من حوله:
- نحن بعيدون عن العاصفة.
نبر عدنان:
- لماذا إذن هدموا المخيم؟
- الفدائيون جعلوا العاصفة تهب، ولكنها ذهبت بعيدًا من هنا.
استمر عدنان ينبر:
- هدموا المخيم خوفًا من أن تكون هناك عملية واحدة تلد الفدائي الكامن فيهم من رماده، فيعودون بالعاصفة.
بعد بضع لحظات من التأمل، أطلق الأخ الكبير تأوهة، وجمجم:
- كم هو الليل ثقيل!
قال عدنان:
- يجب على الفدائي الكامن فيهم أن يولد من رماده.
وبدا وجهه مضيئًا في قلب الظلام.
تذكر حكايات جده التي رواها له، وهو طفل صغير، على الخصوص، حكاية حامل السيف والرمح في وجه عمالقة الجزيرة الضائعة. وعلى مقربة منهم، كان طفل ينام شبه عارٍ، فتناول عبد الرحمن سترته، وألقاها عليه.
ابتسم عدنان كالمسحور، وقال، وهو يغمض عينيه:
- إنني أتخيلها، في الصباح، هذه القامات المنكسرة، وقد انتصبت بحثًا عن ظلالها.
رآهم في خياله، وقد نهضوا، وتدفقوا، وصاروا نهرًا. وبدافع تلك الصورة، انفتح الليل على إيقاع الأمل، وتمزق لحاف الغيم. بدت في السماء نجمة تتلألأ دون انقطاع، نجمة زرقاء كتلك التي يعلقونها وسط هلال من الخرز حرزًا على صدور الأطفال. رنا عبد الرحمن إلى الطفل بحنو الأب الذي لم يكنه، كان يبدو وحيدًا، ملقى كشيء من الأشياء، وملكت عليه حواسه فكرة أنه يتيم حرب، ولسوف تختصم عليه امرأتان تحتكمان، في النهاية، إلى حاكم يأمر بشقه نصفين، ليعرف أيهما الأم وأيهما الجحيم. عندما فتح عدنان عينيه، لم يجد الطفل، ولا عبد الرحمن. وراح يرى من حوله خيالات تتحرك، وتزحف، وتنادي بصوت خافت.



المقهى

ألقيت نظري على أبواب مقهى (( الهموز )) الثلاثة التي لها شكل الأقواس، كانت درفها الزجاجية مفتوحة على المصراعين، وألواح زجاج ملونة، تدور مع الأبواب، في الأعلى، مرشوقة بالغبار. وكانت في الزوايا بعض الألواح المكسورة التي غطيت بقطع من الكرتون، وفي الحائط ثقب مهمل، حيكت عليه أنسجة رمادية.
كانت الحرارة شديدة، والمروحة الكهربائية تصنع ريحًا ساخنة. ولوجود الرجلين الوحيدين في المقهى، اللذين كانا يقذفان حجارة النرد دون صدى في إحدى الزوايا، كنت أشعر بالجلوس في مكان منعزل عن العالم، يرزح تحت وطأة الفراغ.
في الخارج، كان شارع (( الشويترة )) أبيض صامتًا، تجتازه بعض الخطوات من آن لآن، وكان جندي إسرائيلي يقف في ظل مكتبة البلدية على الرصيف المقابل، والشمس تشتعل كالجحيم. رفعت رأسي إلى الجناح الخلفي لفندق فلسطين، فشعرت بانتعاش مفاجئ.
في ليلة من الليالي الماضيات، ليالي (( السلم )) الماضيات، حملت نفسي حيث ردهة البار الفخمة في الفندق، وقررت أن أشرب كأس ويسكي أمام أعين كل الناس. كان أبو يوسف، صاحب الفندق، يرميني بنظرة شك دون أن يصدق عينيه. وفي الأخير، تجرّأ، وتقدم مني قائلاً: (( ويسكي حلو! ويسكي معتق على مدى أعوام!))، وقصده التحرش بي. لم أجبه، فقط ابتسمت له ابتسامة خفيفة، فانسحب مخيَّباً دون أن يضيف كلمة واحدة.
أحددت نظري إلى فنجان القهوة، ورحت أفكر: قهوة مرة! قهوة مغلية في عهد الاحتلال! رفعت الفنجان، وأخذت رشفة. في تلك اللحظة، دخل شاب في الخامسة والعشرين، وهو يضع يديه في جيبي بنطاله، وشعره السائب يلامس باستمرار صفحة جبينه. جلس وراء طاولة مقابلاً إياي، ورماني بنظرة عاجلة. أخرج علبة سجائره، وأشعل إحداها. سحب نفسين أو ثلاثة دفعة واحدة، وهو يحاول ألا يبدو عليه التوتر، وراح يتابع بعينيه لاعبي النرد عن كثب. عندما جاءه النادل طلب:
- كأس ليمونادة بالصودا مع كثير من الثلج من فضلك.
أعطاه النادل ظهره، وضاع بين الطاولات.
لاحظت أن الشاب ينظر إلى ساعته بين حين وآخر،
ولا يلبث أن يلقي نظره على لاعبي النرد دون أن يشعرهما باهتمامه. دبت في نفسي الرغبة في محادثته، وفي الوقت ذاته، علت ضحكة أحد اللاعبين دون الحرارة التي من المفترض أن تكون قوية تعبيرًا عن انتصاره، بينما انحنى الآخر بذل جامعًا الجحارة.
اقترب النادل بالطلب على صينية مستديرة مرفوعة حتى محاذاة الكتف، وضع الكأس أمام الشاب، ودون أن يفوه بكلمة واحدة، عاد أدراجه.
تأمل الشاب كأسه طويلاً، ثم دفع بخنصره قطع الثلج، فغرقت، وطفت. راح يتابع الفقاعات البيضاء والغبش الذي لفح جلد الكأس. أعاد الكرّة، فصفقت قطع الثلج، وراحت تنتفض قرب الفوهة. رفع الكأس، وشرب منها. مج سيجارته مرتين أو ثلاث كما فعل منذ قليل، وأطفأها. سأل ساعته بقلق، ثم نهض متقدمًا مني:
- يمكن أن تكون على خطأ (قال وهو يشير إلى ساعته)، كم الساعة من فضلك؟
- الرابعة وعشر دقائق.
- إذن ساعتي لا تسبّق!
واحتار.
دفعني الفضول، بعد رغبتي في محادثته، إلى سؤاله:
- ألم تقرأ في ثانوية الصلاحية؟
ابتسم الشاب:
- كان ذلك منذ عهد بعيد، وأنا أعرفك.
ارتجيت رجاء خفيّاً: كنتُ قد أردتُ محادثته، وفكرتُ في طريقة للبدء، وها هو يقول إنه يعرفني!
- إذن لماذا تجلس وحدك؟ طالما أنك تعرفني، فلنتاقسم طاولتي.
تردد الشاب:
- أنا أنتظر صديقًا.
ألح الرجاء الخفي:
- هذا لا يغير من انتظارك شيئًا، ففي حال أن يأتي صديقك ستكون لك مطلق الحرية في تركي.
لاحظته يجيل النظر بين لاعبي النرد وعقرب ساعته، وأنا ألح:
- طالما أنك تعرفني، فلماذا إذن لا نتجاذب أطراف الحديث؟
كان الشاب قد قطع قراره، أعطاني ظهره، أحضر كأسه، وجلس أمامي، فابتسمت له.
قال بضيق:
- لا أدري لماذا تأخر؟ هذا شيء يقلق أن يخلف أحدهم موعده معك.
- صحيح.
سألته بعد بعض الصمت:
- وكيف جرى أنك تعرفني؟
- العام الذي بدأت فيه مهنتك، كمعلم في الصلاحية، كنت قد أنهيت دراستي الثانوية، لكن لي أخًا يصغرني بعامين كان واحدًا من تلاميذك.
- ما اسمه؟
- سعد، سعد محمد المسعود.
- آه! آه! تذكرته، أتم دراسته الثانوية منذ عدة سنوات.
وأضفت دون أن أنتظر منه تعليقًا:
- كان نجيبًا ومجتهدًا!
فلم يمتنع الشاب عن الابتسام.
سألته:
- وأنت، ما هو اسمك؟
- سعيد.
- وهل تابعت دراستك الجامعية؟
- نعم، لكني لم أنتهِ بعد، أنا في السنة الأخيرة كلية الطب قصر العيني في القاهرة.
- هذا يعني أنك طبيب!
ابتسم من جديد:
- ليس بالمعنى الكامل.
- وأخوك، ماذا عنه؟ كان نجيبًا ومجتهدًا!
امّحت ابتسامته، وجمجم:
- قتلوه.
وألقى بكل نظره على اللاعبيْن، كان أحدهما يضحك بملء شِدقيه ضحكات لا ترن، والآخر يَقْطُِبُ حاجبيه عابسًا. رحت أتمثل قدره، قدر أخيه، كان بإمكانه أن يكون مثله، أن تكون له نظرته، أن يكون له شبابه، أن يصبح يومًا طبيبًا!
- أنا آسف، كم هذا شديد الوقع في النفس، أنا حزين لأجله!
أعاد سعيد كلماتي كأنما تأتي بها الأروقة:
- كان نجيبًا ومجتهدًا...
وما لبث أن نفض عن كاهله ذكرى (( قتلوه ))، والتمعت عيناه. وعندما مات في فراغ المقهى حجر النرد المقذوف، عمقت تعابيره، ونظر إلى ساعته. قلت له:
- إن صاحبك لن يأتي.
لكنه أكد:
- سيأتي، فالأمر على بالغ الأهمية.
تمالكت نفسي عن سؤاله: ما هو هذا الأمر الذي على بالغ الأهمية؟! أدار رأسه نحو لاعبي النرد، ثم نحو الباب حيث جندي الاحتلال يقف دومًا هناك بسلاحه. وعندما عاد بنظراته إليّ، كان أحد اللاعبين يحدجه، وليتحاشاه سعيد، حمل كأس الليمونادة بالصودا، وأفرغها في جوفه. دخلت قطعة ثلج في فمه، فراح يكسرها بأسنانه، وأنا أحس بالبرد، وتعبر بي عاصفة، وأرتعش.
التفت إلى ساعته، وقال فجأة:
- يلزمني أن أقوم بجولة.
جمعت بين أصابعي فنجان القهوة، واحتسيت آخر رشفة فيه.
فجأة أيضًا، طلب إليّ:
- هلا أديت لي خدمة؟
- ما هي؟
- هل هناك ما يشغلك؟
- لا.
- إذن ابق هنا ريثما أعود، ربما أحوجني ذلك إلى نصف ساعة أو أربعين دقيقة على الأكثر، والذي أرجوه منك أن تنتظر صديقي، فإذا ما حضر، أعطه هذا (أخرج من جيبه حزمة ملفوفة بقدر الكف، وقدمها لي)، وأخبره أني لن أتأخر عن العودة.
ابتسمت، وقلت بشيء من العبث:
- ولكن ربما حسبت أي مخلوق صديقك!
لم يجبني، رأيته يتبادل هو ولاعب النرد نظرة تحدٍ أحسست فيها بحقد أحدهما على الآخر، ثم ما لبث لاعب النرد أن نهض بهدوء، وقطع الشارع إلى الرصيف المقابل، وراح يحادث الجندي.
وقف الشاب، وقال لي:
- إن صديقي يعرفك، وسيأتي بنفسه إليك في طلب الأمانة.
ولم يتح لي الفرصة للتفكير في الأمر، إذ غادرني بسرعة، وما هي سوى بضع لحظات حتى دوت بعض الطلقات، خرجت أعدو في أثرها، فوجدت الشاب صريعًا في قلب الشارع.
كان الجندي الإسرائيلي قد أخذ يقذف الناس الذين تجمعوا بعَقْبِ البندقية، وفي داخلي ما زالت تهدر أصداء الطلقات. فجأة، شعرت بثقل الحزمة التي أعطاني إياها سعيد بين أصابعي، ضغطتها، فقاومني جسد معدني. وبرمش عين، فككت الحزمة، وإذا بمسدس يسلب اللب انتفضت معه قبضتي. بحثت عن لاعب النرد بين الجمع، فوجدته يتسلل عائدًا إلى طاولته. تبعته، وانتصبت مواجهًا إياه. نصبت المسدس في قلبه، وأطلقت عدة مرات، فدوت الطلقات، وامتلأ المقهى بالأصداء.


النادل


جاءني النادل، وهو يبدو على غير طبيعته. كانت في حركاته نرفزة، وفي كلماته توتر.
- قهوة مرة، يا سيد صابر؟
قلت له:
- ليس لي من خيار.
وفي الوقت نفسه، عبر خيال جندي إسرائيلي زجاج النافذة، واستقر في الشعاع الغارب، فأتى صوت أحد الرواد منبهًا من طرف:
- حذار!
وكان رد فعل النادل حادًّا:
- ماذا تقصد؟
دفع يده في جيبِ وَِزْرَتِهِ الأمامية، وجمع القطع النقدية، ثم جعلها تسقط، وازدهرت الفكرة:
- أنقعد منتظرين عقابنا؟
أوطأ الرجل صوته، وقال:
- إن أحدًا لا يطلب منك ذلك.
وأضاف بروية مزعجة بعد بعض الصمت:
- أما إذا كنت تريد، فما عليك سوى أن تخرج إلى الطريق، وتلتقي بأحدهم.
اهتز النادل، وراحت شفته السفلى ترتعش:
- أتظنهم يفزعونني؟ أنا من حارة الياسمينة!
تمتم الرجل بعجلة:
- أنا لم أقل شيئًا.
وانطوى على نفسه.
توجه النادل بالحديث إليّ، وهو يعيد محتدّاً:
- أنا من حارة الياسمينة، (وأضاف بصوت فيه الوعيد) ومن لا يعرفني فليسأل عني!
ثم قال لي بعد أن خفض صوته:
- أتعرف ما الذي أفكر فيه، يا أستاذ صابر، ربما كان ذلك من دافع الجنون، لكنها الحقيقة، لن تتعجب مني إذا قلت لك إني أفكر في تحطيم أكبر زجاجات الصودا على رأس جندي الحراسة الذي يذرع الطريق في الخارج جيئة وذهابًا، ثم أسلبه السلاح، وبعد ذلك، سيكون شغلي بعد ذلك. ربما تساءلت كيف سيكون بإمكاني ذلك؟ وأنا أقول لك سيكون بإمكاني، سيكون بإمكاني ذلك، يا سيد صابر، إذ سأباغته من الخلف، وبعد ذلك، (وضرب يدًا بيد) سيكون شغلي بعد ذلك.
سار خطوتين، لكنه عاد والتفت إليّ:
- قهوة مرة كالعادة؟
وافقته بحركة من رأسي، فلم يتحرك، أخذ يقول غائبًا بعض الشيء:
- على الأقل يشعر المرء بقدره، فلا يبقى نادلاً طوال الوقت.
توتر وجهه، أعطاني ظهره، وذهب ليحضر الطلب. غاب بضع لحظات، ثم عاد. وهو يضع فنجان القهوة أمامي، دسست في يده ورقة صغيرة بشأن حقيبة المتفجرات التي يخفيها دون أن يعرف حقيقتها، فشد عليها بقوة، وهو يضغط أسنانه، ويزرع عينيه في عينيّ. في تلك اللحظة، دخل مخبر، وجلس في مواجهتي، فتعمدت الإبطاء في احتساء القهوة رغم غروب الشمس ووجوب الانصراف مبكرًا. لم يبق في المقهى أحد سوانا أنا والمخبر ولاعبيْ نرد واثنين آخرين يجلسان في زواية شبه معتمة: أحدهما ملتح يرتدي بذلة، والآخر حليق يرتدي قنبازًا ويضع على رأسه طربوشًا تدل وجنتاه المكتنزتان على السعة والرخاء، منذ أن دخلا المقهى، وهما يدفعان فمهما في أذنهما دون أن يتوقفا دقيقة واحدة عن الهمس، وقد طلبا قهوة مرتين.
كان النادل قد وقف مكتوف اليدين دون أن تتوقف عيناه في جهة معينة، ولاحظت أن الرجلين اللذين يجلسان في الزاوية قد كفا عن الهمس لأول مرة منذ مجيئهما، فقد أبعد كل منهما فمه عن أذن الآخر. وبعد قليل، أشار أحدهما إلى النادل، فاقترب منهما بتمهل، وهو يجمع القروش التي في جيب وزرته الأمامية في يده ليتركها تسقط، وهكذا، إلى أن وصلهما.
- أتريدان شيئًا آخر؟
قال الرجل:
- لا. خذ حسابك.
وهو يضع على الطاولة ورقة نقدية.
أرجع النادل للرجل بعض القروش، وأعطاه ظهره دون أن يأخذ الورقة النقدية، مما دفع الرجل إلى التهكم قائلاَ:
- أهي دعوة على حسابك أم ماذا؟
وهو يحرك الورقة النقدية أمام عينيه، ثم ما لبث أن انفجر ضاحكًا.
عاد النادل مرتبكًا، تناول الورقة النقدية، وقال:
- آسف، أكرر أسفي، فهم منذ حلوا ما بيننا لا يجعلوننا نتصرف كما يجب!
رفع الرجل حاجبه، وقال:
- والأمر كذلك، سنكون أشقياء! الحقيقة أننا سنكون أشقياء!
فتناهت إلى مسامعي نبرة الحنق الشديد في صوت النادل:
- ولكننا أشقياء بالفعل، يا سيدي!
ولم يكتفِ النادل بذلك، رفع إصبعًا مرتجةً تشير إلى الخارج:
- سيدقون علينا الباب بعد قليل آمريننا أن نقفل.
- وبعد هذا؟
نطق النادل وكلماته المتوترة تخرج من حلقه بصعوبة:
- كيف سيكون بالإمكان أن نتصرف كما يجب بعد هذا؟
قال الرجل، وهو ينهض:
- يجدر بنا التعقل، اليوم يوم التعقل.
ربت عدة مرات على كتف النادل، وقال: ليلة سعيدة! ثم اتجه نحو الباب، وصاحبه يتبعه. وقبل أن يغادرا المقهى، أخذ النادل يردد من ورائهما بتعاسة:
- ليلة سعيدة! أي نعم، ليلة سعيدة!
وحالما اختفى الرجلان، راح يسعل، ويبصق في منديله. تلاقى نظرانا، فقال لي كمن يعتذر:
- إنني أقولها على سبيل المجاملة، فليس ثمة من ليلة سعيدة بعد.
انحنى يجمع فناجين القهوة، وأنا ألاحظ على وجهه أمارات الغضب، وعزمت على أن أكشف له عن سر ماهية حقيبة المتفجرات التي يخفيها لأجلي، فلربما وجد طريقه. كان المخبر قد ترك المقهى، وكان أحد لاعبي النرد قد طلب كأس ماء، وغبت مع أفكاري بضع لحظاتٍ، لأنتفض على وقع طرقات شديدة على الستار الحديدي بعد أن جذبته يد الجندي.
صاح النادل:
- أيها السادة، إننا نقفل!
ولم تعد لدي رغبة في النهوض.
كان لاعبا النرد قد قذفا الحجارة باستياء وأحدهما يهمهم:
- ولكننا لم ننهِ اللعبة!
والثاني يشتم:
- طز! طز! طز!
ليكرر الأول من جديد:
- ولكننا لم ننهِ اللعبة!
قال لهما النادل:
- غدًا ستكون لكما لعبة أخرى.
والرجل يشدد على كلماته:
- ولكننا لم ننهِ اللعبة!
والثاني يضرب ظاهر يده في كفه:
- طز! طز! طز!
إلى أن تركا المقهى.
جرَّ النادل ستار الباب الأول حتى الأرض، ووضع الأقفال، فستار الباب الثاني، وتوقف عند ستار الباب الثالث، وقال لي راجيًا:
- إننا نقفل، يا سيد صابر.
ثم راح يجمجم مُحْنَقًا:
- كأنها الطرقة على القفا!
وسمعته يلعن.
وأنا على الباب، إذا بالمخبر وبعض الجنود يجرون باتجاهي، وسيارة عسكرية تتبعهم، فتطلع النادل في الليل مذعورًا، وقال لي:
- ولكنك لم تأخذ الحقيبة.
قلت بسرعة:
- إنني أتركها لك.
رماني الجنود في السيارة عسكرية، وانطلقوا بي، وأنا أفكر في حارة الياسمينة.

عندما قتلت مجيدًا بالخطأ رصاصة


1- قبل الاحتلال
كان مجيد يحب أباه، لأن أباه علّمه ألا يكره أحدًا، أن يحب كل الناس، وأول الناس أباه. وكان مجيد يعتقد أن من الواجب عليه أن يحب كل الناس إكرامًا لأبيه، وخوفًا من أن يضربه إذا ما علم أنه لا يحب كل الناس، وقد أحبَّهم أيضًا لئلا يمنع عنه المصروف.
كان مجيد يفكر أحيانًا، ورغم أنه كان صغير السن، فقد كان له عقل (( ناضج )) يجعله يفكر في مسائل صعبة. في إحدى المرات، مثلاً، تساءل مجيد كيف تحبل النساء؟ وبقي سؤاله، مدة طويلة، دون جواب. راح السؤال يلح عليه، ولهذا أصاب مجيد بعض الأرق. وفي إحدى الليالي، بعد أن غادره النوم، خطر على باله أن يوقظ أباه، ويطرح عليه سؤاله، فلربما يريحه بجواب.
خرج مجيد من غرفته حافيًا، نسي أن يلبس خفه، ولم يشعل ضوء الممر. ولما اقترب من باب حجرة أبيه، فكّر في أن الوقت متأخر بعض الشيء، لكنه رفع يده ليطرق الباب، ثم عدل عن ذلك في اللحظة الأخيرة. فتح الباب بهدوء، فرأى في الحجرة ضوءًا أحمر، ظنه نارًا تشتعل، والنار بالنسبة له كانت خوفه المرضي. أراد أن يصيح، إلا أنه توقف فجأة، وهو يفتح عينيه على سعتهما: رأى أباه ينام على بطنه عاريًا وسط اللهب، فولَّى فزعًا، وظل طوال الليل يبكي. كان الأب لا يبالي بابنه أن يخاف النار أو لا يخافها، هذا ما خلص إليه مجيد.
بعد ذلك، كف مجيد عن حب أبيه، ولم يعد يحب الناس، لأن أحدًا من الناس، مثل أبيه، لا يبالي به. وظل السؤال باقيًا في رأسه، عالقًا في ذهنه.
كبر مجيد، وعرف كيف تحبل النساء، لماذا كانت حجرة أبيه حمراء في تلك الليلة، ولماذا كان أبوه ينام على بطنه عاريًا. قال لنفسه: يمكن لي أن أجرب. لم يكن يمكنه الزواج، فسنه ليست بسن زواج. كان يريد أن يجرب، كان يريد فقط أن يجرب. وكانت تتردد عليهم امرأة لها ابنتان: إحداهما في سن الرضاعة، وهي لا تستحي منه، فهو، حسبما تدعي، كأخيها الصغير، أو كابنها، تخرج ثديها في حضرته، وتلقمه فم صغيرتها، فيشيح مجيد بوجهه عنها، ثم يخرج ملتهب الوجه من شدة الخجل.
وذات يوم، حلَّت عندهم المرأة، ومعها ابنتها الرضيعة، ولم تكن أم مجيد في البيت، ولا أبوه، كان وحده. أدخل المرأة حجرة النوم، بطلب منها، لأنها لا ترتاح إلا عند الجلوس على السرير. إنه مكانها المفضل، على اعتبار أن أمه كشقيقتها، وهي ستقعد هناك بانتظارها، وكأنها بالقرب منها، إذ كانت أمه تجلس في العادة أمام المرآة لتزين وجهها، بينما تسرد المرأة عليها قصص النساء وأسرارها.
جلس مجيد على مقربة من المرأة، وهو يفكر في أن لها صدرًا عظيمًا، وسيقضي وقتًا ممتعًا بامتلاكه والغوص في أغواره. نظر، وتنهد، وصار على وشك الإنعاظ، إنعاظ في رأسه، إنعاظ في صدره، إنعاظ في عروقه. ودون أن تبكي الصغيرة من الجوع، ابتسمت المرأة له، وراحت تفك أزرار ثوبها، فبرز الثدي بأبهة، وشمخ مهتزًا بكبرياء، وكأنها تدعوه إليه. تنحنح مجيد، ولم يدر ما يفعل. بكت الصغيرة لجوعها أو لأن أمها قرصتها، وبعدما انعجن الثدي بين الأصابع الرشيقة، وعضته الصغيرة، شدت المرأة ثوبها من تحت لتغطيها كي تدفئها، وتنيمها. بان لمجيد الجسد الرخص، والمرأة تبتسم له أكثر من الأول، وأمام ارتباك مجيد، تناولت أصابعه، وفرشتها على فخذها، فسحبها بسرعة، وقد لسعته الفخذ كالنار، ثم غادر المكان، وراح يجري إلى أحد الشوارع الضيقة في نابلس القديمة، حيث الأكتاف تضرب الأكتاف، وعناق الظلال لا يولّد الخجل لدى المارة. كان من اللازم أن يصطدم بأي واحد، بأي شيء، لكن شيئًا من هذا لم يحصل. لما أصابه التعب، دخل مقهى، وجلس على أقرب كرسي. والنادل يقترب منه ليسأله عما يطلب، فكر فيما سيختار، وتردد بين البيبسي كولا والكوكا كولا، وقد غمره شعور كاسح بأن يعاود التجربة، فقد كان سخيفًا.
* * *

2- بعد الاحتلال
عاد مجيد يحب أباه، وكل الناس، ليس إكرامًا لأبيه، هذه المرة، بل كرهًا للاحتلال، حارقهم، ومشعل النار في بيوتهم وأجسادهم، ولكن الجسد الرخص للمرأة، التي لم تعد تتردد عليهم، ظل فرصته الضائعة. ظل ثديها المنعجن بين الأصابع الرشيقة يطارده في النهار وفي الليل، وشعر شعور السخيف الكبير بنفسه، ففكر، لهذا، في الكف عن حب الناس وأبيه، انتقامًا من سخفه، لكنه لم يستطع، بسبب دوام الاحتلال، فراح يكره نفسه.
وفي إحدى المرات، كان مجيد يمشي على رصيف أحد الشوارع الضيقة في نابلس القديمة، فانفجرت قنبلة في سيارة عسكرية للمحتل. لم يدر مجيد على رؤية النار، خوفه المرضي الدائم، ماذا يفعل، والناس تهرع إلى بيوتها تاركة إياه وحده، فكره الناس، ومن قبل كره نفسه، وكره أباه، وكأن أباه يتآمر مع الناس ضده. وعندما ميز أن هناك نارًا ونارًا، ذهب عنه خوفه المرضي من النار، وجاءه خوف آخر، الخوف من الموت. كان الناس كلهم يخافون من الموت، وخلال أقل من عشر ثوان فكر مجيد في الهرب مثلما هرب الناس، وترك الموت لمن يريده، فالنار لم تعد بذي بال، بالاحتلال أو بغيره، بل الموت. ومن جديد، سقط مجيد في حب الحياة وحب نفسه وحب الناس وحب أبيه، عندما سقط على الأرض فجأة، كانت قد قتلته بالخطأ رصاصة.




فكرة شارلوت عنه قتلته


هل هي صدفة أن يكون اسمه (( عاصي ))، وفعله ((عاصي))؟ دومًا ما كانوا يربطون اسمه بفعله منذ كان طفلاً، لمجرد أنه كان شخصًا عنيدًا، واليوم، لأنه يعمل في كراج حيفاوي صاحبه يهودي اسمه المعلم ناتان. ورغم كل التفسيرات التي أعطاها عاصي لنفسه ولهم عن لقمة العيش، وصعوبة العيش، ولعنة العيش، وباقي مسؤوليات المعدة والأولاد، فإن ضميره لم يكن يريحه، كان يحس بالإهانة، وبفقدان الكرامة، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا غير الترجي والانتظار. وقبل عودته إلى نابلس في المساء، كان ينظر إلى البحر، ويتأمل الأمواج.
وكان في الكراج الذي يعمل فيه عاصي أربعة ميكانيكيين: يهودي إسباني اسمه كارلوس، ويهودي روسي اسمه زاخاروف، ويهودي أسود اسمه جاكوب، ويهودي عراقي اسمه أبراهام، كانوا أربعة، وعاصي وحده يعمل بقدر الأربعة، وفوق هذا، لم يكن المعلم ناتان راضيًا عن عاصي، فيعطيه أقل العمال أجرًا، ويدعوه بالتنبل.
وكانت للمعلم ناتان ابنة جميلة وظريفة اسمها شارلوت، كان الميكانيكيون الآخرون يدعونها بشارلوت الصغيرة، وقد وقعوا جميعًا في غرامها، حتى أنها كانت تخرج في كل مرة مع واحد منهم، تختار رفيقها بعد أن اتفقوا كلهم على اختيارها، والمعلم ناتان لا يعترض، وأحيانًا لا يستطيع أن يخفي سعادته، فقد عرف بشارلوت كيف يوثق الرباط بينهم وبين كراجه. وعاصي قبل عودته إلى نابلس في المساء، كان ينظر إلى البحر، ويتأمل الأمواج.
وفي أحد الأيام، تبادل الميكانيكيون الكلام همسًا في زاوية من الزوايا، وعاصي لا يسمع من كلامهم شيئًا. قالوا لبعضهم إن شارلوت تفكر في الخروج مع عاصي، والذهاب إلى البحر، وإن المعلم ناتان قد علم بالأمر، وعاصي لا يسمع دومًا من كلامهم شيئًا، ولا يفكر في شارلوت أبدًا، حتى ولو حصل، فمن عادته أن يعصي عواطفه لأجل المعدة والأولاد. وقبل عودته إلى نابلس في المساء، كان البحر ينظر إليه، وقد حملته الأمواج جثة هامدة إلى الرمل.









مثال وعربي


رفع عربي رأسه إلى السماء، كانت النجوم تتراكض متألقة ومبتعدة، والقدس صامتة وساخنة، ثم التفت إلى مثال، وقال لها:
- لو لم تكوني تعبة لتمشينا حتى بوابة مندلبوم، وذهبنا إلى القدس الغربية لنأكل بوظة.
ابتسمت مثال، وقالت:
- إنني تعبة حقّاً، ولكن دعنا نتمشى حتى بوابة مندلبوم.
- وهل ستأكلين معي بوظة؟
أطلقت مثال ضحكتها الصافية:
- ستأكل وحدك، فأنا لا أحب بوظة اليهود.
لم يكن عربي راضيًّا، فتمتم:
- كما تشائين.
كان يكفيه أن تسير إلى جانبه، أن يحس بوجودها، وأن يسمع خطواتها. وكانا قد أخذا الطريق إلى البوابة، والطريق خالية على التقريب، والنجوم تتراكض متألقة ومبتعدة.
سألته مثال:
- لماذا لم تسألني عن حلمي؟
فأطلق عربي آهة أسف:
- آه، لقد نسيت!
- أنت لا تنسى ما تريد.
أحرجته:
- اعذريني، فلست على ما يرام اليوم.
- لست على ما يرام، وأنا معك؟
ابتسم لشعرها المتطاير، ورأى ابتسامتها التي رافقت السؤال، فأثارته ثنية شفتيها، وانحناءة رأسها، وقال:
- هذا سبب على سبب.
- لتكون على غير ما يرام؟
جذبها من ذراعيها يريد ضمها، وهو يردد بلهفة:
- مثال، مثال، اسمعي...
لكنها أوقفته:
- لا تنس أنني أختك.
وأطلقت ضحكتها الصافية، المستفزة، فجذبها إليه من جديد:
- لماذا تصرين على ذلك؟
- أأكون على خطأ؟
راح عربي ينبر حانقًا:
- ما ذنبي أنا إذا ما تزوج أبي بأمك؟ أنا من امرأة أخرى، وأنت من رجل آخر، لست أختى إلا لأننا كبرنا سويّاً.
قهقهت مثال، وقفزت بين يديه، والهواء الساخن يضغط مفاتنها، فتبدو مثيرة تحت ضوء القنديل.
- هل تريد أن تسمع حلمي؟
اقترب عربي منها دون أن يبارحه حنقه، وسأل:
- لماذا أجلت ذلك إذن؟
- لم تكن عندي رغبة في سرده.
- لم تكن عندك رغبة أم لم تعودي تتذكرينه؟
- أنا أتذكره الآن.
وحينما أراد أن يأخذها بين ذراعيه، أفلتت منه، وهي تطلق ضحكتها الصافية، فزادت من توتره، لكنه ناداها:
- تعالي وقولي لي حلمك الآن.
- لم تعد عندي رغبة.
قالت، وهي تطلق ضحكتها الصافية، المستفزة، الساخرة من جديد، ثم راحت تركض في أحد الأزقة، فصاح عربي، وهو يلاحقها:
- انتظريني، مثال، لا تكوني بلهاء!
لكنه لم يجدها.
كانت النجوم قد ابتعدت، والزقاق قد غدا معتمًا، فدق قلبه دقات أقوى فأقوى، وناداها:
- أين أنت مثال؟ كفي عن هذه اللعبات!
فجأة، سمع خطواتها تبتعد مسرعة من الناحية الأخرى للزقاق، فراح يجري في أثرها، إلى أن وجد نفسه أمامها في ساحة واسعة لا أحد فيها، ومثال تضحك ساخرة، وهو ينحني، ويبتسم بارتباك.
- هل أفزعك عدم وجودي؟
- لماذا أنت طفلة الليلة؟
- هل يزعجك ذلك؟
- ولكن لماذا؟
- قل أنت، هل يزعجك؟
- ربما أوقفتنا إحدى الدوريات.
- وهل تخاف من الدوريات؟
- أخاف.
- أما أنا فلا.
تركته حَرِدَة، فأمسكها من كتفها، وقال راجيًا:
- لنسوِّ الأمر ما بيننا، احكِ لي عن حلمك الآن.
- لا أريد.
- هكذا أفهمك.
- تفهم ماذا؟
- منذ قليل كان السبب عدم رغبتك.
- وما الفرق؟
- آه! آه! تعالي! تعالي!
لفَّها من خصرها، فأحس على ذراعه بلسع النجوم، وفي السماء راح الليل يبتعد. سارا صامتين، ثم سألت مثال:
- هل أنت مصمم على الذهاب إلى القدس الغربية؟
- إذا كنت تقترحين شيئًا آخر فلا مانع لدي.
- إنني تعبة.
- لنسترح في تلك المقهى.
- لا، لنستمر، أريد أن آكل بوظة.
فتح عينيه دهشة، لكنها ابتسمت بمكر، وسألت:
- لماذا اسمك عربي؟
- اسألي أبي.
- ألا تريد أن تبدل اسمك؟
- ماذا مثلا؟
- أي اسم.
- حتى ولو كان اسمًا يهوديّاً؟
- لا.
- أترين؟
- ماذا؟
- أنت لا تعتادينهم إلى حد الآن.
- لا أحب أسماءهم.
- ولا أنا.
- أفضل أن يبقى لك اسمك رغم أنه اسم عام.
- ولكنه ذو معنى.
- هل أقول لك شيئًا؟
- قولي.
- لا يهمني أن يكون لاسمك معنى.
بقي صامتًا، حائرًا، وترك نفسه تذهب مع متعة لمسه لخصرها، ورائحة شعرها، وأنفاسها، وفكر في المعنى الذي يحمله اسمها. سمعها تعترف قبل أن يقطعا بوابة مندلبوم:
- أنت هو من يهمني.
صاح عربي بفرح مشوب بعدم الفهم:
- ها أنت تفكرين فيّ مثلما أفكر فيك.
لكنها سحبت نفسها بعيدا عنه، وأشارت إلى القدس الغربية:
- لا أحب القدس الغربية.
وكان هو يتابع فكرتها الأولى، كيف يمكن أن يكون له هو معنى؟
- لم تقولي لي.
- ماذا؟
- شيئًا عن معناي.
قهقهت مثال، ضمته بين ذراعيها، دفنت وجهه بين نهديها، وأداخته، فلم يسمعها تكرر:
- يا له من بريء كالأطفال! يا له من بريء كالأطفال!
جذبته من ذراعه، وراحت تجري به، وهو يصيح متسائلاً:
- إلى أين تأخذيننا؟
ظلت تجري به حتى هضبة مفتوحة من كل الجهات، السماء من فوقها قريبة، والنجوم مضيئة.
- لماذا أتيت بنا إلى هنا؟
أخذت تستنشق الهواء بقوة:
- هل تشم رائحة الصنوبر؟
- لا يوجد هنا صنوبر؟
- لكني أشم رائحة الصنوبر.
هتف عربي:
- دعينا نَعُدْ، المنطقة خالية هنا، وهي تبدو خطرة.
جذبته، وراحت تخلع ملابسها حتى انتصبت عاجية كتمثال ينطقه سحرةُ الجمال. ارتبك عربي، ثم راح هو أيضًا يخلع ملابسه. كان سحرها يثير في قلبه الخوف، والتوتر، والرغبة. تقدم يريد أخذها بين ذراعيه، لكن حركة على مقربة منهما أوقفته، ولم تمهله الحركة، إذ برزت ضبع غريبة، انقضت عليه، وراحت تجري رشيقة إلى بقعةٍ الظلامُ فيها كان شديدًا، وعربي يجري من ورائها بعد أن ضبعته، ومثال تجري من وراء عربي، تريد الإمساك به، وإنقاذه. عرايا... كان ثلاثتهم يجرون عرايا كيوم ميلادهم. وعلى عتبة غارٍ ذي مدخل ضيق، ضرب رأس عربي بالصخرِ، فسال الدم على جبينِهِ، وصحا كمن يصحو من حلم مزعج. أخذته مثال من يده، ونجت به بعيدًا عن الضبع التي وقفت على عتبة الغار، وهي تومض بعينيها الخضراوين، تراقبهما، وتنتظر.




وجهان لعبد التواب



1- غبار
رفع عبد التواب يده، وحك شاربيه. كان يجلس على الأرض، ويفتح بين ساقيه، وأمامه صورة لمارلين مونرو شبه عارية. وكان عبد التواب يرخي من قوة الشبق عليه حنكه، ويدلى مثل الكلب لسانه، وهو يحنى رأسه الضخم المجزوز الشعر.
راح عبد التواب يلقي بنظراته السقيمة على الفخذين البيضاوين، وتسري في عروقه كهربة لذيذة من حرير: يريد أن يغرف، أين يجرف، أن يذبح عليهما الأصابع.
وعلى صنداله المرقع كان يرتقي بُرغوث أشقر، وصل قمة إبهام القدم، واستقر داخل شق فيه، وراح يعض الجلد التعب.
كان عبد التواب قد زحف في خياله بشفتيه على النهدين الأبيضين، وذبحهما لثمًا وغرامًا، وما انفكت يده تداعب الجسد على الورق المصقول إلى أن أصبحت الكهربة التي تسري في عروقه من القوة والحب بحيث أن جسده كله صار يضرب، ويهتز.
وكان عبد التواب قد ترك البغلة تدور بالطاحون دون مراقبة، فانتثر دقيق القمح على الأرض، وصنع تلالاً صغارًا. والبُرغوث لم يزل يعض الجلد التعب، ومارلين مونرو لم تزل ساحرة، آمرة، ناهية، إلهة، عارية أو شبه عارية.
فجأة، أطلق عبد التواب صيحة ألم لاطمًا قدمه، ولوى إبهامه. وهو يخدشه بأظافره، رأى على قمة الإصبع لسعة مثل رأس الدبوس، وفي كفه قد انسحق جسد البُرغوث الحقير. وعندما نظر إلى ما بين ساقيه من جديد، وجد مارلين مونرو لم تزل ساحرة، آمرة، ناهية، إلهة، عارية، عارية، تحتفظ بإبداع الجسد ذاته، وسلطة الإغراء بقيت على حالها، تدغدغه في العنق، وفي أعلى الساق، وعبد التواب يلتهم بعينيه الجسد بوجع وجموح.
عندما عاد صاحب المطحنة من سوق القرية، لم يجد البغلة ولا عبد التواب. كان دقيق القمح قد ثار، وملأ الأجواء بالغبار.

2- رصاص
بعد يومين، أتى بعض الإسرائيليين من الجنود، وصادروا من بين ما صادروا البغلة، فأخذ عبد التواب يتربص بهم، كل ليلة، طوال الليل، على الطريق البرية، إلى أن أوقع في قبضته أحدهم. نزع سلاحه، ودفعه من أمامه إلى المطحنة، وجعله يدور بالطاحون بدل البغلة، والقمحُ ذهبٌ يهدر، وعبد التواب يفكر أنه بفعلته هذه سيقض مضاجع باقي الجنود وصاحب المطحنة وكل الذين يأكلون خبزًا! صار سعيدًا، وذهب في حلمه بعيدًا، وقال: في اللحظة التي أشعر فيها بالخطر، سأستعمل السلاح، وإذا بدوي سلسلة من الطلقات يأتيه، وصوت من مكبر ينذره بتسليم نفسه.
لم يسلم عبد التواب نفسه، كيف يسلم نفسه وفي قبضته سلاح، والقمح يهدر كأنه القدر؟ ولم يحلم أنه في حياته سيسمع ذات يوم غناء آخر غير غناء البلابل، إذ راح رصاصه يغني، واشتعلت بالقمح نار حمراء، راحت هي الأخرى تغني. قام عبد التواب بهجوم مضاد إلى أن استنفد كل الرصاص، وعند ذلك، أحبته كل بنات القرية.





صحافية اسمها فيليتسيا


وجد عيسى تلامذته يتجمهرون أمام سور المدرسة الصلاحية، فتأكد من حصول المظاهرة التي وصلته بعض أحاديث عنها يوم أمس. حاول أن يتجنب نظرات الغضب والأمل، وهو يعود أدراجه، وأسراب من عصافير الدوري تطارد بعضها تحت السماء الزرقاء. ارتفع بنظره إلى الأعراف الراعشة للصنوبرات، وفكر في الجنود الإسرائيليين، وقال: لن يلبثوا أن يأتوا. أحس على كتفيه بعبء الاحتلال، فضاعف الخطو، وهو في شارع المدرسة العائشية للبنات. عند نهايته، بدأت تظهر الظلال الدامسة للجنود، ثم الجنود. تطلع بفضول إلى أحدهم: لباسه كاكي بالطبع، ولكنه لا يتشكل من قطعتين، فهو عبارة عن كيس مزرر بالنحاس يصل العنق بالقدمين، مشدود بحزام جلدي تحيط به حلقات تتدلى منها مدية، وأمشاط للذخيرة، وقنابل يدوية، ومسدس براشوت، وعصا مقدسية، وحبل ملتو، ومقبض ينتهي بسيخ مدبب، وقربة ماء، وعلى الصدر يرتمى ذلك الوحش الجميل: سلاح رشاش، بينما اليد تقبض عليه بقوة. وعلى الرأس، طاسة حربية تلفها شبكة زيتية، والقطعة الجلدية التي تربط الطاسة يعضها الجندي بأسنانه. وإلى جانب هذا كله، القدمان مربوطتان عند عنق الحذاء الأمريكي الضخم، وعلى الفخذين، جرابان منتفخان، ربما كان فيهما طعام أو أمشاط أخرى للذخيرة أو أشياء لا تخطر ببال.
فكر عيسى فجأة في النجمة السداسية، وراح يبحث في أي مكان وضعوها على تلك المستعمرة البشرية. لربما ألصقوها على الكتفين، أو على الصدر في أعلاه، أو يمكن أن تكون على الطاسة تحت الشبكة... وإذا بالجندي ينتهره آمرًا إياه بمتابعة طريقه، فاستجاب دون مماحكة، ولكن أيضًا دون سرعة، وذهب ليحتويه شارع الملك فيصل العريض. نظر إلى عماراته الشاهقة أو الواطئة، وأشجاره الباسقة أو المطأطئة، وفكّر في العودة إلى تلامذته، والسير إلى جانبهم في الشمس، والصياح معهم.
لكنه راح يغذ الخطى قرب جامع الحاج معزوز المصري، والجامع يقوم عظيمًا وباردًا، وشابان من أمامه يتهامسان:
- علينا أن نفاجئهم بتجمهر آخر في (( الدوار )).
- وإذا ما أطلقوا النار؟
- ستخرج نابلس كلها إلى الشوارع.
راح قلب عيسى يضرب بعنف، والتوتر ينمو في الصمت من حوله. أوقف أول تاكسي مرَّ به، وعاد إلى بيته الواقع في
(( بليبوس )).

2
تردد عيسى، وهو في معبر بيتهم، عندما سمع صوتًا نسائيّاً غريبًا، مرَّ بحجرة الاستقبال حذرًا، فنادته أخته هيفاء:
- عيسى!
ثم نهضت إليه وراحت تجرُّه من ذراعه:
- تعال أقدم لك فيليتسيا.
تقدم عيسى بحذر دومًا متفحصًا الفتاة، وهي تبتسم طَلِقَةَ المحيا، فلم يترك عيسى حذرُهُ، وأخته تقول:
- هذه فيليتسيا، صحفية تقدمية تقوم بتحقيق ستحدثك عنه فيما بعد، وهذا أخي الأكبر عيسى.
وبعد أن ترك يدها طوال مدة التقديم ممدودة في الهواء، سلّم عليها دون حرارة، وجمجم:
- صحفية تقدمية!
أوضحت فيليتسيا:
- أنا أعمل لحساب (( الاتحاد )).
لم يفعل التوضيح، مثلما كانت تتوقع فيليتسيا، أثره السحري على عيسى، فقال بلهجة جافة:
- أنا آسف، ليس لديّ ما يخدم تحقيقك، فمعذرة.
أعطاها ظهره، وبسمتها تمحى، فتدخلت هيفاء:
- ولكن افهم أولاً أي تحقيق هو.
التفت عيسى، واللون الأخضر معتم في عينيه، ونبر:
- هناك متظاهرون وجنود في الشوراع!
ولم تزل هيفاء منفعلة:
- ولكن افهم أولاً...
فأوقفها:
- سيئز الرصاص بعد قليل.
تدخلت فيليتسيا بدورها:
- اتركيه! أنا أفهم ما يجول في خاطره.
عاد عيسى ينبر:
- أنت لا تفهمين شيئًا! لو كنت حقّاً تفهمين شيئًا لجرى تحقيقك هناك على مقربة من الرصاص والدم.
أطلقت هيفاء تأوهة بعد أن ضرب أخوها باب حجرة الاستقبال ثم باب حجرته من ورائه، والتفتت إلى فيليتسيا:
- أنا أعتذر عما بدر منه!
ابتسمت فيليتسيا بحزن، وقالت:
- بل أنا التي ينبغي عليها أن تعتذر.
ونهضت:
- سأترك لك رقم هاتفي في حيفا لنحدد موعدًا آخر أنا وأنت طالما أنك متفقة معي حول بعض الأمور.
- أنا متقفة معك.
على الباب، همست فيليتسيا:
- وأنا متفقة معه.
وهي تشير إلى الناحية التي ذهب منها عيسى.

3
ما أن أغلقت هيفاء الباب حتى وجدت عيسى يأتيها مهددًا:
- لا أسمح لك بإدخال يهودية إلى بيتي! أعطيتك الحرية بعد موت والدينا حقّاً، ولكن للحرية حدودًا، وأنا، من هذه الناحية، من ناحية صديقاتك اليهوديات، لن أتنازل قيد أُنْمُلَة.
اندهشت هيفاء:
- أولا فيليتسيا يهودية تقدمية، ثانيًا لم ألتق بها إلا هذا الصباح. جاءت إلى المدرسة للحديث مع المعلمات، فشتمنها جميعًا، وأردن أن...
قاطعها عيسى:
- شتمنها جميعًا ما عدا الست هيفاء!
احتدت نبرة هيفاء:
- قل لي بالله عليك، يا عيسى، ما هو ذنبها؟ أتدينها لمجرد كونها يهودية؟ وعندنا؟ أليس من يخططون لذبح المقاومة عربًا.
تململ عيسى، قال، وهو يغلق عينيه، ويفتحهما:
- إنني... أقصد... إنني لا أحتمل مفاجآتك.
وسارع إلى الإضافة:
- كان عليك أن تخبريني قبل أن تأتي بها إلى هنا.
- كل شيء حصل هذا الصباح كما قلت لك.
- كان عليك أن ترجئي ذلك.
- بعد أن شتمنها، وحاولن طردها، وجدت نفسي مضطرة إلى اصطحابها. إنها تقوم بتحقيق بين المثقفين العرب حول أثر الاحتلال عليهم، وعن الحلول.
انفعل عيسى:
- الحلول! الحلول! الإسرائيليون لا يريدون حلولاً. ومن ناحيتنا، الحل الوحيد هو الحرب، هذا هو المنطق الذي يفهمونه.
هتفت هيفاء:
- كل هذا جميل لو قلته لها! إنها عنصر علينا كسبه، يقدم لنا العون أو يحاول، فهل نتركه مصدومًا، مثلما فعلت، منذ اللحظة الأولى؟ فيليتسيا وحدها ستبقى عاجزة، ونحن وحدنا سنبقى عاجزين أيضًا.
سأل عيسى:
- ما هذه الفلسفة التي تهبط عليك من السماء؟
لكن هيفاء نفت مبتسمة:
- هذه ليست فلسفة.
- والبشر الذين يتظاهرون في الشوارع؟
- على البشر أن يتظاهروا، وعليك، في الوقت نفسه، أن تتناقش مع فيليتسيا.
وصلتهما أصداء بعض التفجرات التي تبعتها سلسلة حادة من الطلقات، فهرعا إلى الشرفة، ولكن الصمت بثوبه عاد يلف الجبل والبيوت والأشجار.

4
وعيسى في وسط المعبر، سمع طرقات خجلة على الباب، فذهب ليفتح، وإذا به وجهًا لوجه مع فيليتسيا، محمرة الخدين، مترددة. نظر عيسى إليها بقلق، واكتشف أنها سمراء جميلة، إلى أن أوضحت فيليتسيا:
- هناك منع تجول.
وعادت الطلقات تدوي حادة:
- مما اضطرني إلى العودة.
لم يسمعها عيسى، بسبب الطلقات الأقوى من صوتها، لكنه فهم من تعابيرها ما تريد، فطلب إليها:
- تفضلي بالدخول.
شكرته، وهي تقول:
- أرجو المعذرة، فقد كنت لا أريد أن...
فتح لها باب حجرة الاستقبال، وقال بقلق:
- أفكر في طلقات النار، كانت حادَّة، وشديدة، ولا بد أن هناك بعض القتلى.
- رأيت الجنود في كل مكان.
- لم تنتهِ الحرب بعد.
- تنتهي إذا بدأ السلام.
- الحرب تأتي بالسلام.
- الحرب تأتي بالدمار.
- حربكم تدمركم.
- حربهم تدمرهم، وتدمر الجميع، والسلام هو البديل.
- أي سلام؟ وسلام مَنْ؟ وكيف؟ ومتى؟
- إنها أسئلة مطروحة.
- وأنت ما هو دورك؟ ما هو دوري؟ وكيف يكون دروي ودروك؟
- إنها أسئلة أيضًا مطروحة.
- والرصاص يُطلق في قلوب تلامذتي؟ مستحيل!
- كيف يمكن للرصاص أن يتوقف؟
- تسألينني أنا؟
- لأنني لن أسألهم هم.
- بالرصاص يتوقف الرصاص.
- ولكن رصاصهم أقوى.
- أقوى الآن فقط، أما غدًا.
- إرادتنا أقوى من كل الرصاص.
- هراء.
- إرادتنا ستستطيع يومًا.
- الإرادة وحدها لا تكفي وهم كلهم ضدنا.
- الزمن سيف حاسم والعمل.
- ..........................
وجاءت هيفاء على رؤوس أصابعها، لا تريد أن تقطع سلسلة الأفكار المسموعة.



بيت الميعاد



تعالَ يا بيتي أقبّلك، وأبكي على حجرك. بناك جدي من حجر أحمر، وأنا الآن جد لي أبناء وأحفاد. حجرك الأحمر من هضبة في القدس تنهض في الضوء، سفّعتها الشمس، فأعطتها من لون اللهب لونها. وأطللت بعد أن صرت بيتنا على باقي البيوت، ومن حولك أشجار الجوز والصنوبر التي تحمل إليك الريح عبقها، فتؤرجك في الصيف، وفي الشتاء. ويسقيك الشتاء من مائه كثيرًا حتى يروي ظمأك، ويشد جذرك في أرضنا. وفي الربيع، تصبح الحديقة من حولك حفلة ورد ونحل، وتلتصق على جسدك الأوراق المتساقطة في الخريف، فتغطيك، وتدفئك بحرارة الصيف الذي مضى على أغصانها. وأنا وأنت دومًا ها هنا، أنا الذي كان حفيدًا، وصار جدّاً كبيرًا، يبدي له الآخرون شوقهم عندما يمرون بك واحدًا واحدًا عبر المدن والفصول. وتبقى أنت ها هنا، بحجرك الأحمر، وقامتك المنتصبة، وغرفك العديدة التي في كل منها ذكرى من الذكريات. في غرفة بكيت لما أردت دميتي الفقيدة، وفي غرفة صحت لما عرفت الهوى لأول مرة، وفي غرفة انتحرت لما تَرَكَتْ أم الأولاد ظلال جسدها الفاتن بين أصابع الله. قاتلت في كنفك، وامتطيت فرس الألم أو الكلف. انتصرت، وانهزمت، وانتصرت، وانتصرت، ودققت بكعبي بلاطك، وكنتُ أنهض أو أسقط، وإذا ما سقطت، رفعتني أنت بكفك، وابتسمتَ في وجهي. وفي كل مرة تبتسم في وجهي، يفوح في صدري عبيرك، عبير وردك أو عبير خبزك. وفي كل مرة تغضب مني، لا أضرب عن مطاردة عبيرك، أطارد عبير الورد في حضنك أو عبير الخبز الذي يفوح أحيانًا محترقًا. وكان عليك أن تغضب مني أحيانًا، وأن ترأف بي أحيانًا. أن تضرب بكعبك صدري، مثلما أضرب بكعبي صدرك، فنبكي معًا، أو يبكي أحدنا، ويضحك الآخر. أتسمع الطرقات على بابك؟ أحفادك يأتون إليك، أحفادي وأحفادك، فكن فرسًا، وكن أمّاً، وكن، إن شئت، أبًا يغضب حين يريد. أنا آتٍ يا سمير، ويا سميرة، ويا رحيم، ويا رحيمة، سأفتح لكم الباب، ألم يكن الباب مفتوحًا؟ ها هم يأتونك مثلما أتيتك في الماضي، هم يأتون، ويذهبون، وأنا باقٍ لك دومًا، آتي، ولا أذهب بعد أن ذهبت بنا السنون. أنا صرت عجوزًا، أما أنت، فحجرك الأحمر لم يزل ينبض بالحياة، وفي غرفك تُسمع الصيحات، وتتحرك الظلال. أنت معركة شباب دائمة، وأنا أنظر إليك، وأنظر إليهم. أنتم آتون يا سمير، ويا سميرة، ويا رحيم، ويا رحيمة، آتون في المساء، لتذهبوا في الصباح، ولكن الصباح لا يذهب معكم، هو الحجر الأحمر الذي يرفع بيتنا. وتأتيك الطرقات، أتسمع الطرقات على بابك؟ جيرانك يأتون إليك، وربما هي بعض الطيور، أو الأيام تتقدم، أو هم أعداؤك، فمن يدري؟ أنا آتٍ يا عبد الله، ويا ست خيرية، ويا أبا تميم، ويا زرقاء، البحر يأتي معكم، فزرقاء في عينيها البحر والأمواج. سأفتح لكم الباب، ألم يكن الباب مفتوحًا؟ وأنت تفتح ذراعيك، وتستقبل الجميع. وذراعاك مديدتان، طيبتان، ساخنتان، قاسيتان عندما تحبنا وتغضب. وتغضبنا أحيانًا، فنكرهك، ونشتمك، ونعود ونحبك. نلتقي في حضنك قرب صورة، أو داخل غطاء، وننظر إلى الجدران، وتنظر إلينا، وكأنك تريد أن تقول لنا: أنا ها هنا، فلا تخشوا شيئًا! وتتركنا الجدران أحيانًا، فندوخ، وتبقى أنت صاحيًا. وتأتيك الطرقات ثم تأتيك، أتسمع الطرقات على بابك؟ لكنها لم تمهلنا هذه المرة، أنا وأنت، فقد كان الباب مفتوحًا. ظننا أنهم الجيران أو الأحفاد، وظننا أنهم لم ينسوا، هذه المرة، أن بابك كان مفتوحًا، فدخلوا دون أن ينتظروا. كانوا الأعداء، جنود يحلمون بالموت. وكان مقدمهم مفاجأة لي أنا، فقلت لي: خنتك هذه المرة يا صديقي! وكانت خيانتك إخلاصًا، لأنك سكت عندما خبأ سمير وسميرة بين ذراعيك سلاحًا وقنبلة وبعض الذخيرة. كانت خيانتك لي إخلاصًا، وكان إخلاصي لك خيانة، لأني لم أستطع منع هدم الجنود لك، فانتقمت مني. حجرك الأحمر صار نارًا، والظلال في كنفك غبارًا وحطامًا. وهاأنذا أقبّلك، وأبكي على حجرك، لكني سأضحك منهم بعد أن أبنيك من جديد. وعندما يسألني الآخرون ما الفائدة التي ستعود عليّ منك، وأنا على حافة قبري؟ سأقول لهم أبنيك للأحفاد، ليبنوك لأحفادهم، مرة أخرى، متى كبروا، أو ليرفعوا من بنائك.




آداما



اليوم شمس، موعدي مع دوف بعد انتهاء العمل. سنذهب إلى البحر، وسنسبح حتى نتعب، ثم سننام على الرمل. يصر دوف على الزواج مني، وأنا أرفض رفضًا باتّاً. ليس لأنه عامل فني مختص بالتلفونات، فهو يلعب في البورصة، ويكسب في معظم الأحيان، وبإمكانه أن يفتح بيتًا مريحًا فيه راديو وتلفزيون وثلاجة وغسالة وصالون حديث.
دوف سيكون زوجًا جيدًا تتمناه العديد من الفتيات، وهو، فوق هذا، بولوني. حقًّا لم يسعده الحظ لكي يكون الأشكنازَ الحقيقيّ الذي يريده، ولكن كل شيء يتوقف على المستقبل. والمستقبل هذا لا أريد أن أفكر فيه، وعندما أفكر فيه، أتراجع أمام كل مشاريعي. وأنا لهذا أريد علاقتي بدوف اليوم، ولا أريد الزواج منه غدًا. هكذا أفضل. أن أستمتع بالشمس اليوم، وأترك الغد للريح، وريح شتائنا قوية، تأتي من أعماق البحر. في العاصفة أترك نفسي كمركب. أَبْتَعِدُ عن الشمس. يصبح الرمل أمنية غائبة. ولكن لدوف رأيًا غير رأيي. هو يحب مهنته، ولا يحب أحدًا غيري. لهذا أشك في عواطفه. لا أريد أن أتشبه بجهاز التلفون. وعندما يأخذ بمصارحتي، عنه وعن عواطفه، أصبح أنانية. ألتقي بغيري، بمن (( يكره )). أصبح أنانية بالنسبة له، وعظيمة الإخلاص بالنسبة لغيره. ولكن هذا الغير لا يتحرر من نظرة دوف، وفي الوقت ذاته، يملي على دوف نظرته، فأقع في الفجوة القائمة بين الاثنين. أما دوف، فيخرج من المأزق عندما يفكر في الحرب القادمة التي تهدد الجميع.
لاحَظَتْ صديقتي ماجي على وجهي بعض التعابير الموحية لسؤالها:
- هل هو دوف المسكين الذي يشغل بالك؟
ابتمست لها دون دهشة من قراءتها للأفكار بمثل تلك الدقة، فهي تعرف علاقتي بدوف، والفتيات عندنا مطاردات دومًا بأشباح ثلاثة، شبح الحبيب، وشبح البيت المريح، وشبح الحرب القادمة. لقد حاولت أن أرجم أشباحي الثلاثة هذه دون أن أستطيع، فأنا مثل دوف، من هذه الناحية، معها وضدها. أردت أن أناكد ماجي، فقلت لها:
- ليس دوف المسكين الذي يشغل بالي، ولكني سئمت من العمل. اليوم أعمل حتى الظهيرة، وأنا لهذا أريد أن أذهب إلى البحر، وأن أنام على الرمل.
- مع دوف طبعًا.
كذبت عليها:
- بل وحدي.
علقت ماجي:
- كيف يمكنك أن تطيقي الوحدة؟
نظرت إلى بطنها المنتفخ فوق اللازم، وقلت لا بد أنهما توأمان هذه المرة، وسألتها:
- متى ستأخذين إجازتك؟
- عليّ أن أنتظر شهرًا آخر.
- وهل أنت خائفة؟
- إنه طفلي الثاني، ولكني محتارة، لا أريده بنتًا، ولا أريده صبيًّا.
ضحكت، وتعمدت القول:
- ليكن إذن بنتًا وصبيّاً، هكذا تحلين المسألة.
ضاعفت من حيرتها، إذ انسحبت ماجي دون أن تعلق، وأخذت تصفف زجاجات العطر التي تم صنعها في أحد الصناديق. كنت واثقة من أنها ستذهب بعد الدوام إلى الكنيس، فكلما ازدحم رأسها بالأفكار، وتشوشت، ذهبت إلى الكنيس، لتخرج منه سعيدة. وفعلا اقتربت ماجي مني متثاقلة كالنعامة، وهي ترفع بطنها بكلتا يديها، وقالت لي:
- سأذهب بعد الدوام إلى الكنيس.
ضحكت مرة أخرى، ولكني تساءلتُ حالاً إذا ما كان يحق لي الضحك عليها، إذا ما كان ضحكي عليها أم من أجلها. المهم أنني وجدت دوف بانتظاري على باب المصنع، فأركبني على دراجته النارية، وانطلق بي إلى البحر. وبينما هو يقطع شوارع حيفا، رغبت في الصياح، فالهواء يهب، والدراجة تزعق، والشمس قوية، والأفق يبتعد كلما اقتربنا منه. ولكني لم أستطع أن أحقق رغبتي، مما جعلني أشعر بالتعاسة. فكرت في أخي كوش الذي شلت الحرب كتفه، ورغبتُ في البكاء من أجله. ومرة أخرى، لم أستطع أن أحقق رغبتي، فكرهت دوف، وكرهت أخي، وصار عليّ أن أحمل العبء وحدي، عبء ثقيل، أكثر من العبء الذي يثقل بطن صديقتي ماجي، والذي لثقله تتخلخل قدماها. عبء يأتي من قلب الزمان، ومن قلب الضباب، فأكاد أختنق، وأطير، في الوقت ذاته، كحمامة، مثلما أطير الآن على دراجة دوف الذاهبة إلى البحر.
ألقيت بجسدي في الموج، وتنفست الصُعَداء كأني أخرج من فوهة زجاجة. وصلتني ضحكات دوف، وهو يرشقني بملح البحر. رفعني في الهواء، وألقاني مثل كرة، ثم ابتعد بي في البحر إلى نقطة تُتعب كلينا. كان كل شيء يتوقف على تعبنا، لنعود فنستريح، ثم نتعب من جديد.
وأنا أتمدد على الرمل، فكرت، مرة أخرى، في أخي كوش. كان سعيدًا بجرحه، رغم أنه شل كتفه. وكثيرًا ما نظر إلى كتفه المشلولة، وقال متباهيًا إنه وسامه. وسام من لحم يحمله معه أينما ذهب ليراه الجميع. ولو وقف ادعاؤه عند هذا الحد، لمضى الأمر طبيعيّاً، لولا أنه كان سعيدًا لأمر آخر، وهو أن يكون بكتف مشلولة خير من أن يكون جثة هامدة. كان يخشى الموت، وكنت أفكر فيما استخلص لنفسه، وأقول أحيانًا هذه فلسفة كل ذاهب إلى الحرب، وأحيانًا أخرى أقول لا بد أن الأمر أمرّ من ذلك. ولم يتوقف الموج أبدًا عن التموج، كان يأتي دومًا، فأذهب في الخط المضاد. كان عليّ أن أذهب في الخط المضاد، وإلا ما كان بإمكاني أن أهضم فلسفة الجرح التي جعلت من الشلل طريقًا إلى الشرف. ويجلس أخي كوش مرتقبًا الحرب القادمة التي لن يشارك فيها، هكذا يقضي وقته. هو لا يفكر في الزواج، ولا في بيت مريح يصل إلى أسبابه عن طريق اللعب في البورصة، وهو لا يفكر في ارتفاع الأسعار التي تعلو بسرعة أكثر من الموج في الأيام العاصفة. يرتقب الحرب القادمة، ويفكر في الرومان، وربما في معجزات الهيكل، ويصبح هو ذاته معجزتنا.
أخرجني دوف من بحر أفكاري، فتقلبت على الرمل، وراح يمسح يده على ساقي، ويهمهم:
- متى سنتزوج، يا آداما؟ متى سنتزوج؟
فأضحك مناكدة:
- آداما لن تتزوج أبدًا.
ويغضب دوف، فأقول له:
- لنبق على ما نحن عليه.
ويغضب مرة أخرى، فأسحبه إلى البحر، أريد أن أتعب.



فاطمة


لم تنته مشاكلنا بعد أن عاد أبي إلى عمله كخضرجي عند الحاج، الذي له نصف سوق البصل. كنا نعتقد أن أبي سيتغير، أو يغير من معاملته لنا بعد أن عمل ثلاثة شهور هناك، أجيرًا في مصانعهم. كان كلما عاد في المساء يضرب أمي، وأحيانًا يضرب أمي ويضربنا معها أنا وأخواتي الست، بينما يتمكن أخي خيري من الفرار من بين يديه المديدتين.
كانت ساحة المنارة كلها تسمع صياحنا كل ليلة، فيأخذ أهل الحارة في سبنا، وأحيانًا يخرج لهم أبي، ويأخذ في رد الصاع صاعين، فيسبهم، ويتضارب معهم، وتقف أمي عند الطاقة، وتتبادل مع الجارات كل اللعنات التي صنعها الإنسان ضد نفسه، فأبي سيبقى زوجها، وهو حر في أمره معها، يشقيها متى يشاء، ويسعدها متى يشاء، لكن سعادة أمي لم تكن إلا كلمات، ترد بها على ما هو يومي من ضرب وتعاسة، وما أن تجد أمي نفسها وحيدة بيننا أو بين جدرانها الأربعة حتى تنفجر باكية شاكية.
ومضت الأيام هكذا، وأخي خيري يكبر دون أن نعرف، كان يكبر بعيدًا عن الدار، فقد اكتشفنا فجأة، يوم أن جاءتنا أخبار آخر مظاهرة، أنه لم يعد صغيرًا. كان قد صنع مقلاعًا تفتح حجارته رؤوس جنود الاحتلال الذين يضربون بأسلحتهم، وكان قد جمع، لأول مرة من حولنا، أهل الحارة جميعًا، حتى أن بعض النساء زغردن في تلك الأمسية، وابتسم أبي لنا، ورمى أمي بكلمتين حلوتين. وتكرر الأمر كلما صارت في البلد مظاهرة يشارك فيها أخي خيري الذي نقل لي أنه رأى في المظاهرة الأخيرة بعض من كن معي في الصف من بنات قبل أن يحبسني أبي في البيت، فأحسست أنني ما زلت صغيرة رغم أنني البكر، وأن أخي الأصغر خيري وحده الذي يكبر. وعندما أغضبني الأمر، ضربني أبي حتى أسال دمي، وأجبرني على التقاط دمي بنفسي عن الأرض.
وذات يوم، اقتحم الجنود حارتنا بحثًا عن أخي خيري دون أن يجدوه، فقد كان مختبئًا في سدة حمام القاضي، وهددوا أبي بنا نحن بناته السبع. قالوا له إذا كنت تريد أن يبقين عذارى فلتسلمنا ولدك! بكى أبي في الليل مثل امرأة، ولكي يوقف بكاءه، جعل أمي تبكي بدلاً منه بعد أن أشبعها ضربًا. صار مقلاع أخي خيري الجسور مصدر مشاكلنا، وخاصة بعد أن هدّد الحاج بطرد أبي من المحل، فالمقلاع، حسب رأيه، حلو، ولكن ضرباته أحلى! وليحتمل أبي وحده ((حلاوتها))!
وهكذا كلما جرت في البلد مظاهرة دبّ في بيتنا الرعب، والمقلاع صار قدرنا، فأخي خيري سيشارك حتمًا في المظاهرة، وهو الذي سيفتح بمقلاعه رأس جوليات العملاق. صرت كلما أفكر في الأمر أغيب عن العالم، فأحرق الطعام، أو ما هو للكي، ولا أنظف الغسيل تمامًا، ولا الصحون، أو البلاط. كنت أفكر في وضعي، وضع الذي لا وجود له. كانت جرذان الحي موجودة، أما أنا فلا، وكانت عقارب الحي موجودة، أما أنا فلا، وكانت... وكانت... وتصيح أمي:
- فاطمة يسكنها الشيطان!
ظنت أمي أني عاشقة، أو أريد أن أكون عاشقة، فتمنت أن يأتيني ابن الحلال المنتظر. وظنت أمي أني مريضة، أو أريد أن أكون مريضة، لئلا أعينها في مهام البيت ورفع بعض العذاب عنها، فتشكوني لأبي. وعندما كانت تشكوني لأبي، كان يضربني، ويلعنني أنا والحاج، فالحاج يهدده، كل يوم، بقطع رزقه، وفاطمة ستأتيه، في آخر حياته، بالعار. وينتقل أبي مني إلى أمي، وتذهب يده المديدة ضربًا في كل الاتجاهات، وأنا لا أتوقف عن التفكير في مقلاع أخي، ولا يعرف أحد أنني كلما فكرت في مقلاع أخي خيري رحت أكبر، وأملأ حجمي. وذات صباح، خرجت دون أن آخذ إذنًا من أحد إلى المظاهرة التي ستجتاح البلد، على أن أعود في المساء إلى بيتنا.



القنبلة الموقوتة


لم تقرر الخلية بعد أين ستضع القنبلة الموقوتة، تحت باص عمالنا الذاهبين إلى العمل في إسرائيل، أم تحت باص الإسرائيليين الآتين إلى الضفة للسياحة. تمحور النقاش حول رأيين، أحدهما لغازي، والآخر لظافر، بعد أن استقطب ظافر من حوله من سيضعون القنبلة تحت باص عمالنا الذاهبين إلى العمل في إسرائيل، وبعد أن استقطب غازي من حوله من سيضعون القنبلة تحت باص الإسرائيليين الآتين إلى الضفة للسياحة، والليل كان جميلاً في الخارج، فيه قمر ونجوم.
اعتبر ظافر خائنًا كل من يذهب إلى هناك، واعتبر غازي غازيًا كل من يأتي إلى هنا، ولم يقتنع كل طرف بوجهة نظر الآخر. تكلموا عن الأولويات، ومهمات المرحلة، والإنسانية، وفي النهاية اتفقوا على أن يضعوا قنبلتين، قنبلة تحت باص عمالنا الذاهبين إلى العمل في إسرائيل، وقنبلة تحت باص الإسرائيليين الآتين إلى الضفة للسياحة، والليل كان جميلاً في الخارج، فيه قمر ونجوم.
في اليوم التالي، انفجرت القنبلة الموضوعة تحت باص الإسرائيليين الآتين إلى الضفة للسياحة قبل أن يصعدوا إليه، وكذلك القنبلة الموضوعة تحت باص عمالنا الذاهبين إلى العمل في إسرائيل بعد أن هبطوا منه. ولما اجتمعت الخلية من جديد، كشف كل من غازي وظافر عن اقتناعه بوجهة نظر الآخر في اللحظة الأخيرة، والليل كان جميلاً في الخارج، فيه قمر ونجوم.
عندما أجرت الخلية نقاشها فيما يخص القنبلة الموقوتة القادمة، اتفقت الآراء على وضعها تحت أية سيارة عسكرية، وقال ظافر:
- إذا نجحنا صار عمل عمالنا في إسرائيل ذاته قنبلة موقوتة.
وقال غازي:
- إذا نجحنا صارت سياحة الإسرائيليين في الضفة ذاتها قنبلة موقوتة.
وقال البعض:
- هكذا تحقق المقاومة أهدافها الصحيحة.
وقال البعض الآخر:
- هكذا يصبح العمل من داخلنا إلى خارجنا، وليس من خارجنا إلى خارجنا.
والليل كان جميلاً في الخارج، فيه قمر ونجوم.
وبينما هم يقترعون حول من سيقوم بالمهمة القادمة، سمعوا صوتًا يشبه دقات الساعة، فنهضوا يبحثون عن الخطر المحدق بهم. وتحت ضوء القمر، وجدوا قنبلة موقوتة على وشك الانفجار، ولكنهم أوقفوها في اللحظة المناسبة، والليل قد تضاعف جمالاً في الخارج. وقبل أن يعودوا إلى الاقتراع، مرة أخرى، حول من سيقوم بالمهمة القادمة، نظروا إلى القمر والنجوم، وابتسموا.



الحاج عمر


حاج عمر لن تبيعهم بيتك رغم أنك فقير. مستور أنت لأن لك هذا البيت. النقود تأتي، وتذهب، والبيت يبقى، إذن ما نفع النقود؟ قلتَ لهم هذا، فتعجبوا. أشاروا إلى جدران بيتك المحفرة، وحنفية مائك المحطمة، وأرض غرفتك التي بلا بلاط، وأشاروا إلى سريرك الخشبي القديم، وقامتك المنحنية، ولحيتك الطالعة، وقالوا: هذا الحاج أبله يرفض النعيم. رفضت بالفعل النعيم... نعيمهم، لأنه نار على أرضك. قلت لهم هذا، ومرة أخرى تعجبوا، وذهبوا على أن يعودوا بوعيد آخر أو بوعيد، فتختار بين جحيمهم وجحيمهم. ولكنك حاج عمر نجحت في اجتناب الجحيمين اللذين لهم في اللحظة التي منعتهم فيها من اقتحام بيتك، فقالوا عنك إنك رجل مجنون، وذهبوا، هذه المرة، لينتظروا مماتك، فضحكت منهم، لأنك لن تموت.
حاج عمر لن تبيعهم بيتك رغم أنك فقير. مستور أنت لأن لك هذا البيت. النقود تأتي، وتذهب، والبيت يبقى، إذن ما نفع النقود؟ اعتقدوا أنك عاشقٌ لفقرك، فتركتهم يعتقدون ما شاء لهم الاعتقاد، أنت العاشق لبيتك! لأنهم لن يفهموك، الوطن وحده هو الذي يفهمك. يهمس في أذنك، وأنت تذهب إلى الصلاة، دون أن تقطع فرضًا من صلواتك. يقول لك أنا والله معك، لأنك معي، وكان هذا غناك.
حاج عمر لن تبيعهم بيتك رغم أنهم حاصروا بيتك بأحدث البيوت، السر باقٍ في بيتك، طوبة واحدة منه تسحبها، فتسقطها كلها. بيتك التاريخ، وأهلك البشرية، وأنت مسيح ينام في سرير قديم. وعندما تنهض من النوم كل صباح، تنظر من نافذتك المطلة على حائط المبكى، فترى أناسًا من كل لون، والحائط يبكي، فتهمهم من بعيد، وتقول له: لم تحن بعد ساعة فرحك.
حاج عمر لن تبيعهم بيتك رغم أنهم حاصروا بيتك بأحدث البيوت، السر باقٍ في بيتك، طوبة واحدة منه تسحبها، فتسقطها كلها. شامخًا سيبقى بيتك، وعنوانًا للوجود. ستأخذ إليه ذلك الطفل اليهودي الذي داعبك مرة وداعبته: كانت الشمس شديدة، فظللته بردائك، وهو قد دار من حولك كما يدور الحمام من حولك في ساحات القدس، ثم جذبك من لحيتك، فأخذت أصابعه، وقبلتها.



كيف دافع أبو أيوب عن أرضه


يتذكر أبو أيوب يوم رأى المستعمرين اليهود لأول مرة، يتذكر. كان ذلك قبل 48. القمح بحر والشمس مراكب. أتوا جماعات، ورفعوا برج مستعمرتهم. وعندما هاجمهم الفلاحون بمعاولهم البالية من كثرة الجِدّ والاجتهاد، أو بمناجلهم التي لم يشحذوها بعدُ للحصاد، أطلقوا الرصاص من بنادقهم الجديدة، وبقي برجهم في الدم مرتفعًا.
يتذكر أبو أيوب يوم واجه المستعمرين اليهود لأول مرة، يتذكر. كان ذلك قبل 48. العنف أغنية شرسة والرصاص موسيقى مغتصبة. باع القمح وأسورة الذهب التي قدمها لأم أيوب وهي عروس، والفرس التي ستنجب مهرًا، واشترى بندقية مثل بنادقهم جديدة، واشترى بعض الذخيرة. وعندما أطلقوا الرصاص يريدون أرضه، أطلق الرصاص هو الآخر، فأدهشهم، وأجبرهم على الابتعاد. بنى أبو أيوب سورًا حول أرضه، ليزيد من مناعتها في وجه أعدائه. وبقي برج المستعمرة القريب يقض مضجعه في الليل، وفي النهار يتسلط على روحه. كان يعمل ولا يغادره بعينيه، ويفكر في طريقة لاقتحامه.
يتذكر أبو أيوب تلك اليهودية الجميلة، يتذكر. كان ذلك قبل أن يأتوا جماعات ليبنوا بأسلحتهم المستعمرات. تلك اليهودية الملتحمة، أين ذهب أبو أيوب فيها، كان يغوص، تعجنه على زنديها النار والأمواج، وبين نهديها، وفي أعماق فخذيها. يعجنه العطر والأشواق، ولا يفكر في الانطلاق من بين يديها. يسميها (( كمثرى ))، ويقضمها. ويسميها (( سكر ))، ويذيبها. ويسميها (( دجاجة ))، ويلتهمها. وتبقى لدى نفسه فيها شهوة مُطّردة. كان يريدها زوجة قبل أن يأتوا جماعات ليبنوا بأسلحتهم المستعمرات. ويتذكر أبو أيوب أنها لم ترفض طلبه، ولكنها اختفت ذات يوم بغرابة.
آه يا أبا أيوب كيف تتغير الأمور!
يتذكر أبو أيوب يوم تسلل إلى المستعمرة هو وبعض شباب البلد في ليلة أسود من الفحم، يتذكر. أحرقوا برج المستعمرة، وسمعوا صرخاتهم، وبعد بعض الطلقات التي أخمدوا نارها، رأوهم في الظلام يهربون، ولكنهم عادوا في اليوم التالي بأسلحة أقوى، كانت الحرب قد كشفت عن ساقها.
واليوم يقف أبو أيوب أهبًا من وراء السور، بندقيته التي كانت جديدة صارت قديمة، وأم أيوب لا تملك أسورة ذهب أخرى غير التي أعطتها له، والقمح لا ينبئ بالبركة هذه السنة، وفرسه الثانية التي اشتراها غدت عجوزًا، ولكنه لن يتركهم يأخذون أرضه، وإذا أخذوها، فلن يأخذوها منه بسهولة. رفع أبو أيوب رأسه إلى السماء، فرأى وجه جميلته القديم يطل عليه مبتسمًا، شجعته الابتسامة على مضاعفة الصمود، فما اختفت إلا بغرابة في اللحظة التي بدأوا فيها يأتون جماعات ليبنوا بأسلحتهم المستعمرات. سيصمد رغم أنه صار شيخًا، ولن يقع في أحابيل الحاكم العسكري مثل العم محفوظ أو أبي زكي، عندما طلب إليهما أن يحضرا أوراقًا تثبت أن الأرض لهما، فأخذها ولم يعدها، ولن يعيدها لهما ثانية. هذه أرضه، وهذا السور هو الذي بناه بيديه، وهذا قمحه، وهذه شمسه، وهذه عنابته، وهذا كوخه، ومن عادته أن يجلس على عتبة كوخه في المساء.
لم يعد أبو أيوب يتذكر شيئًا في اللحظة التي رآهم فيها من وراء السور، وهم يأتون جماعات، أبو (( الذاكرة )) هو، كما كانوا يدعونه، ومع ذلك، لم يعد أبو أيوب يتذكر شيئًا في اللحظة التي رأى فيها أشخاصًا بلحى سود يأتون ليبنوا بأسلحتهم في أرضه مستعمرة. وعلى عكس الذين باعوا بنادقهم من ثوار يوم الجمعة، انتظر اللحظة التي يقتربون فيها من أهداف بندقيته القديمة البعيدة، ثم أطلق، فراحت نجمة سوداء ترتفع في السماء، وهي تكبر، وتكبر، وكأنها طير عملاق غطى الكون بالدجنة.


السمكة الخائنة


تعالوا أحكِ لكم قصة السمكة الخائنة.
كانت في البحر أسماك كثيرة، أسماك من كل نوع، الصغيرة والكبيرة، القصيرة والطويلة، وأسماك من كل لون، الحمراء والذهبية، الزرقاء والفضية، والأسماك في البحر كانت تسبح بحرية، الطرقات للجميع، وكذلك البيوت وأغصان المَرجان، وكان لكل سمكة ثوبان من الحراشف. وفي المساء، كانت تُسمع التأوهات، ليست تأوهات الشكوى أو العناء، وإنما تأوهات العناق. كان البحر كريمًا بمائه، والأسماك لهذا لم تعرف إلا الحب والأمان.
وأتى يوم حضر فيه قرش ضخم، في فمه العملاق أسنان كالمنشار. أخاف الأسماك، ولم تستطع قتل القرش، أو، على الأقل، طرده، ولكن الأسماك اتفقت على أن تقاوم القرش بطريقة تقتله من الجوع، وذلك بألا تقع في جوفه، وهكذا تخلص الأسماك من شره.
ومضت الأيام، والقرش ينهار أمام قرار الأسماك، إلى أن ذهبت سمكة أغراها القرش بجواهر يخفيها وأكاليل، وجعلها تقع في جوفه. عندما أحست بهول ما أقدمت عليه، كان الوقت متأخرًا: لن تنجو من جوف القرش الأعمق من كهف قديم، والأعتم من كل السراديب، وإن نجت، فلن تجد لها رفيقًا بين الأسماك بعد أن خانت الجميع.
هذه هي قصة السمكة الخائنة، وهي، ولا عجب، سمكة بين سمكات أخرى فلسطينية.




الذئاب والزيتون


احتكمت الخيول والذئاب، قرب أحد بساتين الزيتون، إلى أحد القادمين من الشمال. كان قادمًا لأجل أن يستثمر الثمر الذي تحتاج مصانعه إلى زيته الصافي، فوجد الخيول تضرب الذئاب بحوافرها مبعدة إياها عن أشجار الزيتون، وعندما سأل عن السبب قالت الخيول:
((هذه الحيوانات الجبانة، أيها السيد القادم من الشمال، تريد اغتصاب بستاننا، وقتلنا، ونحن، كما ترى، نعيش أبًا عن جد في ظل الزيتون، لنا طبيعة مسالمة، وسروج مذهبة، صنعتها لنا زوجاتنا، وقضت في صنعها سنين وسنين، حتى إذا ما اعتلى ظهورنا أحد ارتاح، وبدا عاليًا وجميلاَ)).
انحنى أحد الخيول، ورفع القادم من الشمال على ظهره، فعمته الراحة، وأحس فعلاً بأنه جميل وعالٍ، مثل قمم الأشجار، وأنه على مستوى واحد معها.
قالت الذئاب:
(( هذه الشعوب من الخيول، أيها السيد القادم من الشمال، تطردنا كلما اقتربنا من أشجار الزيتون، وأردنا أن نستظل بورقها، هكذا نحن منذ الزمن القديم، نبحث عن بقعة تجمعنا، فنحس بأنفسنا كأننا شخص واحد غير منفصم، وبعد أن جعلتك الخيول فارسها، افعل شيئًا لأجلنا، نحن الذين كنا ننتظرك منذ زمن بعيد )).
رفضت الخيول رأي القادم من الشمال، القائل، في حضرة الطرفين، بأن تعيش الخيول والذئاب معًا، وقالت:
((حقًّاً للذئاب عيون ذهبية، وأجسام ممشوقة، ولكن لها أيضًا عاداتٍ قديمة في التعطش إلى الثروة، وأنيابًا ماضية، الضرورات تبيح المحظورات سراطها، وانخداع الصغار بأطماع الكبار منها، وهي لهذا لن تتردد عن سفك الدماء. طوال عمرها تعيش في الجبل وفي السهب، في الضباب وفي البرد، فما معنى أن تأتي عندنا؟ ))
ورفضت الذئاب رأي القادم من الشمال، القائل، دون حضرة الطرفين، بأن تعيش الخيول والذئاب معًا، أخذته على حدة، وقالت له:
(( إننا من جنس يختلف، والبستان لنا وحدنا لا يكفينا، وفوق ذلك، هو منذور لنا منذ الأزل، نحن الذين كنا أقرب إلى صدرك من قلبك وأبعد عنه في نفس الوقت بعد كل الذي جرى لنا في عهدك دون أن تفعل شيئًا من أجلنا، فافعل من أجلنا الآن ما لم تفعل، افعل من أجلنا ما وعدت بعد أن تركت دمنا يسيل نهرًا. ))
وعندما اقترح السيد القادم من الشمال أن تعيش الذئاب مع ذئاب أخرى في بلده، لها ما لها، وعليها ما عليها، رفضت الاقتراح، وذكّرت القادم من الشمال بأنها دومًا ما كانت خارجة على القانون، وأنها ما قدمت الخيرة من أبنائها أثناء الحرب التي قسمت العالم إلا تحقيقًا لمشاريعها الخاصة، بها هي أولاً، ثم لمشاريعه الخاصة، به هو ثانيًا، في استثمار البستان، وأنه أمام تعالي الخيول وعنادها لن يحقق من مأربه شيئًا، أما معها، فسيضمن سير مصانعه على الأقل نصف قرن من الزمن، ستكون له رأسَ حَربةٍ في اليد، تُبقي على التخلف، وتحول دون التوحد، السور المتقدم لحصنه الذي يحميه من الهمجية. وعندما رأت في وجهه أمارات التردد بدلاً من الشعور بالذنب، جعلت اثنين منها شابين ينشبان مخالبهما في ذيل معطفه، وباقي الذئاب أخذت تبكي وتنتحب مهيبة بالقادم من الشمال أن يسمع صراخ الإنسانية. ولكي ينجو بنفسه، أخذ يضربها بحذائه حتى أسال لها الدم من خراطيمها، ولكنها لم تطلقه.
صرخت الذئاب بالقادم من الشمال:
(( أنت مخلّصنا، فلا تنسَ وعدك لنا! ))
أجاب القادم من الشمال:
(( أعرف أنك ظلي المتحضر رغم أنك ذئاب أكرهك مثلما أكره شمس هذه المنطقة المحرقة! أيتها الذئاب البشعة! ))
عادت الذئاب تصرخ:
(( نحن ذئاب بشعة، ونحن فخورون بذلك! أمّا أنت فستبقى أحد القادمين من الشمال، يفصلنا عنك تاريخنا، ويجمعنا بك تاريخك. المهم أن نقتل أو نطرد تلك الخيول المتوحشة، فهي قذرة ومحبة للدم وأنانية، وما نريده هو النظافة ولا شيء غير النظافة! ))
أبرزت الذئاب أنيابها، والرائحة الكريهة تنتشر من أشداقها، وتجعل القادم من الشمال يقفل أنفه مشمئزًا ليمكنه مواصلة جدله معها. قال في الأخير لها:
(( دعيني أمتطيها واحدًا واحدًا، فتلك الخيول على رشاقتها تفتقد العقل الذي عندكم، وسأبعدها إلى الصحراء دون قتال. ))
شكّت الذئاب في قدرته، وشكّت في نيته، ولم تستمع إليه، راحت تحضّر للقتال، فصراعها القديم لن ينتهي إلا بالدم، وبالدم تحقق مهمتها وبالصلاة. سمعت الخيول المؤمنة صلاة الذئاب، فطربت للتراتيل، ثم رمتها بنظرات الاحتقار دون مبالاة كأنها كلابها.
وعندما اكتشفت الخيول ما عزمت الذئاب عليه كشفت للقادم من الشمال عن قلقها، فهدّأها بالبلاغة والمال أو بالخمر والنساء. وبعد تفكير طال، رأى القادم من الشمال أن يمكّن الذئاب في أرض الخيول ليتمكن من استثمار ثمرها. وقال لنفسه: في يوم من الأيام ستصهل هذه الحيوانات الفخورة بأمجادها، وستضرب بحوافرها، وستطردني حتى أنا من بساتينها وحقولها وآبارها. كان كل قدر الذئاب في يده، وكان يمكنه أن يوقفها عند حدها، لكنه تركها تفعل ليبدو عاجزًا في أعين الخيول حتى هو أمامها. أهم ما كان يشغله أمر الزيت الصافي، ألا يتوقف عن الضخ في مصانعه إلى الأبد. في الليل، انسكب الدم أنهارًا أحرقت أشجار الزيتون إلى أن اشتعل القمر. وقضت الذئاب ليلها، وهي تغرس أنيابها في أجساد الخيول التي لم تتمكن من طردها، فَتُفجر فيها جروحًا كثيرة في أماكن عديدة كالبراكين، راح يسيل منها الدم كالحمم، ويصعد من جوفها دخان أسود مغطيًا وجه العالم.
* * *
هببت من نومي مذعورًا، وأنا أحس بأنيابٍ تنغرس في جسدي. وصلتني طرقات على الباب، ولم تمهلني الطرقات، إذ ازدادت ارتفاعًا وضع حدًا لذعري. قفزت من السرير، وبعجلة، أضأت، وذهبت لأفتح الباب. وقعت على ابنة الجيران الصغيرة، وهي تتفتق كبراعم الورد. سألتني بصوتها العذب:
- ألم يأتِ عندك شوقي؟
انحنيت حتى مستوى كتفها، والضوء المتسلل من شق الباب يرشق وجهها الأسمر، فيندف شعرها الأسود في الليل. قلت، وأنا أمسكها من ذراعها:
- لا يا شاطرة، لم يأتِ عندي شوقي.
تخلصت من يدي، وتراجعت خطوة:
- نحن نبحث عنه، فهو لم يعد إلى الدار.
أشارت بيدها إلى قدم الدرج، وأضافت:
- هناك أبي ينتظر.
وفي اللحظة ذاتها، جاء صوت جهير ينادي:
- إيمان!
خفّت الطفلة تقطع المصطبة حتى رأس الدرج، وأبوها يسأل:
- هل وجدته؟
- السيد يقول إنه لم يرَ شوقي.
تقدمتُ عدة خطوات لأرى أبا البنت. كان يقف تحت مصباح عمود الكهرباء، قصيرًا، قويًا، يتجلى على وجهه قلقه على ولده.
- تفضل، يا سيدي.
- لا، أشكرك، أنا أبحث عن الولد، فهو لم يعد إلى الدار. ولأن من عادته أن يأتي عندك، قلت لنفسي ربما احتجزته لسبب ما.
هبطتُ الدرج بسرعة، والطفلة تقفز في حضن الليل. سألته، وأنا أسلم عليه:
- هل من عادته أن يتأخر هكذا؟
- لا، وهذا هو دافع الغرابة.
- أمر غريب حقّاً.
قالت إيمان لأبيها:
- تعال نسأل هناك، يا بابا.
وأشارت بإصبعها إلى مركز جنود الاحتلال في الوادي.
أجاب الأب:
- إنه لا يذهب إلى هناك، يا ابنتي.
- وهل بحثتم في المنطقة؟
- بحثنا ، لكننا لم نجد له أثرًا.
- بحثتم تمامًا؟
- أظن. أليس كذلك يا إيمان؟
قالت الطفلة:
- لم نبحث فوق الهضبة.
قلت:
- بإمكاننا أن نذهب حتى شجرة الزيتون.
استأذنت لارتداء ملابسي، وعدت بسرعة لنذهب في الليل تحت قمر أحمر حتى شجرة الزيتون. بعد عدة خطوات، انتبهت إلى الطفلة، وهي تمسك بيدي. كانت أصابعها ترتعش كما لو عبرت بها ريح باردة. كنا نسير صامتين: أين ذهب الولد؟ أين يمكن أن يذهب؟ ليس من الطبيعي أن يختفي على هذا النحو! فكرت في جنود الاحتلال المنتشرين في الوادي، وفي بنات آوى والذئاب المتمركزة على الهضبة، ونظرت إلى الأب الكاتم لأنفاسه، فانقبض قلبي.
أخذنا نسير في قلب الهضبة، في الطريق الحجرية، والقمر يرشق دمه الأحمر، والنجمات تسقط على الصخور بضوئها البارد، وتحت شجرة الزيتون وقفنا. كانت تفرش أغصانها في الليل دون حركة، وكأنها جمدت منذ دهور، وكان ضوء النجمات يضفي عليها لونًا فضيّاً باردًا انعدمت فيه الحياة.
اختفى الرجل لأجل البحث عن ابنه، فأخذت الطفلة تشد يدي بقوة. أحسست بقطرات العرق تسيل من أصابعها، وتذوب في راحتي، ومع ذلك ظلت يدها باردة كقطعة الجليد. نظرت إليها، فوجدتها تُحْدِقُ النظر في نقطة سوداء.
تركتني فجأة، وراحت تقفز جارية. ناديتها، فلم تطع، كانت تريد اللحاق بأبيها. ثم جاء صوت لا أدري من أين، صوت رخو راح يسيل في السمع: عواء ذئب أو ابن آوى! مما جعلها تعود بسرعة لترتمي بين ذراعيّ، وهي تردد:
- الذئب! الذئب!
وضعت يدي على رأسها، وحاولت أن أبعث في قلبها الاطمئنان:
- لا تخافي! لا تخافي!
كنت أجمع رطوبة الشعر ورغوة العواء وهذه اللزوجة السوداء في كل مكان والتي لا يمكن وضع حد لها. وجاء العواء من جديد، وهو يثير النفور في النفس، ويبعث على تقززها.
كانت الذئاب في كل مكان تمامًا مثلما كان ذلك في حلمي المرعب، فكرت فجأة فيما كان يقوله جدي عن تلك الذئاب: إنها فصيلة غريبة أتت من الشمال. رآها عندما جاءت إلينا، ورآها عندما أقامت ما بيننا. في ذلك الوقت كانت الذئاب الصغار كثيرة، ضعيفة، تتمزق مخالبها إذا ما سارت فوق الصخور. وإذا ما نفض جدي سوطه، كانت تفر هاربة من بياراته. كان جدي يقهقه، وقتذاك، متباهيًا بقواه. وكم كان يهزأ بها، ويحتقرها. لكنها عندما كبرت، ومات جدي، مزقت أبي بأنيابها الحادة، وتمكنت من شرب دمه بهدوء حتى القطرة الأخيرة. التهمت منه حتى العظم، ثم صارت لها البيارات مفتوحة.
طوال الوقت، لم تنبس الطفلة بكلمة واحدة، كانت تستسلم بين ذراعيّ، مسلمة لي أمرها: كان العواء موتها! انتبهتُ إلى خطوات تأتي باتجاهي، وما لبثتُ أن تبينت سَدْفَ الأب، وهو يلهث، فسألته:
- هل وجدته؟
لم يجبني، كان يبدو مرتبكًا، يرزح تحت ثقل خَشياته.
أعدت:
- هل وجدت شوقي؟
- هناك ابن آوى أو ذئب، وقد عدت لآخذ البنت إلى الدار، ولأجلب عصا أو أي شيء آخر.
أنزلت الصغيرة، فقفزت على قدمي أبيها، وتسلقته لتلتصق بساعده. أحاطت عنقه بذراعيها، ودفنت رأسها في كتفه.
رجاني الأب:
- اذهب، يا سيدي، اذهب. لن أزعجك بالبقاء أكثر. ما عليك سوى أن تذهب، وسأبحث عن الولد وحدي، أكثر الله من أمثالك!
- سأنتظر ريثما تعود، سنبحث معًا، فأنا أيضًا أريد الاطمئنان على الولد.
أعطاني ظهره، وراح يعدو بالبنت، والبنت تترجرج بين ذراعيه، دائرًا من وراء الهضبة، وما أن اختفى حتى علا العواء للمرة الثالثة. شعرت فجأة بعزلتي القصوى، وخوفي العظيم من الظلام، والسقوط في هوة زمن لا قاع له. جمعت ذراعيّ من حول صدري، وتقدمت خطوة، فتعثرت بحجر تناولته وحجرين آخرين قبل أن أتوغل قليلاً باتجاه الهضبة، فإذا بقدمي ترتطم بجسد قفز أمامي، وبرق شرس يأتي من عينين صغيرتين قاسيتين ما لبث أن انسحق في الليل. سمعت وقع خطواته القصيرة السريعة على الحجارة، فتقدمت ببطء، ثم حثثت خطاي، وتبعته. أنّ صوت حاد مجنون في الليل، أنين طويل، طويل وعميق، بعمق واد بلا منتهى: عو... و... و...! وصلتُ إلى فوهة مغارة، كانت الحفلة تقوم هناك، أربعة: ثلاثة ذئاب وابن آوى تتزاحم برؤوسها في الوليمة المسيلة للعاب! صيحة من أعمق نقطة في كياني أطلقتها، ورحت أقذف حجارتي كي أكسر شهوة الرؤوس، فقفزت الحيوانات مذهولة، وهمرت بثغور دموية، مهددة، ورمقتني بأعين ذهبية، ولذعرها راحت تصطدم أجسامها بأجسامها الممشوقة التي تتحرك بخفة وليونة، كما لو كانت تُضرب بالسياط. ابتعَدَتْ فوق الصخور قبل أن تهبط إلى الوادي، وبعد قليل لم أعد أسمع أنفاسها ذات الصفير ولا أرى منها شيئًا.
تقدمت بحذر من الجسد الممزق، وأنا أتفحصه إلى أن عرفته، كان هو، الصبيّ الذي كنا نبحث عنه. ولم أصدق عينيّ! كانت تتفجر في جسده براكين يصعد منها الدخان، وكان دمه يسيل حممًا. نقلت بين ذراعيّ تلك الكتلة الصغيرة التي لا شكل لها لأعضاء بشرية معجونة بالدم كانت أقرب إلى السمك القتيل، وسرت في طلب الخروج من المغارة، فإذا بِحَربة تبرق بنصلها كعين الذئب، تناولتها، وتابعت طريقي حتى شجرة الزيتون. وصلتني أنفاس الأب القصيرة، وسمعته يصرخ لظلي:
- هل وجدته؟
وعندما وقف قبالتي، قلت له:
- وجدته!
وألقيت الأشلاء بين ذراعيه، فجمد، وعجز عن الصراخ. ابتعد بخطوات ثقيلة ثقل الحديد، وما لبث بكاؤه المختنق أن وصلني. التفتُّ من حولي حذرًا، فرأيت بقعًا حمراء تدور بالشجرة. تأملت أغصانها الفضية، الساكنة، المفروشة، بثمرها الصامت في الليل، وغدا الليل أليفًا. لم يعد الظلام يخيفني. كنا معًا فوق الهضبة، أنا وشجرة الزيتون، وفي الوادي، ذئاب تبحث عن فريسة جديدة. نظرت مرات إلى الشجرة، ومرات إلى الحَربة، ووصلني عواء الذئاب من بعيد، فعزمت على البقاء هناك، أرصد، وأفكر، وأستعد للمواجهة القادمة. جمعت بعض الأعشاب، وأشعلتها. هبت الأنسام، وتحركت أغصان الزيتون مع مجرى الريح.



في نقطة التقاطع


نادوا عليه، قالوا له:
- إنها عملية صغيرة.
أعطوه بعضَ أصابعٍ من الديناميت، وأعطوه بندقية، وكمية كبيرة من الرصاص، وأعطوه حزامًا لفه على خصره، وكوفية حمراء.
قالوا له:
- اقطع النهر عندما يهبط الليل، واصعد إلى الطريق، وفي نقطة التقاطع احفر في الأرض، تحت سهم مكتوب عليه نابلس 90، وازرع الديناميت، اهبط في الوادي، انتظر شاحنات العدو، وعندما تظهر، فجرها.
سقط الليل، فحمل سلاحه والديناميت، وأخفى بالكوفية الحمراء وجهه، وحزامه المشدود يوجع عند الخصر، وغطس في النهر.
وهو يقطع النهر، رأى الضوء الكشاف فوق التلة، وأنوار المعسكر، وسمع موسيقى عسكرية وضحكات الجنود.
خرج من النهر، والماء يبلله، وجرى بخفة قط. كان يفكر في السهم المكتوب عليه نابلس 90، وهجمت عليه أفكار أخرى. راح يفكر في لحيته التي لم تطلع بعد، في أخيه كيف قتلوه، وفي حديقة دارهم كيف أحرقوا وردها، وراح يفكر في أبيه الذي مات من القهر، في أمه لما جننوها، وفي أخته لما اغتصوبها. انصهرت كل أفكاره في فكرة واحدة، الفكرة الوحيدة التي كانت تشغل باله آنذاك: اسم مدينة، ورقم مكتوب على سهم.
وهو يحفر في الأرض بسُعر وهيجان، وعدم الحذر والاندفاع يجرفان حركات يديه، سمع الرفاق صدى طلقة نار، ونهر المسيح قد تعكر.


أبو رشيد


حملك ثقيل، يا أبا رشيد، ابنك الجريح بين ذارعيك، وأنت تدعس الشوك، وتوغل في الأرض الوعرة، بعد أن تركت الحدود التي لم تعد حدودًا من ورائك. تصلك أصداء الانفجارات دومًا، والطلقات، ورائحة العنب الذي احترق، وبكاء العنادل. يشتعل الجبل بشجره الراسخ الجذور فجأة، فيغدو أحمر، ثم ينطفئ. وأنت تسير، تقطع طريقك الطويل. مشيت طوال الليل، وأنين رشيد، ولدك، يسارع من خطواتك. أردت له الحياة، لأنه أملك. عزمت على ذلك في حدود النار، بعد أن قاومتم على حدود النار، ثم تركت الحدود وكل شيء يحترق. كان الدم قد هدر نهرًا، وغابت الشمس عن ضفته الغربية. لو بقي ولدك لقتلوه، عند ذلك، من سيبقى لك؟
- لن يبقى لي إلا ولدي.
- كم أنت تتعلق بولدك!
- أنا أتعلق به تعلقي بروحي، أخذوا الوطن، ولن أدعهم يأخذون روحي.
- سلمت روحك، يا أبا رشيد!
تشد ولدك إلى قلبك، وتنظر إلى الجرح الذي يتوهج. كانت النار تصعد من الجرح، والدم كالجمر يتأجج. تحاول منع النزيف، وتهتف من أعماق قلبك:
- الجرح عميق!
- نعم، الجرح عميق، أعمق من بئر!
- أخذوا كل الحقوق، وتركوا لنا حقّاً واحدًا.
يضاعف من خطواتك الأنين، وتهمهم لنفسك:
- يا حق الجرح!
نعم، يا حق الجرح، يا حق الأنين! يا حق الأمل الحزين!
وأنت تحمل بين ذراعيك أملك، تشم، أبا رشيد، رائحة العشب الذي احترق، وخوخ الصيف الذي لم يرحل، وتقول لولدك في دخيلة نفسك: سأنقذك! أردت أن تحفظه للثورة، فيوم غطت الحرب ساقها كان كل شيء قد بدأ. ترى إلى الفضاء في الليل الذي أخذ يبيض مع صعود الشمس على عمان، فيزيدك صعود الشمس عزمًا على مواصلة الطريق، إلى مكان تبرأ النار فيه بعد أن غدا الجرح نارًا. كانت إرادتك أن تحفظه للثورة، وإرادة الثورة أن تبرأ النار. يقول لك الصباح: دمت سالمًا، يا أبا رشيد! ويلتف من حول النار ضمادًا كذراعك. تفكر وأنت تنظر إلى الصخور في عينيها أن المحتلين لم يكونوا وحدهم السبب، ولكن أيضًا من ادعوا الوطنية، أولئك الثورجية! هم فتحوا الجرح عندما باعوك كلامًا بالأطنان، وعمقوا الجرح عندما صاروا يتاجرون بالجرح ثلاجات وغسالات وسيارات وطيارات خصوصية، ودقوه نارًا على نار يوم هربوا إلى العواصم القريبة ليتكلموا عن الانتصارات.
أنتم وحدكم أبو رشيد ورشيد والجرح النار والجمر والحريق بقيتم تدافعون حتى غدا النزيف جحيمًا.
- طوال عمرنا ونحن وحدنا ندافع حتى يغدو النزيف جحيمًا.
- ولكنكم بقيتم ثلاثتكم معًا رغم الجحيم.
- لهذا تجدني أستطيع قطع الطريق.
- طريقك تقصر، يا أبا رشيد.
- والألم يزيد.
- لينقص الألم، لا بد من إطلاق الأنين.
- نعم، لا بد من إطلاقه.
تصل، أبا رشيد إلى بيت أخيك عبد اللطيف الذي انقطعت عنك أخباره، فتجد أنه بنى دارًا، وأن أبناءه في السعودية يعملون، وهو مرشح للمخترة. وعندما يسمع بمقدمك، يطلب من زوجه أن تخبرك أنه يقوم بفريضة الصلاة، فتحاول أن توقف النزيف منتظرًا العون لتقوم بفريضتك، والدم ورود من اللهب تتفجر بين أصابعك. ويجيء أخوك في الأخير، فيرعبه الجرح، ويرعبه أن يجرف الجرح بيته ووضعه والمخترة الموعودة على طريق الهدى مع حمم ناره، فينصحك بتسليم ابنك إذا كنت تريد له الحياة، فهو في السجن سيجد العلاج، وهذا ما تمليه على المنهزمين القوانين.
- آه من الجرح عندما يتحول إلى وردة نار وحشية!
- وآه من وردة النار الوحشية عندما تتحول إلى رعب للثوب القشيب!
- هو أخوك رغم كل شيء.
- هو الشيطان تريد القول.
- الشيطان أحيانًا أرحم.
- وأرحم هو الحجر، والغربة عن الوطن، وجليد الشتاء.
- هكذا تعرف كيف تفرق بين عدوك وحبيبك.
تطلق، أبا رشيد، تأوهة، وتطرق بابًا من الأبواب في مخيم اليرموك، فيفتح لك أحدهم، رجل لا ترعبه ورود النار الوحشية. وحينما يقف على حالة الجرح، يدخلك بين زوجه وبناته، فيعملن على سقيه. الجراح تسقى بالحنان كما تعلم حتى وإن كانت نارًا! لكنك ورشيد كنتما تركضان وراء وهم التحرير، ونسيتما أن الجراحَ نارٌ وبأس.
- آه من الجرح عندما يتحول إلى رصاصة لا تعرف الهدف القريب.
- وآه من الرصاصة عندما تتحول إلى جرح لا يعرف الهدف البعيد!
- كان عليك أن تمضي بالتجربة.
- وإلا كيف تريدنا أن نفهم؟ نفهم متأخرين أحيانًا، ولكننا نفهم رغم كل شيء، رغم الجرح، رغم الجراح!
- هكذا.
- نعم، وهكذا نتغير.
تتغير أشياء كثيرة، أبا رشيد، تخطئ، وتصيب. ومرة أخرى، ينزف الجرح الذي التأم، ويدق فيه اللهب. ويضطرك اللهب إلى الذهاب إلى مستشفى مخيم برج البراجنة. في المخيم، هناك، تلتقي بفلاح من الجنوب، اسمه أبو بديع، قتلت عائلته غارة إسرائيلية، وهدمت داره. تذهب معه، وتعمل معه في كسر الحجر، وتحويل الحجر، وتعيش معه تحت سقف واحد، ريثما يبرأ الجرح من جديد، ويقف رشيد على قدميه، ويغدو كله نارًا، جسده اللهب، وسلاحه البركان. تنظر إلى الجرح، ولا تنسى، يعود بك الجرح إلى الوراء، إلى البداية، يوم سقطت البلاد دون عناء، وكأن ذلك حصل بالأمس، وتعرف أن كل شيء بدأ بكذبة، وانتهى بكذبة، حتى الجرح يمكن أن يكون كذبة. تقاوم الكذبة، وتصير إصابة الهدف البعيد محورًا لكل أفكارك.




الموت لا ينتظر


أزالوا آثار معسكرهم منذ قليل، بقي سعدي ليطفئ نار الموقد، بينما بدأوا في شق طريق منحرفة إلى الشرق، وهم يحملون مروان الجريح على ناقلة خشبية صنعوها من أغصان الشجر، عائدين إلى مواقعهم وراء النهر. راح سعدي يضرب الحطب المشتعل بكعبه، فيزداد تصاعد الدخان، دخان أبيض كضباب الشتاء. أخذ سعدي يسعل بحدة، ثم سارع باللحاق بهم. تطلع مروان إليه، فرأى قطرة دمع تنسحق على خده. كان بود سعدي أن يقول له: هذا من فعل الدخان! لكنه بقي صامتًا، وهو يفكر في جرح مروان، وهلوساته طوال الليل مرددًا: التنين! التنين! هل سيصلون به إلى المواقع، فيعالجونه قبل فوات الأوان؟ شد في قبضته بندقيته الأوتوماتيكية، وسوّى على ظهره صرته الثقيلة. كان مروان قد فهم ما يدور في رأس سعدي، فابتسم له.
كانوا سبعة، معهم أربع بنادق أوتوماتيكية، ورشاشان، وبازوكا، وأسيران: غوستاف، الجندي الإسرائيلي، وفتح الله، الراعي الذي وشى بماجد ومصطفى وسليمان خلال ذهابهم إلى نقطة بين البيرة ورام الله. التفت مروان إلى فيصل، فرآه يحمل البازوكا بطريقة رومنطيقية، وكأنه يضم حبيبته بين ذارعيه. كان أشدهم قوة ما في شك، بقامته المربوعة، وساقيه القويتين، وخطواته الواسعة.
كانت طريقهم المنحرفة الذاهبة إلى الشرق تدور مع هضاب القدس، كي يتفادوا اقتفاء العدو آثارهم. وكانت تحركاتهم بمجموعات قليلة العدد أقل خطورة، وانتقالهم من مكان إلى آخر أكثر سهولة. سرعة الحركة إلى جانب الشك والتنبه التامين، وعدم المكوث طويلاً في مكان واحد، كل هذا، حال دون وقوعهم في الكمائن.
مضوا بأحراش صنوبر كثيفة، وتربة شقراء، وأعشاب ندية، وأحسوا بطرواة الأرض تحت أقدامهم، وبهدوء صعود الصباح. ومع تعالي الأنسام، كانت أنامل من حرير ترفع قاماتهم. تقدمهم رياض وإبراهيم، الفأس باليد، والسلاح على الكتف، أما الصرة المعهودة، فهي على الظهر دومًا، تقدما الجميع من أجل أن يشقا بفأسيهما المسالك، وكذلك من أجل قتل الثعابين، وكل أخ لها. كانوا يخشون أن تهاجمهم هذه الزواحف غفلة أكثر من جنود الاحتلال، وكان إبراهيم يطمئن الجميع، وهو يشير إلى نظارتيه الطبيتين، قائلاً، إن باستطاعته أن يرى حتى صغار النمل! وهو بلحيته القصيرة، وشاربه الخفيف، ووجهه المدور، الباسم رغمًا عنه، كان طفل المجموعة. عندما تحادثه أو تنظر إليه، شيء ما يدغدغك! كان يثير مودة (( خاصة ))، وهذه المودة الخاصة وحدها التي كانت تشفع لإبراهيم هفواته.
راحت ضربات فأس الرفيقين تصلهم باستمرار دون أن يكون في ذلك أي خطر، فبعد الجولة الاستطلاعية التي قام بها فاروق ونبيل، تأكد لهم بُعدهم عن العيون الفضولية. كان الإسرائيليون يتمركزون في عدة نقاط في الوادي، وهم يقطعون عليهم كل الطرق على التقريب، لكنهم في شقهم هضاب القدس، حالوا دون مفاجأتهم لهم. كانت الطريق صعبة حقًّا، لكنها أكثر أمانًا.
وكان نبيل في المؤخرة، بعد أن تركوا في عهدته الأسيرين. قيد لهما اليدين، وعقدهما خلف ظهرهما، وجعلهما يسيران من أمامه. كان فخورًا بذلك، بحراسة الأسيرين، وكان يشعره ذلك ببعض التفوق. وفي الحقيقة، يعود إلقاء القبض على الراعي، وهو في ظهورهم، إلى نبيل الذي اكتشفه قبلهم جميعًا بسبب حاسته السادسة! وعندما تراجع بطريقته العاجلة الحذرة معًا، عرفوا أن في الأمر شيئًا ليس طبيعيّاً، فتأهبوا لدرء الخطر. وفجأة، أتتهم صيحة نبيل من بين الأشجار، ثم برز لهم، وهو يدفع بندقيته في ظهر فتح الله الذي ما لبث أن طرحه أرضًا، وسدد فوهة سلاحه في رأسه يريد قتله، ولكن تدخل رياض السريع حال دون ذلك. كان من المفروض أولاً استجوابه، وقد اعترف على التو، بأنه كان يتتبعهم، وأنه هو الذي وشى بماجد ومصطفى وسليمان.
حاول نبيل أكثر من مرة إقناعهم بالتخلص من الأسيرين، وخاصة أن غوستاف هو قاتل أبي العز عندما هاجموا الدورية الإسرائيلية. كانا في نظره مجرمي حرب، ووجودهما يعيق الحركة، ويبذر المؤونة. انضم إلى رأيه فاروق، ثم سعدي في بادئ الأمر. وفي النهاية، بقي نبيل وفاروق وحدهما ممن يطالب بإعدام الأسيرين. علل فاروق ذلك بأن الراعي اعترف بسهولة، فهو بإمكانه أن يخون حتى أباه! أمّا غوستاف، فهو عسكري أولاً، وقاتل أبي العز ثانيًا، ثم... لم يعجبه شيء في شكله!
كان باقي الرفاق يرون أن يسلموا الأسيرين لحركة المقاومة، وقد حصلت مناقشة حادَّة بين رياض وفاروق حول الأمر، مما اضطر فاروق إلى الموافقة في النهاية، فرياض
كان مؤهلاً لفرض وجهة نظر الأغلبية. اعتبروه قائد المجموعة دون أن يتخذوا بذلك قرارًا، وهو ذو خبرة عسكرية عالية، أهب دومًا رغم إصابته بالقرحة التي كانت تسبب له آلامًا كثيرة في الليل، وقد انعكس الألم على محياه، وصارت لعينيه الخضراوين نظرة مؤثرة.
انبثق رياض من بين جذوع أشجار الصنوبر في عودة إليهم، وخيط من العرق يسيل من جبينه، إلى جانب اصفرار شديد في وجهه. قدم الفأس لفاروق الذي يُعنى، هو وفيصل، بحمل مروان، طالبًا إليه أن يحل محله، لكن سعدي تطوع في الذهاب مكانه. كانت حرارة مروان مرتفعة، فطمأنه فاروق، وقال إنهم يقتربون من النهر. ابتسم مروان، وقال له إنه يعرف ذلك. وتبدى له التنين، تنين عملاق له رؤوس، كلما تقدم منه، وقطع له رأسًا، نبت له آخر. بعد مسافة ليست قصيرة توقفوا من أجل مروان، وراح فاروق، (( الذي يعمل كل شيء ))، يفك ضماد الجرح بعد أن عهدوا إليه بمعالجته. كان قد أخبرهم أنه مارس التمريض فترة من الزمن في عيادة، فسأله رياض متهكمًا:
- أية عيادة هي؟ عيادة أبيك!
ولم يرتح فاروق، وقتئذ، للهجته:
- قلت في عيادة!
قال رياض، بشيء من الدعابة، موجهًا حديثه إلى فيصل:
- كان يعمل في الكويت كاتبًا عند طبيب، فصار طبيبًا!
هب فاروق به صائحًا:
- وماذا في ذلك من أهمية، أن تعمل كاتبًا أم غيره؟ أليست لك عينان لترى وأذنان لتسمع؟ ثم من قال لك إنني لم أمارس مهنة التمريض؟ لقد مارستها، وأتقنتها، مما أهلني للحصول على ترقية سريعة، وسيتم على يدي شفاؤكم جميعًا!
حاول فيصل تفادي الضحك دون أن ينجح:
- طالما يعمله فاروق، فأنا أثق به.
وقد كان فيصل، وقتئذ، صادقًا. إذن لماذا راح يضحك؟ ربما لطريقة فاروق في الحديث عن (( أمجاده ))، وربما لأن فاروق قد تنبأ بما ليس خيرًا فيما يخص كل واحد منهم عن غير قصد، وربما لشيء آخر يراه فيصل ولا يراه غيره.
أخرج فاروق من صرته بعض المساحيق التي لا يعلم أحد كيف ومن أين أتى بها، وبعد أن رش بها جرح مروان ضمده بعناية، وهو يرمي الجريح بمزحة تخفف عنه:
- أنت تعمل من الحبة قبة!
كانت حالة مروان تتدهور من سيء إلى أسوأ، وعندما نظر فاروق إلى رياض القلق على مروان وجده يطحنه بنظراته، حنى رأسه، ونظارتاه الطبيتان تسقطان حتى أرنبة أنفه، وراح يُطرق بصره بارتباكٍ من فوقهما.
لاحظ مروان انشغال بال رياض عليه، وهو يشيح عنه وجهه إلى ساق صنوبرة تفتك بها الحشرات، وكان يحبه كثيرًا، فسأله:
- ما لك، يا رياض؟
تطلع رياض إلى مروان، فرأى مروان رجلاً كهلاً في جلدة صديقه، مما شدّه أكثر إليه، وجعله ينتظر أن يقول له كلمة مطمئنة، لكن رياض طلب إليه:
- لا تتكلم! لا تهتم إلا بنفسك!
حاول مروان الابتسام، فسأل:
- هل تؤلمك معدتك؟
هزَّ رياض رأسه، وعند ذلك، غاب مروان قليلاً عن الوعي، وسمعوه يهمهم: التنين! التنين!
كانوا قد تابعوا سيرهم، تطلع رياض إلى فيصل، فرآه يأخذ مكان إبراهيم في شق الحرش. اقترب فيصل من سعدي، وراحا يتحادثان حتمًا عن ماركس وأفكاره. كانوا يدعون فيصل بمنظرهم. وكان إبراهيم قد علق سلاحه على صدره على طريقة حاملي الغيتار في أمريكا اللاتينية، وحمل النقالة مع فاروق. بينما كان نبيل يقود الأسيرين دومًا، وهو يكشر لحرارة الشمس التي ارتفعت، فينفتح فمه الكبير عن أسنانه الكبيرة المتفرقة. كان يبدو مبتسمًا بضيق هائل، وقد دفع ذلك رياض إلى الصياح به:
- كل شيء على ما يرام؟
هز نبيل رأسه دون أن تتغير ملامحه، وسمع فاروق مروان يقول:
- التنين يتهاوى برؤوسه تحت ضرباتي، ولكنها لا تلبث أن تنبت من جديد!
فرجاه فاروق:
- لا تفكر في هذا.
لكن مروان توسل إليه:
- دعني أفكر في هذا، من فضلك.
تضاعف خفق قلب فاروق من الروع، وراح يقرع على فكرة موت صديقه، فقال:
- كما تشاء.
ثم التفت إلى رياض، ونفخ:
- أصبحت الحرارة لا تطاق! كان من المفروض أن نتحرك ليلاً ونرتاح نهارًا.
- علينا السير ليلاً ونهارًا، لحالة مروان، إلى جانب أننا تأخرنا عن العودة، وأخشى أن نثير قلق الرفاق في المواقع.
قال إبراهيم بوجه الطفل المتفائل الذي له:
- سيسير كل شيء على ما يرام!
وما لبث أن رمى مروان بنظرة متشائمة. كان مروان قد أغفى لشدة حرارة جسده، وحرارة الشمس. لاحظ فاروق الضماد المشرب بالدم، وعزم على تبديله. أجلسوا مروان في ظل صنوبرة، ووعد فاروق بأن يلحق وإبراهيم بهم خلال عشر دقائق. بدأ يفك الضماد بكثير من الحذر، ومروان غائب دومًا بين يديه. همس لإبراهيم، وهو يضغط الجرح:
- انظر كيف يتفجر قيحًا!
مسحه بقدر الإمكان، ثم رشه بالمساحيق ذاتها التي لديه، وربطه بضماد جديد، وهمهم:
- ليته لا يتوقف عن قتل التنين!
بدا إبراهيم مرتبكًا، لا يعرف ماذا يقول، كان يُحْدِقُ النظر في ظلال التنين التي تحيط بمروان من كل جانب، وانتبه إلى فاروق يقول:
- في المرة القادمة لا بد من إحضار بعض العلاجات الأكثر نفعًا.
فكر إبراهيم في (( المرة القادمة ))، فخشي أن يكون دوره. كانت لديه قناعة بأن فاروق يحدس المستقبل. بدا له المستقبل غير مشرق، وفكر للحظة: ما فائدة كل هذا؟ لم يكن اليأس، ولا التعب، ولكن التفاهة، والعبث، واللاجدوى. لم يكن الوجود مهمًا. وجد إبراهيم نفسه يقول، وهو غائب بعض الشيء:
- أمي مصابة بالسرطان!
- ماذا؟
- أقول لك أمي مصابة بالسرطان!
قال فاروق دون اهتمام:
- سبق أن قلت لي ذلك.
واندهشا على ابتسامة راحت تضيء وجه مروان، ابتسامة تفجرت بالأشعة كابتسامة الملائكة والقديسين، ثم انطفأت فجأة، فجرفهما الشعور بالذنب. انحنى فاروق على مروان، وحاول عبثًا الاستماع إلى دقات قلبه. وعندما رفع إلى إبراهيم عينيه، قرأ إبراهيم فيهما كل شيء.
بقيا لفترة حائرين، لا يعرفان ماذا يفعلان، وما لبث فارق أن طلب:
- لنحمله إلى المواقع، فقد صار الوقت متأخرًا.




جحا النابلسي



الكل في نابلس يعرف جحا الأسمر الهرم، ابن الأزقة القديمة، وجوال الشوراع، والكل في نابلس ينقل عنه الأخبار، ويروي القصص التي صاغها من عرق النهار، والأسرار، ومناكدة الزمن. وحينما يتكلم عنه الكبار، كان الصغار ينصتون، ويضحكون. وحينما يتكلم عنه الصغار، كان الكبار يذهبون في رحلة قصيرة، وتخطر على بالهم ذكرى من الذكريات الحلوة أو المريرة، وحينما تتكلم عنه العجائز من النساء، كانت الصبايا تحلم به أبًا أو عريسًا. ومهما كان رد فعل الناس، كانوا يروّحون عن أنفسهم بشتيمة، وقصدهم الثناء أو العتاب!
يقول أحدهم:
- في سنة 36، أيام إضراب الستة أشهر، كل الناس أضربوا إلا جحا لم يضرب يومًا واحدًا.
فيأسف الجالسون:
- آه منك يا جحا! أتعملها بنا؟
يوضح ناقل الخبر:
- لو أضرب جحا لما وجد الناس في بيوتهم بصلة واحدة، ولماتوا كلهم من الجوع!
فيثني عليه الجالسون.
ويقول آخر:
- في سنة 39، أيام كان الإنجليز يحكمون بالإعدام على كل من يجدون عنده فشكة واحدة، كان جحا يحمل على كتفه بندقية، أجمل بندقية، ويذهب بها عند حبيبته في وضح النهار، ولا أحد من الإنجليز الملاعين يجرؤ على إيقافه.
فيضج الجالسون إعجابًا:
- هذا لأنه رجل عن حق وحقيق، ابن أمه وأبيه!
يوضح ناقل الخبر:
- بل لأنها بندقية ضابطه.
فينفجر الجالسون ضاحكين.
ويقول ثالث:
- في سنة 48، أيام النكبة الكبرى والمهجّرون من الناس يسيرون على أقدامهم أفواجًا في درب الجحيم، كان جحا يركب سيارة.
فيعلق الجالسون:
- هذا لأنها سيارة ضابطه!
- لا!
- هذا لأنه سرقها.
- لا!
- هذا لأنه جمع مالاً كثيرًا من إضراب الستة أشهر وشراها.
- لا!
- هذا لأنه تزوج من ابنة عمه، أغنى رجل في البلد.
- لا!
- هذا لأنها سيارة تلبس طاقية الإخفاء، لم يرها مأفون غيرك!
- لا!
- هذا لأنه لا يستطيع المشي على قدميه بعد أن جرحتهما الأشواك لما كان بصحبة الثوار.
- لا!
وعندما يكلُّ الحاضرون يصرخون معًا:
- إذن لماذا؟
يوضح ناقل الخبر:
- لأن السيارة للمفتي، وهو السائق!
فينفجر الجالسون ضاحكين.
ويقول رابع:
- بعد الهجرة الإجبارية، والناس كلها لا تجد خبزًا تأكله، وتبكي، كان جحا يكاد ينفجر من كثرة الضحك.
فيغضب الجالسون:
- يضحك على مصائب غيره؟ هذا لأنه معتوه ما في شك.
يوضح ناقل الخبر:
- بل لأنهم كانوا يسحبون الدم من خاصرتيه لأجل ضحايا الحرب.
فيصمت الجميع، وتظهر على الوجوه أمارات القلق، وليعيدهم ناقل الخبر إلى الابتسامة، يضيف:
- وبعد سحب الدم لم يكن جحا يكتفي بشرب كأس واحدة من الحليب، فتقول له الممرضة إن الأحوال الاقتصادية تعبانة، وإذا ما أعطته أكثر من كأس، فستعاقبها إدارة المستشفى، وربما طردتها. وتحلف بمعزته عندها أنه لو كان بيدها لأعطته من حليب ثديها الذي تعطيه لولدها، فيطلب منها أن تعتبره ولدها!
فينفجر الجالسون ضاحكين.
ويقول خامس:
- في سنة 65 ، لما انطلقت ثورتنا من جديد، كان جحا يبكي.
فيتفاجأ الجالسون:
- يبكي في وقت كنا فيه كلنا فرحين ومستبشرين!
يوضح ناقل الخبر:
- لأنه طلب من ابنه أن يأخذه معه، ورفض.
فيتحير الجالسون:
- رفض ابنه لأنه كبر.
- لا!
- لأنه لا يعرف استعمال السلاح الروسي.
- لا!
- لأن امرأته ماتت، وعليه أن يبقى في البيت من أجل الأولاد.
- لا!
- لأن ابنه يخاف عليه.
- لا!
- لأن ابنه قال أنا ذاهب إلى القتال، وفي الحقيقة ذهب ليتزوج.
- لا!
- لأن طريق الانتصار طويل.
- لا!
- لأن طريق الانتصار قصير.
- لا!
- لأنك حمار.
- لا!
- لأن أمرأتك تحبه.
- لا!
- لأنه لا يصلي العصر.
- لا!
- لأنه لم يطلب الإذن من زوجة الإمام.
- لا!
- لأنه لا يغسل رأسه.
- لا!
- لأنه لا يغسل يديه.
- لا!
- لأنه لا يوسخ أسنانه.
- لا!
- لأنه يعمل كالجحش.
- لا!
- لأنه لا يعرف طعم اللحم منذ (( السفر برلك )).
- لا!
- لأنه نام على ماكينة الخياطة، وخيطته نور العيون العمياء!
- لا!
- لأنه ملعون سماه.
- لا!
- لأنه ملعون سماك!
- لا!
وعندما يكل الحاضرون يصرخون معًا:
- إذن لماذا؟
يوضح ناقل الخبر: لتذهبوا بدلاً عنه.
ويتفاجأ الجالسون، يتململ بعضهم في مقعده، وبعضهم الآخر يغادر المكان، وتعود من جديد الحكايات.
بعد الاحتلال، وبالضبط، مع أول الاحتلال، والجنود الإسرائيليون يدخلون نابلس متخفين تحت ثياب قوات الجيوش العربية، كان جحا بصحبتهم، فصفق الناس لجحا وللجنود. وعندما اكتشفوا الواقع المر، صار جحا جنديّاً في الجيش الإسرائيلي، ذهب إلى الحاكم العسكري، وقتله، فاعتبرت إسرائيل ذلك أول تمرد مسلح على التوراة، ورمت بالرصاصات فيلقًا كاملاً.
وعندما بدأ التاجر أبو يموت يتعامل مع الإسرائيليين من أصحاب الشركات المتعددة الجنسية، ويومًا عن يوم يصعد، ويَغنى، أتاه جحا، وقال له: اجعلني خادمك أو أحرق مخازنك، فجعله خادمه وأحرق مخازنه.
وذات يوم شديد الحرارة، رأى جحا يهودي يشرب كأسًا من (( العرق سوس )) في الطريق، فشرب هو الآخر كأسًا، وابتسما لبعضهما، وصارا، منذ ذلك اليوم، صديقين، يذهب جحا عند اليهودي، واليهودي يأتي عند جحا. إلى أن كان يوم اختفى فيه جحا عن الأنظار، وعندما أتى اليهودي يسأل عن أخباره، أمسكه الناس، وحبسوه في أحد البيوت. لما علم جحا بالأمر، ظهر ليطلق سراح اليهودي، فرفض هذا الأخير، بعد أن وجده يجلس مع أهل البيت على الأرض، ويأكل معهم الخبز والفول والبصل. وعند ذلك، طبطب جحا على ظهره، وأعطى مفتاح البيت الذي لليهودي في يافا لابنه الذي في عمان.
وذات مرة، كان الجنود الإسرائيليون يبحثون عن شاب استطاع أن يفجر سيارة عسكرية، فدلهم جحا على الطريق الذاهبة إلى حارة الياسمينة في المدينة القديمة. ومرة ثانية كان شاب يبحث عن جنود إسرائيليين فجروا بيته الذي كان كل حياته وحياة أمه وأبيه وكل أخوته وأخواته، فدله جحا على الطريق الذاهبة إلى حارة الياسمينة. ومرة ثالثة كان جحا يبحث عن جنود إسرائيليين يبحثون بدورهم عن شاب استطاع أن يفجر ثكنة عسكرية، فدل جحا نفسه على الطريق الذاهبة إلى حارة الياسمينة. ومرة رابعة كان جحا يبحث عن أجمل بنت في المدينة، فوجد نفسه على الطريق الذاهبة إلى حارة الياسمينة. ومرة خامسة كان جحا يريد أن يكون جحا آخر غير جحا الذي كتبت عنه الكتب الشيء الكثير، فانشق القمر، نصفه كان حجرًا، ونصفه كان طفلاَ من أطفال حارة الياسمينة.
في حارة الياسمينة، كان جحا ينام متأخرًا كالقطط، وينهض مبكرًا كالطيور. وذات ليلة، لم ينم حجا طوال الليل، وفجأة نهض الناس على بكائه، كان يبكي بصوت مرتفع، ويشهق، ويواصل البكاء دون توقف، كان يبكي، ويبكي، وكأنه يبكي عنهم جميعًا. تبادلوا الحديث فيما بينهم، حول جحا وأسباب البكاء، وقالوا: ربما قتل جنود الاحتلال ولده، أو هو عاشق حزين. وقضوا، في اليوم التالي، طوال نهارهم حائرين. لم يلعب الصغار في الحارة، وحلموا بأن يصيروا فدائيين. أمّا الكبار، فقد صبوا جام غضبهم على الاحتلال، وكفروا، وأضربوا، وامتدت شوارع نابلس كأيام 36، وراح الناس ينتظرون أن يفرغ جحا من بكائه.



البحر يأتي إلى المدينة


عقابًا لنابلس وأهلها، أمر الحاكم العسكري الإسرائيلي أن يؤتى لها بالبحر، هكذا يطفئ نار المدينة، ويغرقها، فيغمرها الماء حتى قمة جبليها، ولا يعد اسمها مدينة جبل النار المحفور في الصدور. وأتى البحر من حيفا، وهو يهدر جبارًا، كأنه القدر الغاضب، فصنع الناس المراكب، وصعدوا فوق الأمواج، والأمواج تتصاعد فوق الجبلين، وراحت الأشرعة تتعلم لغة الريح، وتبحر في الليل نحو موانئ النجوم أو جزائر القمر التي صارت قريبة.
عندما تعلم أهل نابلس الصيد، وأتقنوه، أغدق البحر، ومن أحشائه أعطاهم الأسماك، وأتاهم بذكرياتهم القديمة. ويومًا بعد يومٍ، راح يعود بهم إلى يافا وحيفا بعد أن غدا قنطرة، ويعيدهم إلى أزمان البرتقال والرمان زمنًا زمنًا، ويومًا بعد يومٍ، راح يطير بهم بعد أن غدا صقرًا، ويريهم بلدان العالم واحدًا واحدًا. ولما اضطر الحاكم العسكري الإسرائيلي إلى العدول عن قراره، أبى البحر الرجوع إلى شواطئه التي كان يقف عندها قبل 67، وتشبث بأهل نابلس، وصارت مدينة نابلس تسمى مدينة البحر.
أمام قرار البحر والمدينة، أمر الحاكم العسكري الإسرائيلي برفع الأصرحة من حولهما، وبقتل السمك، ومحاصرتهما، فاندمجت المدينة في البحر، والبحر في المدينة، وصارت لهما القوة التي دكّت الأصرحة. وأمام يأس الحاكم، أقام البحر وأهله احتفالاً بنصر لم يدم طويلاً، إذ جعل الحاكم العسكري الإسرائيلي نجوم السماء تقذف الضباب من جوفها، وصارت نابلس لا تعرف نور النهار، ولا تفرق بين نهارها وليلها. صمت البحر، بعد أن أضاع في الضباب أمواجه، ولم يعد يحس بحركة الأسماك الصغيرة التي تلدها الأسماك الكبيرة كل يوم بالآلاف في أحشائه، لم يعد يحس بجبلي عيبال وجرزيم، كان يضيع في الضباب، والضباب كان أسود من الاحتلال، وهو يتسلل في كل مكان، وينتشر، ويلتصق، وينتحر.
أمام يأس الناس، أقام الحاكم العسكري الإسرائيلي احتفالاً بنصر لم يدم طويلاً، إذ جعلت نابلس ترسل النور من عينيها، فاضطر الضباب إلى الانسحاب بعيدًا، بعيدًا جدًا، أبعد ما يكون عن نجوم السماء، إلى ما وراء بحر ايجه في العوالم الدامسة للأساطير، وتمت على يد أهل نابلس حبس الضباب لأول مرة في الخيال البشري. وعند ذلك، سمع الناس صيحة امرأة إغريقية تأتي من أعماق الزمن القديم:
- تحية إليك يا نابلس، يا مدينة النار، ويا قوة الخيال!


كتبت هذه القصص
ما بين 1970و1974
في باريس



أعمال أفنان القاسم


المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004


[email protected]


فهرست
يوميات فدائي في الأراضي المحتلة ................................................. 5
بعدما هدموا المخيم ........................................................................... 25
المقهى................................................................................................ 35
النادل.................................................................................................. 45
عندما قتلت مجيدًا بالخطأ رصاصة................................................... 55
فكرة شارلوت عنه قتلته.................................................................... 61
مثال وعربي .................................................................................... 65
وجهان لعبد التواب............................................................................ 75
صحافية اسمها فيليتسيا...................................................................... 81
بيت الميعاد........................................................................................ 93
آداما................................................................................................... 99
فاطمة................................................................................................ 107
القنبلة الموقوتة.................................................................................. 113
الحاج عمر........................................................................................ 117
كيف دافع أبو أيوب عن أرضه......................................................... 121
السمكة الخائنة................................................................................... 127
الذئاب والزيتون................................................................................ 131
في نقطة التقاطع................................................................................ 145
أبو رشيد.......................................................................................... 149
الموت لا ينتظر................................................................................ 157
جحا النابلسي..................................................................................... 169
البحر يأتي إلى المدينة.......................................................................
أعمال أفنان القاسم............................................................................. 181
185


تؤرخ هذه القصص لمرحلة من مراحل حياة الفلسطينيين غداة الاحتلال الإسرائيلي، وتركز على المقاومة والجانب الإنساني فيها من خلال أكثر الأفعال بساطة، وربما يكتفي الكاتب بصورة أو إشارة يختم فيها قصته ليقول أشياء كثيرة، كما يلجأ إلى كل الأساليب الواقعية منها أو التخيلية والسحرية ليصل إلى غرضه: ألا وهو الحديث عن البسطاء وتضحياتهم العظيمة في سبيل وطنٍ يسعون كلهم – حتى عندما يحبون أو يموتون – إلى تحريره. وكذلك يذهب إلى لقاء الآخر، الإسرائيلي، ينظر إليه في تعدديته، ويحلل بسيكولوجيته... وستبقى هذه القصص حاضرة ما بقيت الحرية غائبة في العالم. هذا، ويجب التنبيه إلى أن قصة (( الذئاب والزيتون )) الرئيسية كتبها د. أفنان القاسم ردّاً على كافكا في قصته (( بنات آوى وعرب ))، والذي يشوه فيها صورة الفلسطيني والتاريخ الفلسطيني والتاريخ العربي.


* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...




#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أم الجميع ابنة روما
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب
- الكناري
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية
- باريس
- بيكاسو
- قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
- القدس
- الشعراء
- البرابرة
- الأخرق
- الباشا رواية النكبة الأولى
- تراجيديات


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الذئاب والزيتون