|
الصرخة الخرساء
مراد سليمان علو
شاعر وكاتب
(Murad Hakrash)
الحوار المتمدن-العدد: 3639 - 2012 / 2 / 15 - 09:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
غالبا ما أرددّ قولا ينسب للسيّد المسيح : ( ياربّي أعطني القوّة على تحمّل ما لا طاقة لي على تغييره ...) ، والغريب لم أشعر يوما بأية قوّة ... ربّما لأني لا أقدر على تحمّل ما يحيط بي دون أن أساهم في تغييره ولو جزئيا وبالتأكيد في أحايين كثيرة أبقى جامدا في مكاني وأراوح فيه ولا أقوى على شيء فألجأ حينئذ لحيلة أخرى تنفعني وتزيح عن كاهلي الحمل الثقيل بل قد تدرأ عني الجنون المؤقت ألا وهو الصراخ ... أصرخ بكل ما أوتيت من قوة ... مرة ومرتين وثلاث حتى أشعر بأني طردت كل شيء سيء وشرّير في داخلي وأصبحت خفيف (الوزن) و(الدّم) ثانية . مرّة كتبت قصة قصيرة بعنوان ( الوليمة ) عن سيدّة أصبحت في نهاية القصّة بحاجة لصوتها لتدعوا الآخرين إلى وليمة ( وليمة لا أتمّناها لكم ) وبعد محاولاتها الفاشلة في إخراج صوتها اكتفت بان تمّنت لو تستطيع الصراخ ، وبما إن القصة مأخوذة عن حالة واقعية حدثت في مدينة الموصل حاولت لاحقا تقليد هذه الشخصية بصراخها دون إخراج أي صوت فوجدتها تعطي نفس الإحساس وتؤدي نفس الغرض ومنذ ذلك الوقت أمارس الصراخ المكتوم مرّة على الأقل في الأسبوع . ربّما ألغيت الصوت في صرخاتي بسبب ما أسمعه من صرخات مختلفة للآخرين باستمرار ومن أغرب الصرخات وأعجبها هي صرخة الطفل وقد يفهم منها حاجته للرضاعة أو ربّما بسبب ألم مفاجئ يعانيه ولكنها في حقيقتها صرخة غريبة ومرعبة في نفس الوقت للذي يفهمها لأنه وبكل بساطة لا يجد الإجابة عن سبب قدومه إلى هذا العالم القاسي وخروجه من جنة التسعة أشهر ومن يدرينا لعله بصراخه هذا يسألنا ويتوسل بنا بطريقة لم نعهدها من قبل أن نعيده إلى حيث كان يطفو ويركل ويمرح ولم يعرف حينها الصراخ الصارخ ولكن هيهات فلابد دون الشهد من أبر النحل . والصراخ هو غير الصخب كما يفهم لأن الصاخب هو الذي يرفع صوته عاليا كما في صخب الأولاد مثلا أي تعلو أصواتهم وتتداخل أما الصراخ فهو إطلاق الصوت العالي بغضب تعجبا أو استياءً أو احتجاجا . وقد نصرخ لأننا لا نملك إلا أن نصرخ نتيجة ظلم صارخ لا يمكن تجاهله أو إنكاره ولأن دموعنا قد جفت في مآقينا ولا نجد المزيد من الدموع وليس لنا غير عينين فنلجأ للصراخ والعويل للتعبير عن الحالة التي نفد منا الدموع عليها حتى ولو كانت النتيجة تقرّحا في الحنجرة . وعادة ما يكون هناك بكاء وربما عويل بعد الصراخ والبكاء أنواع وقد تكون المصالح الشخصية والطمع والأنانية والحب المفرط للذات نصيب في الدموع ودائما يكون حال هؤلاء كالذي يبكي على الهريسة ... وطبعا هناك صراخ وبكاء وهرج المتملقين يبلقون عيونهم ويروك اللآلي الماطرة والتي تشبه دموع التماسيح إلى حد بعيد ثم يتظاهرون بالإغماء من فرط تملقهم لأسيادهم . من الطريف الالتفات إلى صوت الأخرس الذي لا صوت له وما أن تثيره بطريقة ما حتى يعلو صراخه الشبيه بلغة قديمة منسية ذو ذبذبات لم نكتشفها بعد . والصرخة التي تجفل الشجعان وتقشعر لها الأبدان هي صرخة سيدة في آخر الليل فتراها إما قد نالت ما يكفي من اللكمات والكفخات من زوجها السكران فتصرخ لينجدها أحد الجيران ويخلصها من أيدي بعلها الجبان أو قد أصيب زوجها نفسه بذبحة صدرية . أما في قريتي فالأمر يختلف بعض الشيء فالمسكينة تصرخ في الصيف لأن عقربا لعوبا قد لدغ أحد أفراد أسرتها وفي الشتاء بسبب جرف السيل لجزء من الكوخ معه أو ربّما ابنتها أو كنتها قد سكبت على نفسها الكاز وتروم الانتحار ... يالخسارة الكاز وهدره في هذه الأيام الباردة . ومن أبشع وأنكر الصرخات عويل النساء وولولتهن في المناحات والجنائز فصوت ( الهاوار ) يغلب على كل صوت وغالبا عند موت أحدهم يكون لطم الخدود وشق الجيوب وقص الضفائر وصراخ النسوة معا هو الغالب على التعزية بصورة عامة حتى لو كان في المجلس من يرتل أقوال الشيخ عدي ( ع ) . في الخيمة المخصصة للرجال هناك قهوة وشاي وسكاير وسوالف وفي الأماكن المخصصة للنساء لا نجد غير العويل واللطم لذا نرى الرجال يخدعون النساء حتى في هذه فيبعدون خيمتهم عنهن قدر الإمكان ليستمتعوا دون أن يزعجهم صراخهن ... ثم بعد ذلك ينادون بضرورة نيل المرأة حقوقها المغتصبة ... ( يقتلون القتيل ويمشون بجنازته ) . بعد أن تصرخ وتشبع من الصراخ في مكان لا يسمعك فيه الجيران مثل الجبل أو العراء أو غرفة مغلقة لأنك ما أن تسمع جيرانك الأكارم صرختك المدوية حتى ينصحوك لوجه الله تعالى بزيارة ( كوجك محمود ) أو المبيت ليلة الأربعاء وحيدا في قبة الشيخ (عبد القادر ) الواقعة في قرية المجنونية وطبعا ستكون النتيجة هي دخول جنونك إلى التطبيق الفعلي حتى لو كان قلبك قلب أسد ( ربما لهذا سمي قرية حيالى بالمجنونية ) المهم بعد الصراخ عليك بالابتسام فلا الصراخ ولا الشكوى هي الدواء الوحيد لدرء المصائب والجزع وإنما البسمة بعد الاكتفاء من الصراخ وإذا لم تجد الابتسامة طريقها إلى شفتيك فتظاهر بها مرة ومرتين حتى تعتاد عليها وستجدها خير وصفة لاستقبال يومك الشاق والتغلب عليه وكما يقول إيليا أبو ماضي : قال : الليالي جرعتني علقما ... قلت : ابتسم وإن جرعت العلقما . وأقول لا بأس يمكنك بدء مساءك بصرخة لا يسمعك فيها أحد لاستنكار ما حدث لك في النهار ثم اللجوء لابتسامة لتصفية تلك الأحداث وإضفاء مسحة من الرضا عليها .
#مراد_سليمان_علو (هاشتاغ)
Murad_Hakrash#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
fبتلات الورد 17
-
حكايات من شنكال 31
-
حكايات من شنكال 30
-
بتلات الورد 16
-
اسطورة الشهادة
-
بتلات الورد 15
-
حكايات من شنكال (29) سينو ...صديق الله .
-
البعض يذهب (لبحزانى) مرتين
-
بتلات الورد 14
-
بتلات الورد 13
-
حكايات من شنكال 28
-
بتلات الورد 12
-
بتلات الورد 11
-
حكاية من شنكال
-
بتلات الورد 10
-
حكايات من شنكال 26
-
الأنسان
-
حكايات من شنكال 25
-
بتلات الورد 9
-
حسن دربو / قصة قصيرة
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|