أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامى لبيب - ثقافتنا ومعارفنا البائسة بين التلقين والقولبة - لماذا نحن متخلفون (3)















المزيد.....


ثقافتنا ومعارفنا البائسة بين التلقين والقولبة - لماذا نحن متخلفون (3)


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 3638 - 2012 / 2 / 14 - 12:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


" لماذا نحن متخلفون " سؤالنا و قضيتنا وهَمنا ..
هذا المقال هو محاولة للبحث فى جذر من جذور التخلف الضارب فى أعماق الأرض العربية والذى يعوق أى نهضة حقيقية لا نرى من ثمارها إلا الجمود والتأخر فلن تجدى معها أوهامنا بأن الإصلاحات السياسية والإقتصادبة كفيلة بالخروج من مستنقع التخلف فكلها محاولات بائسة لن تجدى فى ترقيع الثوب البالى .
تناولت فى المقالين السابقين جذرين من جذور التخلف المتمثل فى ثقافة العبودية المتغلغلة فى نفوسنا والمستمدة من تاريخ مجتمعات العبودية القديم التى لم تكتفى بكونها مرحلة تاريخية ولت بل أصبحت منهجية حياة .. كما تناولت فى المقال الثانى الرؤية المزيفة والمزدوجة فى التعاطى مع قضايانا الفكرية من خلال التعامل مع الغزو الإسلامى كنموذج يفضح إزدواجيتنا فى التقييم .
لا يكون التخلف مقتصرا على هذين الجذرين فهناك جذور عديدة تضرب فى أعماق الأرض ولكن يمكن القول بأنها تنبع جميعها من جذر واحد قوى هو ثقافتنا البليدة المتحجرة التى تحول دون بناء أى منظومة حضارية إنسانية .

الإنسان لا يتقدم إلا بالمعرفة ومن حجم المشاهدات وإدراكها ومحاولة إيجاد علاقات ونسق بينها فيتكون لديه الوعى الذى يستخدمه ليؤسس للحضارة و التطور .. المعرفة لا تكون مجرد إقتناء معلومة ولكن هى كيفية التعامل والتفكير والتعاطى مع المعلومة لتتأسس منهجية يُمارس فيها الفضول والتحدى والجرأة والتمرد والنقد للوصول لتشكيل الوعى الناضج .

نحن متخلفون عن مسيرة الحضارة والتقدم لأن المعرفة لدينا إما مُنعدمة أو مُشوهة أو مُقتبسة أو مُعلبة مُلقنه , فلا نمتلك منهجية ثقافة معرفية نبنى عليها فأحجار البناء قديمة متهالكة تصل لحالة من العجز والجمود فليس لنا إلا ثقافة معرفية قديمة مخاصمة لنهج وفكر العصر برؤيته وأدائه فى التعاطى مع المعرفة بل تزيد الأمور سوءاً بالتشرنق فى الداخل المعرفى الثقافى القديم والتماهى به .
لو تأملنا حال الإنسان العربى فسنجد أن المعرفة لديه إذا كانت متواجدة أو ساعيا مهموماً بها فهى مختزلة فى عملية التلقين فى جانبها التراثى فى الأغلب والمصحوب بعملية إستقبال فقط فلا يمارس عليها أى عملية جدلية ليصبح العقل أسير ما هو مطروح عليه دون أى قدرة على التحليل أو ممارسة عملية نقدية موضوعية .
منظومة ومنهجية التلقين هى الطريقة التى يمارسها الإنسان العربى إستقباله للمعرفة ولا يكتفى هذا الأداء التلقينى على التراث الدينى بل نجده حاضرا فى التعاطى مع العلوم الطبيعية والفيزيائية فنستقبلها كشحنة معلومات كما فى الكتاتيب يتم لصقها فى الدماغ لحين تفريغها , بل من الطرافة أن نجد هذا النهج طال الماركسيون القدامى فهم يتعاطون مع الماركسية بنفس النهج التلقينى الدينى ليظهر هنا تأثير النهج فى كافة مناحى الثقافة .!!

سأطرح عليكم نموذجان للمقارنة يعطيا دلالة لماذا نحن متخلفون والأخرون متقدمون .. لماذا هم يرتقون بإنسانيتهم ويبدعون بينما ننتج نحن أجيال مشوهة إنسانيا تستدعى الجمود والقولبة , ولابأس من بعض التعصب والكراهية بالمزيد من التمرغ فى ثقافتنا البائسة
كم عدد أركان الإسلام ؟
كم عدد أركان الإيمان؟
ماهو عمود الدين ؟
ما أعظم واجب علينا ؟
ماهى أعظم الذنوب .؟
من هم المغضوب عليهم ؟
من هم الضالون ؟

ما إسم الفرقة التى أثارت خلق القرأن ؟
من هو العالم الذى رفض القول بخلق القرأن ؟
ماهى أعظم أية فى القرأن ؟
من هى ذات النطاقين ؟
ماهى دار الكرامة ؟
ما هى دار العذاب والمهانة ؟
ماهو حكم إستخدام المسواك ؟
ماهو حكم إستخدام المسبحة ؟
ماهو حكم الإحتفال بالمولد النبوى ؟
ماهو حكم سماع الأغانى ؟
من هى الصحابية التى قتلت سبع من الروم ؟

أعتقد بعد قراءتنا لهذه الاسئلة قد يخفق الكثيرون فى الإجابة عليها فقد تحتاج إلى مساعدة صديق بكلية الدراسات الإسلامية ولكن لك أن تندهش عندما تعلم أن هذه الأسئلة جاوبت عليها فتاة طفلة صغيرة ذات سنتين أو الثلاثة من العمر و فى مدة لم تستغرق أكثر من دقيقتين هى مدة هذا الفيديو .!!

http://www.youtube.com/watch?v=P1mP79z_bns

بداية المشهد طفلة جميلة ذات سنتين من العمر ترتدى طرحة تشبه الخمار ذو لون أخضر .!! لنسأل أولا ,ماذا يعنى الحجاب لهذه الطفلة الصغيرة صاحبة السنتين؟!!!...هل هى طلبته أم أن أبويها هما من أرادا لها أن ترتديه ؟
بالطبع أبويها أرادا للصغيرة أن ترتدى الحجاب ..لنسأل بالضرورة لماذا ألبسوا صغيرتهم الحجاب .؟!! فهل تسلل لمفهوم والدها أن طفلته صاحبة السنتين ستشكل فتنة فى العيون فأراد حجبها ؟!!
أعتقد من الصعب تصور هذا الأمر لأن صاحب مثل هذا تفكير ليس بائسا فحسب بل يحتاج لعلاج نفسى ! .. أرى أنه يمكن تبرير هذا الأمر بأن والد الطفلة أراد أن يعلن بأنه صاحب دين وتقوى وعفة وفضيلة فأراد هكذا إعلان ليحظى على هالة من التوقير فى عيون الآخرين .. وللأسف هذا النهج يسرى على كافة المنظومة العربية الفكرية والإجتماعية والدينية فى البحث عن التشبث بالشكل غير معنياً بالمضمون ... فلا عقل الصغيرة سيتحمل فكرة الحجاب ويتفهمه ولكن هو الحفر الأول فى ذهنها وتمرير رؤى وأفكار بدئية عن دنيوية الفتاة وأنها مصدر كل شر وفتنة لذا يلزم غطاء ضفائرها الصغيرة حتى لا تثير الذكور الهائجة ... أليس من المبكر جداً تصدير مفاهيم النجاسة والدونية والفتنة فى مثل هكذا سن ؟!

دعونا من هذا ولنتعاطى مع قضيتنا الرئيسية فالطفلة الصغيرة التى تجاوزت السنتين بالكاد قد أجابت على الأسئلة السابقة وأكثر منها فى مدة تقل عن دقيقتين وهى تعبث بطرحتها .!!! ..أسئلة يعجز الكثير من المسلمين عن الإجابة عليها - على شاكلة "ماهى الفرقة التى أثارت خلق القرأن " ؟!! -.. فأسئلة مثل تلك ستحتاج بالضرورة إلى طالب فى المراحل المتقدمة من الدراسات الإسلامية أو على وشك تقديم رسالة فى الماجستير .!

بالطبع لا تكون طفلتنا الجميلة دارسة وملمة للفقه والتشريع الإسلامى حتى نندهش من قدرتها على إجابة أسئلة والدها والتى كان يلقيها عليها سريعة كالطلقات ليحظى بإجابات الصغيرة مترافقة معها وبنفس السرعة !!.. طفلتنا تردد ما تلقنته وتم تحفيظه لها جيداً ,وأكاد أجزم أنها لا تفهم كلمة واحدة من كلمات الإسئلة ولا كلمات إجاباتها .. أنها صورة واضحة من التلقين الببغائى الذى يجيده أى طفل لوتفرغت له عدة ساعات قليلة بتلقينه عدة أسئلة وأجوبة ولو باللغة الصينية .

الأب ألبس صغيرته الحجاب ولم يكتفى بهذا الأمر ليلبس عقلها حجاباً أخر يشوه الصغيرة ويحكم عليها بالقولبة , فما حاجة طفلة صغيرة لكل تلك المعلومات , فماذا يفيدها ويضيف إليها ؟ ..ماذا يقدم لعقلها وقلبها الصغير ؟ .ماذا يمثل لها أسئلة على شاكلة "ماحكم إستخدام المسواك والمسبحة" وما الحاجة لكل هذا الحشو وما معنى الأسئلة التى تختص بالجهاد واليهود والنصارى والصحابية التى قتلت سبعة من الروم !!.. هل هناك من جدوى , أم هو نثر البذور الأولى لتمرير الفرقة والتمايز والكراهية ولعلنا نتطرق لذلك فى رؤية أخرى .

المصيبة تكون عندما نصب عقول صغارنا فى قوالب جامدة ..عندما نعلمهم الترديد بلا معنى ولا هدف ..عندما نجعلهم بغباوات يرددون أشياء لا يفهمونها ولا يعوها .. عندما نمارس معهم التعليم من خلال آلية الصم والحفظ بلا فهم , ولا نجعلهم يسألون أسئلتهم الصغيرة .. نسحق فى داخلهم القدرة على السؤال وإستكشاف العالم لنعبئهم بما نريد , ولا يهم إذا كان ذو قيمة أم لا

نحن نقهرهم ونحكم عليهم أن يكونوا أقراص مُدمجة من السى دى المعبئة ببعض المعلومات والكلمات لا يدركون مغزاها ليكون ترديدهم الببغائى مصدر فخرنا وفرحتنا ووهمنا بأن أطفالنا أصحاب ذكاء خارق بهذه القدرة على الترديد الببغائى .. نعم أطفالنا هم أصحاب ذكاء ولكن بسلوكنا الغبى والجاهل نجعلهم يتسابقون نحو التخلف والجمود .

لا تكون المشكلة مقتصرة على التعبئة والتعليب لأدمغة أطفالنا ..بل تكون المصيبة هى إحاطة هذه المعرفة المُعلبة بصفة المقدس والتى تضع أسواراً وحصوناً حول ما تم تعبئته , فيفهم الصغير أن السؤال أصبح محرماً ومحاطاً بخطوط حمراء فيكتفى بالحفظ والصم والترديد طالما هى تجلب رضا الأب والأم و تظهر فرحتهما وسعادتهما من عيونهم الفرحة المزهوة بقدرة الصغير على ترديد وتفريغ ما تم حفظه .. ولكن الإشكالية أننا خلقنا المناخ المعرفى القائم على التلقين , فعلمناهم ملكة وحيدة من ملكات المعرفة وهى الحفظ لنتوهم بأن أطفالنا أفذاذ طالما هم قادرين على الحفظ والتفريغ ولا يهم إذا كانوا يفهمون ما يقولونه أم لا .

المعرفة التى تدفع للتقدم لا تكون مبنية على الحفظ لبعض الكلمات وترديدها بل تكون مبنية على المشاهدة والتحليل والمراقبة والإكتشاف والإستنتاج والنقد ومعها القدرة على التعاطى مع كل أدوات الإستفهام , فعمليات التعبئة والقولبة كنموذج للمعرفة ستصيب صاحبها بالتخلف والجمود , وفى أحسن الأحوال سيعتمد على منجزات الأخرين لكى يحفظها ويرددها .

فى مقابل المشهد السابق أجد فى فى مكتبتى الموسيقية هذا الفيديو لمجموعة من الأطفال الصغيرة بنات وبنين فى عمر صغيرتنا السابقة وهم يعزفون مقطوعة موسيقية رائعة بالجيتار!! -لتستمع بهذا النبوغ و الحيوية والقدرة الرائعة على العزف ولنرى كيف تُنمى القدرة الإبداعية فى الطفل وكيف يتم إستثمار ذكائه .
لقد علموهم كيف يتعاطون مع النغمات والموسيقى ليتمكنوا مستقبلاً فى الإبداع وإستغلال ملكات الدماغ ليس فى الموسيقى فحسب بل فى تفعيل ملكات العقل .. علموهم الفن والحب ولم يلقنوهم من هى الفرقة الناجية من النار ومن هم المغضوب عليهم ومن هم الضالون وماهى دار المهانة والكرامة وما الصحابية العظيمة التى قتلت سبعة من الروم وما حكم سماع الأغانى !!.. يمكنك أن تعرف هنا لماذا هم انسانيون ومتحضرون ومتقدمون بينما نحن نزرع الجمود والتخلف والبشاعة .. فهناك بشر يعلمون اطفالهم الفن والموسيقى والإبداع والحب وهناك بشر آخرون يقولبون اطفالهم فلا يكتفون بتحريم الفن والتنفير منه بل يبرمجوا الاطفال على التلقين والببغائية والكراهية

http://www.youtube.com/watch?v=yE7waNi5dc0

لقد تأسس منهج ومناخ تلقينى يتعاطى به الدماغ العربى مع المعرفة . لذا فليس غريباً أن نجد التعليم فى مدارسنا وجامعاتنا ينحو نحو عملية الحفظ والصم فيتم استيعاب العلوم المادية بمنهجية التلقين لتنتج فى النهاية عقلية تعتمد على لصق المعلومات والتسليم بها لحين تفريغها غير متعاملة مع العملية التعليمية بمنهجية التحليل والإستنتاج والإستنباط والتجريب لتبقى ملكة الحفظ هى الحاضرة ولا تسأل بعدها لماذا العالم العربى لا ينتج علماء ومفكرين ففى وسط هذا المناخ النمطى والعقل المشلول عن التعامل مع المعرفة بمنهجية موضوعية ستبورالأرض عن إنتاج شئ .

الفكر الدينى يخيم بمنهجه على ثقافتنا ومعارفنا فارضاً منهجه وآفاقه النمطية وخالقاً فى الوقت ذاته موقف من المعرفة محاطة بفوبيا وتوجس لتسرى فى ذهنية وشرايين المجتمع حالة من الإستسلام لمعارفه البائسة وعدم الإهتمام بالخوض فى معارف جديدة خارج مضمارها فالمعرفة الدينية هى الأساس .

سنسأل هل الفكر الدينى يحول دون أن يستخدم الإنسان عقله فى البحث الحثيث عن المعرفة وإستخدام الأدوات التى تجعل العملية المعرفية حية وقادرة على الإنتاج والتطور ؟! ...لو قلنا أن واقعنا المتخلف البائس ونضوب أى مظهر من الإبداع دليل على الأثر السلبى للفكر الدينى نكون هنا نلقى النتيجة ولا نذكر كيفية نشوءها من أحشاء النهج الدينى , بل قد يتبادر أحباء التراث إلى القول بأن كلمة " إقرأ " تصدرت النص الدينى وهى تعنى الحث على المعرفة ولكن لنا وقفة مع هذه المقولة فكلمة " إقرأ " لا تعنى المعرفة ولا تحدد ماهى نوعية القراءة فهل هى معنية بكل القراءات كالفلسفات والأفكار التى تخوض فى الفكرة الألوهية والناقدة للخرافات والغيبيات والمعتبرة الدين تراث بشرى أم كلمة " إقرأ" معنية بالقراءة فى مضمار المقدس .
لا تقف الأمور عند هذا الحد بالنسبة لكلمة " إقرأ" فيقول صديقنا الكاتب محمد البدرى أنه كان حرياً أن ترفق كلمة " إفهم " بجوار كلمة " إقرأ " فهذا من الأهمية بمكان فليست العملية المعرفية تتوقف عند القراءة وإلا اصبحت عملية صماء بل لابد ان يصاحبها الفهم والإستيعاب والقدرة على استخدام أدوات العقل من التحليل والنقد .

السؤال وإستخدام كافة أدوات الإستفهام هو مفتاح المعرفة فلا معرفة بلا سؤال الذى يمثل جرأة العقل فى تناول المسائل وتحليلها ونقدها حتى تشكل وحدة معرفية فى العقل يمكن البناء عليه , فالسؤال يشكل بالنسبة للإنسان ثروة وثروة قادرة على إحداث التطور والتغيير فمن السؤال ستخرج المعرفة لتجد لها مكانا فى الذهنية الإنسانية .
الفكر الدينى يضع أسوار وحدود أمام السؤال فليس كل سؤال مُرحب به فهناك فوبيا من السؤال .. هناك أسئلة مرفوضة ملفوظة لن تجد ترحيبا بل زجراً ونهراً وتحريما ً فنجد آية " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة:101-102] .. وفى الكتاب المقدس نجد نفس التنفير " ويل للطين الذي يخاصم اليد التي تسويه ويقول لها ماذا صنعت " إشعياء 45
هاتين الآيتين وما يشابهما معنية بتحصين الفكرة الإيمانية وعدم الخوض فيها فكاتبهما يدرك تماماً أن العملية الإيمانية هشة وسترتج أركانها وتترنح بالسؤال فهى لا تمتلك ما يدعمها و يثبتها لذا سهلة الإنهيار والتداعى ليمارس عملية تحصينية لها بعدم الخوض والإقتراب والسؤال حتى تظل متواجدة .

نجد المقولة المشهورة فى الأدبيات الدينية بأن الله يَسأل (بالفتح) ولا يُسأل (بالضم) .. هذه المقولة تتغلغل فى العقل الدينى بأن الله هو الذى يَسأل الإنسان ويرصده ويعاقبه ولكنه لا يُسأل عن شئ لتمارس هذه العملية القمعية صداها فى الإنسان ليستسلم بعدم السؤال تفاديا للغضب والشرود والخطيئة وليكن فى وضعية المتلقى فذاك افضل وأسلم .
عندما يهمل الإنسان السؤال الأول والأكبر والأجدى عن لماذا هو موجود وما الغاية وما الحكمة وما الهدف لتنال أسئلته الفطرية والحيوية تلك كل التعنت والقسوة والزجر بل قد تصاحبها السخرية من محاولة قائلها الفلسفة والفذلكة لتصل لنعته بأن الشيطان يعبث فى دماغه ويبعده عن الطريق القويم , فهنا إنكسر فى الإنسان شئ مهم وحيوى .. إنكسرت داخله آفاق حريته فى المعرفة والتفكير لتصبح شئ غير مأمول ولا شغوف بل محفوف بالمشاكل .

المنظومة الدينية لا تتوقف عند حد التحذير من المعرفة بهاذين النصين بل تسرب من خلال اسطورة التكوين التى تعتبر حجر الزاوية للإيمان فوبيا من المعرفة فهى التى أخرجت آدم من الجنه لأنه مارس فعل المعرفة .!!
1:3و كانت الحية احيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الاله فقالت للمراة احقا قال الله لا تاكلا من كل شجر الجنه
3: 2 فقالت المراة للحية من ثمر شجر الجنة ناكل
3: 3 و اما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تاكلا منه و لا تمساه لئلا تموتا
3: 4 فقالت الحية للمراة لن تموتا
3: 5 بل الله عالم انه يوم تاكلان منه تنفتح اعينكما و تكونان كالله عارفين الخير و الشر .
وفى نهاية الأسطورة نجد قول الرب : قال الرب الاله هوذا الانسان قد صار كواحد منا عارفا الخير و الشر و الان لعله يمد يده و ياخذ من شجرة الحياة ايضا و ياكل و يحيا الى الابد3: 22
عندما ندقق فى قراءة هذه الأسطورة نكتشف المغزى الحقيقى لها .. فالشجرة تمنح معرفة الخير والشر , وكأن هذا الشئ مزعج للإله فهل هى كذلك أم أن المعرفة فى حد ذاتها شئ مُنفر لمُسطر الأسطورة وأراد أن يمرر هذا المعنى .. فقد تم ترميز الشجرة المُحرمة بأنها شجرة معرفة الخير والشر .
بديهياً معرفة الخير والشر يجب أن تكون هى المعرفة الأولى واللحوحة للإنسان فإذا كان لا يدركها فماذا يعرف ؟!! ولكن جاء التحريم لترسيخ حالة من الطاعة والإنسحاق التام يطلبها مُسطر الأسطورة ولتسحق المعرفة فى الطريق لتتسرب أبعاد الأسطورة فى الداخل الإنسانى بأن تجنب المعرفة أفضل للإنسان من الوقوع فى خطيئة عدم الطاعة .

مسطر الأسطورة يرى أن الحرية فى المعرفة هى أعتى أعداء الفكر الدينى وهى المقوضة للمنظومة الدينية لذلك كان التحذير الشديد اللهجة والتنظير بالكارثة بخروج الإنسان من الجنه جراء أنه مارس فعل المعرفة بديلاً عن الطاعة , وهذا المغزى الحقيقى للأسطورة بأن المعرفة غير مطلوبة ومرفوضة بحكم أنها ستقود إلى الدخول فى دروب ستقود بلا شك إلى إلقاء كل الخرافات جانبا ً والإنصراف عن كل ما هو هش وفارغ يُراد أن يُشحن الدماغ به .

قد يدعى البعض بأن التحذير من السؤال والمعرفة المقصود به الخوض فى معرفة ماهية الإله وذاته وحكمته وليس المقصود البحث والمعرفة فى العلوم الطبيعية ومنافع الحياة فهذا شأن وذاك شأن آخر فالأديان لا تمنع أصحابها من السعى للمعرفة العلمية .. ولكن هل الأمور تكون بهذه القطعية فالمقدس ليس لها حدود فهو يدس أنفه فى الحياة والطبيعة ومنهج التفكير .. فجاليليو لم يخوض فى ذات الله ولكن خاض فى علوم طبيعية إصطدمت مع ما فى الكتاب المقدس من معلومات مغلوطة . كما سنجد أيضا الذين يتعاطون مع منهجية العلم والمادة سيصدموا بالضرورة مع الخرافات والمغالطات فى النص الدينى مثل الأرض المسطحة والشمس التى تتحرك فى القبة السمائية حول الأرض لتغرب فى عين حمئة إلى أن يؤذن لها .. لنجد أنفسنا أمام معرفة مغلوطة ساذجة ستتصادم بالضرورة مع معرفتنا لنجد من يقول لنا "لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ".

لا تكتفى الأمور عند حد الصدام بين معرفتنا ومعرفة الكتب القديمة بل يشكل التراث الدينى منهجية فكرية سلوكية , فالسؤال شئ محفوف بالمخاطر وقد يجلب الشرود والجنوح وقد تعلمنا ونحن صغار ألا نسأل بل نردد ما يتلى علينا فالأولى مدعاة لإستنكار الأباء كون أسئلتنا إما يجهلونها فى الغالب فتسبب حرجاً لهم أو انها خارج ما يريدونه ليكون السؤال هنا محفوف بالمخاطر وإستجلاب النفور .. إذن فلنبتعد عن إثارة الأسئلة اللحوحة ولنقتلها فهى ليست مفيدة ولنخجل منها طالما هى مجلبة لغضب الأب .. بل سنكف عن إبداء أى أسئلة حتى يمكن أن نسعدهم بترديد ما يقولونه ونتلوه كالببغاوات كحال الصغيرة طالما هذا يثير إستحسانهم وحماسهم .
عندما يرى الإنسان أن الله ينزعج من معرفة الخير والشر بالرغم أنه أول معرفة مطلوب تداركها وعندما يجد هذا النهى القاطع من إبداء السؤال فهنا ستتكون منهجية التوجس من المعرفة ولنبتعد عن الشر ونغنى له .
لقد تعلمنا شيئا من الصغر .. تعلمنا كيف تؤكل الكتف فلنتوقف عن السؤال الذى يثير الإنزعاج ولنردد مقولاتهم فهى مجلبة للإستحسان والحلوى ليخطو العقل نحو النمطية والتقليد والتلقين وما أجمل الكسل المعرفى الجميل .

يتعلم الإنسان الدينى أن المعرفة المضمونة هى التى تأتى من أفواه المعتمدين لها من شيوخ وكهنة وتكون معرفة تلقينية تأخذ المعلومة كما هى بغض النظر عن خطأها أو صوابها لتبدأ فى حفظه .. ليتحول وظيفة العقل هنا إلى عقل أرشيفى يخاصم منهج وروح المعرفة من خلال جدليته ونقده فلا غرابة أن نجد نمط تعليمنا فى المدراس والمعاهد يأخذ منحى الحفظ والصم والتلقين ولا يقتصر الأمر على المقررات الدينية بل يمتد بشكل سرطانى فى علوم العصر ليفتقد الإنسان أهم قدرة فى ممارسة الملاحظة والتفحيص والتحليل والنقد والإستنتاج .. لذا لا يجب أن يسأل أحد لماذا شعوبنا لا تنتج إبداعات وإبتكارات بل تتسولها لأن إعداد الإنسان المبتكر غير متواجدة فهو ماكينة حفظ وتلقين بعد أن انقرضت فلسفة المعرفة فى داخله وإختزلت فى أن يكون أرشيفاً .

تتأصل المواقف الحادة والعدائية تجاه العلم والمعرفة عندما تقترب من الخرافات الدينية لتجد تأثيرها على جموع المؤمنين فالموقف الحاد من جاليليو لأنه قوض معلومة تراثية بأن الأرض ليست مركز للكون ولتجد حرب شعواء من رجال الكهنوت ولكن يأتى تأثير هذا المشهد عالق فى ذهنية المؤمنين بأن العلم والمعرفة والعلماء هو عمل محفوف بالمخاطر أولا يشكل أهمية ما بجوار ما هو معلوم من الدين بل سنصف التطور لداروين والفيزياء بأنها علوم منحرفة مما سيقوض من مسيرة المعرفة الإنسانية ليضرب التخلف جذوره فى المجتمع ولا يكون حديثنا هنا على أجيال سابقة عانت الجهل والتخلف بل عن اجيالنا العربية الحالية فمازال حتى الآن من يلعن ويشكك فى التطور والمعلومات الفيزيائية والفلكية عن الكون والطبيعة ولا تقول انهم عامة جاهلة بل هى نخب جاهلة وتتجاهل .

مازال حتى الآن الأصوليين المسيحيين فى الولايات المتحدة وأشقائهم من الأصوليين المسلمين يرفضون المنجزات والإكتشافات العلمية التى تخرم عين كل جاهل وغبى فمازالوا يدعون بأن الأرض ليست كروية و لا تدور حول نفسها وان الشمس تشرق وتغرب فهى المتحركة والسماء بمثابة قبة تترصع بكشافات ومصابيح للإنارة يطلق عليها نجوم ... هؤلاء الأصوليون يكون موقفهم مقوض لأى معرفة وتطور فهو يثبت المشاهد والرؤى القديمة الساذجة .. هو يضع العربة أمام الحصان فهل نتوقع من هؤلاء البؤساء أن يقدموا فكراً إبداعياً أم يكونوا بمثابة معاول هدم يشدوا المجتمع إلى مستنقع التخلف .

كل من يصرف نظر عن المعرفة والعلم وكل من يقوضها أو يبخس من قيمتها وفاعليتها ليضع المعرفة الخرافية فى المقدمة فهو متخلف ويؤسس للتخلف وكل من يحمل هذه الإزدواجية الغريبة فى قبول المعرفة العلمية المحسوسة المدركة المثبته ليضع بجوارها معرفة قديمة متخلفة على نفس القدر من المساواة بل يميل بكفة الخرافة عليها لن يرجى منه تطور وتقدم بل التخلف هو نصيبه وعندما تريد أن تبحث عن الجذور فهى فى منهجية المعرفة التلقينية المتقولبة .

دمتم بخير .
"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " - حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكمت المحكمة - يُقتل المسلم بكافر ! (4)
- عذراً لا أريد أن أكون إلهاً - خربشة عقل على جدران الخرافة وا ...
- مَخدعون و مُخادعون - كيف يؤمنون ولماذا يعتقدون (18)
- حصاد عام على إنتفاضة المصريين فى 25 يناير
- زيف الفكر وإزدواجية السلوك وإختلال المعايير - لماذا نحن متخل ...
- ثقافة وروح العبودية - لماذا نحن متخلفون (1)
- الأديان بشرية الهوى والهوية -نحن نتجاوز الآلهة وتشريعاتها (2 ...
- قطرة الماء تتساقط فتسقط معها أوهامنا الكبيرة - خربشة عقل على ...
- الأخلاق والسلوك ما بين الغاية ووهم المقدس - لماذا يؤمنون وكي ...
- نحن نخلق آلهتنا ونمنحها صفاتنا -خربشة عقل على جدران الخرافة ...
- الحجاب بين الوهم والزيف والخداع والقهر - الدين عندما ينتهك إ ...
- هل هو شعب باع ثورته ويبحث عن جلاديه أم هو اليُتم السياسى .. ...
- مراجعة لدور اليسار فى الثورات العربية ونظرة إستشرافية مأمولة
- مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهير ...
- فى داخل كل منا ملحد !..إنه الشك يا حبيبى - لماذا يؤمنون وكيف ...
- الثورة الناعمة عرفت طريقها .. شعب سيصنع ثورته من مخاض الألم
- تثبيت المشاهد والمواقف - الدين عندما ينتهك إنسانيتنا (32)
- تحريف الكتب ما بين رغبة السياسى والإخفاق الإلهى - تديين السي ...
- المؤلفة قلوبهم بين الفعل السياسى والأداء الإلهى - تديين السي ...
- العمالة الغبية والثقافة الداعية للتقسيم فى مشروع الشرق الأوس ...


المزيد.....




- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامى لبيب - ثقافتنا ومعارفنا البائسة بين التلقين والقولبة - لماذا نحن متخلفون (3)