|
قرراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 13المثقفون وأدوارهم 2
عبد المجيد حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 3637 - 2012 / 2 / 13 - 18:00
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
والآن وقد حان موعد الإجابة على السؤال الذي ختمنا به الحلقة السابقة : وماذا عن سوريا ومصر وما يقال عن مخططات التمزيق واصطناع كيانات هزيلة ، نبدأ من سوريا ونقول : تتواتر تحذيرات النظام ، ومشايعيه ، مما يصفونه بمؤامرات تستهدف تفتيت سوريا إلى كيانات ودويلات . وتتوالى تحليلات ، ومداخلات ، ومقالات الكتاب والمحللين ، من المشايعين للنظام ، ومن محسوبين على التيار القومي العروبي ، وحتى ممن يحسبون على اليسار . وتتصاعد لهجة التحذير من هؤلاء جميعا ، مع تصاعد قمع النظام لمعارضيه ، المطالبين بالديموقراطية والحقوق والحريات . ويتفق جميع هؤلاء على أن استهداف سوريا ، ونظامها ، بهذه المؤامرة ، راجع لوقوفها ، كدولة ممانعة ، وخط دفاعي أخير ، في مواجهة المخطط الإسرائيلي الأميركي لإنهاء القضية الفلسطينية ، ولاستكمال السيطرة على العالم العربي ، وثرواته النفطية وغير النفطية الضخمة ، ومن ثم لإنهاء الحلم العربي في النهضة والوحدة . ويؤكدون أن الأطراف المعادية ، تستغل الأحداث الجارية ، وبعضهم يضعها في خانة المؤامرة ، للتدخل بوسائل وطرق وأشكال مختلفة ، وبخاتمها التدخل العسكري، لتنفيذ مخطط التفتيت هذا . أ . ب . سياسة : ولأنني في هذه الحلقة سأستعين بكتابات لمثقفين يساريين ، فلسطينيين بالأساس ، فسأبدأ بتذكيرهم بما يعرفونه من ألف باء العمل السياسي ، بدءا ببديهيات العمل الحزبي ، الذي مارسوه سنوات طويلة . فليس هناك مجال للظن ، بأن أحدا منهم يجهل القاعدة التي تقول بأن ساحة العمل الحزبي ، كما تعرف الصداقة والإئتلاف ، تعرف التنافس والخصومة ، التي قد تصل إلى العداوة . ويعرفون أن التنافس لا يقف عند حدود الحوار والمناظرة ، وإنما يتعداها للبحث عن السلبيات والسقطات واستغلالها . واستغلال الأخطاء والسقطات لا تحكمه ، دائما ، قواعد النزاهة والشرف ، وما إلى ذلك . ومسؤولية حدوث الثغرات في العمل الحزبي ، تقع على عاتق قيادته . ولوم الخصم الذي استغل الوضع ، وعمد إلى لعب غير نظيف ، لا يساعد القيادة على التخفيف من الأضرار التي تقع ، أو توفير أعذار تساعدها على التملص ، أو حتى التعايش ، مع أخطائها . وإذن فإن ألف باء العمل السياسي توجب منع حدوث أية ثغرات ، تنجم عن أخطاء ، كالتناقض بين القول والفعل ، أو انحرافات في السلوك ، سواء تعلق ذلك بالأفراد العاديين ، أو بالقيادات الأعلى . وإذا ما حدث تغاضي عن السلبيات ، وحدث ما يجعل ثوب الحزب مليئا بالخروقات ، سهل ليس على الأعداء ، بل وحتى على الأصدقاء ، النفاذ تحت جلده ، سعيا لإخراجه من حلبة السياسة ، ونهائيا . ولا شك أن أي صاحب خبرة حزبية ، يعرف أن ما ينطبق على الساحة الحزبية ، ينطبق ، وبصورة أعمق ، على ساحة الحكم . فليس هناك من نظام لدولة ، تنحصر علاقاته مع الأصدقاء فقط . كل نظام له منافسون وخصوم ، وأعداء في كثير من الأحيان . ولا أظن أن سياسيا متمرسا يمكن أن يتخيل ، أن اللعب في الساحة الدولية ، يقيد أطرافه بقواعد النظافة أو النزاهة . فهناك تربص دائم يبن الأطراف المتخاصمة ، خصوصا حين تتصادم المصالح ، وحين تكون هذه المصالح كبيرة . تربص يبحث عن الثغرات التي تساعد على النفاذ ، إلى قلب الخصم . وحين يكون ثوب النظام خلِقا ومهلهلا ، يكون توجيه اللوم إلى الخصم ، والغرق في الحديث عن التآمر والمؤامرات ، نوعا من عبث صبياني لا أكثر . عبث يحاول إبعاد المسؤولية عن كاهل النظام ، والتستر على الخروقات التي مهدت للخصم سبل النفاذ والتدخل . وإذا ما نظرنا إلى ثوب النظام في سوريا ، طالعتنا صورة غربال ، لكثرة ما في هذا الثوب الخلِق من ثقوب . ج . د . سياسة : يلاحظ المتابع للحالة السورية أن أي ذكر لمؤامرة التفتيت ، يستدعي فورا ، عند المثقفين ، محللين أو كتاب سياسيين ، عقدة سايكس – بيكو سيئة الذكر . لكن المتمعن لا يحتاج كبير جهد لكشف السر في ذلك . فسوريا بتكوينها الحالي جاءت كأحد نتائج مخطط سايكس – بيكو ، رغم أن اقتطاع لواء الإسكندرونة منها ، قد تم بعيدا عنه. كما يلاحظ المتمعن أن استنفار خطر التفتيت يأتي مناقضا لحقائق ، ما يمكن وصفه بجيم دال السياسة . كيف ؟ بداية فسوريا ، ومعها لبنان وقد عرفا الانفصال بعد نهاية الاستعمار ، كانتا مسقط رأس فكر وأيديولوجيا القومية العربية ، ومهد أحزابها . فيها نشأت جمعية العرب الفتاة ، على شاكلة تركيا الفتاة ، ثم فكر وتنظيم كلا من حزب البعث ، وحركة القوميين العرب . وفي فترة حكم البعث سوريا والعراق ، وباتت نواة حلم الوحدة في اليد . لكن مسؤولي الحزبين قدموا قضية تثبيت ، ومنافع كراسي الحكم ، على الحلم ، وليبقى قابعا هناك ، في خانة الحلم ، ثم ليتلاشى أمام ما يوصف بأخطار التفتيت الماثلة على الكل . وبعد هذا ، لا يجهل أي متعامل بالسياسة ، وأي متحصل على قدر مقبول من الثقافة ، أن رسم مخطط كمخطط سايكس – بيكو ، وتطبيقه أمر فات أوانه . ذلك لأن الظروف الدولية الجديدة ، بمناقضتها لظرف سايكس – بيكو ، وضعت أمر مخطط شبيه ، وتطبيقه ، في خانات الاستحالة . وقد يسأل قارئ : وإذن كيف ؟ لقد جرى إعداد مخطط سايكس – بيكو أواخر الحرب العالمية الأولى ، التي شهدت مخططات أخرى مماثلة ،في أكثر من بقعة من بقاع العالم . لكن الأمر لم يتكرر في الحرب العالمية الثانية . لقد حدث أن البلدان التي احتلت جيوشها ألمانيا ، أبقت على هذا التقسيم الذي حدث بفعل الحرب . ونتيجة لهذا الواقع تشكل فيها نظامان ، في شرقها وفي غربها . لكن جيوش الحلفاء لم تعمد إلى أي تقسيم آخر ، لا في اليابان ولا في ممتلكاتها . وعلى العكس شهدنا في أوروبا توحد قوميات البلقان ، في اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية ، رغم ثقل تركة صراعات الماضي الدامية . وكما أشرت في الحلقة السابقة ، لم يقدم هذا الاتحاد الوليد ما يساعد على صهر هذه القوميات ، في هذه البوتقة الواحدة ، بعد حل ونسيان صراعاتها السابقة ، ولتعود إلى الاستقلال بعد أول فرصة توفرت . وفي الحلقة السابقة ، أشرت إلى توفر حالة فريدة ، في عالمنا العربي ، ساعدت على تسهيل مهمة تطبيق مؤامرة سايكس – بيكو . ويعرف من يحظى بقدر قليل من الثقافة المعرفية ، أن هذه الحالة ذهبت إلى غير رجعة . في كتابي " إطلالة على القضية الفلسطينية 2 "، الموجود على موقع الحوار ، توقفت عند نشأة دول جزيرة العرب ، لسبب العلاقة مع القضية الفلسطينية . ولأن واقعة ترسيم الحدود بينها لفتت انتباهي ، فقد توقفت عندها ،وبغرض وضع القارئ في صورة العالم العربي الذي كان قائما آنذاك ، وانعكاس ذلك الوضع على قضيتنا الوطنية . ومجددا يقدم ذلك ، كما أرى ، فهما لما يقال عن مخططات للتفتيت ، تستهدف عددا من بلدان الربيع العربي . كان قد شغل منصب المعتمد البريطاني ، لمنطقة الخليج العربي والعراق ، في تلك الفترة ،أواسط الثلاثينات ، جنرال بريطاني اسمه بيرسي كوكس . نظم كوكس مؤتمرا جمع ملوك وأمراء المنطقة ، للاتفاق على ترسيم الحدود بين الدول الناشئة . في البداية تركهم كوكس للوصول إلى الاتفاق فيما بينهم . وبعد يومين من النقاشات والخلافات ، تدخل هو في الأمر ، وحدث الترسيم على النحو التالي : سحب قلما أحمر وخط على الورق خطوط الحدود المستقيمة ، ودون اعتراض ، ممن سادهم الخلاف قبلها . في وقت لاحق جاءه السلطان عبد العزيز آل سعود شاكيا ظلم كوكس له . ولأنه أثناء عرض الشكوى انفجر باكيا من شدة ما ألحقه كوكس من ظلم به ، استدر بكاؤه عطف الجنرال ، الذي قام بتصحيح الوضع على حساب أمير الكويت ، باقتطاع بعض من إمارة الكويت وإلحاقه بأرض السلطان . فرض كوكس أمرا واقعا على أمير الكويت ، وجاءت النتيجة أن خرج الكل راضين . ذلك كان الحال الذي كما أشرت ذهب إلى غير رجعة . من جهة أخرى هيأت نتائج الحرب العالمية الثانية ظروف تصفية الاستعمار . لكن الاستعمار ، وقبل رحيله عن المستعمرات ، ترك للدول حديثة الاستقلال ، كثيرا من القروح والعلل ، والألغام القابلة للانفجار متى تهيأت اللحظة المناسبة . أهم تلك الألغام تمثل في إلحاق قوميات بأكملها ، وتقسيمها في أكثر الأحيان ، بالدول الناشئة . ولأن هذه القوميات عانت من الإهمال ، ومن إهدار شديد في الحقوق ، كان طبيعيا أن تتحرك في اتجاه الحكم الذاتي أحيانا ، وفي اتجاه الانفصال ، فدولة مستقلة جديدة ، في أحيان أخرى . وشكل السودان والعراق ، من عالمنا العربي ، أبرز الأمثلة في هذا الشأن . ه . و . ز .(هوَّز ) سياسة : لكن طريق القوميات ، سواء للحكم الذاتي ، أو للاستقلال ، لم يكن لا معبدا ، ولا حتى ممهدا . توجب على هذه القوميات ، مُهدَرة الحقوق في دولها الجديدة ، أن تعبر طريقا طويلا ووعرا ، قبل التوصل إلى بعض حقوقها . ذلك على الرغم من وجود قوى الاستعمار الجديد على القرب ، وعلى الرغم من وضوح أطماع هذه القوى في الثروات الضخمة ، التي تم اكتشافها بعد رحيله ، وبالتالي توافر حوافز فنوايا ، ما يوصف بالمخططات والمؤامرات الخارجية للتقسيم . كان على القوميات مهدرة الحقوق أن تخوض نضالا صعبا ، يبدأ سلميا ، ثم ينتقل إلى الثورة المسلحة ، مطالبا بحقوقه ، ومقنعا الجوار أولا ، والعالم ثانيا ، بعدالة هذه الحقوق ، وعدم قابليتها للتصرف . ولكن ، وحتى التوصل إلى إقناع الأمم المتحدة ، وأصحاب مخططات التدخل ، على التحرك ، يحتاج إلى توفر عوامل إقليمية أولا ، ودولية ثانية ، تهيء الساحة لذلك . وفي العقود الخمسة الماضية ، رأينا على اتساع العالم ، نماذج لحركات قومية حققت هدف نضالها ، بالحصول على الاستقلال ، فيما فشلت غيرها ، رغم قوتها وعنفوان فعلها النضالي ، في تحقيق هذا الهدف . كان جنوب السودان وتيمور الشرقية أمثلة على النموذج الأول ، فيما كانت كردستان ، بأقسامها الأربعة ، وكشمير ، وقومية التاميل في سيريلانكا ، والباسك في اسبانيا ، وارلندة الشمالية ، والشيشان ، والتبت ، أمثلة من النموذج الثاني . وفي رأيي أن مثال تيمور الشرقية يستحق وقفة . فهذا البلد هو جزء – نصف – من جزيرة تيمور الاندونيسية . ولكنه خضع لاستعمار برتغالي امتد لقرابة أل400 سنة ، تشكلت خلالها ، في هذا الجزء من الجزيرة ، نوع من قومية مغايرة لأهالي نصف الجزيرة الثاني ، تيمور الغربية، بعد أن دخل أهلها دينا مغايرا ، الكاثوليكية . بعد الاستقلال سارعت اندونيسيا ، بقيادة الجنرال سوهارتو ، التي لم تعترف بهذا التطور الذي حدث في هذا الإقليم ، إلى اجتياح تيمور وضمها . لكن أهالي تيمور لم يعترفوا بهذا الضم ، وواصلوا الكفاح ، رغم شراسة القمع ، وعمليات الإبادة الجماعية ، لاستعادة الاستقلال . ورغم وقوع تيمور في منطقة حساسة ، على مقربة من استراليا ، إلا أن التيموريين احتاجوا لأكثر من ثلاثين سنة من الكفاح المرير ، وقرابة ربع سكان الإقليم ، قبل الفوز بالاستقلال ، والذي جاء واحدا من ثمرات الثورة الشعبية ، التي أسقطت نظام سوهارتو ، ووضعت اندونيسيا على بداية طريق الديموقراطية . والأمثلة السابقة لا تشكل غير جزء من مشاكل القوميات ، التي تستدعي وجود مؤامرات ، ومخططات للتفتيت والتمزيق ، حسبما تطلع علينا نظم الاستهداف لثورات الربيع العربي . فأفغانستان مثلا تتكون من عدد من القوميات الموزعة ما بين أفغانستان وجاراتها . ومثلها إيران . ورغم وجود قوات الغزو الأميركي وحلفائها على الأرض الأفغانية ، ورغم أن تمزيق أفغانستان بين هذه القوميات ، وتوفر الإمكانيات لإحداث ذلك ، يوفر الحل الأمثل للمعضلة الأفغانية ، لم تظهر دلائل على وجود مؤامرة أو مخطط لذلك . وفي إفريقيا وقع العديد من الحروب الأهلية ، حملت معها عمليات إبادة جماعية كثيرة . ورغم الطبيعة القبلية والإثنية للبلدان التي شهدت هذه الحروب الأهلية ، لم تسفر تلك الحروب ، لا عن تمزيق ولا عن تفتيت لتلك البلدان . رغم أن التفتيت والتمزيق يصب في صالح قوى الاستعمار ، التي يقال بأنها تتربص ببلداننا العربية . أخيرا قد يقول قارئ : ولكنك نسيت مثال قبرص وتمزيقه إلى جمهورية قبرص التركية الصغيرة ، وجمهورية قبرص اليونانية الأكبر حجما من الأولى . ونقول أن هذه شكلت حالة خاصة ، تمثلت في سرعة التدخل الخاطفة من تركيا المجاورة ، ولجم حلف الأطلسي لعضويه ، تركيا واليونان ، من تحويل هذه الحركة إلى حرب طاحنة بين البلدين . ورغم الواقع الذي تكرس على الأرض القبرصية ، ما زال العالم يرفض ما حدث . وما زالت تركيا عاجزة عن ضم ذلك الجزء التركي من قبرص إليها . وخصوصية هذا المثال تجعله غير قابل للإعادة ، أو التكرار في أية بقعة أخرى من العالم . ومثال ضم الكويت ، بعملية خاطفة ، للعراق ، وما لحقها من تبعات ، ما زالت طرية في الأذهان . وعودة لسوريا : تقوم دعاوى القبول بمؤامرة تفتيت سوريا ، على عداء كل من إسرائيل وأمريكا ، وأتباعهما ، لدور سوريا كدولة ممانعة ، في إحباط مخططاتهما الإقليمية من جهة ، وعلى واقع الفسيفساء الطائفية التي تشكل خارطتها ، من جهة ثانية . ورغم أن التجربة العالمية المعاصرة لم تسجل حادثة واحدة ، جرى فيها تقسيم وطن ، اعتمادا على تقسيماته الطائفية ، يأتي الجواب بأن سوريا ، كدولة ممانعة ، والحصن الأخير لقوى الممانعة في منطقتنا ، تشكل حالة استثنائية . وإذا قيل أن الطوائف في سوريا متداخلة بشكل يصعب الفصل بينها ، فتشكيل كيانات طائفية ، وأهم من هذا أن أحدا منها لم يرفع يوما شعارا كهذا ، ولم يخض نضالا من أجل الانفصال ، سيقال أن مخطط المؤامرة سينفذ قسرا . وإذا قيل : بأي قوى سيتم فعل ذلك ، والحاجة هنا لقوى هائلة ، وليس فقط كبيرة ؟ يأتي الجواب : بقوى التدخل العسكري التي يستدعيها خونة محسوبون على الثورة الشعبية ، وتحت ستار حماية الجماهير الثائرة من قمع النظام . وإذا قلت: ولكن ليس هناك في سوريا أيضا قوى قومية تشن صراعا قوميا من أجل الانفصال . يأتيك الجواب هناك القومية الكردية ، بملايين تزيد عن ثلاثة ، تستند إلى زعم بأن الدولة ، وبعد هذا الزمن الطويل على الاستقلال ، ما زالت تحرم مئات الألوف منهم ، من حق بسيط لهم ، هو حق حمل بطاقة الهوية الوطنية ، في تكرار سفيه لحالة البدون الكويتية . في هذا الشأن طرح الصديق معاوية سؤالا : هناك العديد من دول العالم ، الغر ب بشكل خاص ، يشكل تلوين الفسيفساء الدينية والقومية فيها ، أضعاف مثيلاته في دولنا العربية ، بما في ذلك في لبنان ، ومع ذلك لا نسمع شكوى لأي تجمع طائفي ، أو تجمع قومي ، من إهدار لحقوقه ، ومن ثم مطالبة بتشكيل كيان منفصل ، كأهل البلاد الأصليين في كندا مثلا ، والذين لم تطلهم عمليات الإبادة ، كما جرى في جوارهم ، الولايات المتحدة ، لضمان استعادة فتثبيت هذه الحقوق . ما السر في ذلك إذن ؟ قلت : الجواب بسيط . تلك بلدان أخذت بنظم ديموقراطية ، ترفضها النظم العربية ، وتساندها في ذلك قوى سياسية ، يسارية للأسف ، وجمهور من المثقفين الذي اتصف دورهم بخيانة قضايا شعوبهم ، كما أوضحت في الحلقة السابقة . تلك الديموقراطيات كفلت لهؤلاء جميعا حقا أساسيا هو حق المواطنة ، الذي بالضرورة كفل سائر الحقوق الأخرى . وفي وطننا العربي تشكل قضية المواطنة أصعب القضايا ، وأكثرها حِدة ، والتي تواجهها الجماهير . وقد وصل الحال ، بهذه الجماهير ، حد أن أصبحت قطاعات عريضة منها تعيش غربة مؤلمة عن أوطانها ، صنعت خللا واضحا في مٍسالة الشعور بالانتماء ، رغم امتداد جذورها في تربة الوطن لآلاف السنين . قال : ولكن كيف ؟ قلت : دعنا نعود لما بدأناه ، ونتوقف عند بعض الكتابات لأربعة سياسيين يساريين ، صدرت مؤخرا . وأخص منها ثلاثا صدرت في الحوار المتمدن ، لكاتبين شيوعيين ، وواحدة ، لشيوعي في وكالة معا الإخبارية الفلسطينية ، وعدة مقالات ، لكاتب قومي عروبي ، كما يحب وصف نفسه ، في وكالة كنعان الفلسطينية أيضا . وواحدة – مقابلة في الواقع - لشاعر سوري يصف نفسه بماركسي شيوعي علماني ، في السفير الثقافي . ومن استعراضها ، وحوار كاتبيها ، سيصلك الجواب على سؤالك . ومن قراءتها بإمعان يمكن الوقوف على التالي : 1. يتفق الأربعة على أن النظام السوري ، وعلى مدار الأربعين سنة الماضية ، مارس ما لا يحصى من الانتهاكات للحقوق ، وأخضع الشعب لحالة من القهر تتجاوز كل وصف . ورغم اقتناعهم بحق الشعب في الخروج والمطالبة بالتغيير ، إلا أنهم يرون أن الجاري في سوريا ، تجاوز المطالب في التغيير ، إلى التمهيد بتطبيق مؤامرة خارجية ، يعمل ، ويدعو إليها ، خونة اندسوا في الحركة ، يعملون على تشويه ما هو حادث ، ويمهدون لحرب أهلية ، تستدعي بالضرورة تدخل قوى المؤامرة الخارجية ، وهي الغرب ممثلا بأمريكا وحلف الناتو ، في تكرار لما حدث في ليبيا . 2. يتفقون على تشخيص أن دول الخليج ، وقطر على نحو خاص ، والجامعة العربية على وجه العموم ، تلعب دور رأس الحربة ، في التمهيد للتدخل الغربي وتطبيق المؤامرة . 3. يتفقون على أن موقف سوريا الممانع للمخططات الأمريكية الإسرائيلية ، لمستقبل المنطقة ، ولعب سوريا لدور الحلقة المركزية لجبهة الممانعة ، المقصورة الآن عليها وعلى إيران وحزب الله ، هوما يشكل دافع الغرب الأساس ، وليس حريات وحقوق الشعب السوري ، وتطلعه للديموقراطية والحياة الكريمة ، للتدخل وتطبيق مؤامرة كسر هذه الجبهة ، فإكمال السيطرة الأمريكية على المنطقة ، ومن ثم المباشرة في تطبيق رؤيتها للشرق الأوسط الجديد . 4. يتفقون أن احتلال العراق أولا ، وليبيا فيما بعد ، برغم أن شعبي البلدين كان من الممكن أن يحصلا على الحريات والحقوق ، بغير وسيلة التدخل الأجنبي ، جرى بسبب معارضة النظامين للسياسات والمخططات الأمريكية الإسرائيلية للمنطقة ، وأن التدخل لم يجلب حرية أو كرامة ، وإنما جلب قتلا ودمارا في حدود هائلة ، وانتقالا لهذين البلدين من جبهة معاداة الاستعمار ، إلى جبهة التبعية له ، ومن موقع صيانة الثروة الوطنية ، البترول ، إلى ضياعها بتقسيمها بين قوى الغرب المحتلة . 5. يتفقون على حق الشعب في مطالباته بالتغيير ، واستجابة النظام ، الذي أعلن عن برنامج للإصلاح ، وعلى رفض (المندسين!) على الثورة لبرامج الإصلاح ، وارتكاب أتباعهم للجرائم المروعة ، التي يتناولها الإعلام ، ويلصقها زورا وبهتانا بالنظام ، لتشويه صورته ، وللتخويف من حرب أهلية ، ولاستدعاء العون الأجنبي ، لحماية الشعب منها . ويرفع القومي العروبي النداء :" إلى من اتخذتم لغة الثورات في أرض سوريا والعرب ، ليس في سوريا ثورة وإنما مجموعات حاقدة مخربة من الهمج ، محلية ( مرتزقة أو متسللة أحلت لنفسها نشر الفوضى .... ) . 6. يتفقون على أن الثورة الوطنية تنجز أهدافها بعيدا عن العون الخارجي . ويستشهد اثنان منهم بالثورة البلشفية ، التي رغم أنها لم تتلق مثل هذا العون ، فإنها أنجزت أهداف الثورة، وفي مقدمتها صد تدخل عسكري أجنبي ، شنته عليها أربع عشرة دولة ، بقيادة بريطانية وفرنسية ، الدولتان العظميان آنذاك . ومن ثم ترك الشعب السوري ليحل مشاكله مع النظام ، بالحوار أو بغيره ، بعيدا عن أي تدخل ، عربيا كان أم أجنبيا . ولا أظن أن الكاتبين قصدا هنا إدخال أنفسهما في تعارض مع سير التاريخ . فالاستشهاد غير صحيح ، لكن ليس هذا مجال مناقشته . 7. يتفقون على رفض ديموقراطية أمريكا ، إذ يصرخ الشاعر السوري :" أنا أكره هذه الديموقراطية وأمريكا " ، ويجاوبه الشيوعي الفلسطيني :" متى نصل كلنا إلى النتيجة القائلة بأن ديموقراطية أمريكا هي أخطر أنواع الديكتاتورية " . ويلخص موقفه من مطالب الجماهير بالديموقراطية :"الدكتاتور المقاوم للاحتلال والاستعمار أقل خطرا من الديموقراطي المحتل والمستعمر " . أما القومي العروبي فيصرخ :" ألا يعني سقوط النظام السوري سقوط المشروع القومي العربي ؟ ألا يعني سقوط النظام السوري تصفية تحرير فلسطين وحق العودة لجيلين قادمين ؟ماذا يجني هؤلاء من ضياع فلسطين ؟ ثم يقدم الجواب على أسئلته قائلا :" سقوط سوريا يعني سقوط الثقافة القومية ، ثقافة المقاومة والممانعة ، يعني قطع ظهر المقاومة اللبنانية ، وخاصة حزب الله " . مرة أخرى يضع الكتاب أنفسهم في تعارض مع الواقع ، بوضع الديموقراطية ومطامع أمريكا الاستعمارية في كفة واحدة . ومع أن المكان لا يتسع للرد ، نسألهم : ما رأيكم في ديموقراطيات ، الهند ، البرازيل ، جنوب إفريقيا ، السنغال ، اليونان ، قبرص ، بنغلاديش ، سيريلانكا ......أليس من الممكن إختيار إحداها نموذجا ؟ 8. أخيرا يتكئ المدافعون عن النظام السوري ، وبضمنهم الكتاب المشار إليهم ، إلى موقف روسيا والصين ، في مساندة سوريا ، وإحباطهما مخطط التدخل الغربي تحت راية الأمم المتحدة ، بإشهارهما الفيتو في مجلس الأمن . ويذهب كثرة من المثقفين – الفلسطينيين على الأقل – إلى اعتبار موقف الدولتين بالمبدئي ، رافضين النظر للمصالح والتنافس بين جماعات الدول الكبرى ، ليشيروا إلى صحة موقف النظام ، وخطأ طريق المعارضة . ويذهب احد الكتاب السالفين إلى حد القول :" بعد هذا الرفض الحاسم من روسيا والصين ، على النظام السوري تعميق التنسيق معهما ، وإجراء إصلاحات جذرية جدا ، ومكافأة هذا الشعب السوري البطل الذي يرفض التدخل الخارجي رغم الظروف المعيشية التي يعيشها ، وخاصة بسبب الضغوط الخارجية الإجرامية ، مكافأته بكل ما يحق له من حرية وديموقراطية وحياة كريمة ..." . ويستبق الكاتب معارضيه في الرأي بتوجيه اللوم لهم قائلا :" أما ظهور بعض الأقلام عندنا وكأن التنافس بيننا على من هو أكثر ديموقراطية فهو أمر خاطئ جدا ، لا يعتمد على موقف فكري طبقي صحيح ، نجد فيه أحيانا تسويق للذات بعيدا عن استيعاب المعادلة وأطرافها " . ويقول الرفيق الآخر بعد إشادة بخطاب الأسد الأخير ليشيد بما وصفه بِ "وطنية الشعب السوري العريقة ووعيه المرهف الذي أدرك في اللحظة المناسبة طبيعة وهول المؤامرة على وطنه ، ورفع مهمة درء وإحباط هذه المؤامرة التي تحتشد وراءها قوى إقليمية ودولية عريضة ، وعلى رأسها الولايات المتحدة ، إلى أولوية استثنائية تعلو على أية مهمة أخرى دون أن يعني ذلك تخليه عن أهداف انتفاضته لتحقيق الإصلاح والتغيير حتى إنشاء نظام ديموقراطي تقدمي حقيقي ." وبعد : تتطلب مناقشة الأفكار الواردة في هذه المقالات ، والتلخيص المقدم بالنقاط الثمانية ، مساحة تزيد كثيرا عما تبقى من هذه الحلقة . مساحة ربما تمتد على أكثر من حلقة . وسأكتفي فيما تبقى من هذه الحلقة ، بمناقشة قضيتين ، أسبقهما بطرح مجموعة من الأسئلة تتعلق بقضيتنا الوطنية ، وبموقفنا الأخلاقي ، الإنساني ، الوطني ، القومي ، تجاه ما يعانيه إخوة لنا ، تحت مسمى الانتصار للقضية الفلسطينية . ألم يحن الوقت كي نسائل أنفسنا : بموجب أي مبررات أخلاقية وإنسانية نطالب شعوبا شقيقة بتحمل عسف وقهر نظمها الحاكمة ، بدعوى أن هذه النظم تساند قضيتنا الوطنية ؟ ألم يحن الوقت كي نسائل أنفسنا مرة أخرى : بموجب أي مبررات أخلاقية نتقبل ، ونسكت على ، استخدام قضيتنا غطاءا لإمعان نظام ما في قهر شعبه ، لتقنين الفساد ، للحفاظ على بقائه ومكاسبه ، على حساب لقمة خبز طبقاته الفقيرة ؟ ألم يحن الوقت كي نسائل أنفسنا مرة ثالثة : ألا تفرض علينا قيمنا الإنسانية ، ومبادئنا الأخلاقية ، مناصرة شعب شقيق ، كالسوري الآن ، تحمل الكثير من القهر واغتصاب الحقوق ، تحت ستار مناصرة قضيتنا الوطنية ؟ وألم يحن الوقت ، رابعا وأخيرا، كي نسائل أنفسنا : بموجب أية حقوق ، وتحت أية مبررات ، وخدمة لأية قضية ، يعمد بعضنا إلى تحدي واستفزاز إخوتنا العراقيين ، بإقامة نصب تذكارية ، لطاغيتهم صدام حسين ، تتصدر عددا من ميادين بلداتنا وقرانا ؟ وهل يمكن أن نفاجأ بإقامة نصب مماثلة لطاغية ليبيا معمر القذافي ؟ وبعد هذه الأسئلة سأتوقف عند قضيتين ، طرحتهما مقالات الكتاب الذين سبقت الإشارة إليهم . الأولى تتعلق بما يقال عن الإصلاح الذي يعرض النظام السوري البدء به وترفضه المعارضة . والثانية مسألة الممانعة وحقيقة موقف النظام السوري منها . حقيقة الإصلاح : يستند رافضو منهج المعارضة السورية ، في بعض أسانيدهم ، إلى ما يصفونه باستعداد النظام ، طرح وتطبيق برنامج للإصلاح والتغيير ، تقابله المعارضة بالرفض التام ، في دلالة على أن مطالبها تتجاوز الإصلاح ، إلى هدم النظام ، ونقله من موقف الممانعة ، إلى الارتماء في الأحضان الأمريكية الصهيونية . وفي إشارة جديدة يضيفون : أن المعارضة أعطت تأكيدا إضافيا تمثل في رفضها الجلوس للحوار على مائدة له في موسكو . ويقولون أن الروس ، بعد الفيتو في مجلس الأمن ، انتزعوا موافقة النظام على الجلوس مع المعارضة للحوار حول خطوات الإصلاح ، في مؤتمر يعقد في موسكو وتحت رعايتها . وفي محاوراتهم ، يتجاهل رافضو منهج المعارضة جملة حقائق تتعلق بمطالب الإصلاح . منها أن النظام بادر إلى مواجهة مطالبات الجماهير ، التي بدأت سلمية في درعا ومحافظتها ، بالقمع العنيف ، وبما في ذلك استخدام الدبابات . واعتمدت هذا الأسلوب منهجا في التعامل ، تواصل لعدة أشهر ، قبل ظهور أية جيوب للمقاومة العنيفة . وفيما بعد اتسمت ردود النظام على مطالب الإصلاح ، ليس فقط بالبطء الشديد ، وإنما بالشكلانية أيضا . وتمثل أول رد معقول بمنح الجنسية لقرابة مائتي ألف كردي ، دون تقديم تبرير منطقي ، لإبقاء مئات الآلاف منهم ، كل هذه السنين ، ضمن تصنيف البدون . والمهم أن نهر الدم المتدفق واصل تجاوز استجابة النظام للإصلاح ، ويفرض رفع سقف المطالب ، وليتكرر البطء ورفع السقف من جديد . والأهم من كل ذلك ، لا يتوقف مناهضو المعارضة عند ماهية عروض الإصلاح التي تقدم بها النظام . ودون أن يسألوا أنفسهم : لماذا اعتمد النظام منهج القمع الرهيب في مواجهة المظاهرات الشعبية ؟ لماذا لم يبادر إلى اعتماد منهج الاستجابة للمطالب ، التي يتفق الجميع على أنها محقة ، واستحقاق الشعب السوري لما هو أعمق منها ؟ لماذا اعتمد منهج القمع الذي يوفر للمعارضة العميلة والخائنة ، كما يصفونها ، فرص طلب الحماية ، فالتدخل الخارجي ؟ لماذا لم يبادر ، وهو الأعرف بطبيعة وجوهر مخطط مؤامرة التفتيت ، بقطع الطريق على هؤلاء الخونة وأصحاب المؤامرة ، بالبدء الفوري والجاد بتطبيق الإصلاح ؟ لماذا كل ذلك البطء في السعي لكسب وتعزيز ثقة الجماهير، فدفعها لمواجهة المندسين ، ومنعهم من تنفيذ الجرائم ، التي يبرر بها تواصل سيل نهر الدم ، وإغراقه لمناطق واسعة من سوريا ؟ يرفض مناهضو المعارضة السورية ، مجرد النظر إلى ماهية الإصلاحات التي يطرحها النظام ، وقبول حقيقة أنها تلامس القشور فقط . من يعرف شيئا عن سوريا ، يعرف أن المشكلة تتجاوز كون الدستور يثبت حزب البعث في موقع الحزب القائد . ويتجاوز حظر تشكيل الأحزاب ، وحرية التعبير ، وغيرها من الحريات . المشكلة الأساس تتمثل في الرئاسة أولا ، وفي طبيعة ومهام الداخلية وأجهزة الأمن العديدة المتفرعة عنها ثانيا . والإصلاحات المطروحة من النظام ، لا تمس أيا منهما ، لا من قريب ولا من بعيد . عن الأخيرة وعملها ، وقعت بين يدي ، قبل البدء في كتابة هذه الحلقة ، رواية جديدة ، صادرة عن دار الآداب ، اسمها القوقعة يوميات متلصص ، للكاتب مصطفى خليفة . والكتاب ليس رواية بالمعنى المعروف والمألوف . هو نوع من تسجيل ، مع تهذيب أدبي ، ليوميات معتقل ، قضى في زنازين المخابرات ومعتقل تدمر الصحراوي ، ما يزيد قليلا على اثني عشرة سنة ، وسنة وبضعة أشهر بعدها في أقبية تحقيق عدد من أجهزة أمن النظام في العاصمة . المفارقة أن هذا السجين مسيحي اعتقل بتهمة الانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين ، مباشرة من الطائرة ، التي أقلته عائدا إلى الوطن ، بعد تخرجه من باريس في الإخراج السينمائي . ما يهمنا هنا أن قارئ الكتاب ، المذكرات ، قد يتجاوز السرد للأهوال التي يمر بها السجين في هذا الجحيم الذي صنعه النظام ، والتي تتجاوز قدرة أي إنسان ، يتحلى بقدر معقول من التفكير السليم ، على مجرد التصور بوجودها ، في بلد عربي . وعلى مجرد التكفير باحتمال أن يعمد نظام ، يوصف بالتقدمي ، والمقاوم ، والممانع ، إلى ممارستها ضد شعبه . لكن القارئ لا بد سيتساءل : كيف ، ولماذا اصطبر الشعب السوري على إهدار إنسانيته ، قبل كرامته ، بهذا الشكل المناقض لكل منطق ، والمنافي لأي عقل ، كل هذه السنين الطويلة ؟ ولا بد سيسأل : كيف سيكون شكل الثأر من هذا النظام ، إن ثار وتحقق له النصر ؟ أثناء قراءتي للكتاب المذكرات ، ظللت أسأل نفسي : كيف توصل هذا النظام لصناعة أجهزة ، وشحن تعبئة أفرادها بكل هذا القدر من انعدام الإنسانية ؟ بكل هذا القدر من الوحشية ؟ بكل هذا القدر من الحقد والكراهية ؟ بكل هذا القدر من غياب الضمير ؟ حتى يقدروا على إهدار آدمية الإنسان ، بآلاف الصور التي تعرضها هذه المذكرات ؟ وفي النتيجة : بم ستفيد أية إصلاحات دون هدم هذا النظام البوليسي القمعي من جذوره ، والبدء في بناء نظام بديل حقا وبالمطلق ؟ أما عن الرئاسة ، التي تشكل كل ماهية النظام في سوريا ، فإن المتابع ليعجب من الحديث عن إصلاحات وتغيير ، لا يقترب منها . ومشكلة الرئاسة في سوريا ، لا تقف عند مسألة اغتصاب الأسد الأب للنظام الجمهوري ، واستبداله بنظام ملكي مطلق ، وتوريثه لعائلته . كما لا تقف عند حدود أن هذا النظام ، تفوق على كل الملكيات في المنطقة في الصلاحيات التي يمنحها الدستور لمليكه . ولا في اقتداء كافة النظم الجمهورية العربية به ، والبدء في خطوات التحويل إلى هذا الشكل العصري للملكية ، وتوريثها للأبناء والأقارب . المشكلة أن خطوات الإصلاح ابتعدت تماما عن تلميح يخص هذا النظام . والغريب أن مطالبي المعارضة بقبول عروض الإصلاح ، والانتقال للحوار ، يتجاهلون حقيقة أن عدم المس بموقع الرئيس وصلاحياته ، يفرغ أي إصلاح من أي مضمون . ويتجاهلون حقيقة أن الأسد لو بادر إلى الإعلان ، حتى بعد الشهر الأول من الثورة ، عن عدم الترشح لدورة ثالثة جديدة ، ولفتح المجال أمام انتخابات تعددية لمنصب الرئاسة ، لكانت المسألة قد حلت ، ولما وصل حال الصراع ، ونهر الدماء إلى هذا الحد . ولإعطاء فكرة عن صلاحيات الملك الرئيس ، وتأليه الإعلام وأجهزة الدولة المختلفة له ، سأسمح لنفسي برواية واقعة حدثت لي . في مطلع التسعينات من القرن الماضي ، انعقد في دمشق لقاء للأحزاب الشيوعية في المنطقة ، مثلت فيه حزبنا الفلسطيني . على هامش اللقاء ، وفي الاستراحات ، دارت كالعادة أحاديث غير رسمية ، روى فيها مضيفنا السوري حادثة تتعلق بدور وصلاحيات البرلمان في التشريع والمراقبة . والقارئ لا يحتاج لتذكيره بأن الحزب الشيوعي السوري ، مضيفنا ، كان مشاركا في الحكومة ، وله أعضاء في البرلمان . قال أن البرلمان ، وبعد مسيرة زادت عن عشرين سنة ، وكحالة يتيمة ، لم ولن تتكرر ، كان له كلمة في مشروع قانون ، عرف باسم قانون إن . فالعادة أن يرسل الرئيس بمشاريع القوانين إلى البرلمان ، الذي ينحصر دوره في المصادقة عليها ، وإخراجها لتصدر في الجريدة الرسمية . وفي يوم وصله مشروع قانون وردت فيه كلمة أن . ولأن السوريين معروفون بإتقانهم للغة العربية ، ثار في المجلس نقاش ، حول صحة الكلمة ، وهل هي أن أم هي إن . وبعد ساعات أقر البرلمان تغيير الكلمة من أنَّ إلى إنَّ وليعرف هذا القانون ، على سبيل التندر بقانون إنَّ . ولنا أن نسأل : ما قيمة أية إصلاحات لا تنص على تحديد فترة إشغال منصب الرئاسة ؟ وما قيمة تغييرات لا تخفض من صلاحيات الرئيس ؟ وما قيمة إصلاحات تطال الإعلام ، بينما يستمر قانون العقوبات على المس بالذات الرئاسية ؟ وما معنى المطالبة بترك الشعب السوري وحيدا في مواجهة هذا النظام ؟ هل المقصود إطلاق يدي النظام ليواصل عمليات الذبح ، التي قد تنتهي بتركيع ما يمكن أن يتبقى من الشعب ، وبما لا يصل النصف ؟ هل هو نظام ممانعة ؟ وبعد سيل الأسئلة ، والسابقة مجرد أمثلة عليها ، بأجوبتها المعروفة ، نتوقف عند سؤال أخير يقول : هل صحيح أن النظام السوري نظام ممانعة ، يتوجب على ذوي الرؤية الطبقية الصحيحة ، كما أشار كاتب شيوعي محترم ، دعمه ، لأنه بعدائه للاستعمار ، على المديين القريب والبعيد ، أفضل لشعوب المنطقة ، ولشعبه بالضرورة ، من نظام ديموقراطي ذي ميول غربية ؟ تفرض علينا إجابة ، تتوخى الوصول للحقيقة ، تجنب المهاترات حول توالي السنين ، وانعدام الحركة في اتجاه تحرير الجولان ، وغلق جبهتها في وجه المقاومة . ولا التذكير بأن هرولة هذا النظام ، في العام 91 ، أربكت منظمة التحرير ، وعملت على تسريع هرولتها للحاق بما وصفته بقطار الحل الأميركي ، واللحاق بموطئ قدم لها ، ولو على سلالمه الخارجية . كما لا نريد الدخول في مهاترة حول مبررات انضواء النظام ، وجيشه ، تحت لواء أمريكا ، وجنرالها شوارتزكوف ، في حرب تدمير العراق الأولى ، المعروفة باسم حرب تحرير الكويت . ونسأل : هل الممانعة ، تقف عند حدود الاصطفاف في جبهة مع إيران وحزب الله ، تناصبها أميركا وحلفاؤها العداء ؟ مرة أخرى نذكر ، بأن ألف باء النضال ، تقول بأن المناضلين ، كوادرهم على الأقل ، يعرفون يقينا مدى تفوق القوى المعادية ، وفي جوانب كثيرة . ويعرفون ضرورة توفر عوامل ، معنوية ، أدبية ،سياسية وأخلاقية ، تضمن ، ليس فقط معادلة تفوق العدو المادي ، بل وكسر هذه المعادلة ، لضمان النصر . ويعرفون أن ليس أخطر على أي ثورة من تخلخل قيمها الأخلاقية ، اللازم تفوقها على العدو بالضرورة ، وفي مقدمة ذلك تسلل الفساد ، بأي نوع منه ، إلى الصفوف . والقيادة التي تسكت على الفساد ، وترصد نموه ، دون تدخل ، تعلن عن فقدان ثقتها بالنصر ، لتجري تبديلا بين الوسيلة والهدف . وبوضوح أكثر يتحول رفع الشعارات عن قضية الثورة إلى وسيلة ، فيما يتحول الكسب ، بأساليب الفساد إلى الهدف . والأمر المحقق أن تبتعد آفاق النصر ، بكر الأيام والسنوات . ورفع الدولة لشعار المواجهة ، أو المجابهة ، أو الممانعة ، هو موقف ثوري ، يتم التصدي فيه لقوى أعظم وأعتى بكثير ، من قواها الذاتية ، وقوى حلفها ، كما هو الحال مع سوريا . ولا يحتاج المرء لعلم كبير كي يرى أن تسلل الفساد لكيان دولة الممانعة ، يمثل الخطر الأكبر والأشرس ، عليها وعلى مواقفها . والسكوت على الفساد ورعايته لا يعني غير أن التبديل ، بين الهدف والوسيلة ، قد تم منذ بعض الوقت . وهو حال النظام السوري ، منذ أمد ليس بالقصير . في مطلع ثمانينات القرن الماضي ، كنت عائدا لدمشق ، من زيارة قصيرة لبيروت – في الأربعة عقود الخالية دخلت لبنان ثلاث مرات ، لم أتجاوز الليلتين في أي منها - . في نقطة الحدود المعروفة بالمصنع ، توقفنا لتدقيق جوازات السفر . وكعادتي اغتنمت فسحة الوقت لإشباع نهمي في مشاهدة الطبيعة . وكان أن لفت نظري وجود شارع ترابي ، على يمين الشارع الرئيسي ، أسفل الجبل ، وبمسافة لا تزيد عن كيلومترين ، يكتظ بشاحنات وحاويات محملة ، ومتجهة إلى الشام . سألت مرافقي ، ليرد ضاحكا : هو شارع التهريب . ظننت أنه يمزح ، ولذلك قلت : كيف ذلك وهو مرئي بهذا الوضوح ، وتسير فيه عشرات الشاحنات معا ، إن لم يكن أكثر . قال : هو شارع التهريب ، وهو مكشوف لأن التهريب يتم لصالح كبار ضباط الجيش . ولأنه بان علي عدم التصديق أضاف : ألم يلفت نظرك ذلك الكم الكبير من السجائر الأمريكية تباع على الأرصفة ، بأسعار تقل كثيرا عن التسعيرة الرسمية ؟ قلت بلى ، ولفت نطرى تكدس بضائع متنوعة بذات الطريقة . قال هي هذه ، تأتي من هذه الشاحنات التي تراها . وحين تساءلت عن مهمات هؤلاء الضباط وجيشهم ، أجاب : على رأي غوار: حط في الخرج . ومنذ تلك اللحظة فارقتني القناعة ، بأن تكون سوريا دولة مواجهة ، أو مجابهة ، أو ممانعة . وحلت مكانها قناعة نقيضة ، تقول بأن رفع سوريا لذلك الشعار ، لا يشكل أكثر من غطاء ووسيلة للحفاظ على تثبيت وتعزيز مكاسب ومصالح القائمين على النظام ، لا أكثر ولا أقل . ولم تمض غير بضعة أشهر ليكون الاجتياح الإسرائيلي للبنان ، بغرض القضاء نهائيا على المقاومة الفلسطينية . الاجتياح الذي تتوج بإخراج المقاومة . وقبل الاجتياح وجهت إسرائيل ضرباتها لصورايخ الدفاع الجوي السورية المنصوبة في البقاع ، لتدمرها عن بكرة أبيها ، وقبل انطلاق صاروخ واحد ضد الطائرات المغيرة . ولم تكتف إسرائيل بهذا بل نفذت مذبحة ضد الطيران الحربي ، شمل أكثر من ثمانين طائرة في دقائق معدودة . وانبرت أقلام المحللين والمعلقين لتبرير الكارثة ، ودون أن يشير أي منها ، ولو من بعيد ، إلى ما فعله الفساد في ذلك الجيش الأبي . والآن ، وفي ختام هذه الحلقة ، لا بد من سؤال الرفاق القانعين بأفضلية دكتاتور ممانع للمخططات الإمبريالية ، على حاكم ديموقراطي غير ممانع : هل خيارات الشعوب تنحصر بين هذا وذاك ؟ أليس من الممكن أن يضع الحاكم الديموقراطي مصالح الوطن قبل مصالح أفراد النظام ؟ أليس من واجب القوى الثورية العمل ، بكل الجد ، للحيلولة دون وقوع النظام الجديد في أسر الغرب ؟ ألا يفرض الولاء للوطن ، والاهتمام بمصالح الجماهير، سلوك النظام الجديد طريقا ، قد لا يتصادم ، ولكن لا يتوافق مع مطالب الغرب ؟ ألا يحتاج الأمر للانخراط في النضال ، بدل التحيز لنظام يرفضه الشعب ؟ والأهم من كل ذلك ، من زاوية مصلحتنا نحن كفلسطينيين : هل هو قدر قضيتنا أن لا يساندها من الحكام العرب ، غير دكتاتور ، يذيق شعبه كل أصناف الويلات ، متذرعا بنصرة قضيتنا ؟وهل مصلحتنا على المدى القصير والمتوسط والبعيد ، مناصرة مثل هذا الدكتاتور على ظلم شعبه ؟ لا تقولوا أننا نتبنى مطالب الشعب ، وننصح الدكتاتور بالاستجابة لها ، لأنكم تعرفون أنه لن يفعل ، وأنه يوظف انحيازكم له ، لإعمال ساطور الذبح في رقاب شعبه . وأختم بالسؤال : من أي منظور أخلاقي أو إنساني نفعل ذلك ؟ وأخيرا يؤلمني ويقض مضجعي ما وصل إليه حال اليسار . كانت القاعدة أن الشيوعي مثل السمكة والماء . والماء هو الجماهير ، إن خرج منها مات . ومعروفة توصية ماركس عن الانحياز للجماهير ، حتى ولو كانت على خطأ . وقدم بنفسه المثال مع كومونة باريس ، رغم قناعته بانعدام فرصتها للنجاح . وما نراه أن يساريين وشيوعيين ينقلبون على القاعدة التي تربوا عليها ، وينحازون لنظام ، أقل ما يوصف به أنه مجرم ، مبررين مواقفهم بسلسلة من الأعذار، المناقضة لذات المنطق ، الذي بنى اليسار به وعليه أمجاده . وبعد سوريا ، ماذا عن مصر ؟ لننتظر الحلقة القادمة .
#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 10 مخاطر على الديموقراطية
...
-
عن دور اليسار في ثورات الربيع العربي
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 9 مخاطر على الديموقراطية
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 8 مخاطر على الديموقراطية
...
-
الربيع العربي وقضايا الأقليات القومية
-
قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
-
عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
-
دخول الى حقل المحرمات - 1 -
-
وحدة الأضداد بدون صراعها
-
هل هي مبادرة؟!
-
ويا بدر لا رحنا ولا جينا
المزيد.....
-
الحزب الحاكم في كوريا الجنوبية: إعلان الأحكام العرفية وحالة
...
-
عقوبات أميركية على 35 كيانا لمساعدة إيران في نقل -النفط غير
...
-
كيف أدت الحروب في المنطقة العربية إلى زيادة أعداد ذوي الإعاق
...
-
لماذا تمثل سيطرة المعارضة على حلب -نكسة كبيرة- للأسد وإيران؟
...
-
مام شليمون رابما (قائد المئة)
-
مؤتمــر، وحفـل، عراقيان، في العاصمة التشيكية
-
مصادر ميدانية: استقرار الوضع في دير الزور بعد اشتباكات عنيفة
...
-
إعلام: الولايات المتحدة وألمانيا تخشيان دعوة أوكرانيا إلى -ا
...
-
نتنياهو: نحن في وقف لاطلاق النار وليس وقف للحرب في لبنان ونن
...
-
وزير لبناني يحدد هدف إسرائيل من خروقاتها لاتفاق وقف النار وي
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|