|
نقد مفهوم الاشتراكية عند ماركس – 2 – 2
أنور نجم الدين
الحوار المتمدن-العدد: 3629 - 2012 / 2 / 5 - 09:06
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
والآن لنسأل: كيف يعارض ماركس أطروحات (نقد برنامج غوته) الاقتصادية؟
إن تعارض ماركس في أطروحاته الاقتصادية ما بين (رأس المال) و(نقد برنامج غوته) هو بالضبط مثل التعارض ما بين (رأس المال) و(الاقتصاد السياسي) البرجوازي. ففي (نقد برنامج غوته) يتحدث ماركس عن علاقة وكأنها يُوجِدُها أفراد منعزلون -غير مرتبطين اجتماعيًا- حين يقول: "رُبَّ فردٍ يتفوق جسديًا أو فكريًا على فرد آخر، فهو إذن يقدم، خلال الوقت نفسه، قدرًا أكبر من العمل" (انظر الجزءالأول). وهذه العلاقة غير موجودة في الواقع التاريخي، ولا في أبحاث ماركس الاقتصادية سابقًا، فالأمر لا يدور إطلاقًا حول علاقة الفرد الفردية بالعمل الإنتاجي، ولا بدور أو المصير الخاص لرأس مال فردي ما أو عامل فردي ما، فالنشاط البشري في المجتمع الرأسمالي، يشترط التعاون بين الناس، وهذا التعاون هو الذي يستبعد الفرق الفردي وتأثيراته في عملية إنتاج الأرباح. ولكن، مثلما يقول ماركس:
"أما إلى أي حد تولد هذا الربح عن الاستغلال الاجمالي للعمل من جانب رأس المال الكلي، أي من جانب كل زملائه الرأسماليين، أما ذلك الترابط فسر كامل بالنسبة اليه؛ ويزيد في كمال هذا السر، من جهة أخرى، ان علماء الاقتصاد والمنظرين البرجوازيين، أنفسهم، حاذروا حتى الآن، كشفه" (ماركس، رأس المال، الكتاب الثالث، ترجمة انطون حمصي، ص 268).
وهكذا، فحسب ماركس، تتزايد القوة الإنتاجية بصفتها قوة إنتاجية اجتماعية مستقلة عن الرأسماليين أو العمال الفرادى. وهو يقول:
"ويتزايد ظهور رأس المال كسلطة اجتماعية يكون الرأسمالي عاملا لها. ويبدو انه لم تعد، هناك، من علاقة ممكنة بينه وبين ما يمكن ان يخلقه عمل فرد منعزل" (نفس المرجع السابق، ص 402).
أليست الاششتراكية هي أيضًا نظام اجتماعي مستقل عما يخلقه عمل فرد منعزل؟ ففيما يخص المجتمع المقبل -أي المجتمع الاشتراكي- فيكمل ماركس عبارته أعلاه على النحو التالي:
"ويتضمن الغاء هذه العلاقة مشتملا، في الوقت نفسه، على تحول هذه الشروط الإنتاجية إلى شروط إنتاجية اجتماعية وجماعية وعامة". (ص 402).
وماذا نستنتج من ذلك؟
نستنتج من ذلك أن ماركس يناقض جذريًا أطروحات (نقد برنامج غوته) حول الاشتراكية، حيث أنه لا يتحدث في (رأس المال) ولا في أي مجال آخر، عن زمن العمل الفردي لا في النظام الإنتاج الرأسمالي ولا في النظام الإنتاج الاشتراكي، ففكرة (تقديم قدر أكبر من العمل بسبب التفوق الجسدي أو الذهني لفرد على الآخر في النظام الاشتراكي، وبوصفه عاملاً لتوزيع غير الشيوعي)، لا يخلقها غير الاقتصاد السياسي الذي قد انفصل ماركس عنه كليًا قبل زمن طويل من إصدار (نقد برنامج غوته).
على العموم، لا يتحدث ماركس إلا عن: (زمن العمل الاجتماعي المطلوب لإنتاج بضاعة ما)، فمن أين يأتي إذن هذا (التفوق الجسدي أو الذهني) العجيب والغريب في أطروحات ماركس الاقتصادية؟ على الأرجح انه من الصعب جدًا جواب هذا السؤال. ولكن ليس من الصعب إطلاقًا البحث عن تناقضها مع استنتاجات أخرى لماركس حول الطريقة الإنتاجية المتوسطة التي يعممها قانون عام في المجتمع الرأسمالي وهو قانون المزاحمة. فإنتاج وتسوية الأرباح لا تجري من خلال التفوق الجسدي والذهني للعاملين الفرادى في هذه المؤسسة الرأسمالية أو تلك، بل من خلال القوى الإنتاجية الاجتماعية التي سيجعل من العمل عمل جماعي. وما فعل هذا العمل الجماعي؟ إن زمن العمل اللازم لإنتاج بضاعة ما، يقاس بالزمن الاجتماعي لا الفردي لإنتاجه، فالأمر يتعلق بمجموع القوى العاملة الموضوعة موضع الحركة لا العمل الفردي لهذا العامل أو ذاك. فلا العمل ولا الأجور ولا الأسعار، تحدد تحديدا منفردًا. وإذا لم يكن الأمر كذلك لَمَا كان التراكم، والتمركز، والأرباح، والخسارات، وهبوط معدل الربح، والأزمات، والكساد الاقتصادي، والفائض الإنتاجي أشياء مفهومة لدينا.
إن تركيز وسائل الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، هو الذي يحول العمل إلى عمل اجتماعي، أي إلى قوى اجتماعية للإنتاج. فلا يبقى هناك عمل فردي خاص، أو تأثيرات الأفراد الخاصة وفروقهم الجسدية والذهنية على عملية الإنتاج ونتائجها الاجتماعية. فكيف تؤدي إذن الفروق الجسدية أو الذهنية في المجتمع الاشتراكي إلى الفروق في الأشياء الاستهلاكية؟ هذا وهم من أوهام الاقتصاد السياسي يعود جذوره إلى فكرة ندرة الثروات الطبيعية، ولا ندري في الواقع إن كان صاحب هذا الوهم هو ماركس نفسه؟ فحسب ماركس، ان الأزمات الاقتصادية، نتاج الفائض في الإنتاج لا قلة الثروات.
حسب ماركس: لا يمكن فهم حركة سوق العمل إلا من خلال متوسط العمل الاجتماعي، ومتوسط الأجور، ومتوسط الأسعار، ومتوسط التركيب العضوي لراس المال، ومتوسط الأرباح.
مثال:
إن وسائل الإنتاج تعمل وتستهلك كوسائل إنتاجية مشتركة للعامل الجماعي (ص 143). وإن هبوط معدل الربح مثلاً أو ارتفاعه في فرع صناعي ما في المجتمع الرأسمالي، يمكن أن ينشأ نتيجة لهبوط أو ارتفاع معدل الربح في فرع صناعي آخر، وهو ربح ينجم عن العمل الاجتماعي (ص 139). وهذه هي القوة المادية التي تنشأ من خلالها نظام اجتماعي مثل النظام الرأسمالي للإنتاج. إذن، فإن شروط الإنتاج هي شروط العمل الجماعي. وعن ذلك يقول ماركس:
"وهي تستعمل، في سلسلة أفاعيل الإنتاج، استعمالا مشتركا من جانب العامل الجماعي، بدلا من أن تستعمل على صورة مجزأة، من جانب كتلة من العمال لا تقوم بينهم أية صلة، أو يتعاونون، مباشرة، ضمن نطاق ضيق على أحسن تقدير" (ص 136).
وهكذا، ففي أبحاثه الاقتصادية عن المجتمع الرأسمالي، يشترط ماركس تركيز وسائل الإنتاج واستعمالها في تجميع العمال وتعاونهم في العمل، أي انه يشترط بالضبط تركيبًا اجتماعيًا للعمل. فما إذن دور هذا العامل الفردي أو ذاك في العمل حتى إذا كان يفوق جسديًا عشرات العمال أو العكس؟
مثال:
إن 100 عامل في معمل ما سيصنعون مثلا في 8 ساعات من العمل اليومي، 2000 قطعة من بضاعة معينة. وماذا يحدث حين نجد أن الفروق الجسدية والذهنية أمر واقع بينهم؟
إن هذا العمل الإنتاجي نتاج الجماعي لاستعمال الوسائل الإنتاجية، فتتعادل إذن كل حركة نشطة أو متأخرة في الإنتاج – حتى أثناء إنتاج البضائع بالقطعة- مادام العمل يتخذ شكلا اجتماعيا، فهو يكفي إذن لتسوية الفروقات الجسدية والذهنية في الأعمال الفردية للعمال الفرادى حتى في مجتمع متناقض في الأساس مثل المجتمع الرأسمالي. وفي نفس المجتمع أخذنا جواب سؤال ماركس -ولا نعرف ما إذا كان هو بالفعل سؤال ماركس- بخصوص العامل الذي يتلقى من الصندوق الاجتماعي أكثر أو أقل من الآخر نظرًا لأنه لديه أطفال أكثر أو أقل من الآخر، وهو يمكن على هذا الشكل أن يكون أغنى من الآخرين أو العكس. فانظروا إلى السويد مثلا، فلكل طفل هناك مساعدة خاصة تحت عنوان مساعدة الاطفال (من 0 إلى 16 سنة) دون النظر إلى انتماءاته الاجتماعية، فهو يمكن أن ينتمي إلى العائلة المالكة أو عائلة عمالية. إن الأطفال، والمعوقين، والعاجزين عن العمل، بمستطاعهم الاستفادة من الصندوق الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي. فما هذه الاشتراكية المعوقة التي ستعجز عن تأمين شروط حياة هؤلاء الذين يقعون خارج الإنتاج الفعلي بسبب ما؟
أخيرًا وليس آخرًا:
"إن تنميةَ القوى الإنتاجية للعمل الاجتماعي مهمةُ رأس المال التاريخية وتبريره. ومن أجل ذلك يخلق، على وجه الدقة، دون معرفة منه، الشروط المادية لنمط إنتاجي أعلى" (ماركس، نفس المرجع السابق، ص 395)، يعني تحديدًا لنمط اشتراكي من الإنتاج، ففي أحشاء النظام الإنتاج الاجتماعي الرأسمالي، ينشأ النظام الإنتاج الاجتماعي الاشتراكي، فما يقوم به النظام الاشتراكي هو فقط تحويل التمليك الخاص إلى التشريك الجماعي للوسائل الإنتاجية. فحسب ماركس، إن التناقض بين هذين النمطين من الإنتاج هو أن الأول ينطلق من الربح والنسبة بين هذا الربح و رأس المال المستخدم، أي مستوى معين من معدل الربح، وهما اللذان يقرران توسيع الإنتاج أو الحد منه. أما ما يقرر هدف النظام الاشتراكي فهو نسبة الإنتاج إلى الحاجات الاجتماعية، إلى حاجات الكائنات البشرية المتطورة اجتماعيًا (ماركس، نفس المصدر). وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن أن يفكر ماركس مثل ما يفكر صاحب كراس (نقد برنامج غوته). والسؤال هنا هو: هل الهدف من الاشتراكية، أي من تلبية الحاجات الكائنات البشرية، هو بالفعل "لكل حسب عمله"، وهو أساس الحق المتساوي، أي علاقات القيمة؟ إذا كانت الاشتراكية تعني بالفعل نسبة الإنتاج إلى الحاجات الاجتماعية، فلا يمكن أن يطابق "لكل حسب عمله" بوصفه هدف الاشتراكية. فهل صاحب أوهام الواردة في كراس (نقد برنامج غوته) هو بالفعل كارل ماركس؟
من المعقول أن يناقض الفرد نفسه في مواضيع مختلفة وفي فترات تاريخية مختلفة. ولكن التناقض بين (نقد برنامج غوته) و(رأس المال) يثير الدهشة بحيث ان المرء لا يجد مبررات معقولة لأطروحات (نقد برنامج غوته)، لا سيما بعد نقد ماركس لبرنامج (البيان الشيوعي) المشابه بأطروحات (نقد برنامج غوته) بعد تجربة كومونة باريس. وعلى الأرجح لا يمكن فحص هذا الموضوع تجريبيًا إلا على الشكل أعلاه. فهل صاحب (نقد برنامج غوته) هو بالفعل كارل ماركس؟
#أنور_نجم_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد مفهوم الاشتراكية عند ماركس - 1 – 2
-
ما مهمات الاشتراكيين؟ 2 - 2
-
ما مهمات الاشتراكيين؟ 1 - 2
-
ما بديل الكساد العظيم: الهمجية أم الاشتراكية؟
-
النظام الاستعماري يسبق النظام الرأسمالي -3-3
-
النظام الاستعماري يسبق النظام الرأسمالي -2-3
-
النظام الاستعماري يسبق النظام الرأسمالي -1-3
-
الدولة وثورة الكومونة – 5-5
-
الدولة وثورة الكومونة – 4-5
-
الدولة وثورة الكومونة – 3-5
-
الدولة وثورة الكومونة – 2-5
-
الدولة وثورة الكومونة – 1-5
-
مهزلة الليبرالية وضرورة الاشتراكية
-
كل شيء لأجل تطوير الحركة الاشتراكية العالمية: التضامن لا الج
...
-
الأخلاق الإسلامية والأخلاق الشيوعية
-
الاشتراكية بداية التاريخ
-
نقد الأخلاق عند لينين
-
الأزمة المعاصرة في تأملات الليبراليين الأخلاقية
-
رسالة من مصر: ما الأهمية التاريخية لانتفاضة مصر؟
-
الموجة اللاحقة: إسرائيل، السعودية، الصين، وقناة السويس
المزيد.....
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|