|
الشوارع
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3627 - 2012 / 2 / 3 - 21:02
المحور:
الادب والفن
الأعمال الكاملة الروايات (7)
د. أفنان القاسم
الشوارع
رواية
الطبعة الأولى دار ابن رشد بيروت 1979 الطبعة الثانية دار النسر عمان 1994
إلى فيصل دراج صديق باريس القسم الأول
قبل 1967 مخيم عين بيت الماء / نابلس
1
(( سيشقون في مخيمنا الشوارع ! )) كانت هذه هي الإشاعة الأخيرة في تلك الأيام. أول من نقلها (( الشَّهم)) إلى الأستاذ صابر. كان في طريقه إلى مدرسة الوكالة كما هي عادته مثل كل صباح، فاعترض الشهم بقدميه المشلولتين سبيله، وصاح بصوت يهز المشاعر: (( سيشقون في مخيمنا الشوارع! )) وراح يزحف في الزقاق، وهو يضرب في الوحل. ثم حدَّث عنها صابر أخوه الأكبر، الطاهر، وقال إنه سيحاول المشاركة مع البيك في تعهد لجلب الحصى يأتيه ببعض الربح. سأله: (( وسيارة الأجرة الجديدة التي تدخر نقودك من أجل شرائها، هل أصبحت مشروعًا قديمًا ! )) أجاب بأنه ((يريد ربحًا عاجلاً وكبيرًا، أمَّا السيارة، فهي آتية فيما بعد، وبعد شق الشوارع هي آتية لا محالة! )) تركه، وانطلق بسيارة الأجرة القديمة التي له مغتبطًا. عندما عادت أم صابر من البلدية، لم تنفِ الخبر، ولم تؤكده. قالت: (( يقولون إنها شوارع معبَّدة من الإسفلت، كالطريق الجديدة التي يشقونها بين نابلس وجنين )). كانت الأم تذهب كل يوم لمقابلة مدير الشغل في البلدية كي تعمل في تعبيد هذه الطريق التي تمضي حتى الحدود، دون فائدة، رغم الوعود. هنا، ما زالوا يَعِدُونَها، ولديها أمل، رغم انتظارها ساعات هي وآخرون على باب البلدية، أمّا هناك، في دائرة الأشغال العامة، فقد طردوها. كان لخبر الشوارع وقع عجيب على المخيم: أبو رجب البقّال أخذ يقفز بقامته القصيرة بين أكياس الرز والسكر والعدس كلما أتاه أحد لشراء حاجة، وهو يكاد يطير من الفرح، مخبرًا بأن دكانه ستقع على الشارع الرئيسي، دون أن يسأل أحد عمَّن أباح للبقال خريطة المخيم الجديدة. وأبو سعدون صاحب المقهى راح يؤكد ويدعم قول أبي رجب، لأن المقهى يجاور دكان البقال، ومن اللازم أن يمر الشارع الرئيسي بأعتابه، وعلى الخصوص، بعد أن أنفق كل ما ادخره من كدح طوال عشر سنين قضاها في الكويت ليبنيه من الحجر، ويجعل له من الأسمنت سقفًا متينًا. إذن، سيقع مقهاه، على رصيف الشارع الرئيسي الذي سيقص المخيم من قلبه، معرجًا نحو الشرق، تاركًا الفرن من ورائه. مما أزعج أبا محمد الفرَّان، الذي راح يشيع بين الناس أنّ الشارع الرئيسي دون الفرن لا يساوي شيئًا، وأنّ عليهم الاحتجاج إذا كان الأمر صحيحًا. غيّر بدوره الخريطة، وجعل الشارع الرئيسي يمر بفرنه معرجًا نحو الغرب. ورغم وجود الفرن على طرف المخيم، إلا أنه قال بخيلاء لا يصدق: (( ومن أمام فرني تكون الساحة العامة! )). وراح إسماعيل أفندي، العاطل عن العمل بالوراثة، يشيد بعظمة المشروع، لكنه حذّر أهل المخيم من ألاعيب المختار، (( فيغنى على حسابنا ))! وعندما سأله أهل المخيم كيف سيغنى المختار على (( حسابنا)) والمشروع مشروع الدولة والوكالة معًا؟ لم يعطِ تفسيرًا مقنعًا، ومع ذلك، فقد صدّقه الجميع دون أن يأخذوا حذرهم من المختار، إذ كانت للمختار هيبته على الكل ما عدا إسماعيل أفندي الذي يطمع في اقتناص المخترة منه، وهو، لهذا، شنّها حربًا ضروسًا ضده. كان يقضي طوال وقته في المقهى، يشرب النارجيلة، ويثرثر، وبين آن وآن يشتم المختار منددًا بعيوبه. وبعد خبر الشوارع، قال: (( أليس من الخير لكم مختار مخلص يقرأ ويكتب بدلاً من مختار لص لا يقرأ ولا يكتب عدا عن أنه كاذب ومنافق؟! )) أطراه سعدون السمين، ابن صاحب المقهى قائلاً: (( ليس هناك في هذه الدنيا خير منك، يا إسماعيل أفندي، تباركت الأرض من نعلك! )) مما جعله يسدد ضربة خفيفة إلى بطنه، وهو يقهقه مزهوًّا، وأبو سعدون يقول: (( بشرط أن تعمل مجلسك هنا، في المقهى، مقهى كبير ونظيف من الحجر! كي تأتينا بالرواد. )) ويأخذ كلاهما – الأب والابن – في الحديث عن مآثر إسماعيل أفندي، المختار القادم الذي يقرأ ويكتب، والذي يفهم في هندسة الشوارع، ولو كان مختار المخيم اليوم لجعل منه الجنة التي وعد الله بها المتقين! لم يبق أحدٌ من أهل المخيم إلا وبني في خياله قصرًا، كأن شقَّ الشوارع آخر أمانيهم. ولم يبق أحد من أهل المخيم إلا وصنع لنفسه حلمًا، كأن شق الشوارع آخر أحلامهم. وكان بإمكانك أن تلاحظ كيف تمضي في عيون البؤس إشارات الضوء، وكيف يغصب أصحابها أنفسهم على ألا تمضي. لقد تحول مخيمهم البائس فجأة، بأزقته الفقيرة الموحلة، إلى مدينة غنية تزدهي بالأمل والنور! ولا تنتهي الأحاديث أبدًا: (( سيلعب الأولاد الكرة في شارع من الإسفلت! )) هكذا قالت بزهوٍّ لا يصدق العجوز (( ابنة الباشا )). كان الجميع يدعونها بـ (( ابنة الباشا )) لأنها كانت تدعو نفسها كذلك. وما لبثت أن راحت تصف لصابر، ربما للمرة الألف منذ أن عرفها، تلك الشوارع البيض التي تشق حديقة قصرهم في يافا، بقناديلها الزُّرْق، وأرصفتها الرخامية. أما أم عثمان، صديقة ابنة الباشا (( الروح بالروح ))، كما كانت تقول، وبحضور ابنة الباشا على الخصوص، فلم يكن لهم قصر في يافا ولا من يعلمون، عندما أتاها خبر الشوارع تَبَدَّتْ لها كل سكنات المخيم كالقصور، وصاحت من السعادة. وأبدى أبو ياقوت المتقاعد قبل سن التقاعد دلائل فرحه وهو يلوِّح بمسبحته المصنوعة من نوى الزيتون، إذ سينتهي عهد القذارة، وسيضع كرسيًّا على الرصيف ليجلس في الشمس كأيام زمان. وقفز زكي، الأخ الأصغر لصابر، بين يديه، وهو من عهد فيه الصمت والانطواء. نظر إليه، فوجده يخفق كلهب المشعل، وما لبث أن صاح: (( هكذا لن تدعس أُمُّنَا في الوحل! )) قعد أهل المخيم كلهم بانتظار الشوارع منذ اللحظة الأولى للإشاعة، حتى أنهم عندما قالوا لأم سليم بأنهم سيهدمون براكتها، أطلقت زغرودة، فهم سيبنون لها بالمقابل بيتًا من الحجر، وسيعوضونها بقليل من المال عن طرف من البراكة يأخذونه من أجل توسيع الرصيف، هكذا سيكون بإمكانها أن تشتري طاولة لابنتها سلمى تدرس عليها، وسيأتونها بالكهرباء. (( شوارع بلا كهرباء كطناجر الشوربة بلا ماء، أليس كذلك؟ ستدرس سلمى على ضوء الكهرباء، بينما نعمل أنا وسليمة في نسج الصوف لنبيعه، وسنكسب عيشنا جيدًا!)) ورغم أن أبا شعبان، بائع الفلافل، ليس سعيدًا بمهنته، وهو الفلاح أبًا عن جد ! (( فعندما ذهبت الأرض ذهبت الأصول )) إلا أنه عزم على نقل زاويته الخشبية من الزقاق الضيق الذي توجد فيه خيمته إلى الساحة العامة. سيتدبر أمره مع المختار من أجل دينارين دينًا يشتري بهما مقلى جديدًا وبعض الأدوات. كان واثقًا من أنه سيقبل، رغم الدينار الذي استدانه منه في العام الماضي، ولم يسدده. (( ستتحسن الأحوال، وسيسدد كل ديونه، وسيكون بإمكانه أن يدين بدلاً من أن يستدين ! )) وعزم الإسكافي عمُّ محمد على الكتابة لولده في ألمانيا طالبًا بعض النقود، إذ (( يجب أن يصلح الدكان، ويقيم واجهة زجاجية)). نسي مرضه، وكذلك جدة الأستاذ صابر، أقلعت عن الحديث عن مرضها، وبثِّ شكواها الدائمة، وراحت تتكلم مع حسنة، زوجة الطاهر، عن المشروع، رغم الكره الذي تبديه إحداهما للأخرى. أحاطت بهما بدرية، ابنة صالحة، خالة صابر، وساهمت في الحديث معهما. كانت ضيفة عليهما، لهذا راحت تغبطهما على أن يتحول ((مخيم عين بيت الماء )) فجأة إلى جنة، بينما (( مخيم الوحدات )) حيث تسكن، يغرق في الوحل والمجهول! مما أسعد حسنة كثيرًا، ولم تفهم الجدة ما الذي تعنيه بدرية، انعطفت على غطاء الصوف الذي لا يكبر أبدًا، وتابعت بصمت نسجه. ورغم أن مهنة أبي إيليا جرف الطين، ومنها يقتات خبز يومه، فإنه كان أكثر الناس طربًا للخبر، (( ليخلص من مهنة البؤس هذه ! )) واعتبر الشوارع عفوًا يناله من عند الله، بعد أن اعترف بأنه ارتكب في شبابه خطيئة، وراح يأمل في الحصول على مهنة نظيفة. أمَّا مروان، عامل المجاري، فقد ذهب إلى الجامع، توضأ، وصلى، وأخذ البركة من الشيخ الإمام، فهم (( سيعطونه تعهدًا لشق المجاري، وسيكف عن طرق أبواب الناس والصراخ في شوارع نابلس بحثًا عمن يريد إصلاح بالوعته، وكذلك سيكف أخواه زياد ومحفوظ عن القعود ساعات في ساحة السراي أمام الجامع الكبير، بانتظار مسح أحذية المصلين. حتى أن زميل صابر، الأستاذ زرزر، قد استغل أول فرصة، وهم في ساحة المدرسة، وأتاه بشعره الأكرت المندفع شبرًا فوق جبينه الضيق، ووجهه الملطخ بالمراهم والمساحيق، وفي ظنه إخفاء البثور المنفجرة أو معالجتها، ولمشيته التي تهتز لها إليتاه الملفوفتان، كانوا يعتقدون بأنه مخنث أو مخصي. قال، وهو يحاول تصنُّع الدهشة والعظمة، فيفشل: (( أما سمعت؟ سيشقون في المخيم شوارع عريضة مزروعة بالشجر وأعمدة الكهرباء! )) ورغم ضجيج الأولاد، انحنى على أذنه، وكشف له سرَّه الدفين: (( هكذا يمكن للمرء أن يتنزه بسيارة! )) كان ضجيج الأولاد قد ازداد في أقصى الساحة، وقطع من الغيوم القاتمة تساقطت بكثافة. تركه صابر، وذهب ليعرف السبب، فتفرق الأولاد، وراحوا يراقبونه بحذر. وللوهلة الأولى، ظن أنه يرى حيوانًا غريبًا يتحرك في الوحل، وحينما تبين في الحيوان صبيًّا لم يبلغ السابعة، تعثَّر استغرابًا، ولم يميز وجهه إلا بعد أن تقدم خطوات. كان الذباب على وجهه قناعًا متحركًا من الخراطيم الدقيقة والأجنحة، ورائحة نتنة تنبعث عنه، فكأن أحدهم ألقى في الوحل دلوًا من الوسخ والبول ! صار همه الوحيد إنقاذ الطفل، إذ كانت الخراطيم الدقيقة تثقب جفنه، وتسحب دمه، وفجأة، رآه، وهو يقبض على عدد منها، ويدفعها في فمه، ورآه، وهو يلوكها كقطعة شهية من اللحم. وبينما كان صابر يحاول أن يجمع نفسه في قلب الرعب، تقدم زرزر، وجذب الطفل، وراح يسدد إلى بطنه الركلات، والطفل يصرخ، إلى أن أنقذه صابر من قبضته. قال له إنه طفل مريض، لكنه انتزعه منه، وقد انتفخت أوداجه كديك الحبش الهائج مؤكدًا بأنه ما ضربه إلا لذلك، لأنه ترك نفسه يمرض دون أن يتعالج، وأخذه للمدير. وقبل أن يقرع الجرس، رآه صابر، وهو يركل الطفل حتى خارج المدرسة، ثم جاءه بوجهه المنبعج، وهو ينفخ ارتياحًا: (( كان بإمكانه أن ينقل العدوى لنا جميعًا! )) وصراخ الطفل يبتعد في الأزقة، كنفير الباخرة الغرقى. عندما عاد صابر إلى بيته في المساء، أحس بأنه شخص استحال إلى لحظة وعي حارة، لا يشعر بثيابه المهترئة، ولا يرصد خطواته المختنقة، وإنما تحول إلى قلب أحمر يمور كطائر جريح. وشعر بأنه يحلق فوق العالم، ثم ينظر، فيرى آلاف البيوت التي تنغرس في الطين، وكأنها آلاف الدمامل. وبدا أن كل هذا الكيان نتيجة عالم ملعون، أو حلت عليه اللعنة، كان كل شيء ملطخًا بالطين لدرجة تفرض الاعتقاد بأن الأرض تنبت بطينها كما تنبت الفُطور. تساقطت مع الليل كتل الغيوم، وصفعت الريح البيوت القصديرية، ومرَّ به بعض من أهل المخيم، وهم يعودون من المدينة، كانوا يزحفون كالسلاحف الرازحة أسفل حديد التعب، وكان أنين يأتي من بعيد، أو نباح عنيد، بينما تهرب الأضواء الصفراء من الثقوب. وقبل أن يجتاز زقاقهم، رأى أخاه الطاهر، وهو يلطم رجلاً هرمًا إلى أن أسقطه في الطين، والرجل يصفع بيديه وقدميه صفحته دون جدوى، وقد هرسته هذه الكلمات بين فكيها: - يجب أن تدفع وإلا قتلتك! وقذف الطاهر سلة الرجل العجوز بقدمه، فتبعثر الخبز في الأوحال، والرجل يهمهم بصعوبة: - بماذا أقسم لك؟ لقد أضعت صرة النقود. جذبه من خناقه، ونبر: - أيها الأفَّاق! أتظنني غبيًا؟ أتريد أن تنصب علي؟ فلم ينطق العجوز بكلمة وكأنه لفظ آخر أنفاسه. قال الطاهر للعجوز: - لا تركب معي منذ اليوم، فلا مكان عندي إلا لمن يسمعني نقوده كيف تصرخ كالقدر اللاسع! إذا قلت عنِّي تقيًّا، فهذه تقواي. وإذا قلت عنِّي ورعًا، فالماخور في نظري أشرف مكان. هناك، لا مكان فيه إلا للعاهرات، هذا صحيح، ولكن أن تعرف مسبقًا أنك ستدفع، وكم ستدفع، يجعل الأمر واضحًا منذ البداية. هكذا تصبح لكل شيء قيمته، وإلا ما فائدة النقود؟ ولماذا صنعوها؟ وقذفه مرة أخرى في الطين. عندما اقترب صابر من جدته الجالسة على العتبة سمعها تقول: - ستكون ليلة ماطرة ! وهي تشير بإصبعها إلى الغيوم. سألها عن أمه، فقالت إنها لم تعد بعد. جلس إلى جانبها، وراح كلاهما ينظران إلى الطريق الضائعة في الليل.
2
بدأ المطر يتساقط على المخيم، ممَّا اضطر صابر وجدته إلى دخول التناكية. كان المطر يعني عندهم أن يجعل للطين مخالب تمتد إلى أجسادهم أينما تكون، تنغرز في أعينهم، وتنغرز في قلوبهم، وتنغرز في خصورهم، ويغدون فريسة لا مثيل لها إلا في الدغل، أو تحت مهاميز الجنود. وكان البرد قد اشتد، وليس عندهم وقود ليشعلوا النار، ففرشت حسنة الحجرة بالبطانيات، ظنًا منها أنها تمنع تصاعد البخار الرطب من الأرض. جلست حسنة مع بدرية في الزاوية تقلبان مجلة ملونة دفعتا ثمنها فلسين لولد وجدها في إحدى مزابل المدينة، وبين آن وآن، كانت تندُّ عنهما ضحكة هامسة، أو همسة ضاحكة، وصابر يسترق النظر إليهما من وراء قماشة الرسم، إلى بدرية على الخصوص. (( بدرية كالبدر! )) هكذا كانت أمه تقول، لوجهها الأبيض المدور، وشعرها الأسود كالليل. وكانت أمه تخشى أن يلحق بدرية سوء، تراها، فتسري في بدنك حرارة الرغيف، ويدهشك أنها نقية نقاء الياسمين، إلى أن كفَّ عن ملاحقة بدرية بنظراته الخفية، رفع الفتيل، وحدَّق في لوحته الناقصة. كانت الخطوط الأولى لم تنضج بعد، وهي ما أن تشق طريقها طولاً حتى تعترضها حواجز وموانع، فتضطر إلى الانحراف. وكان الشوق يلهب بدايتها كلها، بذلك اللون الدموي، المشحون بغضب، لكن الفراغات ابتلعت حيوية الحركة. ربما لأن اللوحة لم تكتمل بعد، وربما لضوء القنديل، وربما لسبب آخر. غمس صابر في اللون الدموي، وراح يبتعث مشاعر الحياة في خطوطه المندفعة بصيحة دومًا إلى أعلى، والمطر يواصل سقوطه بصيحة دومًا إلى أسفل، ويتغلغل في الأرض. وفجأة، غيَّر الريشة واللون، وكان هذه المرة أخضر داكنًا، وراح يعمق جوانب خطوطه، فتأخذ شكل الأرصفة العريضة، وتصبح الخطوط شوارع أو أنهار دم، تصطدم دومًا بحواجز جامدة وثابتة، وكأنها هناك منذ كانت الأرض كتلاً من الصخر. وصلته من خلفه ضحكات ساخرة، فتوقف عن العمل، وتردد قبل أن يلتفت، ثم التفت، فوجد حسنة وبدرية تتابعانه، وكأنهما تتابعانه منذ أن بدأ، ولكي يقلل من حدة ضحكاتهما اللاسعة ابتسم، وقال: - هذه لوحة تجريدية ... وتردد قبل أن يضيف: - نموذج لتلاميذي. وكأنه دفع أصابعه في خاصرتيهما، وقرص نهديهما، إذ تضاعف الغنج والضحك، فانغلق على نفسه، وظنَّ أنه لم يمسك بالريشة إلا اليوم، ولم يكن أستاذًا للرسم منذ سنوات، مع جوائز تقدير عديدة وميداليات. التفت إلى جدته لتقول له من يكون حقًّا، أو ليقول لها حقيقته الخالصة، فوجدها غارقة في وحدتها، تنسج بعودين غطاء الصوف الذي لا ينتهي أبدًا. ظن أنها تبكي، بينما تزداد ضحكات بدرية وحسنة، وتهويان بيديهما عليه صفعًا. نظر مرة أخرى إليهما، وهو يتصبب عرقًا، فوجدهما في زاويتهما تقلبان المجلة كما كانتا دومًا. لم يصدق أن ذلك كله لم يكن إلا إيحاء لخياله، أو إرهاصًا لداخله، وبسرعة، نصب قماشة جديدة، وراح يشق بفأس أمه شارعًا طويلاً مليئًا بالشوك والصخر. وبدا حائرًا بعض الشيء، لأن أمه تأخرت عن العودة إلى البيت، والمطر أخذ يصب مدرارًا. لكن ريشته ما لبثت أن راحت تعمل بنشاط، فتنطلق خطوطه الحارة، وتتناسق حركاته الرشيقة، وتصبح اللوحة على وشك الدخول في مرحلتها الثانية، فينطفئ المصباح في اللحظة الحاسمة.
3
ملأت حسنة المصباح بما تبقى في القنينة من كاز، واقتربت به من صابر، وهي تنظر بتحد في عينيه، دون أن تبالي بلوحته. أذهلته نظراتها الجسورة، فخفض عينيه، وأحس بانسحاب ثوبها في خصره، وهي تدور به عائدة إلى مكانها، لكن دخول أخيه الأصغر قد أنقذه. رأى كيف ينفض عنه المطر، فلم يستطع إلا أن يبتسم لشعره المبعثر، وثوبه المبلل، وطلعته الخالبة للعقل. ومع ذلك، بقي زكي متجهمًا. ألقى عددًا من الأرغفة التي لفَّها بكيس من الكتان، مكسبه من بيع الكعك، وسأل عن أمه، فأخبره صابر بأنها لم تعد بعد. أخذ مجلسًا قرب جدته، وبقي منتظرًا، فنهضت الجدة بصعوبة، وأحضرت قميصًا خشنًا من صندوق، وراحت تجفف له شعره. عند ذاك، احتدم المطر، وتساقط بأقصى حدة، فتحولت نقرات المناقير على السقف القصديري إلى رجم بالحجر. وعندما طلب زكي من جدته أن تترك للشهم رغيفًا، تساءلت إذا ما كان هو المسؤول عنه، وأبوه كاللوح لا يريد أن يعمل! قال لها إن الشهم كسيح، وهو صديقه الوحيد. لم تأبه حسنة وبدرية بالحديث، بقيتا منسجمتين مع صور المجلة وألوانها، تضحكان تارة، وتهمسان تارة، وكأنهما غائبتان عن العالم. بدأ خيط ماء يسيل من السقف، ويصب في الحجرة، فوضع صابر تنكة تحته، ثم ما لبث أن وصلته صيحات: الغوث! الغوث! كان بيت أم سليم مصدرها، وكانت الصيحات قد دفعت صابر إلى الجري صوبها في المطر والوحل. جاء بعض الرجال، وأم سليم شبه عارية تلطم وجهها أمام بيتها المهدم، بعد أن حاولت سليمة وسلمى رفع السقف دون فائدة. تعاون الرجال على رفعه، وصارت أمام البيت بحيرة، وهم يغطسون فيها، والليل لطخة. كانوا يطلبون العون من بعضهم البعض، وهم ينتهرون بعضهم، وكأن أحدهم يحقد على الآخر. وكانوا يشكّون في بعضهم البعض، وكأن كل هذا المصاب من صنعهم. عندما عاد صابر، توقف على عتبة البيت، وهو يرى أخاه صالح، الميكانيكي، عائدًا من العمل، ورأى تحت التماع المطر وجهه وساعده وثوبه المبقع بالشحم. بدا صالح فزعًا لما رأى الوحل يلطم أخاه، فكأنه خارج من معركة. حكى له ما حدث، فاتجه حالاً إلى بيت أم سليم للاطمئنان عليها وعلى ابنتيها، على سلمى خصوصًا، فهو ينوي الزواج منها منذ زمن، لولا نصيحة أمه له بأن يتروى، ريثما تقوى ساعده، ويصبح قادرًا على فتح بيت. دخل صابر التناكية، فاعترضه الستار الذي يقسمها نصفين. في نصف ينام الطاهر وزوجه، وفي نصف ينامون كلهم، الأم والجدة وبدرية وصالح وزكي وصابر. كانت حسنة تستلقي هناك، باردة وشقية، بعيدًا عن أحضان زوجها. وكان زكي وبدرية ينامان تحت بطانية، وأحدهما يعطي ظهره للآخر. وعلى مقربة منهما، جدته، تفتح عينيها، وهي نائمة، بعد أن توقفت عن النسيج. تقدم صابر منها، وأغلق لها عينيها، ثم وقف خلف النافذة الضيقة، وراح ينظر إلى الوحل والليل عسى أن تظهر أمه من رأس الطريق. بعد مضي بعض الوقت، جاء شبح أسود، وهو يدنو منه بخطوات بطيئة، وصعبة، عرف فيه سعد الله العتال، فأطفأ صابر المصباح ليمضي دون أن يلحظ حضوره وراء النافذة. وما كان بإمكانه أن يلحظه حتى والمصباح مشتعل، وهو يعصب رأسه بحبل سميك شدَّ به كيسًا ضخمًا من الفحم على ظهره. كان المطر يصب بغزارة، والعتمة شديدة، وسعد الله يشق الطريق بصعوبة، متعثرًا بين خطوة وأخرى. كان يقذف قدمه في الطين، ويرفعها بعذاب كأنها مغروسة في بركة من المطاط المذاب. توقف سعد الله عند باب المقهى، والتفت وراءه مرات، وتأوّه، دون أن يبحث عن شيء، ثم دفع الباب، فاستقبله أبو سعدون عابسًا لتأخره في نقل الفحم، والزبائن بانتظار تدخين النارجيلة. - لتتعوضوا عن النارجيلة بالسجائر. هكذا قال سعد الله لصاحب المقهى، وهو ينزع عن جبينه الحبل المنغرز في لحم جمجمته، ويعصر ثوبه المشرب بالماء. زجره أبو سعدون، وصاح بالرواد: - لقد وصل الفحم ! بنبرة كلها حماسة وحمية. عندما وقعوا على سعد الله، انطلقوا يقهقهون. كان بؤس الحياة وطينها يجعلانه مثار ضحك الآخرين! ولم يعرف سعد الله ماذا يفعل، انفجر ضاحكًا مثلهم، فأسقط أبو سعدون في يده قرشين، وقال كأنه لا يخاطب شخصًا معينًا: - لقد أضاع سعد الله الطريق! وذهب لينفخ النار في منقل الفحم، وسعدون ليغسل التنباك، ويحشو رؤوس الأراجيل، والرواد يطالبون بالتعجيل. طلب سعد الله نارجيلة هو الآخر، وسقاه الأستاذ زرزر فنجان قهوة على حسابه طالبًا منه، وهو يهمس في أذنه، أن ينقل له الطاولة التي أعطاه إياها المدير من المدرسة إلى بيته. وعندما أثقل الدخان رؤوسهم، أعادوا الحديث عن الشوارع. قال الطاهر: - إذا كان الأمر كذلك، فسأشارك البيك في تعهد لجلب الحصى. لم يبالوا بشهوة الربح التي غلبت على نبرته، كان كلٌّ منهم يفكر في أمر آخر، شخصي، وخاص. طلب مروان منه أن يتوسط له عند البيك لأي تعهد كان، فصفق الطاهر قفاه، وراح يشتمه، ثم سأله: - ومن أين لك بالمال؟ الدنيا مال، وأنت فأر ابن فأر لا أشتريك بتعريفة! خفض مروان رأسه، وقال: - لم تفهمني، يا الطاهر! - إذن ماذا؟ التعهد يحتاج لمن له قضيب من ذهب، فهل تبصق نقودًا هذه الأيام؟ قال مروان مهمومًا: - اسمعني، يا الطاهر، أريد ترميم الخزان. راح الطاهر يصفعه مقهقهًا، ومروان يخفض رأسه مذلولاً: - دع البيك يتوسط لي، فنقتسم ما يبعثه الوهَّاب. اسودت عينا الطاهر بشدة، ثم توقدت الحلكة فيهما ببريق النقود. - ما رأيك؟ قال الطاهر مفكرًا: - هذا شيء آخر، وسنرى. قال سعد الله: - شوارع الإسفلت شيء آخر، سأستدين، وأشتري كروسة بأربع عجلات. وبعد مضي بعض الوقت، سأشتري حذاء جديدًا! دفع في وجوههم قدميه، وأراهم كيف ذبحتهما الجروح، وانفجرت فيهما الدمامل، فانفجروا يقهقهون على أمنية سعد الله الذي ما لبث أن شاركهم الضحك، وهو يقذف رأسه إلى الوراء، وإلى الأمام، كالقارورة. قال إسماعيل أفندي: - إذا جعلتموني مختارًا عليكم توسطت لكم عند الصغير والكبير كي أبني لكم دكاكين وبيوتًا من الحجر تزدان بها الشوارع، ولكنكم لا تحركون ساكنًا، ترضيكم هذه الحياة التي لا ترضي أحدًا من البشر. وعده الطاهر أن يتحرك من أجله عند البيك، فلم يقتنع بكلامه، لأنه صديق أيضًا للمختار، فأقسم الطاهر أن حذاءه أفضل عنده من المختار رغم أن كليهما صديقه. وما لبث أن قال، وفي نبرته العتاب: - لكنك عاطل عن العمل، يا إسماعيل أفندي، قاعد في القهوة ليل نهار! هبَّ إسماعيل أفندي ملتهب العقل: - ليست هناك أشغال بمقامي... ليتابع سعدون: - ...إلا المخترة ! على سماعه لما يقول،عبر إسماعيل أفندي عن عميق رضاه، فقال أبو محمد الفران، وهو يرفع شاربه الكثيف عن شفته العليا كي يتمكن من الكلام: - إذا أصبحتَ مختارًا، يا سيد إسماعيل أفندي، أتحفتك يوميًّا برغيف فينو من القمح الأبيض على كيفك! يا سلام يا سيد إسماعيل أفندي لو يحقق الله الآمال! تثنى أبو سعدون بقامته النحيفة، وهو يقول منفعلاً: - كان أحدكم يحلم بشوارع من الإسفلت تكتسح المخيم عن بكرة أبيه؟ قالوا: لا. فأكَّد لهم، وهو لم يزل منفعلاً: - ستأتي المخترة لإسماعيل أفندي بإذن الله، وسنقلع عين الأعداء! دخل أبو رجب، وعلى التو، نشبت مشادة حادة بينه وبين الفران حول موقع الشارع الرئيسي. ولما أيّد أبو سعدون جاره البقّال، عزم أبو محمد على مغادرة المقهى، وعدم الرجوع إليها طالما بقي حيّا. إلا أنهم أمسكوه، وشدوه في مقعده، وراحوا يشتركون في رسم الخريطة التي ترضيهم جميعًا. التحق بهم الإسكافي عم محمد، وبعد قليل، انزوى بالأستاذ زرزر، وطلب منه أن يكتب رسالة لولده الذي في ألمانيا كي يبعث له بعض الفرنكات من أجل تجديد الدكان. فصحَّحه زرزر: - تريد أن تقول بعض الماركات. وأفهمه أن الفرنك نقد فرنسي، والمارك نقد ألماني. اعترف الإسكافي بجهله، وراح يثني على سعة ثقافة الأستاذ زرزر وعلمه، مما أثار حنق إسماعيل أفندي الذي لا يرى مثقفًا قبله ولا عالمًا بعده، فتشاجرا، وصمّم كل منهما على كتابة الرسالة، وكل منهما يبدي تفوقه على الآخر. وبعد أن اعترف الجميع بسعة ثقافة إسماعيل أفندي وعلمه هو أيضًا الذي لا يعلى عليه عال، وافق على أن يترك كتابة الرسالة للأستاذ زرزر، وخاصة بعد أن لفت الطاهر انتباهه إلى اقتراب موعد (( الزهرة )). كانوا يلعبون القمار ليليًّا بواسطة حجارة الزهر، يضعون منها اثنين في فنجان، ويخفقونه، ثم يلقون بالحجرين، بينما يكون كل منهم قد راهن على رقم لقاء مبلغ من المال. راح مروان يتابع لعبتهم عن كثب، ثم نهض إلى مكان معتم، كنسه، وفرش حطته، وصلى ركعتين (( ليرضى الله عنه، ويوفقه، ويفتح عليه كما فتح على أهل المخيم جميعًا بقرار شق الشوارع ))، والآخرون يخفقون حجارة الزهر في الفنجان، ويلقونها، يخسرون القروش أو يربحونها. جاء دور (( القهوة البيضاء )) كما يدعوها أبو سعدون، صبَّها في الأكواب، وقدمها لهم على صينية، فقال الطاهر إنَّها من العرق الرديء هذه المرة، لكن إسماعيل أفندي راح يثني على أبي سعدون، وكل ما يقدمه أبو سعدون، غامزًا، للحظ الذي يحالفه الليلة. تفتقت السماء وهجًا، وتفجر الرعد، وتساقطت أطنان المطر، ودفعة واحدة، توقف كل شيء، ولكن الدجنة بقيت على حالها، وبقيت الدنيا لهم قبرًا. وبعد قليل، وصلهم وقع خطوات أثارت انتباه الطاهر، فتركهم يتساقطون في الدخان، وغادر المقهى معللاً عودته في الحال. وفي الخارج، عبق الموت في كل مكان، والهواء البارد! كان الطاهر قد شدَّ على رأسه الطاقية، وراح يجري، دون أن يفطن لردائه، وهو يتجرجر في الطين، إلى أن وقع على صاحبة الخطوات قبل أن تدلف إلى الزقاق، بثوبها الأسود، وشالها الأبيض. وعلى مقربة منها، خفَّف من سرعة خطاه، لكنها ضاعفت خطاها، فأخذ يزحف من ورائها بحذر، كالذئب في جلد حمل. كان يحيط بيتها القصديري جدار من أعواد القصب، اجتازته، وفتحت الباب، ثم وقفت في عرضه: لن تَفُتَّ من عَضُدها تلك الخطوات المترصدة التي تعرف تمامًا ماذا تبغي. توقف الطاهر على بُعْدٍ وجيز منها، وقد دقَّه الخوف لأول وهلة. هاتان العينان السوداوان كم هما صامدتان في قلب الخطر! صفقت الباب في وجهه، فولى على عقبيه، والخبية تكاد تسحقه، لكنَّه عزم على أن يكون عنيفًا في المرة القادمة. سيقتحم عليها بيتها، ويستعمل كل الوسائل من أجل الوصول إلى غايته، وإذلالها، حتى ولو اضطره ذلك إلى إثارة أكبر الفضائح. عاد الطاهر، والتحق بحلقة المقامرين دون أن يفطن للخسارة التي لحقته. أنفق معظم مكسبه اليومي، ولم يعد بإمكانه أن يعهد للبيك ما يدخره من مبلغ متفق عليّه، وهو من ظن مضاعفته. ترك اللعب، وراح يجرع العرق بصحبة سعدون ومروان. وبعد أن تناول مروان كأسين بدافع صداقته مع الطاهر، انزوى ليصلى من جديد ركعتين لله تعالى، من أجل أن يغفر له، ويرضى عنه، ويوفقه في الدنيا والآخرة. أخذ الطاهر، وقد أطلق العرق سراحه، يصيح مهددًا بأنه سيقتحم عليها بيتها، ويدمر عينيها السوداوين بعد أن دمرتا قلبه! فقلب سعدون على ظهره من شدة الضحك، وسأل من تكون صاحبة الحظ السعيد؟ ودون أدنى تردد، قال الطاهر: - الأرملة ! كان اسمها ثريا، لكنهم دعوها بـ (( الأرملة ))، قالوا إنها فقدت أباها في إضراب الستة شهور سنة 36. وقالت ابنة الباشا إنها تعرف أباها جيدًا، استشهد مرتين، مرة في 36، ومرة في 48. وهناك رواية تقول إن أباها قتل كثيرًا من الإنجليز، باغتهم بسلاحه، وهم يجوبون الشوارع، وألقى على سياراتهم العسكرية بعض القنابل. وفي إحدى المرات، حاصروه في أحد الأزقة، فلجأ إلى أحد بيوت، وساعده الجميع على الهرب. تركوه يقفز من سطح لسطح، حتى وجد نفسه بعيدًا عن الخطر. كان يخفي الأسلحة في بطن الأرض، في الآبار. وعندما كان يريد وأصحابه تنفيذ العمليات ضد المحتل، كانوا يخرجونها في الليل. كم أزعج الإنجليز في ذلك الوقت! جعلوا جائزة لكل من يقبض عليه، وألصقوا صوره في كل مكان، لكن أحدًا لم يشر بخنصره إليه، ولم يعرفوا أين كان. قالوا إنه كان يبدل هيئته عند كل عملية، وإذا اضطره الانتقال في ضوء الشمس، أخفى نفسه في ثوب، ولفَّ رأسه بكوفية. وفي نهاية الأمر، أحكموا الطوق عليه، فلم يستطيع الإفلات. كان قد سعى من أجل سلاح في إحدى البيارات، ألقوا عليه القنابل، وهو في البئر، وفجَّروه. وحكاية أخرى تقول إنه اختبأ في أحد مخازن الفلاحين لحظة تطويقه، بين تلال العشب الجاف، فطلب منه الإنجليز أن يسلم نفسه، لكنه أبى، وقتل الكابتن، فسددوا بنادقهم، وأحالوه إلى جسد أحمر مزدان بالرصاص. وقالوا إنها فقدت زوجها في حرب 48، وكان لها طفل عمره عام، فقدته أيضًا في هذه الحرب. وهناك من يقول إن زوجها لم يزل حيًّا، وهو يعيش في فلسطين المحتلة، يقارع الصهاينة، ويقتل عددًا منهم كل يوم. وبين آن وآن، يأتي المخيم على رؤوس أصابعه في الليل، كيلا يراه أحد، ينام في فراش زوجه، ومع الفجر، ينهض قبل كل الناس، ويعود على رؤوس أصابعه من حيث أتى. كانوا يعتقدون تارة بأنه كان ميتًا، وتارة بأنه كان حيًّا. وكانت تعبر عن قناعتهم بعمله البطولي بسمتهم المستسلمة: يجتمعون في حلقات، وهم يتبادلون الحديث عنه، ويخترعون القصص الأسطورية. يفكرون مرة أخرى فيها، في الأرملة، وفي حالة الغموض التي تثيرها تحركاتها من حولها. ثوبها الأسود، وشالها الأبيض، وعودتها المتأخرة دومًا في الليل. كانت تثير أقاويل شتى، فيرصدون تحركاتها دون أن يصلوا إلى كشفها، وحل رموزها. وكان من عادتهم أن يهتموا بامرىء زمنًا، فيصبح على كل لسان، ثم يهملونه زمنًا ليعودوا إلى الاهتمام به مرة أخرى، وهكذا كان حالهم معها. ومع مر الأيام، ازداد لغز المرأة تعقيدًا: أين تذهب؟ ماذا تعمل؟ مع من تعمل؟ ماذا لديها في المدينة؟ عجزوا عن الجواب، فكرهها بعضهم، واشتهاها بعضهم، وظلت وحيدة. في تلك الليلة، دقت ابنة الباشا قدمها في أرض المقهى، وصاحت بالرجال كي يأتوا ليحموا النساء من أفراد الشرطة. عندما خرجوا ليقفوا على الخبر، رأوا أشباحًا داكنة تجري في الأزقة بالسلاح، تدق الأبواب بالأكعاب، وتخرج الرجال تحت تهديد الأسلحة. لطمت النساء وجوههن، وصاح الأطفال، ولا أحد يفعل شيئًا. وفي المخفر، عرفوا أن الشرطة تبحث عن شوقي وجماعته بعد أن سطوا، في نابلس، على مخزن لبيع الجواهر. استجوب أبو نواف، شاويش المخفر، من بين من استجوب، أبا شوقي، وللخزي الذي أصابه، أخذ أبو شوقي يبكي، وفي الأخير، صرفوهم تحت التهديد، دون أن ينام أحد ليلتها. واستمر نواح النساء حتى الصباح، والصباح يرزح تحت عبء المخيم. لم تعد أم صابر، بل عاد المطر، وزمجر الوحل. ذهب كل من زكي وصالح إلى عمله، وذهب الطاهر في سيارته القديمة بالعمال إلى المدينة. بدأت حسنة وبدرية تطويان الأغطية، ثم خرجتا تجرفان الوحل عن العتبة، وصابر يحدق في لوحته الناقصة. وبعد قليل، وصلته همهمات جدته، وهي تتوضأ لتصلي، فلم يفهم أهي تطلب عون الله أم تحادث شخصًا آخر. أنصت إلى تأوهاتها، وتوسلاتها، وسمعها تقول بصوت شقي: - يا إلهي الطيب! ليكن اليوم يوم قيامتك! يا إلهي الطيب!
4
لم يعمل صابر في ذلك اليوم، ذهب إلى المدرسة، وتحت إبطه لوحته الناقصة، فقال له المدير أن المدرسة تغلق أبوابها، لأن الأولاد يجرفون مع آبائهم الوحل عن عتبات بيوتهم. عاد صابر من حيث جاء، وضع اللوحة في البيت، وتناول المجرفة. كانت السماء قاتمة، والأزقة تدور في تيارات منحرفة. هناك من يجرف الوحل، وهناك من يرفع السقف، وهناك من يعالج بابًا كسرته الشرطة. وكانت الأبواب مفتوحة للعاصفة، والأطفال عراة على العتبات، والوجوه عابسة. رأى صابر الأرملة عارية الذراعين من وراء أعواد القصب، تجرف الوحل الذي دَهِمَ بابها. جاءت عيناه في عينيها، فبادلته نظرة طويلة، استشعر فيها طعم الغربة المرُّ. ثم دخلت بيتها، وفتحت نافذتها، وبقيت ترنو إليه لفترة. خفق قلبه لاختلاج الهدبين، ودفئت نفسه بسواد العينين، وعندما استدار، وجد حسنة تراقبه عن كثب، فارتبك، ولاحظ على وجهها القلق. وما لبثت حسنة أن انحنت، وراحت تحاول ما استطاعت تنظيف البيت. كان أهل المخيم كلهم يحاولون ما استطاعوا تنظيف بيوتهم، لكن النهر الأسود كان أقوى. كان يرشقهم في وجوههم كالمداد، وعبثًا يحاولون إزالته. وكانت الأرملة قد أغلقت النافذة، والباب، وجعلت من حولها طوقًا. عاودت صابر نظراتها إليه، ولم تكن هذه هي المرة الأولى، فتأجج من نفسه غضبًا، لأنه لا يفعل شيئًا، وعليه أن يفعل شيئًا. صبَّ الجميع جام غضبهم على أولئك الذين لا يعجلون بشق الشوارع، ليخلصوا من عيشة الوحل، ومصيبة الوحل، ومخيم الوحل التعيس. أخذ الجميع يشتمون سوء الطالع، ومن كان السبب، وأيام آخر زمن. كان أكثرهم نقمة أبو ياقوت الذي لم يكن يتوقع في حياته أبدًا أن تنقلب أيام العز في فلسطين فجأة إلى أيام شظف، حين كانت له بيارات برتقال، وحامض، وزيتون، وخدم، وحشم! تشهد لأبي ياقوت ابنة الباشا، ويشهد لابنة الباشا أبو ياقوت. قصر أبيها، وحديقتهم ذات الشوارع البيض والقناديل الزرق والأرصفة الرخامية! وأخذ كلاهما يعيد الحديث عن أيام العز والكرامة والناس الطيبين. ثم تدخل أبو إيليا، وذكرهم كيف كانوا يشترون كيس البرتقال بتعريفة، أما اليوم فهم لا يحصلون على التعريفة إلا بشِق الأنفس، عدا عن أن كيلو البرتقال الواحد بخمسة قروش. سألته أم عثمان هل تصوَّر مرة واحدة في حياته أن يرى طينًا كهذا؟ فنفى. هل مشي يومًا واحدًا في حياته حافيًا؟ فنفى. هل دعس الطين مرة واحدة في حياته حتى وفي قدميه حذاء؟ فنفى. قالت، حقًّا كنت فلاحة أعمل في أرضي أيام الشتاء، لكنني كنت أمتلك حذاء إيطالي الصنع من الجلد اللماع! صاحت ابنة الباشا: لبسنا أحسن الثياب، وأكلنا أفخر الطعام، وجبنا البلاد كلها، حيفا ويافا وعكا، وركبنا المراكب التي تعبر البحر! فتنهد الجميع قائلين: البحر! البحر! ثم اهتز أبو ياقوت، وهو يضرب في كفه مسبحة نوى الزيتون، وصاح: وشجر الزيتون؟ فتنهد الجميع قائلين: شجر الزيتون! شجر الزيتون! كان صابر يرمي النظر إليهم، فشاهد كيف يرشق الطين سواعدهم. ثم لا تلبث الغيوم أن تهبط، وتزداد كثافة، فتزداد ما بينهم العتمة، ويذهب في البحث عنها دون أن يجدها. لم تفتح الأرملة نافذتها مرة أخرى، وكم كانت حاجته ماسة إلى الشعور بوجوده في عينيها السوداوين، بسبب الغيوم المعتمة. تذكر وجه حسنة الضائق، وكأنها تحاسبه على ذلك، فقال لنفسه: ما الخطورة في الأمر؟ كانت الأرملة، وموضوع الأرملة، والحديث عن الأرملة، كل هذا يشده منذ البداية. وهو غائص في أفكاره، جاء شرطيان، وطرقا على الأرملة الباب، فقذفه الشرطيان خارج أفكاره. وبعد قليل، اقتاد الشرطيان الأرملة إلى المخفر، وعيون الصغار والكبار تلاحقها. مرت بصابر، وهو يلجمه الصمت، فلم يصهل، ولم يضرب حافره في الأرض. وقبل أن تخفيها جمهرة الأولاد، لمح أخاه زكي يظهر عند آخر الزقاق بصحبة الشهم، وهو يزحف إلى جانبه. انطلق صابر باتجاهه، كان محتارًا لوجوده في المخيم في تلك الساعة، وقد حسبه يبيع الكعك في ((رفيديا )). أخذه زكي إلى جانب، وكشف الغموض عن المسألة: - كان شوقي، سارق المجوهرات، مختبئًا في بيت الأرملة، رأيته بأم عيني في اللحظة التي غادره فيها في الصباح. وعلى التو، ذهبت إلى المخفر، وأخبرت أبا نواف. لهذا، هم يقتادونها للتحقيق.
5
علم صابر من زرزر أن لجنة من دائرة الأشغال العامة ستأتي لاختيار بعض السواعد القوية من رجال ونساء المخيم للعمل في شق الشوارع. وبعد أن فقأ بظفره أحد البثور في وجهه، قال متحمسًا: - سيتحول المخيم إلى ورشة عمل! دعاه ليشرب معه قهوة، فاعتذر، وتابع طريقه. كانت تساوره مخاوف بخصوص الأرملة، وكأنهم أخذوا أمه. ولكن أين هي أمه؟ لا بد أنها افتكت فأسًا، وهي الآن تعبد الطريق الذاهبة إلى الحدود. قال لنفسه: لم تعد لأن المسافة بعيدة، وستعود حتمًا بعد أن تصل. لم يمر صابر بأحد إلا وروى له خبر اللجنة التي ستختار السواعد القوية للعمل في شق الشوارع، ولم يمر صابر بأحد إلا ورآه سعيدًا بعد أن استعد الجميع للعمل: النساء والرجال والشيوخ والشبان، وهَمّ الواحد منهم أن يكسب قرشين حلال يسد بهما فمًا جائعًا أو دينا قديمًا. وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، أن يشارك في عمل تجارة، أو شراء سيارة من النوع الرفيع. قال أبو ياقوت، وهو يشد مسبحته إلى قلبه، بأنه سيتعهد – بعد أن عجز عن الشراء – حقلاً لأشجار الزيتون. وحينما شعر بأنه لم يقنع صابر، لأن التعهد أيضًا غال، قال إن الأسرة عن بكرة أبيها ستعمل في شق الشوارع، بدءًا به، بأبي ياقوت المتقاعد قبل سن التقاعد، ومرورًا بأم ياقوت، وياقوت، وعبد الله، وعبد اللطيف، وحسين، وسمرة، وليس انتهاءً بابنه الأصغر يوسف، فسيبعث من وراء أبناء أعمامه، وإخوته، وأبناء وبنات إخوته القاطنين في مخيم الوحدات، ومخيم بلاطة، كلهم سواعدهم قوية والحمد لله. استعد الكثيرون من أهل المخيم الذين لا مهنة لهم لأن يتعلموا المهنة الجديدة، والذين لهم مهنة مدخولها قليل لأن يبدلوها. كان صابر يستمع إليهم طوال الوقت، وهو يفكر في الأرملة: هل احتجزوها؟ هل أزعجوها؟ هل أساؤوا معاملتها؟ كان على ثقة من براءتها. لقد سبق وفتشوا بيتها في الليل، فكيف يخرج شوقي منه في الصباح؟! اعتقد أن زكي ارتكب خطأ، فربما هناك شخص آخر، وقد نسى الجميع وجه شوقي بعد كل ذلك الغياب، إذ يرجع غيابه إلى أول حادثة نهب قام بها، ليحبسوه طوال أعوام. وبعد أن قضى مدة العقوبة، وجاء يدق على أبيه الباب، طرده شر طردة، فلم يطأ – من يومها – عتبة المخيم. أخباره فقط هي التي ظلت تهم الجميع، كأخبار كل اللصوص والقتلة. ولماذا يعود شوقي الآن؟ وإلى بيت الأرملة؟ لماذا الأرملة بالذات؟ وإذا لم يكن شوقي، إذن من يكون؟ ضايقته الفكرة كثيرًا، لأنه يحترم الأرملة، ولا يشك في سلوكها. أيكون زوجها لم يزل حيًّا؟ أيكون حقيقيًا ما ابتدعه أهل المخيم من خيال؟ وبعد أن استبعد ذلك، قال لنفسه، ربما كان شوقي بالفعل قد اختبأ خلف أعواد القصب. وفي كل مرة، استبعد دخوله البيت، واختباءه تحت السرير أو فوقه! وقال في الأخير، كل ذلك من تدبير الشاويش. كان الشاويش أبو نواف كريهًا ومكروهًا من طرف الجميع، يرصد حركات أهل المخيم، ويرفع عنهم التقارير إلى رؤسائه في عمان. وكان أهل المخيم يكرهونه، ويخافونه في آن واحد. كان ذكره كافيًا لأن يوقف اللقمة في الحلق، وكان صابر يعجب لتلك العلاقة التي تربط الشاويش بأخيه الطاهر، ويبرر الطاهر ذلك بأنها علاقة لا تتعدى إحضار بعض صناديق البيرة، والمشاركة بشرب كأس أو كاسين. وفي إحدى المرات، قالوا له إنها علاقة تتعدى ما قاله الطاهر إلى جلب النساء، والتجسس على الناس، لكنه لم يصدق ذلك. وعندما تكلم مع الطاهر في الأمر، نفى بشدة، وراح يحلف الأيمان المغلظة، أن ذلك ليس صحيحًا، وهو من اختراع الحاسدين ليس إلا! وفي يوم لاحق، قال الطاهر لصابر – دون أن يتوقع ذلك – إن معرفته لأبي نواف قديمة، تعود إلى نكبة 48. والحقيقة، قبل أن يغدو ضابطًا في الشرطة، كان أبو نواف جنديًّا في جيش الأمير عبد الله، والطاهر من أعوان المفتي، وتكلم – دون أن يتوقع صابر ذلك أيضًا – عن انسحاب الاثنين أمام تقدم القوات اليهودية. وطلب من صابر ألا يخبر أحدًا، فهذه أمور عائلية يجب ألا يعرفها الجميع. وبعد عدة أيام، حدث صابر أخاه عما قاله، عنه وعن الشاويش، ليوضح له أكثر، فتجاهل أنه قال ذلك، وأصر على أنه لم ينطق حرفًا واحدًا مما روى، ومن يومها، وهو يتجنب الحديث عن هذا الموضوع. قال صابر لنفسه دهشًا: ربما كان الطاهر سكران المخيم وقتها، لكنه لم يكن متأكدًا. وبدأ بمراقبته، فلم يمسك عليه شيئًا (( شائنًا )). كان الطاهر يسعى بشتى الطرق لشراء سيارة الأجرة الجديدة، وكان بمقدوره أن يضحي بعائلته كلها، أن يجعلها تموت جوعًا، أو تهلك في الوحل، في سبيل أن يتحقق له ذلك. كان لا يريد غضب الشاويش، ولا البيك، ولا المختار، ولا كل صاحب أمر، لئلا يقفوا حجر عثرة في طريقه، بل كان يسعى إلى أرضائهم جميعًا. وعندما التقى صابر بالطاهر عصرًا، قال له: - ألا سمعت؟ لقد أطلقوا سراح الأرملة. فانشرح صدر صابر، لكنه بقي صامتًا. - لكنها أحرقت قلبه. - قلب من؟ - أبو نواف! وبدأ يحكي: - تلك المرأة جميلة، لكنها مغرورة، لهذا كتب عليها الشقاء! تظن أن الأرق لا يغادرها طوال الليل، ويكاد يقتلها شوقًا إلى أحضان رجل قادر؟ لقد صدت الشاويش بعنف! قال لي، هذه ليست امرأة، بل رجل كسائر الرجال! رفضتني بسلطتي، وأوسمتي، وشاراتي، وأنا من تتمنى النوم بين ذراعيه ابنة الملك! ولكن انتظر، التهمة موجهة ضدها، شهد أخوك، وستشهد أنت، والناس كلهم، ولسوف أذلها إذا لم تستجب. لقد أخفت في فراشها قاطع طريق، وهذا يكفي كي أبعثها إلى السجن المؤبد، ولكن ليس قبل أن أنالها. سأهدم بيتها، وأجعلها بلا مأوى إلى جانب أنها بلا رجل. بلا رجل؟ سأعطي لرجالي أمرًا كي يغزوها واحدًا واحدًا، وسأجعل مرحاضي أكثر طهرًا من شرفها. أيمكن لأحد أن ينسى أنني شاويشكم جميعًا! طلب إليها أن تبقى في البيت، وأن تكون رهن إشارته. سيسعى لاغتصابها بشتى الطرق، ولسوف تسمع. جمّد صابر ما قاله الطاهر في مكانه، وبقي مذهولاً. كان الطاهر قد ذهب دون مبالاة، وابتلعته الأزقة. لم تنقشع الغيوم، وما كان يبدو أنها ستمطر. ترك صابر المخيم من ورائه، وقطع الأرض التي يرمون فيها هياكل السيارات المحطمة. سار مسافة في الطريق الذاهبة إلى جنين، وأعاد لنفسه القول: (( هذه هي، لم تعد أمي لأنهم أخذوها، وهي تعمل الآن في هذه الطريق الذاهبة إلى الحدود )). تنفس بملء رئتيه الهواء القادم من الغرب، ونظر إلى المرتفعات النابتة بالحشيش. أخذ يعصر دماغه ليصل إلى طريقة ينقذ فيها الأرملة من مخالب الشاويش، لمع الضوء في عينيه فجأة، وهو يأمل أن ينقذها. انشق الغمام، وتسربت حزمة ضوء برتقالية من بيارة الغروب، فكأن الشتاء قد انتهى، وأصبح الربيع على الأبواب. أراد صابر العودة إلى المخيم، ليكون قريبًا من الأرملة، ولينتظر من أمه كلمة. سار، وأخذ يفكر في أهل المخيم: جميعهم على خطأ، جميعهم لا يعرفون ما يريدون! وهو يقترب من الأرض التي تحوي هياكل السيارات المحطمة، سمع صوتًا يعرفه، وبكاء مرًّا، إلى جانب بعض التوسلات. أخفى نفسه من وراء جناح إحدى الشاحنات، وأطل، فرأى أخاه زكي يقف فارع الرأس، بعمره الذي لا يتجاوز الخامسة عشر، ومن أمامه سليمة، تمرغ رأسها في التراب، وهي تنوح، وتقول: - بربك ألا تقول لأحد، بربك أن ترحمني! لكنه جذب نفسه بكبرياء، وذهب بخطوات عجلى، ثم راح يجري مبتعدًا، دون أن تكفَّ سليمة عن البكاء.
6
لم يمض يوم وليلة حتى شاع الخبر في جميع أنحاء المخيم: لم تعد سليمة عذراء بعد أن سلمت لأبي محمد نفسها. ونقلاً عن زكي، جرت الحكاية كما يلي: - منذ حوالي شهر، كنت أبيع الكعك في رفيديا، فنادتني من نافذتها امرأة جميلة، وأشارت إليّ أن أجتاز البوابة إلى داخل بيتها. وكما تعرفون، معظم الساكنين هناك من الأغنياء، وأنا لم أر في حياتي بيتًا بتلك الفخامة. اشترت المرأة مني معظم ما معي من كعك، فقلت لنفسي، ربما عندها ضيوف، وأعطتني زيادة على الثمن بعض القروش. لم يحتاجني بيع ما تبقى من الكعك كثيرًا من الزمن، فعدت للفرن مبكرًا. وأنا أطأ العتبة، سمعت في الداخل حركة، خرجت سليمة على أثرها مشعثة الشعر، مكشوفة الصدر، يرشقها الطحين، وقد فغرت على مرآى فمها. تدحدل أبو محمد ببنطاله ذي العلاقتين من ورائها، وهو يمطمط بسمة رخوة تحت شاربه الكثِّ فهمت مغزاها. قذف بين ذراعي سليمة رغيفين، وهي واجمة، تحدق فيّ، ثم انطلقت تجري في طريق السفر، بعيدًا عن المخيم. مسد أبو محمد شاربه الكث، دون أن تمحي بسمته الرخوة، وعاد ليعجن عجينته، وكأن شيئًا ما كان. بعد أيام، عرفت أن سليمة عادت مرة أخرى، ثم مرات، فطار صوابي. لم يكن بإمكاني أن أرى كل ذلك، وأقعد مكتوف اليدين! قلت للشهم، فنصحني بأن أهددها، وإذا لم تقلع عن فعلتها أن أقول لكم جميعًا. وعدتني بأن تقلع عن فعلتها، بألا تواصل السير في طريق العار، وبألا تعود ثانية، لكنها عادت ثانية، وطلب مني أبو محمد أن أعطيها بنفسي الرغيفين. أردت أن أراها لنتحدث في الأمر، ورأيتها، كان جوابها بأنها تفعل ذلك من أجل الرغيفين، ورجتني ألا أقول لأحد، إذا ما عادت، فالجوع أقوى، وستذبحها أمها. لكنني لم أستطع أن أحبس في عيني طويلاً ما أراه كل يوم على التقريب، ولم أقدر أن أبقى، أنا، شاهدها الوحيد. سمع أهل المخيم نواح أم سليم، وسمعوا نواح سليمة، ونواح سلمى. بكت الأم، ولطمت وجهها، وفجأة، انقضت على عنق سليمة تريد خنقها، لولا أن تدخلت سلمى، وأبعدتها. عادت الأم تضرب سليمة بالقبقاب على رأسها حتى أدمته، وبين النواح والصياح، أعلنت منها براءتها، وطردتها بعد ذلك، ولفترة طويلة، لم يعد أحد يرى وجه سليمة. قال البعض إنها انتحرت، وقال البعض إنها تعمل في عمان راقصة. ولم يعد أحد يقترب من بيت أم سليم، ما عدا صالح، خطيب سلمى (( اللاشرعي ))، فهو في اعتقادهم بيت (( لا شرعي ))، وكل تابع له (( لا شرعي ))، وهم ينأون عن بيت (( الحرام )). في صباح أحد الأيام، نهض أهل المخيم على صرخات أم سليم، وهي تهزهم هزًّا. كانت قد خرجت لتجرف عن بابها الوحل، فوجدت سليمة مذبوحة على العتبة. اعتقل الشاويش أبا محمد، ومع انتهاء الصبيحة أطلق سراحه. قال أهل المخيم إن أبا محمد دفع، لقاء رفع التهمة عنه، مبلغًا كبيرًا. لم يتهم أحد من أهل المخيم امرأ، وما أشار إلى أحد، أو زعيم – وهذا هو حال أهل المخيم غالبًا – واكتفى الكل بقول إن القاتل قوة عليا، تميت ولا تموت، فقد كانت السيوف مغمدة في الصدور، والأصابع مقتطعة. وما لبث أهل المخيم أن نسوا الحادث، وقد عوضهم عن ذلك خبر آلات الحفر والجرافات والمداحل التي ستصل المخيم قريبًا لشق الشوارع. صالح الوحيد، من أهل المخيم، من لازم سلمى وأم سليم، اهتم بدفن سليمة التي خرج في جنازتها عدد من أصدقاء صالح، من بينهم حجازي، زميله في الجراج. أعان صالح، وخفف على الأم وابنتها الشيء الكثير. يوم الدفن، جاءت ابنة الباشا عند حسنة، وطلبت إليها، وإلى بدرية، وصابر، والجدة، وإلى كل العائلة، أن يذهبوا معها إلى الجنازة، إشفاقًا منها على الحالة التي ذهبت بها سليمة، ولأن (( الله يغفر للأموات خطاياهم ))، لكن الطاهر منع الجميع. صابر فقط الذي ذهب، وذهبت أم ياقوت، وابنها الأصغر يوسف، وذهب أبو إيليا، وآخرون لا يتجاوزون عدد أصابع اليد. وهم في منتصف الطريق إلى المقبرة، لحقت بهم الأرملة، وسارت في خط متواز مع صابر، فالتفت إليها مرات، ورآها، وهي تحدق بذهول في النعش.
7
بعد أن أنهوا دفن سليمة، عاد صالح بسلمى وأم سليم إلى البيت، دون أن يكفا عن ذرف الدمع. ثم اتجه صالح مباشرة إلى الفرن، فنادى زكي، وأخذ يضربه حتى نُزِفَ دَمُهُ، بينما اختفى الفران خوفًا وهلعًا. جاء الناس من كل صوب، وجاء الشهم كالكلب المصروع خوفًا على صاحبه، لكنه وصل متأخرًا. وفي اللحظة التي رأى فيها دم زكي، راح يضرب رأسه في الأرض، وراح يبكي. عندما علم الطاهر بالأمر، جن جنونه، فتقاتل مع صالح في الليل، دون أن ينفع تدخل صابر بينهما في شيء، والنسوة يبكين، ويلطمن، وأدى ذلك إلى ترك صالح للبيت. ذهب صالح رأسًا إلى بيت أم سليم، فلم تندهش العجوز عندما سمعت الحكاية، لكنها أخذت تبكي، وأخذت سلمى تبكي هي الأخرى، فوضع صالح ذراعًا على كتفي كل منهما، وراح يشدهما بقوة، وهو يمنع نفسه عن البكاء، وفي النهاية، انفجر صالح يبكي، والجيران يسمعون. جاء صابر ليعيده إلى البيت، فرفض، وقال (( أصبح هذا البيت بيتي ))، وفي الحال، طلب يد سلمى من أمها، فتضاعف بكاء العجوز، وراحت تشهق، وهي تضغط عنقها بإصبعها، وانقلبت على جنبها بعد أن انقطعت أنفاسها. حمل صالح الأم إلى الفراش، وسلمى ترش وجهها بالماء. كانت بحاجة إلى طبيب، ولا يوجد طبيب في المخيم. حتى ولو كان هناك طبيب، فستكون أجرته بالنسبة لهم غالية. فطن صالح إلى الكوة المغلقة، ففتحها، وسارع صابر إلى طلب ابنة الباشا التي جاءت بسرعة رغم خطواتها الهرمة. أحضرت حبتي أسبرين، وملء ملعقة كبيرة شاي، وعد صابر بإرجاعها. أعطت أم سليم (( الدواء ))، وعصبت رأسها بشال غمرته بالماء الساخن. خلال ذلك، أعدت سلمى الشاي، والأم لم تزل تتنفس بصعوبة. أخذت ابنة الباشا تسقط الشاي بين شفتيها بالملعقة، وهي تتمتم، وتتلو الآيات. وبعد قليل، بدأت أم سليم تتنفس بشكل عادي، وقد ذهبت في نوم عميق. نزعت ابنة الباشا عن رأسها الشال، وجففت لها الجبين، ثم طلبت من الجميع أن يتركوا البراكة لتتنفس وحدها قليل الهواء الذي فيها، فخرج ثلاثتهم، صابر وسلمى وصالح، وصابر ينظر إليهما كالحمام، وهما يقتربان أحدهما من الآخر. قال لهما إنه ذاهب إلى البيت، وسيكون رهن الإشارة. ابتسمت له سلمى، وشكرته. قالت له إن أمها تنام الآن، وستصحو في الغد بصحة وعافية. وقبل أن يغادرهما، طلب إلى صالح من جديد العودة إلى الدار، وألا يعتب على الطاهر، فهو أخوه الكبير. وبعد تردد، هز صالح رأسه موافقًا. كان الليل معتمًا، فلا نجوم في السماء، والمخيم قد مات. وكان صابر حزينًا، يفكر أن بإمكانه أن يحب الأرملة هو أيضًا، وأن يشدها إلى صدره، فيقطعان الليل معًا في مركب نجم ضائع من أجل الذهاب إلى الصباح. وقبل أن يترك الزقاق، سمع سلمى وأخيه، وهما يتحاوران، فارتكز على أحد الجدران، والتفت إلى حيث يقفان. رأى كلاً منهما يضم الآخر، ومن ورائهما يتحرك ضوء القنديل الشاحب. وتصله كلمات أخيه: - لا تبتئسي! وهي صامتة. - سنتزوج. ولا يمكنها إلا أن تبكي. - لا تبكي! وبعد صمت طويل، تقول سلمى: - سأترك المدرسة ابتداء من الغد، وأبحث عن عمل. - يجب أن تواصلي تعليمك، ألم تحلمي بالشهادة ليل نهار؟ ستكون لك شهادتك، وتصبحين أستاذة، أستاذة كبيرة! وحتى تحقيق ذلك، سأقدم لك كل ما أستطيع من عون. - واجباتك كثيرة نحو أهلك. - أنت أهلي أيضًا. - الحياة قاسية! - لهذا لا تتركي المدرسة. وبعد صمت طويل، تقول سلمى: - سأدرس في الليل، وأعمل في النهار، سأعمل في شق الشوارع. يشمها، يشم شعرها، ورائحة بشرتها، يشم عنقها: - هل تصدقينهم؟ هل تصدقين حقًّا ما يقولون؟ كان صابر قد تابع طريقه، وصالح لم يزل يقول: - لا تصدقيهم! إنهم يكذبون!
8
دخل صابر بيتهم القصديري، وأشعل المصباح، فتساقطت الوجوه الشاحبة، واحدًا واحدًا. نظر إليها، قبل أن يذهب بالمصباح إلى لوحته التي في الزاوية. كان زكي مقذوفًا على الأرض، وبدرية مركولة في حفرة، وكلاهما يرتعد من البرد. وكان يسيل من عيني جدته المفتوحتين خيط من الدمع، وكأنها مشدودة به إلى الموت. ومن وراء الستارة، وصله شخير حسنة. رفع قدمه، وخطا بحذر بين الأجساد ليطبق جفني جدته. فجأة، انتصبت الجدة بعنقها، وسألت إذا ما عادت أمه، فقال لا. وكأنها سقطت من حلم، قالت: عادت أمك للأرض! عادت أمك للأرض! وضعت غطاءها الذي لا يكبر أبدًا والعودين تحت رأسها، ولفت نفسها جيدًا بالبطانية، ونامت. نظر صابر إلى لوحته الناقصة، تأملها مليًّا، وتابع بهدبيه كعب أمه في الشوك، وحركة فأسها في الصخر، وتأوه: لم يزل الطريق طويلاً! طويلاً ووعرًا! بدأ يمسح بريشته العرق عن جبينها، وينشر الحرارة في كفيها، والفأس تصعد وتهبط، تصعد وتهبط، تصعد وتهبط، فكأنها تسوي الأيام، يومًا يومًا، لتحيلها قنطرة! وكأنها تقتحم الأيَّام، يومًا يومًا، لتحيلها فرسًا! وقفتها صيحة، وصيحتها ضربة سيف، وضربة السيف قمح. وما لبث أن جاءه صوت ثمل يغني، وضحكات كأنها البكاء. ثم سمع الطاهر ينادي سعد الله، فقال صابر لنفسه، ها هو الطاهر يعود سكران بعد أن انتهت سهرته. أطفأ المصباح، وأطل من النافذة، فرأى الطاهر، وهو يعتمد على كتف سعد الله بيد لئلا يسقط، ويقبض على عضوه بيد، وسعد الله يقهقه حتى التشنج متابعًا نهر البول. ولأنه أفلته، اتجه الطاهر إليه، وأغرقه في نهره، مقهقهًا بدوره، إلى أن فرَّ سعد الله، وهو يلطم بيديه في الظلام. توقف الطاهر على العتبة لحظة، ثم دخل، ووطئ بقدمه وجوه الجميع، وهو يشتم، ويلعن زريبة الدواب. وما أن غاب من وراء الستار حتى انطلقت صيحة حسنة الآسنة، فشتمها، وصفعها، وأوصد فمها. شهور طويلة مضت دون أن تصل صابر لهثاتهما المتصارعة في حلبة رومانية، وتأوهاتهما المشبعة بالانتقام والضغينة. وما لبث عناقهما أن أفرز في الأجواء مزيجًا مثقلاً من رائحة العرق والرعب والأنات. دخل صالح، وجاء إلى حيث هناك صابر في الزاوية: - ألم تنم بعد؟ - لم أنم بعد. - هاأنذا أعود. - حسنًا فعلت. - وأمنا؟ - لم تعد. - لم تكمل اللوحة بعد؟ - لم أكمل اللوحة بعد. - تعال، واستلقِ. ذهب، واستلقى، ثم اعتمد برأسه على الحائط. - ألا تنام؟ - سأنام. سأله بعد قليل: - كيف حال أم سليم؟ - تنام. - كانت ليلة مضنية. - نَمْ قليلاً. - سأنام. وألقى رأسه على الأرض.
9
لم يعش المخيم طوال حياته مثل ذاك الصباح المليء بالحركة، كان أهل المخيم، كل أهل المخيم، نساؤه وأطفاله ورجاله، قططه وكلابه وجرذانه، وشتى حيوانه، قد خرجوا من سكناتهم التنكية، وكأنهم جميعًا على موعد معًا. كانوا يذهبون أفواجًا إلى الشرق، وكان صابر قد ذهب، وتحت إبطه لوحته الناقصة، إلى المدرسة، فقال له المدير إن المدرسة تغلق أبوابها، لأن الجرافات وصلت، وقد ذهب الجميع لاستقبالها، فعاد صابر من حيث أتي. وهو قرب بيت الأرملة، خرجت من بابها، وسارت خطوتين في اتجاهه، وكأنه بانتظار أن تأتيه ليذهبا معًا. لكنها تعثرت، ورمته بنظرة الدفء والعتاب ذاتها، وانزاحت عنه بعيدًا ذاهبة في الطريق المعاكسة لطريق أهل المخيم جميعًا. هل أنهوا التحقيق معها، وأعادوا لها حرية الحركة؟ أراد صابر أن يلحق بها ليسألها، ويطمئن عليها، لكن العيون المترصدة من حوله كانت تمنعه. ضرب مروان، عامل المجاري، على ذراع صابر: - أنت ذاهب أيضًا؟ - إلى أين؟ - لقد وصلت الجرافات، وهي تقف منذ الفجر قرب المخفر! سيختارون العمال، ويبدأون في شق الشوارع. حثَّه على الذهاب ليرى ويشاهد بأم عينه الجرافات الضخمة التي على وشك العمل، وقال إنه من بين أوائل الناس الذين رأوها، وسمعوا بوصولها، وهو الآن ذاهب لترميم الخزان. راح يشكر صابر دون أن يدري لماذا، واتضح له الأمر عندما انطلق لسانه داعيًا للطاهر أن يطيل الله عمره، ويبقيه ذخرًا للجميع! فهو وحده رجل المخيم، وهو وحده الرجل في المخيم، له كلمته في الدوائر العليا، وعند الناس المهمين! فبواسطته حصل على إذن من البلدية لترميم الخزان، ورغم أن هذا ليس من اختصاصه، فإنه معلم أيضًا في ترميم كل جدار مصدوع! ومن جديد حثَّ صابر على الذهاب لانتظار اللجنة، وتسجيل أمه في عدد العمال. وعندما قال صابر إن أمه تعمل في شق طريق نابلس – جنين الذاهبة إلى الوطن، أطلق مروان صفيرًا: - الوطن! - أقصد الحدود. وتساءل مروان إذا كانت أم صابر تعمل حقًّا في هذه الطريق، وإذا كانوا حقًّا أخذوها، فقال صابر بأنه سيذهب إلى البلدية، ويسأل. ثم ذهب مروان، وهو يدعو للطاهر، ويدعو. إذن تصدعت جدران (( بيت الماء )) - كما يدعو أهل المخيم الخزان - من المطر. وراحت (( العين )) التي أقاموا من حولها مخيمهم تتفجر بالماء. كان المشروع الوحيد الذي حققته البلدية في المخيم حتى الآن هو بناء الخزان، وتحويل ماء العين إليه بواسطة موتورات ضخمة، ليس – بالطبع – من أجل أن يشرب أهل المخيم ماء نظيفًا، ولكن من أجل أن يسقوه لأهالي منطقة رفيديا الأغنياء! سرقوهم ماءهم، وتركوا لهم حنفية صغيرة ينشأ أمامها شجار فتيات المخيم اليومي، وكل منهن تريد ملء آنية التنك أو جرة الفخار. وفي كثير من الأحيان، كان شرطي يأتي بعد الشجار ليحكم سداد الحنفية، ويترك المخيم نهبًا للعطش. مرَّ صابر بالخزان، فسمع غضب الماء في داخله، كان شق بين حجرين ينهمر منه سيل قوي، وكان أهل المخيم يمرون دون أن يبالوا به، وقد زحفوا جماعات ليشاهدوا آلات الهدم واقفة في ظلال المخفر. وبالفعل، كانت هناك جرافات ضخمة، لكن لجنة اختيار العمال لم تكن هناك. طلب الشاويش أبو نواف إخلاء البيوت الضعيفة التي تتكئ على بقعة من الأرض قرب المخفر، لهدمها، فأخلاها أهلها، وهم يبتسمون. سيتدبر كل من لم يعد له بيت النوم عند قريب أو صديق، فما هي سوى عدة أيام، ويبنون لهم بيوتًا جديدة! اتسعت عملية الهدم فوق مساحة كبيرة، وكل يمني النفس بشارع مشجر، وبيت من حجر. ولم يفطن أحد إلى الحقيقة إلا بعد فوات الأوان، وكانت هذه هي الحقيقة: سيبنون مخفرًا جديدًا للشرطة.
10
جلس أبو ياقوت على العتبة، وبيده مسبحة نوى الزيتون. لم تفارقه أبدًا تلك المسبحة! وقبل أن يدع حباتها تسقط، كان يفركها مليًا بإصبعيه، ويحكها في لحمه، وينظر شاردًا من حوله. جاءه صابر، وقبل أن يفتح فمه ليسأله السؤال المعتاد عن الصحة والأحوال، راح أبو ياقوت يضرب كفًّا بكف، وقد غطت أمارات الغضب وجهه. كان يريد أن يقول ما يقعد على قلبه لأي عابر: - لقد خابت الآمال، يا أستاذ صابر، لا شوارع هناك، ولا هم، ولا أشجار زيتون! ألقى نظرتين سريعتين على المسبحة، وشدها في قبضته. انطوى على ذاته، واحتله البؤس. رماه بنظرة ينطفئ فيها البريق، وقال، وفي كلماته كل اليأس: - نحن أشقياء! أتفهم؟ يتعلق الغريق فينا بحبال الهواء! أطلق نفسًا جافًا، وبدأ يحكي لصابر عن أيام زمان، أيام العز والكرامة، أيام الخير والمال. وفجأة، طفح وجهه بالبشر العابر، وراح يحكي كيف كان يضع كرسيًا في الشمس، واضعًا رجلاً على رجل، وهو يشرب النارجيلة مراقبًا العمال، والعمال يقطفون الزيتون أيام الزيتون، والبرتقال أيام البرتقال. شم نوى الزيتون بقوة، ثم نهض ليصيح ببعض الأولاد الذين يلعبون في الزقاق، ويشتم امرأة تدعو على ولدها بالموت. التفت إلى صابر، وقد امتلأ وجهه بالتجاعيد، وقال: - أين هي بياراتنا اليوم، لقد سرقوها! وكانت تلك - بالنسبة له - مناسبة ثمينة ليؤكد بأن بياراته سرقوها، فهو ليس كبعض الناس الذين باعوا بياراتهم. ورغم أنهم دفعوا له ثقلها ذهبًا إلا أنه رفض، وكيف لا يرفض بيعها، وهو عاشقها؟ ويأخذ في تحليل أسباب النكبة، يدين الجيوش العربية، وخيانات الحكام، ويختم حديثه بهذا الدعاء: - الله يرحمك، يا عبد القادر الحسيني، لولا أنهم خدعوك وخانوك لأنقذتنا من الورطة جميعًا. لم يدع لصابر الفرصة ليقول رأيه، كان يريد أن يسمعه فقط، وألا يعلق بكلمة. ومرة أخرى، نهض، وأخذ يفصل بين ولدين متعاركين، وهو يلعن المخيم، وحياة المخيم، وأولاد المخيم الذي أنتجهم، بلا تربية، ولا أخلاق، ولا أدب! والكلاب تنبح عن مقربة منه. حكي لصابر كيف تربى أولاده أحسن تربية على يده (( هناك ))، الطاعة، والنظافة، والاحترام، والخلق الحسن! وحمد ربه لأنهم كبروا دون أن يتشربوا طباع أولاد المخيم السيس. لم تبق له سوى سمرة، ابنته الصغرى، وكما قال له أكثر من مرة، عجز عن معالجتها كل طبيب رآها حتى الآن، حتى أطباء الجامعة الأمريكية. أرادوا شفاءها بعملية المخ التي أجروها لها، لكنهم فشلوا، وبدت عليها بوادر الجنون. ومقابل النقود التي أنفقوها عليها، قطعوا بطاقة الإعاشة، فخسر البطاقة، وخسر البنت! لهذا، يقفل عليها الباب بالمفتاح، لئلا يدعوها الناس بالمجنونة! أمَّا يوسف، ابنه الأصغر، فلكي يحول بينه وبين باقي أولاد المخيم الفاسدين، ألزمه القعود في البيت، لا يخرج إلا معه أو مع أمه، ومنعه من الذهاب إلى المدرسة. جاء أبو إيليا بمجرفته ذات العصا الطويلة، وأخذ بالشكوى. كان يريد أن تمطر السماء، لينتشر الوحل، فيعمل على جرفه من أمام البيوت التي يعجز عن ذلك أصحابها لقاء بعض الملاليم. وفجأة، أخذ ينظر إلى الشمس، وهي تشق الغيوم البعيدة المتباعدة، بكرهٍ كأنه يحقد عليها منذ ولادته: - لن تمطر الدنيا لأيام! أترون الغيوم كم هي بعيدة؟ قال له أبو ياقوت بتهكم: - كنت أكثر الناس سعادة بالشوارع التي عمرها لن تكون، والشوارع تعني لا سخام ولا طين! أجاب أبو إيليا، وكأنه فقد شيئًا عزيزًا: - لو تحقق ذلك لوجدت مهنة أخرى. سأل أبو ياقوت من وراء شفتيه: - بالشوارع أو بدون الشوارع لماذا لا تبحث عن مهنة أخرى، يا أبا إيليا؟ التفت أبو إيليا إلى صابر، فوجده يحدق بذهول. - أسمعت ما يقوله أبو ياقوت، يا أستاذ صابر؟ يريدني أن أبحث عن مهنة أخرى غير مهنة الوحل والهباب. منذ خمس عشرة سنة وأنا في الوحل، والناس كلهم يقولون لي، لماذا لا تبحث عن مهنة أخرى، وهم يعرفون جيدًا أنني منذ خمس عشرة سنة وأنا أبحث عن هذه المهنة الأخرى التي تؤكلني اللوز، وتلبسني الحرير، وتجعلني أنام في فراش الورد، ولكن دون فائدة! حقًّا كنت أسعدكم جميعًا بخبر الشوارع، إذ قلت لنفسي، ستمشي، يا أبا إيليا، على الإسفلت كما كان عهدك في الماضي، وسيصيب الشفاء باطن قدميك اللتين اهترأتا من الوحل، وستصعد على الرصيف كباقي الناس إذا مرت بك سيارة. سحقًا للوحل! وجرف الوحل! ومهنة الوحل! حتى ولو اضطرني ذلك إلى الموت جوعًا! سكت قليلاً، وقال بأسى: - كنت واثقًا من وقوع معجزة فيما لو تحقق شق الشوارع تمكنني من الحصول على عمل. خبط عصا مجرفته في الأرض، والرغوة تتناثر من فمه: - كذبوا علينا، فصدقناهم! قال له أبو ياقوت مؤاسيًا: - اطلب الرحمة من عند الله! أطلق أبو إيليا زفرة جافة، وصابر يسمع نَفَسه الجاف كيف يخدش في صدره، ولم ينطق بحرف. عاد أبو إيليا ينظر إلى الشمس الراقصة، الناثرة أشعتها الباردة، دون أن تبالي بهمومه. وفجأة، لوَّح بقبضته في وجه السماء، وصاح بكل ما على الأرض من حقد: - لا بأس! إياك أن تمطري، إياك! ثم التفت إلى صابر: - طالما حياة الوحل باقية، فمن المفروض أن تمطر كي تقوم هذه المجرفة بواجبها. ضم أصابعه التعبة، ودفعها مرات قرب فمه: - من اللازم أن تملأه. أطلق زفرة جافة من جديد، وراح يهمهم: - حياة كلاب يجب أن نقطعها! وعلى حين غرَّة، هب بصابر، وهو يرتعد غضبًا: - قل عنّي ما شئت، يا أستاذ صابر، ومع هذا أقسم لك بشرفي أنني ما كنت يومًا ساذجًا ولا غبيًّا، لكنهم اجتمعوا جميعًا ضدي، مما اضطرني إلى رمي البندقية، وكانت هذه خطيئتي الوحيدة. سكت قليلاً، ثم ما لبث أن أضاف: - أبوك وحده، يا أستاذ صابر، من كان يعرف هذا، ولكن أين هو أبوك الآن؟ قتلوه لأنه كان مناضلاً صحيحًا، ويا ليتهم قتلوني! فاجأتهم أم عثمان بصوتها الجهوري: - ماذا به أبو إيليا؟ هل الآن وقت الحديث عن أمجاده، هذا المقاتل الخرع؟ هبَّ بها: - نعم، وقته ونصف! وهم يدعسون رقابنا بالصرامي، وهم يسقوننا الماء بالقطارة، وهم يأكلون اللحم، ويرمون لنا العظم، وهم يلتقطون لنا الصور ليعلقوها في المتاحف، وهم يهدمون لنا جحورنا بالجرافات! نعم، هذا هو الوقت! سأقول لك، يا أم عثمان، كلمة، لقد كانت لي بندقية، أنا، قبل أن يضيع الوطن، أخذوها مني، وأعطوني هذه المجرفة، مجرفة الوحل، وسموني جارف الوحل، أنتم أيضًا كلكم دعوتموني كذلك، جارف الوحل، وقبلتموني! قالت أم عثمان: - مثلما قبلناك بالأمس كما أنت، نقبلك اليوم كما أنت. انفجر أبو إيليا يقهقه بعصبية، وهو يقفز كالقرد معتمدًا على عصاه: - إذن اقبلوني كما أنا اليوم في عفني إلى الأبد! نبرت أم عثمان بقسوة: - ماذا باستطاعتنا أن نعمل من أجلك؟ انفجر أبو إيليا يبكي. كانت ابنة الباشا قد جاءت، ومرَّ أبو شوقي على حماره، فتوقف، وهبط ليرى الخبر. وكان أبو ياقوت قد أخذ يصيح بأم عثمان لأنها دفعت أبا إيليا إلى البكاء، وأم عثمان قد أخذت تصيح بأبي ياقوت لأن لا ذنب لها، والأولاد من حولهم، بوجوههم الشاحبة، وعيونهم السود، يتابعون المشهد دون أن ينبسوا بكلمة. ثم تعاون الجميع على تهدئة أبي إيليا، وطلبوا منه السماح، فجفف دمعه، واستسمح الجميع بدوره. وضع يده على كتف أم عثمان، وبدأ يعبر لها عما يكنه لها من عواطف. قال لها إنه يحبها، ولم يعد غاضبًا منها، وإن الذنب ذنبه. انتظر صابر أن يحطم أبو إيليا المجرفة، لكنه ألقى نظرة طويلة على الشمس، كأنه يطلب رحمتها. لن تمطر الدنيا لأيام! لن يكون هناك وحل يجرفه أبو إيليا لأيام! تركهم، وهو يجر نفسه بصعوبة، وذهب. أخذوا يعاتبون أم عثمان حال ذهابه، وهي طوال الوقت صامتة، وفجأة انفجرت بهم، وهي ترتجف: - ها أنتم جميعكم ضدي الآن! وراحت تندب حظها: - أحد لا يفهمني هنا، أحد لا يسمح لنفسه بالتفكير مثلي، لقد أصبحتم كلكم مجانين أو أنانيين! أوضحت أنها ما قصدت مع أبي إيليا إلا الدعابة في اللحظة التي أنكرت فيها عليه أنه كان مقاتلاً مغوارًا! بعد ذلك، ركب أبو شوقي حماره، معللاً الذهاب إلى مركز توزيع المؤن ليحضر مخصصاته. سألوه عن ابنه، فقال إنه هارب لا يدري أين، ولم يزل البوليس يبحث عنه. قالت أم عثمان إنها ذاهبة، هي أيضًا، لجلب المؤن، فشكا أبو ياقوت وكالة الغوث. وأعاد عليهم القصة التي يعرفونها كلهم، كيف قطعوا البطاقة بسبب عملية المخ التي أجروها لابنته سمرة على نفقتهم في بيروت، ورغم أنه رجا الأكبر والأصغر، وشكا لدى الأصغر والأكبر، فإنه لم يفلح في إعادتها. قالت ابنة الباشا: - يتعللون بأدنى سبب كي يقطعوا البطاقة، خُذْ مثلاً صابر، هذا الذي يقف كاللوح بطوله وعرضه من أمامك، لأنهم عينوه مدرسًا ((للشحابير)) في مدرسة الوكالة، قطعوا البطاقة عن عائلته كلها. لم يقل صابر إن الوكالة تلجأ إلى كل السُّبل لتخفيض عدد اللاجئين، بشكل أو بآخر، من أجل تصفية كل ما يمكنها تصفيته. علَّقت أم عثمان: - ارتاحوا من طحين النخالة، والفول المسوس، والمارغرين الله لا يريك! أهذا طعام يحسد عليه؟ هب أبو ياقوت قائلاً: - أحسن من أكل الطين! كان أبو شوقي قد سار بحماره خطوتين، فالتفت إلى أبي ياقوت: - أتقول هذا، وأولادك كلهم عن بكرة أبيهم يعملون؟ ذهب أبو ياقوت إليه، وهو يهتز من شدة الاضطراب، وجذبه من قنبازه: - أتسمي هذا عملاً؟ وفوق هذا أولادي كلهم متزوجون، وهم يحملون على عاتقهم مسؤولية سد الأفواه التي في رقابهم! لكن الآخر تخلص منه: - اتق الله، يا أبا ياقوت! أنت، على الأقل، تجد ما تأكله على العشاء، أما غيرك فينام على جوع بطنه! لم يسمع لصياح أبي ياقوت الذي يعبر عن احتجاجاته، جعل الحمار ينطلق به غير مبال بنداءات أم عثمان. وأبو ياقوت يقسم جَهْدَ أَيْمانِه أن أبا شوقي واهم، يحسب أنه يخبئ الأموال في المخدة، وهو - في الحقيقة - لا يستطيع أن يشتري زرين فلافل من عند أبي شعبان. قالت له ابنة الباشا: - بسبب هندامك النظيف يحسبك الآخرون في العلالي! احتد أكثر، وأقسم، إذا كان الأمر كذلك، أن يهمل الاعتناء بحاله، فيغدو قذرًا كالجميع! هكذا لا يظن أحد به الظنون! توقفت سيارة البيك الأمريكية، ونزل منها عبد المؤمن، بالبذلة اللماعة، والحذاء اللماع، والسيجارة التي في الفم. سأل صابر أين الطاهر، بحث عنه في كل مكان، ولم يجده. أخبره صابر أنه لا يدري، وربما كان في نابلس. نفض الرماد عن سيجارته، وقال يريده البيك لأمر هام، فليذهب إليه حال عودته إلى المخيم. تركهم، وهو يبصق على الأرض، وذهب بالسيارة بسرعة. التجموا عن الكلام، بدا أبو ياقوت يفغر فمه، وابنة الباشا تحدق بذهول، وأم عثمان تحدق بإعجاب، وهي لهذا مشلولة. - ماذا بكم، يا جماعة؟ عادوا إلى أنفسهم، وراح كل منهم يحسد عبد المؤمن من طرف، البدلة والسيارة والسيجارة التي في الفم! هؤلاء هم الناس الذين في العلالي! أخذت ابنة الباشا تصف بيت عبد المؤمن عندما ذهبت لتشطف لهم المراحيض مرة، المرايا والسجاد والقطيفة! أبوه كان أستاذًا، تمامًا كصابر، وصار نائبًا في البرلمان! وهم يطلقون التأوهات تلو التأوهات. وعبد المؤمن هذا شارك البيك، وفتح متجرًا لبيع الأقمشة. صحيح، المال يأتي بالمال! ومرة أخرى، يطلقون التأوهات تلو التأوهات. وقبل ذهاب أم عثمان، قالت لها ابنة الباشا بأنها مسافرة قريبًا إلى الكويت عند ولدها. في كل مرة يعذبها الحلم، كانت ابنة الباشا تبحث عن مخرج ينقذها منه. - هناك العز والمال، وابني باشا، تمامًا كأيام زمان! تظاهرت أم عثمان بالدهشة، وأخذت بلسانها المعسول تغبطها على ذلك، وتبوح لها بأنه سيعز عليها فراقها، وستشتاق إليها وإلى صحبتها، لأن كلاً منهما اعتادت الأخرى، وهي صديقتها الروح بالروح، فإذا ما سافرت إحداهما، عزَّ على الثانية ذلك، وأحست في المخيم بشيء ناقص، شيء مفقود! تركتهم أم عثمان، وجاء مروان، وعلى كتفه صندوق الأدوات، وهو يقطر بالماء. كان الأولاد قد داروا به يزفونه: - مروان باني الخزان! مروان باني الخزان! وهو يبدو مزهوًّا. وحينما هبَّ أبو ياقوت بالأولاد صائحًا، طلب منه مروان أن يتركهم، لأن الأمر يسعده. فضحك الأولاد، وراح بعضهم يتقاذفون كرة من الشرائط المعقودة، وبعضهم يلاحقون أحد الكلاب المريضة، وهم يرجمونه بالحجارة. أراد صابر الذهاب، فشده مروان من ذراعه، وقال إن الخزان سيزداد قوة ومناعة بعد أن يتم ترميمه على يديه الماهرتين. التفت إليهم ولفت نظرهم إلى أنه طبيب للمجاري، وكل ما هو جار منذ خمس عشرة سنة، وهذه خبرة طويلة ذات شأن. أوقف حديثه عن الخزان فجأة، وراح يصف لهم مخفر الشرطة الجديد: ذو طابقين، مكيف، ونوافذه مستطيلة، وهناك تحت الأرض ثلاث حجرات للمعتقلين. اهتز أبو ياقوت غضبًا، وأخذت ابنة الباشا تشتم مروان، وتلعن أخباره، مما جعله يضيف بسرعة: - ليست هذه كل الأخبار، أما عرفتم أن أبا نواف سيطير؟ سألت العجوز باهتمام: - سيطير؟ سيطير إلى أين؟ أطار الله عنقه! - إلى مخفر للشرطة في عمان، وسيأتون لنا بآخر. التفتت ابنة الباشا حولها لئلا يسمعها أحد، خفضت صوتها، وقالت: - وما الفائدة؟ كلهم سواء. الشاويش شاويش ولو وضعوا له على قفاه عرف ديك! صاح مروان فجأة: - أما هذا، فأمر آخر، خذوا هذا النبأ السعيد! وعلى شفتيه تلتمع بسمة خبيثة. كان يكفيه أن يطلق لخياله العنان، فيخترع لهم كل ما يعتقد أن ذلك يسعدهم. وضع صندوقه على الأرض، وهو يلاحظ اهتمام أبي ياقوت، واقترابه منه، ومع ذلك، قال أبو ياقوت مغتمًّا: - لدينا من السعادة ما يكفينا، وفِّر علينا السعادة! - اسمعني فقط، يا أبا ياقوت، وستعود الفائدة على عزيز لك وغال، على سمرة. سرت رعشة في جفني أبي ياقوت، وقال نافد الصبر: - ماذا تريد أن تقول؟ منذ الصباح ونحن نسمعك! حاول مروان القول بنبرة بعيدة عن الافتعال، حارة، وفيها اليقين، رغم أنه يكذب: - أمَّا هذه المرة، فهذا أمر أكيد، بماذا أقسم لكم؟ أرأيتم أين يبنون المخفر الجديد؟ في المكان المقابل، سيبنون لنا مستشفى بثلاثة طوابق، وليس هذا فقط، بل وسيهدمون بركات مدرسة الوكالة ليقيموا مكانها مدرسة كبيرة تسع أولاد المخيم جميعًا. تطلع إلى صابر مسحورًا قبل أن يضيف: - لك الحظ، يا أستاذ صابر! ستعطي دروسك في مدرسة حديثة! نبرت ابنة الباشا: - أتظننا أغبياء لتكذب علينا؟ لوَّح أبو ياقوت بمسبحة نوى الزيتون قرب وجهه: - أتظننا أولادًا لتضحك علينا؟ تركهم صابر، وسار بخطوات مثقلة، ومروان يدلي بالأيمان المغلّظة، أن ما يقوله حق وحقيقة، آخر الأخبار، ومن مصادر موثوقة، ولسوف يتأكدون من صحة كلامه عما قريب، فقط عدة أيام، وسيرون. كان صابر قد صعد الطريق المنحنية، وفي مخيلته وجوه أهل المخيم عندما يتصادمون فيما بينهم، ويتخاصمون. لم يكن ذلك ليدوم طويلاً، كانوا يهدأون بسرعة، ويتحولون إلى كائنات ملائكية. لاح له مركز توزيع المؤن من بعيد، فرأى جمهرة متراصة تحاول اقتحامه، وكأنها جسد حيوان ضخم ذي ألف رأس. ضرب الجسد، وصرخ فاتحًا ألف فم. كانت الآنية تصطفق، والأيدي تتعارك، والشتائم تتقاذف، بينما تلطم المهانة كل الوجوه. لاحظ صابر طفلة تجلس وحدها بعيدًا عن الجميع، تنظر إلى هذا الوحش الجائع، وقد استولى عليها الرعب، وتأخذ في البكاء. وفي المخيم، كانت الجرافات تقتلع البيوت التنكية، وهناك عائلات بأكملها تحمل متاعها الرخص راحلة دون أن تدري أين.
11
التفوا جميعًا، وهم جالسون على حصيرة، حول حفنة الزعتر وصحن الزيت. كانت حسنة قد أعدت لهم الشاي، وصبته في طاسات من الألمنيوم، وكانوا يغمسون الخبز في الزيت ثم في الزعتر، ويأكلون، ويشربون الشاي. اللقمة كبيرة والغماس قليل، وقد كسر الطاهر بكفه رأسًا كبيرة من البصل، وهو يضربها في الأرض، وراح يدفع البصل في الملح، ثم في فمه مع قطعة كبيرة من الخبز، ويمضغه بشهية، وكأنه يمضغ فخذ دجاجة مشوية. كسروا رأسًا أخرى، وتوزعوها فيما بينهم. لاحظ صابر أن جدته لا تأكل كالعادة، ولا تتكلم. كانت تراقبهم واحدًا واحدًا، مراقبة الشيخ الذي على وشك الموت. اعتمدت على يدها التعبة بعد أن أعطت كسرتها لزكي، ونهضت لتجلس على العتبة. بعد قليل، قام صابر، ولحق بها، فوجدها تحدق في الليل، تراقب النجوم، وهي تتغطى بالغيوم، وهي تشلح عن جسدها الغيوم. جلس إلى جانبها، فاستدارت لتطمئن إلى وجوده، ثم رفعا رأسيهما إلى السماء. كان المخيم صامتًا إلا من نباح الكلاب، وكان يخيل للرائي أن بإمكانهما أن يبقيا في مكانهما دهرًا دون حراك، رغم برودة الهواء. سألها عما بها، ولماذا تركت العشاء، فقالت إنها لا تشعر بالجوع. ورأى دمعة تنزلق من عينيها، ولا تلبث أن تنسحق في تجاعيد وجهها. ثم اعترفت له: (( لأن أمك غائبة، ونحن لا نعرف من أخبارها شيئًا! )). وعدها بالذهاب إلى نابلس، والسؤال عنها في البلدية. وفجأة، قالت دون أن ترتجف: - أنا على وشك الموت، يا ولدي. فدعا لها بطول العمر. - ربما هذه الليلة. تأملها صابر، وهو يقطف عن وجهها الثمر المجعد لوجود بائس. - أردت أن تكون أمك إلى جانبي عندما أموت، لكنها تركتنا جميعًا، وراحت دون أن تقول كلمة. أضاءت عيناها فجأة، فأحس صابر بالموت يرحل بعيدًا عن نظرتها. - أتعرف ماذا أتمنى، يا ولدي؟ أن تدفنوني هناك، إلى جانب جدك! ثم عصرتها الشيخوخة من جديد: - ولكن... - سيطول الليل. - لن يطول الليل بالنسبة لي، وقبل الفجر، أكون قد أسلمت روحي. سمعا حركة غير متوقعة، فرأيا أناسًا يأتون من آخر الطريق. وعلى مقربة منهما، رأيا سعد الله، وهو يعتل أمتعة إحدى العائلات التي هدموا مأواها، والحبل السميك ينغرس في جبينه. كانت هناك أم متشحة بالسواد، تحمل بين ذراعيها طفلاً، وعدد من الأولاد الحفاة يدبون على الأرض المحفرة، وكانت هناك امرأة عجوز تعتمد على ذراع أحدهم، وأعمى يضرب عصاه. وقفا يشاهدان القافلة عن كثب، وقد خرجت بدرية وزكي، وكانت امرأة قد أطلت من بابها في الوجه المقابل، ووقف طفل نصفه الأسفل عار، وهو يلقى نظره على الهائمين على وجوههم دون أن يفهم شيئًا. وما لبثت القافلة أن ضاعت، واختفى الجميع. بقي صابر وحده مع جدته، وكل منهما يحدق في الليل، دون أن يقع على شيء في هذا الفضاء الفارغ لظلام مثقوب. فجأة، طلع عليهما صوت حسنة السعيدة، وهي تخبر الطاهر عن المستشفى والمدرسة المزمع بناؤهما، وطلبت منه أن يأخذها إلى الطبيب لأنها عاقر، لكنه شتمها، وانتهرها، وقال لها ليبنوا المستشفى أولاً، ثم تعالي، واطلبي مني أن آخذك إلى طبيب! بعد قليل، ترك الطاهر البيت، وهبط إلى المقهى. خرج صالح من ورائه، ليطرق باب سلمى، وصابر وجدته يحدقان دومًا في الليل دون أن يقعا على شيء في هذا الفضاء الفارغ لظلام مثقوب. خلفهم كان الضوء الذي في بيتهم يلفظ شعاعًا واهنًا قبل أن يموت عند النافذة، فيطلع صوت حسنة التعيسة مرة أخرى مخاطبة زكي: - أطفئ الضوء، لقد حان وقت النوم. وصابر يفكر في كمية الكاز التي يحتاجها مصباح مشتعل، فيعدل عن إتمام لوحته الناقصة، ولا يلبث أن ينطفئ الضوء.
12
في تلك الليلة، أثقلت أجواء المخيم أكثر ممَّا هي عليه خطى الشاويش، بعد أن جال طويلاً في أزقته. كان المخيم يرقد تحت لحاف التعب والوسن، والليل قد ملَّ صحبة الشتاء، فأسقط عن جسده آخر قطع الأثير. كان الشاويش قد قرر أن يطرق باب الأرملة، وعندما رفضت أن تفتح له، هددها باستعمال القوة. وفي الحال، بعث من وراء رجال القوة، وحاصرها في طوق من حديد. طلب منها أن تعد له الشاي، وأخبرها بأنه لن يلحق بها الأذى، لأن هدفه صداقتها، وسيتخذ من نفسه حاميًا لها ولجمالها. امرأة جميلة ووحيدة مثلها يطمع فيها أهل السوء! وتساءل عمَّا يمكن أن تكون وظيفته هنا، إذا لم تكن كذلك، أن يحميها من أهل السوء. كانت الأرملة تسمع له طوال الوقت، وهي حذرة منه، ومن كلامه. أتخفي عنها مطامع الشاويش؟! وما لبث أن كشف هدفه، وهو يمد يده ليكشف كتفها. وحينما تعلقت بالشال ممانعة، مزقَّه، وطرح شفتيه النهمتين بين نهديها. صاحت، وجرت صوب النافذة، لكنها كانت محاصرة. طرحها على الأرض، راح يلثم مفاتنها، وراح ينهب روائعها، وراح يصرع أمانيها. تروعه روعتها، وبأنفاسها يقاتل الموت. يربض في عمق الجسد، فتنكسر أعواد القمح. في الصباح، رأوها، وهي تحمل حقيبة، وفي عينيها نظرة تدينهم جميعًا. لم تودع صابر، وما عرف بالخبر إلا بعد رحيلها.
13
لم يعرف صابر بما جرى للأرملة إلا بعد عودته من البلدية، قالوا له إن أمك بالفعل تعمل في الطريق الذاهبة إلى الحدود، فاطمأن قلبه، وعندما سأل متى سيرونها، قالوا كل شيء يتوقف على إرادتها. وما أن نقل للبيت الخبر السعيد، حتى نقلوا له الخبر التعيس، فأخذ طوال الوقت يفكر في الأرملة. أين ذهبت يا ترى؟ خرج يبحث عنها في طريق السفر، مشى، مشى، ولم يقع لها على أدنى أثر. كانت أصابع الشمس باردة، وطعم النهار مالحًا. وكانت السيارات تمر به بطيئة، رغم المسافات البعيدة. أراد أن يفعل شيئًا غير البكاء، أن يذهب إلى المدينة، ويصيح في الشوارع. وألا يعود أبدًا إلى المخيم، وقد غدا قبرًا كبيرًا. ألا يعود أبدًا إلى البيت، ألا يرسم أبدًا، فتبقى اللوحة ناقصة. ومع ذلك، فقد عاد إلى البيت تعبًا أكثر من أي وقت مضى، ونظر إلى لوحته الناقصة، إلى أمه، وهي تشق الصخر صامتة، أبدًا صامتة، وهو أيضًا كأمه كان صامتًا. كان يعرف كل شيء، ولا يقول كلمة. كان يعرف كل شيء، ولا يحرك إصبعًا. هذه القامات الرازحة تحت عبء الوحل لن تسود حياته، ولن يجعل لقدرها نافذة على قدره. لكنها تحاصره، بضعفها تحاصره. ضعفها قوة، وقوتها ضعف، وهو في قفص الموت بلا أجنحة. أين ذهبت يا ترى؟ هي الأخرى ذهبت دون أن تقول كلمة! في المدرسة، وضع صابر اللوحة على رافعتها، ونظر إلى وجوه الأطفال. كانت عيونهم السود بحيرةً وحمامًا! أخذت ريشته تعمل بحماس. المرحلة الثانية دومًا طويلة! وأخذت ريشته تنقل الوجوه والعيون، وتنقل القبضات اليافعة. وكانت فأس الأم في المقدمة لا تتوقف عن مواجهة الصخر لحظة واحدة، وفي البعيد، ظل الأرملة يلوح إلى قافلة الضياع. تصبب من جبهته العرق، فوضع الريشة، وبدأ يحكي للأطفال قصة اللوحة. لأول مرة يحكي، وغيره يسمع! أخذت اللوحة تكتمل شيئًا فشيئًا في العيون، واكتشف الأطفال معًا أن بعض الخطوط زائدة. فتح النافذة، فشاهدوا في السماء قطع الغيوم. قال لهم: - ستمطر قريبًا. وهو يفكر في أن ذلك سيسعد أبا إيليا. وقال لهم: - بعد المطر يأتي الصحو. حدثهم عن الأرملة، أراد أن يقول لهم إنه يحبها، لكن عيونهم منعته. في تلك الليلة، لم ينم صابر حتى الفجر، كان يقول لنفسه بأن كل ذلك لا يكفي. وكان يفكر بأن كل ذلك محطة، في طريق السفر الطويلة. تذكر أبا ماهر، فجأة هكذا، وتمنى لو يخرج من السجن بسرعة، ليسير معه إلى محطة أخرى.
14
انتشرت كذبة مروان حول بناء المستشفى والمدرسة في كل مكان، وكأنها خبر حقيقي. صارت حديث الصغار والكبار، وخصوصًا فيما يخص المستشفى. أخذ كل مريض يمني النفس بعودة طبيب، وبسرير نظيف. وتعلل كل سليم بعاهة للسبب نفسه، بينما راح يبحث كل صاحب عاهة قديمة عن آثارها ليعلنها للناس. أول ما التقت ابنة الباشا بصابر، قالت له: (( إذا كان الأمر حقًّا وحقيقة كما يقول الجميع، فإنني أود معالجة قدمي. لقد أصبت بكسر إثر سقطة عمرها خمس عشرة سنة، آه كم يؤلمني هذه الأيام! وأنا من ظنت أنها بُرئت، لكنه كان وهمًا ))! جاء أبو ياقوت من آخر الزقاق، وهو يتحاشى الدعس في الأوساخ. كان يشتم المخيم، وأهل المخيم، وحياة المخيم، بصوت خفيض فيه الغل، وكأنه يحقد على نفسه. قال لصابر: (( المخيم مرض! أترى أين يلقون قذاراتهم؟! إن مستشفى واحدًا لا يكفينا، نحن بحاجة إلى مستشفيات! )) أخبره، وهو يفرك مسبحة نوى الزيتون، أنه آتٍ من الجامع لتوه بعد أن صلى ركعتين لله تعالى، وهو الذي لم يطأ بقدمه عتبته منذ زمان طويل: (( من أجل أن يرحمنا الله، ويحقق الأماني. أتعلم، يا أستاذ صابر؟ إذا كان الأمر كذلك، فسأعالج ابنتي سمرة. كم عذبتني هذه البنت! عجز عن معالجتها كل طبيب رآها حتى الآن، حتى أطباء الجامعة الأمريكية! يعرفون من المهنة بقدر ما يعرف فيها عم محمد ضارب النعال! ومع هذا، أقول لنفسي إن العلم في تطور، وأملي في إنقاذ سمرة كبير. لا بأس أنهم قطعوا لنا البطاقة، لا بأس أنهم تركونا على جوع بطوننا، لا بأس في الأسود، وأسود الأسود، ولكن ليعالجوا لي سمرة! )). جاء أبو إيليا يعرج، فراح يشكو من الجروح التي في قدميه. ومن جانبه، أخذ سعد الله يسير مقوس الظهر، ولا يكف عن التأوه. سعل أبو رجب كلما جاءه زبون متعللاً بأزمة صدرية حادة، لكنه طمأن الناس بأنه ليس مسلولاً رغم أنه يبصق أحيانًا بعض الدم، لئلا يكفوا عن الشراء من عنده. ولم تكف حسنة عن الحديث حول الأمر، وكأن الحدث آتٍ من أجلها: فهي ستتعالج، وتأتي بطفل يسعدها، ويعوضها الشيء الكثير عما هي فيه. وقد وعدت أن تصحب الجدة عند طبيب الأسنان، ليعمل لها ضبة. قالت بدرية إنها تحس بالمرض هذه الأيام، ولا تدري أين، في رأسها أم في بطنها أم في كتفها، وما هو هذا المرض اللعين؟! وإنها تتمنى النوم على سرير في المستشفى، أبيض ووثير، بدلاً من النوم على الحصيرة، والالتحاف بالبطانية. وأضافت بأنها إذا لم تلحق نفسها، وتتعالج، فستصاب بالفالج، وتعيش طوال عمرها كسيحة، وربما ماتت شابة، وهي من تريد العيش كجدتها عمرًا طويلاً. ثم أخذت تشكو صف المرضى الطويل في مستشفى الأشرفية، كان عليها أن تنتظر ساعات وساعات حتى يأتي دورها، وأن تحتمل شتائم الممرض، وتركيبة الدواء التي يصفها الطبيب، المغشوشة، والتي تساعد على استفحال المرض، لا إيقافه. وختمت حديثها بلهجة حاسدة عن الحظ الذي سيكون للمخيم وأهل المخيم ببناء مستشفى لهم: ((مستشفى حديث وكبير لا كباقي المستشفيات!)) أسعد ذلك حسنة، وجعلها تشعر بتفوقها على بدرية، وبحظها الحقيقي! جاءت أم عثمان وابنة الباشا وطلبتا من بدرية أن تحضر أمها صالحة للمعالجة، تعالج نفسها، ويريانها، فهما لم يرياها منذ أن زوجت ابنتها لطيفة. إنها فرصة ذهبية للقاء بعد كل هذا الغياب! قال إسماعيل أفندي متهكمًا: ((إن ضميره لن يتعذب الآن إذا ما فتح رأس المختار بحجر، فهم سيعالجونه في المستشفى!)) قهقه سعدون، وقطع قهقهته فجأة، والألم يبدو عليه. وعندما سأله أبوه عمَّا به، أوضح أنه مصاب ((بالدزنتاريا)). تفاجأ الأب، إذ أنه لم يسمع بهذا المرض من قبل، فكيف عرفه ابنه؟ وفوق هذا، كيف أصابه؟ استوضحه عن هذا المرض العجيب، فأشار إلى أنفه، وقال أنه حيوان يشبه سرطان البحر يربض في أعماق أنفه، كلما تنفس تحرك الحيوان بالألف قدم التي له، وسبّب له ألمًا شديدًا! كاد مروان أن يصدق كذبته، وحينما اعترف لأبي ياقوت أن حكاية المستشفى من اختراعه، لعنه، وشتمه، واتهمه هذه المرة بالكذب. وفي الأخير، صدق مروان كذبته، وغدا أسعد سكان المخيم. راح يزايد بخصوصها لدى كل من يعرف، حتى أنه تطوع أن يأخذ أمام الجامع بنفسه لمعالجته من داء البرص الذي يغزو وجهه، لكن الشيخ رفض بسبب شيخوخته، واقترابه من الموت. ومع ذلك، أصر مروان على أن يعتني به، ويوصي به بعض أصدقائه من الممرضين الذين سينقلونهم من مستشفى الحكومة في نابلس إلى مستشفى المخيم، وفي المقابل، طلب من الشيخ أن يغدق عليه فقط ببركاته، فوعد بها عن طيب خاطر. أصيب الأستاذ زرزر بالزكام، فتمنى لو أن لديه خاتمًا سحريًّا لأمر خادمه الجني ببناء المستشفى حالاً، وذلك ليعالج منخريه، فيتنفس جيدًا في الليل، ويحصل على نوم هادئ. عزمت أم سليم على معالجة قدميها المنتفختين، وكذلك عينيها اللتين أصيبتا بالزرق لكثرة ما بكت سليمة. صفّق أبو شعبان يديه من وراء المقلى، وهتف: ((سأعالج أخيرًا من القتار حساسيتي!)) أما عم محمد الإسكافي، فقد أراد دخول المستشفى ليقضي فيه يومين للراحة والاستجمام! كان اهتمام أهل المخيم بالمستشفى يفوق اهتمامهم بالمدرسة أضعاف أضعاف، لكنهم قالوا إنها مدرسة حديثة كمدارس المدينة، وفيها ما يزيد عن العشرين حجرة، وسيحولونها من مدرسة ابتدائية إلى مدرسة ثانوية. أخذ بعض الشبان يستعدون ليصبحوا أساتذة فيها، وحجزت أم عثمان لنفسها وظيفة البوابة. استوضح زرزر المدير عمَّا لو أخبرته الوكالة بالأمر، فقال: (( لم يصلني شيء، لكن هذا لا يعني أن الخبر ليس صحيحًا، فالوكالة تسعى من أجل صالح اللاجئين. سيبنون المدرسة، أؤكد لك، هكذا يقول لي شعوري، وشعوري لم يخطئ أبدًا، لنقل، إنها الحاسة السادسة! ))
15
خرج أبو ماهر من السجن، فذهب صابر إلى زيارته. طالعه وجهه الأبيض، وهو يجلس بقنبازه على الأرض، وقد ازداد هزالاً. ابتسم مرحبًا، فحيَّاه صابر بحرارة، وجلس إلى جانبه، يشرب الشاي، ويتحادث معه كالماضي. كان يتابع آثار التعذيب عليه دون أن يقول بشأنها كلمة، فالكل يعرف ماذا يعني المعتقل. قضى أبو ماهر في السجن، هذه المرة، عامًّا وخمسة شهور، أقل مدة قضاها بين القضبان منذ أن شرعوا باعتقاله، وهو لذلك يعتبر نفسه محظوظًا! قال له إنها المرة السابعة التي يخرج فيها من السجن ليعود إليه، وبالأمس، في اللحظة التي أفرجوا فيها عنه، قعد ينتظر القبض عليه من جديد، وكأن عالمه هناك، بين القضبان، وهنا، عالم الآخرين! يرتاده ضيفًا مدة من الزمن لا تتعدى أحيانًا عدة أيام، فإذا تحرك قليلاً انتزعوه بالقوة، وأودعوه السجن مرة أخرى، وتهمته الشيوعية! ولأنه شيوعي، لم يزره إلا عدد قليل من أهل المخيم، لا لأنهم يكرهون أبا ماهر، ولكن لأنهم يخشون الشاويش. قال: (( لست غاضبًا من أحد، فأنا أعرف سبب تجنبهم لي. والحق أنهم كلهم يعرفون أن لا ذنب لي، وأنني لم أوذ منهم أحدًا، وسأغضب من نفسي إن لم أضاعف العمل، لأن من واجبي مضاعفة العمل، ولأن للعذاب نهاية، إن تقدمنا في الطريق الصحيح. إرادتنا اليوم ضعيفة، أما غدًا، فستكون كلمته مسموعة في كل مكان في العالم. إن شعبنا قادر، يجب أن يتجاوز بؤسه، وسيتجاوز بؤسه، ولن يتحقق ذلك بين يوم وليلة. بتطور الظروف، وتطور الوعي، سيهدم شعبنا الخيام، وينهض! )) وهو يتكلم، كانت تحدث صابر أعوامه الخمسون، شفتاه الواثقتان، ويداه الصامدتان، يد عامل البناء، وعيناه اللتان لا يخبو النور فيهما. أحس وهو قربه بالثقة، فوجد نفسه مطمئنًا، كله رغبة بأن يعمل شيئًا. طلب أبو ماهر منه أن يقرأ له بعض صفحات من (( ما العمل )) الذي كان يخفيه تحت المخدة، فلم يعد باستطاعته أن يقرأ لينين وحده، بعد أن أضعفوا بصره في السجن. كان صابر سعيدًا عند قيامه بذلك، واعتبر ذلك (( مهمة )) كُلِّفَ بتنفيذها، فهذه الكتب محرمة في عرف القانون! تكرر لقاء صابر بأبي ماهر، وأتمَّا قراءة ونقاش (( ما العمل )) على ضوء القنديل. لم يفاجأ عندما طلب منه أبو ماهر مساعدته في توزيع بعض المناشير، كان كلاهما يثق بالآخر، وكان ذلك أول عمل سياسي يمارسه، وينجح فيه. بعد ذلك، تمنى صابر مهمة أكبر، (( وأكثر خطورة )). باح لأبي ماهر بما يريد، فاستمهله. كان صابر يرغب في انتشال أهله من حالة الضياع التي يحيونها في أقصر الأوقات، وأسرعها، لكن أبا ماهر طلب منه ألا يستعجل الأمور، وألا يعمل بعاطفته، بل عليه أن يحتكم إلى العقل والمنطق. جعله يقرأ كثيرًا، كتبًا كثيرة، وأن يعيد قراءة بعضها مرات. أراد أن يصبح عضوًّا في الحزب، لكنه استمهله، وقال لم يحن الوقت بعد. انتظر صابر، وهو يدفع المنشورات في الليل من تحت الأبواب، والمطر يهطل، والناس نيام، وهو يجوب شوارع نابلس المعتمة، ليخط الشعارات على الجدران. وتطلع في كل صوب، علَّه يعثر على الأرملة. ذات صباح، نهض صابر، فإذا بالحديث عنه يملأ الآفاق، كل سكان المخيم يقولون إنه شيوعي. حار صابر في أمره بادئ الأمر، وحار معه أبو ماهر، فلم يعودا إلى الالتقاء أمام عيون الناس. استغل صابر الفرصة، فشدد - والأمر كذلك - على انخراطه في الحزب. وعده أبو ماهر أن يطرح الأمر على الخلية، ونصحه بأن يقلل من نشاطه مؤقتًا، وألا يتصل به إلا عند الضرورة القصوى. وماذا لو سافر صابر؟ ربما ساعد ذلك على قطع القيل والقال والنسيان. رفض أبو ماهر، خوفًا من أن يثير سفره شك السلطات ويؤكد ما يتناقله الناس. في الليل، اقتاد البوليس صابر للتحقيق بعد أن فتشوا بيته بدقة، دون أن يقعوا على شيء. جعله الشاويش أبو نواف ينتظر في زنزانة المخفر طوال الليل في البرد، وفي الغد عند الظهيرة، استدعاه إلى المكتب. كان يعارك بأسنانه فخذًا من الدجاج المشوي، وهو يلهث، ويخنفر، فكأنه يخبط في الموج. تركه يقف أمامه طويلاً دون أن يأبه بوجوده. عب الحليب من طاسة ضخمة، والحليب يسيل من زاويتي فمه، ثم مسحه بعصبية، ولم تزل قطرات منه تعلق بشاربيه الكثيفين. انتزع فخذًا أخرى، وراح يجذبها بأسنانه كأنه جائع منذ قرون. رمى صابر بنظرة احتقار، ودفع في فمه قطعة خبز، وكمية من الرز، وظل يأكل حتى امتلأت كرشه. مسح فمه بكفه، وأشعل سيجارة. أمر الشرطي الذي يرافق صابر برفع بقايا الأكل، ونهض متقدمًا من صابر بكرشه الضخمة. سأله متعمدًا إذا ما كان جائعًا، فنفى. وسأله إذا ما كان شيوعيًّا، فنفى أيضًا. وفجأة، هب أبو نواف صائحًا، وهو يتفجر بالبشاعة والغضب، وقال إنهم يذبحون الشيوعيين، فهل سبق وعرف هذا؟ وبدأ يحكي – وهو يخنفر من شدة التوتر، ويضرب عصاه في كفه – عن رأيه في الشيوعيين: - زنادقة يبيحون شرف النساء، ويحللون دم الأبرياء، وهم أكثر نجاسة من اليهود وأكثر شرًّا! يحركون الدسائس في الظلام، لأنهم كلهم أبناء حرام، يسعون إلى هدم النظام ليستولوا على السلطة، وينهبوا أرزاق الفلاحين. ارتكبوا أكبر الخيانات، وتآمروا مع العدو لتسليم القدس والمسجد الأقصى، وهم الذين كانوا من وراء نكبة العرب عام 48، إذ أن روسيا الحمراء أول من اعترف بإسرائيل، وأول من أعان بن غوريون لعنه الله شر لعنة! هو شيطان، وهم شياطين، وجميعهم من صنف رجيم! حذره، والشرر يتطاير من عينيه، وقال، إذا ثبت عليه ما يقوله الناس قطعه إرْبًا، دون أن تحول بينه وبين ذلك صداقته لأخيه الطاهر، ولا وساطة الأقربين والأبعدين. قال: (( أخوك صاحبنا، ولكن... )) سكت، وهو يلوح بعصاه، ثم نبر: - الشيوعيون أعداء الله، وقد حلل الله ذبحهم أينما كانوا، فحذار، وإلا جنيت على نفسك بيديك! وسأله: - أنت تعمل، أليس كذلك؟ أجاب صابر: نعم. - ولك أسرة تحتاج إليك، أليس كذلك؟ أجاب صابر: نعم. قال، وفي لهجته الوعيد: - إذن دعك من السياسة، واحفظ عليك عملك وأسرتك! ثم صرفه تحت الإنذار، والتهديد. خارج المركز، عرف أن الشرطة قد قلبت المخيم رأسًا على عقب بحثًا عن أبي ماهر الذي اختفى.
16
استقبلت الزغاريد صابر عند وصوله إلى الدار، وأحاطه الجيران كل يريد تهنئته. وزَّعت حسنة الحلوى والليمونادة على الجميع، دون أن يدري أحد من أين جاءت حسنة بالنقود. أتراها استدانت، أم غسلت ثياب عائلة البيك، أم فعلت شيئًا آخر؟ وبقى الناس عندهم حتى ساعة متأخرة من الليل، والنساء يغنين في براكتهم، ويرقصن. كان القمر يتهادى مصحوبًا ببعض الغيم، وعلى غير عادته كان الطقس دافئًا. وكان صابر والطاهر وأبو إيليا ومروان وابنة الباشا وسعد الله يجلسون على حصيرة فرشها لهم أبو ياقوت قرب العتبة، وراحوا يدخنون النارجيلة، ويتبادلون الأحاديث. قال مروان إنه أتمَّ ترميم الخزان، وهو الآن من المناعة والقوة بحيث يسع ينابيع الدنيا بأسرها! غيّر أبو ياقوت الموضوع، وهو يلوح بمسبحة نوى الزيتون في وجوههم، وطلب إليه أن يوافيهم بآخر كذبة اخترعها، فضحكوا، ومروان يضحك معهم، ثم سألهم: (( إذا كنت أكذب عليكم، فلماذا تصدقون؟ )) قفز أبو ياقوت في جلسته، وقال: (( لأننا حمير، وأنت أذكي منا قليلاً! )) فحرد مروان، وقال: (( حسبتك تمزح منذ قليل! )) فجأة، أخذ أبا ياقوت الضيق، التفت إليهم، وأكَّد أنه لا يمزح، وأن مروان (( كاذب ابن كاذب، وهو من أشاع عن الأستاذ صابر أنه شيوعي )). وكمن صفق أحدهم مروان في الأرض إذ راح يصرخ: (( كف عن بذر الشر، يا أبا ياقوت! أنا أقول عن الأستاذ صابر شيوعي لأدخله الحبس! أنا أقول عن الأستاذ صابر شيوعي، وهو أخي وحبيبي! فلتعلقوني على حبل المشنقة لو قلت مثل هذا الكلام! )) حدج أبا ياقوت بضغينة، ورفع في وجهه إصبعًا منبهةً: (( هذه أمور لا مزاح فيها، فحذار، يا أبا ياقوت، حذار! )) قفز أبو ياقوت من جديد، وهو يتساءل: (( إذن من؟ )) ارتاح مروان في جلسته، وأجابه دون أن يهتم للأمر: (( وما يدريني؟ ))، فلم يمح الشك من عيني أبي ياقوت، مما دعا ابنة الباشا إلى القول: (( وما الفائدة التي ستعود على مروان في القضية؟ أما أهل المخيم، فهم شياطين! )) وضعت يدها على ذراع مروان، وأضافت: (( لا تلتفت إلى ما قاله أبو ياقوت، يا أبا الحكم، فقد صرنا نعرف كذباتك، وهذه ليست منها. )) أخذ أبو إيليا يدعو: (( قطع الله لسانهم، أولئك الذين أرادوا إدخالك الحبس، يا أستاذ صابر! )) انتفض سعد الله: (( دلوني عليه أجيب لكم أجله! )) زجرهم الطاهر: (( لا داعي لكل هذا، فقد انتهى الأمر )). أطلق كل منهم تنهد ارتياح ما عدا ياقوت الذي لوى عنقه، وراح يجمجم: (( استهينوا بالأمر ما شاء لكم، أنتم أحرار! )) ثم توجه بمسبحته إليهم، والظلام يتراكم شديدًا في تقاطيعه: (( انتظروا في الغد ما هو أفظع، انتظروا أن يعيركم الناس بنسائكم وأعراضكم! )) هبَّت به ابنة الباشا: (( ما هذا الكلام الذي تقوله، يا أبا ياقوت؟ أفقدت عقلك أم ماذا؟ )) وهبَّ بها هو الآخر: (( سيأتي يوم تُنعت أم ياقوت فيه بالفحش، وأنا أرى كما ترون الآن ما نعتوا به الأستاذ صابر دون أن تفعلوا شيئًا، وسأصبح في نظر الجميع قوادًا! )) هبُّوا جميعا مدافعين عن أنفسهم وعنه معهم، مؤكدين أنه مخطئ، وشيء من هذا لم يحصل، ولن يحصل. وراح كل واحد يأخذ بخاطره من ناحية، ليرضى، ويهدأ، ويزول من عينيه اتهامه لهم بالقعود والخنوع والرضى بالأمر الواقع. ثم أشعل الطاهر سيجارة، سحب منها نفسين، وقدمها له، فأخذها منه، وسحب منها نفسين هو الآخر. كان مروان يجلس صامتًا، والضيق يضغطه بين فكيه، فدفع له أبو ياقوت السيجارة، وقال: (( لا بأس الآن، يا ولدي مروان، ولنفتح صفحة جديدة. خذ لك نفسين من سجاير الطاهر الأمريكانية وروّق، الله يلعن الشيطان! كاد يشعل النار ما بيننا، ونحن من بلد واحد، وأكثر من هذا أقارب، وقد اتفقنا على السراء والضراء منذ خلقنا الله سبحانه وتعالى، لا إله إلا أنت، يا ساتر الفقراء استرنا، واحفظ علينا حرمتنا، آمين يا رب العالمين! )). تناول مروان منه السيجارة، وأخذ نفسين، وأراد أن يبرر موقفه من جديد، إلا أنهم صاحوا به جميعًا في آن واحد، وأسكتوه، لئلا يعود الخلاف والشقاق بينهم مرة أخرى. خلصته ابنة الباشا السيجارة، وأخذت بدورها نفسين. نادت على أم عثمان التي فرغت لتوها من الرقص، فجاءتهم تلهث، وهي تمدح راقصات جيلها، كيف كانت لهن خصور هزازة تتلوى كأعواد البان! راحت تذم راقصات جيل اليوم اللواتي لهن خصور من خشب، لا تتقن الواحدة منهن إلا هز الثديين، وفرك القدمين، وهي ثابتة في الأرض كجذع الشجرة المنشور! ورغم أن أم عثمان قد فاتها القطار، فإنها تفوقهن كلهن فنًّا ومهارة. فالرقص فن قبل كل شيء، وله أصول، لإتقانه يجب إدراكها، والتمرس بها حتى يغدو الجسد مطاوعًا كأجنحة الطير في قلب الريح! ضحك أبو ياقوت إعجابًا، وضحك أبو إيليا، وضحك سعد الله، وضحك مروان، وأشعل لهم الطاهر سيجارة أمريكية أخرى، راحوا ينفثونها بتلذذ. تلوت ابنة الباشا من شدة الضحك، وهي تضرب كفها في حضنها، وتشتم أم عثمان لأنها منذ ولدت شيطانة ابنة شيطانة، وتدعو الله ألا يميتها. تطمئنها أم عثمان بأنها لن تموت، كالجان، وستبقى ما بقيت الأرض على حالها. جاءهم أبو شعبان بطبق من الفلافل الساخنة، وقال إنه أحسن مقلى صنعه في حياته، من أجل عيني الأستاذ صابر، ولينتبه على شعبان، فيصبح رسامًا ما بعده رسام! إذ طالما الأرض بعيدة الأصول بعيدة! والرسام، على أي حال، يعني شيئًا. تناولا من يديه الطبق، والتهموه بلحظة واحدة، وابنة الباشا تثني على أبي شعبان، وفلافل أبي شعبان، رغم ما ينقصه من التوابل. فجأة، قال لهم أبو إيليا إنه قرر السفر إلى أمريكا، فتفجر الجميع بالضحك، وبقي أبو إيليا يفغر فمه، وهو يكاد ينسحق. أوضح لهم ما دامت حاله كما هي عليه، فسيجرب حظه هناك. كل من ذهب إلى أمريكا عاد غنيًّا! وهو لا يطلب هذا دفعة واحدة، إنه يطلب فقط ألا يموت من الجوع، وبعد ذلك، يأتي الله بما في الغيب. وقال إنه سيتصل بإحدى الوكالات التي تهتم بتسفير الناس، فربما ساعدوه. كان رد فعل أم عثمان (( أنه مجنون، فمن أين له بالمال؟ ثم، أمريكا يعني آخر الدنيا، فكيف يذهب أبو إيليا الشحاذ إلى آخر الدنيا؟ وهل سيأخذ معه مجرفة الوحل أم ماذا؟ )) راحت تقهقه، وهو يرتعد لشدة حنقه: (( سأتدبر أمري، يا ابنة النحس! وما شأنك أنت في هذا؟ بظنك سآتي إليك راكعًا لآخذ رأيك في أمر يهمني، أنا، وحدي دون غيري! ويتوقف عليه مصيري، أنا، وحدي دون غيري! أم تظنين أنني سأطلب منك صدقة؟ طوال عمري لم أطلب مليمًا من أحد! لقد رفضناها صدقاتك! لقد رفضناها دنانيرك، وكنوزك، وجواهرك، فوفري علينا الكلام، ودعينا في حالنا! )) كانت أم عثمان قد احتقنت تمامًا، وأرادت أن تجيبه، لكن ابنة الباشا سبقتها لتهدئ ما بينهما: (( على مهلك، يا أبا إيليا، لم تخطئ المرأة في حقك! فلِمَ كل هذا الانفعال؟ )) ولم يزل أبو إيليا منفعلا: ((بحق الإله أن تتركوني في حالي )) ارتفع صوت أم عثمان: (( تركناك في حالك! ولا تغلظ لنا في القول! )) أخذ يزفر كالسمكة المختنقة، فصفق أبو ياقوت كفيه، وقال: (( هيا، هيا! أهو وقت السباب والهباب؟ )) وأردف كأن الأمر ما كان: (( ومن أين لك بثمن التذكرة، يا أبا إيليا؟ قل لنا بالله عليك. ومن أين لك بجواز السفر، والأمور الأخرى التي لا يعلمها إلا الشيطان؟ )) أجاب أبو إيليا متوكلاً: (( يعطي الله لكل أمر حلاً! )) انحنى أبو ياقوت باتجاهه، وأطلق آهة: (( لو ما راحت البلاد، لأعطيتك مال محصول كامل من حاكورة زيتون عمك أبو ياقوت تفك به أزمتك! )) نبر أبو إيليا مهتزًا: (( لو ما راحت البلاد، ما حاجتي إلى السفر إلى أمريكا؟ )) لكن أبا ياقوت تأوه من جديد، وهمهم: (( لو ما راحت البلاد، لجعلتك غنيًّا برمش عين، لملأتك بالذهب، يا أبا إيليا! )) أخذ الطاهر يقهقه كالمعتوه، وجاء صوت سعد الله المنهوك: (( ومتى تنوي السفر إن شاء الله؟ )) وقد يبس أبو إيليا في مكانه على منظر أبي ياقوت الذاهل. وقبل أن يجيبه، سألته ابنة الباشا: (( ولماذا لا تذهب إلى الكويت، يا أبا إيليا؟ الكويت صحراء لكنها ذهب ومال! وسأعطيك عنوان المحروس ليساعدك، اليوم هو في العلالي، باشا مثل جده! العز والمال والسيارة الأمريكية التي إذا وقفت عند بوزها عجزت عن رؤية طيزها! أم أن الحرارة تؤذي رأسك؟ )) قال أبو إيليا متجهمًا: (( انتهت أيام الكويت من زمان، يا ابنة الباشا! )) فشهقت ابنة الباشا، وضربت صدرها: (( أي مغفل أبوك، يا أبا إيليا، أقول لك أصبح ابني باشا، وقد أعاد أمجاد جده! )) تدخل الطاهر: (( اليوم لا دخول إلى الكويت إلا بالفيزا، والحصول على الفيزا صعب. )) التفتت ابنة الباشا إلى أم عثمان خائبة: (( أسمعت، يا أم عثمان! يقولون الفيزا! والمهربون؟ ماذا يفعل المهربون؟ دخل المحروس مهربًا، لا فيزا ولا من يعلمون، ولم يضع يده عليه أحد! )) وأم عثمان تسمع منكمشة على نفسها، ولا تنطق بحرف. قال مروان: (( حتى لأمريكا، يجب الحصول على فيزا. )) لم يتابع سعد الله تعليقاتهم، كان قد توجه إلى أبي إيليا، وقال: (( أما أنا، فسأذهب إلى السعودية، يا أبا إيليا، طريق أمريكا شائك، لا يمكنني عبوره، وقد صارت لي حدبة من كثرة ما عتلت! أبو صالح بني عمارة مما يبعث إليه ولده كل شهر، والحاج عبد الله أدى فريضة الحج مرتين، وفي النهاية، تركنا، وسكن عند ابنته كوثر المعلمة في الرياض. أتذكرها؟ أتذكر كوثر؟ كلاهما الآن في ألف نعمة. ثم أمريكا بلاد الكفار، أما أنا فسأرد على نفسي الطهارة في بلاد الإيمان! سأزور قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وأركع عند قدميه، وأقبلهما من أجل الجميع، عسى أن تفتح علينا، وتوفقنا، آمين يا رب العالمين! )) وعرض عليه: (( تعال معي، لماذا لا تأتي معي؟ سيفتحها الله عليك أنت الآخر.)) فلم يغادر أبا إيليا التجهم: (( لا، يا سيدي، خذ طريقك وأترك لي طريقي! ثم لا تنس أنني مسيحي! )) قالت ابنة الباشا ضاحكة: (( أما إذا كان الأمر كذلك، فسترطن مثلهم، يا أبا إيليا، وستشمخ علينا بأنفك، ولن تكلمنا إلا بالإنجليزي! )) ضحك أبو ياقوت، وقال: (( ما حاجته إلينا وقتذاك، سيصعد إلى العلالي بينما نحن باقون في الأواطي! )) انفرجت أسارير أبي إيليا: (( معاذ الله، يا أبا ياقوت! )) لكنه أوقفه: (( اسكت، اسكت! تقولها فقط بلسانك! )) فجأة، تساءلت أم عثمان مدهشة: (( لماذا صمتوا؟ لماذا المخيم صامت؟ )) ثقلت حواجبهم، وتراخت أفواههم، وطالت ذقونهم، ودب في قلوبهم الرعب. أخذت ابنة الباشا تهمهم: (( يا الله! احفظنا، يا الله! )) وما لبثت نقرات الطبلة أن انبثقت في السكون، وانطلق غناء يقول:
سلام يا طير الهنا من بعد ما ودعتنا قلبي عليك حسران والغرام عندنا ضنى
أخذت ابنة الباشا تتأوه بصوت مرتفع، وانطلق نباح أحد الكلاب مصاحبًا بعض النواح، وهم يصغون حائرين في أماكنهم. كانت أم عثمان قد غادرتهم دون أن تقول كلمة. عند ذلك، جاء صالح مع حجازي، وتوقفا عند أول الزقاق، وبعد أن تبادلا بعض الكلمات، ترك كل منهما الآخر، واتجه صالح إليهم. كان مروان قد مال على أذن الطاهر، وأخذ يوشوشه دون أن يسمعوا سوى (( صالح وسلمى وسليمة))، والطاهر يهز رأسه على التوالي ممتقعًا. ألقى صالح السلام، وعانق صابر، ثم سلًّم على الباقين واحدًا واحدًا، وهو يبتسم، وينعكس عن شفتيه الضوء، وتنبعث من يديه رائحة الشغل. وما أن جلس حتى ابتدره الطاهر سائلاً إذا ما أصلح له السيارة، فأخبره بأنها عجوز، وهي مريضة، لا يمكن إصلاحها بسهولة، وسيعمل جهده غدًا كي يجعلها تسير، ولكنها لن تسير طويلاً. توتر الطاهر غضبًا، وراح يكيل اللوم عليه، (( إذ بسببه سيضيع يومًا آخر بلا عمل، يعني يومًا آخر بلا مال، المال الذي يدخره تعريفة فوق تعريفة لشراء السيارة الجديدة. أما هذه، فهي تسير منذ خمسة عشر عامًا، فكيف تراها ألا تسير اليوم! كل ذلك بسببه، فلو أراد إصلاحها، وبذل بعض الجهد، لاحتاجه ذلك إلى بضع ساعات لا أكثر! )) أراد صالح أن يشرح له إلا أن الطاهر أخذ به صياحًا وشتمًا أمام الجميع. لم يستمع إليه صالح حتى النهاية، أعطاه ظهره، واتجه بخطوات سريعة إلى حيث تسكن أم سليم، مما أطار صواب الطاهر. هب ناهضًا، وجرى حتى أمسك به. كانوا قد نهضوا جميعًا، وأحاطوا بهما، وهم يحاولون الحيلولة بينهما. وكانت النساء قد كففن عن نقر الطبلة، وخرجت بعضهن ليقفن على الخبر. هدّد الطاهر صالح إذا لم يدخل الدار حالاً ألا يدخلها طالما بقي حيًا! فطلب أبو إيليا من صالح: (( أن يخزي الشيطان، ويسمع الكلام، ويحول دون المشاكل)) ورجاه سعد الله: (( اسمع الكلام يا ولدي! )) وقال أبو ياقوت: (( معلهش، إنه أخوك الأكبر، وهو بمثابة أبيك، لقد وجبت له الطاعة! وعلى الصغير أن يطيع الكبير! )) وراحت ابنة الباشا تستسمح الطاهر، وهي تقبل يده، وتدفعها على بقايا ثديها كي تخفف من حدة غضبه وانفعاله. ثم انفجر أبو ياقوت صارخًا: (( الله أكبر! أنتم إخوة من لحم ودم، فلم الشقاق والخناق!؟ ليخز كل منكما الشيطان، وعودا إلى الصواب! )) كان الطاهر يرى هذه الأفواه المتغضنة بالليل والفقر دون أن يسمع لها، وكأنه أراد سحقها واستغلالها في اللحظة التي قذف فيها صالح بقبضته، وانهال عليه ضربًا ولكمًا، وصالح لا ينبس بحرف. كان يضغط أسنانه، وقد نشبت العروق في صدغه. وكانوا قد جمدوا في أماكنهم جميعًا، حائرين خائفين. اندفع صابر بينهما، وأبعد صالحًا، والطاهر يصرخ قائلا بأنه باع صالح لأم سليم وابنتها سلمى! باعه بقرشين قذفهما في الوحل! وأخذ يردد على سمع الجميع: (( مثلما جلبت سليمة لأهلها العار، سيجلب صالح لأهله العار، وفي النهاية ما يشاع في المخيم صحيح، وكلاهما كلب من صنف واحد! )) عندما دفع صالح باب أم سليم، وجد سلمى تبكي من ورائه. وكان زكي، الأخ الأصغر، قد أخذ يجري – بعد أن تعثر بساق الشهم المشلولة، والشهم عاجز عن مد يد الغوث له – صوب المنطقة التي يرمون فيها هياكل السيارات المحطمة، وأخذ يبكي، وهو ينهشه الذنب، دون أن يستطيع حملهم على الصراط المستقيم. بعد ذلك، تفرقوا، وعاد كل واحد منهم إلى جحره. أكمل الطاهر قذف شتائمه على زوجه، وضربها، وهدّد بطلاقها، ولولا توقف سيارة عبد المؤمن الذي جاء في طلب الطاهر، لقتل حسنة، أو – وهذا في أحسن الأحوال – حطم لها عضوًّا من أعضائها. ذهب به عبد المؤمن إلى طريق السفر، وحدثه عن مشروع التهريب: (( الأقمشة في إسرائيل جاهزة، تبقى عليك عملية نقلها، وسيتم كل شيء بحماية الشاويش )). اتفقا على يوم التنفيذ بعد إصلاح السيارة، ثم عاد به إلى المخيم، ورماه قرب المقهى، وكأن شيئًا ما كان. دخل الطاهر ليشرب، ويدخن، ويلعب، ككل ليلة، ولم تكف حسنة عن البكاء، وصابر يسمع، ويرى، ويفكر في الأيام القادمة، وقد أخذ مجلسًا قرب جدته الصامتة.
17
بَطَّنَ الغيم الأسود وجه السماء، وغاب المخيم في عالم من الدجنة. كان أهل المخيم ينامون ككل ليلة، وأزقتهم مفتوحة لكل من يريد الدخول. زالت الشوارع المعبدة عن خيالهم رويدًا، رويدًا، حتى اختفت تمامًا، وبقيت لهم أزقتهم المحفرة التي جفَّ عليها الوحل، وغدا ترابًا أسود يتراكم في زوايا قلوبهم وجدرانهم. وكان ساق شوكي ينغرس عند كل عتبة من عتباتهم، وهو يستنزف دمهم دون أن يأبهوا به أو يبالوا، كانوا يهرقون دمهم، ويغدون ثمرًا مرًّا في حقل الشوك. أول ما دخل الطاهر المقهى، تناول قدحين من العرق دفعة واحدة. وأخذ إسماعيل أفندي كعادته يهزأ بالمختار، وسعدون وأبو سعدون يعلقان بما يرضيه، ويجعله طربًا، بعد أن غدت حكاية المخترة حكاية لا غنى لهما عنها، جزءًا من حديث يومي، يبهرانه ويملحانه، حتى إذا ما كف إسماعيل أفندي عنه بعض الوقت أحسا بالضيق، وأثاراه من جديد. وعلى حين غرة، أخذ سعدون يصفق، ويقهقه، ويقول إنه حلم ليلة أمس بإسماعيل أفندي، وهو في العقال المذهب، والحطة الحرير، والديماية الحرير، يقف على ربوة المخيم ناصبًا يديه في الهواء، وأهل المخيم كلهم راكعون عند قدميه، كأنهم كفرة دخل الإيمان قلوبهم فجأة، جاؤوا يستغفرونه، ويطلبون منه الرحمة! قهقه أبو سعدون، وقال: (( لكأنه المسيح! يا زنديق يا سعدون! كيف تسمح لنفسك بحلم كهذا؟ )) وقهقه إسماعيل أفندي أيضًا، وقال: (( هذا حلم للأنبياء حقًّا! )) كان سعدون قد اقترب منه، وقد تخدرت شفتاه لكثرة ما ضحك: (( ما رأيك لو تحقق ذلك؟ ماذا تعطيني لو تحقق ذلك؟)) جذبه إسماعيل أفندي من ذراعه، فانحنى، وأصبح وجهًا لوجه معه. غدا سعدون باهتًا، وهو ينظر، فيرى في عينيه صحراء ليلية، تجتاح كثبانها آلاف الأقدام الشاردة، وتمتد أعمدتها العملاقة إلى ما لا نهاية حتى تغطي الكون! همهم إسماعيل أفندي: (( لو تحقق ذلك أعطيتك كل ما شئت وما أردت! )) غاب قليلاً، فحسبه داخ لقدح العرق. انفجر سعدون مقهقهًا، ليبعد عنه الخوف، وأهوى بكفه على وجه إسماعيل أفندي ممازحًا، وبقوة هائلة، انقض إسماعيل أفندي على عنقه، ثم قذف قدمه في بطنه، ودك صدغه بركبته، فإذا به يتخبط بالدم. هب أبو سعدون ومروان وأبو رجب ليفصلوا بينهما، وفي اللحظة ذاتها قبض إسماعيل أفندي على عنق سعدون، وهو يدنيه من حذائه، واستدار نحوهم لاهثا، مهددًا: - إذا تقدم أحدكم خطوة واحدة أجهزت عليه! وراح يشتم، ويهدد من جديد. قال سينالهم نفس المصير، وهو يحقد عليهم منذ زمن لأنهم كلاب، وسيذلهم واحدًا واحدًا حتى ينزفوا الدم مثل سعدون، وسيجعلهم يلحسون نعليه! أخذ يدني رأس سعدون من حذائه، وهو يضغط عنقه بكل ما استطاع من قوة والدم ينفر من أنفه كالتيار. ثنى حذاءه، وأمره أن يلحس نعله، فقذف سعدون لسانًا دمويًّا، وراح يلحسه، وقد تغلغلت في قلب إسماعيل أفندي النشوة حتى أعماقه، وأخذ يقهقه كالمجنون، وسالت دمعة من عيني أبي سعدون. تراجع مروان إلى حيث يقف زرزر، والخوف يبدو عليه، وهمهم أبو رجب متسمرًا في مكانه: - لا حول ولا قوة إلا بالله! توجه إلى الطاهر طالبًا التدخل: - لماذا لا تفعل شيئًا، يا الطاهر؟ هل انقلب العالم على رأسه وأصبح مجنونًا؟ أوقف هذه المصيبة، يا الطاهر! كان الطاهر ينقل بين يديه حجري الزهر، ويطرحهما على الطاولة، ويرى أي رقم يعطي كل منهما دون أن يعيره أدنى اهتمام. التفت أبو رجب إلى الزاوية، حيث يجلس أبو محمد على الأرض، فرآه يشرب النارجيلة غائبًا، وينفث الدخان. كان زرزر ومروان يتهامسان خلف ظهره، وقد لاحظ أصابع مروان القصيرة كيف ترتفع وتهبط في الهواء دون ظل على الأرض. ترك عم محمد المقهى، وراح يسعل في الخارج بحدة، فانقبض قلب أبي رجب، وصاح مذعورًا: (( لماذا أحدكم لا يتحرك؟ لماذا أحدكم لا يجيب؟ ألا تسمعون؟ أم قطع الله لسانكم لأنكم وحوش وكفرة؟ )) انفجر الطاهر يضحك بقوة، وانفجر أبو محمد يضحك بقوة، وكذلك إسماعيل أفندي بعد أن أطلق سعدون، وحط الاستغراب في جبين كل من زرزر ومروان للحظة، ثم انفجرا يضحكان بقوة. راح أبو رجب يشتمهم، ويلعنهم، لأنهم شياطين أبناء شياطين، وهو بريء منهم ليوم الدين! وما لبث أن انفجر يضحك كأنهم غرزوا كلهم أصابعهم في خصره. كانوا كلهم يضحكون كالمعتوهين إلا أبو سعدون الذي أخذ يمسح دم ابنه متحجر التقاطيع. جرع الطاهر قدحه، وأحضر بطانية من صندوق، فرشها عند قدمي أبي محمد، فجاءوا كلهم يجلسون في دائرة، وهم يخفقون حجري الزهر في القدح، ويلقون قروشهم، ويقامرون عليها، فيكسبها الطاهر، والنشوة تدغدغ صدغيه، وقد بدا وحده صاحب الحظ في تلك الليلة. كان الطاهر قد اتفق مع البيك أن يلعب أيضًا لحسابه، أعطاه بعض الدنانير على أن يتقاسما الأرباح، أن يأخذ البيك النصف، ويحتفظ الطاهر بالنصف الباقي. قال له: (( هكذا تزداد مدخراتك بسرعة، فتشتري سيارة خلال عام. )) كان الطاهر قد صمَّم على ألا يخسر أبدًا، وكان، وهو يختلس النظر إلى وجوههم الخاسرة، ينضح بالنشوة. وهو ينتزع من أيديهم المتشققة أموالهم، كان يرتوي من بؤس تلك الأيدي. وكان يكتسح قلبه شعور بالتفوق والغلبة كلما عظمت حصيلة نقوده، كان يتطلع إلى المستقبل، من خلال بريق الربح، فيحس أنه سيد الجميع، وأن العالم في قبضته. توقف أبو رجب عن اللعب مهلكًا، وبدت أمارات اليأس على وجه أبي محمد. طلب إسماعيل أفندي نارجيلة دوبل بلهجة صارمة، فذهب سعدون، لتهيئتها، وكأن شيئًا ما كان بينهما. سأل أبو سعدون ولده أن يحضر له علبة القروش من الجرار مع عودته، وراهن مروان على خمسة وعشرين قرشًا دفعة واحدة، وفي ظنه أنها ستكون ضربة حظه الكبير مرجعًا كل ما خسره. وكان زرزر قد خلع ساعته التي ثمنها خمسة دنانير، سلمها للطاهر بعد أن رهنها بنصف دينار، والطاهر يقهقه طربًا. ربح بعضهم مرة أو مرتين، وخسروا باقي المرات، وحجارة الزهر لا تتعب من الخفق الدائم. تطرق زجاج القدح، فينتج عن ذلك صوت ساخر. إلى أن انسحبوا جميعًا، وبقي إسماعيل أفندي والطاهر وحدهما في حلبة اللعب. لعب إسماعيل أفندي، ولعب حتى جعله الطاهر يفلس تمامًا. وعندما أراد الطاهر أن ينصرف، قبض عليه إسماعيل أفندي من ذراعه، فتأجج الطاهر كبصة النار، وسأله عما يريد، وإذا كان يرغب في الشجار؟ لكن إسماعيل أفندي أدخل يده في جيب سترته بعصبية، وأخذ يعبث بأصابعه، وهم يتابعون باهتين. وبعد لحظة، أخرج سوارًا من الذهب راحت تنعكس عنه شراسة أشعة القنديل الضعيفة، فانغرسوا في أماكنهم مبهورين. وبينما كان إسماعيل أفندي يعيد إلى نفسه الثقة والشرف المفقود، كان لعاب الطاهر يسيل طمعًا باستلاب السوار، وبدا كالمسحور. نبر إسماعيل أفندي: - إنه يساوي مائة دينار. أعاد سعدون منبهرًا: - مائة دينار! ولم يتساءل أحدهم من أين لإسماعيل أفندي بسوار يساوي مائة دينار. - ماذا تقدم بالمقابل؟ تردد الطاهر، ثم وضع كل ما في جيبه من مال، دنانير البيك وما ربحه منهم، وبحركة بطيئة رمى فوقها مفاتيح السيارة. - أهذا يكفي؟ جعل إسماعيل أفندي السوار يسقط فوق كل ما وضعه الطاهر، وفرك حجري الزهر بأصابعه مليًّا قبل أن يقذفهما داخل القدح، ويقلبه على الأرض، وراح يحركه يمنة ويسرة، يسرة ويمنة، وحافته تحتك، وهم يسمعون تقاذف الحجرين من جانب إلى آخر. يمنة ويسرة، يسرة ويمنة، حتى انفصلت يده للحركة السريعة إلى اثنتين، قال كل منهما رقمين، وأطبق إسماعيل أفندي بكفه على القدح. يا للرعب! انحنى إسماعيل أفندي، وهم يتابعونه بخوف، وكأنه يقامر على أعناقهم جميعًا، ورفع القدح. هبطوا برؤوسهم، وهم يجرون الحساب معًا، فربح الطاهر. جمع الطاهر النقود على هينته، دفع مفاتيح السيارة في جيبه، وتقدم بالسوار من القنديل، وراح يفحصه، ثم دفعه هو الآخر في جيبه، وسار خطوتين باتجاه الباب، فوجد سعدون بجسمه الضخم يعترض طريقه. التفت إلى أبيه، وهو يضغط أسنانه، فوجده كابنه قد عزم على انتزاع السوار منه: (( ابعد ابنك عن طريقي، يا أبا سعدون، وإلا حصل ما لا يرضيك ويرضيه! )) لم يحرك أبو سعدون ساكنًا بعد أن نبتت علاقة جديدة بين سعدون وأبي سعدون وإسماعيل أفندي من أجل الذهب، إذ وقف إسماعيل أفندي متأهبًا، وكأنهم اتفقوا على اقتسام كل شيء. مدَّ الطاهر يده، وبأطراف أصابعه حاول إزاحة سعدون، لكنه كان ثقيلاً كالبرميل. خلال ذلك، كان أبو محمد قد انسل إلى الخارج خفيف الخطو، وانسل مروان وزرزر، هما أيضًا، من ورائه، وبقي أبو رجب متسمرًا في مكانه. جرع الطاهر بقية قدحه محاولاً أن يتحاشى العراك، دار بسعدون متجاهلاً رد فعلهم، وغادر المقهى. فإذا بأبي سعدون يقفز باتجاه الصندوق، ويخرج سكينًا طويلة، تناولها إسماعيل أفندي بسرعة، ودفعها في قبضة سعدون، وانطلق ثلاثتهم في أعقاب الطاهر. كان الطاهر قد عمل حسابه لكل شيء، فلم يأخذ طريقه المعتادة إلى الدار، بل أتى المكان الذي فيه هياكل السيارات المحطمة، وأخفى نفسه بينها. وبعد نصف ساعة، اتجه عائدًا إلى البيت، فدخل الأزقة حذرًا، وإذا بأحدهم يقبض عليه عن كتفه، ليهب الطاهر يريد الدفاع عن نفسه، لكنه ما لبث أن أطلق نفسًا مرتاحًا، وسأل بتراخٍ: (( ماذا تفعل هنا، يا سعد الله؟ )) كان سعد الله يهيم في الليل، والخوف والجنون يبدوان عليه. (( ألم تنم بعد؟ )) همهم سعد الله كأنه يحادث شيطانًا: (( لم يغف لعيني جفن، فخرجت في الليل! )) أعطاه الطاهر ظهره، وقال: ((اذهب، ونم الآن، الكل نيام. )) لكن سعد الله قبض عليه مرة أخرى من كتفه، وقال كالغائب: (( لقد رأيته، كان يحمل على كتفه بندقية، وهو عملاق كالجبل، وقد انخطف في الزقاق كأنه البرق! )) أيقن الطاهر أنه يهلوس، فأراد أن يصرفه بأية طريقة، والآخر يقول: (( أتدري من هو؟ زوج الأرملة! )) انشق فمه، وهتف: (( لقد رأيته! تبعته عن كثب دون أن يراني إلى أن دخل بيتها. لا يدري أنها رحلت! )) كانت العتمة شديدة بحيث لا يبدو من سعد الله سوى لمعان عينيه، وكان الطاهر قد ابتعد خطوة: (( طيب! أنا تعب، يجب أن أذهب، مع السلامة. )) تركه من ورائه، ثم أخذ يمينه، وعندما أصبح عند فوهة الزقاق إلى بيته، سمع وقع خطوات سعد الله المتعبة تدب من ورائه، فاختبأ خلف جدار من القصدير حتى اطمأن لذهابه. خرج من مكمنه، إذا بالخطوات تعود من جديد من ورائه، بأكثر سرعة، وأكثر عصبية، فقذف نفسه على الأرض، وفي اللحظة نفسها، انطلقت صرخات إثْرَ بعض الطعنات. كان بعضهم قد خرج، وفي أيديهم المصابيح، فوجدوا سعد الله راقدًا في دمه، وجسده يخبط في الأرض كالكبش الذبيح.
18
ألقى الشاويش أبو نواف القبض على سعدون، وأبي سعدون، وإسماعيل أفندي، لكنه أجرى تحقيقًا صغيرًا مع الطاهر، ثم تركه وشأنه. كشف السوار عن العلاقة المتينة التي تربط شوقي بإسماعيل أفندي، إذ هو سوار مسروق من محل الصياغة. وتبين من مجرى التحقيق أن إسماعيل أفندي هو رأس (( العصابة ))، ومنه يتلقى شوقي الأوامر.
19
ذهب صابر إلى المستشفى الحكومي لزيارة سعد الله، وجده ملفوفًا بالضمادات البيض. ولأول مرة، رآه يشتعل نظافة. وضع على الطاولة كيلو برتقال، وسأله عن الصحة. أجاب بأنه بخير، وكل ما حصل مكتوب من عند الله. كانت له شفتان جلديتان، ولكثرة ما نزف من دم، برزت عظام وجهه أضعاف ما كانت عليه، وبانت على جبينه بشكل عميق، آثار الحبل السميك! أخذ يتكلم وحده، ودون مقدمات، عن زوج الأرملة الذي رآه في تلك الليلة. قال إنه عملاق كالجبل، وله بندقية بماسورة من الفضة، كانت تنير في الليل نورًا ثلجيًّا. تركه صابر يحكي، وهو يقول لنفسه: لا بد أن هذا أبو ماهر، فقد وجدوا صباح اليوم التالي بعض المناشير. تساءل عن سبب عدم اتصال أبي ماهر به إلى اليوم، لكنه كان يعرف المخاطر التي ستواجهه في سبيل ذلك. غادر صابر المستشفى، وسار في شارع الملك فيصل المشجر، وراح يفكر في الأرملة، وتمنى لو يلقاها. كانت نابلس جميلة مثل كل مرة أتاها، وكانت نابلس حزينة على عكس كل مرة رآها. كان يرنو إلى دكاكينها، وأشجارها، فيرى عند زوايا الصمت كيف يكمن الشتاء في معطفه. وكان جبل النار إلى يساره عظيمًا، وفي الوقت نفسه صامتًا. كان صامتًا، وبدا وحيدًا. وذهب إليها، إلى حبيبته نابلس، وارتمى بين ذراعيها. أحس أنه شقي رغم أنه في حضنها، وأحس أنه غريب رغم أن ذراعيه حول خصرها، وأحس أنه وحيد، وهي وحيدة، رغم عناقهما منذ غربته الأولى، وأحس أنه في الوراء، وهي أيضًا والشتاء... وكانت في عينه دمعة، وفي قلبه دمعة، وفي خصره دمعة، ولم يكن يبكي. قبل أن يدنو من الكراج، رأى صالحًا وحجازي يدفعان سيارة محطمة. كانا يتصببان عرقًا، وهما يبذلان جهدًا كبيرًا. عندما وصلهما سلما عليه، قال لهما إنه زار سعد الله، وأراد أن يراهما، إن الكراج في الطريق. سألهما عن السيارة، ماذا سيفعلان بها، وهي محطمة؟ لكن عيني صالح لمعتا، وقال باسمًا: (( سوف نعيد صنعها من جديد ))، ولم يكن صابر واثقًا، لكنه لم يشأ تثبيط عزمه. عادا يدفعانها، وهو يراقب عن كثب، وهو يشاهد عضلاتهما المفتولة كيف تصبح صلبة كالحديد تحت الضغط الشديد. قال لنفسه: لكنها محطمة تمامًا، وستضيع قوة هذه العضلات سدى! وهما على أعتاب الكراج صاح بهما: (( لماذا لا يشتري صاحبها غيرها؟ )) التفت إليه حجازي: (( ليس لديه مال. )) ((وهل ستعود قوية كالماضي؟ )) قال صالح: (( موتورها لم يصب بسوء، وسيكون شكلها أفضل بكثير. )) (( والوقت؟ ستحتاجون إلى وقت طويل.)) (( إذا اشتغلنا بهمة، انتهينا خلال شهر! )) (( شهر! ستضربونها بقفا اليد! )) جاءه صالح، وهو يمسح عرقه، وقال: (( قلت لك موتورها لم يصب بسوء. )) أشار إلى سيارة الطاهر: (( ليس مثل سيارة الطاهر، موتورها تعبان رغم أن شكلها نظيف! )) قال صابر: (( يجب أن تعود إلى الدار. كفانا تمزيقًا! أنت في طرف، وأنا في طرف، وزكي في طرف، والطاهر في طرف! يجب أن تعود إلى الدار لنبقى معًا، عد إلى الدار، وتزوج سلمى. )) بقى صالح صامتًا، ثم قال: (( أنا أعرف، لن تنتهي المشاكل بيني وبين الطاهر. )) (( حتى بعد أن تتزوج سلمى؟ ستتزوجها وتصبح أسعد الناس! )) لكنه كان يفكر في أمر آخر. مرت بهما سيارة سوداء تحمل إشارة حكومية، وتوقفت عند باب العمارة المقابلة. أشار صالح برأسه إليها، وخفض صوته: (( أرأيت تلك السيارة؟ إنها سيارة أحد الوزراء. )) عتمت ملامحه، وانتحى به جانبًا: (( أردت أن أقول لك منذ زمن بعيد. أنا وحجازي نخطط لتفجير السيارة عندما ينام الجميع. )) (( تفجير السيارة الحكومية! )) (( اخفض صوتك! أتدري ماذا بعثنا للوزير؟ بعثنا له بتهديد لوَّثت كفي بالشحمة، وطبعته على ورقة، فأخذ شكل أصابعي منظرًا مخيفًا، وكتبنا تحتها (( الموت لك، يا خائن! )) ، كان ذلك بمثابة تهديد، وسنتابعه حتى الموت! ))
20
تأمل صابر لوحته الناقصة، وأخذ يرسم: الصخر مستحيل، لكن فأس أمه مستحيلة أيضًا! ترفع الفأس، وتزرعها في الصخر، فينبثق ساق الزهر. ترفع الفأس، وتزرعها في الصخر، فينطلق طائر البرق. ترفع الفأس، وتزرعها في الصخر، فتخصب الفأس، وتغدو حقلاً يصطخب بالزرع. وتبتعد بها الطريق، تقترب بها الطريق. ويبدو ظل الوطن من بعيد، الوطن كبير، والظل أكبر. يكبر الأطفال، وتشتد قبضاتهم حول الفأس، ويصير الشوق أصغر من قلوبهم، أصغر بكثير، بكثير أصغر. لم يرسم صابر هذه المرة للأطفال، لم يرسم الأطفال. كان يرسم للكبار، كان يرسم الكبار، تلاميذ السادسة عشرة. صار الأطفال كبارًا، والكبار كبارًا. وصارت الجفون أوتارًا، والرموش سهامًا. وصارت الطريق مركبًا، والسواعد شراعًا. وصار النهر جديدًا، وصار النهر عميقًا. عندما تعب، توقف عن الرسم، وطلب من تلامذته أن يعيدوا رسم اللوحة، رغم أنها ناقصة. في المساء، جاء رجال شرطة أبي نواف، ووضعوا في يدي صابر الكلبشات، لأنه يعلم الأولاد السياسة، وأشاروا إلى اللوحة. عندما علم صالح بالأمر، عاد إلى البيت، وأخذ يسعى بين الناس لإطلاق سراح أخيه. ولأول مرة، نهض الآباء. ذهبوا إلى المختار، وجذبوه من لحيته. طلبوا منه أن يعمل على إخراج صابر من السجن حالاً أو يهجموا على المخفر، ويخرجوه بأنفسهم. راح المختار يجري ليبحث مع أبي نواف الأمر، ويرى ما يمكن فعله. كانت وقفة الآباء حاسمة، إذ أطلق الشاويش سراح صابر في الصباح، ليكمل مع تلامذته اللوحة. كان شعبان أشدهم تعلقا بأستاذه، وكلما مضت الأيام طوّر شعبان رسومه، وفكر. كان يفكر باستمرار، ويبحث عن النبع، وعن قوة النبع، عن مصدر القوة.
21
مضت فترة بعد اعتقال صابر، وفي إحدى المرات، عاد إلى البيت مع انتهاء دروس الساعة الثالثة، فوجد زكي بانتظاره على العتبة. كان له وجه متيبس كالغصن الجاف! حيره، وهو يجذبه من ذراعه إلى طريق السفر. سأله ما الخبر، قال: - لا أستطيع أن أكتم سري عليك أكثر، فهو يقعد على قلبي، ويكاد يخنقني، يا أخي. حاولت أن أخلص من تأثيره عليّ، لكنه ظلّ يلاحقني، ويعتصرني، فأتعذب، وأبكي أحيانًا في الليل. أريد أن أرتاح، وأريح ضميري، وذلك بأن أبوح لك بكل شيء، ويا ليتك تجد لي حلاً بعد أن عجزت. لم أستطع، يا أخي، رؤية ما أرى، وهو يتكرر أمام عينيّ دون أن أفعل شيئًا. ستقول إنني صغير، ولكنني أفهم الأشياء، وأميز بينها، أعرف ما هو طيب، وما هو سيء. ما هو خير، وما هو شر. أما هذا، فهو شر كبير، وحرام لا يمكن السكوت عنه أبدًا. قلت للشهم، لكن الشهم، بقدميه المشلولتين، لم يستطع شيئًا. أردت أن أبوح به للمرأة التي اشترت مني معظم ما معي من كعك في رفيديا صباح أن اكتشفتُ علاقة سليمة بأبي محمد الفران. لا تعجب، يا أخي، فأنا أحب تلك المرأة. أحببتها منذ ذلك اليوم، وعدت إلي شبابيكها كل يوم، وأنا أنادي، ليس من أجل أن أبيعها كعكي، ولكن من أجل أن أراها، فلم تطل أبدًا. وذات يوم، طرقت عليها الباب، طرقته بقوة، فلم يجبني إلا الصدى. كنت مزمعًا على أن أبوح لها بسري، لا بحبي.. أتفهم؟ أنت لا تفهم. إذن اسمع، يا أخي. غادرنا البيت جميعًا منذ الصباح الباكر، أنا وأنت وصالح والطاهر، وأخذت حسنة جدتنا إلى طبيب الوكالة المتنقل، وكما تعرف، كان عليها أن تخرج أيضًا منذ الصباح الباكر من أجل أن تعمل دورًا. عند منتصف النهار، قلت لنفسي بدرية وحدها، سآخذ لها رغيفًا ساخنًا للغداء، فأُسعدها، هي ضيفة علينا على كل حال. تجاوزت أعواد القصب التي تغطي مدخلنا، فوجدت الباب موصدًا، وبسرعة، عرفت. اقتربت بحذر من شق، ونظرت، فإذا بالأمر كما توقعت. كانت بدرية عارية في حضن الطاهر، وهما يقترفان الإثم! أعرفت الآن، يا أخي؟ هذا هو الخبر! أما أنا، فكنت أعرف منذ زمن، منذ بدأت تلقاه في المكان الذي يرمون فيه هياكل السيارات المحطمة. كانت تتركنا في الليل، وفي ظنها أننا نيام، لكنني كنت أتبعها عن كثب، فأرى ما رأيته اليوم في دارنا. لا أستطيع بعد اليوم احتمال ذلك، أكاد أموت. كلكم تغمضون عيونكم، أما أنا، فأراكم جميعًا كلكم! وأخذ زكي يهتز بين يدي صابر كالنخلة المساطة، ولم يتمالك نفسه عن البكاء، رمى برأسه على كتف أخيه، وانفجر يبكي.
22
نجح صابر، في النهاية، في إيقاف بكاء زكي. أخذ يده الطرية، وطمأنه: سيكون كل شيء على ما يرام! سيطلب من بدرية السفر حالاً إلى عمان، ويحذرها من ألا تطأ قدمها أرض المخيم ثانية أبدًا، وسيتكلم مع الطاهر أيضًا، لكن يجب أن لا تعلم خالته صالحة من الأمر شيئًا، وإلا تزعزع كيانها، وهو لهذا، لن يبوح لها بكلمة، ولن يقول شيئًا لأنور، أخي بدرية، أو حتى لزوج أختها لطيفة، فلا يقتلها هذا أو ذاك. عاد به من طريق السفر، وبين آن وآن كانت السيارات تمر بهما مبطئة، أبدًا مبطئة. أخذ الرماد يتساقط من منفضة السماء، وصار سكون الهواء كارثة. سأل صابر أخاه: (( أتظنها ستمطر؟ )) رفع زكي رأسًا شاردًا نحو السماء، ثم خفضه نحو الأرض، وبقي صامتًا. أوصله إلى الفرن، واتجه إلى البيت، فلم يجد بدرية، ولكنه وجد حسنة، فأدهشه ذلك. أخبرته أن البشر في العيادة المتنقلة كالنمل، ولن يأتي دور جدته قبل عدة ساعات، لهذا، بعثت بدرية لترافقها، وعادت هي للقيام ببعض الواجبات المنزلية. نصب صابر لوحته الناقصة، وراح يتفحصها، بينما أخرجت حسنة حذاء زوجها من الصندوق، وراحت تنظفه، وتلمعه، ثم تنفخ بأنفاسها عليه، وتلمعه من جديد، حتى صار كالمرآة. لم يلاحظ صابر في المرأة شيئًا غير طبيعي إلا عندما التقت عيناه بعينيها بالصدفة مرة، فأنهت له بضع نظرات غريبة. كانت عيناها كغصن تلوح به الريح، كلما استقام لوحت به الريح من جديد، حتى خُيِّلَ له أن عينيها تتقصفان. فجأة، انتصب فيهما خوف جريء، فأشاح بوجهه عنها، وتجاهلها تمامًا. نهضت، وجاءت بطشت فيه ماء، بثياب زوجها، وبفلقة صابون، وأخذت مجلسًا من أمامه. رفعت ثوبها، وتركته يسقط عن فخذيها، وراحت تدعك الغسيل، فيقذف الماء جسدها، ويجعل فخذيها لامعين. أراد صابر الخروج، فاعترضت طريقه، واهتزت متوسلة: - لا تكن قاسيًا كالحجر، إنها فرصتي الوحيدة. أعرف اليوم أنك هنا قبل وقتك المعتاد، وأن لا أحد في الدار. وما أخذت الجدة من أجل عينيها، فهي لن تبرأ حتى ولو أعطاها الطبيب ماء الحياة. بعثت بدرية إليها كي أجيئك، وأقول لك بأنني أحبك، لا، بل أعشقك! كأنك خالقي! أعشقك! ألقت بنفسها عليه جامعة إياه بين ذراعيها: - أنت كل شيء لي في الوجود، وأنا أعبدك، أفعل فيّ ما شئت! اضربني، اصرعني، فقط خذني بين ذراعيك! ضمني كي أحس بك، أحس بذراعيك تقتلعانني، فقط أحس بك، فأنت عظيم! ولن تعرف قيمتك واحدة سواي. خذني خادمة، جارية، ذليلة، فقط دعني أقبل عنقك، صدرك، قدميك! وسقطت على قدميه، لكنه دفعها، واتجه إلى الخارج، فإذا به يجد زكي واقفًا من وراء الباب.
23
أخذ زكي يعدو، فخفَّ صابر من ورائه، وناداه، لكنه بقى يعدو، والشهم يقذف نفسه قذفًا، دون أية فائدة من اللحاق به. انفجرت الرعود، وأخذ الغمام الأسود يدور في دوامات لها فوهات كالبراكين المستعرة، ثم ما لبثت أطنان المطر أن تساقطت، وجرت السيول جارفة الوحل في الأزقة، تريد غسلها دون جدوى. كانوا قد أخذوا يبحثون عن زكي، وقد ارتفعت الوحول، ولطمت أبوابهم، ولطمت أثوابهم، ولطمت جباههم، وخطواتهم الطينية لا تقع له على أثر، لا يقعون على آثارهم. كان الطين يرتفع مع أقدامهم كالعجين، ويسقط بضجة. وكانت السيول تنقذف كقطعان الثيران الوحشية، أما الوحل، فبدأ سيدًا قادرًا مكبلاً. كان يحاول أن يضع بصماته على وجوههم، على عيونهم، بل على كليتهم، وكأنه الناطق الرسمي باسم حياتهم. وعند هبوط الليل، قال لهم بعض من انهدمت خيامهم قرب السيل إنهم رأوا زكي يصعد في الاتجاه المعاكس، وهم يبدون كقطعان ماشية لاهثة تحت سوط الوحل القاتل. صعدوا حتى رأس السيل دون أن ترشدهم المصابيح، ولم يتمكنوا من العثور عليه. وهم على وشك العودة إلى المخيم، جاء بعضهم من تحت السيل، وهو يلطمون أقدامهم في الوحل لطمًا، يشدونها بصعوبة، فيرتفع الوحل معهم، وكأنه يتسلقهم. نادوا صابر والآخرين، فراحوا يجرون. كان أحدهم يرفع بين ذراعيه جسدًا مشوهًا، منتفخًا، عرفوا فيه زكي. لم يصدق صابر عينيه. ألقاه الرجل بين أذرعهم، وقال: - إنه ميت! قذفه السيل على الضفة!
24
لطم الشهم وجهه حتى أخصب بالجروح، وزحف في الوحل حتى المقبرة، وبقي يقبض على قبر زكي بيديه زمنًا طويلاً بعد أن عاد الجميع إلى بيوتهم. جاءته أمه في الليل، ورجته العودة إلى البيت، لأن بقاءه على حاله تلك لن يريح زكي في قبره. وفقط لراحة زكي في قبره، وافق الشهم على العودة إلى البيت. أخذ يقفز أمام أمه كالأرنب العاجز، وهو يلهث، ويئن، ويسفح الدمع. لم يغادر الشهم حجرة التنك التي يسكنونها لأيام، بقي يجلس صامتًا في الزاوية، بانتظار أن يصعد إليه زكي من القبر، ويأتيه بالرغيف المعتاد. كان مروان قد اتفق مع أبي محمد الفران أن يحل محل زكي أخوه زياد، في الصباح يبيع الكعك، وفي المساء يبيع الخبز. هكذا تصبح له مهنة نظيفة بدلاً من مسح الأحذية! وبما أن (( الخير كثير ))، مروان يعمل، وزياد يعمل، والأم تعمل، لا يدري أي عمل هو، لكنها تعمل، قرر أن يعيد محفوظ إلى المدرسة، فيتعلم، لأن العلم دين! وهو، وإن غادر المدرسة منذ فترة، إلا أنه ذكي، وبإمكانه أن يلحق بسرعة باقي التلامذة في صفه. لم يأت زكي الشهم بالرغيف المعتاد، وطال انتظار الشهم. وفي أحد الأيام، لم يجدوه في البيت، ووجدوه في المقبرة. كان يهز قبر زكي بقوة، دون أن يتحرك القبر، وتأتيه المعجزة، فلا يفعل إلا أن يبكي مشلولاً عاجزًا. ثم أعادوه كلهم، أمه وأبوه وصابر وأبو ياقوت وأم ياقوت وابنهما الأصغر يوسف. نظر الشهم إلى يوسف، وكأنه يراه لأول مرة، ونظر يوسف إلى الشهم، وكأنه يراه لأول مرة. نزع يوسف سترته عن كتفيه، وغطى بها ساقي الشهم المشلولتين. ومنذ ذلك اليوم، أصبح يوسف للشهم كل شيء. ورغم سماح أبي ياقوت لابنه يوسف بأن يلتقي به من وقت لوقت، على أن يأتي الشهم إليه، لا أن يذهب يوسف إلى الشهم، إلا أن الشهم لم يقع على سمرة، ولم يسمع صراخها المجنون مرة.
25
كان صابر قد طلب من بدرية العودة إلى مخيم الوحدات، فأذعنت لمطلبه، ولم ينطق الطاهر بكلمة. لقد مات زكي، وبقيت له حسنة! لم يستطع صابر احتمال الوضع أكثر، وأخذ يفكر في مغادرة البيت. ولكن إلى أين؟ أخذ يحدق في لوحته الناقصة: في الخطوط حرارة ليست كافية، وفي الدوائر شفافية ليست كافية. وكان ذلك طبيعيًّا، لأن الحرارة لا تنطلق بكثافة، ولما تنته المرحلة الثانية. أخذ يتابع لمسات الريشة على ساعد أمه الصامدة، ولمعان البرق في نصل الفأس. وأخذ يتابع الظلال في الوراء، وهي تلتحم مع الفضاء الرحب. وعزم على إنهاء المرحلة الثانية، ليبدأ المرحلة الثالثة، فالرابعة، فالخامسة، فالسادسة. كانت الطريق طويلة، وعلى الدم أن ينبثق من كفيه. وهو يهيئ الألوان، جاءته جدته بفنجان شاي، ونظرت إلى اللوحة مليًّا، وفجأة، راحت تبتسم، فرأى ذات البسمة التي كانت لها منذ ست عشرة سنة. قالت: - ستأتي أمك لتأخذنا. ثم جلست في طرف، وتناولت عوديها، وبدأت تغزل غطاء الصوف الذي لا يكبر أبدًا. ولما انتهت المرحلة الثانية، كان نصف الليل قد انتهى، وضوء المصباح قد ذوى، وجدته تنام مفتوحة العينين. وضع الريشة، وجاء ليقفل عينيها، وأنفاس حسنة من وراء الستار تصله كالعادة، باردة دومًا، وشقية أبدًا. وفي اللحظة التي نفخ فيها على المصباح، وأطفأه، سمع ضجة وراء سياج القصب: صخرة سقطت أو جسد ارتطم. وقبل أن يصل النافذة ليرى، حاصرته الجزمات من كل جانب، وجاءت على الباب طرقات الرعب. لم ينتظروا لحظة واحدة، حطموا الباب، ودخلوا ببنادقهم بحثًا عمَّا لا يعرف صابر. ركلوا مؤخرة حسنة والجدة في زاوية، وهما ترتعدان من الخوف. ولم يجدوا شيئًا، لكنهم أخذوا صابر. وفي الطريق، قال له شرطي إنهم يبحثون عن أبي ماهر. كان يوزع المناشير، فاقتفوا أثره حتى بيت صابر القصديري. ثم سلم أبو ماهر نفسه، فأطلقوا سراح صابر، وكل من زجوا بهم في السجن، بلا تقرير أو تحقيق. ضربوه وعذبوه، وأودعوه في غياهب ليل المعتقل. عندما عاد صابر إلى البيت، وجد جدته ميتة.
26
بعد موت الجدة ازداد الطاهر بطشًا بحسنة، ولم ينفع تدخل أحد. فكر صالح في أن يتزوج سلمى، فيأتيها برفيق يخفف عنها، لكن الطاهر قال: (( أذبحك ورب الكعبة! )) تحداه صالح، وقال (( اذبح ظفري لو استطعت! )) أتى بالمأذون، وتزوَّج سلمى، حتى قبل أن يتم أربعين الجدة. لكنه لم يذهب بسلمى إلى الدار، وأخذ الطاهر لا يهدد بذبح صالح فقط بل وسلمى أيضًا. وبقيت حسنة مهجورة، مركولة، بقيت حسنة لا تفعل إلا أن تبذل في الليل أنفاسها الباردة. ومع ذلك، حاول أبو ياقوت التوسط بين الأخوين، قال للطاهر إن (( ما عزمت عليه رجس لا يرضاه إلا الشيطان! وافتح صدرك قبل بيتك لأخيك، فهو من لحمك ودمك! )) وكان أبو إيليا قد ضرب بعصا مجرفته الأرض، وقال (( أنتم لستم أخوة، فلو كنتم أخوة لما فعلتم الذي فعلتموه! أبناء الزنا لا يفعلون مثلكم! )) غضب الطاهر، وأخذ يجأر قائلاً بأن (( صالح ابن زنا، وها أنت قلتها بنفسك، يا أبا إيليا! وحذار من أن تفاتحني بالموضوع مرة ثانية، وإلا حطمت عصا مجرفتك على رأسك! )) وهكذا ذهبت مساعي أبي إيليا سدى، وكذلك مساعي أبي ياقوت، وأبي شوقي، وأبي رجب، وأبي محمد، وأبي شعبان، والعم محمد، وحتى سعد الله الذي خرج من المستشفى مؤخرًا. جاءت ابنة الباشا تستحلف الطاهر، وأم عثمان، وأم ياقوت، ولكن دون فائدة. وفي الأخير، قال لهم صالح (( كنت أريد العودة من أجل أن تملأ سلمى البيت، أما الآن، لو جاء الطاهر، وقبَّل قدمي الاثنتين من أجل ذلك، فلن أفعل، إذ أين سأنام وسلمى وليس في الحجرة سوى ستار واحد؟ )) قالوا (( تنصب ستارًا آخر، وصابر أخوك ليس بغريب! )) لكنه رفض، فأوقفوا الوساطة. ومضت الأيام دون أن ينسى صابر قصة الوزير الخائن الذي أراد صالح وحجازي تصفيته، فقال لهما: - لم تفعلوا شيئًا بصاحب السيارة الرسمية، وبقي الوزير وزيرًا! - ترصدنا خطواته، لكنه كان دائمًا محاطًا بالحرس أو الأتباع. - وماذا فعلتم؟ - داومنا على إرسال التهديدات، وسنداوم على إرسالها. - إلى متى؟ - إلى أن تحين الفرصة.
27
سار صابر في الطريق الذاهبة إلى جنين، والإسفلت يخفق تحت قدميه. سيذهب إلى أمه، فيأتي بها، ليعود معها. سار ساعات، في النهار، وفي السماء ينجلي السحاب. كانت الطريق معبدة طوال كيلومترات وكيلومترات، معبدة، ونظيفة. وكانت الطريق ممتدة طوال كيلومترات وكيلومترات، وهي تصب في المنتهى، والمنتهى حديقة. وشيئًا فشيئًا، بدأت الطريق تتفرع، وينتهي بعضها بالهضاب. وصابر عازم على أن يصل أمه قبل أن تسقط الشمس، ويحط الظلام. أخذ فرعًا ضيقًا من الطريق الطويلة بدا له حديث التعبيد، وسار، وسار، وتوقف، ثم عاد، وسار. اعترضته صخرة ضخمة عليها آثار الفأس الحار، فصعد عليها، ووجد نفسه محاطًا ببعض الرجال الذين يلفون رؤوسهم بكوفية، ويقبضون على السلاح بعفوية. أخذوه إلى خيمة في الوعر، فوجد الأرملة تشد إلى صدرها بندقية. قال لها: - بحثت عنك في كل مكان. ولم يجرؤ على شدها إلى صدره. انطلق غناء طائر، فابتسمت الأرملة، وقالت: - وأنا أيضًا، بحثت عنك في كل مكان. ولم تجرؤ على شده إلى صدرها. عرفته بالرجال. قالت: - غدًا سيقومون بأول عملية. وعندما سألها عن أمه، أجابت: - ما زالت تشق الطريق الذاهبة إلى الوطن.
28
حمل شعبان الريشة، وأدناها من اللوحة الناقصة. عكف على رسم الفأس التي في القبضة الصامدة، وأخذ يجري فيها عميلة بعث جديدة. راح يغزل الخطوط، ويفكها. يرشق السهام، وينتزعها. يطلق الحركات، ويلجمها. مضت ساعات، ومن حوله يصب الضوء في الفأس، ومن الفأس. والفأس تتحول شيئًا فشيئًا، وحركة الفأس. والفأس تصبح شيئًا آخر غير الفأس. وعندما أوقف شعبان الريشة، غدت الفأس بندقية! فجأة، انطلق الرصاص. وبدأت المرحلة الثالثة.
29
تقرر نقل أبي نواف، فهو لم يكن حاسمًا في ردعه للمخربين! عيَّنوه شاويشًا لمخفر مخيم الوحدات، وفي مكانه جعلوا أبا حاتم: (( ملك الجرائم! )) وبقصدهم الحائل دونها، ومرتكب أفظعها بقصد الناس. وضعوا تحت تصرفه فرقة عسكرية كاملة، وأخذ أهل المخيم يستعيذون منه بدلاً من الشيطان كلما جاء ذكره على لسان أحد قائلين: أعوذ بالله من أبي حاتم الرجيم! لم يكن المخيم هدف أبي حاتم الأساسي، ولكن هناك حيث صابر والأرملة وشعبان وبعض الفدائيين. حاصر الهضبة، ومنع التموين. وفي ليلة شديدة العتمة، شن هجمته ضد المعاقل، وتمكن من اعتقال الأرملة وصابر، فصار بعض آخر من تلامذة صابر فدائيين. وليتفادوا هجمة أخرى، اختاروا هضبة اجتيازها أكثر صعوبة.
30
ومرة أخرى، تصدعت جدران الخزان، فحمل مروان على عاتقه مهمة إصلاحه من جديد. كانت الشقوق في جذعه تبدو كيد ميتافيزيقية لا ترحم، وكان الماء ينهمر منها بقوة، فكأنها الدماء تدفقت من قلب محطم! كيف يمكن لطبيب المجاري مروان أن يصلح عطبًا جد هام كهذا؟! لم يطرح أحد على نفسه مثل هذا السؤال.
31
انتهى فصل الشتاء، وبدأ فصل الصيف. كانت دورة الزمان عندهم يلخصها الوحل تارة، والغبار تارة، أمَّا الفصلان الآخرين، فكانا يسقطان خائرين على عتبات المخيم، ولا يلمحون ظليهما في حياتهم، فخريفهم كان يتيمًا، وربيعهم كان يتيمًا، وقيل إنه ربيع سملت عيناه. هكذا يلتقون بالفصول، وهكذا يودعونها. هكذا تلتقي بهم الفصول، وهكذا تودعهم.
32
شاع في المخيم نبأ حرب التحرير، فانسلت الأفاعي في مخابئها، وبدا الخزان رمسًا. أصبحت خيامهم وأزقتهم وبؤسهم واقعًا قديمًا، بعد أن ارتفعت تيجان أمجادهم في كل منحنى، وتخدرت أياديهم لكثرة ما لوحت، لكنها لم تمل أبدًا. غدوا نشوى، نشوى! وغدوا سكرى، سكرى! نفض أبو ياقوت مسبحة نوى الزيتون في وجوههم، وهتف طافحًا بالبشر: (( الحرب واقعة بين ليلة وضحاها، وستنتصر جيوشنا بإذن الله!)) وهو يجمع النوى في قبضته ثم يسقطها، ويعود ويجمعها ثم يسقطها. سنعود إلى البلاد غدًا أو بعد غد، سنعود إلى الزيتون، والعنب، والبرتقال، نضم الأرض بعد طول انتظار. جيوشنا منتصرة بإذن الله على العدو الغادر أبناء صهيون! ضمَّ حبات النوى في قبضته متخدرًا، وراح يعصرها، ويشمها، يعصرها، ويشمها! وهناك من كان يرقص في الزقاق: وربطت كل من ابنة الباشا وأم عثمان خصرها، وراحتا ترقصان، ومن حولهما صفق الصبية، وغنَّت البنات. كانت الزغاريد تنطلق من طاقات البيوت المتساقطة، وولدٌ يعدو في الغبار، وهو يحمل مذياعًا ينشد بأعلى صوته نشيدًا حماسيًّا، والغبار زوبعة، والغبار كارثة، ولكن لا أحد يدري لهذا أي معنى. جاءهم أبو إيليا، وهو يدق مجرفته في الأرض، ويكسرها، ويقول بأنه عدل عن السفر إلى أمريكا، ولن يتم باقي الإجراءات من أجل الحصول على الباسبور. جذبته ابنة الباشا من ذراعه دون أن تكف عن الرقص، وقالت أن لا كويت بعد اليوم! غدًا ستعود إلى قصر أبيها في يافا، إلى شوارعه البيض ومصابيحه الزرق، وستبعث من وراء المحروس ليلتحق بها. وزَّع أبو شعبان مقلى كاملاً من الفلافل احتفاء بالخبر، وقال عندما تعود الأرض سيعود إلى أصوله فلاحًا كما كان دومًا! وتمنى أن يكون آخر مقلى يقيله في حياته. وكذلك أبو رجب، نفح كلاً منهم حفنة من السكر ليشربوا القهوة حلوة، وهو يدعو الله أن ينصر العرب. وخفض أبو محمد ثمن الرغيف تعريفة، وقال (( من أجل عيونك، يا فلسطين! )) أما عم محمد الإسكافي، فقد أقفل دكانه، وعاد إلى الدار، بعد أن أقسم ألا يخرج منها إلا إلى حيفا. صرف زرزر الأولاد من المدرسة، وجاءهم، وهو يلهث دون أن يستطيع جمع أنفاسه، وقال: (( بعد تسع عشرة سنة، هبَّت نخوة العرب ليغسلوا العار! )) كان مروان قد ترك الخزان بصدوعه، والماء يغلي في جوفه، وجاء يبحث عن الطاهر من أجل أمر هام، لكنهم قالوا ليس هناك ما هو أهم من حرب الشرف! أمسكوا به من كل طرف، وأدخلوه حلبة الرقص، ليدخل في مباراة مع أم عثمان وابنة الباشا. ودخلت أم سليم حلبة الرقص، ودخلت أم ياقوت حلبة الرقص، ودخل أبو ياقوت حلبة الرقص، ودخل أبو شوقي حلبة الرقص، ودخل أبو محمد حلبة الرقص، ودخل أبو رجب حلبة الرقص، ودخل أبو شعبان حلبة الرقص، ودخل الصغار حلبة الرقص، ودخل الكبار حلبة الرقص، وغدا المخيم حلبة رقص لأهل المخيم. كانوا مسحورين، وكأنهم عادوا إلى فلسطين. وكان في الآفاق طائر أسود يَصْفِقُ جناحيه بقوة، وسحابات الصيف تذهب مبتعدة.
33
تجمهر أهل المخيم حول عبد المؤمن الذي راح يخطب فيهم، ويدعوهم إلى الذهاب إلى نابلس للمشاركة في مظاهرة دعم وتأييد حرب التحرير. كان يصيح بأعلى صوته: - لقد دقَّت الساعة، وواجبنا اليوم أن نلتف كالطوق حول جيوشنا المظفرة، وندعمها، وهي تخوض حربها! أخذ الناس يصرخون ويهتفون بأنهم سيقفون كالأسود حول جيوشهم حتى ولو طالت الحرب سنين، لكن عبد المؤمن أضاف مطمئنًا الناس: - ما هما سوى يومين اثنين، وينتهي الأمر كنزهة قصيرة! سنمحو إسرائيل ونقذف اليهود، إن شاء الله، في البحر لنخلص منهم إلى الأبد! من أين يخرج عبد المؤمن هذا الذي لا يرونه إلا بالمناسبات؟ وفوق ذلك، هذا الغني الجديد، المهرب مع الإسرائيليين أنفسهم لم يكن يومًا ابن المخيم، وهو غريب عن الجميع! كان أهل المخيم يصفقون، ويقفزون، ويهنئون. اتجه بعضهم من أجل الاشتراك في المظاهرة إلى محطة الباصات، بينما أخذ أكثرهم طريق السفر إلى نابلس سيرًا على الأقدام.
34
سقط الليل شديدًا على عكس أمسيات الصيف، ومع ذلك، فأهل المخيم سهارى، يتسامرون أمام أبواب بيوتهم التنكية عن الحرب، وعن النصر، وعن العودة إلى الأوطان. صفقت في رؤوسهم آلاف الطيور البيض، وصهلت الخيول، وبدا البحر لامعًا، وركض آلاف الصغار يستحمون في مياهه. قارنوا بين عدد جنودنا وجنود إسرائيل، فرجح الميزان في كفتنا، وبين عدد طياراتنا ودباباتنا ومدافعنا وصواريخنا وما لإسرائيل، والميزان راجح دومًا في كفتنا. كانوا سعيدين، مغتبطين، تواقين، ولم يفكر أحد، ككل مساء، من أين يأتي بعشائه. حوالي منتصف الليل، عاد الطاهر ثملاً كالجيفة، وطغت على نتانة الأجواء رائحته. أخبرهم أن البيك هرب، وأكل عليه ماله. تقدم من حسنة، وانهال عليها ضربًا، وشتمًا، وهي تصيح، وتولول، دون أن تطلب نجدة من أحد. ثم اتجه الطاهر بعد ذلك رأسًا إلى بيت أم سليم، وطرق عليها الباب بعنف، فخرج له صالح، وهو يغلي بالتحدي. طلب إليه الطاهر أن يقطع صلاته حالاً بعائلة (( العار ))، وأن يطلق سلمى، لأنها عاهرة كأختها، وكأمها يوم كانت تضاجع اليهود في الرملة! فجن جنون صالح على سماع ذلك، وما كان من الاثنين إلا أن جذبا بعضهما بعضًا، ودخلا في عراك نزف له وجهاهما. جاء الجيران، وفرقوا بينهما، فأخذ الطاهر يشتم صالح، ويشتمهم، ثم طرده، وطردهم، لأن لا دخل لهم في الأمر، هو حر مع أخيه، ذبحه لو شاء، وهو سيذبحه يومًا أمام عيون كل الناس. لم يعد صالح ليلتذلك قرب سلمى، دار حول المخيم، وجاء الخزان. غسل بمائه المتفجر جروحه، وسار في طريق السفر الذاهبة إلى الوطن، والسيارات تمر به مبطئة، أبدًا مبطئة. راح يتذكر كيف كانت أمه تأخذهم إلى طريق السفر هذه في ليالي الصيف، مشيرة إلى آخر الطريق، إلى الحدود، وهي تقول: - في مثل هذه الأمسيات، وأنتم صغار، كنَّا نخرج معًا إلى الشوارع، نمشي ليلاً، فيغسلنا ضوء القمر، وتدثرنا عباءة الليل، فنعرف جمال الحلم. كنا نعانق كل ما هو أخضر، حتى نكوّن وإياه غصنًا واحدًا، وكانت الأحلام تنطلق من عيوننا لتحملها أجنحة الريح إلى جزر سحرية. لقد تركنا آثارنا هناك، وهي الآن كيان لحمي يمور ويتوجع، ومع هذا، لم يزل هذا الكيان ينمو رغم الرياح الرملية. ربما جرّحت حبات الرمل جفنه، لكن الجفن لم يزل صاحيًا. ورغم الحوار الطويل بين الجفن وحبة الرمل وعود الشوك، فلم يزل الجفن صاحيًا، لم يزل الجفن صاحيًا.
35
ركب الطاهر سيارته الهرمة، ولما ينسحب الليل بَعْدُ تمامًا من الأزقة. كان الصباح يقف على أبوابها مترددًا، والصمت يلسع القلب، والعالم غافيًا أو لا مباليًا. وقبل أن يخرج بالسيارة إلى الشارع العام، لمح خيالاً ينخطف من أمامه، ثم ينزرع فجأة بعصاه في عرض الطريق. وإذا بالدعامة تطرق جسدًا، والعجلات تهرس لحمًا. عندما هبط ليقف على الأمر، وجد إمام الجامع قد مات، وأحدهم يجيء عاديًا، وهو يصيح من بعيد، وقد انطلق نباح مذعور لكلب طريد. ضرب الطاهر قدمه في الأرض، وانطلق يجرى بأقصى قواه، إلى أن جاء الخزان، فسمع الماء يصفع الجدران المتصدعة، وما هي سوى بضع دقائق حتى علا صياح أهل المخيم بحثًا عنه، واقتربت منه خطواتهم. كانت زمجرة الماء في الخزان قد ارتفعت حتى طغت على كل الأصوات، وأخذ الماء المحاصر يلطم الجدران المتصدعة بقوة أكثر، ويعود يلطمها بقوة أكثر، حتى تفجرت السيول، وتقاذفت بعظمة مقتحمة الأزقة. أخذ المخيم يغرق بالتدريج، ببيوته التنكية، وشوارعه الطينية، وأشواكه المدماة بالحنين، وكأنه يسقط في بحر عميق. كانت يافا قد جاءت تضمه بين ذراعيها، وكانت الأمواج تندفع عن أطرافه مترددة، ثم تعود.
القسم الثاني
بعد 1967 المعتقل الإسرائيلي
36
(( سنشق في كيبوتسهم الشوارع! )) أول من فتح عينيه صابر، في الصباح الباكر، نظر إلى أجساد الرجال المتراصين من حوله، وقال لنفسه: (( سنشق في كيبوتسهم الشوارع! )) كانوا يتنفسون رغم التعب والوجع، وقرص الشمس الأحمر يتصاعد فوق الجبل. كانوا يتنفسون رغم الأنين، والموت لا يأتي ليخفف عنهم بعض الشيء، والحنين لا يموت في العروق. عجيب ذاك المعتقل! ليس له مثيل! معسكر في الرمل، مليء بالثكنات، تحيطه أبراج كثيرة، وأسلاك شائكة. أقامه الإسرائيليون قرب (( الحدود الآمنة))، من أجل مشاريع (( الحدود الآمنة )). فكر صابر في الأرملة، وقال، تفتح عينيها الآن، مثله تماما، في الثكنة المجاورة. ورغم برد الصباح، لفحته الحرارة. بدأ الرجال يتحركون على الأرض، كالقوارب المسحوبة في الرمل. وبدأوا ينهضون، ويستعدون، ليشقوا شوارع لم يحلموا بها من قبل، رغم أنها واسعة، ومشجرة، أرصفتها مبلطة، وهي رصاصية وطويلة كنهر ترامى في السهل. أحسّ صابر بحركة مصرة تدنو منه، رأى الشهم يزحف متجهًا إليه، ويلتصق لاهثًا بساقه. رفع رأسه، وقال بصوت خائر: - سأشق معكم الشوارع. حنى صابر رأسه، ونظر إلى قدمي الشهم المشلولتين، وبعد لحظة صمت، قال: - أرح نفسك، يا الشهم، أرح نفسك! أخذ الشهم الجنون، راح يرفع جذعه إلى أعلى يريد الوقوف، ولا يلبث جذعه أن يتساقط عاجزًا دون أن يمكنه ذلك. وبدأ يصرخ قائلاً بأنه قادر على كل شيء، وليس فقط ذاك الأسير، وأن قدميه المشلولتين ما هما سوى وهم كبير. وفي الأخير، أخذ يبكي. جاء يوسف، وهزَّه من كتفيه، ثم ضمَّه بحنان، بعد أن ملأت عيني الشهم نظرات يوسف بالرجاء! كان جميع المعتقلين قد نهضوا، وقد اندفع جندي إسرائيلي يقرع باب الحديد بعقب البندقية ردًّا على صياح الشهم. وكان أبو ياقوت قد اقترب من الشهم، وقال له (( أية أمنية أمنيتك، يا الشهم! تبكي لتشق شوارعهم! لو كانت شوارعنا لهان الأمر لكنها شوارعهم! أتفهم؟ شوارعهم! )) ولم يشأ الشهم أن يفهم، واستمر يطلق زفرات التحدي. أوصى أبو ياقوت ابنه يوسف عليه، وطلب منه أن يقنع الشهم باستحالة أمنيته حتى ولو كانت (( شوارعنا ))، وهو يومئ إلى القدمين المشلولتين. احتج أبو إيليا: (( أهذه أمنية يرجوها أحد عاقل! اسكت يا الشهم، ووفِّر عليك دموعك. لو كنت مكانك لما ذرفت دمعة واحدة من أجل ذلك، يكفي أنك تعمل والبندقية في ظهرك! )) قال سعد الله (( إنها شوارع العدو! ولو كانوا يعبدونها لفلسطين لاختلفت المسألة، وكانت مشاركتنا أمرًا واجبًا علينا جميعًا )) . لم ينس صابر أمه لحظة واحدة، شقت فأسها الطريق الذاهبة إلى الحدود، ووصلتها قبل حزيران بقليل، وعندما أرادت أن تجتاز إلى الوطن، أشعلوا الحرب، ومنعوها. سمع صابر أخاه صالح يقول: - لكنها شوارع يجب أن نشقها على أي حال، كما فعلت أمي. قال صابر: - حقًّا، لو لم يخسر أولئك الأدعياء الحرب لكانت هذه الشوارع شوارع التحرير. أخذوا يفكرون في شوارع التحرير، وقد اقتربوا من بعضهم، وذهبوا في لحظة صمت واعية، وفجأة، جاءهم صوت سعد الله الشديد، وآثار الحبل التي لا تمحي غائرة في الجبين: - لا تقولوا لي إن شوارع العدو هي شوارع التحرير! ابتسم صابر لخيال الفأس في قبضة أمه، وقال لسعد الله: - ليس للوطن إلا شارع واحد، يا سعد الله، نعرفه جميعًا! ابتسم سعد الله، رغم أنه سمع أبا ياقوت بندم يردد: - خدعونا! خدعونا! فتمنى صابر: - آه، لو كانت قدما الشهم سليمتين! ونظر إلى الشهم، الذي رفع رأسه عاليًا. قال له أبو ياقوت: - لو كنَّا نعرف لسفحنا الدم! فهبَّ أبو شعبان به صائحًا: - اترك الشكوى جانبًا، يا أبا ياقوت! احتد أبو ياقوت: - أنا لا أشكو! لقد شاهدتم كلكم كيف أحرقت مسبحتي، لكنني أذكر كيف قالوا عنها حربنا، وخسروها. أكد أبو ماهر: - خسروها هم لأنها ما كانت حربنا يومًا. كانت حربهم، وهم خسروها. لهج أبو شعبان بالثناء عليه. - سلَّم الله فمك، يا أبا ماهر! فابتسم أبو ماهر، وقرص الشمس الأحمر دومًا فوق الجبل. قال أبو شعبان: - كان بإمكانهم أن يربحوها لو لم يلقوا القبض على الأستاذ صابر. ابتسم صابر، وقال. - لكنهم لن يخسروها مرتين. هتف أبو إيليا: - البركة في شعبان! أعاد صالح: - البركة في شعبان! وردد صابر: - البركة في شعبان! فأشرق وجه أبي شعبان كحقل الصباح: - البركة فيك أنت، يا أستاذ صابر! علمته مسك الريشة كما علمته مسك البندقية! هكذا نعود إلى الأصول! قال صابر: - كلما اشتدَّ ساعد شعبان اشتدَّ ساعد البندقية! نسوا أنهم ذاهبون بعد قليل ليقوموا، كالمحكوم عليهم بالأعمال الشاقة، بشق شوارع الكيبوتس الجديد. بدأوا يتكلمون عن البندقية القوية، والساعد القوية، وكأنهم يجتمعون في خندق. كان الحديث عن البندقية قهوة الصباح، وكان الحديث عن شعبان يتشعب كتيار الماء الذي يصب من سفح جبل، ولا يلبث أن يهدر في عروقهم صوت العزيمة. ولأول مرة، تحدث أبو ياقوت عن بيارته الصغيرة – لا بياراته الكثيرة – التي كان يقطف زيتونها بنفسه، لا خدم ولا حشم ولا كرسي ونارجيلة في الشمس على الرصيف! هلَّل أبو ياقوت فجأة: (( الزيتون فتّح يا أولاد! الزيتون فتّح! )) ندفت في الثكنة وريقات زهره الأبيض، لتكسوهم والأرض بغلائل العيد. قال أبو إيليا (( أرأيت، يا أبا ياقوت؟ لقد ذهبت مجرفة الوحل إلى الأبد! لو لم تكسرها لي حربهم التي خسروها لبقيت في هذه القبضة حتى الموت! )) صفق سعد الله متذكرًا حبله السميك، وصاح معلقًا هو الآخر، كيف قطعته له حربهم التي خسروها تقطيعًا! طلبوا منه أن يخفض صوته لمرور جندي الحراسة، فيهمس بسعادة: (( رأيت زوج الأرملة في الحلم يأتي لإنقاذنا! )) ضحك أبو شعبان، وقال: (( يا عيني على أحلامك، يا سعد الله! زوج الأرملة هو شعبان، وسيأتي شعبان لإنقاذنا عمَّا قريب! المهم أن يبقى ظهرك قويًا، يا سعد الله! )) فكر صابر في أمه، وقال لنفسه، إنها الآن في ذات الطريق التي يقطعها شعبان إليهم، ولكن من الطرف الآخر. قال صابر، وكأنها تصله أصداء الخطوات: - سيأتي شعبان. استضاءت الوجوه مرة أخرى بالأمل، وأكَّد أبو ماهر: - نعم، سيأتي شعبان. قال صالح: - سيأتي شعبان. وقال يوسف: - سيأتي شعبان. وقال أبو إيليا: - سيأتي شعبان. وقال سعد الله، والعم محمد، وحجازي، وزياد: - سيأتي شعبان. وذهب عن الشهم يأسه، وانساب في عصب الفكرة: - سيأتي شعبان. وقال العم محمد: - تبًّا لألمانيا، وأبي ألمانيا، وأم ألمانيا، أخذت ابني، ولم تعده لي منذ زمان! وتمنَّى أن يعيده له شعبان. وأراد أبو شعبان أن يقهقه طربًا، لكن بندقية الجندي على الباب قد ألجمته، وألجمت الجميع. ومع ذلك، لم يكونوا جميعًا سعداء بمجيء شعبان، كان بعضهم يلتف حول عبد المؤمن، الذي وجد نفسه في المعتقل بالخطأ، دون أن يشاركهم لا الحديث ولا الأمنية. وكان بعضهم يجلس بين المجموعتين، محايدًا، يسمع أحيانًا لهذا، وأحيانًا لذاك. يبتسم أحيانًا لهذا، وأحيانًا لذاك. موافق أحيانًا مع هذا، وأحيانًا مع ذاك. ومن هؤلاء كان مروان، الذي رحل هو وأمه وأخواه غداة الاحتلال إلى مخيم الوحدات في عمان، والذي وجد نفسه في حركة المقاومة بالخطأ، فأطلق على نفسه لقب (( الغضنفر ))، وأبى إلا أن يدعوه كذلك، وإلا ((غضب وخنفر، وحطَّم عليه وعليهم الجدران تمامًا كما فعل شمشون الجبار، بل وأكثر! )) وهو على عكس أخيه زياد، الذي أصبح فدائيًّا حقيقيًّا. وفي إحدى المرات، علّق أبو ياقوت على الأمر، وقال (( الزهرة تلد زهرة وشوكة، وهذا زياد ومروان! )) فلم يندهش أبو شعبان للفرق بينهما، وقال بأن (( أصابع اليد ليست واحدة، ومروان عمره ولا كان صادقًا. بسببه تحطم الخزان، وبسببه صار الذي صار! )) صححه أبو إيليا: (( بسببه، وبسبب غيره! )) فراح يؤكِّد، ويؤكِّد: - أي نعم! أي والله! وهو يبحث بعينيه بين أجساد الرجال عن عبد المؤمن الكامن في الزاوية. قال زياد بأنَّه يتوق إلى القتال، وأنه يتمنى أن تلفه الآن خيمة في أحد معسكرات الفدائيين. فقالوا له (( الفرج قريب! )) وعندما أعلمهم أنه في مخيم عين بيت الماء كان يثور لرائحة الخيمة، ويضيق ضيقًا هائلاً من طعم الطين، أيَّدوه، وتمنوا ألا يعودوا إليها. ذكرهم بأخيه الصغير محفوظ الذي يعمل الآن مع الفدائيين. فقالوا كبر الولد دون أن نحس بذلك! قال أبو إيليا: كيف نسينا محفوظ؟ وقال أبو شعبان: محفوظ الله يحفظه، صديق شعبان الروح بالروح! وعلى حين غرة، انطلقت صرخات سمرة، ابنة أبي ياقوت، من ثكنة النساء المجاورة، فتناقلت بعض الهمسات كلمة (( المجنونة! )) انسحق قلب أبي ياقوت، وحطَّمه الأسى. وثب يوسف إلى النافذة الضيقة الوحيدة، وتعلق على قضبانها، وهو يصرخ باسم أخته، فلم ينل إلا بعض الضربات على أصابعه من أخمص البندقية. أنزلوه بالقوة، والشهم يشد يديه إلى قلبه، عسى أن يسلبه ألمهما. لفَّهم الصمت، وصابر يرمي النظر إلى أخيه صالح، ويقول لنفسه، سلمى هناك، وهي حامل! وود لو يشد على يد أخيه. عاد يقول لنفسه، الأرملة أيضًا هناك وابنة الباشا، وأم عثمان، وحسنة زوجة الطاهر، بعد أن هرب الطاهر إلى عمان لاحقًا بالبيك الذي قتله الفدائيون. وهناك أيضًا معظم نساء المخيم اللاتي لم يمتن، أو لم يهربن. سمعوا أبا شعبان يهمهم: - لا بد أن يأتي شعبان! لا بد أن يأتي! عند ذلك، أخذت الشاحنات العسكرية تدخل ساحة المعتقل، ودبيب هذا القلب الواحد قد بدأ يتعالى كأنه أنشودة فرقة من مقاتلين لم يحاربوا ولم ينهزموا. دفع الجندي الباب بعقب البندقية، وراح يدك خصورهم بكعبه، ليخرجوا، ويملأوا الشاحنات. أخرجوا كل المعتقلين الذين في الثكنات، رجالاً ونساء! دفعوهم في الشاحنات، وجعلوهم يتراكمون فوق بعضهم البعض. وبصعوبة، بحث صابر عن نفسه، فوجد نفسه إلى يمين أبي ماهر، وإلى يسار الأرملة. من أمامه حجازي، ومن ورائه صالح. كان صابر في مكانه الآمن! وكان الشهم قد زحف، وشيعهم بعينيه الحزينتين مثل كل مرة، ويوسف يبثه بسمة الثقة. كانت سمرة قد أخذت تعدو من خلف الأسلاك، وعندما انطلقت الشاحنات، حاولت اللحاق بها عدة أمتار، ثم جمدت فجأة، وراحت تتابعها بنظراتها المغزوة بالرعب. أخذت الشاحنات تهتز، وهم في جوفها، فيشعرون بأنهم أكثر من أي وقت مضى معًا، رغم ضيق المكان، وكان الصبر نبتة خضراء في كل جبين داكن: كانوا ينظرون في عيون بعضهم، ويشمون عطر عرقهم، ويتبادلون فكرتهم عن نهاية العذاب، وإرادة النفس، وصلابة النفس، ورفع الراية. نبتت بسمة على شفتي الأرملة فجأة راحت تتفتح زهرةً على سفح من الحجارة! وبدا لقلبهم جبل عيبال العظيم، وهو يربض بصلابة صخوره. ووصلهم خفق أجنحة طيور نهر الأردن القوية، وهم يمضون على مقربة منه. كانت الشمس قد ارتفعت، وأخذت تصب في أجسادهم السيول. وكانوا قد وصلوا المكان، وهبطوا تحت الحراسة الشديدة. نثرهم جنود الموت بيد لا تفهم معنى القمح – وقد كانوا بذارًا – فنبتوا هنا وهناك، وبيد كل منهم مجرفة أو مطرقة أو معول أو فأس، وشرعوا مرة أخرى في شق الشوارع. وشيئًا فشيئًا، أخذ الضجيج يسري من الأرض إلى أبدانهم ثم ينطلق هادرًا في الفضاء. وراحت ظلالهم تنتصب في الحفر، وبين الصخور، وتلتحم بها ظلال الفؤوس. كانت عضلاتهم تطول وتقصر، وهي تنبض كلما أهووا فأسًا أو مطرقة، وكان التراب يعفر صدر صالح، وقد لفحت الشمس وجهه، فغدا قمرًا نحاسيًّا يخطف البصر. وكان حجازي يربض في صلب الأرض قويًّا كأنه هضبة، وظهر الشارع من خلفه مثل نهر مزروع بالحصى. وامتدت يد يوسف، وهي تنفر بالعروق، فتمنى صابر، وهو يكسر بفأسه الصخر أن يعطي حياته من أجلها. راحت اليد تبثه حكايا طويلة لم يجرؤ لسانه على النطق بها لملاحقة جندي الاحتلال، فأراد أن يقول لها، ليده الصامدة: (( إنني هنا، ونحن معًا، وهاأنذا أصغي! )) نقلت حسنة حجرًا كسره صابر، وضعته في قفة، وحملتها على ظهرها. وكذلك فعلت ابنة الباشا، نقلت حجرًا، وضعته في قفة، وحملتها على ظهرها. وأم عثمان، نقلت حجرًا، وضعته في قفة، وأتي أبو ياقوت بقفة من التراب، وهو يحملها على ظهره. مرَّ بصابر قبل أن يقذف بها من فوق التل. مسح بيده جبينه، وقطرات العرق التي على جبينه تمتزج مع قطرات الدم التي في يديه. رفع أبو ماهر جذعه، وتوقف عن العمل متابعًا إياه. كم غدا أبو ياقوت شيخًا! كان يضايق عبد المؤمن أن يجده بين يديه. وفي اللحظة التي تعثرت فيها قدم أبي ياقوت، تقدم أبو ماهر باتجاهه خطوة، فزجره جندي النجمة السداسية، وتمنى عبد المؤمن أن يسحق رأس أبي ياقوت، ولو استطاع رأس أبي ماهر معه. مر يوسف بالجندي الإسرائيلي، ووجهه الأملس يكاد يتمزق، وراح يحدج بعينيه صنم القوة. كانت الأرملة هناك، في الشمس، وفي عيونهم أينما ذهبت: بشعرها المجدول بالليل، ووجهها الملفوح بالصيف، وثغرها المدعوك بالورد، وقامتها الناهضة بين أصابع المناجل! أخذت القفة من أبي ياقوت، وقذفتها بدلاً عنه قبل أن تراها البندقية، ثم ناولته إياها، وهي ترنو إليه بحنان من يرنو إلى طفل مجهد بالواجبات. حمل أبو ياقوت القفة بإصبعه الراجفة، وقد حصلت ضجة في عينيه الصامتتين، وخطا مرة أخرى باتجاه أكوام التراب. كانت فؤوس ومعاول الرجال تحفر نفقًا هناك في بطن الجبل، تشق الجبل نحو الشرق. وكانت النساء في كل مكان، بأثوابها الريفية المطرزة بالفصول، والتراب الأحمر الذي يرشق سواعدها. كانت كل واحدة ترفع على رأسها قفة من الرمل تمامًا كما كانت ترفع جرتها كل صباح ذاهبة للعين. وكانت سلمى تمر بصالح من بعيد، فيرمي النظر إلى بطنها، إلى الأيام القادمة في ظلها، ويشاهد وليدًا يصرخ في الليل، والقمر يصعد عاليًا أمام أعناقهم المرتفعة إليه، هم المرتقبون موعد الولادة. أرادت الأرملة أن تحمل مع سلمى القفة الثقيلة، فرأتها البندقية الرهيبة، ومع ذلك سارت معها خطوات. كان صابر يتابع كل شيء، كل شيء. وكانت الأرملة تعطي كل شيء، كل شيء. وما لبثت أن جمعت ثوبها، وتقدمت منه، فهبت عليه أنسام الجليل، وما راعه إلا انتصاب قامة أمه في ثوبها فجأة. راح يبتسم لها، وهو يخفق كطائر المستحيل، ورأى في عينيها حب الجميع. كانت قد توقفت أمامه مهيبة، وهي تُحِدُّ نظرها إليه، ثم ذهبت بسرعة لوقع الجزمات التي اقتربت.
37
عادت الشاحنات العسكرية بهم إلى المعتقل، وهي تدنو من الهضاب الحمر في الغروب، والشمس لم تزل على أبدانهم. سمع الشهم ضجيج الشاحنات في الساحة، فخرج يزحف بلهفة كي يلقاها، وهو يبحث بعينيه عن يوسف بلهفة أيضًا كي يلقاه. تعلقت سمرة على الأسلاك، وراحت تهمهم، وهي تضحك لنفسها. دفع الجندي باب ثكنة النساء لتدخلها هذه، فانقطعت ضحكة سمرة فجأة، وجرفها تيار الذهول. رأت كيف تطوي تلك القامات نفسها بعد أن سكنت الريح، وفاح المعتقل برائحة العشب والرمل. استلقوا في ثكنة الرجال، على الأرض، طلبًا للراحة، كجنود عادوا من معركة. أطلق بعضهم الأنين، وقاوم بعضهم الأنين. أتاهم الجنود ببرميل الحساء، وطاسات الألمنيوم، والخبز الأسود، وبعض الماء، وجبتهم الواحدة من الصباح إلى المساء! لم يكن للحساء طعم، وقد احتاروا من أي مادة يكون! أعطى الشهم قطعة خبزه ليوسف، واكتفى بالحساء، وهو يبدو قربه مطمئنًا. وبين آن وآن، كان يمد يده، ويمسح له جبينه. وكان أبو ياقوت يعتمد ظهره على الجدار محاولاً ألا تخونه قواه. تمدد صالح على بطنه إلى جانب حجازي، وهو يرفع رأسه محادثًا قرب رأسه، وأبو ماهر يصغي. ليلتف بهم أبو إيليا وأبو شعبان وسعد الله، واقترب يوسف وزحف الشهم. كان العم محمد يرفع قدمًا في الهواء، وصابر يفتح عينيه، وينظر إلى السقف، وعبد المؤمن ينام، وأبو شوقي، وأبو رجب، أما ((الغضنفر)) فكان يرتجف من الحمى. دخل الجنود ثكنة النساء ليجمعوا الطاسات، فجدوا سمرة لم تشرب حساءها. سألوا عن السبب، فقالت أم عثمان ربما كانت مريضة، فلا شهية لها! قالوا (( لا مكان هنا للمريض! )) وأرادوا إطعامها بالقوة، فتدخلت ابنة الباشا، وطلبت من سمرة أن تأخذ حساءها بنفسها، وإلا أرغموها على ذلك، ولن تجري الأمور في صالحها. همست في أذنها ترجوها (( اشربي الحساء، يا سمرة، أنت بحاجة إلى الأكل، لتبقي قوية، فتصرخي كل صباح عندما تودعيننا! اشربي الحساء، يا سمرة، واخزي الشيطان! الشيطان من حولنا! )) وعندما أصرت سمرة على رفضها، التفتت ابنة الباشا إلى أم عثمان، ورجتها أن تسقي سمرة الحساء بيدها، (( وإلا غضب أبو ياقوت منَّا، وقال، أهذه هي نتيجة العشرة؟ سنون ونحن معًا، تعاهدنا على الخير والشر، والآن تتركون لي سمرة! )) فتقدمت أم عثمان بالحساء من سمرة، لكنها نهضت، وارتمت بين ذراعي الأرملة. أراد الجنود اللجوء إلى قوة الأسلحة، لتشرب سمرة حساءها، فوثبت على ذراع أحدهم، وبأنيابها اقتطعت جزءًا من لحمها. قذفوها بأعقاب البنادق، وحطموا أنفها. ليلتذلك، لم تكف سمرة عن الصراخ لحظة واحدة، ولم تغف لصابر عين لحظة واحدة طوال الليل. راح يفكر في الأرملة وأمه والأرض، في أمه والأرملة والأرض. جاءته حادثة من الحوادث التي وقعت له غداة الاحتلال، كان قد هرب من المعتقل، وعاد إلى الوطن بمهمة، ولم تبرح عينيه الحادثة. ربما لصراخ سمرة، وأمله الشديد بإنقاذها. وبدأ يعيد في رأسه ترتيب الحادثة، وصرخات سمرة تدوي داخل صدره، إلى المقاومة! إلى المقاومة! انفصل عن نفسه، وأخذ يحادث الآخر الذي كانه... لم أفطن للنادل الذي أحضر قهوتي، وذهب. كنت أراقب جاسوسًا كان بدوره يراقبني، وأنا أفكر في صالح، من المفروض أن يكون هنا منذ خمس دقائق، ليأخذ حقيبة المتفجرات. وفجأة، قطعت تفكيري صيحة لاعب النرد في أقصى المقهى: - لقد هزمتك! وانفجر ضاحكًا، فدوى صدى الضحك في الصمت الذي خيَّم على المكان. أخذت أرشف قهوتي ببطء، والضحكات المنتصرة تتوارد تباعًا، أحسست بالضيق، وتمنيت أن يأتي صالح بسرعة من أجل الحقيبة. كان المخبر قد اقتلع عن وجهه قناعه، وأخذ يغرس في وجهي نظراته راميًا إلى استفزازي. دون أن أفطن للنادل للمرة الثانية، انتصب بيني وبين خصمي، وسأل: - هل تحتاج إلى شيء آخر، يا سيدي؟ طالعتني نظرته العميقة، المرصعة بالحزن، فراودني فيها إحساس بما يجتاحني من ضيق. لم أشأ أن يطول ذلك كثيرًا، قلت له: - كأس ماء من فضلك. ظن أنه عاجز عن إفهامي ما يرمي إليه من عون، مما جعله يعيد، وتقاطيع وجهه تنقبض إلى أقصى درجة: - كأس ماء بارد؟ سأل وهو يطحن الكلمة الأخيرة بأسنانه. قلت له: - نعم: تنهد، وذهب دون أن يغادره انقباض وجهه. تبعته بناظري حتى دخل حجرة تحضير القهوة في الطرف المقابل، فإذا بضجيج يأتي من الخارج. ذهب المخبر مرتبكًا ليرى، وكانت فرصتي، نهضت حاملاً الحقيبة بسرعة، واتجهت إلى النادل مادًّا له بها، فجمد ذاهلاً لا يدري ماذا يفعل. قلت له بعجلة: - أخفها حالاً. امتدت أصابعه، والتقطت مني الحقيبة بخفة، وبعد أن التفت من حوله بحثًا عن مكان أمين، قرر طمرها في الفحم. وقبل أن أتركه، نظر إليّ بامتنان - وكان من الأجدر بي أن أفعل أنا ذلك - وأضاءت عيناه. عدت أدراجي، فاندفع من باب المقهى ثلاثة رجال وامرأة تحمل بين ذراعيها طفلة. كان الشيخ يرتدي قنبازًا تمزق عند الساقين، فبان حشيشه الأبيض المحترق. وكانت سكة العمر تحرث وجهه حرثًا، وقد جفّْت في عمقه الشقوق. سمعت الشاب يطلق تأوهة معذبة، وهو يتساقط لصق الحائط، والدم يسيل من قدميه. حاول أن يقول لنا بحركة عينيه المنهكتين إنه صامد، والأمر ليس أكثر من تجربة صغيرة، تجربته الصغيرة، وسينهض بعد قليل، دون أن يترك من ورائه أثرًا لخيط واحد من الدم. أما الرجل المربوع الثالث، فقد جذب كرسيًّا حيث انطرحت المرأة مع ابنتها على الأرض، وهوى فوقه. تحسس عنقه الجريح الملتف بشاش عفن، ثم حك منخاره الكبير، وفرك حاجبه الكث، وبعد ذلك مسح عينيه. كان يحاول أن يمسح بأصابعه الوجع، لكنه لا يستطيع. قلت لنفسي: لا يمكن أن يخلص من وجعه طالما بقي الخلاص بعيدًا، فقد كان قرار التراب، لأنه ساقي التراب، وحارس التراب، ولأنه ابن التراب الشقي! كانت المرأة ساكنة، ماردة رغم أنها جالسة، في ثوب الريف، أظافر قدميها مقتلعة، وعيناها مفتوحتان على كنزها الذي في حضنها. وكانت الصغيرة يابسة لا تحكي، كانت تنظر إلينا، ونحن نبدو لها كالغرباء. استطاع النادل أن يسيطر في الأخير على ذهوله، ويسألهم بصوت حسبته يأتي من حنجرة أخرى، اهترأت، وبحت: - ماذا حصل لكم، يا جماعة؟ لم يجبه أحد. كان الشاب يحاول الالتصاق بالحائط أكثر ما يستطيع، وهو يحدق في الموت، وكانت بسمة الموت تبعث في ثغره. أعاد النادل: - ماذا، يا جماعة؟ بحق النبي أن تقولوا! نطق الرجل المربوع بصعوبة لحلقه الجاف: - طردونا من غزة. صفَّر الخادم: - وهل مشيتم؟ أعني، هل أجبروكم على قطع الطريق بطولها مشيًا على الأقدام؟! راحت المرأة تحدق فيه، تحدق فينا، وكأنها تريد أن تقول لنا: لن تفهموا أبدًا. فصاح أحد الرواد: - لا تكثر من الكلام، يا رجل، ألا تراهم على عتبة قبورهم. اذهب وأحضر ما بالإمكان أن يشربوه. أطاع النادل، والرجل يضيف من ورائه: - أحضر أيضًا ما بالإمكان أن يأكلوه. الخبز، اجلب معك خبزًا. وأخذ يردد، وهو يمسح بطرف كمه على وجه الشيخ: - آه، يا أبت الشيخ! آه، يا أبت الشيخ! وجدتُ نفسي أسألهم. - وهل مشيتم طويلاً؟ ارتفعت أصابع الشيخ ثقيلة كأنها مرساة، وسقطت. سمعت صوتًا منهكًا يقول: - أحد عشر يومًا. والرجل يسأل: - ولكن لماذا؟ ولكن لماذا؟ جاء صوت المرأة خافتًا، لكنه متماسك النبرات: - طلبوا إلينا أن نترك المخيم خلال أربع وعشرين ساعة، وعندما لم نفعل جاؤوا وطردونا. - ولكن لماذا؟ ولكن لماذا؟ فخاطبه حانقا: - ألا تفهم يا رجل؟ إنهم يمسحون المخيمات مسحًا لتصفية الفدائيين. جاء النادل بالخبز، وبصينية ملأى بالشراب وكؤوس. وجاء بحبات بطاطا مغلية، فرشها أمامهم. دفع اثنان أو ثلاثة عابرين باب المقهى، فطردهم النادل. راحت الصغيرة تشرب، وسرب من العصافير الظمأى يزقزق في حلقها. قدمت كأسًا من عصير الحامض للشاب الذي ظلت عيناه مفتوحتين، ساكنتين، ورأسه ملتصقًا بالحائط، وقد نسيناه قليلاً لحظة إعادة بث الحياة في العروق هذه. كان يحدق في الموت، وقد شدتني يد الموت للحظة من خلال الظلام الدامس في عينيه، وعركتني. - خذ، خذ، ما باله لا يأخذ. لمس النادل كتفه، فتساقط على نفسه كالعجين، وصفق رأسه في الأرض. انحنيت فوقه لأرفعه، كانت عيناه مفتوحتين، وكان يحدق، ويحدق، كان يحدق في الموت. وكنت أخشى أن يكون قد حقَّق غرضهم، ومات، فدفعت أذني على قلبه، والرجل يسأل من فوقي: - ماذا به؟ قلت، والألم يسحقني: - لقد مات. سقطت الكأس من يد الشيخ، وتحطمت. وسقط الشيخ من يد المفاجأة، وتحطم. رفع ولده بين ذراعيه، وفجأة، راحت عيناه الجافتان تتفجران كبئرين ثريين في أرض قحط. كان لا يمكنه الغضب بعدُ، منذ اليوم الثالث أو الرابع من رحلته (( الإنسانية ))، وها هو الآن يبكي بغضبنا نحن الذين نتابع آخر فصول المأساة. آخر الفصول لم تكن دموع الشيخ، ولا موت الفتى الأسمر، ولا آهات المرأة، ولا انسحاق الرجل المربوع. في تلك اللحظة، دخل المقهى جنود الاحتلال: - انهض! ودفع أحدهم الشيخ بعقب البندقية، لكنه بقى متشبثًا بولده، ضربه بعقب البندقية، وفلق كتفه. كان الشيخ قد أطبق فمه تمامًا، فكأنه انسحق، ثم صاح: - قتلوك! أخذوا يدقون أعقاب بنادقهم في بطنه، ويشتمون، حتى تشنج وجه الشيخ، وازرق، وفجأة، انكفأ على جنبه، ومات. راحت دموع المرأة تتفجر من عينيها كالنبع، والطفلة تحدق برعب. منذ قليل، كانت ساهية مع نجوى العيش، مع قطعة خبز، أمَّا الآن! ركب الجنون جنود النجمة السداسية: دفعونا، وبعثرونا، وطردوا الرجل المربوع والمرأة والطفلة ليهيموا في الشوارع. وهذا الصياح الذي ما كلّ يقول: - إلى عبد الناصر! إلى عبد الناصر! وهذا الدوي الذي راح يهدر في الصدور: - إلى المقاومة! إلى المقاومة! تلك الصيحة التي كنَّا نعجز عن الهمس بها، تصيح بها سمرة الآن، بحناجرنا كلنا، تصبح بها الآن سمرة. بقينا نفتح أعيننا على سعتها كي نشاهد أكبر قدر من آخر منظر، آخر منظر من آخر الفصول أو... أولها. ودون توقع من أحد، انبثق أحد الفلاحين من بين الجموع فجأة، وهو يخفي وجهه بحطة، وشاهدنا يدًا حازمة تصعد وتهبط مرات في قلب أحد جنود الاحتلال، وفي كل مرة كان يتوهج في الشمس نصل أحمر. ومثلما انبثق الرجل فجأة، اختفى فجأة تحت طلقات النار. كانت الطلقات تصب في الجمع، في الشعاع، في الأيدي التي ارتفعت لتحمي المقاتل. وهرع جنود الموت مجنونين، تاركين البحيرات في قلب الشوارع... نهض صابر إلى نافذة الثكنة، ونظر من وراء قضبانها إلى الساحة، فرأى كيف ينزلق الليل كالوحل بين أحذية جنود النجمة السداسية. وصلته دعساتهم من فوق أبراج الحراسة، ورأى خيال البنادق السود، وضوءًا في ثكنة أخرى، ثم انطفأ الضوء.
38
اقترب صالح من صابر قرب النافذة، ولمس بأصابعه كتفه. قال له وهو يخفض صوته بأنه كان ينظر إليه طوال الوقت، وهو يكسر الصخر، فيتفجر عن فأسه الشعاع. وسأله كي يطمئنه: - لماذا تأخر الفدائيون؟ يعرفون أننا بانتظارهم. قال له: - إنهم الآن في الطريق. سكت قليلاً، ثم أضاف: - لكن انتظارهم لا يكفي. وبحركة عفوية، أمسك صالح قضبان النافذة، فطلب منه أن ينزل يده كيلا يراهما الجنود الإسرائيليون. سمعه يقول فجأة: - يجب أن نقوم بمحاولة. بدت عينا صالح المشتعلتان في فحم الثكنة كأضواء قارب يمخر العباب غير آبهٍ بتلاطم الموج والعتمة. وراح يحكي: - بعد أن أنهيت العملية في الأرض المحتلة، عبرت النهر إلى ضفته الشرقية، وأنا أدفع بجذعي أمواجه. كانوا قد لحقوا بي، وسقط علي الرصاص من كل جانب. قلت لنفسي، لك حياة واحدة، يا صالح، حاول، لتقطع النهر! تمكنت من قطع النهر، وأخذت أعدو. أحسست بأقدامهم تتبع من ورائي، فكمنت بين الأعواد، ورائحة الحشيش الأخضر تفعم أنفاسي. كانت لحظة الخطر شديدة، فرأيت فلسطين، وهي تفتح ذراعيها لاستقبالي، وكأنها قمر ورغيف. هذا ما أدعوه (( أن نقوم بمحاولة ))، أبدًا لن تجد نفسك متروكًا، حتى أنك ستكون مدللاً. تفجر الشعاع في ثغره، وأضاف: - عندما كنت أمشي في مخيم الوحدات وعلى كتفي كلاشنكوفي، كانت النساء تزغرد، والرجال يرفعون أعناقهم عاليًا، والأولاد يمدون أياديهم إليّ في الشمس! انضم إليهم حجازي، وراح يؤكد ثقة صالح بكلاشينكوفه: - كتبت لي أختي مرة تقول: صف لي إياه، وبعد أن وصفته لها بدقة، وجدت أن هناك شيئا ناقصًا، وأنني لم أوف الموضوع حقه. شطبت ما كتبت، واكتفيت بالقول (( كلمتان موجزتان، يا أختي، عنه، إنه عروس، وردة حمراء في جنينة ذبل فيها كل ذي غصن أخضر! )) وحكيت لها عن انطباعات الفدائيين الجدد الذين لا يمتلكون واحدًا مثله، عندما أمرُّ بهم ناقلاً إياه على كتفي. قلت لها كان بعضهم يصيح به محييًا تحية تخرج من أعماق قلبه، مع ابتسامة تشتعل في الشمس، وبعضهم الآخر يحرق الأرَّمَ عليّ من شدة الغضب. إنه غضب حار كما تعلمين، وكل واحد يتمناه لنفسه كي يفعل به الخير، كي يقتل عدوه. كتبت لي أختي ردًّا طويلاً تقول فيه إنها معجبة بالسيد كلاشينكوف! هكذا من واجبك أن تدعوه، السيد كلاشينكوف! وذكرت في رسالتها إعجابها الكبير بتعابيري، إلا أنني قللت الكثير من قيمة السيد كلاشينكوف الأدبية والمعنوية! وقد أكدت لي أنه سيد، وليس من العيب أن يكون السيد جميلاً، طالما أنه يتمتع بكل تلك القوة. لهذا - قالت أختي – أرجوك، يا أخي، ألا تقلل من قيمته ابتداء من تاريخ استلامك رسالتي هذه، وأن تدعوه بالسيد كلاشينكوف! واعلم، إذ لا حاجة بي لإخفاء مثل هذا الأمر عنك، وعنك أنت على الخصوص، أنت الذي يحاول دومًا فهمي، اعلم أنني عاشقة رفيقك هذا، وفوق ذلك أحلم به في الليل، فما رأيك؟ وما رأي السيد كلاشينكوف؟ أخبرني حالاً أرجوك. وعاد السؤال على شفة صالح: - متى يأتي الفدائيون؟ قال صابر: - سيأتون، ولكن لا تستعجلهم، ولا تلقِ على عاتقهم كل شيء. قلت لك انتظارهم وحده لا يكفي. أحدَّ صالح نظره إلى ليل المعتقل، وراح يبحث عن ضوء خافت. قال قبل أن يقترب أبو ماهر: - يجب أن نقوم بمحاولة على أي حال، يجب أن نجازف بأنفسنا!
39
طلب أبو ماهر منهم الابتعاد عن قضبان النافذة لئلا يأتي الجنود الإسرائيليون. جلسوا قرب بعضهم، وكل واحد منهم يبحث عن حرارة الآخر. قال أبو ماهر: - في وضعنا الراهن، أمام كل واحد منّا مسؤولية بعث الثقة في قلوب الجميع من أجل الصمود. يجب ألا نبقى دومًا فيما بيننا، علينا أن ننتشر بين المعتقلين، والفرص كثيرة، رغم شدة الحراسة. يكفي أن نهمس في أذن أحدهم كلمة أثناء نقلنا في الشاحنات، وعلينا أن نستغل عطلة يوم السبت حين يجتمع كل المعتقلين في الساحة. حقًّا إن التجمهر غير مسموح، لكن مجرد وجودنا جميعًا في الساحة يكفى. سيزداد التلاحم شيئًا فشيئًا، وبعد مدة من الزمن، لن نحتاج إلى أكثر من إشارة، فيفهم كل واحد ما يريده الآخر. حقًّا جميعنا يرزح تحت وطأة الاحتلال، وإرادتنا صلبة لغاية الآن، لكننا بحاجة إلى القوة الموحدة لقوانا بشكل ثوري صحيح، القادرة على الوقوف في وجه الإسرائيليين، وتفتيت طاقتهم وقدرتهم المعنوية والعسكرية. إذن، المرحلة الحالية هي مرحلة العمل الواعي والصمود، والمرحلة القادمة هي مرحلة المواجهة الثورية وشل عصب العدو بالتدريج. إنه طريق صعب طويل، ولكن لدينا العزيمة. نبر حجازي: - لدينا الحقد، وهو عظيم. أتدري منذ متى والحقد ينمو في قلبي؟ منذ أن قطع جارنا أبو تيسير شرايينه بالموسى، وشاهدت بعيني دمه الأحمر. لقد صلَّتْ أمي طوال الليل من أجله، وهي تجمجم وتقول كلمات لم أفهم مقصودها. في الصباح، قالت لي: (( لقد ارتاح أبو تيسير! )) وانفجرت تبكي. كنت طفلاً، وقد امتلأ قلبي بالحقد منذ كنت طفلاً، غرسته في شراييني موسى أبي تيسير! قال أبو ماهر: - الحقد أولاً، ثم يأتي النظر الثاقب والمنطق مع النفس. فلم يبال صالح بكلماته: - يجب أن نقوم بمحاولة على أي حال. أيده حجازي. فسأل أبو ماهر: - محاولة ماذا؟ - إذا اقتلعنا رأس اثنين من جنودهم بفؤوسنا نكون قد بعثنا القوة وضاعفنا الثقة في قلوب الجميع. قال حجازي مهتزًا: - لما منع ذلك الصهيوني الأرملة اليوم من مساعدة سلمى أردت أن أغرس فأسي في عنقه. التفت أبو ماهر إلى صابر، وفي عينيه الرجاء: - لماذا لا تفهمه، يا صابر؟ قال صابر: - إذا قام أحد بمحاولة فردية قتله الإسرائيليون في الحين، وقتلونا، وعلقوا جثثنا جميعًا دون أن نحقق هدفًا واحدًا من أهدافنا. يجب أن نقوم بعمل جماعي، يجب أن نواجه العدو بقوة الصرح، وهذا يتطلب - كما قال أبو ماهر - العمل الدؤوب بين المعتقلين، والتكتل لتجاوز العوائق، والقدرة على الحركة. سأل حجازي بشيء من التهكم: - وبرأيك، في هذه الحالة، العدو لن يقمعنا، ولن يقتلنا، ولن يعلق جثثنا جميعًا؟ - لن يقمعنا، ولن يقتلنا، ولن يعلق جثثنا جميعًا إذا ارتفعت الفؤوس كلها دفعة واحدة لتنغرس في عنق العدو معًا. تذكر صابر عبود، أحد الفدائيين الذين عرفه، والذين لن ينساهم، لأنهم كانوا مسرعين، ولم يقنعهم إلا الموت بأن طريق التحرير طويل، ولطريق التحرير قوانين، إذا تجاوزتها صرعتك، وجعلتك فريسة سهلة لعدوك. راح صابر يسحب العبرة مرة أخرى من حكاية عبود، بعد أن طلب من صالح وحجازي وأبي ماهر أن يسمعوه: أطفأت النوَّاسة، وتمنيت للجميع نومًا هانئًا. كان يتسرب من الخيمة ضوء خافت يأتي من الخارج، فتنتشر من حولنا الظلال، إلى جانب رائحة التراب، وأنفاس الرفاق. كنت أنتشي، وأنا بينهم، إلى درجة ألا أنام أحيانًا إلى ساعة بعيدة من الليل. بلا قلق، وإنما للخدر الأخضر الذي يونع في عروقي. في تلك الليلة، لم يهدأ عبود في استلقائه، كان يتقلب تارة على ظهره، وتارة على بطنه، وقد دفع حرام الصوف تحت قدميه. عندما فتح عينيه، وجدني أرنو إليه. - ما لك؟ قدحت عيناه، فسطع عنهما وهج أسود، وبقي صامتًا. قلت له: - عليك أن تنام. غدًا، يوم طويل بانتظارك. ارتفع على مرفقيه، ونصب رأسه باتجاهي. أراد أن يقول شيئًا، وما لبث أن أطبق فمه. قلت له: - ستكون هناك حصة تدريب، وسنقوم بجولة. قفز عبود جالسًا، وقال منفعلاً: - أنا أتقن الرماية تمامًا. أمام انفعاله، قلت له بهدوء: - لا يعني ذلك أنك لا تحتاج إلى تدريب، أنت جديد، وتوجد فترة تدريب للجميع. ربما تطول أو تقصر تبعًا لنشاطك، ولكن من اللازم أن تمضيها أولاً فترة التدريب هذه. وكأنه لم يسمعني، كان يغيب مع أفكاره. أضفت: - وسيصبح في حوزتك واحد مثله. وأنا أشير إلى السلاح المرتكز على عمود الخيمة. كان يسقط دومًا في الصمت، وفجأة، توترت تعابيره، فاهتزت ظلال الخيمة: - عندما احتل الإسرائيليون حارة القريون قتلت منهم ثلاثة. سألته: - أنت من نابلس؟ أكد لي بهزة من رأسه. أشرت إلى أبي السبع الذي رفع رأسه في الزاوية، وقلت: - إنه من نابلس أيضًا، ويمكنك أن تعتبرني كذلك، فأنا أسكن مخيم عين بيت الماء. كان أبو السبع قد اقترب منَّا، وعبود يحكي كيف تصدى الحي لقوى العدو: - قذفنا قواوير الزرع فوق رؤوسهم، فانطرح أحدهم، بينما فرَّ الآخرون. سارعت بالهبوط إلى الجندي، تناولت سلاحه. وأطلقت الرصاص في كل اتجاه (أشرق وجهه إشراقا هائلا): أطلقت الرصاص في كل اتجاه، وقتلت ثلاثة من الجنود، ربما أكثر، لكنه العدد الذي اعترف به العدو. أترى؟ إنني أتقن الرماية تمامًا. لم يكن أنور، ابن خالتي صالحة، معنا، ولم يكن محفوظ معنا، كانا في مهمة، كان عبد الله وشعبان معنا، قد جاءا، وأحطنا جميعًا بعبود. كنا نرمي النظر إليه، وهو يرمي النظر إلى الكلاشينكوف المرتكز على عمود الخيمة. ولأنه حديث عهد في الجبهة، ولا يملك سلاحًا بعد، كان يشعر بالضيق. أما أبو السبع، فلم يكن يفارق سلاحه أبدًا. وهو في حضنه كان يحس بكيانه، ودونه لا يساوي شيئًا. قال لعبود مطمئنًا: - غدًا سيكون لك كلاشينكوف، وستصبح الحقيقة كلها ملء قبضتك. ابتسم أمام تجهمه، وأضاف: - حين لمسته لأول مرة، ظننت أن باستطاعتي تحرير الوطن وحدي، وبرمش عين، كان ذلك مثل أول حب عذري. في اليوم التالي، أبدى عبود جدارة ملحوظة أثناء التدريب. وبعد حوالي الأسبوع، صدر أمر بإعطائه سلاحًا. ونحن في إحدى جولاتنا قرب نهر الأردن، ناداني دون أن أتوقع ذلك: - أيها الرفيق! التفت إليه، ووقعت على أمارات وجهه المتوترة: - لا أستطيع إخفاء ما في نفسي عنك: لقد غادرت المعسكر ليلة أمس إلى نقطة هناك قرب النهر، كان ذلك عندما نمتم جميعًا. أردت أن أقطع النهر، لكنني عدلت عن ذلك في اللحظة الأخيرة. وجدتني أهب به صائحًا: - أنت مجنون؟! - أعرف، أنت تستنكر ذلك، ولكنك لو تدري، إن لي أسرة هناك في الضفة. وأنا لم أزل هائجًا: - أنت مجنون؟! - قل عنِّي ما شئت، ربما كنت مجنونًا فعلاً، لكن أقسم لك أنني ما فعلت ذلك إلا من أجل.... (توقف عن الكلام، وما لبث أن أضاف بمرارة عميقة): إن لي أسرة هناك، كما قلت لك. - وأنا؟ أليس لي أسرة هناك؟ هز لي رأسه. - أليس لنا أسر هناك، كلنا؟ هزَّ لي رأسه. - أليست بيوتنا هناك، بيوتنا كلنا؟ هزَّ لي رأسه. - أليس هناك ما هو أغلى، ما هو أغلى من عيوننا، أليست فلسطين هناك؟ راح يهتز من رأسه إلى قدمه دون أن يحصل على كلماته، وأنا أشدد القول: - قل، أليست فلسطين هناك؟ تكلم أليس هناك ما هو أغلى من عيوننا؟ انفجر باكيًا: - من أجل ذلك! من أجل ذلك! ضغطت بيدي على ذراعه، وجذبته تحت شجرة، إلى أن عاوده الهدوء. - لا تتعجل الأمور، ستكون هناك عمليات عما قريب. نادانا بعض الرفاق الذين سبقونا، فطلبت منهم الاستمرار. قلت لعبود بتروٍ: - هاأنذا أقولها لك، إياك أن تركب رأسك، فتتصرف دون أن يأتيك أمر. أعطيته ظهري، حاثًا الخطى كي ألحق الرفاق، لكنه نادى علي. عندما التفت، جاء إليّ، ووقف كالطفل بين يديّ. فتح فمه بصعوبة، ونطق: - في تلك الليلة، تمكنت من الفرار دون الوقوع في أيدي الجنود الإسرائيليين، لكنهم نسفوا بيتنا. إن لي أبًا شيخًا، وأمًّا عجوزًا، وثلاثة إخوة، لقد أصبح الرصيف مأواهم. عندما نظرت في عينيه، كان الليل فيهما بلا نهايات، الليل ذاته الذي كنت أسقط فيه غداة الهزيمة. بعد أيام، أقمنا مخيمًا على إحدى الهضاب، وكانت هذه هي المرة الأولى التي سنغيب فيها ثلاث ليال. كان أبو السبع وعبد الله يقومان بجولة استطلاعية في النواحي المجاورة، بينما عبود وشعبان يسلخان أرنبًا بريًّا، أمَّا أنا، فكنت أراقب مغيب الشمس من فوق الهضبة، وأفكر في إنقاذ الأرملة من المعتقل. ناديت عبود، وأشرت بالسلاح إلى نهر الأردن، وهو يتخضب كالجرح الغائر في الأرض، فهمهم عبود بضيق: - نعم، أيها الرفيق، أرى ذلك! قلت له: - لقد حان الوقت، استعد، سنذهب الليلة لنزور أهلك في الضفة. قفز بين يديّ، وغدا طفلاً عذب التقاطيع: - أحقًّا، أيها الرفيق؟ - متى سقط الليل شرعنا في الهبوط لنقطع النهر. عندما عاد أبو السبع وعبد الله وقفنا بشيء من التفصيل على طبيعة المنطقة ونقط تجمع العدو. أكلنا الأرنب البري، وعبد الله بروحه الظريفة، لا يفتأ يرمينا بنكاته. كان الليل قد سقط تمامًا، وأصبح البرد لاسعًا بعض الشيء. تركنا أبو السبع وشعبان خلفنا، وهبطنا أنا وعبد الله وعبود الهضبة. ونحن نقطع حقول الليمون في الوادي، اقترب عبود مني، وقال بفيض من السعادة: - إنها أسعد ليلة في حياتي! نظرت إليه، وهو يعانق سلاحه الحبيب، وابتسمت. قال له عبد الله بلهجته الخليلية: - أنت ذاهب لزيارة أمك إذن! وأطلق ضحكة خافتة، مرحة. بعد قليل، أخذ عبد الله الضيق، وتكدر لونه. عندما سألته عما به، قال: - كان ذلك وقت الغارات، لقد قتلوا أمي! فإذا بشحنة من الطلقات تفتق الليل. قذفنا أنفسنا بين أذرع الأرض، لنحمي أنفسنا، وعبود يشتم. زحفت حتى جذع شجرة، فطوقتني أقواس النار. تدحدل عبود حتى سقط في حفرة، وراح يبحث بعين النسر التي له عن مصدر الطلقات. صحت بعبد الله: - إياك أن يحاصرونا. قذف نفسه في قلب النار، ولولا أنه تعثر، لسقط صريعًا. كان عبود يبحث عن مصدر الطلقات، وهو يخفق بيده على كتف سلاحه محادثًا: (( إنه دورك الآن، أيها الكلاشينكوف الغالي، إنه دورك الآن، فلتطلق، ولتفتك بهؤلاء الأبالسة الملاعين! )) راحت طلقاته تضرب على غير هدى، وأخذ يصيح بهم كالمجنون: (( سأقتلكم، أيها الأبالسة الملاعين! أين أنتم؟ اخرجوا لي، فأفتح صدوركم! )) دون أن يجدهم. وأنا أحاول كشفهم من خلف الشجرة، أطلقوا بنادقهم، فطمرت رأسي في الجذع الذي طرزته الطلقات. أطلقت بدوري، وأنا أخفق، مرتفعًا على رؤوس الأصابع. كان وقع الرصاص الهائل ينزعني من أعماقي، وكنت أتدفق كالحقيقة الوحيدة. وما لبث عبود أن انطلق بسلاحه ضاربًا قدمه في الأرض كالأعمى، وفي ظنه قتلهم دون أن يحدد موقعهم أو قوتهم، ثم صمتت طلقات عبود، ووصلني أنينه. اقتربت منه، والدم ينفجر من كتفي، وعبد الله يزمجر من شدة الغضب: - أيها المجنون! أطلق رصاصك، أيها المجنون! رفعت عبود بين ذراعيّ، فرأيت الرصاص يشكه من رأسه إلى فخذيه، وقد مات، ولم يزل عبد الله يصيح: - أطلق رصاصك، أيها المجنون! دون أن يتوقف عن إطلاق الرصاص لحظة واحدة، وفجأة، سمعته يصرخ بانفعال عذب: - هذه موسيقى النصر! لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ انطلق عبد الله يجري مقتفيًا آثار عبود ليسقط هو الآخر. كان أبو السبع وشعبان قد جاءا متأخرين لدعمنا، ومع ذلك، ضجت الأرض بهدير طلقات لا تعد ولا تحصى. انتصبت بكتفي النازف، ورحت أشد كلاشينكوفي إلى قلبي، وأقول: كن هادرًا، كن صامدًا! ولم يفهم عبود معنى ذلك، كان هادرًا، ولم يكن صامدًا. ولم يفهم عبد الله معنى ذلك، لهذا مات. *** وصلهم وقع أقدام في الساحة، فحلَّ الصمت، وراح كل منهم يرقب بكل حواسه. سمعوا باب إحدى الثكنات ينفتح، وبعد قليل، وصلتهم طرقته، ثم عادت الأقدام تقطع الساحة من جديد. زحف صابر حتى قضبان النافذة ليقف على سرها، ومدَّ رأسه بحذر. رأى الأرملة برفقة جنديين يقتادانها إلى حجرة الضابط، وكان الضوء يتسلل من وراء الستائر، فيبدو خيال الضابط مفزعًا. وما هي سوى عدة لحظات حتى سمعوا صوت الضابط يرتفع مهددًا، ثم أطبق فمه. فجأة، صرخت الأرملة بحرقة، فجرحت صدورهم، وسالت من عين صابر دمعة.
40
أخذت ريشة شعبان تنطق الألوان، فتضرب الأجنحة. وأخذت الريشة تطلق الأنفاس، فتخفق الأشرعة. الخطوات ثابتة، والطريق تحت الخطوات متحركة، متدفقة، مندفعة. كحصان بري يجري بكل قواه، صوب الرابية. فائر الغرة كالشمس، في الأضاحي الدافئة. الطريق تحت الخطوات متحركة، متدفقة، مندفعة. نحو القضبان. لتكسرها. الغد أمان. لكن اللوحة لم تزل ناقصة.
41
خرجت النساء من عيني سمرة في الصباح، وكأنها كانت تخرج من خندق زلقت منه دمعة الضوء. وخرج الرجال للمعاول والفؤوس، فصعد النهار، وبدأت حكاياته القادمة. أخذ صابر يشق طريقه، محاذرًا أسلحة جنود النجمة السداسية، بين القامات الواقفة. كان يحتمي بجذعها، وظلالها، إلى أن اقترب من الأرملة، ووقف بجانبها. رفعت عنقها، ورنت إليه بعينيها، فبدت نقية وخصبة، كما كانت دومًا. زحف الشهم لوداعهم ككل صباح، وقد رمَّمت عجزه اللهفة. لم يكن يرى إلا أقدامًا تماثل سيقان الزيتون الصاعدة فوق كف الحقل. وكان أحد الجنود الإسرائيليين قد وطئ نعله بينهم، وهو يحاول عاجزًا اقتلاعهم. مر بالشهم، فدفع ذراعًا بين قدميه، وأسقطه، مما سبب له الفزع والجنون. راح يقذفه بعقب البندقية، والأرض تتوهج بالجراح. ولولا قبضة صالح على ذراع يوسف القوية، لارتكب ما يرديه في الحال. ركبوا الشاحنات إلى الشوارع، وامتدت الشوارع في قلوبهم كعروق الدم، وامتدت أياديهم إلى المطرقة والمجرفة والفأس، ليتابعوا شقَّها، وحفر النفق في الجبل المطل على النهر. لا، لن يصبح النهر مع الزمن حدودًا! فهم يربضون وراء الضفتين، يعبدون الشوارع من أجل قنافذ الضفتين! وأخذت الشمس تثقل هامة أبي ياقوت، فشد قنبازه بين أسنانه لتسهل عليه الحركة، وعلى ظهره قفة التراب، وعبد المؤمن يتابعه عن قرب، فيضاعف غضبه، بينما تنظر الأرملة إلى الجندي الإسرائيلي، فيصبح غضبها على الجندي الإسرائيلي أضعاف غضب عبد المؤمن على أبي ياقوت. ودارت بوجهها إليه، إلى ظله الذي يقاوم السقوط، وامتلأت بقدر غضبها على الجندي الإسرائيلي عطفًا عليه. كانت شيخوخته قد نبضت حتى أسرفت كل قواها! وهو يأتي ليقذف بما تحتوي القفة من التل، وهو يعود ليملأ القفة من جديد. وأخيرًا، انحرفت ساقاه فوق الصخر، وغدا على وشك السقوط، فهب كل من صابر والأرملة لنجدته، وراحوا جميعًا يحدقون ذاهلين إلى الجبل الصامد منذ أكثر من نصف قرن، وهو يهوي. كان صابر قد رفعه رغم زجر الجندي الإسرائيلي له، فأخذ بهما ضربًا بعقب البندقية. وعلى حين غرة، شاهدوا يوسف وهو يقتحم الصفوف، وفي قبضته الفأس المرفوع، وغرسه في عنق الجندي الإسرائيلي. وفي الحال، دوت طلقات النار، فسقط يوسف وأبو ياقوت وآخرون. راح جنود الموت يركلونهم، ويشتمونهم، ويدفعونهم بأعقاب البنادق. جاءت سيارة جيب مسرعة، وهي تثير أعمدة لا متناهية من الدخان والغبار، وحملت المقتولين. كانوا يرمون النظر إلى الجريمة من بين ضربات الفؤوس، كانوا يضربون، ويضربون، حتى اتحدت ضرباتهم في عرق فأس حاقد واحد. وكانوا يريدون القتال، كلهم، أن يسحقوا في بنادق العدو القوة التي تسحقهم. أخذت قبضاتهم ترتفع معًا لتدق الصخر، وجباههم المشرقة بالغبار تتصبب بالعرق. انبثقت من شفة الأرملة أنشودة للوطن، رددوها معًا، رغم تهديد جنود النجمة السداسية. وبعد أن عادوا في المساء، تركوا قطرات من دمائهم على أرصفة الشوارع التي لم يتم شقها بعد.
42
دخل الرجال في عيني الشهم في المساء، وكأنهم كانوا يدخلون في غابة اشتدت فيها أحزمة الضوء. استقبلهم واحد واحدًا، وهو يبحث عن يوسف بلهفته المعتادة. كان كل المعتقلين قد غيبوا أنفسهم في الثكنات، وبقي الشهم في الخارج وحيدًا، لولا صيحة الجندي الإسرائيلي. عرف الشهم الحقيقة، فانطفأت في عينيه الغابة، وغدا الليل شديدًا. جلس في الزاوية صامتًا وهو يحدق في قدميه المشلولتين، بعد أن كسروا صاريه. وبدا كالقارب الذي يريد مصارعة الموج، لكنه لا يلبث أن يطأطئ الرأس حسيرًا. أخذ الشهم يشهق، ويخبط كفيه، وهو يغوص بين الغضب العاجز والأسى. ليلتذلك، رفضت أغلبيتهم الحساء، وجلسوا يفكرون في شعبان، وصابر يفكر في شعبان وأمه. وعلى حين غرة، وصلهم نواح سمرة. كانت تبكي أباها وأخاها. كانت تبكي بقدر كل نساء العالم، فسُمع بكاؤها في الجليل. كانت تبكي، سمرة، كانت تبكي، وظلت تبكي، فالتقت الشهم مرتعدًا إلى قضبان النافذة، وكأن ذلك من أجل موته! تحول نواحها إلى نباح كلب أصابه القر في ليلة ماطرة. كان يصلهم متوجعًا، متكسرًا، وتنشب الحرقة مخالبها في الصدور. ودون أن يتوقع أحد، رأوه ينخطف زاحفًا بسرعة، وكأنه لم يعد مشلولاً. قفز متعلقًا بيديه على قضبان النافذة الإسرائيلية، وراح يصرخ بسمرة لتصمت، وهو يلوح بيده متوعدًا. يجب أن تصمت، يجب أن تكف عن البكاء! وأخذ يبكي، ويشهق، وينادي يوسف. دبَّت حركة الجنود الإسرائيليين في الساحة، فجذبه الرجال، وكمنوا صامتين. أطل عليهم جنديان من بين القضبان، وسألا عمن كان يصرخ، فلم ينبسوا بكلمة، وبقي النواح في الطرف الآخر مستمرًا. بعد قليل، سمعوا خطوات تقترب ببطء، كانت خطوات لبعض آخر من جنود النجمة السداسية. دخلوا عليهم، واصطحبوا أبا ماهر إلى حيث لا يعلم أحد.
43
قال صابر لهم جميعًا: - أنتم مسؤولون عن كل ما سيحصل لأبي ماهر. نهض صالح، وجلس وسطهم: - هناك من وشى به، فأحد لا يعرف أنه شيوعي غيرنا، تظاهر عبد المؤمن بالدهشة: - أبو ماهر شيوعي! أول مرة أعرف ذلك! التفت إليه حجازي، وأكد بحنق: - أنت كاذب! كنت قد أخبرتك أنه شيوعي بنفسي. ابتلع عبد المؤمن ريقه بصعوبة: - أقصد أنني لم أعد أذكر ذلك. نبر صالح: - إذا عرفنا أنه أنت قطعناك تقطيعًا. هبَّ عبد المؤمن في وجهه واقفًا: - أتظن أنه يهمني إلى هذا الحد أمرك أو أمره؟ لا يهمني أمر أحد منكم، فأنا أرى كيف تتخبطون دون جدوى في الأوهام! قتلنا اليهود كالصراصير، ولم تفعلوا شيئًا، ولن تفعلوا شيئًا! جيوش بأكملها انهزمت برمش عين، طيارات ودبابات ومدافع، جيوش بأكملها، يا عالم! وتقولون لي حرب وتحرير! أنا ما يهمني فقط أن يطلقوا سراحي، لا بد أن هناك خطأ، ولا بد أن يعرفوا أن هناك خطأ، فأذهب إلى دكان الأقمشة التي لي. مع اليهود أو مع الذين كانوا قبلهم أو الذين سيكونون بعدهم الأمر سواء! المهم أن تمشي الأحوال! المهم أن تزدهر الأعمال! قفز صالح، وأخذه بخناقه: - أيها الكلب الأحمق الجبان! يجدر بي أن أقتلك مقابل هذا! استطاعوا أن يدفعوه عنه بعيدًا بصعوبة، ومروان يقف من ورائهم مرتعدًا: - يا جماعة! يا جماعة! على مهلكم، يا جماعة! انتهره أبو إيليا: - اسكت أنت، يا مروان! ومروان يصيح مصححًا: - لست مروان، أنا الغضنفر! وهو يتقهقر. وحينما عاد كل واحد إلى ركنه، صلى مروان ركعتين لله تعالى من أجل إنقاذهم، وقال: - من رأيي، يا جماعة، أن الوشاية جريمة، والمجازر جريمة، ويجب علينا ألا نشجع هذه أو تلك، لهذا، من رأيي، يا جماعة، أن نهادن اليهود حتى يفرجها ربنا... (استدرك مسرعًا) أقصد حتى يأتي الفدائيون، ويقتلوا اليهود، وينقذونا. اهتز صابر غضبًا: - أهذا منطق من كان فدائيًّا، يا غضنفر؟ تساءل أحدهم: - هل كان الغضنفر فدائيًّا؟ ضرب مروان قدمه في الأرض: - وما زلت فدائيًّا! قال أبو شعبان، وقد أصابته الخيبة: - ليس هذا منطق الفدائيين! الله أكبر! أن نهادن العدو؟ الله أكبر! كانت بعض الوجوه تنظر إلى مروان، وكأنها تكتشفه للمرة الأولى. انبرى زياد للدفاع عن أخيه الكبير، فقال: - لا تعتبوا على مروان، ولا تحاسبوه، ليس لأنه أخي أقول ذلك، ولكن لأنه حديث عهد في المقاومة! أنا مثلاً، كنت لا أفهم شيئًا، أما الآن... صاح مروان بأخيه: - أولاً، لست مروان بل الغضنفر! ثانيًا، لست أخاك الأصغر لتنبري مدافعًا عني بل الأكبر! ثالثًا، لست أقل فهمًا منك حتى ولو كنت أكثر مني عهدًا في المقاومة! أفهم مائة، ألف، بل مليون مرة أكثر منك ومن أخيك محفوظ، الله لا يحفظه! تطلع زياد إليهم واحدًا واحدًا: - أرأيتم؟ يقول ما في قلبه، هذا يعني أنه طيب، ونيته بيضاء كالحليب، لكنه لا يحسن التعبير (ومروان ينفخ من الغضب) إنه لا يحب رؤية الدماء، لهذا... نبر صالح: - ومن فينا يحب رؤية الدماء؟ قال أحدهم: - لا أحد يحب رؤية الدماء إلا الأغنياء، يحبون رؤية دماء الفقراء أمثالنا! (وأخذ يبكي) عملت حارسًا لرئيس البلدية طوال عشرين سنة، وعرفت عنه وعن أصحابه كل صغيرة وكبيرة، الشفط، واللهط، والمماطلة، كل هذا تحت وسامة الكرافات، والبذلة! أتدرون لماذا تجدونني هنا؟ لأن ابني فدائي. هو من وشى به، رئيس البلدية! فلما لم يمسكوه، مسكوني مكانه، واعتقلوني. يقولون إنهم مع الثورة، وينخرط بعضهم فيها، لا من أجل عيون الثورة، ولكن ليربحوا، ويتاجروا بالوطنية، ونحن من يدفع الثمن! كنت لا أنفع لشيء، أما الآن، فاطلبوا مني كل ما تريدون. من وشى بأبي ماهر يجب تقطيعه! سكت قليلاً، ثم التفت إلى مروان الذي ينزوي مهملاً: - عيب، يا ولدي، هذا الكلام: مهادنة اليهود! صحَّحه صابر: - قل الصهاينة، يا عمي: ارتبك الرجل قليلاً، واستجاب: - مهادنة الصهاينة! أهذا كلام رجل عاقل؟ إنهم الأعداء! من سلب الأرض والعرض! وقف رجل ثان أمام حارس رئيس البلدية، ووجَّه له الحديث: - أما أنا، فحالي آخر، لكنها حكاية الوشاية والخيانة ذاتها. العبد الحقير الذي أمامك عطار صغير، أعطيت تحويشة العمر كلها للمقاومة الله يحرسها، فوشى بي شرطي اسمه عبد الآمر للحاكم العسكري من أجل أن يعود لعمله في ظل الاحتلال. كان يسكن معنا في نفس الزقاق، وأولاده يلعبون مع أولادي! أرأيت إخوتك الذين من لحمك ودمك ماذا يفعلون بك؟ هذه جريمة تستحق الإعدام. ارتفع عنق صابر، وقال: - كانت محكمة الثورة قبل استلاب الوطن سنة 48 تحكم على الخائن بالموت منفذة ذلك في الحال. فأيَّد الجميع محكمة الثورة، وأثنوا على الشيخ عز الدين القسام والمقاومة الشعبية في زمانه، ودعوا الله أن تنتصر الثورة وأبناء الثورة اليوم، وأن يرحم الله الشهداء، أبو ياقوت ويوسف في المقدمة، وكل من سقط على أرصفة الشوارع. بدا أبو شعبان لحزنه شيخًا أكثر من أي وقت مضى، فراح العطار يروي لهم حكاية (( أم عاطف ))، ليستعيد أبو شعبان قوته وأمله... في الجبل الشمالي، في مدينة نابلس، وفي منطقة اسمها بليبوس، كان يقع بيت العجوز أم عاطف، وهو عبارة عن حجرة من خشب، كنَّا نسميه بيت الحمامة، لأنه يشبه الأقفاص، ولأن بابه قصير، وليس له شباك. كانت هناك فضية في السقف، تدخل الشمس منها باستمرار، وكانت العجوز أم عاطف تدعو بيتها بكوخ الشمس، لأن الشمس تجلس فيه، ولأنها كانت أيام شبابها جميلة كالنهار. هذا ما كانت تقوله لي في كل مرة أحضر بطرفها، فهي قد كانت تمضغ بعض الأعشاب التي كنت آتيها بها خصيصًا من الصحراء، وهذه حسبما تدعي، الأعشاب التي تطيل العمر. أمام بيتها، كانت هناك بسطة أرض صغيرة، تزرعها بالزنابق في الربيع، وحول البيت سياج. في الصيف، كنا نرى أم عاطف، وهي تجلس تحت الشمس. وكثيرًا ما كانت تلقي علينا نظراتها المرحة، وثغرها ما انفك عن الابتسام، بتواتر سلام الكهولة. بعد الحرب، بقيت أم عاطف تجلس تحت الشمس، والذي اختلف عن الماضي، أنها ما عادت تلقي علينا نظرتها المرحة، بل ترفع رأسًا عاليًا إلى ضريح (( الست سليمية )) الذي يشق الصخر، وثغرها قد انقطع عن الابتسام. هيئتها عابسة، بتواتر عذاب الكهولة. وفي مرة من المرات، رآها بعضهم تحمل دلو زيت، وهي تصعد الهضبة. وطوال الليل، راح النور يتشقشق من ضريح القديسة، ولم تعد أم عاطف إلى بيتها إلا في اليوم التالي. وذات يوم، دوَّى انفجار، وطلقات، وصيحة، فهرعت أم عاطف من خلف السياج لتعرف ما جرى. رأت في الطريق شابًا ملقى، انفجر نبع من فمه، فسقى خده، وروى شفتيه. ورأت في خصره تتفتح أزرار الليلك. كان هناك جنود الاحتلال، والبنادق. وكان هناك جنود الموت، والخناجر. سأل قلب أم عاطف الخافق: لماذا قتلوه؟ كان قلب أم عاطف يخفق، وجندي النجمة السداسية يخفق في العنق المهماز، ويدق الكعب في الساق. انطلق صوت يأتي من فوق سطح: - انتظر! انتظر! فراح جندي النجمة السداسية يعدو صوب الصوت، ويتبعه ثلاثة جنود من صحبه، فصبت على رؤوسهم الحجارة من كل مكان. خلال ذلك، كانت أم عاطف قد انحنت على القتيل، وراحت تبكي، فقذفها القاتل بكعبه، ولم يتوانَ عن التهديد: - إذا لمسته يداك قتلتك! نظرت إليه، وفي نظرتها مخالب، ومن عينيها انبثقت حبات اللآلئ، وهمس لها طفل صغير: - هذا الذي قتلوه فدائي! - وماذا فعل؟ - إنه فدائي! سقط بلا وداع لتبكيه عيناها. قالت لنفسها: الحمد لله الذي ما زلت أمتلك قليلاً منها! وكانت تمتلك في حديقتها بعض الحجارة. تحاملت على نفسها، وعادت تتعلق على السياج، وهي تفكر: كان له وجه الملاك! وأصبح الرصيف بالدم الحار الذي تدفق عليه سماء متوهجة بالنجوم، والفدائي قمرًا. بقيت أم عاطف تتعلق على السياج طوال النهار، رغم أن سيارة جيب جاءت، وحملت الفدائي وذهبت. كانت تفكر: مهما يكن، مهما يكن، فآثاره بَعْدُ لم تجف، وأنا لم أزل أبكيه! بعد مدة طالت في الانتظار وعدم اليقين، طرقوا بابها في الليل، فنهضت من نومها فزعة، واقتربت من الباب، وأنصتت بعض الوقت. ومن جديد، عادت الطرقات، فخرج من جوفها صوت أقرب إلى النقيق، فهي لم تنطق منذ شهور سوى كلمات. سألت الطارق عمن عساه يكون، فأتاها صوت يستنجد: - أخفيني، أيتها الأخت! أنا فدائي، أيتها الأخت! نثرت شعرها الأبيض على الكتفين، وقالت لنفسها: إن حجرتي تسع كلينا. كانت تفكر في بركة الدم، وفي الرصاص، وفي الشاب الجميل الذي قتلوه. صارت أم عاطف ولهى، تقول لنفسها: لقد تحداهم حبيبي! وها هو يأتي حبيبي! لقد أعاد الفدائي لها شبابها على الرغم من تلك الأعوام الطويلة التي يمكنها عدها عامًا عامًا، وشهرًا شهرًا، ويومًا يومًا، والتي مارست أم عاطف خلالها زرع الزنابق في الربيع، والجلوس تحت الشمس بسلام. - إنه أنا الفدائي، يا أختاه، افتحي بسرعة! سحبت المزلاج، وهي تنتفض من قمة الرأس إلى أخمص القدم انتفاضات من يلتقي بحبيب. وما أن فتحت الباب على مصراعيه حتى شاهدت الهلاك، وقد انتصب أمامها، لقد شاهدت جزماتهم، وأسلحتهم، وظلالهم. ولقد شاهدت بعضهم يلوك بعض الأعشاب، وبعضهم بمكر راح يضحك. راحت تردد بانفعال: (( أنا لا أصدق! أنا لا أصدق! سمعته ينادي، كان يقول لي أختاه! وكان في صوته دفء الرجل الذي لم يفرط في الاعتداد بنفسه! )) كان أحد الجنود الإسرائيليين قد تقدم منها، وبعقب البندقية أهوى، فشق لها الوجه نصفين. سقطت أم عاطف، وكل شيء كان يمور في كيانها قد توقف إلا ابتسامتها. بتواتر عنفوان آخر لم ترَ شفتاها مثله، لا قبل الحرب ولا بعدها، واستمرت ابتسامتها. ومنذ تلك الليلة، بدلت المدينة الأنظار، من ضريح (( الست سليمية )) إلى ضريح أم عاطف. زرعنا من حولها الزنابق في الربيع، ونذرنا من أجلها الشموع في كل الفصول، فاشتعل الجبل بالأضواء... فجأة، انبثقت خطوات جندي المناوبة، فصمتوا، وتظاهروا بالنوم عندما أطل برأسه من وراء قضبان النافذة. أضاء على وجوههم مصباحًا يدويًّا، ثم ما لبث أن ابتعد، وخطواته تدوي.
44
مضت فترة ليست قصيرة، ومع ذلك، لم يتحرك أحد، فحسب صابر أن الرجال ينامون، لو لم يدنُ أبو إيليا منه، ويهمس في أذنه: - لا يأتيني النوم. - ولا أنا. - أبو ياقوت، وأبو ماهر، ويوسف، والشهم! الشهم، ويوسف، وأبو ياقوت، وأبو ماهر! كل هذا في رأسي. - يجب ألا نقطع الأمل. أطلق أبو إيليا نفسًا مديدًا: - في ليلة كهذه، أيام الشباب، كنت أستلقي أنا وأبوك في زنزانة سجن عكا بعد أن حبسنا الإنكليز، يا أستاذ صابر، ولم يأتنا النوم ليلتها. كنت أنت طفلاً ترضع في حضن أمك، ترككم أبوك للأرض، وذهبنا سويًّا لنعمل مع الثوار. كان ذلك بالضبط، بعد أن أخذوا مني مريم، وزوجوها من غيري. قال لي أبوك ليلتها إنه يفكر فيك، دون أن يكون خائفًا من الإنكليز إذا ما قتلوه، فستكبر، وتقتفي نفس الطريق الذي عبَّده بدمه. في الصباح، أخذه الإنكليز، ولم تره عيني ثانية إلا قبل يومين من النكبة، ليقتلوه في الحرب. أقول لنفسي، وأنا أراك، وأرى صالح حماه الله، إن أباك مات مطمئنًا. أطلق أبو إيليا نفسًا آخر مديدًا: - الله يرحم أباك، يا أستاذ صابر! وما لبث أن أضاف معاتبًا: - ولكن سامحك الله، يا أستاذ صابر! لماذا لم تقتلهم قبل أن يلقوا القبض عليك. كان لديك كلاشينكوف، وكان عليك أن تقتلهم، وألا تدعهم يلقون القبض عليك أبدًا. وأبو شعبان يقترب منهما برأسه، قال صابر: - البركة الآن في شعبان. قال أبو شعبان دون أن يتبدد حزنه على أبي ياقوت والآخرين الذين قتلوا: - كان شعبان يريد الذهاب واللحاق بالأستاذ صابر منذ أول لحظة، أعطيته المرتينة التي أحتفظ بها من أيام زمان، وقلت له: اذهب إلى الأستاذ صابر، واعملوا على إنقاذنا. عندما انهزمت جيوشهم، جاءني شعبان في اليوم التالي، وأعاد لي المرتينة بعد أن أعطوه أجمل كلاشينكوف جديد، وقال لي، صارت مرتينتك عتيقة، وهذه أسلحة اليوم! وهو يهتز كفرع الزيتون الفضي! لاحظ صابر كيف بدأت أمواج الأمل تجرف رمل الحزن عن وجهه، ومع ذلك، انفعل أبو إيليا، وهم يحسون بحركته على الأرض: - لكن تلك المرتينة عملت العجب العجاب قبل اغتصاب البلاد. ارتفعت لهجة أبي شعبان المحتدة: - لا تحدثني عن عجب الماضي، وحدثني عن عجب اليوم! أطلق أبو إيليا نفسًا مديدًا، فنبر أبو شعبان: - ماذا، يا أبا إيليا؟ ألا يعجبك الحال؟ أدبَّ في قلبك اليأس، ونحن لم نزل بعد في أول الطريق؟ ماذا، يا أبا إيليا؟ طلب صابر إليه أن يخفض صوته، فقال هامسًا دون أن ينتهي غضبه: - أتراه نائمًا أبو إيليا وهذه أضغاث أحلام أم ماذا؟ بدا على أبي إيليا الضيق: - لم تفهمني، يا أبا شعبان: ولم يزل أبو شعبان غاضبًا: - لم أفهم ماذا؟ ما هذه النبرة اليائسة في الكلام؟ ابتسم أبو إيليا: - دعني أكمل كلامي أولاً ثم تعال وحاسبني: راح كل منهما ينظر في عيني الآخر، فطلع في المعتقل صباح القرية الجميل. - هذه حكاية عمرها طويل، يا أبا شعبان، قبل أن يأخذوا مني مريم ليزوجوها من غيري، ذلك الذي يدفع الأكثر، عجوز، بشع، عربي، يهودي، ليس الأمر خطيرًا، المهم أن يكون بإمكانه أن يقدم مهرًا يسيل اللعاب. قلت لها: - يا مريم، غدًا سيبيعونك في سوق المزاد. فأنصتت لي دون أن يفاجئها ذلك، وبقيت تنظر في عيني. قلت لها، وقد ملأت عيني غشاوة الدمع: - إنني أنقل إليك الخبر. أبعدت رأسها عن ساق الشجرة، فسقط عن كتفها شعر الليل. قالت: - وماذا ستفعل؟ وبقيت تنتظر جوابي. قلت: - لا شيء. وفجأة، اشتعل ضوء في المطحنة. أخذتها من ذراعها، واختبأنا في زاوية معتمة من الحديقة. وهي تلتصق بي، كانت تخشى من بعض عيون هناك، أسود من الليل، تبحث عنها خلال الظلام، فتحاول أن تخفي نفسها بين ذراعيّ، وأن تصبح ذراعيّ. بعد قليل، انطفأ ضوء المطحنة، وسمعنا خطوات تأتي باتجاهنا، وما لبثت الخطوات أن توقفت، ثم عادت أدراجها. صعدت الدرج الخشبي، فالحجرة التي فوق المطحنة، وانقفل الباب دون أن يشتعل الضوء في الحجرة. كانت خطوات أبي. فتحت مريم فمها لتقول كلمة، لكن صوت المذياع انفجر وسط السكون، فلهثت، وتشبثت بعنقي. انطفأ المذياع، وحطَّ حولنا صمت هائل. أحسست بأنفاسها على عنقي، بذراعها الساخنة حول كتفي. رفعت أصابعي، وأذبتها في شعر الليل. عند ذلك، أخذت تئن. قلت لها: - لا تخافي. نفضت نفسي، ونهضت. وأنا علي بعد قليل، التفت إليها، فلم أستطع تبيانها. رفعت رأسي نحو السماء: فحم! وعلى صوت حشرة الليل لامست عنقي خائفًا. قلت لها بصوت ضائع: - أنا لا أجدك! فثقبت هدأة الكون ضحكتها الحادة، وأنا أتدافع حتى التصقت بها مرة أخرى. قالت: - سأذهب. لكنني بقيت أشدها إلى صدري مهمهمًا دون أن أقع على كلماتي، إلى أن طلعت على الحديقة نجمة، فوقعنا على ظلالنا. قلت لها: - لماذا أنت على عجلة؟ أنا بعد لم أرك كما هي عادتنا. من عادتنا أن نمكث معًا معظم الليل، وأنا ما زلت أريد أن أراك. قالت: - عليّ أن أعد حقائبي، فغدًا، لقد قلتها أنت منذ قليل، إنه سوق المزاد. رحت أتأملها بأسى، فسألتني: - هل هذا يزعجك! هززت رأسي، وأنا أسمعها تطلق تأوهة عميقة، ثم سمعتها تقول بصوت يائس: - ولكنك لا تفعل شيئا! سكتت قليلاً ثم أضافت كمن يندب حظًّا عاثرًا: - في كل مرة هناك مشكل بخصوصي، أنت لا تفعل أكثر من أن تبكي! ابتعدت عنها عدة خطوات، وأنا أضرب بقدمي الأرض محتجًا: - ماذا تريدينني أن أفعل؟ قولى؟ في كل مرة يريدون فيها أن يسببوا لك الأذى، أود قتلهم فلا تكونين ملكًا لهم. قالت لي بمرارة، وخيبة: - اعلم أنني لن أكون أبدًا ملكًا لأحد سواك حتى وأنا متزوجة. فتساءلت بسذاجة: - وماذا يعني غيابك من وقت لوقت؟ بين آخر مرة رأيتك فيها والآن أكثر من خمسة شهور، هناك من يمنعك عني. - هذا لا يعني أنني ملك لأحد سواك. قلت، وأنا أصرف أسناني: - أصبحتِ قاسية المشاعر، وإلا كيف تمضي أكثر من شهور خمسة دون أن تأتي! اقتربت مني خطوة، وهي تميل: - وهل كنت بانتظاري؟ - طوال الوقت. وما زلت تقترب مني، وهي تميل: - أحقًا، طوال الوقت؟ - نعم، طوال الوقت. - لنفترض أنني لم آت. - لسوف تأتين. - أقول لنفترض أنني لم آت. ماذا سيكون موقفك؟ أتقعد بانتظاري طوال الوقت؟ - لسوف تأتين. - أقول لنفترض. - أنا لا أفترض، لسوف تأتين. أخذت أصيح مؤكدًا: - لسوف تأتين، لسوف تأتين. وهي على بعد خطوة مني، قلت هادئًا: - كنت ستأتين دومًا. لكنها راحت تنبر: - أيها المتواكل! أنا ذاهبة هذه المرة دون عودة، اقعد في مكانك، وانتظر حتى تفطس، لن أعود إلى رجل لا يريدني لأجلي، ولا يسعى لأجل أن يكون قربي. رحت أهتز، وهي لا تكف عن القول: - اقعد في مكانك، وانتظر إلى الأبد، آه! يا لتعاستي! ظننت أنك تحبني فعلاً، وأنك ستسعى يومًا لإنقاذي. - لا يمكنني أن أفعل شيئًا. - لِمَ لا تقتل من يريدونه لي زوجًا؟ - لا يمكنني! لا يمكنني! - وأبي، من أنا، كما يقول الناس كلهم، (( ملكه ))، والدي يريد أن يبيعني لمن بإمكانه أن يدفع المهر الأعلى، لماذا لا تفكر في قتله؟ وكأنني أصحو من كابوس: - ماذا! اندفعت بضع خطوات تاركة إياي، ثم استدارت، وقالت بعنف: - أهذا ما يفزعك؟ فتحت فمها على سعته تريد أن تنفجر غضبًا، لكنها تمالكت عن غيظها، وقالت بهدوء، وكأنها تعاتب نفسها: - أنا أعرف الآن، لقد كان خطأي. اقتربت منها، ولأول مرة، أردت أن أقول شيئًا تكون فيه الحقيقة كما يجدر عليها أن تكون، شيئًا عن حقيقتي أنا، وقد احتاجني ذلك إلى أن أبذل جهدًا عظيمًا، فتحت فمي، وقلت: - أما أنا، فأعترف. ورجح صوتي: - أنا لا أستطيع شيئًا، وهذه حالي. رميت يديّ في الليل، فخفقتا بضعف هنا وهناك. حملت مريم كل ألمها، واندفعت تهزني من كتفي: - لا تتركني أذهب، شد وثاقي إلى يديك، قيدني معك، خذني إليك! وأنا أهتز، وأهتز... وهي لم تزل تستحثني، ولم تزل تستحثني... - خذني، أهرب بي! - إلى أين؟ - إلى أي مكان. - إنهم في كل مكان. - على الأقل نهرب من شيء اسمه سوق النخاسة. - إن سوق النخاسة هنا، وهناك، في كل مكان. - إذن افعل شيئًا! وأخذت تصيح: - افعل شيئًا، لا تدعني أذهب! لكنني انفجرت بالبكاء. اشتعل الضوء في حجرة أبي، وسمعت الباب ينفتح وخطوات على الدرج الخشبي، فأوقفت زفراتي، وأنا أجمع مريم من وراء شجرة، ثم جاء صوت أبي الهرم: - أهذا أنت، يا عيسى؟ ونادى: - عيسى! ثم عاد، وقد غلبت على صوته نبرة قلقة: - أهذا أنت الذي يصيح هناك؟ لم أعطه جوابًا. عاد أبي إلى حجرته، وانغلق الباب، ثم ما لبث الضوء أن انطفئ. أخذت مريم طرف ثوبها، وراحت تمسح لي دموعي هامسة: - لم يذهب أبوك بعد إلى فراشه! الذي في مثل سنه ناموا منذ ساعات! - إنه لا ينام طالما أنا في الخارج. - يخاف عليك إلى هذه الدرجة؟ - كيف لا يخاف علي؟ إنه أبي. ثم وجدت التبرير الكافي: - إنه شيخ هرم. راحت تدفع طرف ثوبها على خدي بعصبية، وهي تفكر في أمر آخر: - وأنت ألا تخاف عليه؟ ألم تفكر يومًا في أنه شيخ هرم، وأنه سوف... أريد القول... عما قريب، أنه سوف... - أنا لا أفكر في هذا، طالما هو هناك، بانتظاري. - وماذا تزمع أن تفعل من أجله؟ أطلقتُ تأوهة: - من عادته ألا يتركني أفعل شيئًا باستطاعته القيام به من أجله أو من أجلي. - الآن أرى لماذا لم تتعلم... - أشياء كثيرة؟ أنا في غنى عنها. قالت دفعة واحدة. - وإذا مات فجأة؟ دفعتها عني بقوة، وأعطيتها ظهري. لكنها نادتني: - هل غضبت؟ لم أجبها. - أنا أسألك، هل غضبت؟ قلت لها: - أحب أبي كثيرًا. بعد قليل، قالت: - هل فكرت في هذا: أحبك كثيرًا. - فكرت فيه. - وأنت، هل تحبني كثيرًا؟ - أحبك كثيرًا. واعترفتُ: - يا لي من أبله! أنا أسيء إلى الجميع: أنت من جهة، وهو من جهة. أنت تجازفين بحياتك كلما أتيت للقائي دون أن يعرف أبوك، ذاك البربريّ! وهو هناك يقعد طوال الليل منتظرًا عودتي، وهو العجوز الهرم! رحت قليلاً مع أفكاري، ثم أضفت بروية: - إن انتظاره من نوع آخر، إنه كمن يلتقي طفلاً بعد كل مرة. أما أنا، فأنا أنتظرك طوال الوقت، من أجل أن أشعر بشبابي، أتسمعين؟ إياك أن تكوني قاسية، فلا تعودين إليّ. إنني، نعم، إنني أحتاج إليه. أما أنت، فأنا.. اسمعي، لنترك هذا الأمر جانبًا، إن كلينا يحب الآخر، وكفى. غدًا سأقتل رجلك، أؤكد لك، وسأحررك من قيده. ستقولين إنهم سيقبضون عليّ، وأنا أقول لك، سيطلقون سراحي في النهاية. ثم، سأفكر في أمر أبيك. كم هو منغص، بل كم هو مرعب، أن تبدر عن مخيلتي فكرة، مجرد فكرة صغيرة عن قتله هو الآخر! لأنه أبوك. ولكن، لنفكر في الأمر مليًّا. لسوف نفكر في الأمر مليًّا، فلا تذهبي، وأنت غاضبة. آه! يا إلهي! وأنا أفكر في أبيك، الدلال في سوق العبيد لا يقوم بأفعاله! سأقول لك حتى ولو غضبت، إنه حشرة! لا يساوي ظفرًا واحدًا من أظافرك! وقد شتمه أبي لمرات، رغم أنه واحد من رجال الباشا، لكنه لم يفكر يومًا في قتله. أتعرفين لماذا؟ لأنه حشرة، شيء صغير، أما أبي، فطاحن قمح القرية، ومقاتل قديم في صفوف ثورة 36! أنا... هل أنت هنا؟ أنا لا أخفي عنك شيئًا كما تعلمين، وسأفشي لك سرًّا. هل أنت هنا! قولي! هل أنت هنا؟ لم يكن أحد غير ظلي هناك. قعدت لفترة طويلة، وأنا أنتقل من مكان إلى مكان بحثًا عنها. لما أعياني ذلك، صعدت الدرج الخشبي، وطرقت الباب، فأضاء أبي الحجرة، وفتح لي: - أنا أنتظرك، أين كنت؟ ذهب إلى الدوشك، وناداني: - تعال، يا ولدي، واجلس قربي. هذا الشيخ العجوز يريد أن يحدثك. جلست قرب أبي، فلفَّ كتفيّ بذراعه، وسألني: - ماذا بك؟ - لا شيء. - حسنًا. وأخذ يتفحصني: - أتعرف في أي وقت نحن الآن. - لا أعرف. - من الآن فصاعدًا واجبك أن تعرف، لقد مضى وقت طويل من الليل. أخذ يتفحصني من جديد، ثم أضاف بفم مرتعش، وأوداجه تأخذ شكل الشمع السائح: - أنا أعد لك مفاجأة. حثني علىّ النهوض: - قم، وافتح ذاك الصندوق. قمت مترددًا. - افتحه يا ولدي، هناك المفاجأة، افتحه، ولا تخش شيئًا، أنت لم تعد طفلاً. فتحته بينما هو يسألني: - ماذا ترى؟ - لا شيء. - انظر جيدًا، تحت القماشة الحمراء المقصبة. رفعت القماشة، فرأيت بندقيته العتيقة. - إنها لك. رفعتها بين يدَّي، وأنا أهتز من أثر الخوف، فهذه هي المرة الأولى التي يتركني فيها أبي وجهًا لوجه مع مصيري. - لي! - لك، إنها لك منذ الآن، مني لك، لا تنس أنها كل ما أملك من أثمن الأشياء. وانتبه جيدًا، إن قيمتها يا ولدي تأتي من مرافقتها لي طوال شبابي حتى صرت ما صرت عليه اليوم. احتفظ بها، واحذق استعمالها. هل أنت سعيد؟ لم أكن سعيدًا، لأنني كنت أعرف أن أبي سيغادر إلى الأبد، ومع ذلك جمجمت: - أنا سعيد! - خذها إلى فراشك إن أردت، أما أنا، فقد سلمتك الأمانة. انحنى على نفسه، وما لبث أن نام، ولم يقم من النوم، كان عليّ ألا أعتمد إلا على نفسي وعلى بندقية أبي. ومنذ تلك الساعة، وبندقية أبي، بندقية 36 تعمل العجب العجاب رغم قدمها. عجب الكرامة الذي هو من عجب اليوم، عجب البندقية التي لا تشيخ أبدًا، لأنها الوجه الآخر لربيع هذا العالم. جندلت بها إنجليز وصهاينة وأذنابًا، ومع الأسف، لم أصل إلى رأس الحية، لم أستطع قتل أبي مريم، حماه الإنجليز والباشا. لأنه رجل الباشا والإنجليز. باع مريم، وباعنا، واستطاع في الأخير أن ينزع مني بندقية أبي، فقعدت طوال الوقت أفكر، وأقول لنفسي، آهٍ عليك، يا أبا إيليا! كيف لما أردت أن تقوس ذلك الخائن قبل أن يأخذوا مرتينتك؟ وجاء دور البيك اليوم، صارت له عمارات في عمان، وأراضي في الأغوار، وقصور في الجنة! ولم يكل لساني عن الترداد: يا من درى، أيأتي من له مرتينتك التي كانت لك، يا أبا إيليا، ليعيد لك مريم، ويدك قلب ذاك الخائن؟... ابتسم أبو شعبان: - وأتى عجب اليوم بالمرتينة وصاحب المرتينة، أتى بشعبان. كان أول عمل له أن قتل البيك، وحقق لك، يا أبا إيليا، أمنيتك. - لهذا، لم تصدأ مرتينتنا، ولن تصدأ، على الرغم من رطوبة الأيام، وإعاشة آخر كل شهر، هذه حقيقة طلقات شعبان. شنفت آذانهم ضحكة صابر: - يرجع الولد لأصله! تنهد أبو شعبان، وراح يؤكد: - أي نعم، الأصول، الأصول! والفضل للأستاذ صابر هذا، الذي علمه الفن مع السياسة. - كان شعبان أحب تلامذتي إلى قلبي. وكأن أبا شعبان لم يسمعه: - أتذكر لما حبسوك من أجل هذا، يا أستاذ صابر؟ شددنا المختار من لحيته، وقلنا له: يخرج الأستاذ صابر الآن أو نهجم على السجن، ونخرجه بأنفسنا! ذهب على التو عند أبي نواف ليعمل ما يمكن عمله من أجل إطلاق سراحك، بعد أن خاف على المخترة أن تفلت منه. لاحظوا أن عبد المؤمن يسترق السمع، فعاد صابر إلى حكاية أبي ماهر الذي أخذوه، وإلى الشكوك التي تدور حول عبد المؤمن، رفع عقيرته: - أما إذا لحق أبا ماهر سوء، فسيكون حسابنا عسيرًا مع الواشي. وكأنه ردهم إلى حقيقة غائبة. قال أبو إيليا: - لننتظر عودة أبي ماهر، فنعرف كل شيء. وعبد المؤمن يسمع ولا يدري أين يخبئ وجهه. وبسرعة، طلب إليهم صابر أن يصمتوا، فسمعوا خطوات في الساحة. ذهب إثرها ليلقي نظرة من النافذة، فشاهد المعتقل، وهو يغطس في طين الليل. وبعد قليل، عاد صابر، وهو ينتفض جزعًا وغضبًا، وقال: - يأخذون الأرملة للضابط.
45
تابع شعبان رسم اللوحة، نبتت قرنفلة الدم، وانطلق صياح الأعنة. لم تعد الريشة تعطي الألوان. لم تعد الريشة تسقي اللوحة. الألوان تعطي الألوان. واللوحة تسقي اللوحة. ومر أخرى كبر الأطفال. في الشوارع ظل الكبار. في الشوارع قلب الكبار. في الشوارع كل الانتظار. انتظارنا لمجيئك. مجيئك لانتظارنا. رغم الطوق. كلانا يتقدم. واللوحة.
46
مع آخر الليل، فتح عليهم الجنود الإسرائيليون باب الثكنة، وقذفوا أبا ماهر، ثم انخطفوا ذاهبين. نهضوا جميعًا، وأنين أبي ماهر يحفرهم كنصل السكين. اندفع صابر ينقله بين ذراعيه، وجاءوا كلهم إليه. رأوا كيف كان أبو ماهر في جبينه مسحوقًا، وذراعه اليمنى مكسورة. مزق صالح قميصه، وأعطاه لصابر، فأخذ يمسح الدم عن عينيه بحذر، وخوفه عليه شديد من العمى. وما لبث أبو ماهر أن فتح عينيه للحظة، وأرسل إليه نظرة، فشق قلبه! فلقوا شفته السفلي فلقتين، وجعلوا ذقنه نصلاً ذا حدين. نافورة الدم التي أصبحها، تحولت في عيبال إلى نافورتين! بدوا لا يدرون ما عليهم أن يفعلوا. كانوا مغروسين هناك، وكل شيء ثابت، إلا من تلك الحركة المثابرة لساق أبي ماهر، وخطوات النهار الأولى في الخارج. حط صالح على عبد المؤمن عينين تند عنهما نظرة الإدانة، فخفض عبد المؤمن رأسه، ومال مذعورًا إلى جانب. سأل صالح إذا كان يمكن لأبي ماهر الكلام، وصابر يحاول ربط عظم الساعد، والدم يشتعل بين الأصابع. مضت فترة حسبوها دهرًا، وهم يحدقون في أبي ماهر، ولا ينطقون. ثم انزاح أحد الشبان، وشرع بتحطيم تماثيل الصمت التي في أثوابهم عندما شرع بالحديث عن صاحب جرحهم في ثوب أبي ماهر. - لولا أبو ماهر لما عرفت المعنى الكريم للبنادق. وبدأ يحكي: - جرى ذلك بعد سنة من الاحتلال، أردت أن أقوم بجولة قصيرة في نابلس القديمة. كانت تسيطر عليّ وقتها رغبة التمشي في الأزقة المعتمة، رغم أن ذلك ممنوع في الليل، ولا يمكن إلا بتصريح. ومع ذلك، سِرْتُ من وراء رغبتي: رطوبة الجدران، والأقواس التي في انحناء دائم. قناديل الأعمدة القديمة، وأحصنة العتمة الساكنة. وأكثر ما كان يشدني، فراش الليل، وأجنحته الملونة في الأشعة. كانت تلك لذة ليس مثلها لذة! لذة فوق التصور! أخذت رغبتي تلح: سوق البصل، إن هذا لا يكفي. ساحة المُصَلَّبَة، إن هذا لا يكفي. حارة الياسمينة، إن هذا لا يكفي. كنت أنقل خطواتي في العتمة، وفي رغبتي نفسها. وكنت أتسلق بخيالاتي إلى الأجساد: إمبراطورية آل عبد الهادي، إن هذا لا يكفي. زقاق المسيح، إن هذا لا يكفي. حمام اليهود، نعم، نعم، حمام اليهود، إن هذا لا يكفي. إلى أن وجدت نفسي أخرج من العتيق، من نابلس عريقة تترصدني، ترفع قدمها الأسطورية لتحط من وراء كل خطوة أصنعها. وجدت نفسي في منطقة منعزلة، قرب تلة رمال، هضبة مهجورة، أنا وذلك الطفل الأسود: الليل. عدت أدراجي، وأخذت طريق حمام القاضي. مررت بالمصبنة، فثارت رائحة الليل والنظافة. وأنا، رغبتي لا تشبع، لأن ذلك كله لم يكن كافيًّا، ليس ما فيه الكفاية. وجدت نفسي أدلف إلى حارة القريون، حارة واسعة، تتماسك أعمدتها بقوة منذ الزمن القديم. كان يأتي من أحد أحواشها ضوء خافت، حثثت الخطى باتجاهه، وإذا بي في النهاية أهتدى. صرت في زقاقي، في فضائي، في وسط رغبتي، بالضبط، في وسط رغبتي. أحسست بالتعاسة! بضع لحظات فيما بعد، وصلني إيقاع خطوات تعدو، وصيحات! وبنقلة خفيفة، أخفيت نفسي خلف جدار قصير. دوت رصاصات، وعبر شبح من أمامي، ثم ثلاثة أشباح، واحتدمت الأصداء. صممت على أن أغادر المكان بسرعة، لكن رصاصات أخرى انطلقت بعنف، فانقض شيء على قلبي واعتصره. كان ذلك اللارغبة. لم يكن مصدر الرصاصات بعيدًا، كانت تأتي من الساحة التي سقطت في الحلكة منذ قليل. جمعت نفسي لأطل، لأشاهد، ليرى فضولي ما يجري، ما يمكن أن يجري. تقدمت من وراء حجر، وشاهدت الأشباح الثلاثة، إنهم جنود الاحتلال! فج ضوء بشع من مصابيح السيارة العسكرية، فانبسطت الساحة دونه غريبة عن نفسها في الليل، وهي الجميلة في النهار. كانت سيارة عسكرية قد وصلت، وهبط منها عدد من جنود النجمة السداسية. غاب بعض الجنود في البناية المقابلة، وبعد قليل، رأيت أطفالاً أشبه بالعراة، ثم نزل أهل الحارة كلهم، جاؤوا ليروا. دفعهم الجنود الإسرائيليون في الزوايا، وراحوا يجهزون أدواتهم. عملية نسف! كان جندي الاحتلال يصيح في مكبر: - أخلوا بيوتكم! خمس دقائق! وآخر يقوم بالاستجواب: هل رأيت الفدائي؟ أين خبأته؟ دخل في دارك. بل في دارك أنت. هو ابن عمك! بل هو ابنك! لا تقول! لا تقولين! تبدين فدائية من الجبين! سنذبحكم! سنسحق عظمكم! أين اختبأ الفدائي؟ صاح الجندي الأول في المكبر: - دقيقة واحدة! بقيت دقيقة واحدة! كان الجنود الإسرائيليون قد ابتعدوا بعد أن جهزوا آلة النسف، وأنا أفكر أن كل هذا هو الوجه الخفي لرغبة تحت الاحتلال، حقيقة رغبة ليست في محلها. وبعد قليل، حصل انفجار مدو. وما لبث جنود النجمة السداسية أن دفعوا الرجال في سيارات عسكرية، جاءت من أجل هذا الغرض، وعادوا من حيث جاءوا. بكى الأطفال، ولطمت النساء، وتحولت البيوت إلى ركام. لم تتوقف ليلتي عند هذا الحد، جمعت نفسي، وسرت في الزقاق الخلفي، وفي صدري غضب لا يصدق. وعلى بعد مائة متر، أو مائتين، جذبتني يد بحزم، فوجدتني أسقط من وراء سور محطم. أرسلت نظرة من حولي، ورأيت أبا ماهر الذي راح يسألني: - ما الذي حصل؟ كنت أعرف من هو، لكنني سألت: - من أنت؟ - ألم تعرف من أنا؟ أخذت أهز رأسي يمنة ويسرة مرددًا: - يا إلهي! يا إلهي! - ما الذي حصل؟ - نسفوا الديار! فلم ينبس ببنت شفة. صحت به: - لماذا لم تهاجمهم من الخلف للدفاع عن الناس ونجدتهم؟ قال بهدوء: - أتظنني مجنونًا؟! - وماذا في ذلك من جنون؟ - تريدهم أن ينسفوا الحارة كلها؟ - هذا ما حصل. الحق جزء من الحارة، بعض البيوت! - أترى، ليست الحارة كلها. ثم، العملية التي نخطط لها ليست هنا. - أين؟ - أتظنني مجنونًا؟! - ولكن، ولكن، على كل حال لا علاقة لي بالأمر، لا من قريب ولا من بعيد. ونهضت، فأمسكني: - إلى أين؟ - إلى داري. كان ذلك قبل أن أمسك بك، أما الآن، فالأمر فائت لأوانه. - ماذا؟! - أعني، أحتاج إلى عون، إلى بعض العون. أومأ أبو ماهر رأسه إلى طرف، فشاهدت السلاح الرشاش. كانت هناك النجمات، وكان القمر الوحشي يرتمي بين ردم الحجارة. قال لي، وهو يبتسم: - أليس جميلاً؟ رفعت قدمًا، وسرت خطوة: - إنني أتركك. - لن أدعك تذهب، وإلا قلتها. - ماذا؟ - نذل! انحنيت على أذنه، وهمست: - اسمع، يا صديقي... فقاطعني: - لا تدعني بالصديق إلا حينما تثبت ذلك. عدت إلى القول: - اسمع، أيها الرجل الشجاع، أنا لست نذلاً، ولكنني أؤمن بتدبير الأمور، بالتخطيط، بالحفاظ على أرواح إخوتي، وعدم نسف بيوتهم، إنني أؤمن بـ... قاطعني مرة أخرى: - كفى، كفى، أهي خطبة الجمعة أم ماذا؟ - خطبة الجمعة... - أما إذا كان الأمر يتوقف على التخطيط، فهو معد. خذ! وطرح السلاح بين ذراعيّ: - اتبعني. - إلى أين؟ - سأخبرك بالخطة في الطريق. وجدتني أشد السلاح إلى قلبي بقوة، وأنا ألهث، فتجتاحني قوة، وتعبق من حولي رائحة التراب. بدا التحامي عميقًا وعنيًفا لأول مرة منذ اغتصبوا فلسطين. تمنيت لو أعود في أعقاب جنود الاحتلال، وأجندلهم واحدًا واحًدا. كنت واثقا من الفوز، لقد كان غرامي الأول، وكان غرامي الأول والأخير. سألني أبو ماهر: - ما زلت مصممًا على الذهاب إلى دارك؟ إذا كنت لم تزل مصممًا، فأنا لا أمنعك. كنت أضم الرشاش بأعظم قوة، وأنا أحدق في واجبي، في إنسانيتي، في عمق مأساتي. مد أبو ماهر يده حتى لامس كتفي، وطلب مني: - أعطني السلاح، أنا لا أقف في طريقك. خلال ذلك، كنت أجذب السلاح إلى قلبي، فيكاد يفتك بي. - اذهب، اذهب، أعطيك مطلق الحرية لتذهب. قطعت لهاثي، وهمست بصدق: - سننهي تنفيذ الخطة أولاً، ثم اذهب. كنّا قد وقفنا في الخلاء، ما حولنا قبور وتوابيت، وأبو ماهر ينظر عبري في التصميم الذي قطعته. وفجأة، مد يده إلى غطاء أحد التوابيت، ورفعه. ألقى سلاحه، وقال بهدوء: - انتهت الخطة. سحب من يدي السلاح، وألقاه أيضًا في التابوت، ثم أقفل الغطاء، ووضع فوقه حجرًا. - أنت رجل شجاع! أسعدت مساء! وتركني. بعد عدة خطوات، صحت والدهشة تلفني لفًّا: - أنت ذاهب إذن! ودون أن يلتفت إليّ، قال: - موعدنا غدًا، هنا، في مثل هذه الساعة. *** رفع الشاب وجهًا مبتسمًا، وأنهى: - ثم انخرطت في حركة المقاومة. عاد صالح يسأل، إن كان يمكن لأبي ماهر الكلام، ولم يكن يمكن لأبي ماهر الكلام، ولم يكن يمكن لهم الاستماع إلى أبي ماهر حتى ولو كان يمكنه الكلام، فقد جاءت الشاحنات العسكرية، وجاء معها سوط المحتل اللاسع.
47
رفع الشهم قبضته مهددًا جنود الاحتلال، فجاء أحدهم يريد قمعه، لكن جنديًّا آخر أوقفه: - إنه كالأرنب لا يؤذي أحدًا! وراح جنود النجمة السداسية يقهقهون، فمدّ الشهم ذراعه بين قدمي أحدهم، وأسقطه، مما قطع الضحك في حلوقهم. أخذوا يدكونه بأقدامهم، وهو يصيحون بالرجال، ويكدسونهم إلى جانب النساء في الشاحنات. أخذ صابر مكانًا إلى جانب الأرملة، ودنا بوجهه أقرب ما يكون من وجهها، ودنت بوجهها أقرب ما يكون من وجهه. سارت بهم الشاحنة، فأخذ قلبها يخفق بقوة، وهو يسمع دقاته. وأخذ قلبه يخفق بقوة، وهي تسمع دقاته. كان كلاهما قريبًا من الآخر أقرب ما يكون، وهو يشم رائحة القرية في ثوبها، ويسبح في العيون. وكان يرى على كتفيها جدائل القرية الملقاة على الطريق الذاهبة إلى القدس ورام الله وأريحا ويافا وحيفا، والكل من حولهما ينظر إليهما دون دهشة. طارت بعض الأجنحة، وراحت تحوم قرب قلبه، فأعطى لها قلبه عشًّا كي تبيت في المساء. وجد نفسه يزحف بأصابعه إلى أصابعها في النور والعتمة، ويضغطها بقوة، كي يأخذ ويعطيها القوة. كان حبه عظيمًا، وأصبح حبه أعظم. وعندما رنا إلى شفتيها، صعد فيهما لون النبيذ، وبدت كأنها تبتسم للريح. لم يرفع صابر عينيه عن الأرملة لحظه واحدة، وهم على أرض الشوارع. وعندما وصلوا جوف النفق بخطين حديديين اندفعت عليهما، لأول مرة، عربة مليئة بالتراب، التفتا سويًا إليها. رأيا أبا شعبان يجيء، وعلى ظهره القفة التي تركها أبو ياقوت بعد موته. نظر كل منهما إلى الآخر، وحكت له عيناها، وكأنها تريد أن تقول (( لماذا يعطون أكثر الأعمال مشقة لأكثر الناس عجزًا؟ )) فهم صابر، وذهب ليساعده. حمل وأبو شعبان القفة كل من ذراع، وسارا عدة خطوات، لكن صيحات الإسرائيلي جمدتهما، فترك صابر أبا شعبان يعالج وضعها على ظهره، وهو يرفع جذعه الشيخ مراقبًا ألا يسقط. وهم منهمكون في شق الشوارع، والعرق يتصبب من جباههم، انطلقت صرخات ثاقبة. بحثوا عن مصدرها، فوقعوا على سلمى الحامل تفتح ساقين مقوستين، وهي تتشبث بنفسها لئلا تسقط. هب صالح لنجدة زوجته، فمنعته آلهة الحرب. كان صف من المعتقلين يقف خلفها بأحماله دون أن يستطيع العبور، والجندي الإسرائيلي يصيح بجنون: - ليست هذه هي المرة الأولى، أيتها العاهرة! ليست هذه هي المرة الأولى! دفعها في صدرها، فانقلبت على ظهرها، وراحت تتلوى كالجسد الخارج من بطن الأرض. رأوا ساقيها تصعدان في الفضاء، وتصفعان الفضاء، وهي تقضم بين أسنانها إصبعًا، وغدا لونها بنفسجيًّا. وبعد أن عجز الجندي الإسرائيلي عن إجبارها على النهوض، والجبل في جوفها ينزاح، تراجع خوفًا. نصب في قلبها سلاحًا مرتعدًا، وهددها للمرة الأخيرة، ثم تفجرت الطلقات. كانت سلمى قد تقوست، وهي تغرس أظافرها في شق بدا أملاً يمدهم بالقوة على الصمود، وغدا ظهرها جسرًا يقطع نهر الأردن إلى ضفتيه، مخترقًا كل الحدود، ثم ربضت على الأرض جثة هامدة. صاح صالح كالكبش الذبيح، وأطلق مروان ساقيه للريح. كان قد عبر نهر الحصى، فصُبَّ الرصاص كالمطر، وانبثقت أعمدة الغبار من بعيد، وسيارة جيب تجيء بسرعة. قذف الجنود الإسرائيليون جثتي سلمى ومروان داخلها، وعادت السيارة الجيب من ذات الطريق التي جاءت منها، وهم يحدقون في الآثار التي تركها الموتى من ورائهم.
48
لم يخرج الشهم لاستقبالهم ككل مرة، كان يقترب برأسه من وراء قضبان النافذة محاولاً ألا يروه، وكم بدا حزينًا. لم يجدوا أبا ماهر، كان قد ترك بقعة من دمائه. ارتمى صالح، وراح يحدق مذهولاً. وقف صابر مشدوهًا، كان لا يعرف ماذا يفعل. كان يريد أن يقول شيئًا، وبدا تعيسًا. انكفأ على نفسه، وغاب بين جذوع الرجال. في الليل، أخذ ضوء القمر يصب من بين قضبان النافذة، يسقيهم النبيذ، ويغسلون في ثلجه أصابعهم. وما لبث غناء الأرملة أن سرى كالريح العذب في الليل الساجي:
عمري المجروح هان، يا عيوني لما رأيتك جاي في كف شمعة، وفي كف دمعة والقمر وردة حمرا فتّحت في جروحي عمري المجروح ارتوى، يا عيوني لما سقيتك هواي نبعة في كاس نبعة والقمر فرس صهبا وسدت لي جروحي...
49
نهضوا جميعًا على انفجار هز المعتقل، لم يكن إلا قوس قزح أطلقته بازوكا عاشقة. كان الجنود الإسرائيليون قد هرعوا يصعدون الأبراج، وقد قتل بعضهم، وتحطم أحد الأبراج، وسرت على الألسنة هذه الصيحة: جاء الفدائيون، يا رجال! رأوا ثغور النار، وهي ترشق جسد الليل. وكنصل الضوء، انطلق صوت الفرح، والتحم غناء الرصاص بزغاريد النساء، وصار عرس القرية في المعتقل. ابتهلت ابنة الباشا: - الله ينصرهم! وابتهلت أم عثمان : - الله ينصرهم! وابتهل أبو شعبان: - الله ينصرهم: طوى أبو شعبان أصابعه على قضبان النافذة، وصار صدره درعًا يحميهم. وهذه الكلمات: - سيدكون أسلاك المعتقل، ويفكون أسرنا! أخذ صابر يرفع عنقه عاليًا، وأخذ صالح يرفع عنقه عاليًا، وكذلك فعل حجازي والأرملة وسمرة وأبو إيليا وحسنة وسعد الله والعم محمد وزياد. كانوا يرفعون أعناقهم عاليًا، واندفع بعضهم يريد اقتلاع أقفال الحديد، وتحطيم الباب.
50
كانت قوة كبيرة من جيش النجمة السداسية قد جاءت مصحوبة بالمصفحات، مما اضطر الفدائيين إلى الانسحاب. وفي الصباح، شاهدوا الفجوات التي صنعتها قنابلهم في الأسلاك، والرصاصات التي اخترقت الأبراج. كان الإسرائيليون قد جمعوا قتلاهم، وارتدّوا في تلك اللحظة إلى المعتقلين للانتقام. اختاروا بشكل عشوائي عددًا من الرجال والنساء، من بينهم أبو إيليا، وحارس البلدية، وحسنة، وزياد. صفوهم، وقتلوهم. تركوا جثثهم مفروشة على الرمل، ودفعوا الباقين بأعقاب البنادق داخل الشاحنات. كانت الأرملة، هذه المرة، تجلس بعيدة عن صابر، وهي صامتة كحقل ظامئ! وهي ساهمة كشراع شارد! ومن حولها تبكي العيون! مسحوا عيونهم، ومن جديد، عادوا يعملون في شق الشوارع. كانت حرارة الشمس تكوي، وتلسع أبدانهم سياط الغبار. وكانت أقدامهم تدمي، فيتركون على الحجارة، ككل مرة، ذات الآثار. ولم يعد أبو شعبان يحتمل أكثر شرطه، أخذ كلما مر بهم يطلق الأنين. رفع صابر عينيه إلى أبي شعبان مرات، ومد صالح إليه يده مرات، وكذلك فعل حجازي، لكن الشيخ كان مجبرًا على ألا يغادر خط التراب الدامي. أخذ عبد المؤمن يتابع أبا شعبان تمامًا كما كان يتابع أبا ياقوت، وقواه تضعف بالتدريج، والمجرفة تهتز في يده بعصبية. تذكر كيف كان يبيع الأقمشة بيده النظيفة من وراء حاجز نظيف، وكيف كان يمتلئ المحل بالزبائن، فتراوده أحلام كثيرة عن توسيع المحل، وفتح محل آخر في السوق التجاري. كان لديه عاملان يساعدانه، ويحضران له القهوة من المقهى المجاور، وكان يحلو له أن يصيح بهما أمام الزبائن. لم يكن يتوقع هذه النهاية: في المعتقل، يجرف بأصابعه الطرية الحصى! ولم يكن يدري كيف ولماذا هو هنا، بين أناس لا يعرفهم ولا ينتمون إليه بصلة. هو هنا بالخطأ حتمًا، لكنهم لا يصدقون ذلك. كاد يختنق لشدة الحرارة، وصار العرق يثير قرفه لأدنى حركة يثيرها الآخرون. لم يعد بإمكانه احتمال أبي شعبان، بقفته الثقيلة التي تجثم على كتفيه، وهو يذهب ويجيء متعثرًا من أمامه. كانت أمام عبد المؤمن بقعة ظل لا تعدو شبرين، كان يريدها له، له وحده. وها هو أبو شعبان يمزق كل ظل له فيما مضى، ظلاله ((المسالمة)) كلها، والتي كان يطمح بأن تتسع وتتسع مع اتساع تجارته، فيضع قدمًا في كل مكان. استجدى الإله، وتساءل: ما ذنبي أنا؟ وأخذ السؤال يدور في رأسه ملحًا، مذلاً: ما ذنبي أنا؟ ما ذنبي أنا؟ وهو يقطر عرقًا وقرفًا. وعندما أراد الانتقال من جهة إلى أخرى، سبقه أبو شعبان، عن غير قصد، وهو يئن بحمله. وبدلاً من أن يمد له يد العون، دفعه في كتفه، فزلت قدمه، وكاد يسقط متحطمًا فوق الصخور. تماسك أبو شعبان حتى جاء التل، وقذف التراب. وفي طريق العودة، التقاه من جديد. بدا الشيخ شابًا فجأة، وسار، عن غير قصد، بخطوات عجلى متجاوزًا إياه. صاح عبد المؤمن (( يا رب الشياطين! أيعاندني أنا؟ وفي مثل سنه؟ كنت أبصق في جبين من هم مثله إذا ما اعترضوا طريقي قبل الحرب! )) أخذت الحرارة الشديدة تسحقه، وأحس في فمه بطعم الرمل. راح يرمق أبا شعبان والجندي الإسرائيلي معًا، وكأن أبا شعبان من يمنع جندي النجمة السداسية من إلقاء سلاحه، ليعيش عبد المؤمن عمره وسلامه! بدا في وقفته، ثم وهو يقذف بقدميه الحجارة على الرصيف، وحده دون الجميع. وفجأة، خرج من حلقهم، ولفظوه، وأبو شعبان يجيء ليتقدمه على آثارهم. كان قد أعطى كثيرًا، فزلق على الحصى. ودون أن يتوقع أحد، تناول عبد المؤمن حجرًا، وقفز نحو أبي شعبان قفزتين، وشجَّ رأسه. انقض صالح على عنق عبد المؤمن يريد خنقه لولا تدخل الجنود الإسرائيليون، كان أبو شعبان قد مات، وترك في صدورهم صيحته.
51
نزلوا من الشاحنات في ساحة المعتقل، تفقدوا الشهم، فلم يجدوه بانتظارهم، كان ينطوي على نفسه وحيدًا بين الظلال. وبعد أن أخذوا أماكنهم على الأرض، زحف الشهم، وجاء قرب صابر. سأله عن أبي شعبان، فقال له مات، ولم يسأل كيف ولماذا. رأى ساقيه مطروحتين كسوطين من الجلد القديم، وأصابعه تدفع في الرمل الثخين. أراد صابر أن يعيد إلى قلبه الثقة، فأخذ يعيد عليه حكاية أم عاطف، تلك العجوز التي وقعت في غرام فدائي شاب على الرغم من أنها دفعت من أجل حبها هذا الثمن غاليًا، ضحت بحياتها كي تصبح في عيني كل نابلس مثلاً لمقاومة الاحتلال. كان الشهم يصغي، وكأنه يسمع الحكاية لأول مرة. وبعد أن انتهى، أخذ يحكي له عن قرية روسية احتلها النازيون، فطردهم أهلها بعد أن قاوموا طويلاً، وضحُّوا كثيرًا. كان صابر يحكي له طوال الوقت، والشهم يصغي إليه طوال الوقت، يريده أن يحكي أكثر، أن يحكي أكثر وأكثر. نقلت السلطات الإسرائيلية عبد المؤمن إلى معتقل آخر، أو أنهم أطلقوا سراحه، وجاءوهم ببعض المعتقلين الجدد، عرفوا من بينهم محفوظ، أخو مروان وزياد. قال إنه شارك في عملية الهجوم على المعتقل، لكنهم اعتقلوه وثلاثة آخرين لا يدري أين وضعوهم بعد عملية أخرى ضد دورية قرب البحر الميت. عرف محفوظ أنهم قتلوا من بين من قتلوا أخويه، ولم يتزعزع محفوظ، بان لهم كالصرح. قال إن كل امرئ يشق شارعًا في الحياة يختلف عن الآخر، وكل الشوارع تلتقي في ميدان الموت. ثم تحدث إليهم طويلاً، قال لهم: - كانت مجرد فكرة تحريركم من السجون الإسرائيلية تمدني بالقوة أضعافًا مضاعفة. قبل هجومنا على هذا المعتقل، عندما ودعتني أمي، سألتني: إلى أين أنت ذاهب، يا ولدي؟ قلت لها: إلى الموت، يا أمي! سألتني: لمن تتركني والأرض؟ قلت لها: هناك دومًا فلسطيني يعني بها طالما بقيت هناك حياة! قبلتني أمي. من عادتها أن تبكي في مثل هذه المواقف، فلم تنزل لها دمعة. أحسست، وهي تشدني إلى صدرها، أن في قلبها أتونًا، وقد غرست أظافرها في لحمي. قالت لي أمي: مع السلامة! أنقذ أخويك! وأنا أهم بترك الزقاق، نادتني، وقالت لي: لا تمت قبل أن تعود لي. ونحن نقطع النهر، أنا وشعبان وأنور ابن خالة صابر والآخرون، كنا نعترض انسياب الماء، فنكسر موجاته، ثم لا تلبث الموجات أن تسيل كلحن جميل. وكان لانسياب الدم في عروقي نشوة ما بعدها نشوة، كنت نقيًا كبوظ النبع. كان الليل، والسماء فيها عيون، ونحن نعدو. وفجأة، سقط علينا صوت يطلب منَّا الوقوف، فضاعفنا العدو، وإذا بالسماء تزخ نارًا. تمامًا كما حصل مع أبي سنة 48، كان يعدو، وإذا بالسماء تزخ نارًا، وأمي تصيح به: (( الأولاد، يا عبد السميع! )) وأبي يصيح بها: (( اركضي! اركضي! )) والطلقات تصب. ومرة أخرى تصيح أمي به: (( احم ظهرك، أيها المجنون! )) والطلقات تصب. رمتنا أمي أنا وزياد ومروان من وراء صخرة، والطلقات تصب، وراحت تصرخ بأبي: (( يا عبد السميع! )) لكن أبي كان قد عاد ليقاوم الرصاص بصدره المكشوف دون سلاح. بعد أن غادرت عصابات بيجين القرية، عادت أمي، يسحبها من عينيها نهر الدم، والدخان. سقطت قرب حطام بيتنا، وراحت تجهش بالبكاء. قضت نهارًا كاملاً في البحث عن أبي إلى أن وجدته في غار هو وآخرون، أبي، أو شبه أبي، مقطعًا إِرْبا. بكت أمي كثيرًا وقتذاك، وبكينا كلنا. أغمضَتْ عينيّ بكفها، وراحت تهمهم في أذني بين لهاثها ودموعها: (( لو كان لأبيك سلاح لما استطاعوا! )) صحيح ما قالت: لو لم يكن في قبضتي سلاحي لما استطعت إخماد طلقات المترليوز الأردني التي حاولت منعنا من عبور النهر، وكان ذلك أول خطر نجتازه في دربنا إليكم. كان شعبان إلى جانبي جميلاً لأنه كان غاضبًا، قال لي: (( في كل مرة أعبر النهر أعرف أنهم سيطلقون علينا النار في ظهورنا، جنود الملك، لكنني لم أحاول أن أفعل مثلهم مرة واحدة، وبإمكاني أن أفعل، لكنني لن أفعل. ولماذا كل هذا الغدر؟ ألأنني أريد حقًّا تحرير الأرض؟ وفي الأخير، يأتون ليقولوا عني إرهابيًّا! فمن هو الإرهابي؟ من هو الإرهابي فينا؟ من يقاوم أو من يعتنق الغدر؟ من هو الإرهابي فينا؟ )) فجأة، هدأ، وانطلق غناء طائر الليل بعد مضي بعض الوقت، سمعته يردد: (( هذا حسن! هذا حسن! )) كان يضم الرشاش كحبيبة، وبدا عنيدًا كما لم يبد من قبل. قال لي: (( لقد غنيت وأنا طفل صغير، كالطائر. وكان لي صوت عذب، كالطائر. روت لي أمي حكاية ليلى والذئب، وحكايات أخرى كثيرة، عن النحلة والدبور وعن الزير والنملة، كنت طفلاً. وعندما كبرت قليلاً، حكت لي أمي قصة عنترة، وقالت لي كلما كبرت أكبر، حكيت لك حكاية أكبر. وكبرت أكثر، وكبرت أكثر وأكثر. أخذتني أمي إلي طرف، وجلسنا معًا. قالت لي أمي، آن الأوان كي أحكي لك هذه الحكاية، رويتها لك يوم ولدتك، هل تصدق؟ كنتَ طفلاً، وقد رويتها لك رغم أنك كنت طفلاً في مهدك. إنها حكاية أخرى، غير حكاية ليلى والذئب، وحكاية عنترة، إنها حكايتك أنت. بقيت أصغي لها حتى ليل اليوم التالي، عندما فرغت، وجدتني وحيدًا، ووجدتني أبكي. لم تكن أمي هناك، وإنما طيفها، ووسادتها، ورائحتها. سكت قليلاً، وأضاف: (( كانوا قد قتلوا أمي قبل كل هذه الحكايات! )) سالت الدموع من عيني سعد الله، وبعد لحظة، سمعوه يهمهم: - لكن أم صابر ما زالت تسير! ما زالت تسير! تابع محفوظ: - قلت له إن مجرد فكرة تحريركم من السجون الإسرائيلية تمدني بالقوة أضعافًا مضاعفة، فأكد لي ذلك، وهتف: (( سنلتقي بهم، سألتقي بأبي! )) سكت محفوظ قليلاً، وهو يفكر في شعبان الذي لن يلتقي بأبيه أبدًا. وفجأة، راح يؤكد: - سيأتي شعبان. هو أقرب ما يكون إلينا، فهو لم يغادر الأرض المحتلة، يختبئ في مكان ما من أجل تنظيم المقامة. وأكد من جديد. - كل شباب المخيم في عين بيت الماء سيأتون. وراح يحكي عن المخيم كيف تغير: - الناس واثقون، ولا أحد يحني الهامة، رغم أن إسماعيل أفندي صار مختارًا، وأبا سعدون بنى دارًا، وزرزر عينوه مديرًا، وشوقي يسرح ويمرح حرًّا طليقًا. هؤلاء هم مدللو الاحتلال اليوم! في تلك الليلة، صاحت سمرة كما لم تصح مرة، إلى أن لطمها الجنود الإسرائيليون، وألجموا صيحتها. كان الرجال ما زالوا يلتفون بمحفوظ، وانطلق لسان محفوظ من جديد يحكي عن الثورة، وعن المعنويات، وكيف صار معظم تلامذة صابر فدائيين. ثم أخبر صابر أن بدرية، ابنة خالته صالحة، ستزف قريبًا إلى صلاح الدين، زين شباب مخيم الوحدات، وقد تركهم، وهو يجرون الاستعدادات التي يشارك فيها الجميع.
52
لم يصلحوا الفجوات التي في الأسلاك، بل وضعوا عليها من جنودهم حرساً. كان المعتقلون يقفون أو يمشون في الساحة، والشمس لاسعة. بدا صالح وحجازي ومحفوظ كسكة المحراث الثابتة، بانتظار يد تجعل الموج يهدر بالحلم، والأماني الدافئة.عند ذلك، حلق طائر في الأجواء، فرفع صالح رأسه، وفكر في الحرية. كان قد خطا بجذعه المدفوع إلى الأمام، ونفض جسده، تبعه حجازي، ومحفوظ، ثم لحق بهم سعد الله، وساروا نحو الفجوات التي في الأسلاك بخطوات حازمة. انتصبت في صدورهم أعناق البنادق، وانتصبت باتجاههم كل الأعناق، وغصن خوخ أحمر يميل في خيالهم مع النسيم هادئًا حتى يلامس شفاه الطيور. ورغم الصيحات المهددة للجنود الإسرائيليين، استمر زحف الرجال، وهجمت عليهم الصفارات من كل جانب. رأوا كيف اجتمعت سنابل القمح، والتحمت، حينما التحق بهم أحد المعتقلين، فاثنان، فأربعة، فواحد آخر، فثلاثة، فواحد آخر، وهم يجتازون الشوك إلى الضوء. وفجأة، برقت الطلقات وهي تخترق أشعة الشمس، وترشق الكون بلون قان. صعد وقع خطوات عادية سحق صباحها بندقية، ثم انطلق إلى الحرية دون أن يأبه بزخات الرصاص. كان بعضهم قد تمزق في الأسلاك، وبعضهم قد اجتازها.
53
لم تزل في عيونهم ساعد صالح العالية، وهو رابض في الأسلاك، ومخرت السفن عباب البحر خفاقة الشراع. لم يهدأ قلب صالح عن الخفق العنيف، وهو الجريح. أخذوه إلى المستشفى وحده بعد أن قتلوا الآخرين، ليعالجوه، ويقوموا بتحقيق معه! ولم يره صابر منذ ذلك الحين، وتفرعت طريق الريح. نقلوا بعض النساء إلى معتقل آخر، وطردوا بعضهن الآخر إلى عمان. من بين اللاتي نقلوهن كانت الأرملة، فيما بين اللاتي طردوهن كانت ابنة الباشا وأم عثمان. انتصب الرجال في عمق النفق، وبدأوا الحفر من جديد. خفقوا قلب الجبل بالفؤوس، وخفقوه بالفؤوس. صار خفق الفؤوس عنيفًا، تذهب في العلى، وتنغرز، ثم يسحبونها، فينتشر في الأجواء مسحوق التربة والقوة، وفي الأعماق، أنشودة ميدان ترفعهم إلى أعلى. كانوا يلجون في أعماق الجبل، وقد أرهقهم أن يربض قانعًا، معتمًا، بلا حركة، فأخذوا يشقون طريقًا يتفجر الضوء عند نهايته. أخذتهم تلك الفكرة كفرح الصغار، وهم يصارعون الموت في جوف البحر الداكن. وبدا في خيالهم شاطئ الخلاص الرابض في الطرف الآخر من الجبل: نهر الأردن بكفه المفتوح نحو الشرق، وبنادق الرجال المنتصبة في الليل والنهار، لتبعث في الأرض الحياة. كانت اللوحة الناقصة قد دخلت إحدى مراحلها الحاسمة، وقد سرت في أبدانهم حركة جامحة، وقبضاتهم تضرب الفؤوس، وشقوق تتصدع تحت الضربات، وراحت تقدح في عيونهم وضمائرهم شرارة الوصول. رأوا من خلالها مجموعة من الأشرطة الملونة، أحالتهم إلى طاقة هائلة، قوة فيزيولوجية هائلة، تفعل في أحشاء الجبل، وتقطعه، حتى خيل لهم أنهم سيهدمونه في ساعات. تساقطت شلالات الحلم بسرعة، فغمرتهم، وأثلجتهم، وعلى إيقاع ضربات الفؤوس أخذوا يغنون، وأخذ الضرب منحى آخر من التحدي، رأوا فيه فلسطين، والسهول، وأحلامًا سريالية كثيرة عن المسيح، والخلاص، والتحرير. وفجأة، بدا الجبل أصم، أخرس، جامدًا، وأحسوا أنهم محاصرون. العدو الرئيسي من أمامهم ، العدو الثانوي من ورائهم، وعلى يمينهم وشمالهم أجهزة المخابرات. ورغم ذلك، واصل بعضهم ضرب الفؤوس في الجبل كآخر أمل، لكنه بقى أصم، أخرس، جامدًا، متحديًا، وكأن ليس هناك جبل واحد فقط بل جبال. وفي الأخير، دب الشك في نفوسهم، رموا أدواتهم منسحقين، وقعدوا في منتصف الجوف الدامس للنفق الطويل.
54
مضت شهور طويلة قبل أن يخترقوا الجبل، وصابر طوال الوقت يفكر في أمه، ويقول لا بد أنها وصلت، وهي تضرب فأسها في الطرف الآخر! لكن الوصول كان صعبًا، وما بعد الوصول كان عجبًا، إذ وجدوا أنفسهم على شاطئ النهر، ولا أثر لجنود الموت. حطوا أقدامهم في الأرض، وراحوا يركضون. وعلى حين غرة، انطلق الرصاص من القمة والسهل، فسقط من سقط، ونجا من نجا، ومن بين من نجا صابر، وكانت عمان هدفه القادم. استجمع صابر حواسه، ونظر إلى الجبل من ورائه، وإلى الجبل من أمامه. كانت الحشائش تختفي بين ثنايا هذا الجبل الأخير، فتبحث عنها الأغنام بثبات، وتقضمها بأسنانها، وبدا راعيها الصغير سعيدًا، وهو يراها ترعى. كان ينتقل بينها بثوبه الطويل، وعصاه التي تزيد عنه طولاً، وينظر من حوله واثقًا. نظر إلى صابر في الوادي، وتطلع إلى الجبل الصامت في الأعالي. رأى بنادق الموت في أعماق الشوارع، وبقع الدم والحفر، وعاد يتطلع مرة أخرى إلى الجبل الصامت، ومن عينيه ينطلق ضوء عازم. كانت نظراته قد زرعت في قلب صابر أملاً يافعًا راح ينمو مع إيقاع النهار، فابتسم، وهو يتفادى حفرة، وقال: سأجد معولاً، وسأعرف من أين أبدأ هذه المرة.
القسم الثالث
قبل 1970 مخيم الوحدات / عمان
55
(( الأشبال يجوبون الشوارع! )) جاء أشبال الفدائيين، وجاءت معهم قرعات الطبول، وصيحات الصناج، وصُداح الأبواق والمزامير، وراحوا يجوبون الشوارع. أخذوا يصعدون الشارع الرئيسي في المخيم، فيصعد النهار، ويغدو رغيفًا بين الأصابع. بدت على أكتافهم زهرات المجد الفولاذية، وأخصبت الريح بين ثنايا ثيابهم الكاكية، وذهب الكل في عيد. كان الأولاد يواكبون الأشبال أينما حلوا، وثلج عيونهم الأسود يندف في الضوء الكريم. وكانت النساء يطلقن زغاريد الفرح، والألسنة تدعو لهم، وتدعو. أما الرجال، فقد ازدهوا بأنفسهم، وتخدروا، وتخدروا. عندما مضى الأشبال بامرأة تطحن القمح في طاحون، توقفت عن العمل، ووقفت، وهي ترسم البسمات على شفتيها. نادت أخرى تغربل الطحين في غربال، فصفقت بحماس، ومرة أخرى، ارتفعت صيحات الفرح، وهي تتصادى في كل الأركان. لم يتوان الشيوخ في المشاركة، خرجوا يتابعون الموكب عن مقربة، وهم يقفون كشجرة البلوط الهرمة التي تعطي الظل. توقف الحاج، صاحب المقهى، عن رشق البسطة الترابية وكراسي القش بالماء، شد الإبريق إلى صدره، وبدا عليه الاعتزاز. جاء بعض الفدائيين من الطرف الآخر للشارع، فوقفوا، وهم يرفعون أيديهم للأيدي التي ارتفعت. جاء أبو توفيق، اللحام، بعد أن ناداه الحاج، وخرج عبده، الحلاق، على الرصيف المقابل، وراحوا يتخاطبون بصوت عال: - السلاح شرف! - السلاح في يد أصحابه يحرر بلاده! - العام القادم في حيفا، إن شاء الله! تدخلت امرأة سقط عن رأسها شالها، فأضاء شيبها: - اسم الله عليهم! رجال! علق الحاج: - رجال قدر أفعالهم! وأفعال هؤلاء العجب، وعجب العجب، إن شاء الله! - السلاح عجب! - وعجب العجب، إن شاء الله! - ما شاء الله! - الله يحميهم، ويحقق أمانيهم! عاد عبده الحلاق إلى دكانه، وراح يصفّ أدواته في محفظة جلدية. وبعد أن زيت شعره، وصففه، قال للولد الذي يساعده: - لقد حان الوقت! وسار مع الموكب. جاء أسعد بسنواته العشر فوق دراجته من آخر الشارع، وهو يطلق الرنين، ليفسح له الناس الطريق، وصندوقه الأمامي ملئ بالخضار، لكنه اضطر إلى التوقف فخورًا، وإلى الموكب راح ينظر، ورأى رجال الميليشيا بأسلحتهم الأتوماتيكية، وهم ينضمون إلى الأشبال، والنساء، وهن يقفن على العتبات، وهن يزغردن، وهن يرشقن الأشبال بالرز والملح والورد، وهن حسيرات الذراع. قال أسعد لنفسه: حقًّا، إنه العيد! كان سعيدًا، وكان يرمي النظر إلى البنادق، ويتمنى أن يمتلك إحداها. كان بإمكانه أن يمتلك إحداها، لكن أباه كان يصر على أنه لم يزل صغيرًا، وأن عليه أن يعمل على تقوية عضلاته أولاً بإعانته في الدكان. ازدادت الجمهرة من حول الأشبال، وأصبحت موسيقاهم أكثر صخبًا وترجيعًا. جاءت سيارة نقل صغيرة على ظهرها أقفاص دجاج، وخيط من الغبار يتبعها، والسائق يطلق نفيرًا متوافقًا مع المارش. أفسح له الموكب الطريق، وأيدي الصغار تمتد إلى الأقفاص، والدجاج يقوق، والأعناق ترتفع، وتتمايل. كان السائق بعد أن اجتازهم قد خرج بوسطه من النافذة، ورفع علامة النصر إلى أعلى. مر الموكب بعشرة رجال ونساء يتدربون على أرض منبسطة، بين ذراعي كل منهم بندقية، وفي الأمام، زجاجات معلقة على أعمدة خشبية. وبعد أن أعطاهم اسكندر تعليماته، صاح: - نار! فضغطوا على الزناد، وانطلق الرصاص محطمًا من الزجاجات بعضها. وبحركة خفيفة، هيأت الأيدي الطلقة الثانية، ومرة أخرى، انطلق صوت اسكندر: - نار! وشيئًا فشيئًا، أخذ الموكب يبتعد في الشارع الطويل. كانت بعض سيارات الفدائيين المسرعة تمضي بهم، وهم يرفعون البنادق إلى أعلى، ويطلقون النفير. وكان بعض الصبية يجيئون من زقاق ضيق، وهم يجرون بكل قواهم صائحين. مروا بـ (( جرجر )) الذي يجر حماره، وهو يقهقه، وانضموا إلى موكب الزاحفين. بدا مخفر الشرطة منسيًّا على طرف الشارع، والشرطي الجالس على مقعد يكش عن وجهه الذباب. لم يعره الموكب أدنى اهتمام، إذ مضى ليقف قرب بيت صالحة، خالة صابر، في الوجه المقابل. ومن نافذة المخفر الشرقية، أخفى الشاويش أبو نواف نفسه وراء دَرْفَتِها الخشبية، وراح يرصد عن كثب جمهرة الناس والفدائيين. سُمعت بعض الطلقات، وانطلقت الزغاريد من بيت صالحة مجيبة. وفي الحال، خرجت صالحة إليهم بإبريق مثلج من شراب الليمون، وبكؤوس، وعلى مرآها ازداد الصخب، وصعدت الموسيقى إلى سابع سماء، ولكن صالحة كانت عابسة. سمعها بعضهم، وهي تهمهم، وتقول شيئًا أشبه بيا رب الخلق، اخسف الأرض، ولا تعدها إلى ما كانت عليه. ثم استراح الأشبال، فراحت تملأ لهم الكؤوس، وتسقيهم، وهي عابسة دومًا. وفي وسط الدار غنت النساء:
عيني عالرجال بسلاحهم تهز الأرض خطواتهم عيني عالرجال جايين لدحر العدا رايحين
وانطلقت الزغاريد من جديد، إلى أن ملأت الدنيا. كانت كل امرأة تقوم بعمل من الأعمال الخاصة بزفاف ابنة صالحة، بدرية، على الفدائي صلاح الدين: واحدة تطحن القمح، وثانية تنتف الدجاج، وثالثة تطعم النار تحت قدر الماء، ورابعة تدعك الغسيل، وخامسة تحمص البن، وسادسة تعد الفرن، وأخريات من فدائيات وغير فدائيات يقمن بأعمال أخرى، وبنات وأولاد يسعون فرحين بين الأقدام. وفي البيت، جلست بدرية على كرسي في ثوب العروس، ثوب عرسها أحمر على غير العادة، مطرز بخيوط ذهبية. ومن حولها قعدت ثلاث نساء على الأرض، وهن يعملن بالإبرة آخر اللمسات. بينما راحت سعدة، أخت العريس، تمشط لبدرية شعر الليل الطويل. وعلى الطاولة القصيرة، أخذت أم العريس تعد ماء الورد. كانت سعدة ترتدي ثوب ممرضة الهلال الأحمر، (( ثوب العمل والفرح )) كما كانت تقول. قالت مرة إنها إذا تزوجت تزوجت فيه، لأنه أحلى الأثواب. وحينما عادت الموسيقى تصدح من جديد، همست سعدة في أذن بدرية، ورنّت ضحكاتهما العذبة. جذبتها سعدة من يدها، فنهضت، وهي ترفع ثوبها، ونظرت من وراء درفة الشباك إلى الشبان الجميلين الذين كانوا هناك. وفي الشارع، هرج الكبار والصغار ومرجهم، وذهب الشمس المنثور. ومن بعيد، دوَّت الطلقات، وكأن تلك إشارة ليعود الموكب إلى السير، فسار الموكب باتجاه بيت العريس. راحت صالحة تنظر من حولها كالغائبة، وترفع لهم يدها كمن تودعهم، وزغاريد النساء تكاد تثقب الآذان. كانت تبدو كمن يسقط بين أصابع ميتافيزيقية، والأصابع الميتافيزيقية تسعى إلى التسلل في أثلام وجهها، فتترك نفسها نهبًا لها. دفعت بدرية درفتي الشباك التنكية، وأطلت بوجهها الفائق الجمال، والموكب يبتعد، وضحكاتها على مرأى الشباب الذين يبتسمون لها، ويشيرون بأيديهم إليها، تنحدر كقطع الثلج عن سفح هضبة احترقت في الصيف. مد أبو نواف يده ليوسع الشق بين درفتي نافذة المخفر، وليرى بدرية جيدًا. اسودت سحنته حتى أصبحت بلون الدغام، واحتنق غيظًا لما رآها مشرقة كالقمر البدر في البيت التنكي، يزيدها صداح البنادق إشراقًا. لاحظت بدرية كيف كان الشاويش يراقبها عن كثب، فدق قلبها بعنف، وسارعت إلى إغلاق درفتي الشباك.
56
ابتعد الشاويش عن النافذة، ومارش الأشبال يبتعد، استدار، وحدق في الطاهر الذي يجلس منتظرًا، ثم قال بإصرار: - هذا العرس يجب إيقافه! لم تبدُ على الطاهر آثار الاهتمام، وبدا كالغائب تمامًا. جلس الشاويش وراء مكتبه، ونظر إلى الطاهر والشرر يتطاير من عينيه: - ماذا نفعل كي نوقفه؟ قال الطاهر: - لست أدري. إنهم يعدون له منذ زمن بعيد. ضرب الشاويش كفه على المكتب، ونبر: - أنت لا تدري ما عليك أن تفعله، أيها الأحمق! ابتسم الطاهر بخبث، وبدا عليه السرور لغضب الشاويش: - ما الذي تريد أن أفعله؟ ولم يزل الشاويش محتدًا: - يجب أن يقف العرس! ثم أضاف بترو، وهو يلامس بأصابعه شاربه: - بدرية كالبدر! بدرية تستأهل أفضل بكثير من صلاح الدين، أفضل وأقوى! تظاهر الطاهر بأنه يجهل غايته: - وماذا بإمكاني أن أفعل؟ أن أكلم خالتي صالحة؟ لن تسمع لكلامي، وكل شيء على وشك الإتمام. ثم ، هي أول من رضي بصلاح الدين زوجًا لبدرية دون أن تطلب منه مهرًا. وعدا عن ذلك، بدرية وصلاح الدين يتحابان. سحب الشاويش الجرار، وأخرج منه كمية من أوراق مالية فرشها من أمامه، وعاد يحدق فيه. أُخذ الطاهر بمرأى النقود، فأشعل سيجارة، والشاويش يستحثه على فعل شيء: - ماذا قلت؟ كان مرأى النقود يسيل لعابه، ويجعله لاهثا كالكلب يريد المزيد. أتبع الشاويش الأوراق المالية بورقتين أخريين، وأعاد سؤاله: - ماذا قلت؟ جمعها الطاهر بسرعة، ودسها في جيبه، ثم نهض دون أن يفوه بكلمة. قال الشاويش: - بدرية لي! وإذا نجحت في إيقاف العرس أغدقت عليك وابلاً من الأموال والاعتبارات! قبل أن يخرج الطاهر، أخرج الشاويش من خزانة زجاجية زجاجة ويسكي. ملأ قدحًا، وشربه دفعة واحدة، ثم قال بصوت متمهل: - ولا تنس هذا، يجب أن ترفع تقريرك. منذ مدة، وأنا أطالبك برفع تقريرك.
57
خرج صلاح الدين وبعض من أصدقائه الفدائيين إلى لقاء الأشبال، والاحتفاء بهم. وأخذ الفدائي أنور، أخ العروس، يلتقط للجميع الصور، وكل واحد يريد له صورة مع عريس المخيم، والكاميرا الصغيرة تلبي رغبات الجميع. في النهاية، قال أنور: - بقيت صورة واحدة! في الوقت الذي كان فيه صابر يتقدم بثياب الفدائي، فقال صلاح الدين: - ستأخذها لي مع صابر. رأى صابر بعض الأيدي، وهي تطلب منه الإسراع، وصاح به بعض الأولاد بأصواتهم الحادة ليحث خطاه. وحينما وصل، استقبله الجميع بهَرْجٍ ومَرْجٍ كبيرين. وضع صلاح الدين ذراعه حول كتفي صابر، وذهب به قرب شجرة المخيم الوحيدة. طلب منهما أنور أن يبتسما للصورة، وأن يستعدا. وهو يعد من واحد إلى...، أوقفه علاء الدين، الأخ الأصغر لصلاح الدين، وصعد بين ذراعي أخيه. عاد أنور ينبههم، واحد، اثنان، ثـ... فخف أحد الواقفين، وانزرع إلى يسار العريس. طلب أحد رجال الميليشيا إلى أنور الانتظار ريثما يأخذ مكانًا، وسارع ينزرع إلى يمين العريس. خفَّ الحلاق عبده بشعره المزيت المصفف ليقرفص من أمامهم، تبعه فهد، فأبو السبع. راح كل واحد من أهل المخيم يطلب من أنور الانتظار قليلاً ريثما يأخذ مكانًا إلى جانب العريس، وأنور يستجيب على الرغم من أنه بدا منزعجًا. وفي النهاية، أحاط الجميع بصلاح الدين، رجالاً ونساءً وأطفالاً. جلب بعضهم الحجارة للوقوف عليها من الوراء، وجلس البعض على الأرض في الأمام، وتوزع الصغار بين الأذرع والأحضان. طلب أنور منهم ألا يتحركوا، وأن يبتسموا، وعد واحدًا، اثنين، ثـ...، فاستمهله صلاح الدين، ونادى على أبيه الذي خرج بقنبازه المخطط، وحطته البيضاء، وعقاله الأسود. أفسح له مكانًا لصق ساعده، وأشار إلى أنور أن يأخذ الصورة لهم. وضع أنور عينه في عين الكاميرا، وكل واحد من أهل المخيم يبتسم في الضوء. لكنه ركض فجأة، وأخذ ينقل من هم على الطرفين، ويجلسهم في الأمام، ثم عاد إلى حيث كان. فحص الصورة في العدسة، تراجع قليلاً، وصاح: - استعدوا! فانبثق صوت ابنة الباشا: - ألف مبروك، يا سيد العرسان! التفتوا جميعًا إلى ناحيتها، وناداها صلاح الدين: - تعالى، يا ابنة الباشا، وخذي الصورة الأخيرة معنا! رحبت ابنة الباشا بالفكرة: - أفي كل يوم يتزوج لنا صلاح الدين ونأخذ معه صورة؟ كانت ابنة الباشا قد أصبحت سمينة قيل لمرض خبيث بحيث احتاجها إلى موقع اثنين أو ثلاثة من الواقفين، ومع ذلك، فقد وجدت مكانًا بينهم. التفتت إلى اسكندر، الذي يجيء من بعيد، ونبهت أنور بإصبعها: - انتظر اسكندر حتى يأتي. التفتوا جميعًا إلى ناحيته، بقامته القصيرة وابتسامته المضيئة الدائمة. نادته ابنة الباشا: - عجِّل، يا اسكندر! والآخرون الذين فقدوا صبرهم: - عجل! عجل! قالت ابنة الباشا وهي تبتسم لاسكندر: -ها هو يأتي. خفَّ اسكندر إلى الصورة، ورمى بنفسه بين الجالسين، وهو يمسح العرق والغبار عن جبهته العريضة وعن صدره الأملس المزين بصليب من الذهب الأبيض. استجاب كما استجابوا لأنور الذي طلب إليهم عدم الحراك، وتوسيع الابتسام. ابتسموا كثغر واحد، وتهيأ الفرح ليغدو لوحة. كان للفرح على جباههم تاريخ طويل، تحكيه الريح والشعاع والقدم الداعسة في الأسلاك، كما كان للحزن على جباههم تاريخ طويل، يحكيه الطين والبرد وخيمة البؤس الرازحة في العذاب. وكانوا لا يعرفون فرقًا بين الصورة والحقيقة. كانت أجسادهم تلتصق لصقًا ببعضها، وقلوبهم تلتصق لصقًا ببعضها، وسواعدهم تلف الحاضر كما تلف البنادق المعبأة بالطلقات. كانت هذه صورتهم وحقيقتهم. عد أنور واحدًا، اثنين، ثلاثة، والتقط لهم صورة.
58
انطلقت الموسيقى تصدح من جديد، وكأنها شدو البنادق. وأخذ والد صلاح الدين يرشق الأولاد بالملبس والطوفي، وابنة الباشا تلتقط بعضًا من هذا وذاك، وهي تقذف بذراعيها الضخمتين مقهقهة من فوق الرؤوس. حضر زحف جديد من أهالي المخيم، وهم يلتفون بصلاح الدين، ويكررون التهاني. وفي النهاية، رشق الأب ابنه بما تبقى في الكيس من حلوى، فهجم الأولاد عليه متدافعين، وصلاح الدين يبتسم. مد الرجال أيديهم، وحملوا العريس على الأكتاف، فدوى التصفيق والهتاف، وضاعفت صخبهم زغاريد النساء والطلقات، ثم دخلوا به محمولاً إلى البيت. كان عبده الحلاق قد فرش أدواته، وارتدى مريوله استعدادًا للاحتفال بقص شعر العريس. استمهلته جدة صلاح الدين ريثما تجيء أمه، وتدخّل بعض الكبار مؤيدين، وأرسلوا علاء الدين في طلبها، فنفض صلاح الدين رأسه، وشعره الرطب يتساقط على جبينه، وبدا طيعًا كالطفل بين أصابعهم. أجلسوه على كرسي مرتفع، وجلسوا على الفراش من حوله، وراحوا ينتظرون قدوم أمه، وهم ينظرون إليه، دون أن يريدوا إفلاته من نظراتهم. وما لبث أنور أن نهض مع أبي السبع، وودَّعا صلاح الدين، وودَّعا الجميع، من أجل عملية في الأرض المحتلة. قالوا: (( لنُقِمْ عرسًا آخر هناك! )) فأخذت الجدة تزغرد، والأولاد يرقصون في الخارج، ووجه كل واحد منهم يتفتح كوردة. كانوا يضحكون ككل أطفال العالم، وكانوا يلعبون ككل أطفال العالم، وحتى عندما كانوا يبكون، كانوا يبكون ككل أطفال العالم. وعندما سألوا أنور: - والصور؟ عهد بالكاميرا إلى صلاح الدين الذي وعد أن يسحب لكل واحد منهم صورة. وهما على عتبات الدار، انطلقت رصاصات قوية اهتزت لها بيوتهم القصديرية. جاءت أم صلاح الدين برفقة علاء الدين وبعض النساء من رأس الطريق، وعلى صداح البنادق رحن يطلقن من حناجرهن الزغاريد. كانت تتفجر الطلقة في الأفق مع الزغرودة، وكأن هذا شرط البنادق للرجال. وكانت ترتفع في الأفق بعض السحابات، يتبعها الأمل والنغم ذائبين معًا. التقت النساء بالرجال، فلوحوا لهن بالبنادق، وضجة الفرح تزداد، وحدة الفرح تزداد. عقد عبده الحلاق حول عنق صلاح الدين فوطة بيضاء عندما عرف بقدوم الأم، وتناول مقصه، فحط الصمت لحظة، وهو يقطع الهواء بمقصه قطعتين: سحب شعر العريس بالمشط سحبتين، وقصَّه، فهبَّ الرجال صائحين، وهبَّت النساء يزغردن في الحجرة المجاورة، ثم ما لبث أن وصل غناؤهن:
عيني عالولد يوم عرسه أدخل الهنا يا سعده عيني عالولد قبضايه قصوا له شعره يا هنايه
تناول والد صلاح الدين من امرأة القهوة والحلوى والشراب على طبق كبير تزينه الزهور، فحمله أحد الفدائيين، وراح يقدم ما يحتويه للحاضرين. وعندما انتهى عبده، قالوا: (( جاء وقت الحمام! )) ولم يكن في المخيم حمام تركي كحمامات عمان. اصطحبه الرجال إلى زاوية مغطاة بأكياس الخيش، والماء النظيف يغلي في تنكة وسخة على موقد. قلبوها في طشت، وبردوها. عروه تمامًا، وأخذوا على عاتقهم مهمة غسله. خلال ذلك، غنَّى الرجال:
أنت القيادة يا عريس واحنا عندك فدائيه الله يصبحكم بالخير ضيوف ومحليه!
59
صرخت صالحة كما لو رشقت بكرة من النار، وعتمت على شفتيها ابتسامتها، ومن عينيها اللتين تربض فيهما بيوت عسقلان سالت دمعة. شدت بين ذراعيها ولدها أنور، وأنور يهتز فرحًا لأنه ذاهب بعد اثنتين وعشرين سنة غياب إلى بيوت عسقلان، وأنور يهتز غضبًا لأنه ذاهب لأول مرة بعد اثنتين وعشرين سنة غياب إلى بيوت عسقلان. جذبته أمه من شعره، وقالت له كمن تخاطب فأسًا أصابها الصلف والغرور: - لم أجد ولدًا سعيدًا بالموت مثلك، ولكنه الجنون، جنوننا كلنا. خرجت معه، وهي في ثوب الحداد، وهي تقف على عتبة الباب، وبدرية تقف باسمة على الشباك، كمن تحتفل بالموت، والنساء من حولها فرحات، والشاويش يراقب من وراء درفتي نافذة المخفر. جاء أبو السبع يعدو في الزقاق المجاور بعد أن ودع أهله، والصداح ينطلق صاخبًا من الحناجر. التقى بأنور، وراح كلاهما يغذ السير، إلى أن ابتلعهما الشارع الطويل. ككل العراة في الجنة لم تكن عندهم أسرار يخفونها عن أحد، وكان كل شيء يمضي كأنه قادم أبدًا، كأنه يقصد أفئدتهم التي يقدمون منها أحسن ما عندهم من أجل الشرف المستعاد، وخاصة من أجل التميز الخفيّ. هكذا كان وداعهم لأبي السبع وأنور، وهكذا كان عرس صلاح الدين وبدرية. كانوا يريدون أن يعصروا فيه كل حبة عرق، كل حبة رمل، كل حبة دم، وأن يجعلوا منه عرسًا فريدًا، كأنهم يفرحون بأول أولادهم وآخرهم، كأنهم يفرحون أول أفراحهم وآخرها. وكان مجرد الشعور بقوة سواعدهم والبنادق تزيح عن خيالهم طين الماضي والمستقبل، وتجعلهم تواقين إلى كل شيء، معتقدين بالقدرة على كل شيء. وحقًّا، مدتهم السواعد القوية بكل ما يصبون إليه، ولما تزل بيوتهم القصديرية مزروعة في وحل الشتاء أيام الشتاء، وفي غبار الصيف أيام الصيف، فالبنادق تعني أكثر من شيء. جاءت صالحة عند بدرية، والدموع تتفجر من عينيها، كانت دموعها تتفجر كالنبع في الأرض الجدب، وكانت تقاطيع وجهها تهتز مع اهتزاز شفتيها في الريح. ومع ذلك، كانت بدرية تبتسم لأمها، كقدم فدائي تدق أعماقها قبل أن يقفز صوب هدفه. أخذتها بدرية بين ذراعيها، وسألتها: - أهذا من أجل أنور؟ واستمر النبع يتفجر. - أتبكين لأنه ذهب؟ ابتعدت صالحة، وقالت، وهي لا تتوقف عن البكاء: - أنا أبكي لأن أنور لن يرجع لي، ولأن فلسطين حزينة على أبنائها. تقتلهم لأنها تحبهم، ولأنها في عز فرحكم تظل حزينة. دموعي دموع الفرح الحزين، يظل الفرح حزينًا في بلدنا. كان على أخيك أن يذهب إلى موته في يوم عرسك، كل هذا ألا يبعث على البكاء؟ في يوم عرسك... ربما لهذا السبب تركته يذهب في يوم عرسك، لتخف عني فاجعتي قليلاً. الناس لا يدركون هذا، لا يفهمون لماذا يذهب أولادهم في أيام الفرح، أو أنهم يفهمون، ولا يريدون البكاء مثلي، ولا تنسي أنهم لم يفرحوا منذ مدة طويلة. اليوم، كل الناس فرحون! انتظرنا هذا اليوم اثنتين وعشرين سنة، طوال اثنتين وعشرين سنة، ونحن نحلم بهذا اليوم. دعيني إذن أبكي عنكم جميعًا في هذه اللحظات التي تمتنعون فيها عن البكاء، ولا تريدون أن تفهموا أنها أولاً وقبل كل شيء لحظاتي أنا، فأنور ابني راح ليدعم شعبان، ويأتي لكم بفلسطين أخرى غير التي أعرف، هكذا أنتم تفكرون، وهكذا من اللازم عليّ أن أفكر مثلكم، يأتي بها لنا كلنا، إلى عمان، فهل ترين ما أرى؟ إلى عمان، لكنه سيموت في أحضان الأخرى.
60
وجد صابر المعول الذي يبحث عنه، لكنه لم يعرف من أين يبدأ. سأل خالته صالحة، فحكت له هذه الحكاية، والنساء لا يتوقفن عن الغناء لحظة واحدة. قالت له: - في يوم من أيام الشتاء، يوم بارد لم أرَ في حياتي له مثيلاً، ولا الناس، ربما في جهنم بعد موتنا، المطر والوحل والزمهرير، ذهبت خالتك صالحة لتشطف صفوف مدرسة الوكالة. يوم خميس، أذكره كما أذكر يوم دخل اليهود اللد والرملة، يوم يبقى في الذاكرة ويحفر في الكيان، فهو أشبه بعدة سنين من العمر تمضي دفعة واحدة. وقف لي الشاويش أبو نواف في منتصف الطريق، وقال إنه بحاجة إليّ، وعندما أرجع أمر عليه. أظلم المخيم، وامتلأت الدنيا بالوحل: في الأزقة وحل، في البيوت وحل، في العيون وحل، في القلوب وحل، العالم كله وحل، عالم كهذا لم يكن من صنع الله. قلت لنفسي، يا الله! أليس كافيًا عيشنا هذا الذي هو وحل بوحل؟ أيضًا أبو نواف؟ ما الذي يريده أبو نواف؟ ماذا عليّ أن أحمل على كتفيّ أكثر من كل وحل العالم؟ في المدرسة، رأيت الصفوف قبل شطفها. ماذا فعل أولئك الأولاد؟ شطفوها قبلي بالوحل. كأنهم كانوا يعبثون فيه بأصابعهم، يتسلون! كان على خالتك صالحة أن تنظفها كلها، ولم تعد نظيفة إلا وخالتك صالحة ميتة. خالتك صالحة هذه ليست خالتك صالحة، خالتك صالحة هذه هي الميتة. كحطت أظافرها في الوحل، ذبحت أصابعها في الوحل، هدمت حيلها في الوحل، وحل قادر كالقدر! قل محبرة وانكبت على وجه الدنيا! والوحل مغروس في الأرض، يريد ونش يشده، ويشد معه كل هذا العمر التعيس! وأنا أقول، طيب، يا صالحة، بعض الصبر. المسألة تحتاج من الجهد الشيء القليل، القليل؟ كانت تلك لعبتي مع روحي الضائعة، كي أخدعها. المسألة تحتاج من الخداع الشيء الكثير، وإلا لن تصبح الأرض نظيفة كالبرق، كالبرق الأسود، شيء أقرب إلى الخداع أيضًا. ولكن، يا خالتي، لم أقدر على اللعب حتى النهاية، راح الدمع من عيني يتفجر، وأنا راكعة على الأرض أحكها. أسكب الماء البارد، وأحكها. وأسكب الدمع الساخن، وأحكها. أقول لِمَ حياة الوحل هذه لك، يا صالحة، وغيرك يعيش في قصور؟ وأجيب حواء وآدم لم يكونا من زمننا، ونحن لم نزل من زمنهم. لِمَ عذاب الدنيا هذا لك، يا صالحة، وغيرك مرتاح ومتهني؟ وأجيب الله كتب علينا الشقاء ليجربنا، ولكن أن يجربنا دون أدنى ذنب لم يكن ذلك لطيفًا منه. ما هو ذنبك، يا صالحة، لتقومي في الوحل، وتقعدي في الوحل، ويعشش الوحل في قلبك وعرقك وكيانك؟ وأجيب لأن الوحل يحب الفقراء، وهو أخوهم العطوف، عطوف على طريقته. رجعت يومها متأخرة، الليل والبرد والزوبعة وبعض حكايات قديمة عن النهار والدفء والنسيم، حكايات، أحلام، في قلب الفاجعة حكايات كهذه تبقى حكايات بالمجان، وأحلام كهذه أقرب إلى الأوهام تساعد على النسيان، لكن الهواء السافح للوجه سفحًا لا يدعك تنسى ما تريد أن تنسى، يدق لك العظم دقًّا، فتبكي دمًا، ويدعك تنسى ما لا تريد أن تنسى. نسيت الشاويش، ولم أذهب لأراه. أنت تعرف أبو نواف، متلم ابن متلم، شيء آخر غير كل شاويشية البلد، شيء أقرب إلى آلهة اليهود الجبارين، لو لم تسمع كلامه، أقل حاجة يعملها فيك، يضعك في الحبس. ما أمرّ الحبس مع أبو نواف، وما أحلاه مع غيره. ورغم ذلك، بعدين، حمدت الله لأن هواء الجحيم أنساني إياه. الجحيم إنساني أكثر منه، لأنني بقوة الجحيم قلعت عينه، وعين الوحل، وصار العذاب أهون، بكثير أهون؟ فقط أهون. قلت لك رجعت يومها متأخرة، لقيت الأولاد نايمين، والوحل يزحف عليهم كالحنش، قل كالأفعوان الخرافي بتسعة رؤوس، من تحت الباب، ومن تحت الحيطان، ومن تحت الأرض، ومن تحت البحر، ومن تحت أقدام النجوم. بركة عائمة بالإنس والجن! شمرت عن يديّ، ورحت أجرف الوحل بالخشبة، وأدفعه في الحوش. كفرت خالتك صالحة ليلتها. أستغفر الله العظيم! كفرت بالتوراة والإنجيل، قل هذا كنت به كافرة، كفرت بالمغول والتتار وعقبة بن نافع على الرغم من أنه لم يفعل لي شيئًا. قلت اصبري، يا بنت، اطردي الوحش عن بابك، وغدًا تجدين لك حلاً. فجأة، رأيت أبو نواف واقفًا بين يدي كالعامورة التي تخرج لك من المقبرة دون حاضور ولا دستور، انشق البحر بعصا سيدنا موسى، وأخذت أركض. وأنا في وسطه، انهالت الأمواج عليّ. سألني ماذا أفعل؟ فسألته بدوري ما الذي جاء به في هذه الساعة؟ وكنت أريد أن ألطم رأسه بالخشبة. قال لي إنه كان ينتظرني، وعندما لم آت جاء ليرى إذا كنت حية أم ميتة. نهرته، وأنا أهتز كالقارب في بطن البحر، وسألته ماذا يريد؟ قال لي يريد أن يخلصني من الوحل، وعيشة الوحل، وينيمني على فراش قطن في سرير ككل الناس. أقلقني كلامه الحلو على غفلة، وقل حية وقرصتني. حية؟ حيات، ملايين الحيات. نادى اثنين من حراسه، وطلب منهما أن يجرفا الوحل عني. اقترب مني، فشممت عنه رائحة المنكر. قال لي إنه يريد يد بدرية، ظننت أنه يريدها لابنه، أو لواحد من فقراء المخيم، ما أدراني؟ وقال لي هكذا نسكن معًا أنا وأنت وهي في المخفر. بيت من حجر فيه نار وعشر غرف تسع ألفًا. وكأنك، يا خالتي، رفعتني من خواصري، وطرحتني في الوحل. لوحت الخشبة في الهواء، ولطمته، فصاح، ووقع، وراح يخبط بيديه وقدميه كالدودة التي انسحق رأسها، والدم عماها. تركه أعوانه، وهربوا. صحت به ليقوم، ويتركني في حالي، لكنه بقي يتلوى عاجزًا في الوحل. تقدمت كي أشج رأسه، فقام من الخوف، وراح يركض نصف محطم، وابتلعه الليل. في تلك الليلة، ذرفت أمطارًا من الدمع لم تفعل سوى أن ضاعفت من وحل الروح. في اليوم التالي، أخذت أنور للفدائيين، رغم أنه كان صغيرًا. قلت له أمك تحبك، وإن كنت تحبها كما هي تحبك حارب لتنقذها من أبي نواف والوحل، لتنقذها هي والناس كلهم. ندمت بعدها، لكنني لم أندم كثيرًا. كانت البداية!
61
حمل صابر ريشته، وعاد إلى لوحته، فوجد أنها ضاقت. فاضت بالخطوط، وازدحمت بالدوائر. كانت أمه في الطريق دومًا. إلى الوطن. فكّر في شعبان، وفكر في أمه، وقال في الطريق دومًا. الأرملة من خلفها، أو من أمامها، وظلال صالح والشهم وسمرة وأبي ماهر. لا بد من الوصول إلى شعبان، لا بد من دعمه، لا بد من دعم شعبان، لتبقى مرحلة واحدة، ولا تبقى اللوحة ناقصة.
62
غمست بدرية أصابعها في الحنة، وطوتها في كفها. لطخت إحدى النساء باطن قدميها، ولفتهما بالشرائط. دندنت باقي النساء لحنًا شعبيًا، دون أن يتوقفن عن العمل. كن قد خلعن عن بدرية ثوب عرسها لئلا يتلوث، ورفعنه بعلاقة تدلت من السقف، وألقين على الفراش ملابسها الداخلية الجديدة. لوثّت سعدة باطن كفها بقليل من الحنة، وضغطته في كفها الأخرى، وراحت ضحكتها ترن في البيت التنكي، ثم علقت لعيني بدرية الضاويتين بالفرح: - من أجل أن أصاب بالعدوى! سألتها: - ألم تجديه بعد؟ رنت ضحكتها من جديد، والنساء يضحكن، وهن يتقاسمن ما تبقى من الحنة بينهن. قالت سعدة: - يبدو أنه لا يفكر في الزواج أبدًا. ألحت النساء: - من هو؟ بالله عليك؟ قولي لنا! احمرت وجنتا سعدة، وهربت إلى وسط الدار، والنساء يدندن هناك:
سلام يا طير الهنا من بعد ما عدت لنا عاد الهنا في عيوننا
جلست سعدة قرب صالحة، ودفعت في فرن الطابون قطعة حطب. رفعت صالحة إليها وجهًا يخرج من النار، فلا هو شيخ ولا هو شاب. كان الغموض والوضوح في نظراتها، لتماثيل العاشقين النظرات ذاتها وتماثيل الأباطرة. وكان انحراف في جبينها يذكر بانحراف الفرع على جذع زيتون، وانحراف النهر عن جزيرة ليمون، وفي الوقت ذاته انحراف النفس وميلها وزيغها. نعم، تقول لنا العيون، عَرَفَتِ الحزن يومًا، ولا تريد أن تعرف الحزن أبدًا، ولكن ما العمل عند عجز النار عن تحقيق ذلك. ضغطت سعدة على أصابعها، كانت أصابعها ساخنة، كأصابع المحراث المهجور في الشمس وقت الظهيرة. في كل مرة تراها، تظنها قادمة من الشمس. في كفيها العشب والخبز، وفي كفيها الطفولة المستحمة بماء بحيرة طبرية. قالت لسعدة دون أن يتركها العبوس: - عندما كنت طفلة كدت أغرق في بحيرة طبرية، كنت لا أعرف السباحة، لولا أن... وهي تقلب أرغفة الخبز. - لولا أن يهوديّ كان يعبر من هناك. ضحكت سعدة، ودفعت في الفرن قطعة حطب أخرى: - لتبقي لنا إلى أبد الآبدين، دونك نحن لا نساوي شيئًا. لم تبتسم صالحة، لكن الرغيف ابتسم، والظل ابتسم، وقالت: - من يومين اثنين وأنا أفكر في هذا. - فكري في شيء آخر، فكري في بدرية لما غدًا... - أفكر أيضًا في شيء آخر. أتذكرين، يا سعدة؟ أتذكرين ذلك النهار في معسكر الرجال؟ قالوا لنا جاءتنا أقمشة كاكي من الصين، ونحن بحاجة إلى كل امرأة تجيد الخياطة، فذهبنا جميعًا، نساء وبنات، نجيد الخياطة أو لا نجيدها، والتي لم تلمس إبرة في حياتها تعلمت بسرعة، فصّلنا الكاكي، وخيطناه بدلات فدائية تشتعل في العين، وفي اليوم التالي وجدناها كلها محترقة... أنا التي وضعت النار فيها. لفت الرغيف بثوب، وأضافت لتزيل أمارات التعجب والاستغراب من عينيها: - لا تستغربي، الزمن تغير، هذا صحيح، لكننا نحن لم نتغير بالفعل. أردت أن أعرف إذا ما تغير الناس بالفعل، لكنهم لم يتغيروا، لم يبحثوا عني، أنا، حارقة الكاكي، لم يعرفوني. - ولكن، يا خالتي، لماذا تقولين لي هذا اليوم؟ - صحيح، بالأمس، كنت تلفين المخيم كله دون أن تجدي أحدًا يبل لك ريقك. كل واحد أناني. أما اليوم، الجميع ههنا، فهل لم يعودوا أنانيين؟ السلاح، يا سعدة قادر، يصنع المعجزات، ولكن ما هي المعجزات هذه؟ لم نخسر بعد الفقر والوحل والمرض، عيشة الذل نعم، ولكن الذل صار له اسم آخر، الأمل صار له اسم آخر، وكل شيء، كل شيء صار له اسم آخر، هكذا أنا أرى اليوم الحياة، ومع ذلك، أنا كالجميع لست متشائمة. بعد قليل، قالت سعدة بخجل: - وصابر، يا خالتي، هل هو كالجميع ليس متشائمًا؟ عندما نظرت صالحة إلى عينيها العاشقتين، تحاشت سعدة نظرتها، وهي تخفض رأسها. قالت صالحة، وهي تفحصها بعينيها الريفيتين التعبتين: - أعرف مغزى هذا السؤال. قلبت سعدة الرغيف، وسألت بخجل: - ماذا تعرفين، يا خالتي؟ عتمت ملامح صالحة: - صابر ليس متشائمًا إلا من شيء واحد، قلبه ليس له، هو معنا وليس معنا، أخوه صالح جريح في المعتقل، وأخوه الطاهر الشيطان بعينه، وأمه ما زالت تسير، مخيمهم أخذ أخاه زكي، ومخيمنا أخذ عقله، وقلبه، وروحه، ولا يدري إلى حد الآن كيف يبدأ.
63 قال اسكندر: - ها هو أحمد. دخل بكتفه المضمد إلى صخبهم، وعيناه الصغيرتان، عينا البدوي اللامعتان، تضجان بالتهاني. وضع ذراعه على كتفي صلاح الدين، وشده إليه، فلف صلاح الدين كتف أحمد المجروح، وجاءا يقفان قرب صابر واسكندر. سألوه عما حصل لكتفه، فقال رصاصه فتحت لحمه، وبدا عليه التعب، رغم نبرته المزهوة. سألوه لم لا يذهب إلى الراحة قرب أمه في معان، مدينة الجنوب البطلة، فقال إنه سيذهب بعد أن يتم العرس. سأله اسكندر عن أهله في الأرض المحتلة، فقال إن أباه يهديه السلام. ومرة أخرى، سأل اسكندر: - ما أخبار شعبان؟ - أقسم أن يبقى حتى يتم مهمته بنجاح. قال صابر: - أفكر أحيانًا في الذهاب إليه، وأحيانًا أعدل عن ذلك. انتفض أحمد: - المعنويات في الوطن عالية، والمقاومة تنتشر، من حارة لحارة، ومن بيت لبيت! شاهدت بعيني كيف يرجم الأطفال سيارات العدو العسكرية! قال صابر: - يجب أن ينجح شعبان. فأكد أحمد: - سينجح شعبان. انحنى على أذن صابر، وأخبره أنه ينقل إليه رسالة من أخيه صالح، استطاعت أن تهرب عبر القضبان. كان يربطها بمنديل دفعه في جيب صدارته المرقطة. وبعد أن أعطاه إياها، ذهب صابر ليس بعيدًا عنهم ليقرأها. قال له صالح إن أبا ماهر لم يمت، فاندهش صابر، وقلبه قد تضاعف خفقه من شدة الفرح. أخذ يسارع بقراءة الرسالة، ليقف تمامًا على الخبر. كان أبو ماهر طوال الوقت في المستشفى بعيدًا، ولم يعد اليوم جريحًا، وكذلك صالح، لم يعد اليوم جريحًا، وعادوا يشقون الشوارع، لكنه أبدًا لن يقع في الخطأ مرتين، وسيستمع إلى أبي ماهر. ولو استمع إلى أبي ماهر، لما قتلوا حجازي ومحفوظ وسعد الله والآخرين، لما قتلوا سلمى، ولما استطاعوا أن يفتحوا في أكفهم جرحًا واحدًا، وفي القلب جرحنا الكبير. اليوم، هم يعملون معًا، هو وأبو ماهر، والشهم، ويصغون طويلاً إلى صوت البنادق. يعملون بصبر، ليحيلوا الشوارع إلى خنادق. من أجل أن تنجح مهمة شعبان، فتصل إلينا أمنا، ونصل إليها كلنا. ابتسم صابر للأحياء والأموات منهم، كانت صورتهم راسخة في جبينه، صالح، والشهم، وأبو ماهر، وسمرة، وأبو ياقوت، وأبو شعبان، وأبو إيليا، وسعد الله، وابنة الباشا، وأم عثمان، وسلمى، وحسنة، والأرملة. أراد أن يصيح بصوت أقوى من صوت العرس: أحبها، نعم أحبها! تبدت له الأرملة، وهي تشمر عن ساعديها، لتقذف التراب من فوق التل. وأخذ ينقل صورتها أينما ذهب، وأينما اتجه، ومن عينيه إلى عيون الجميع. أخذت تسري صورتها في نبضاتهم، وصيحاتهم، وأغانيهم. وأحيانًا كان يمد ذراعيه إليها، فتأتيه، وفي شفتيها تلك الوردة الحمراء التي يخصبها الجرح، ويسقيها. بدت له الشوارع التي حفرتها، وحفروها معًا، مثل خيوط النول الناعم، بقدر ما هي كثيرة، وقال لنفسه: كلهم معًا الآن، أبو ماهر والشهم وصالح، كلهم معًا، وهم الآن يصنعون أحلام البنادق الكثيرة التي ينتظرونها أو تنتظرهم. وتمنى أن يذهب إليهم، ولكن كيف يحررهم؟ أمام البراكة، كان رجال الميليشيا قد ضربوا في الأرض القدم معًا، وراحوا يرقصون الدبكة في نصف دائرة، وهم يحيطون بأذرعهم خصورهم، وبدأ ((اللويح)) الأيسر يلوح بمنديل أبيض، وهو يهتز كالوتر، بينما رفع ((اللويح)) الأيمن بندقية إلى أعلى، وراح يهزها على دفعات. أخذ صلاح الدين مكانًا بين راقصين، ولف ذراعيه حول خاصرتيهما، تبعه اسكندر، وبعض الفدائيين، فتحولت نصف دائرة الرقص إلى دائرة، ودخل صابر بدوره الدائرة، وراح يدندن أغنية كانت تغنيها أمه، وهم يحركون قدمهم اليمنى يمنة ويسرة، ويضربونها دفعة واحدة في الأرض. انطلقت ابنة الباشا تزغرد، وأخذ أحد الأشبال يوقع على الطبل بأطراف أصابعه إيقاعًا متتاليًا بدأ خفيفًا، وانتهى صاخبًا مجلجلاً كهبوب الريح.
64
عندما لاحظت ابنة الباشا ولدها حسين الذي عاد من الكويت بخفي حنين، وهو يسترق النظر إليهم دون أن يجرؤ على التقدم منهم، تركتهم، وذهبت إليه، فهب هاربًا، ودخل البيت. لحقته بصعوبة، وهي تلهث، بسبب وزنها، ووجدته ينحني مهملاً في الركن. - لماذا لا تأتي؟ لعن الله البيت، وقصدير البيت، وكل من يقعد في البيت! فلعنها هو الآخر. راحت تصفعه، ويصفعها، تصيح به، ويصيح بها، إلى أن فر من بين يديها، وهي ما زالت ترغي وتزبد: - قاعد في البيت مثل الفأر! يا عارك ! يا عار الذين خلفوك! جدك فدائي، وثائر من ثوار 36، وأبوك فدائي، وثائر من ثوار 48، وأنت جبان مغرور! رميت المرتينة، وارتديت عنها! مثلما رميت عملك في الكويت، وارتديت عنه، تريد كل شيء أو لا شيء! أن تصبح باشا على الجميع! لماذا خلعت البدلة التي شرفتك، وشرفت أجدادك؟ قل لي، لماذا؟ ومن يراك أو يهتم بك اليوم؟ لا أحد. وها أنت كالكلب المطرود، تجلس في ركنك مركولاً في مؤخرتك! قذفته قبل أن يغادر المكان بفردة نعل، ثم عادت إليهم مضطربة. خرج صابر من دائرة الرقص، وحاذاها: - ما لك، يا ابنة الباشا؟ أخذته إلى جانب، وراحت تبكي، وتمسح دمعها بأطراف أصابعها. روت له ما حصل، وهي تردد بين آن وآن (( يا للعار! يا للعار! )) قال لها: (( نحن كلنا أبناؤك، وفدائيون من أجلك، وعليك ألا تشعري بالعار ما دمنا حولك! )) وضغط على أصابعها. طمأنتها لمساته، فجففت دمعها، وراحت تدعو لهم: - الله ينصركم ! الله يسدد خطاكم ! كان أسعد قد اقترب، وهو يدفع دراجته من أمامه، وراح يدنو مصرًا، وفي الوقت نفسه، مأخوذًا بالبنادق والسواعد المفتوحة لاحتضانه. وضع دراجته على الأرض، ودخل بينهم. كان ماكس، الصحفي الفرنسي، قد وصل لتوه، فخرج اسكندر من دائرة الرقص لاستقباله، بينما أخذ أسعد مكان اسكندر، فبان قصيرًا بين قامات الرجال، لكن قدمه كانت واثقة وخفيفة كأقدامهم. تقدم اسكندر وماكس من صابر، فترك صابر ابنة الباشا تذهب عند صالحة، ودنا باتجاههما خطوتين. قال اسكندر: - ماكس مسافر إلى باريس بعد أن أكمل روبورتاجه. أكمل ماكس: - لكنني سأعود قريبًا، سأكون هنا بعد عشرة أيام. سأل صابر: - لماذا لا تبقى؟ سيتكفل رفاقنا هناك بما كتبت. - طلبت مني الجريدة الحضور شخصيًّا. للروبورتاج أهمية. كان ماكس فرنسي البلد يهودي الأصل، وهو صحفي جاء من أجل روبورتاج عن المقاومة. منذ ستة أشهر، وهو يعيش بينهم، سخر قلمه من أجلهم، ولأجل كشف الحقائق الكثيرة الغائبة عن عيون الغرب. كان يحبهم، ويحبونه. قال ماكس معتذرًا: - وددت لو أحضر العرس حتى النهاية. نادى صلاح الدين ماكس: - تعال لترقص معنا. فعلا وجه الصحفي الاحمرار: - ولكنك مجنون! إنني لا أعرف رقصكم! - تعال فقط، وسنعلمك. اختطفت يدٌ ماكس، وراحت تجري به لتدخله بين أذرع الرجال.
65
كانت عمان شديدة الحركة، لا تفطن لخطوات الطاهر بين ملايين الخطوات. كانت الخطوات تقيء الخطوات، والشمس سيفًا من لهب. وفي ظهره، ترك الطاهر شوارع عمان كلها، وصعد الدرجات القديمة. طرق أحد الأبواب، ففتح له عبد المؤمن، وسأل بغضب: - لماذا تأخرت؟ سار من أمامه بروبه المفتوح على صدره المشعّر، وهو يسحب قدمًا مثقلة في زحافته. نفخ الطاهر: - الطقس حار! تناول إبريق ماء موضوعًا على الطاولة مليئًا بالثلج، وشرب من فوهته. حثَّه عبد المؤمن على الانتهاء، وهو يبدو عليه الانزعاج: - عَجِّل! المفروض أن أكون الآن في مكان آخر. لماذا تأخرت؟ - بسبب الحرارة! - يا لك من نصاب! ابتسم الطاهر، وجلس كلاهما على دوشك. سأل عبد المؤمن: - ماذا لديك؟ لم يجبه الطاهر في الحين، أرسل نظره في الصالون، ثم قال، وهو يحدّ بصره إليه: - عشر بنادق، وثلاثة كلاشينكوفات، وتسعة صناديق ذخيرة. أطلق عبد المؤمن صيحة غير راضية: - فقط! تفاجأ الطاهر، وهو الذي ظن في ذلك إسعاده. - ما هذه إلا بداية الأمور. - والبقية؟ - ستتبع. لانت أسارير عبد المؤمن، بينما قست أسارير الطاهر: - على شرط. انتبه عبد المؤمن. قال الطاهر: - الدفع سلفًا. ضاقت أسارير عبد المؤمن، فرفع صوته: - والثقة؟ ألا توجد ثقة بيننا؟ راح الطاهر يطقطق بلسانه هازًا رأسه على الجانبين: - اترك الثقة وحدها، والشغل وحده، الدفع أولاً، والثقة على الله! تململ عبد المؤمن في جلسته، ثم نهض، وأتى بوفيه في الوجه المقابل. أخرج من أحد الجوارير مبلغًا كبيرًا، أخذ قسمًا منه بعد أن عدَّه، وأرجع الباقي. - ألف وخمسمائة دينار. نقلها الطاهر بخفة، وراح يعدها بدوره. وحينما انتهى، قال: - أعطني مائة دينار أخرى. بسبب المصاعب، واجهتهم بعض المصاعب. عاد عبد المؤمن إلى البوفيه مضطرًا، وأخرج عشر ورقات زرق. مدَّها له، وقال بخشونة: - يجب أن يتم التسليم الليلة.
66
نزل الطاهر من سيارة أجرة قديمة، وقطع الشارع الصاخب دون أن يبالي بصيحات وشتائم سائقي سيارات السيرفيس، إلى أن وجد نفسه أمام الجامع الكبير. جاء السوق، وسيارات الفدائيين تذهب بسرعة، ثم راح يصعد حتى منطقة منعزلة امتلأت بهياكل السيارات المحطمة. بعد قليل، إذا بخطوات تأتي، وأربعة رجال يظهرون. سأل الطاهر: - كل شيء على ما يرام؟ أجاب رجل ذو لحية ناعمة، وطلعة رومانسية: - كل شيء على ما يرام. أعطى لكل واحد منهم مائتي دينار، وطلب إليهم أن يعدوها. نبههم الطاهر: - سيتم التسليم الليلة. فأكَّد الرجل ذو اللحية الناعمة والطلعة الرومانسية برأسه أن التسليم سيتم الليلة. تقدم الطاهر منهم خطوة، وقال بتأن: - المهمة القادمة اختطاف أحد الفدائيين.
67
جاء (( جرجر )) يجر حماره، وهو يحمل نصف خروف، وراح ينادي عن بعد مترين من العتبة: - يا صالحة! يا صالحة! خرجت صالحة لترى من يناديها، فحمل جرجر نصف الخروف، وتقدم منها: - هذا لكم، يا صالحة، هدية من أبي توفيق اللحام. وهو يقول لك ألف مبروك عرس بدرية، كُلوه بالهناء والشفاء، وصحتين وعافية! اضطربت صالحة، ولم تدر ما تفعل. راحت تجمع يديها قرب شفتيها، وهي لا تستطيع النطق، ثم نادت على النساء: - يا أم عثمان! يا ابنة الباشا! يا سعدة! جاءت أكثر من امرأة: - هذا ما بعثه لنا أبو توفيق. رحن يلهجن بالثناء على توفيق، وأبي توفيق، وأم توفيق، وباقي الأولاد، وصالحة حائرة للهدية. أمسكت كل منهن نصف الخروف من طرف، وحملنه إلى الداخل، فاستقبلته باقي النساء بالزغاريد. صَرّت صالحة بعض الكعك والملبس، وخرجت تعطيها لجرجر. كان قد ابتعد بالحمار، فنادته، وهي تشتمه في سرها، وتشتم هبله. خطف القدم عائدًا ليأخذ الصرَّة، وهو يدعو الله أن تسعد هي وذريتها إلى أبد الآبدين. تابعته صالحة حتى ابتعد بحماره في الشارع الطويل. وللوهلة الأولى، بدا الشارع خاليًا، فدق قلبها بعنف، وقالت لنفسها، وأصداء الطبول تصل من بعيد، بأن الناس كلهم هناك. وعندما أرادت الدخول، تناهى إلى سمعها أنين أحدهم، ونداء جريح: - يما! يما! ذهبت بسرعة إلى الزقاق الجانبي، فرأت أحد الفدائيين على الأرض، وهو يخبط بدمه. انحنت لهفى عليه، ورمته بين ذراعيها: - ما لك، يما! ماذا جرى لك؟ من قتلك، يما؟ فلم يستطع النطق. - أين كلاشينكوفك، يما؟ ولم تجد البندقية. صاحت بالنساء كي يأتين، فأتين، وحملنه إلى الداخل. راحت سعدة تغسل جرحه، بينما هرعت صالحة مكشوفة الرأس إلى الرجال، لتخبرهم بالذي حصل.
68
تقدموا جميعًا من صالحة عندما رأوها تجري من بعيد، كانت تلوح لهم بيدها كعلم يرفرف فوق رمح مكسور. فُجعوا بالمصيبة قبل أن يعرفوها، واجتمعوا من حولها قلقين. قالت لهم كل شيء دفعة واحدة، وهي تلهث. توزعوا في أزقة المخيم زقاقًا زقاقًا بحثًا عن المعتدي دون أن يقعوا له على أثر، ذهبوا إلى أبعد من المخيم، في المناطق المجاورة، وهناك من ذهب إلى المخيمات الأخرى الكثيرة في مدينة الجبال السبعة، لكن لا شيء، لم يقعوا على أحد. جاءهم الشاويش أبو نواف، وهو يسحب نفسه بين اثنين من الشرطة. قال لهم (( إنه ابن المخيم، وفي حياته لم يؤذ أحدًا، همه الوحيد مصلحة الجميع، والسهر على حمايتهم وأمنهم. ويوم اندلعت حرب 48، كان من بين أول المشاركين فيها، ويشهد الله كيف أبلى بلاء حسنًا رغم كل الصعوبات التي واجهته، وكيف أحرق جنوده الدبابات. كان مستعدًا ليهب دمه فداء لثرى الوطن، واليوم هو مستعد ليهب دمه فداء لاسترجاع المسجد الأقصى. ليعتبروه أخًا لهم جميعًا، وليضعوا يدهم في يده للبحث عن المجرم، وكل معتد، عربيًّا مسلمًا كان أم صهيونيًّا قاتلاً، وليكن اتحادهم قوة لكل عمل غايته الحفاظ على الكرامة. إنه يناشدهم أن يهبّوا لعونه، والعمل معه، ففي هذا خلاص الجميع، وعلى هذا الأساس يمكن لأحلامهم أن تتحقق، فيصلوا إلى غايتهم وأهدافهم. )) كانت صالحة تستمع إليه، وهي تحاول طوال الوقت أن تمسك نفسها، لم تكن تريد القيام بدور البطلة، لكنه ما أن أنهى كلامه حتى تناولت حجرًا، وقذفته في صدغه، وهم ينظرون إليها، فيرون ظلها الكبير، ولا يرون القامة الصغيرة التي كانت لها. حمل الشاويش صدغه، وجاء صالحة بعينيه الجاحظتين متوعدًا، فخفضت رأسها بدل أن ترفعه عاليًا بالتحدي. كانت الوحيدة الخائفة بينهم، رغم أن الشاويش قد جذب نفسه مبتعدًا، هو والشرطيان اللذان نادى عليهما، وعاد ثلاثتهم بخطوات عجلى إلى المخفر.
69
تدفقوا من حول صالحة حماسًا، وصالحة ترتعش من الخوف، وتبكي، وترتعش. قالوا: - يجب أن يتم العرس على أحسن ما يكون، يجب ألا تكدر الحادثة فرح القلوب. وطالما انتهى الأمر برجم الشاويش، فلنذهب بالعرس إلى آخره.
70
وضع صابر ذراعه على كتفي خالته، وقد اصطخب المخيم من جديد بالغناء والزغاريد. وصالحة تبكي، وترتعش، وتمسح دمعها، وترتعش. قال لها صابر: - اهدئي، يا خالة! ليطمئن قلبك! قالت وشفتها السفلى تهتز من أثر الكلمات: - أنا أكثر من يعرف أبو نواف، هو كلب حقًا لكن أسنانه ماضية! سيعمل جدعًا علينا، وسيضعنا جميعًا في الحبس، وإن لم يستطع، سيحاول قتلنا كلنا. كان علينا أن نضع يدنا في يده، ونعمل معًا. نعمل ماذا؟ ونسخم ماذا؟ عليكم أنتم أن تعرفوا. هناك أحد غيره أضاع البلاد ورمانا في العذاب؟ ستقول لي. وأنا أقول لك الحرب التي خسرها وحده يمكن أن يربحها معنا. معنا على أبو نواف أن يتغير. لكن كل شيء يتغير ما عدا أبو نواف! أبو نواف وغير أبو نواف، خالتك صالحة صارت تفهم لهم جيدًا اليوم، صارت تشم أفكارهم وألاعيبهم من بعد اثنتين وعشرين سنة كد وكدح وعرق ودمع وهوى مجبرين عليه وإغراء للشيطان وسلاسل تشتهينا، تشتهي أجسادنا من رجال ونساء. أترى كم خالتك حاملة على ظهرها؟ أكثر من اثنين وعشرين عامًا من أحلى وأغرب فاجعة عرفها إنسان! عمر! بل أعمار! الأنبياء لهم من العمر أقل مما لنا إذا ما أجريت في حسابك أن كل عام مما لنا يساوي مائة من القهر. أنتم كنتم صغارًا لا تعرفون، أما أنا، فقد عرفت كل شيء، ورأيت كل شيء. جذبته من ذراعه، فأحس كأنه يحمل على ذراعه بندقية كانت تحبل بالأحلام المجهضة. انحنى قليلاً تحت تأثير أصابعها، واستمع إليها: - إياكم والموت مجانًا! بدت خائفة، كطفلة رأت الموت بين عينيها فجأة: - والله أموت! - بعيد الشر عنك، يا خالة! ولم يهزم الأمل خوفها: - هل سينهدم الجبل تحت أقدامكم؟ أخذت يده بين يديها، فظنها يدي أمه: - أماه... قالت دون أن تقف على رد فعل صابر تجاهها: - أشتاق إلى أمك كما تشتاق إليها، يا صابر. فردد صابر: - أماه... - أمك، نعم، أمك! - أماه... أهذه أنت؟ أخيرًا فهمت خالته، فأجابت مشفقة: - نعم، يا ولدي. هذه أنا. أنا. أغمض عيني في الليل، وأنا أفكر فيكم. أقول لنفسي، يا امرأة، للرجال عاشقات. أقول لنفسي، يا امرأة، للشموس أقمار. أقول لنفسي، يا امرأة، للشجر أغصان. وكأنها تذكرت فجأة: - البارحة طردت خالتك صالحة ثلاثة أفندية: منذ البارحة، وأنا أريد أن أقول لك، ولكنك أنت مشغول! كلكم مشغولون! كي ترد بالك، يا صابر، تردوا بالكم كلكم. ثلاثة أفندية كانوا يتكلمون مع الأولاد، ويسألونهم. جئت من بعيد، وقلت لهم، ماذا تفعلون في بلادنا! فابتسم أطولهم ابتسامة صفراء سممت لي بدني، وقال لي، تقولين بلادنا؟ خلاص؟ تبرأتم منَّا؟ هذا الجبل ما هو؟ أليس جبل الأشرفية؟ وجبل الأشرفية ما هو؟ أليس جبلاً من جبال عمان السبعة؟ أليس عمان؟ ونحن؟ من أين؟ ألسنا من عمان؟ قلت له كفى لفًّا ودورانًا، وأعطني ظهرك أنت وأصحابك، جايين لتتجسسوا علينا! صحت بوجوههم، إذا بقيتم دقيقة واحدة أكثر ناديت على الفدائيين، وقلت لهم هؤلاء يتجسسون عليكم، وجعلتهم يطردونكم أو يحبسونكم. ونهرتهم، اذهبوا من هنا! هيا اذهبوا! لم أكن أنا، كنت الأخرى التي تبحثون عنها. عاد لصالحة عبوسها، وهمهمت: - والله سحبوا حالهم، وذهبوا، مثل الحرامية! دون كلمة! وأنا، بعد ذلك، فكرت، لست أدري لماذا، في الانتحار.
71
لم يبق للرسم في اللوحة إلا شارع واحد، لكنه طويل! وأنت تتقدمين نحو الوصول، وأنت تسقين الماء للظامئين، وتفرشين الشمس غطاء للمساكين. وأنت ترسمين بأصابعك لوحتك. لوحتك أنت. عذاباتك أنت. ألوانك أنت. ونشوتك أنت. وأنت ترفدين البنادق بالبنادق. وأنت تخفقين الفؤوس بالفؤوس. وأنت تضربين المعاول بالمعاول. الوصول بعيد! لهذا يقاتل شعبان دون أن يستكين. ولهذا لم يستطيعوا قتل صالح. لم يستطيعوا قتل أبي ماهر. جعل صابر السواعد تلتقي بالسواعد، ولم يتوقف عن العمل لحظة واحدة، فقد تعب من القعود، وما عاد الصغار صغارًا، وكبر الضوء في العيون. يجب إنهاء اللوحة.
72
زفت العروس، والنساء يطلقون صيحات الفرح الحادة، فيغدو الليل وردة حمراء في العاصفة، ويمتلئ الشارع بالخطوات النابضة. وهذا الغناء المعلن عن قدوم العروس يتعالى في الأجواء، فوق الرؤوس العالية:
سلام... يا مية سلام بدر يخطر في المنام زهر يقطر شهد وغرام حلم مشعشع في الأحلام والحقيقة غير الكلام سلام... يا مية سلام
كانت النساء في بيت العريس قد صخبن وهن يطلقن الزغاريد، وكانت المشاعل المرافقة للعروس تقترب من بعيد. وهذا الغناء المعلن عن استقبال العروس كان ينطلق من النافذة:
هلا ... يا مية هلا بالبدر لما علا والزهر لما جلا بهالحلم قلبي سلا والسكر عندي حلا هلا ... يا مية هلا
وصل موكب العروس إلي بيت صلاح الدين، فصخب الجميع في الداخل والخارج، وكأنه عصف الريح. كان الرجال قد جاءوا بخيولهم، والحوافر تدك الأرض، والبنادق تدك السماء. دخلت بدرية ملفوفة بسواعد النساء، ووقفت الفتيات في دائرة، وهن يرقصن الدبكة بأثوابهن الطويلة المطرزة، ويلوحن بالمناديل الملونة، ويقفزن قفزات رشيقة، إلى اليمين مرة، وإلى اليسار مرة. كان بعضهم قد اجتمع حول القاضي، وهو يجري العقد، وكان صلاح الدين مشرقًا وجميلاً ببنطاله الأسود الفضفاض وقميصه الأبيض المطرز، والحطة الحمراء التي تتراخى على الكتفين. أخذ الخيالة يتشكلون في نصف دائرة، وراحوا يرقصون على لحن يعزفه الأشبال، تميل خيولهم إلى اليمين تارة، وإلى اليسار تارة، ثم تقفز إلى الأمام برشاقة، محدثة حوافرها إيقاعًا واحدًا. لم ينقطع سيل زغاريد النسوة الجالسات على الأرض أمام بدرية في حلقات، بعد أن رفعوا بدرية فوق اللوج، تزيدها بسمتها إشراقًا، ويزيدها أخضر جفنيها رونقًا، والفرح يزغرد في عينيها. حاولوا جذب صالحة من ذراعها إلى دائرة الرقص، فرفضت، أخذت منديلاً زاهي الألوان، ومسحت دمعة سالت على خدها. كانت تعطي دمعها بكرم، فيطمئنون، والدمع لا يطمئن أحدًا، ويجدون الجنة تحت أقدام المخيم. وصل الصخب أوجه حين أتم القاضي عقد القران، فأخذوا يهزجون، ويرقصون، وببنادقهم يلوحون، ويطلقون، بينما بيوتهم التنكية مغروسة هناك خلف الظهور، وشوارعهم الضيقة مفتوحة هناك خلف الظهور. كانوا يبعثون من مشاعلهم اللهب، فترتعش له القلوب، ولا تستطيع إلا أن تسقط أسيرة له. وكانوا يطلقون من حناجرهم صياح الفرح الحاد المتحد بالطلقات، فتهتز له الأعناق، ولا تستطيع إلا أن تهب أسيرة له. وعلى العكس، كانت عمان صامتة في ثوب الليل الحالك... في منفى. كانت عمان بعيدة، وهم في قمتها. تمنى صابر أن يسمع لصخبهم صدى تتناقله جبالها السبعة، أصاخ السمع، وأصغى، وتمنى من جديد، لكنه لم يسمع شيئًا. كانت عمان تنام مثل كل ليلة. تركهم صابر يفرشون موائد الطعام، وسار وحده في الشارع الطويل. كان الضباب يتساقط على قمة الجبل، والعالم يسقط في ظلام شديد. وحينما التفت إلى حيث كانوا جميعًا، رأى أضواء المشاعل كيف تذوي رويدًا، رويدًا، وكيف تخفت أصواتهم رويدًا، رويدًا، مع دقات الطبول. 73
وصلت صابر ضحكات بعض الصبية من أحد الأزقة، فخبأ نفسه من وراء جدار لئلا يراه أحد، ونظر. كان أسعد بين مجموعة من الأولاد، وكان أصغرهم يرفع قطعة من الخشب، نصبها فجأة، وانحنى، وهو يقلد بفمه طلقات الرصاص. قال لهم: - هكذا سأفعل لو صادفت جنديًّا إسرائيليًا. ضحك الأولاد، وقال أسعد: - هذه بندقية من خشب! وأنا أبحث عن بندقية حقيقية! علق الصغير: - ما زلت صغيرًا! فلم يسعد أسعد ذلك: - ليس هذا صحيحًا! قال آخر: - لست صغيرًا ولا كبيرًا! - يمكنني أن أصبح شبلاً، لكن أبي لا يريد. - وإذا أصبحت شبلاً، وصادفت جنديًّا إسرائيليًا، ماذا ستفعل؟ قفز بين أيديهم، وانطرح على الأرض، وهو ينظر إلى كل الجهات، ثم راح يزحف في الليل، حتى جاء حجرًا. مد يديه إلى الأمام كمن يقبض على بندقية، وبدأ يقلد بفمه طلقات الرصاص. انطلق الأولاد يضحكون، وفي خيالهم جندي إسرائيلي يسقط قتيلاً. نهض أسعد، وأطلق لخيالة العنان: - لي ابن عم في القدس، لم يبلغ العاشرة، قتل عشرة إسرائيليين بقنبلة واحدة! قذفها بين أقدامهم، وهرب! اقترب الأولاد منه أكثر، وهم يصغون إليه، فراح أسعد يسرد عليهم الحكاية المخترعة بالتفصيل. كان صابر قد عاد يسير، كان لا يدري إلى أين يذهب، وهو يعبر الشارع الطويل. لاحظ ضوء في المخفر، ورأى عددًا من الرجال ذوي السحن الغربية يخرجون منه. أخفى نفسه من وراء جدار، فوصلته خطوات قصيرة مسرعة، وحينما التفت، وجد الأخ الأصغر لصلاح الدين يلهث من أمامه. - أخي يريدك. انحنى صابر، ورفعه بين ذراعيه: - كيف عرفت أنني هنا؟ أجاب الطفل وهو يلهث دومًا: - أشار الأولاد إلى مكانك. سار به عائدًا، وفجأة، سأله علاء الدين: - هل رأيت العروسة؟ إنها جميلة!
74
وجدهم صابر يدورون بصدر المنسف، وهم يغرفون الرز واللحم، وبصدر المسخن، وهم يفسخون الخبز والدجاج. أفسح صلاح الدين له مكانًا إلى جانبه، وسأله: - ألست جائعا؟ - إنني جائع! - لماذا تركتنا إذن؟ قال صابر: - رأيت بعض الرجال الغرباء في المخفر، فأردت أن... لكن صلاح الدين استدار ناحية الحاج، وهو يقدم له قطعة لحم كبيرة: - خذ هذه من يد عمك الحاج، يا ولدي صلاح الدين، وعلى يدك ترجع الأوطان! - شكرا، يا عمي الحاج! قال أبو توفيق، وهو يمد له حبات لوز: - وهذه، يا صلاح الدين، من يد عمك أبو توفيق، يا عريس، يا سيد العرسان! - كل أنت، يا أبا توفيق. - لا والله! أم تريدني أن أحلف بالطلاق ألا يأكل حبات اللوز المذهبة هذه غيرك؟ - تسلم يدك، يا أبا توفيق. - لو ما زالت القوة لحملت المرتينة، واجتزت الحدود معك، أحميك وأصونك. ارتفع صوت الحاج: - اترك المهمة للشباب، لصلاح الدين، وأنور، وشعبان، فتّح عين، وغمّض عين، تجد نفسك في البلاد. قال عبده الحلاق: - أما أنا، فخذ من يدي هذه (( الموزة ))، يا صلاح الدين، يا ناصر الأوطان، ومحرر الأقصى، وجبل النار! يجب أن تأكل لتسمن، لازم نسمنك لبدر البدور! ضحك الحاج، وضحك أحمد، وضحك أبو توفيق، وضحك كل من يدور بالمائدة، وعلق أحمد: - دعوه رشيقًا ليزحف جيدًا تحت الأسلاك. غمز الحلاق: - وفوق الأسلاك! وقصده فوق الفراش! مما جعلهم يضحكون من جديد. أطراه الحاج: - صلاح الدين زين الشباب! ورشاقة زين الشباب دائمة! خاطب أحد المسنين صلاح الدين: - عندي عشرة، عقبالك! ابتسم صلاح الدين، والرجل يقول: - أولادنا ثروة! لا يوجد مثلهم على وجه الأرض، تأتي بهم، وترميهم في الشوك، يطلعون رجالاً! سبعة من أولادي فدائيين! راح الكل يثني على الرجل وأولاده. مال صابر على أذن اسكندر، وسأله: - متى ستلتقي بالضابط إبراهيم؟ مع أنه إلى جانبنا، يبدو لي أن ليس بإمكانه فعل شيء. - لماذا؟ - الشاويش أبو نواف يعد لنا مكروهًا. لكن اسكندر لم يسمعه، فقد انطلقت طبلات النساء تصاحبها أهازيج المداحات. اضطر أحمد إلى رفع صوته: - عادتنا في معان أن نجعل من الرز واللبن كرة، هكذا، بين أصابعنا، ونقذفها في جوفنا. وقذف كرة الرز واللبن في جوفه. أضاف رغم امتلاء فمه: - عادة بدوية كما تعلمون!
75
نادت صالحة على ثلاثة من الشباب، وحملتهم صينية منسف، وصينية مسخن، إلى جانب إبريق من الشاي، وإبريق من الليمون، وبعض الحلوى. قالت لهم: - ابعثوها للحراس السهرانين في المعسكر. علقت ابنة الباشا: - بارك الله فيك، يا صالحة، نفسك كريمة، ولا تنسين أحدًا. أجابت غير مونعة عابسة دومًا: - هم أحق الناس بالأكل والشرب. - الله يديمك ويسعدك! الله يسعد لك بدرية، لأنك أسعدت الجميع! أنت وأم صلاح الدين، الله يسعد لكم أولادكم! لم تبتسم صالحة، وهي ترى كل هذه الوجوه المبتسمة، وقالت لها: - حسين سيكون عرسه شيئًا آخر. - إن شاء الله، يا صالحة، هذا هو اليوم الذي أنتظره طوال عمري! لم تفهم ابنة الباشا، فأعادت صالحة: - حسين سيكون عرسه شيئًا آخر. ظنت ابنة الباشا أنها فهمت: - تكون البلاد عادت، وعملناه في ربوع الكرمل. تنهدت صالحة: - آه! يا ربوع الكرمل. - طول ما المرتينة بأيدي الرجال لا يوجد محال. تركت أم صلاح الدين مجموعة المداحات، وجاءت تصفق، وتمدح تبعًا للنغم، ثم توجهت بالحديث إلى أم العروس: - نسينا، يا صالحة، الإبرة والخيط غير المعقود. ضحكت ابنة الباشا: - هذه أمور ينساها الكل وقت الطقش والفقش ما عدا ابنة الباشا. أمسكت أم صلاح الدين يدها: - يعني، هل خيطت له ثوبه؟ صلاح الدين؟ - والقاضي يعقد العقد، وصلاح الدين غير صاح، وكل الناس غير صاحيين. هكذا يعيش الولد والبنت في أمان. ضحكت أم صلاح الدين، وقالت: - الله يسلم يدك! لم يبد على صالحة الرضى: - ولمَ كل هذا التعب؟ رمتها كل منهما بنظرة تساؤل، وعلى وجهيهما أمارات الدهشة والاستنكار: - عاملة حالك غير فاهمة، يا صالحة! الخيط غير المعقود في ثوب العريس يبطل السحر الذي يعمله أولاد الحرام كي يفسد حياة كل زوجين سعيدين، ويقلبها من جنة وخضار لجحيم ونار! ضربت صالحة بيدها على صدرها: - يا ويلهن النسوان اللاتي يفكرن مثلكن اليوم! ازدادت أمارات الدهشة والاستنكار على وجهي المرأتين، وعتم وجه صالحة، قست صفحة جبينها، وقالت بصوت جهوري: - انتهى عهد السحر والسحرة، حرزهم الوحيد اليوم بدلة الفدائيين. على أي حال، هذا ما أتمنى. نادتها أم عثمان من طرف: - يا صالحة! فجاءتها. قالت أم عثمان: - هوني عليك في هذا اليوم السعيد، وانظري إلى ابنتك العروس، عيني على بدرية كالبدر، تساوي كل حروز الدنيا! رمت صالحة ابنتها بنظرة، فرأت سعدة تهمس في أذنها، وكلتاهما تبذل بسمة سمحة، وكان بعض أطفال من بنين وبنات بثيابهم البراقة يأخذون مجلسًا على اللوج إلى جانبها. أضافت أم عثمان: - بدرية عروستنا كلنا! لم تبتسم صالحة، كانت تشعر بالحزن. في تلك اللحظة، توقفت المداحات عن المدح، ولم يبق شيء يسمع إلا الوقع الخفيف للطبول. ارتفع لغط النساء، وغدا المكان كالحمام. سألتها أم عثمان: - ما لك، يا صالحة؟ جلست صالحة إلى جانب أم عثمان على الأرض: - كنت أتمنى أن نكون مجتمعين كلنا، خالاتها، وعماتها، وأخوالها، وأولادهم كلهم. كنت أتمنى أن يكون هنا أبوها، ويرى ابنته، وهي تتلألأ كالنجم. كنت أتمنى أن يكون العرس غير هذا العرس، وفي مكان غير هذا المكان... تبقى الأماني كثيرة. انبثقت من عينها دمعة، وراحت تتدحرج على خدها، وصالحة تمسحها بعصبية. - لا، يا صالحة! أتبكين؟ توترت أصابعها على خدها: - في الفرح يذكر بنى آدم الغايبين، يتمنى أن يكونوا موجودين كلهم من أجل أن يفرحوا معه. صحيح أنتم كلكم معي، لكنني، من وقت لوقت، أحس بشيء ناقص، شيء يقبض لي روحي، يريد خنقها. - بعيد الشر عنك، يا صالحة! - هكذا أحسست قبل أن تموت ابنتي لطيفة وزوجها في ((الكرامة)). كنت ضيفة عليهما قبل أن يهجم اليهود، ورأيت دمهما كيف سال، وامتزج بدم الأعداء، فطفا نهر الأردن. رأيت المرتينة كيف توقف كتيبة، والأقمار كيف تضيء قبل أن تسقط. أخذت بين ذراعيّ أربعة فدائيين، وسحبتهم واحدًا واحدًا بين الحرائق. وأنا أسحب خامسًا، والدم ينبع من ذراعه، كلمني بالعبرية، فهمت أنه كان ينادي أمه، فتذكرت ذلك اليهودي الذي كان قد أنقذني من الغرق في بحيرة طبريا، وتركته مع الآخرين. قلت سيعالجونه، وبعد ذلك سيحاكمونه. لكنني ما أن أعطيته ظهري حتى سمعت زخة من الرصاص، كانوا قد عرفوه، وأردوه قتيلاً. بعد لحظة من الصمت، ابتسمت صالحة، وسألت: - هل رأت الطائر الذهبي على الطاقة منذ قليل؟ أجابت أم عثمان بشيء من الحيرة: - إي طائر ذهبي؟ - ولكنك أنت لم تحاولي إنقاذ أحد من الموت. شعرت أم عثمان ببعض الذنب: - لا، لم أحاول. - إنه طائر الموتى الذين تحاولين إنقاذهم ويعجزون عن شكرك.
76
تدفقت النساء كموج النهر الثائر خارج البيت التنكي، وهن يحطن بالعروس، وجاء الرجال بالعريس تحت زخ الرصاص والزغاريد. وعند التقاء العروسين بدأ التصفيق والغناء والهتاف، إلى أن كلّت الأكف، وتوجعت الأصداغ، ولهثت الصدور. أجلسوهما على كرسيين وسط جموع الرجال والنساء والأطفال، وصدحت موسيقى الأشبال. وضع كل من العروسين الدبلة في إصبع الآخر، واقترب صلاح الدين برأسه من بدرية، وكلمها، وهي تطأطئ رأسها. أخذ طفل وطفلة يرقصان أمامهما، وقد عادوا يصفقون، ويتناوبون الغناء، أو يغنون، ويتناوبون التصفيق. النساء يجبن الرجال، والرجال يجيبون النساء، وهكذا، حتى ثملت الجفون، والعيون، والشفاه. فجأة، حملت سعدة بندقية، ورفعتها، وهي تمد ذراعها إلى أعلى، وراح الموج يزحف في جسدها كلما تلوت، ودقت في الأرض كعبها. مالت على صابر مرات، وكأنها ترقص له وحده. فجأة أيضًا، افتقد صابر صالحة، أخذ يبحث بعينيه عنها، فلم يجدها. كان يخاف عندما تذهب، ويفكر في أمه. سأل عنها أم عثمان، فقالت إنها تعد فراش العرس في حجرة العروسين. كانت النساء قد كنسن الحجرة، ووضعن على السرير فرشة حديثة التنجيد، لففنها بشرشف مطرز بخيط مقصب، ورمين فوقها لحافًا من الأطلس، رُسم عليه طاووس، ومخدة مطرزة باسم العريس والعروس. عطرتها أم صلاح الدين بماء الورد، وتركت عليها صالحة لمسات يدها. كان صلاح الدين يغدق بسماته على الجميع، وبدرية إلى جانبه تتأجج جمالاً، والليل الأحمر يتساقط كأنه شرشف مدمي. أخذ صابر يحدق في العيون المنتشاة، وهو يفكر في الشاويش. وعند ذلك، ربط أبو صلاح الدين خصره بحلته، ودخل حلبة الرقص. ضحكوا، وهتفوا، ودوت بعض الرصاصات. انحنى أحدهم على أذن صلاح الدين، شخص لم يلفت انتباه أحد، ذو لحية ناعمة وطلعة رومانسية، وقال له بعض الكلمات، فنهض صلاح الدين على التو، وذهب معه دون أن يشعر به أحد. كان الشيخ يرقص كفتى في العشرين، وكان الجميع به مسحورًا. غاب صلاح الدين طويلاً، فافتقدته بدرية، وبعثت في طلبه علاء الدين، لكنه عاد دون أن يجده، ولم يُعِدْ مصباحه السحري صلاح الدين. كأن يدًا وحشية اختطفت من شفاههم البسمة، وكأن يدًا وحشية اختطفت من حناجرهم الصيحة، ومن قلوبهم الفرحة، ومن أصداغهم النشوة، وكأن يدًا وحشية نفضتهم من أعماقهم فجأة، فاستفاقوا على كارثة ليست بعد بالكارثة، لكن غياب صلاح الدين فجأة ينذر بسوء العاقبة. توقفوا عن الرقص والغناء، وسقطوا في الصمت، وهم يحدقون إلى بعضهم، فلا يقعون إلا على شفاه مطبقة، وجباه ضيقة. جاءت صالحة لهفى كأنها أمٌ لصغار العصافير، وطلبت إلى الجميع أن ينتشروا في المخيم بحثًا عن صلاح الدين.
77
بحثوا في كل مكان دون أن يجدوا أثرًا لصلاح الدين، طرقوا باب المخفر بقوة، فلم يخرج لهم الشاويش. ذهب اسكندر للاتصال بالضابط إبراهيم، وابتلعه الشارع الطويل. ووقف أحمد إلى جانب صابر بكتفه المضمد، وهو يتفجر بالصمت. حملوا أسلحتهم، وراحوا ينقُبون عنه، ويحدقون في الوجوه، ويدخلون البيوت واحدًا واحدًا. أين اختفى صلاح الدين؟ كيف اختفى صلاح الدين؟ بدا صلاح الدين جسدًا مطروحًا أمام عيونهم، على وشك أن تمزقه الريح. وكانت فرصتهم الوحيدة أن يعجلوا في البحث عنه، وأن يجدوه، ليعيدوه إلى أذرعهم كما كان جوادًا أصيلاً. لكنهم لم يعثروا له على أي أثر، ولم يعثروا لخاطفيه على أي أثر، واستمر الليل يهبط أسود شديدًا. على حين غرة، نبت في صدورهم أمل بأن يعيده لهم اسكندر، وترعرع هذا الأمل وسط المحنة كأنه شعاع أخضر يأذن لهم بالعبور. وما لبث الرجال أن حطموا باب المخفر، فوجدوا حارسًا مرتعدًا يأسن في نومه، اقتادوه إلى التحقيق دون أية فائدة. وشيئًا فشيئًا، أخذ الشك يدب في نفوسهم بعد أن طال البحث، وطالت عودة اسكندر. ولأول مرة منذ بدء العرس، سمع صابر نباح الكلاب، فانقبض قلبه، وتطلع إلى أحمد، فوجده يحدق في الظلام، وبدا ليس موجودًا. التفت أحمد إلى صابر مستلبًا، وطبقات من العتمة والدم تتراكم على كتفه المضمد، فرأى دمعة تقف في محجريه، يقاوم ألا تخونه قواه، فتسقط. سارا على مهل، والخطوات من حولهما تفترق دومًا. أراد صابر أن يحكي له عن قصة الرجال ذوي السحن الغريبة الذين رآهم يخرجون من المخفر عندما كان يقطع وحده الشارع الطويل، لكنه قال لنفسه، لن يبدل ذلك من الأمر شيئًا، وقد اختطفوا صلاح الدين. أوهمته خطواته الملازمة له أنه يعرف، فأدار رأسه، ورأى أحدهم يذهب بمشعل بعيدًا، وظِلٌّ عملاقٌ يدانيه رفيقًا. وإذا حصلت مواجهة؟ كان هدفهم أن يجدوا – مهما كلفهم ذلك من ثمن – صلاح الدين، وكانوا يعتقدون أنه لم يغادر وخاطفوه المخيم، مع أن صابر كان يجزم أمر مغادرتهم له منذ أول لحظة. وإلى أين، يا ترى، ستتجه الأنظار؟ إلى عمان؟ وعمان تنام كطفلة بريئة في مهدها. حتى ولو أيقظوا عمان، فستمضي أيام. تمنى لو أنهم بدأوا ذلك قبل العرس! لو أنهم بدأوا ذلك خلاله! وشد إلى صدره سلاحه. تذكر أبا ماهر والشهم وصالح وسمرة والأرملة، وتمنى لو أنهم هنا! وكانت هذه هي أمنيته الثانية. ابتسم بحزن، في المحنة يتمنى المرء ما يعجز عن تحقيقه، ما لم يحققه عندما كانت لديه فرصة تحقيقه. كانوا جميعًا في العرس، وكانوا جميعًا في الموج، وكانوا جميعًا في العاصفة. كانت معهم قواربهم، ولم تكن معهم أشرعتهم، لهذا تقاذفوا في كل الجهات! انبثقت في جبينه صورة الأرملة، وهي تشمر عن ذراعيها لتجرف التراب. وتبدت له صالحة، وهي عابسة باسمة باكية، ولدها أنور الذي ذهب إلى الموت من أجل أن يدعم شعبان، ومن أجل أن تصل أمه، وأن يتم عرس صلاح الدين. كان ذلك يعني لهم الشيء الكثير، كان ذلك يعني أن تكتمل اللوحة. لهذا تراهم يفتحون عن صدورهم اليوم، ويبحثون عن صلاح الدين. ويفتحون عن صدورهم غدًا، ويقاتلون من أجل صلاح الدين. عزم أهل المخيم على أن يتم العرس رغم الذي حصل، فغياب صلاح الدين لا يعني أنه لن يعود أبدًا. ومرة أخرى، علت قرعات الطبول في الأجواء قوية، هادرة، مصحوبة بالتحدي. وانسكبت صيحات الفرح من جديد لتطغي على الحزن المفاجئ، وانطلق الغناء عذبًا تحمله الريح إلى نهر الأردن عابرة الأسلاك إلى شعبان ورفاقه الذين يدمرون منشأة عسكرية للأعداء، ووضعت النساء عددًا من الأكواب الممتلئة بحب الرمان على باب العروسين كي تخطو من فوقها بدرية، لمزيد من الأولاد، وتكاثر الذرية، وارتفع الصخب كأنه الرعد في السكون الساجي، وبنادق الرجال تدوي، قبل خطوة بعث النسل هذه، وبحث صابر بعينيه عن صالحة، فوجدها تقف وسط موج الأذرع والأعناق، وهي عابسة باسمة باكية، ودمعها يتفجر من مقلتيها، وابتسامها يتفجر من شفتيها. وظن صابر أنها غادرتهم إلى فلسطين، وفي الصخب، كانوا جميعًا يشقون الطريق إليها. وانبثقت مع كل دمعة من عينيها صورة لأهل المخيم في عينيه، ومع كل بسمة على شفتيها بسمة لأهل المخيم على شفتيه. تبدت له الأرملة تضحك، وصالح، والشهم، وأبو ياقوت، وأبو شعبان، وأبو إيليا، ويوسف، وسعد الله، ومحفوظ، وزياد، وحجازي، وزكي، وأبو ماهر، وتبدت له سمرة، وهي تضحك إذا توقفت عن الصراخ، وتصرخ إذا توقفت عن الضحك. وضحكت ابنة الباشا، وجدته، وحسنة، وأم عثمان، وضحكت سلمى، وأم سلمى، وسليمة، والتحمت ضحكة أمه وضحكة صالحة في اللحظة التي اقتربت فيها صالحة منه، وراحت تنتفض. اجتازت بدرية أكواب الرمان، وألصقت أم صلاح الدين كتلة من العجين مع ورقة شجر خضراء من ورائها على الباب، ثم أغلقوا الباب، لتجد بدرية نفسها في حجرة العرس وحيدة. هذا العالم الجديد، المفروش بالأطلس، المعطر بماء الورد، والمحاك بخيط مقصب، تضع بدرية أولى قدم فيه فلا تجد أحدًا! اتجهت إلى فراش العرس، وتمددت بثوبها الأحمر المخضب، وضمت الدبلة إلى صدرها بقوة. فجأة، صمت عالمهم الصاخب دفعة واحدة، وبدأ يصب من بين مصراعي النافذة ضوء الفجر القاني، وعمان تزدهي، ككل صباح، بغلالة من الضباب وبرتقال الجراح. ولم تنهض عمان بعد من نومها! كانت عمان تنام في المساء، وفي الصباح لا تحلم بموتها! وكان صابر يعدو في شوارع عمان، فلا يرى أثرًا إلا لخياله، ولا يسمع صدى إلا لخطواته. بدت الأرصفة غريبة، تفوح برائحة الموت والصمت، وكأنه يضع القدم فيها لأول مرة، وكأن أحدًا لم يضع القدم فيها دهرًا! انتزعته قنبلة من أعماقه، وهو يغوص في دهشته، فقفز يطرق الأبواب صائحًا بكل قواه: - اخرجوا إلى الشوارع! اخرجوا إلى الشوارع!
باريس في 8 أيلول 1974
أعمال أفنان القاسم
المجموعات القصصية
1) الأعشاش المهدومة 1969 2) الذئاب والزيتون 1974 3) الاغتراب 1976 4) حلمحقيقي 1981 5) كتب وأسفار 1988 6) الخيول حزينة دومًا 1995
الأعمال الروائية
7) الكناري 1967 8) القمر الهاتك 1969 9) اسكندر الجفناوي 1970 10) العجوز 1971 11) النقيض 1972 12) الباشا 1973 13) الشوارع 1974 14) المسار 1975 15) العصافير لا تموت من الجليد 1978 16) مدام حرب 1979 17) تراجيديات 1987 18) موسى وجولييت 1990 19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991 20) لؤلؤة الاسكندرية 1993 21) شارع الغاردنز 1994 22) باريس 1994 23) مدام ميرابيل 1995 24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995 25) أبو بكر الآشي 1996 26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999 27) بيروت تل أبيب 2000 28) بستان الشلالات 2001 29) فندق شارون 2003 30) عساكر 2003 31) وصول غودو 2010 32) الشيخ والحاسوب 2011
الأعمال المسرحية النثرية
33) مأساة الثريا 1976 34) سقوط جوبتر 1977 35) ابنة روما 1978
الأعمال الشعرية
36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966 37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967 38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968 39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001 40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002 41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009 42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010 43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010
الدراسات
44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975 45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983 46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984 47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984 48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995 49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004 50) خطتي للسلام 2004
[email protected]
الشوارع. هذه الرواية تدوي كنشيد. نشيد يعلو ليعبر عن حب الأرض، وحب البشر، نشيد ينتقل من نغمة إلى أخرى عبر الأفراح والأتراح، نشيد يصرخ بالأمل، لكنه ينحرف شيئًا فشيئًا ليغدو صرخة خالصة للألم. أفنان القاسم يعود إلى الغوص مرة أخرى، صفحة بعد صفحة، فيما يتسلط عليه – فيما يتسلط على ضميره كإنسان -: مصير وطنه، فلسطين. في روايات أخرى عبر عن حنينه إلى الوطن، عن حبه لهذه الأرض الجريحة، وناسها الذين هم روحها. هنا يبتعد أكثر: يندد هنا بالشَّرك الذي يقع فيه اليوم أكثر من أي وقت آخر شعب يقابل بالترحاب كل وعد، وترميه على طريق الدموع كل خيانة، ويوثق عرى التضامن العظمى لديه كل جرح يزيد من إصراره على وقاية روحه الغائرة في الأزمنة السحيقة، والتغلب على الخطر المتجدد تحت رمز الأفعوان الخرافي ذي الرؤوس التسعة الخانق له. هناك وحل في هذه الرواية، وحل يتسلل إلى كل مكان. هناك بؤس. هناك حزن. هناك فرح. هناك سُخط، وتمرد، ودمع، ورقص، وكد. ليس هناك زوال للوهم: فقط إرادة أن تحفر، وتحفر، القنطرة التي ستُفتح على الضوء. هذه الرواية المكتوبة منذ حوالي أربعين عامًا تنتهي بصرخة، بنبوءة، بمطلب حياتي من أجل التغيير: اخرجوا إلى الشوارع! وهذا ما يحصل اليوم في ربيع الإنسان العربي.
* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إسكندر الجفناوي
-
مدام حرب
-
النقيض
-
شارع الغاردنز
-
لؤلؤة الاسكندرية
-
باريس
-
بيكاسو
-
قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
-
القدس
-
الشعراء
-
البرابرة
-
الأخرق
-
الباشا رواية النكبة الأولى
-
تراجيديات
-
تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
-
فلسطين الشر
-
المواطئ المحرمة
-
العاصيات
-
غرب
-
العودة
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|