أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبدالله بنسعد - المشروع الفلاحي السويسري بالصحراء التونسية : هل هو حقا لإنتاج خشب الكلاتوس أم لدفن النفايات النووية ؟















المزيد.....



المشروع الفلاحي السويسري بالصحراء التونسية : هل هو حقا لإنتاج خشب الكلاتوس أم لدفن النفايات النووية ؟


عبدالله بنسعد

الحوار المتمدن-العدد: 3626 - 2012 / 2 / 2 - 00:21
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


تصدير : «إنّ سيادة الرأسمال المالي الإحتكاري في الإقتصاد الرأسمالي العالمي في الثلث الأخير من القرن العشرين قد أدّت إلى ظهور قضايا كونيّة لم تكن جليّة أو لم تكن بمثل هذه الحدّة في أوائل قرننا أو إلى تفاقمها خارق التّفاقم. فإنّ تلوّث البيئة المحيطة ومشكلة الأغذية ومشكلة الخامات ومشكلة فيض السكّان في المدن الكبيرة ومشكلة فقر عدد ضخم جدّا من سكّان الكرة الأرضيّة ، كلّ هذا تحوّل إلى خطر يتهدّد أهل الأرض ويتفاقم من جرّاء تسيير الإقتصاد على أساس الملكيّة الرأسماليّة والإستغلال الوحشي للموارد الطبيعيّة الذي يرافق شتّى أشكال السّيادة الإحتكاريّة». ـ روداكوفا ـ (بصدد مؤلّف لينين "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسماليّة")

فيما يتمثّل هذا المشروع ، من هو صاحبه وما هي أهم مكوناته ؟
تقدّم لإنجاز هذا المشروع مجمع سويسري يعرف بإسم "العالمية القابضة للخشب" Global Wood Hoding (GWH) لكنّ الغريب في هذا المجمع الذي يعتبر من أكبر المجامع المختصة في إنتاج الخشب في العالم أنّه لا يتواجد إلاّ في البلدان الغير متطورة في المجال الديمقراطي فهو ينشط فقط في ألبانيا وبولونيا ورومانيا وأكرانيا وبلاروسيا وبنما ثمّ أخيرا تونس بينما يغيب عن البلدان التي يعتبر فيها إنتاج الخشب هام جدّا مثل إفريقيا الجنوبية وأستراليا والصين وألمانيا وكندا وفنلندا والولايات المتحدة الأمريكية. فلماذا يا ترى يتهرّب من تلك البلدان لولا خوفه من عدم إمكانية ممارسة أنشطته المريبة ؟
ولو عدنا لطبيعة المشروع نجد أنه معدّ لإنتاج خشب الكلاتوس (Eucalyptus, en latin : Eucalyptus Myrtaceae ) ، شجرة أصيلة أستراليا ، على مساحة تقدّر بـ 164 ألف هكتار بالتمام والكمال (حوالي 70 كم طول على 24 كم عرض) أقطتعت من المراعي الإشتراكية بالظاهر. ويمتدّ برنامج الغراسة على عشر سنوات بحساب 10 إلى 15 ألف هكتار سنويا علما وإنّ الخشب المنتج معدّ كلّيا للتصدير أي نحن أمام مشروع يشبه مشاريع أفريل 1972 وجويلية 1974.
وقد قام بدراسته الأولية مكتب دراسات عمومي تابع لوزارة الفلاحة وهو المركز الوطني للدراسات الفلاحية (Centre National des Etudes Agricoles : CNEA).
أمّا المكوّنات الأخرى للمشروع فتتمثّل فيما يلي :
* بناء محطّة لتحلية مياه البحر بخليج قابس (مدينة جرجيس)
* بناء وحدة صناعية لقص الخشب ومعالجته
* بناء مخازن بميناء جرجيس لخزن الخشب
* بناء أنبوب على طول 180 كم لنقل الماء من محطة التحلية بجرجيس إلى منطقة المشروع
* بعث منبت لإنتاج شجر الكلتوس المعد للغراسة
* إنجاز خطّ للسكة الحديدية يربط بين منطقة المشروع ومحطة قفصة على طول حوالي 200 كم ثمّ خطّ ثان يربط بين محطة قابس وجرجيس على طول 150 كم.
* تركيز محطّة لإنتاج الطاقة الهوائية لتوفير الطاقة اللازمة للمشروع
 موقع المشروع
تقع منطقة المشروع بمعتمدية رمادة من ولاية تطاوين (أنظر الخارطة المصاحبة) بين القاعدة الصحراوية للظاهر التونسي (Dhahar tunisien) والعرق الكبير (Grand erg) وتتّسم هذه المنطقة بكثافة سكانية ضعيفة جدا بإعتبار وأنّها أراض مخصصة للمرعى (5 ساكن/كم ² : رعاة) وموارد مائية محدودة (المياه العميقة المتأتية من المائدة المائية للقاري الوسيط Continental Intercalaire لكامل ولاية تطاوين لا تزيد عن 1000 ل/ث) كذلك تتسم هذه المنطقة بتساقطات مطرية ضعيفة جدّا (أقل من 50 ملم في السنة) وبنسبة تبخّر عالية جدّا نظرا للحرارة المرتفعة ولهبوب رياح الشهيلي لفترة تقارب الشهرين في السنة.
 مراحل إنجاز المشروع
مرّ هذا المشروع ، الذي بدأ الإعداد له منذ سنة 2008 ، بمرحلتين إثنتين. المرحلة الأولى غطّت الفترة الممتدّة من سنة 2008 إلى سنة 2010 والتي أعتبرت فترة تجريبية للتأكّد من قدرة شجرة الكلاتوس على التأقلم والإنتاج بالجنوب التونسي حيث وقع إعداد منبت بجهة قابس.
وقد صرّح المدعو فؤاد دغفوس (الذي كان يرأس اللجنة العليا للمشاريع الكبرى والذي صاحب فريق المجمع السويسري عندما تنقّل بين ولايات الجنوب لإختيار الموقع ، ثمّ وقع تعيينه وزيرا لأملاك الدولة والشؤون العقارية ربّما مكافأة له على ما بذله لفرض هذا المشروع) خلال الندوة الصحفية التي جمعته بالمدعو ألدو بونالدي (Aldo Bonaldi) نائب رئيس المجمع السويسري يوم 18 ديسمبر 2010 ، بأنّ التجارب التي أنجزت خلال هذه الفترة أثبتت تأقلم شجرة الكلاتوس مع مناخ الجنوب التونسي دون أن يعطي أي رقم عن إنتاجية هذه الشجرة ولا عن إختلاف البيئة التي وقعت فيها تجربتها (قابس) مع البيئة الصحراوية التي ستوطّن فيها ولا عن النوع الذي سيقع غراسته بإعتبار وأنّ هناك 800 فصيلة في العالم من شجرة الكلاتوس.
أمّا الفترة الثانية فهي تغطّي سنوات 2011-2013 والتي بدأت بغراسة 5000 هكتار في منطقة المشروع.
نذكّر بأنّ نيّة هذا المجمع السويسري كانت موجّهة نحو ولاية قبلي وذلك بالإستحواذ على أراضي الظاهر التابعة لقبيلة المرازيق. لكن من حسن حظ هذه الجهة رفض الوالي السابق ، بتوصية من المندوب الجهوي للتنمية الفلاحية ، طلب أصحاب المشروع فحوّلوا وجهتهم إلى جهة تطاوين.
للتذكير أيضا قيل لنا بأنّه وقع إقتراح مناطق أخرى في الشمال التونسي أين تكون العوامل المناخية مناسبة اكثر لشجرة الكلاتوس لكنّ المستثمرين أصرّوا على الإنتصاب في الصحراء وهذا مؤشّر على سوء نيتهم سنعود له فيما بعد.
 نقاط إستفهام تدفع إلى الإتهام
أ. لمن تعود ملكية الأرض التي سينجز عليها المشروع ؟
من المعروف أنّ نظام ملكية الاراضي في تونس ينقسم إلى 4 أقسام : الأراضي الخاصة ، الأراضي الإشتراكية (أراضي العروش) ، أراضي الحبس والأراضي الدولية.
وطبعا المراعي الإشتراكية الموجودة سواء بمنطقة الواعرة (تطاوين وبنقردان) أو بمنطقة الظاهر بتطاوين تعود ملكيتها إلى قبائل ورغمّة الذين يقطنون تلك المناطق.
لكنّ الغريب في الامر أنّ إصرار نظام المخلوع بن علي (أو لنقل المافيا التي كانت تحكم على إنجاز المشروع مهما كان الامر) دفع بهم إلى تدليس صبغة الأرض التي وقع إختيارها لتركيز المشروع وتحويلها إلى أرض دولية غير مسجّلة (Terre domaniale non immatriculée) فهل يمكن أن يقبل العقل أن تكون للدولة ارض على ملكها ولا تقوم بتسجيلها منذ سنة 1956 بينما هي تضع يدها على الإدارة وبينما يقوم الخواص بتسجيل أراضيهم ؟ لكن من المضحكات المبكيات في هذه المسألة هو إستنجاد النظام العميل بنصّ قانوني يعود إلى سنة 1896 لوضع يده على هذه المساحة الشاسعة من الاراضي (164 ألف هك). فالإستعمار الفرنسي ولكي يستحوذ على الأراضي الفلاحية في البلدان العربية التي إستعمرها ، إعتمد على ما يعرف "بالأراضي الممات" (Terres mortes) في التشريع الإسلامي أي الأراضي الغير مستغلّة أو التي لم يقع إحياؤها (والإحياء يتمّ إمّا عبر غرس شجرة او بناء منزل او حفر بئر) وبما أنّ المراعي لم تكن معدّة لمثل هذا النوع من الإحياء فإنّها أعتبرت أراضي ممات ووقع بذلك الإستحواذ عليها من طرف الإستعمار بتطويع التشريع الإسلامي مثلما أكّد على ذلك كارل ماركس (الذي درس التشريع الإسلامي خلال إقامته بالجزائر طيلة شهري فيفري ومارس من سنة 1882) حيث قال «عندما تسنح الفرصة لهم ، بوجود قانون غير أوروبي ، يعمد الأوروبيون لا إلى دراسته فورا بل إلى تفسيره لصالحهم مثلما هو حال التشريع الإسلامي». وفعلا قام باي تونس العميل للإستعمار الفرنسي بإصدار الأمر المؤرّخ 15 جانفي 1896 والذي ينصّ على أنّ "الأراضي الممات تعود ملكيتها إلى الحاكم".
وهاهو التاريخ يعيد نفسه سنة 2010 ويعمد نظام بن علي العميل إلى إستعمال أمر اصدره الباي لخدمة الإستعمار الفرنسي ليكون بن علي في هذه المرة في خدمة الإستعمار الجديد.
ب. الكذبة الكبرى للمستثمر السويسري : تشغيل 45 ألف عامل قارّ
خلال الندوة الصحفية التي ذكرناها آنفا أكّد ممثّل المجمع السويسري بأنّه سيقع خلق 45 ألف موطن شغل قار. هكذا وبكلّ وقاحة. في الحقيقة لم أصدّق ما قرأته لأنني لا اعرف مشروعا فلاحيا واحدا يعتمد على الزراعة الأحادية (monoculture) في تونس أو في أي قطر في الوطن العربي يشغّل أو يمكن أن يشغّل عشرات الآلاف من العمّال القارين.
فالمعلوم بأنّ هذا المشروع سيعتمد على التقنيات الزراعية الحديثة وخاصة في عملية الري (الري قطرة قطرة المتحكّم فيه بالإعلامية) من ناحية وعملية قص الخشب لا تقع إلاّ مرة كل 3 سنوات من ناحية أخرى فكيف وأين سيقع تشغيل هذا العدد المهول من العمال ؟ وفي من يستبله أصحاب هنذا المشروع ؟ أم هو طعم للنظام العميل للإسراع بالموافقة على المشروع دون التثبّت من آلياته وأهدافه وبالتالي غض الطرف عن النواحي السلبية والمدمّرة فيه نظرا لوجود أزمة تشغيل في تونس ؟ لكنني أقول يمكن للسويسريين وشركائهم الإيطاليين أن يستبلهوا العملاء لكنهم لن يقدروا على إستبلاهنا وسنواصل فضح مشروعهم المدمّر للإنسان والبيئة. "فنحن نحب البلاد كما لا يحب البلاد احد".
ج. الكذبة الأخرى : إنتاجية عالية لشجرة الكلاتوس في المناخ الصحراوي
يقول أصحاب المشروع بأنّهم سيتمكنون من إنتاج حوالي 6 مليون طن من الخشب في السنة وهو ما يعطي إنتاجية في حدود 50 طن في الهكتار وفي السنة. غير أنني أريد التوضيح بأنّ أحسن إنتاج وقع تسجيله في تونس وفي مناخ آخر أكثر إيجابية من المناخ الصحراوي لمنطقة المشروع هو 10 طن في الهكتار وفي السنة .من جهة أخرى لا تتعدّى إنتاجية غابات الكلاتوس في عديد الدول التي لها تجربة طويلة في هذا المجال مثل أستراليا والبرازيل والشيلي وإفريقيا الجنوبية والأرجنتين والأوراغواي 30 طن في الهكتار وفي السنة. فكيف يصرّح السويسريون بهذا الرقم ؟ ثمّ هل حسبوا حسابا للأمراض التي يمكن أن تصيب الأشجار نتيجة وجود التربة الكلسية (Calcaire) وهو حال الأرض التي سيقام عليها المشروع ممّا يؤثّر سلبا على الإنتاجية وكذلك تواجد الحشرات الضارة التي تصاحب دائما شجر الكلاتوس نظرا لأنّ أوراق هذه الاخيرة تفرز نوعا من الزيت (يسمى زيت الكلاتوس) يجلب الحشرات ؟. وهذه كذبة أخرى لا يمكن أن يصدّقها إلاّ العملاء الذين لا يهمهم بيع بلادهم للرأسمال الأجنبي وبالتالي لا يهمهم تدمير الموارد الطبيعية ولا مستقبل الأجيال القادمة بقدر ما تهمهم حساباتهم البنكية التي ستنتفخ من خلال المداخيل العالية لهذا المشروع (تقدّر مداخيل هذا المشروع بحوالي 300 مليون يورو في السنة الواحدة أي ثلث المبلغ الجملي للإستثمار).
أمّا نحن فنتحدّى السويسريين والإيطاليين وحتى الأمريكان وكل خبراء العالم من المختصين في الإنتاج الغابي أن يحققوا هذه الإنتاجية في منطقة الظاهر الصحراوية أين سيقام المشروع.
 التأثيرات المدمّرة للفلاحة والبيئة
أ. إستنزاف الموارد المائية لجهة تطاوين
الذي يعرف شجرة الكلاتوس يعلم بأنّها من أكثر الأشجار إستهلاكا للمياه. ولأخذ فكرة على ذلك فإنّ إنتاج كغ واحد من الخشب يستوجب توفير 785 لتر من الماء.
وقد قدّر الخبراء حاجيات المشروع من المياه بحوالي 300 لتر في الثانية خلال السنة الأولى و600 ل/ث خلال السنة الثانية و5000 ل/ث (خمسة آلاف لتر في الثانية بالتمام والكمال) في سنة الذروة.
لكن هل يعلم القارئ بأنّ كلّ الموارد المائية العميقة لولاية تطاوين والمتأتّية من المائدة العميقة المسمّاة بالقاري الوسيط (Continental Intercalaire) والتي تشترك فيها تونس مع الجزائر وليبيا لا تتجاوز 1000 لتر في الثانية ؟ وأنّ كلّ الموارد المائية للأربع ولايات الجنوبية (تطاوين ومدنين وقابس وتطاوين) المتأتّية من المائدة المذكورة لا تتجاوز 4000 لتر في الثانية وهي كامل الحصّة التي خصصتها اللجنة العليا لإستغلال المائدة المذكورة والمتكونة من خبراء من البلدان الثلاث. أي أنّ كل الموارد الموجودة بالجنوب التونسي لا تغطّي حاجيات هذا المشروع وهو ما دفع بالمستثمرين السويسريين إلى برمجة بناء محطة لتحلية مياه البحر بجرجيس.
لكن في إنتظار بناء هذه المحطّة ، التي سيتطلب إنجازها سنوات عديدة ، فإنّ المشروع سيستعمل مياه المائدة العميقة المذكورة وهو ما يعني بأنّه سيدخل في مزاحمة قوية مع المناطق السقوية العمومية والخاصة الموجودة بولاية تطاوين. والنتيجة ستكون مماثلة لما حصل لواحات قابس ومناطقها السقوية عندما دخل المركب الكيميائي في مزاحمة معها حول المياه أدّت إلى النضوب النهائي للعيون الطبيعية من ناحية وإلى تقلّص منسوب المياه بالموائد المائية السطحية والعميقة ممّا أثّر سلبا على النشاط الفلاحي بكامل ولاية قابس. ومن غير المستبعد أن تؤدّي هذه الوضعية خاصة بعد هامش الحرية الذي أفرزته إنتفاضة 14 جانفي وتعوّد المواطنين على الإحتجاج إلى إنتفاض فلاحي الجهة ضدّ هذا المشروع.
ب. تدمير التربة والإضرار بها
كلّ الدراسات والتجارب التي أجريت في العديد من البلدان التي عمدت إلى إدخال شجرة الكلاتوس ولها مناخ يتقارب مع مناخ بلادنا مثل الصين واليورغواي وباكستان وغيرها أثبتت بأنّ شجرة الكلاتوس تساهم بصفة كبيرة في تفقير التربة نتيجو سببين إثنين : أولا إستهلاكها المفرط للعناصر المغذّية (Eléments nutritifs) وثانيا عدم توفيرها لمواد عضوية كافية تساعد على تسميد الأرض.
فبالنسبة للنقطة الأولى ونظرا لأنّ شجرة الكلاتوس معروفة بسرعة نموّها فإنّها تستهلك كثيرا من العناصر المغذّية ممّا يساهم عبر السنوات في تفقير التربة (Appauvrissement du sol) وجعلها غير صالحة للإستعمال. أمّا الحالة الثانية فتتمثّل في كون شجرة الكلاتوس وخلافا للأشجار الغابية الأخرى (مثل شجرة الأكاسيا على سبيل الذكر لا الحصر) لا تتساقط منها الأوراق كثيرا فوق الأرض لتتحوّل فيما بعد إلى مواد عضوية نافعة للتربة (1800 كغ/هك لشجرة الكلاتوس مقابل 5000 كغ/هك لشجرة الأكاسيا) كما أنّه من ناحية أخرى لا تتحلّل هذه الأوراق بسرعة (Décomposition) مثل أوراق الأشجار الأخرى لتصبح مادة عضوية تساهم في تخصيب التربة لعدم وجود ديدان التربة بالعدد الكافي (التي تقوم بهذا العمل) في المناطق الصحراوية مثل المنطقة التي سينجز فيها هذا المشروع.
لكن تدمير التربة لا يقف عند هذا الحدّ إذ توجد سلبيتان أخرتان لا يمكن التغافل عنهما. الأولى تتعلّق بتسمّم التربة إذ اثبتت دراسة حديثة أجريت بالأوراغواي بأنّ التربة تحت شجرة الكلاتوس تصبح أكثر حموضة كما تزداد نسبة تواجد مادة الأليمنيوم وكذلك التينور العالي (Ténor haute) الذان يعتبران من المواد السامة. أمّا السلبية الثانية والخاصّة بمنطقة المشروع في الصحراء التونسية فتتمثّل في التملّح الكبير للتربة. فالمعروف بأنّ الماء الذي سيقع إستعملاه خلال السنوات الأولى للمشروع هو الماء المستخرج من مائدة القاري الوسيط التي ذكرناها آنفا والذي تتراوح درجة ملوحته بين 3 و4 غرامات في اللتر وهي نسبة عالية. وقد ورد في الدراسة التي قام بها مكتب الدراسات بأنّ كمّية الملح التي ستترسّب في منطقة المشروع ، نتيجة ملوحة مياه الري ، لن تقلّ عن 150 ألف طنّ سنويا. وهو ما يعني تملّح تربة أرض المشروع (Salification) وما يعنيه ذلك من تدمير لخصوبتها من ناحية وكذلك تسرّب كميات كبيرة إلى المائدة المائية مما سيرفع من درجة ملوحتها (Salinisation) هي الأخرى وما يعنيه ذلك من تأثير على بقية الفلاحين المستغلين لهذه المائدة المائية سواء كانوا في ولاية تطاوين أو في الولايات المجاورة (لا تبعد منطقة نفزاوة عن منطقة المشروع من ناحية الشمال سوى حوالي 40 كم فقط).
ج. مزيد الإضرار بخليج قابس عبر بناء محطة تحلية مياه البحر
يعتبر خليج قابس من أهمّ المناطق البحرية في القطر التي تضررت كثيرا نتيجة التلوث الناتج عن صب فضلات الفوسفوجيبس في البحر ممّا نتج عنه تدمير للنباتات البحرية وبالتالي القضاء على الثروة السمكية في ذلك الخليج الذي كان يعتبر قبل خلق المركب الكيميائي من أخصب المناطق البحرية في القطر. وقد اصبح خليج قابس في السنوات الاخيرة منطقة هشّة جدّا يجب العمل على حمايتها ووقف تدميرها. لكنّ التفكير في بناء محطّة لتحلية مياه البحر في خليج قابس من طرف الشركة السويسرية يسير عكس ما وقع إقراره. فهذه المحطة التي يجب ان توفّر كمّية الماء اللازمة للمشروع والمقدرة بـ 5000 ل/ث كما اسلفنا الذكر ستكون محطّة ضخمة جدّا وربما تكون أكبر محطة لتحية مياه البحر في العالم. مع العلم انّ أكبر محطّة موجودة حاليا هي محطة مدينة يافا في فلسطين بناها الصهاينة لتوفير إحتياجاتهم من المياه الصالحة للشرب. فما هي السلبيات البيئية لهذه المحطة ؟ من المعروف أنّ تقنية تحلية مياه البحر (حوالي 30 غرام في اللتر) تعتمد على فصل الملح عن الماء لتصبح نسبة الملوحة فيه ضعيفة جدّا لكن لسائل أن يتساءل أين ستذهب كمّية الملح التي سيقع فصلها عن الماء ؟ الجواب سهل جدّا : سيقع إعادتها إلى البحر أي أنّه ستق زيادة سريعة للتملّح بالوسط البحري ممّا يؤدّي إلى إنعكاس سلبيّ وكبير جدّا على التنوّع البيولوجي (الذي هو في الاصل تضرّر من التلوث الناتج عن المركب الكيميائي كما سبق وأن أشرنا إليه آنفا) في خليج قابس وهو ما يزيد في مشاكل الصيد البحري التي تراكمت وتكاثرت خلال السنوات الأخيرة.
هناك سلبية أخرى سياسية هذه المرّة فربّما يعمد المستثمرون إلى اللجوء إلى التكنولوجا الصهيونية بإعتبار وأنّ الصهاينة يملكون أكبر محطة تحلية مياه البحر وما يعنيه ذلك من الدفع في عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني وما يحمله من مخاطر جيوسياسية.
د. التقليص من مساحة المراعي وخسارة إنتاج العلف الطبيعي
تمثّل مراعي الظاهر بولاية تطاوين فضاءا رعويا مكمّلا للمراعي الإشتراكية بالواعرة حيث يقوم مربوا الماشية بإستعمال مراعي الظاهر التي تكون عادة أكثر خصوبة من مراعي الواعرة في أغلب فترات السنة حيث تمثّل هذه المراعي الإشتراكية المصدر الاساسي لتغذية حوالي 550 ألف رأس من الضأن والماعز. لذلك فإنّ إقتطاع 164 ألف هكتار من هذه المراعي التي تبلغ مساحتها الجملية 932 ألف هكتار (أي ما يمثّل حوالي خمس المساحة الجملية) لا يمكن إلاّ أن تكون له تأثيرات سلبية على تلك المراعي نظرا لأنّ الكثافة الحيوانية للهكتار الواحد سترتفع كثيرا ممّا يساهم في تدهور الغطاء النباتي وهو ما سيؤدّي بالضرورة إلى تقلّص الإنتاجية الحالية للمراعي والمقدرة بـما يقارب 22 وحدة علفية بالهكتار الواحد في السنة (أي حوالي ربع قنطار من الشعير).
هذا يعني بأنّ الخسارة الجملية لإنتاج العلف بالمساحة الرعوية التي سيقع إقتطاعها لإنجاز المشروع تساوي حوالي 3.6 مليون وحدة علفية وهو ما يساوي بالدينار أكثر من مليارين من المليمات سنويا. لكنّ الخسارة التي سيتكبدها مربي الماشية ستكون أكبر من ذلك بكثير لأنهم سيجبرون على تعويض الإنتاج الناقص للمراعي بشراء العلف المركّب الذي لا ينفكّ ثمنه يرتفع من سنة إلى أخرى منذ رفع الدعم عليه.

ه. عرقلة حركة تنقل الحيوانات البرية وقطيع الماشية
مسألة أخرى لا تقل أهمّية عما سبق ذكره وتتعلق بعرقلة حركة تنقّل الحيوانات. فالمساحة الرعوية التي سيقع إقتطاعها يبلغ طولها حوالي 70 كيلومترا وعرضها حوالي 24 كيلومترا وهو ما يعني وضع حاجز طويل جدّا أمام حركة تنقّل عديد الحيوانات البريّة وخاصة منها الغزال الابيض النادر الوجود والذي يتنقّل بين مراعي الظاهر ومحميّة "صنغار" الموجودة غرب منطقة المشروع وهو ما يعني التأثير السلبي على تكاثر هذا الحيوان النادر وربّما إنقراضه. لكن قطيع الماشية هو أيضا سيتضرّر من إقتطاع المساحة المذكورة بإعتبار وأنّها ستكون أيضا حاجزا امام تنقّل الحيوانات بحثا عن المرعى داخل منطقة الظاهر بإعتبار وأنّ منطقة المشروع تقع تقريبا وسط مراعي الظاهر وتقسمها إلى شطرين. هذه الوضعية لا يمكن إلاّ أن تزيد في إنفجار الصراعات التي تكون في أغلب الأحيان دامية والتي تعرفها المنطقة حول ممرّات الحيوانات (Couloirs de transhumance) وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر الصراع الدامي بين بعض القبائل المستعملة لمراعي الظاهر الذي عاشته المنطقة سنة 2010 وأدّى إلى خسائر بشرية لم يتحدّث عنها الإعلام البنفسجي.
و. إعادة توطين الجراد بالجنوب التونسي
إنّ كلّ ما تعرّضنا له من سلبيات مدمّرة للبيئة وللتوازن البيولوجي وللإقتصاد الفلاحي لا يضاهيه التدمير الذي يمكن ان يحصل لا فقط لمنطقة المشروع وإنما لكامل الجنوب التونسي لو يقع الإصرار على هذا المشروع مع عودة الجراد إلى تونس وتوطّنه بهذه المنطقة.
فالمعروف بأنّ الموطن الحالي للجراد هي "سافانا" (Savanes) بعض بلدان الساحل الإفريقي حيث توجد منطقة التكاثر للجراد بين جنوب موريتانيا والشمال الشرقي للسنغال وغرب مالي. ويهجم الجراد من حين لآخر على شمال إفريقيا ومنها تونس خاصة خلال سنوات الجفاف التي تضرب بلدان الساحل الإفريقي وذلك بحثا عن الغذاء (علما وأنّه سجّل وجود الجراد منذ أيام بالجنوب الليبي وهو يقترب من حدودنا الجنوبية). لذلك فإنّ غراسة مساحة كبيرة من الأشجار ذات الكثافة العالية سيخلق منطقة رطبة (Une zone humide) لا يمكن إلاّ أن تمثّل بؤرة (Foyer) لاستيطان الجراد الدائم للصحراء التونسية التي تصبح بذلك موطنا له يتنقّل منه إلى الأقطار المجاورة (ليبيا والجزائر) وهو ما سيخلق حتما صراعا بين تونس وهذه الدول على خلفية ذلك. فلن تقبل الدول المجاورة بتاتا بمثل هذا المشروع الذي يمثّل خطرا على مواردها الفلاحية وبالتالي على غذاء شعبها نظرا للطبيعة المدمّرة للجراد الذي يأكل الأخضر واليابس.
 الهدف الخفي هو دفن النفايات النووية
إنحسار الحلول أمام المافيا العالمية لنقل ودفن النفايات النووية خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد تقدّم العديد من البلدان في المجال الديمقراطي وخاصة الدول التي كانت تمثّل مصبّا كبيرا للنفايات النووية مثل بعض الدول الإفريقية ومنها خاصة الكوت ديفوار والتشاد وبعض دول أوروبا الشرقية مثل أوكرانيا وجورجيا. هذه المافيا أجبرت على البحث عن بديل لتلك الدول ووجدت ضالتها في الدول الدكتاتورية مثل تونس أو الدول التي لم يعد يوجد بها نظام مركزي مثل الصومال والعراق وأفغانستان. لكنّ المافيا العالمية لا تبحث فقط عن الحلول التقنية وإنما تربط ذلك بالكلفة بإعتبار وأنّ رأس المال لا يضع أمام نصب عينيه إلاّ الربح والربح الأقصى دون الإكتراث بصحة الإنسان أو الحيوان أو بالحفاظ على البيئة.
وبما أنّ تونس تمثّل أقرب بلد للإتحاد الأوروبي الذي يعتبر أكبر منتج للنفايات النووية وبما أنّها أصبحت تحكم من طرف المافيا (عائلات بن علي والطرابلسي وأصهارهما) فقد وقع التركيز عليها وإقناع الرئيس المخلوع بجدوى موافقته على قبول دفن النفايات النووية في الصحراء التونسيية بل لقد سال لعابه ولعاب المافيا المحيطة به بمبلغ الإستثمار الجملي للمشروع وبتعدّد مكوناته (مشروع فلاحي ، سكة حديد ، معمل لتحلية مياه البحر ، مخازن ...) وهو ما يمثّل للمافيا منبعا كبيرا للنهب. وهي لعمري طريقة ذكية إبتدعتها "مافيا ردم النفايات النووية" العالمية يإرشاء النظام العميل لقبول تركيز المشروع.
أمّا أهمّ الدلائل على أنّ الشركة السويسرية ستعمد إلى دفن النفايات النووية فنوجزها فيما يلي :
أ. إغداق المجمع السويسري المال على مكتب الدراسات التونسي
من المعروف أنّ مكاتب الدراسات عندما تقدّم عروضها لإنجاز دراسة ما تعمل على الأخذ بعين الإعتبار طبيعة المشروع الذي ستقوم بدراسته إذ هناك 3 أنواع من المشاريع الفلاحية ولكل نوع منها كلفته. فالنوع الأول يضمّ المشاريع الفلاحية المندمجة (أي مشروع يضمّ الإنتاج النباتي والحيواني وتحويل الإنتاج...) وتكون كلفة إنجاز الدراسة أعلى من كلفة الأنواع الأخرى. والنوع الثاني يضمّ المشاريع ذات الإنتاج الأحادي (إنتاج حيواني أو إنتاج نباتي أو صناعة غذائية ...) وتكون كلفته أقل من كلفة النوع الأول. أمّا النوع الأخير فهو الذي يضمّ المشاريع التي ترتكز على الزراعة الأحادية (monoculture) مثل المشروع السويسري المعني فهو يعتمد على زراعة الكلاتوس فقط وتكون كلفته أقلّ من كلفة الأنواع السابقة. أردنا من خلال هذا التقديم أن نعطي فكرة على كيفية تحديد كلفة دراسة مشروع فلاحي حتى نفهم لماذا في واقعة الحال قامت الشركة السويسرية بإغداق المال على مكتب الدراسات بشكل لافت للإنتباه. فمكتب الدراسات حدّد كلفة الدراسة بـ 80 ألف دينار لكنّ الشركة السويسرية قامت بصرف 50 ألف دينار أخرى لمكتب الدراسات دون طلب منه لتصل الكلفة إلى 130 ألف دينار بالتمام والكمال وهو مبلغ يفوق بكثير كلفة دراسة مشروع يرتكز على الزراعة الأحادية. والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا قامت الشركة السويسرية بصرف كل هذه الأموال على دراسة لا تستحق كل هذا المبلغ ؟ وهل يعقل أن تقوم شركة راسمالية أجنبية تبحث عن الربح ولا شيء غير الربح على صرف كل هذا المبلغ لو لم يكن لها هدف خفي وراء ذلك ؟ أكثر من ذلك قامت الشركة السويسرية عبر الوسطاء الإيطاليين بإرسال 4 مهندسين من مكتب الدراسات المذكور إلى إيطاليا لقضاء أيام في الراحة والإستجمام على حسابها ردّا للجميل المتمثّل في عدم التحفّظ على إنجاز هذا المشروع أو الإشارة إلى أهدافه الخفية. أفليس ذلك دليل كاف للتدليل على أهدافهم المبيّتة ؟
ب. صرف أموال باهضة على مشروع في قلب الصحراء ورفض تغيير موقعه
لا أعتقد بأنّه يمكن أن يختلف إثنان على أنّ الشركات الرأسمالية ، مثلما هو حال المجمع السويسري ، لا تفكّر إلاّ في الربح والربح الأقصى وما إختيارها لبلدان الجنوب كتونس مثلا لدليل على ما نقول. ولا أعرف شخصيا شركة واحدة إستثمرت في بلد من بلدان الجنوب من أجل سواد عيون شعبها كما يقال. فقيمة الإستثمار تناهز 900 مليون يورو (أي 1800 مليار من مليماتنا وهو ما يمثّل حوالي عشر ميزانية تونس) فلماذا يصرّ هذه المجمع السويسري على تركيز مشروعه في قلب الصحراء في منطقة وعرة جدّا حتّى الوصول لها عسير جدا. وأتذكّر شخصيا ما قاله لي السائق الذي صاحبني في زيارة هذا المشروع منذ أسابيع ونحن في طريق العودة إلى قابس حيث قال لي : «إذا كنت ستزور هذا المشروع أسبوعيا فعلينا التفكير في تغيير عجلات السيارة على الأقل مرة في الشهر». أمّا سبب هذا التصريح فهو حالة الطريق الوعرة جدا وخاصة عند إجتياز جبل "ماطوس" على طول حوالي 10 كيلومترات حيث تكثر حجارة الصوّان المذبّبة كالسهام والتي تتسبب في إتلاف عجلات السيارات وقد كانت بقايا عجلات السيارات المتناثرة على يمين وشمال الطريق دليل على ملاحظة زميلي السائق. من ناحية أخرى علمنا أنّ وزارة الفلاحة إقترحت على المستثمرين السويسريين تمكينهم من قطعة أرض أخرى في شمال البلاد أين الظروف المناخية افضل من ظروف الصحراء واين المسالك والطرقات افضل بكثير مما هي عليه مسالك المشروع لكنّ أصحاب المشروع رفضوا كل الحلول البديلة وأصرّوا على تركيز مشروعهم في منطقة الظاهر. فلماذا كلّ هذا الإصرار على هذه المنطقة ورفض مناطق بديلة يا ترى لو لم تكن لهم نوايا أخرى خفية مرتبطة بالهدف الأصلي للمشروع ؟
مسألة أخرى تجلب الإنتباه وهي تتعلّق بإمتلاك أصحاب المشروع لدراسة جاهزة أتوا بها معهم لكنهم رفضوا تمكين مكتب الدراسات من نسخة منها. فهل يعقل أن يرفض صاحب مشروع أن يمدّ مكتب دراسات كلفه بإنجاز دراسة له وعدم تمكينه من الوثائق التي هي في حوزته من أجل تسهيل عمل ذلك المكتب وبالتالي الضغط على تكلفة الدراسة ؟ لكنّ السؤال الأخطر هو من قام بالدراسة التي يملكها اصحاب المشروع ومتى وكيف ؟ إنني اجزم بأنّ الدراسة التي رفض السويسريون تقديم نسخة منها تتعلّق بالطبقات الأرضية لمنطقة المشروع والتي أراد السويسريون معرفتها بشكل جيد للتأكّد من إمكانية نجاح عملية دفن النفايات النووية في عمق الصحراء وهي دراسة يمكن القيام بها عبر معالجة الصور التي ترسلها الأقمار الصناعية التي تملكها الدول الإمبريالية والتي تغطيّ كامل الكرة الأرضية ومنها تونس طبعا.
ج. بناء سكة حديد تربط بين موقع المشروع وميناء جرجيس
أمّا إحدى أهمّ الأدلّة التي تفضح أصحاب المشروع فهي إصرارهم على ربط موقع المشروع بميناء جرجيس عبر بناء سكّة حديد تربطه بمحطّة قفصة شمالا وبناء خط ثان يربط محطّة قابس شرقا بجرجيس وهو ما سيتطلّب أموالا باهظة أيضا. فإذا كانت سكة الحديد هي لنقل الخشب من منطقة المشروع إلى ميناء جرجيس لتصديره من هناك ، لماذا لا يستعمل المستثمرون السويسريون الطرقات الموجودة للقيام بذلك عبر شاحنات نقل البضائع كما تفعل شركات النفط المتواجدة بكثرة حول منطقة المشروع ؟
لكنّ الجواب عن هذا السؤال يمرّ حتما عبر الإطلاع على وسائل نقل النفايات النووية التي تستعملها الشركات المتخصصة في هذا الميدان. فقد تأكّدنا بصفة تكاد تكون كلية بأنّ حوالي 90 % من هذه النفايات لا تنقل إلاّ عبر القطارات وذلك تفاديا لحوادث المرور التي يمكن أن تتسبب فيها الشاحنات على الطريق. فالمعروف بأنّ حوادث القطارات هي اقل بكثير من الحوادث التي تقع على الطرقات. فعملية نقل النفايات النووية هي محكومة بقوانين عالمية تصدرها الوكالة العالمية للطاقة الذرية (AIEA) بينما تخضع عملية حماية المنشآت النووية لقوانين داخلية للدول التي بها هذه المنشآت وهو دليل على خطورة النقل البري. لذلك نقول أنّ إحتواء المشروع على برنامج لبناء خطوط لسكة الحديد هو الدليل الأبرز على إعتزام مافيا نقل ودفن النفايات النووية تحويل منطقة المشروع إلى مقبرة لتلك النفايات.
د. العلاقة بين السويسريين والإيطاليين أو المافيا العالمية للتخلّص من النفايات النووية
لقد أكّدنا فيما سبق بأنّ هذا المشروع مليء بالغرائب والعجائب (من إغداق الأموال على مكتب الدراسات إلى الحديث عن خلق 45000 موطن شغل مرورا بالحديث عن إنتاجية بـ 50 طن في الهكتار) لكنّ أكبر الغرائب تتمثّل في ظهور الإيطاليين فجأة على السطح مكان السويسريين. فالمجمع الذي تقدّم بطلب إنجاز هذا المشروع في تونس هو المجمع السويسري لكن يبدو أنّ الفاعلين فيه هم الإيطاليون. فالرئيس المساعد للمجمع الذي أمضى العقد مع النظام التونسي ممثلا في المدعو فؤاد دغفوس وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية هو من أصل إيطالي ويدعى ألدو بونالدي كما أنّ عددا كبيرا من أعضاء مجلس الإدارة هم إيطاليون. فلماذا يتواجد الإيطاليون في شركة سويسرية ؟ في الحقيقة ربما هناك من يعتبر أنّ هذا السؤال ليس له محل من الإعراب في ظل ما تعيشه الشركات الرأسمالية العالمية في ظل العولمة من حركية رأس المال فالشركات المتعددة الجنسيات (Multinationales) هي التي تكاثرت مقارنة بالشركات فوق القومية (Transnationales) وبالتالي لا غرابة في أن نشاهد في مجلس إدارة المجمع السويسري المذكور رؤوس اموال من إيطاليا. طبعا هذا الكلام صحيح لو لم يتعلّق الأمر بنوعية نشاط هذا المجمع من ناحية وبالعلاقات التي تربط بين السويسريين والإيطاليين في مجال نقل ودفن النفايات النووية من ناحية أخرى. فمنظمة قرينبيس إيطاليا (Greenpeace Italie) أصدرت تقريرا هاما جدا في شهر جوان 2010 يتعلّق بجرائم نقل ودفن النفايات النووية في العالم تحت عنوان "البواخر السامة. المحور الإيطالي ومنطقة البحر المتوسط وإفريقيا". وقد أكّد هذا التقرير بأنّ المافيا الإيطالية (التي تتكفّل بعمليات النقل) تبحث في أغلب الأحيان عن الشراكة مع مؤسسات سويسرية لتقوم هذه الأخيرة بتبييض الأموال التي تحصل عليها المافيا من الشركات التي تريد التخلّص من نفاياتها. وقد خصّص التقرير لهذه المسألة فقرة كاملة (الصفحة 12 و13) تحت عنوان "المشاركة السويسرية" حيث نقرأ "منذ الثمانينات عمد محامون سويسريون وقضاة ورجال أعمال بالإتصال بالشركات الأوروبية التي تريد التخلص من نفاياتها الصناعية أو النووية للتعامل مع شركات سويسرية تحت أسماء مستعارة لنقل النفايات للبلدان الإفريقية التي كانت الوجهة المحبّذة لفساد أنظمتها وكانت الأموال تودّع في البنوك السويسرية السرية". لذلك فإننا نجزم بأنّ المجمع السويسري لإنتاج الخشب هو ليس إلاّ غطاءا لتبييض الأموال وذلك إعتبارا للسمعة الممتازة التي يملكها السويسريون في المسائل المالية والتي بدأت المافيا (لا فقط الإيطالية وإنما العالمية) تستغلها لتنفيذ مخططاتها الجهنمية.
ولنبدأ بلمحة تاريخية عن طريقة وكيفية تخلّص البلدان الأوروبية من النفايات الصناعية والنووية.
لقد واجهت الدول الأوروبية منذ تطور التصنيع فيها في مرحلة أولى وإعتمادها على الطاقة النووية في مرحلة ثانية ، مشكلة التخلص من النفايات الصناعية وخاصة النووية. فعملية التصرف والتخلص من هذه النفايات حسب المواصفات الأوروية تعتبر باهضة جدا لذلك إعتمدت الدول الأوروبية على الحل الأسهل وهو التخلص من هذه النفايات برميها في البحر (طبعا بعيدا جدا عن شواطئها) وهو ما ساهم في تلويث عديد البحار وهو دليل آخر على أنّ الرأسمالية لا تفكّر إلاّ في الربح ولا شيء غير الربح. وكما قال العالم البيئيئ جون ماري هالريباي Jean-Marie Harribey في مقال سمّاه "الماركسية البيئية" فإنّ "القرن العشرين إنتهى على أزمة عامّة نتيجة عولمة الإقتصاد الليبرالي وهذه الأزمة تتمظهر في تدهور مسألتين إثنتين : أولا تدهور إجتماعي كبير جدا شمل الطبقات المسحوقة حيث يعيش خمس سكان العالم بأقل من دولار واحد في اليوم وثانيا تدمير بيئي لم يسبق له مثيل شمل كل المكونات البيئية (الماء ، الهواء ، التربة ، السماء : طبقة الأوزون). وهذا دليل على أنّ النظام الرأسمالي لا يعطي أي أهمية للإنسان (الذي يعتبره مجرّد يد عاملة يجب إستغلالها لتكديس الأرباح) ولا للبيئة (التي يعتبرها مجرّد وسيلة إنتاج يستنزفها كما يشاء) وهو تأكيد لما سبق وأن أشار إليه كارل ماركس وفريدريك أنجلس في البيان الشيوعي حيث قالا بأنّ "الرأسمالية تدمّر لا فقط قوى الإنتاج وإنما أيضا البيئة". غير أنّ النضالات الكبيرة التي خاضتها منظمة قرينبيس في أوروبا لمقاومة رمي النفايات في البحر وخاصة في بداية التسعينات (قدمت عديد الشهداء الذين وقع دهسهم بالقطارات التي كانت تحمل النفايات نحو بعض الموانئ الإيطاليية المتخصصة في هذا المجال وأشهرها ميناء "سبيزيا" Spezia) أثمرت إصدار الإتحاد الأوروبي لتشريع جديد يمنع رمي النفايات في البحر فيما عرف بـ "معاهدة لندن" سنة 1993. ومنذ ذلك الحين بدأت عمليات البحث عن البلدان التي يمكن أن تكون "مقبرة" للنقايات الصناعية والنووية تعويضا لعملية رميها في البحرولم يضيع الأوروبيون وقتا طويلا في البحث حيث مثّلت البلدان الإفريقية الحل للمافيا العالمية للتخلص من النفايات إذ كانت أغلب البلدان الإفريقية (إلى حدود أواسط سنوات 2000) تحكمها دكتاتوريات مستعدة لا فقط لدفن النفايات وإنما لإبادة شعوبها من أجل خدمة الإمبريالية مقابل المحافظة على كراسيها. لكن بإنخراط أغلب هذه البلدان في مسار "ديمقراطي/إنتخابي" (ساحل العاج ، السينغال ، مالي ، النيجر ، التشاد ، بوركينا فاسو ...) من ناحية وتطور المجتمع المدني وخاصة الجمعيات البيئية وتجذّره من ناحية أخرى توجهت المافيا إلى البلدان التي ليس لها نظام حكم مركزي قوي (الصومال ، العراق ، السودان ...) أو البلدان التي لازالت ترزح تحت الدكتاتورية مثل تونس. وفي هذا الإطار يتنزّل إختيار المجمع السويسري على تونس سنة 2008 حيث كانت مافيا عائلتي بن علي والطرابلسية والعائلات القريبة والمتصاهرة مستعدّة لبيع تونس (وقد باعتها فعلا عبر بيع المؤسسات والأراضي للرأس المال الاجنبي).
ولنعد إلى إيطاليا لنقول بأنّها الدولة التي تمتلك أكبر عدد من البواخر المخصصة لنقل هذه النفايات ضمن دول المتوسط وقد تعرّض تقرير منظمة قرينبيس بكل إطناب لهذه المسألة حيث قام بجرد كامل للأسطول البحري الإيطالي الذي تستعمله المافيا لنقل النفايات. وللذكر لا الحصر (لأنّ القائمة طويلة) يمكن ذكر البواخر التالية :
* باخرة "لينكس" Lynx : أجرتها شركة إيطالية Jelly Wax في شراكة مع شركة سويسرية Intercontract SA ووقع نقل النفايات النووية إلى سوريا وجيبوتي
* باخرة جولي روسو
إستعلمتها نفس الشركتين المذكورتين لنقل النفايات إلى جيبوتي وفينزويلا
* باخرة ريقال Rigel
إستعلمتها نفس الشركتين المذكورتين لنقل النفايات نحو لبنان والصومال
* باخرة أكباي 1 Akbay
أجرتها عدة شركات إيطالية تحت إمرة شركة Sirtaco في شراكة مع شركة سويسرية Swiss Company Named Eldip SA ووقع نقل النفايات النووية إلى رومانيا
لاحظوا أنّه بالنسبة لكل البواخر المستعملة كانت الشراكة الموجودة هي بين الشركات الإيطالية والسويسرية وهو ما ينطبق على قضية الحال أي على المشروع السويسري لإنتاج خشب الكلاتوس في الصحراء التونسية. لكن هذه المرة الشراكة ليست بين شركتين منفصلتين وإنما شراكة داخل نفس الشركة وهو ما يعطي أكثر مرونة في التصرف والتحرك ويقلل من جلب الشبهات.
الخاتمة : على حكومة 23 أكتوبر المؤقتة فسخ العقد مع المجمع السويسري
رغم أنّ الحكومة الحالية ، حكومة 23 أكتوبر، أكدت في العديد من المرات أنها ستلتزم بكل العقود والمعاهدات السابقة فإنني أطالبها بفسخ العقد مع المجمع السويسري المذكور وسأحرجها أمام هذا الجيل وأحملها المسؤولية امام الأجيال القادمة. فهذا المشروع حتّى ولو خصّص فقط لإنتاج خشب الكلاتوس كما يروجون فإنّه سيدمّر البيئة لا فقط في منطقة المشروع كما ذكرنا آنفا (إستنزاف مياه ولاية تطاوين ،تملّح المياه والتربة...) وإنما سيزيد في تدمير خليج قابس بما سيفرزه معمل تحلية المياه الذي سيقع تركيزه في جرجيس وسيخلق خاصة موطنا دائما للجراد ممّا يهدّد كامل الجنوب والوسط التونسي). أمّا إذا مرّ السويسريون والإيطاليون لتنفيذ مشروعهم الخفي المتمثل في دفن النفايات النووية فتلك جريمة كبرى لا تغتفر ستحاسبنا عليها الأجيال القادمة.
وأختم بالقول : أمامنا أهدافهم ومشاريعهم وأماهم صمودنا ومقاومتنا فإما إشتراكية أوبربرية.



#عبدالله_بنسعد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- غرّة ماي مابين سنتي 1886 و1889 من إنتفاضة العمّال بشيكاغو إل ...
- الأهداف الإستراتيجية للحرب على الإرهاب
- الأهداف الإستراتيجية للحرب الإمبرياليّة على العراق (الجزء ال ...


المزيد.....




- وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق ...
- جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
- فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم ...
- رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
- وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل ...
- برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية ...
- الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في ...
- الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر ...
- سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبدالله بنسعد - المشروع الفلاحي السويسري بالصحراء التونسية : هل هو حقا لإنتاج خشب الكلاتوس أم لدفن النفايات النووية ؟