|
التحولات التاريخية للفرد من مؤمن إلى مواطن
محمود الفرعوني
الحوار المتمدن-العدد: 3623 - 2012 / 1 / 30 - 20:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بعد تاريخ طويل فضل الإنسان الفرد الحياة في مجتمع طلباً للحماية والأمن؛ المجتمع هذا الإطار الجديد من الحياة البشرية كان لكي يبدأ أو يستمر ويتطور في حاجة إلى شبكة من العلاقات التوافقية يقبلها الجميع ويلتزمون بها؛ أما القبول فالوصول إليه ميسور بالرضا أو بدرجة من درجات القهر تقل أو تزيد وفق ظروف لا نعلمها اليوم كيف تمت لكننا على يقين أنها حدثت؛ المشكلة الحقيقية كانت في الالتزام بها؛ أكتشف الإنسان سريعاً أن القبول لا يعني الالتزام فمن الذي يضمن عدم نزول شخص ما إلى حقل جاره للحصول على ثمار ليست له. الأخلاق كانت الأداة الضرورية لترسيخ الالتزام بالمبادئ التي ارتضاها الجميع بالرضا أو بالقسر ومن هنا يمكننا القول أن الأخلاق معطى إنتاجي أكثر منها معطى دينياً لأنها ببساطة كانت سابقة على كافة الأديان. اكتشف الإنسان منظومة الأخلاق مبكراً في وادي النيل كأساس شرعي للالتزام ومعاقبة الخارجين عليه لكنها لم ترق إلى فاعلية القانون كما هو الحال الآن. غياب المؤسسات كما نعرفها اليوم وهو أمر طبيعي في ذاك الوقت المبكر؛ كانت وراء عدم قدرة المنظومة الأخلاقية على ضبط المجتمع والسيطرة على نوازع الانفلات لدى البشر. وصار واضحا للنخبة في وقتها (القيادات والكهنة) أن الأخلاق وحدها غير كافية ولابد من وجود علاقة أكثر تأثيراً على الفرد تحول بينه وبين الانفلات والاعتداء على أرواح وأملاك الآخرين خاصة في عدم وجود شهود من البشر. بذلك تقلصت فكرة مراقبة الإنسان لذاته وصار من الضروري تسويق مقولة أو بديهية وجود مراقبة عليا خارج الإنسان وخارج المجتمع ترى وتراقب وترصد كل شيء في حين لا أحد يراها. كان هذا التحول الهام وأحداً من التحولات التاريخية في صيرورة الفرد ولكن كان يمكن التراجع عنه في حينه وبذلك يجب أن تتحول هذه المقولة إلى بديهية غير خاضعة للنقاش أو المنطق وهو الأمر الذي تم ونجح نجاحاً باهراً في بدايته؛ فأمون هو الإله الخفي الذي لا يراه أحد كجزء ضروري من أولويات الإيمان. تسويق الفكرة تم في أكثر من مكان لكن بدايتها كبداية أية فكره ظهرت من عند أجدادنا الفراعنة كأول حضارة في تاريخ البشرية؛ الفكرة في حقيقتها فكرة فنيه للخروج من مأزق إنساني. آلاف الكهنة في معابد مصر وبين النهرين والهند أوقفوا حياتهم من أجل إخراجها إلى الوجود المادي رغم أنها فكرة خيالية؛ لكن احتياج البشر والعملية الإنتاجية إليها كان يزيل كل الحواجز من أمامها وانتهت المسابقة نهاية باهرة وكانت الجائزة الكبرى هي ظهور عشرات الأديان إلى الوجود تقوم أساساً على فكرة الشهادة المراقبة والإحصاء تمهيداً ليوم الحساب المخيف؛ المثير أن اليهودية جعلت الحساب الإلهي على الأرض وليس في السماء لان الله في رأيهم إليه حياء وليس إله أموات لكنهم لم يحيدوا عن بديهية المراقبة والإحصاء. في النهاية كانت النتيجة أن الكهنة تمكنوا بعد تعب طويل من صنع إنسان جديد على هواهم هو الإنسان المؤمن عضو جماعة المؤمنين وهو في الحقيقة شبيه بالإنسان الآلي تحركه خيوط غير مرئية تربطه بالكهنة الذي يتبعهم. بهذه البديهية تحول الفرد إلى مؤمن يرعى حقوق الغير مثل رعايته لنفسه وأهله وصارت نوازع الانفلات البشرية تحت السيطرة تماماً دون الحاجة إلى مؤسسات عقابية أو قانونية وهي بالتأكيد خطوة متقدمة لكن متقدمة بأي مفهوم؟ المفهوم الواضح هو الحفاظ على الملكية الفردية وصونها من أي اعتداء وهي واجبات الفرد تجاه المجتمع في حين أن الحقوق لم تكن مصونة بنفس القدر وبنفس الوضوح. صحيح أن واجبات فرد ما هي في المقابل حقوق لفرد أخر في المجتمع غير أن المفارقة أن شرط تحقق هذا لابد أن يكون الأفراد متساوون منذ البداية وهو الذي لم يكن قائماً وقتها حتى على المستوى الأخلاقي فالعبد غير الحر والرجل غير المرآة. فالفرد المؤمن عليه كذا وكذا من الواجبات وعدم قيامه بها يعرضه للعزاب يوم الحساب أما حقوقه ففيها شك كثير. ومن هنا كانت علاقة المؤمن بأمير المؤمنين علاقة غير تعاقديه وخطبة الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أكبر دليل حين قال " أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه على فيئه أقسمه وأعطيه بإذنه". المجتمع الإسلامي؛ وكانت مصر جزء منه ارتبط بالإرادة الإلهية وأن مصدر التشريع هو القرآن الكريم؛ وذلك يستدعي النظر إليه بشكل يختلف عن مفهوم الدولة في الحضارة الغربية حيث الشعب هو مصدر السلطات. هذه النقطة كانت ولازالت تثير جدلاً واسعاً بين المفكرين العرب والمسلمين في الوقت الراهن. وكان ذلك سبباً في تأخير ظهور مفهوم الدولة بمعناها الحديث في مصر حتى محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. ورغم رضوخ الجميع الآن لمقولة الشعب هو مصدر السلطات لكنه ولأنه رضوخ ظاهري لا يمكن مقاومته أكثر منه اقتناع حقيقي فتحاول القوى الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان المسلمين والسلفيين الالتفاف حوله وتفريغه من محتواه مثال ذلك موقفهم من المرآة والأقباط في تولي منصب " الإمامة الكبرى" وتصميمهم على استخدام هذا المسمى الديني الذي عفي عليه الزمن. كان التحول من مؤمن في مجتمع المؤمنين إلى مواطن قد أخذ وقتاً كثيرا في مصر؛ وعندما جرى ذلك كانت هناك مفارقة عبثية كون الدولة المصرية لازالت جزء من مجتمع أخر هو العثماني والذي تحكمه إلى حد كبير فقه جماعة المؤمنين وليس قوانين الدولة رغم أن أسمها الدولة العثمانية. دليلنا على ذلك أن أمير المؤمنين في تركيا خاطب المصريين عشية الحملة الفرنسية بقوله " إلى جماعة المؤمنين المحمديين" في حين خاطبنا نابليون باسم " الأمة المصرية" وكان العدو أكثر احتراماً لنا من الحاكم المسلم الصديق؛ وبعد فشل الحملة أصر أمير المؤمنين التركي على جمع الجزية المتأخرة عن سنوات الحملة الثلاث. محمد علي هو من صنع البداية في تحول المجتمع المصري إلى دولة مصرية؛ وسعيد باشا هو من رفع الجزية عن أقباط مصر دون أية حوارات دينية متجاوزاً بذلك الدور التقليدي الرجعي للأزهر. المواطن في دولة يحكمها دستور وضعي (دستور 23) أنهى وإلى الأبد حالة المؤمن في مجتمع المؤمنين وحوله إلى مواطن في دولة دستورية تعاقدية عليه واجبات وله حقوق يرسمها الدستور؛ صحيح أن التجربة شابتها عوامل قصور عديدة لكنها كانت الرائدة في المنطقة ومن الصعب أو ربما المستحيل النكوص عليها؛ غير أن هذه الاستحالة ليست معطاً تلقائياً لكنه مجهود ونضال حقيقي لابد من ممارسته من القوى الليبرالية والمدنية في وجه من زال يتربص بنا من جيش الإسلام السياسي. كان التحول من مؤمن في مجتمع المؤمنين إلى مواطن في دولة تعاقدية خطوة ونقلة نوعية إلى الإمام لكن هل هي نهاية التاريخ؟ فإذا كان الوطن شيء مقدس برقعته وحدوده الجغرافية؛ فإن الدولة كائن متغير وهي وفق مفهوم جون لوك للعقد الاجتماعي تقوم على أساس اتفاق حر بين طرفين متكافئين مع إعطاء الطرف الاصيل في هذه الاتفاقية وهو الشعب الحق في نقضه حين ينتهك الطرف الأخر وهو الحاكم الحق الطبيعي للأفراد حين يقوم بفرض سيطرته وجبروته؛ في حين يرى ماركس أن الدولة هي عبارة عن المؤسسة التي تمثل مصالح الطبقة الحاكمة؛ وكلا القولين صحيح وقديم في نفس الوقت؛ فالأفراد صاروا أكثر قوة من خلال المجتمع المدني والطبقات تداخلت وانزاحت بينها الفوارق فلم يعد المجتمع منقسم إلى برجوازية وبلوريتاريا بشكل صارم كما كان في السابق. وإذا كان اختراع المطبعة قد قاد إلى الإصلاح الديني في أوربا وكانت المطبعة لا تقل فاعلية عن الصراع الطبقي عندما وفرت الكتاب المقدس إلى كل قارئ بعد أن كان حكراً على رجال الكنيسة فإن وسائل الاتصالات الحديثة تقوم بذات المهمة ونفس الدور ويتقلص يوما بعد يوم إمكانية انفراد حاكم ما بشعبه بمعزل عن كل العالم ويوقع به العزاب والقهر ودليلنا ما حدث في ثورة اللوتس بمصر وثورات الربيع العربي الأخرى. ومعنى ذلك وجود أفق جديد للتطور لم تعرفه البشرية ولم يتصوره حتى الفلاسفة التاريخيين الكبار وربما يكون هو المجتمع ما بعد الصناعي الذي بشر به الفن هايدي وتوفلر في كتابه المهم " الموجة الثالثة" وفيه تعود للأسرة الكبيرة الدور المحوري في الإنتاج ويتضاءل دور المصانع الكبيرة ومعها التقسيمة الطبقية الصارمة التي عرفها وشرحها ماركس ويومها ربما يتحول المواطن في دولة إلى مساهم في شركة كما تحول سابقاً من مؤمن إلى مواطن. وفي ظني أن المساهم في شركة سوف يكون أكثر إلماماً بواجباته وأكثر تمتعاً بحقوقه عن ذي قبل. الوطن مقدس لكن الدولة كانت ولا زالت مصدر للعزاب من ملايين المصريين وباقي دول العالم وما أسهل وما أهون عليها أي الدولة أن تفسد العلاقة التعاقدية والتي بشر بها لوك؛ والأدهى والآمر أن هذه الدولة في مصر ساعدت وساهمت وغضت الطرف؛ وإن أدعت غير ذلك؛ عن جماعة الإخوان المسلمين عندما بشرت ولازالوا يبشرون بالعودة إلى حالة المؤمن الذي يلتزم بالشريعة ويجحد القانون الوضعي تحت شعارهم القديم" الحاكمية لله". المرحلة التي نبشر بها تبدو غريبة وحتى مستهجنة عند الكثيرين طناً منهم أن المواطنة هي الأعلى والأرقى وحتى أكثر رومانسية من مساهم في شركة. دعونا نقول بداية أن الوطن باق وبالتالي الجديد أننا سنصير "شركاء في الوطن" بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس مواطنين كده وكده. ثانيا؛ دعونا نعود إلى فكرة آل توفلر وملخصها أن الأسرة النووية ستعود إلى حالتها الأولى " الأسرة الكبيرة" الأجداد والأبناء وزوجاتهم والأحفاد وتعود تحتل مكانها كمؤسسة إنتاجية وبالتالي سيتأكد مبدأ هام هو انه لا يوجد إنسان غير قادر على الإنتاج؛ إنتاج ما؛ هذه الأسر العديدة ستكون في حاجة إلى شركات عملاقة للتسويق عبر القارات؛ العلاقات بين هذه الشركات وبين الأسر مباشرة أو بينهما وبين شركات اصغر لن تكون في حاجة إلى بيروقراطية الدولة الشمولية؛ لن يكون مطلوب من الدولة سوى المحافظة على احترام الدستور وطاعة القانون ورفع يدها عن كل وسائل الإنتاج وترك الإنتاج للناس لان كل واحد مساهم في شركة وعارف واجبه إيه وحقوقه فين. من المؤكد أن المستقبل أكثر اتساعاً وثراء من أن يعبر عنه تصور واحد أو حتى عشرات التصورات لكنه من المؤكد انه صائر إلى المزيد من الحريات الفردية.
#محمود_الفرعوني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصراع حول تدخل الدولة (الدولة الشمولية)
-
حلم مصري يتحقق
-
لجنة تقصي الحقائق في المنيا
-
ما العمل
المزيد.....
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|