أنور مكسيموس
الحوار المتمدن-العدد: 3620 - 2012 / 1 / 27 - 21:43
المحور:
الادب والفن
الفصل الثاني عشر
انطلقت زهية في الصباح الباكر, قاصدة بيت بلال أبو سنة. قبل أن تدب الحياة في الدرب, وقبل أن تتلصص العيون من بين شقوق النوافذ والابواب, بعد خروج رجال الدرب وشبابه وصبيته للعمل , أو البحث عن الرزق.
وصلت زهية مهرولة الي هدفها, وطرقت الباب وهي تعرف يقينا أن بلال قد خرج منذ فترة طويلة للقاء المفتش.
نظرت أم نحمده من الشرفة وتعجبت لهذه الزائرة المبكرة فبادرتها قائلة: خير "يابت" يازهية؟!..."في حد مات"؟...
أجابتها زهية مطمئنة: كل خير, خير إن شاء الله...
شدت أم نحمده حبل الباب من أعلى فانفتح وهرولت زهية الى الداخل خشية أن يراها أحد!...
أحست أم نحمده, من التحفظ الشديد البادي على وجه زهية, عندما وصلت مكان جلوسها المعتاد أمامها على الأرض, بأن خطبا جللا قد حدث وأن خبرا شديد الوطأة سوف تلقيه هذه المتطفلة هذا الصباح.
أعادت زهية السلامات والتحيات مرة أخرى وهي تجلس على الأرض تحت بصر وتأمل أم نحمده, تلك المندهشة من ذلك الحضور المبكر؟!...
-خير يا"بت"...مظهرك يدل أن مصيبة كبرى قد حدثت!...
-لا لا صدقيني, الموضوع لا يخصك...لكني أعرف أنه يهمك...
ضاقت أم نحمده من هذا التباطؤ وذلك التسويف وقد تعلقت عيناها وافكارها بما يمكن أن يخرج من فم تلك المرأة, فبادرتها قائلة: إن لم تتكلمي, فاذهبي ولا تريني وجهك مرة أخرى!...
تلعثمت زهية قبل أن تفتح فاها, فهي صديقة مقربة جدا من سيدة, وأم نحمده تعرف ذلك جيدا, وتخشى أن تصفها بالغدر والخيانة...
لكن دفع أم نحمده وحثها على النطق نافذة الصبر جعلها تتكلم...
- الموضوع يخص الست سوسن, بنت عبد الرحمن بك المفتش...
كادت المرأة تنكفئ على وجهها وهي تدق على صدرها وتسألها في ذهول:
- ماذا حدث يا غراب البين...هل حدث شئ للست سوسن؟...انطقي!...
- لا لا لم يحدث شئ حتى الآن...لا تجذعي...لم يحدث شئ...
هدأت أم نحمده قليلا عندما سمعت عبارة حتى الآن, وبدأت تسبها وتلعنها لتلك "الخضة" التي سكبتها في أحشائها حتى انها كادت أن تقوم وتمسك أحد النعال لكي تضربها لكنها!...تراجعت وهي تقول لها :
- ما علاقة حضورك صباحاً والست سوسن؟!...
- سوف أقول لك, لكن تمهلي معي, فأنا لم أنم طوال اليل...
- يا بنت تكلمي!...أكملي!...ماذا حدث؟.
- "الولية" العقربة...سيدة...تريد أن تزوج ابنها حجاج للست سوسن...
دقت المرأة على صدرها مرة أخرى, ولكن في هذه المرة في دهشة واستغراب شديدين وهي تقول:
- هل جننت يا بنت!...حجاج العويل, "أبو زنون" نازل من أنفه علي فمه, يتزوج "ست الحسن" سوسن...هل جننت؟!...
- ما دخلي في هذا الموضوع...هذا ما تفكر فيه تلك العقربة, هي وزوجها "العفش" همام الزرايبي...
استندت أم نحمده بظهرها الى الحائط, وقد صمتت وهي تتأمل زهية, تلك التي التي لم تستطيع رفع وجهها نحوها, فشخصت ببصرها نحو الأرض...
لم يكن رفض أم نحمده لهذه الموضوع قاطعا, وتمتمت وهي في أشد العجب مما سمعت: حجاج, ذلك "العويل"...يتزوج بنت المفتش الصبية!...الطفلة!...هل هذا ما يدور فى رأس تلك المرأة الجامحة!...سيدة زوجة الزرايبي!...
انتبهت فجأة من تأملاتها, ولا زالت الكلمات عالقة على فمها: سوسن الطفلة!...كيف عرفت ذلك؟ ...أخبريني يا بنت بالتفصيل عما تعرفينه!...
بادرتها زهية قائلة: أنت تعرفين جيدا, أنهم يزوجون الفتاه فى أصغر من من ذلك بكثير...
قاطعتها أم نحمده: هذا يحدث فى بلادنا, التي تندث فيه الفتيات الصغيرات بين النساء, وهن يتدحثن في أخص الأمور النسائية والزوجية...هذا لا يحدث فى بيوت الأفنديات والأكابر...أخبريني كيف عرفت ذلك...أكملي ياغراب البين!...
تضايقت زهية من تلك اللهجة, التي أبدتها أم نحمده نحوها, وأظهرت ضيقها الشديد, فانتبهت أم نحمده وداعبتها وهى تنظر اليها وتضحك: تكلمي يابنت...أنا أضحك معك...
ترك الوجوم زهية وابتسمت وهي تكمل حديثها ولا زالت تنظر نحو الأرض:
بالأمس كنت عند سيدة, وكان عندها شاعر الربابة...
تلقفتها أم نحمده وهى تقاطعها:
- أنا أطلب منك كيف عرفت, لا أن تقصى على أحاديث فارغة...
- لو تصبرى ىا ست الستات...إصبري فسوف ترين كيف تخطط تلك الشيطانة لهذا الموضوع...فكر أبالسة!...
- تكلمى!... سوف أسكت...لن أقاطعك...
إستطردت زهية لتكمل: أخبرت سيدة شاعر الربابة, أن يذهب في إتجاه فيلا المفتش, ويقول مواله عن الفتاه التي حبسها أبيها وعشقت فارس , استطاع أن يصل الي قلبها ويتزوجها...
لم تسطيع أم نحمده, أول الأمر أن تلم بخيوط تلك الخطة, لارتفاع منزلتها عن هؤلاء النسوة اللاتي يرقدن فى قاع القرية أو النجع, فبادرتها نافدة الصبر:
- ما هذه التخاريف التى ترددينها؟!...شاعر ربابة وفارس وحجاج؟!...ما هذا الذي ترددينه؟!...
ردت زهية بسرعة لتهدئ من ضيق أم نحمده: لو تصبري ياستي, سوف تعرفين كل شئ, ثم استطردت قائلة: - أخبرت سيدة شاعر الربابة, ان يذهب كل يوم ناحية الفيلا, ويلقي مواله, حتى تسمعه في احدى المرات, سوسن بنت المفتش, او الست فريدة زوجته, والله أعلم بما تدبره تلك العقربة. هل تعلمين أن المطاريد كانوا بالأمس فى بيت همام الزاريبي...لقد إنتحت سيدة جانبا, بهلال الديب, وظلت تتحدث معه فى همس, وقتا طويلا, وزوجها "النطع" ينظر إليها, ويعود للترحيب بضيوفه, دون أن يكلف نفسه معرفة ما يدور فى منزله!....
- ألم تسمعي أو تعرفى شيئا مم تحدثوا به؟...
- لا...لكن أعتقد أنه شئ, بخصوص هذا الموضوع...
- كيف؟...
- لا أدري.
- لقد طلبت منى, أن أنشر فى البلدة, خبرا, أن سوسن بنت البك المفتش, عاشقة حجاج, وتشاغله, والولد شريف وإبن اصول, لا يخون المكان الذى يعمل به, كما انها ليست من ثوبه...
- ردت أم نحمده متمتمة: نعم نعم شريف وإبن أصول, لا يخونوا أو يعضوا الأيادي التى تمتد لهم...
- أكملت زهية: هذه إمرأة جامحة وطموحة!...
مسحت أم نحمده وجهها بالشال الذي تتلفح به, وهي لازالت مسندة رأسها الى الحائط, تفكر وتتأمل, ما اتت به تلك المرأة, الشديدة الإلتصاق بسيدة. سـألتها وهى على حالها هذه: أنا أعرف أن سيدة صديقتك المقربة منك جدا, وهناك اشياء بينكما لا يعرفها أحد...صح؟!...
- صح ياست الستات.
- فما الذي أتى بك, وانا بالأخص لتقولى لي هذا الكلام؟!.
- أولا لانك مخلصة للست فريدة هانم, وثانيا أنا لا أرضى ببهدلة هؤلاء القوم...حرام أن يفعل بهم, ما يدبر لهم...
نظرت اليها أم نحمده وصدقت على كلامها وقالت:
- فعلا لا يجب بهدلة هؤلاء القوم, لكن!..ما الذي يمكن أن يقوم به هؤلاء المطاريد؟!...ألا تخشين يابنت أن يعرف همام الديب, أنك أتيت هنا وأبلغتيني؟.
توسلت زهية لأم نحمده ألا يعرف أحد بهذا الموضوع, ثم قالت: أنا لا أعرف ماذا يدور برأس تلك الشيطانة...
طمأنتها أم نحمده, وأكدت لها, أنه لن يعرف أحد بهذا الموضوع. وتيقظت كي تطمأنها وتؤكد لها صدق وعدها, فقامت هي بنفسها, ولفت بلف بعض الأطعمة المتبقية, في خرقة, وأعطتها مكافأة لها وصرفتها وهي تقول: إنتبهي حتي لا يراك أحد وأنتي تخرجين من عندي!...إخلفي سكتك!.
إنصرفت زهية مطمئنة راضية, وسرحت أم نحمده, فيما حدث من قبل, من إهانة حجاج لها فى حضور فريدة هانم, وقد أوغرت صدر زوجها بلالا, حتي ينتقم من ذلك الصبى, وأبيه وامه.
لقد احس بلال بالمهانة القاسية. همام الزرايبى, ذلك الكم المهمل, الذى يرتزق بما يتهاون عنه بلال, يأتي ولده, ويهين زوجته.
وما أدراك بإهانة إمرأة أو فتاه فى الصعيد, وخصوصا ممن هم أقل أو دون المنزلة. لقد أقسم علي رد الإهانة على قدر إستطاعته, لكنه لن يدخل فى صراع مع المطاريد, الذين يأويهم همام الزرايبي. وقد تحولت رغبته في سيدة الى إنتقام.
واصلت أم نحمده إيغار صدر بلال, حتى أيقنت أن بلال لن يتراجع, عما صمم عليه. لكن بلال نبهها ألا تظهر شئ لسيدة, او أى أحد آخر. كانت خطته تقوم على أساس فصل الولد وابيه من تفيتش الباشا, وإعادتهم جياع حفاة, يستجدونه يوم عمل فى أى وقت, وأى عمل, وفى ذات الوقت سوف تكون سيدة, أقرب إليه من أى وقت مضى. لكن الأمور تغيرت الى شئ آخر؟!...
إسترجعت أم نحمده, فى شرودها, تراجع سيدة عن زواج حجاج من إبنتها الكبرى وطلبت له الصغرى, ثم تلكؤهم, وضعف همتهم, بعد أن كانوا فرحين, حتى قبل أن يوافق بلال...مجرد أن قال لهم, سوف أفكر...
إنه شئ يفوق خيالها, اسوعبته بصعوبة بالغة, أن تحاول تلك الحرباء – سيدة – الوصول الى الطبقات العليا. كيف تصل بتلك المعلومات لزوجها بلال, والى السيدة فريدة. ارتفع خيالها لما يمكن ان يحدث, وقررت أن تتحرك بسرعة. إن هذه المرأة الجامحة, الطموح, يمكن أن تفعل أي شئ للوصول الى مقصدها. ألم تقنعها من قبل بزواج حجاج من إبنتها الكبرى نحمده, وظلت بها, حتى أقنعتا كلتاهما بلال بذلك. ثم عادت وطلبت يد الإبنة الصغرى,ام العنز, وجعلت بلال وزوجته يعيدان حساباتهما ويفكران. والبنت هي طعام وملبس وعار, سوف ينزاح عن أكتافهما!!...
......................
في ذلك الوقت – وهو وقت راحة عبد الرحمن بك – كان شاعر الربابة قد إنطلق صوب الفيلا, مقصده ومعه ربابته, وحفيده الصغير.
إستيقظ عبد الرحمن بك على تلك الضوضاء, ونادى على الخدم فى غضب وثورة: ألم يتحرك أحد لاسكات ذلك الغبي؟!...
ردت فريدة هانم, وقد علمت أن ذك سوف يزعجه ويوقظه: لقد خرج الخدم لابعاده.
- ما الذى أتى بهذا الى هنا؟!...
- ربما أحد هؤلاء المساكين أتى كي يرتزق.
- ألا يعرف هؤلاء القوم أنه لا يأتي أحد هنا, إلا لو كان له عمل...شئ غريب!...
هدأت السيدة فريدة من غضبه, وهونت عليه الأمر, وقد سكت صوت شاعر الربابة, وسكتت معه ربابته, وقد لحق به الخدم وعنفوه, وابتعد عن تلك الناحية من الفيلا, لكنه على من صوته وربابته مرة أخري, كي يصل صوته - من بعيد- مرة أخرى الى الفيلا.
أمر عبد الرحمن بك, بإحضار بلال الذى لم يكن قد ذهب الى بيته, وسأله:
- أتعرف هذا الرجل الرذيل؟...
- نعم أعرفه...هو رجل غريب عن البلدة, وقد أتى هو وحفيده بلدتنا كى يرتزقوا.
- رجل لحوح...يبدو أنه فقير ومحتاج...خذ خمسة قروش ,اعطها له, ونبه عليه ألا يأتى هنا مرة أخرى!...
- حاضر سيادتك.
إنطلق بلال, وسار حتي مكان شاعر الربابة الذى فوجئ ببلال امامه, وهم أن ينطلق, لولا أن أشار بلال أن يتوقف, وهو يطمئنه, وقال له:
البك المفتش قلبه طيب, والله طيب جدا, ولا يعرف برودكم ورذالتكم...على أى حال قد أمر لك بهذه الخمسة قروش. لكن!...ألا تعرف أن هذه فيلا البك؟
كان بلال لازال يمسك بالخمسة قروش والخدم يتابعونه ويتحركون نحوه لانهاء تلك المشكلة التى قد تؤدى الى فصلهم...
تمسكن الرجل, وتجهل بمعرفته بأنه أمام فيلا البك, وهو ينظر الى تلك الثروة التى هبطت فوق رأسه فجاة ودون سابق إنذار, وهى قد تعادل أيام كثيرة يطوف ويتحرك في كل مكان وسوق ليجمع بضعة ملاليم قليلة جدا فى اليوم.
فوجئ بلال بالخدم من حوله, وهو يمسك بالخمسة قروش, فأسقطها في يده, وهو يقول:
حذاري أن أراك هنا مرة اخرى, أنت لا تعرف البك المفتش, إذهب ولا تعود هنا مرة أخرى!.
نظر الرجل غير مصدق, أنه تحصل أخيرا على الخمسة قروش, فظل يتفحصها باهتمام وسرور بالغين, وهو يشكر بلال والبك المفتش, وانصرف الى حال سبيله لكن!...الى حين.
.....................
فى مساء ذلك اليوم, عاد بلال الى منزله, متعبا مرهقا, واستراح قليلا, حتى أحضرت أم نحمده العشاء, ووضعته أمامه.
مد يده ليأكل, وقد شرد فى أمور كثيرة, وقد تمثل أمامه, منظر شاعر الربابة الغريب, كأنه سقط فى رأسه, رغما عنه, والخمسة قروش التى أعطاها له وهو مغيظ!...
أيقظته أم نحمده من شروده, وهى تسأله عن أحوال البك المفتش, وكيف سار يومه!.
نظر إليها أول الأمر بعدم اهتمام, ولما كررت ذلك, أفاق ونظر اليها شذرا وقال محتدا:
- منذ متى تسأليني؟!...وهل آتى كل يوم لأعطيك بيانا تفصيليا لما حدث وما يحدث!...ثم عاد مرة أخري لشروده وأكله. أعطته القلة ليشرب وينتبه لها, فأخذها منها بعصبية, ودقها بجانبه, على الأرض ناظرا اليها محذرا, ألا تقول أو تفعل شيئا آخر. لتتركه فى شروده وسرحانه وطموحه.
سكتت أم نحمده قليلا, وقد إنتقلت من أمامه الى يساره, تراقبه وتتفحصه وهو يأكل غائبا عن كل ما حوله, وفاجأته بسؤالها الذى سقط فوق رأسه كالصاعقه:
- هل أتى شاعر الربابة اليوم, إلى ناحية الفيلا؟!...
توقف بلال عن الأكل والمضغ, وكل شئ, ورفع رأسه وعينيه ناحيتها, فى دهشة واستغراب شديدين, حتى إنها خافت منه أول الأمر.
سألها بعد فترة تفحص وتأمل, مستفسرا غرابة ذلك السؤال:
- كيف عرفت ذلك؟!...
أحست أم نحمده بالسرور, لكنها عادت لتسأل: قل لى أولا, هذا الموضوع صحيح؟...وقد حدث ما سألتك عنه؟...
ثار فى وجهها, شغفا لما تعرفه, من خلفيات لهذا الموضوع, فنظرت إليه, وقامت وتركته.
كان شغفه, وحاجته لمعرفة ألغاز هذا الموضوع دافعا قويا له, جعله يذهب ورائها, ثائرا وملحا: كيف عرفت ذلك, أخبرينى!...
- لن أتكلم حتى تهدأ...
عاد ليجلس وهي معه, كاتما غيظه, وشغفه الشديد لمعرفة ذلك الأمر!.
ضحكت أم نحمده من منظره الغاضب اللحوح...لكنها تهيأت لإلقاء نبأ الحدث الجلل, الذى سوف يزلزل أركان بلال, ويغير كل شئ. قالت:
- لقد أقسمت, ألا أبوح بمصدر هذا لأحد, وأنت تعرف قسم الشريفة, وأنت تعلم من هم أهلى...وأريدك أن تقسم لى, أنك لا اليوم ولا أى يوم آخر تطلب مني, من أين عرفت ذلك...
تردد أول الأمر, لكنه لما لم يرى بدا من ذلك, أقسم وهو يتعجلها:
- هيا تكلمى!...والله وإلا...
عرفت أم نحمده أن هذا هو نهاية الحديث السلمى, ففتحت فاها وقالت:
- سيدة...
- سيدة؟!...سيدة من؟!...سألها بلال, مندهشا ومتعجبا.
- زوجة همام الزرايبي, ما بك يا رجل؟!...سيدة هى من أرسلت ذلك المعتوه...
- سيدة!؟...ولماذا ترسل سيدة شاعر الربابة, ناحية الفيلا؟!...
- صدقت, السؤال المهم, لماذا ترسل سيدة شاعر رباب ناحية فيلا الرحمن بك.
- بدأت تروى لبلال, وهو شارد ومندهش لما يسمع, يدير عينيه في كل مكان حوله. روت له كل ما سمعته وما إستفسرت عنه من زهية, دون أن يزل لسانها أو حتى تشير الى مصدر معلوماتها.
عادت تذكره, بما حدث من قبل, عندما خطب همام, إبنة نازح المراحيض لابنه, ثم عدولهم عن ذلك, وطلب نحمده, إبنته الكبرى, وعدولهم عن ذلك أيضا, ثم كيف أقنعتهم بطلب البنت الصغرى, وتلكؤهم المتكرر, برغم أنك قلت لهم سوف تفكر.
أضافت كأنها تفيق وتعود لرشدها: كيف تهاونت ووافقت, على كل هذا التلاعب, وهذه إبنتنا الكبرى ولا يعيبها شئ...ألا يكفى أنك أبيها؟!...
ظل يستمع إليها باهتمام بالغ, ونسى نفسه قليلا- أنه الرجل وهى المرأة – فكان اخذ ورد بينه وبينها, تحاجيه ويحاجيها, وتذكره كلما طلب مصدر هذا الخبر ومدى قربة من تلك الشيطانة, بقسمه وقسمها, وتعود فتذكره, بما سبق من أحداث, ولم يفوتها أن تذكره بما حدث من وقاحة ذلك الولد معها, وأمام من؟...أمام فريدة هانم, زوجة البك المفتش...وهى- أى أم نحمده- زوجة من؟...أليست زوجة بلال أفندى, صاحب الأفضال على كل هؤلاء وغيرهم؟!...
أضافت: هذه الوقاحة وهذا الإستعلاء له سببه...علك عرفت الآن؟...
ثم صدقت على ذلك كله بأن سألته: ألم أسألك, هل حضر شاعر الربابة, ناحية فيلا المفتش, هل هذه مصادفة, أم أننى أضرب "الودع". قالتها وضحكت...
أدار بلال كل تلك الأمور, فى رأسه, وقد بدأ يخرج بقناعاته الشخصية. راودته نفسه أن يسأل عمن تكون مصدر تلك الأخبار, لكنه تمتم: ليس مهما...ليس مهما, أهكذا تسير الأمور, يستهزء به هؤلاء القوم, الآن يحتقرونه...
إبن الكلاف!...إبن سيدة!...عجبا!...يريد الزواج من إبنة عبد الرحمن بك؟!...
عاد بلال, لأرض الواقع, يزن الأمور فى رأسه بتوأدة.
حجاج إبن همام الكلاف...همام وعلاقته بمطاريد الجبل...عبد الرحمن بك, وكيف سينقل له الخبر, وكيف سيحذره, وهل سيصدق, وماذا تكون ردة فعله...المهانة التى لحقت بزوجته, والتى تعتبر إهانة شخصية له...
كان قد فكر ان يذهب إليهم, ويضرب الولد فى حضور أبيه وأمه, لكنه أجل ذلك, لشئ أشد, ولا يوآخذ عليه. هو يعرف طبائع هؤلاء القوم, لو فعل ذلك, لقام أبيه أيضا بضربه –أي ضرب حجاج - يكمل ما إنتهى اليه بلال...هؤلاء قوم يخفون أنفسهم, وأطماعهم وأحلامهم, تحت مظلة المهانة والمسكنة, وفجأة!...تجدهم أمامك وجها لوجه!...
عاد مرة أخرى لموضوعه الأهم, وهو كيف سينقل الأمر لعبد الرحمن بك, ويضرب ضربته, التى سوف تسحق هذه العائلة...المهم ألا يظهر فى ذلك المشهد, لعلاقة همام بمطاريد الجبل, لكن!...يجب أن تعرف زوجته, أنه فعل ذلك, وانتقم لكرامتها التى هى شرفه, لأنه إن لم يفعل ذلك, سقط منها الخوف, وفقد سلطانه عليها, وهو يعلم عاقبة الأمور. وسوف يعطى سيدة وزوجها درسا لن ينساه كل من هما, طوال حياتهما, ربما لو لم يرحمهما عبد الرحمن بك, لالقى بهما-أى حجاج وأبيه- فى السجن, ليخلو له الجو مع سيدة غصبا عنها, ولن يحتاج لأحاديث تمهيدية معها عند كل زيارة.
غدا تسير الأمور, كما تسير الريح المركب...لكن أين الشراع؟...
انتبه بلال لنفسه, بعد هذا الحديث الطويل, من أخذ ورد داخل عقله, هو وحده, وقال لزوجته بلهجة حازمة آمرة:
- لا أريدك أن تتحدثى فى هذا الموضوع مع أحد مرة أخرى, وإن جد أمر آخر فابلغيني به فورا, سوف آخذ لك حقك, وأعيد هذه الفئران الى جحورها...لكن!...إحذرى!...لايجب أن يعرف أحد, حتى لا يأخذوا حذرهم, وأنت تعرفين علاقتهم بالمطاريد...
قام متحاملا يشد من نفسه, بعد هذا التوتر والعصبية الشديدة, كأنه سار أميالا طويلة, يجرى أحيانا, ويسير أحيانا أخرى. ذهب يريد أن ينام, لكنه لم ينم إلا قليلا, يتقلب على فراشه, كمن يتقلب على جمر نار...أهكذا أهكذا تلعب به سيدة, وتلعب بكل من حولها؟!...
#أنور_مكسيموس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟