مهند صلاحات
الحوار المتمدن-العدد: 1070 - 2005 / 1 / 6 - 10:03
المحور:
الادب والفن
بحر غزة يتبعني بغربتي
أينما سرنا أو سافرنا هنالك دوما بحر يمشي معنا, بحر من الأفكار يسكن داخلنا... بحر من الأحلام يبدد وحشة غربتنا... بحر من العشق يفجر ركود عواطفنا... ولبحر العشق أمواج تضرب في كل مكان .بحر من المياه يحمل كل الأسماء والألوان, بحر ابيض كقلوب الناس ... بحر أحمر كدم الشهداء ... بحر اسود كرايات الحداد على الهنود الحمر الذين أفناهم من رفعوا تمثال الحرية فوق الجماجم ...
مذ كنت طفلاً كان هنالك دوما هاجس يتبعني ويقول لي أن بحر غزة أحمر,ورغم معرفتى بعلوم الجغرافية, إلا أنني كنت أتغاضى عن هذه الحقيقة التي تقول أن غزة مثل صور وصيدا و يافا وحيفا وعكا التي قهرت جيوش نابليون على البحر الأبيض, لأني دوما أحاول أن أميزها ـ غزة تلك ـ بلون يحمل بين ثناياه لون الدم, والدم رمزية تضحيات ولون يحبه الشهداء... وغزة كانت مثلاً أعلى حمل كل الشهداء ... لم اشهد بحياتي مدينة قدمت شهداء بهذا السخاء مثل غزة.
كان دوما يردد مدرس التاريخ أن الجزائر بلد المليون شهيد يتملكني من كل جسدي الغضب, أحاول أن اكسر قاعدته التاريخية و أقول: بل غزة أستاذ, ولكن الأستاذ كان يصُّر على أن الجزائر بلد المليون شهيد.واردد خلفه : بل غزة أستاذ
ورغم بساطة هذه الصورة لغزة في مخيلتي إلا اننى لم أزرها يوما, ولم تمنحني الأيام فرصة لقاء بحرها، بكل ما يملك هذا البحر من تقلبات وتصورات وحنية وعنفوان بذات الوقت, هذا البحر الذي دوما تصورته أحمرا من صبغ دماء الشهداء, هذا البحر الذي يحسن قراءة الأشياء.لا يعرف الصمت, أمواجه متلاطمة تمنح أهل غزة العنفوان والصمود الأسطوري بوجه كل محاولات التهجير والتقسيم والإخضاع والتذليل التي انتهجها كل من كان رئيس للوزراء لدولة الكيان الغاصب حتى جعل الغبي رابين يتمنى أن ينام ويصحو فيجد البحر قد ابتلع غزة, أي غبي هذا يتمنى أن يبلع البحر أهله.
قلتها لم أزر بحر غزة يوما لكنه ... بحر غزة لحقني إلى غربتي وكشف عن وجهه الأسطوري الذي حمل ملامح أنثى بين ثناياه... بحر غزة أنثى أسطورية يلاحقني مثل ظلي أينما ذهبت ... عنقاء خرجت من تحت ركام البيوت المدمرة في رفح والزيتون ... طائر برق حمل كل أمنيات المدينة التي تدخل عامها الجديد ...
غزة التي رآها العرب (بابا نويل) يحمل لهم في ليلة الميلاد ما يشاءون من غضب وثورة في كيسه ليلة الميلاد... تمنح العالم مقاتلين والعرب نائمين ... تمنح فلسطين شهداء و العرب سعداء ... تمنح العدو لعنات من غير أن يجد أي منهم مكان للاختباء ...
دوما الكل ينتظر غزة ... وغزة لا تنتظر أحد ... دوما البحر الأنثى في غزة يعطي الحب ولا ينتظر أن يعطيه أحد الحب ...بحر غزة أماً طاهرة لكل الشهداء ... بحر غزة أنثى عذراء ، كالسيدة العذراء لا ينجب إلا أنبياء, من غير أن يمسسها بشر ...
غزة التي لم أزرها, تبعني بوجه أنثى, لفَّحتني بالكبرياء أعشقها لأنها تعد لي قهوة الصباح, وتفتح المذياع في السابعة في غرفة تملأها رائحة الملل والزمان المستعار لتهديني صوت فيروز ... صوت فيروز وقهوة مرة في صباح معتم تتلبد فيه الغيوم التي تغار من أن يبللني بحر غزة ... وأنثى هي البحر بعنفوانه وضجره من البلادة ...
تأتيني غزة من غير موعد, أسمع من بعيد هدير قادم .. أمل فوق التصور, يصاحبه صوت فيروز كل صباح برائحة القهوة المرة، وامرأة ... تسميني المرآة ...تحسن قراءتي وتجبرني أن افضح أشواقي حين أترجمها حروفاً، أنثرها في كل مكان, ليقرأها من يشاء من العشاق ...
غزة التي رأيت ببحرها الأنثى جاءتني دون موعد مرتب, واقتحمت حياتي دون طرق الباب, أعلنت تبنيها لغريب في بلد غريب ...
سألت الأنثى البحر: كيف علمتِ بوجودي في هذا الزقاق المعتم في الغربة ؟
قالت : أنا أنثى مبحرة في حزن الغرباء, أسمع من يبكي وطناً في غربته وأحسن سماع النداء...أنا أنثى تقن قراءة الكلمات بكل اللغات ... أهب نفسي أماً لمن لا يملك أماً في الغربة, وأتبنى كل الفقراء ...
أنا أنثى وهبت نفسها عاشقةً لكل غريب نسي طعم العشق, أنثى علمتها الأيام أن يكون لها قلب تقسمه قسمين, قلب يمنح عشقا للغرباء المسكونين بحزن الغربة, وآخر يمنح شجاعته للمقاتلين والشهداء.الأنثى التي جاءت من غزة من غير موعد, حملت لي معها هدايا ليلة الميلاد, أجراس وحلوى ووجوه كل الأصدقاء ...
الشيء الجميل أني أصبحت مكتشفا حين قابلت أم الفقراء هذه، كباقي المكتشفين العظماء ـ أمثال كريستوفر كولمبوس ـ, لقد اكتشفت أن لهذه الأنثى اسما أخر غير البحر, بحر أسمه الابتسام ... بحر من الفرح الطويل، استقبل سفن الأجداد القادمين من جزر البحر المتوسط, قدم لهم تحيته الأولى ... أطلق طلقات المدفع ـ الواحدة والعشرين ـ ترحيبا بقدوم الزوار, وفي الناحية الأخرى كان بنو كنعان يشدون الرحال نحو غزة ... وكانت غزة تلبس أزهى الثياب لاستقبال القادمين من جزيرة العرب يحملون الهدايا والغضب, يبحثون عن بلد يمنحهم الوطن والكفن والسفن والمدن والغضب, وكانت وجهتهم باتجاه فلسطين...
كانت ابتسام البحر في تلك اللحظات تعد قصيدتها، لتصف فيها زحف الثوار , كانت الابتسام تهبهم روح الإنسان الأول الذي يسكن الوطن ... كانت تعلم القادمين الصبر وبحور الشعر, وتحذرهم من غضب البحر وكيف يحترمون الموج حين يلامس خد الأنواء...
قررت الزواج ببحر غزة ومشاركته صراعه مع الأنواء ... وأشاركه كتابة الشعر وتحدى سطوة الأعداء ...
أنا رجل قرر أن يكون بحر غزة له وطن ، رجل قرر أن يتزوج الأمواج في السر والعلن... و أعلن تحديه لقرارات مجلس الأمن بعزل غزة عن العالم ... رجل قرر أن يتحدى كل قرارات الجبابرة المتسلطين ...
أنا رجل قررت وأنا بكامل قواي العقلية وبكامل الأهلية أن أتزوج امرأة أسمها بحر غزة ... غزة التي لا تزال تعلم الأعداء دروساً في التشريع الكوني ... وأن الغزاة مهما طال ليلهم لا بد من نهاية تسحقهم ...
غزة علمت الجند من قبلهم أن البداية لا بد أن تصبح في يوم نهاية ... وأن النهاية التي انتهى فيها الغزاة الأوائل مهزومين, كانت في يوم بداية مثل بداية الغزاة الذين جاءوا بعدهم وضاعوا بأمر غزة في صحراء مصر ...
غزة التي تزوجتها قصيدة كتبها في لحظة عشق هذا البحر ...
غزة التي عشقتها هي التي علمتني أن أكسر فوضى الغربة لأكتب قصيدة شعر ...
غزة التي ذبت في أمواجها أعطت، دروسا فى الصبر للصامدين في أرضها...
غزة التي قدستها كما قدس المصريين القدماء اله النيل و الإغريق إله الحب ...
غزة شركي وصنمي الذي أشركت به ليقربني إلى الله الذي يكبر الشمس والقمر ...
غزة الكلمة الأولى في كتابي المقدس... غزة لي دستور الحياة ...
غزة التي اعشقها كانت ابتسام وليد لحظة لقاء أمه... غزة التي أعرفها لم يعرفها إلا القليل الذين كانوا مثلي... يحسنون قراءة عشق البحر... ويعشقون وجه القمر.
يا من علمني أحبو حين كنت طفلا ... ومنحني عشقا حين صرت رجلا... امنحي غزة قبل أن يغزوني الشيب... امنحني الابتسام في لحظات كآبتي في غربتي ... في لحظات تشدقي بالأزمان, وفي ضجر الإنسان...يا حامل غيم المطر إلى الأرض العطشى بالماء... امنحني بحر غزة لحظة, فليس سواه يستطع أن يوصلني حد الارتواء...
كيف جاءتني الأنثى بحر غزة ؟
حين عجز الآخرون عن تبديد غربتي وإعطائي متسعا للوقت كي أحدد قامتي... كنت أنكسر باتجاه الأسفل.. آلف خطوة بالدقيقة أغوص فيها بوحل الغربة والخوف...
كان الليل و البرد يحاصران كل الأبواب والشبابيك... و الضوء يتراقص خوفاً من ريح تعوي خلف الباب... و الكتاب يغوص بداخل أغطيتي خوفا من غضب الصواعق...وأما الخوف داء ـ في تلك الليلة ـ حاصر كل أشيائي... وكنت وحدي عاجزا عن قراءة كتاب .. هابطا في دفئ الغطاء ... كباقي الأشياء الخائفة الأخرى التي شاركتني غربتي في غرفتي ... كنت في تلك الليلة بلا أصحاب.
قررت في لحظة أن أعلن التحدي للريح والبرد وللعواصف التي تعوي بخيلاء خلف الأبواب ... فتحتها تلك الأبواب، ومشيت هائما بلا وجه ولا وُجهة, ابحث عمن يمنحني الدفء وقليلا من روح التحدي, ويبدد عني هذه الغربة ...
صورة لملاك تراءت لي من بعيد ... ظننت نفسي أحلم في يقظتي وسرت باتجاه الضوء العابق من شيء صغير يأخذني حيث أردت دون أن أطير مثل الصدفة ... خلفه كانت أنثى ... تملك ما لا يملكه الناس ...
قالت : اقترب أيها الغريب الشاحب الوجه المسكون بالتوهان, لا تخف ،اقترب وأطلب ما شئت من أمنيات ، فهذه ليلة الميلاد...
طلبت الدفء فأهدتني سجائر وقصائد ونبيذ ...
طلبت أمناً فمنحتي البحر ... طلبت حباً فمنحتني نفسها أماً وعاشقة...
طلبت وطناً ... فبكت معي في حرقة و شجن... وقالت:
أنا لا أمنح ما لم يمنحني إياه الزمن تعال معي لعله هناك.
لم أكن احلم أن تهديني امرأة يوماً ما (وميض غيمة حبلى)...
لم أتصور يوما أن أجد من يفسرني ويترجمني بكل المفردات العربية ... يتفهم ضجري ويعانق عشقي .. ويقرا سكوني ... ويبدد صمتي ... يتناول من جعبته عشقا ويهديني ...
بعد كل ذلك أن قررت أن أتزوج البحر المسمى الابتسام على ذات الميناء الذي التقينا فيه ذلك المساء وأنشدنا لحن البقاء ... حيث احتضنتني وتبنتني وعشقتني قرأتني حروفا في الغربة التي منها خرجت ...
أخشى أن تكون حلماً ومن خوفي بكيت ... علقت أمنياتي على شباك البيت .. ودعوت بقلب مخلص أن تعود ،عودى من حيث ذهبت وقاسميني حزني وفرحي وابتسامتي وأملي ... وكونى لي شجرة الميلاد, أتميز بها عن الساهرين, كونى شجرة زيتون تعبق عطرا ونبيذا وعشقا وزيتا ... انت الأنثى التي تمنيت ... انت غزة التي رأيت ... آية لم تكن في سفر التنزيل ... وملاكاً أتاني حين بكيت .
لا أدري لماذا لم تزل خائفة من اجتياز الأشواك نحو المرحلة, يغزوها التردد والأماني والخوف من الحنظل القادم في طيات الآتي ...
أحبها كي يتحقق وجودي في ذات التفاصيل التي التقينا بها ... احفظ ملامح وجهها من ميناء وأمواج وأطفال تلعب في رملها ...
كانت نرجسة البحر تقف أمامي تطلب مني أن ارقص معها رقصة البحارة العائدين من رحلة صيد .
تراني من بعيد حين حلُّقت كالصقر بعيداً ورمت بكلماتها في شطأني قائلةً :
(تعال قبل يوم دعوتني للطيران معك، ضع يدك على خاصرتي لملمني هل تشم رائحتي ؟ أشربني قطرة، قطرة حتى الثمالة، لست في عجلة من أمري، تفاصيلي الصغيرة برائحة رجل هزه الشوق لمن يرافقه التحليق في سماء الصقور....)
تلك هي قصة حبي مع بحر غزة الذي رأيت ...
أنا رجل قرر أن يتزوج غزة مع رقص الأمواج ...
ويهدي الأسماء لكل سماء ... أزرع في كل موجة حرفاً تصبح طفلاً ... ويكون مقاتل.
و أنا العاشق في زي مقاتل ... قررت أن أكون لبحر غزة رجلاً ... برغم قيد السلاسل ...
أنا طفل برمالها الصفراء ألعب ... وعلى شدو نشيدها أطرب ... وبخصلات شعرها أغلب.
أنا شاعر قررت أن أستقيل من الشعر, و أتجند بصفوف جنود البحر وأقاتل ... أنا دمعة تحولت سؤالاً ...من غير سائل
#مهند_صلاحات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟