|
هل رأى النبي الجن قراءة نقدية لقصة ابن مسعود
محمد أيتا
الحوار المتمدن-العدد: 3620 - 2012 / 1 / 27 - 06:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يستغرب الفخر الرازي، ويتعجب من أمر المعتزلة الذين يرون "أن البنية شرط الحياة وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة"، مع وجود الجن، والملائكة في القرآن !! هكذا قال في بداية تفسيره لسورة الجن، مستطردا بمسألة "وجود الجن"، وفصل المذهب الأشعري الذي يريد أن يفرض علينا بالجدال العقيم إمكانية وجود الجن، انطلاقا من إيماننا بأن "عدم رؤية الشيء لا ينفي الوجود ..." إلخ، وأن "البنية أصلا ليست شرط الحياة ...إلخ. وأنا بدوري أستغرب من فيلسوف في وزن الرازي يؤمن بالجن، يزداد الاستغراب حين يروي قصة ابن مسعود حول "لقاء النبي بالجن"، ويؤمن الرازي بها أشد الإيمان، بل يحاول أن يجمع بينها وبين رأي ابن عباس الذي ينفي رؤية النبي للجن، رغم ما تحمله القصة من ثغرات لا يقبلها أي عقل، فضلا عن عقل الرازي، أليس ذلك أدعى إلى التعجب من رأي المعتزلة العقلاني ..؟؟؟ الحديث اليتيم الذي يثبت رؤية النبي للجن، وبالتالي سيصبح منطلق الثقافة الإسلامية كلها حول "إمكانية رؤيتهم فيما بعد"، بل الاستعانة بهم، ومن ثم سيجعل مسألة "وجود الجن" "مما يعلم من الدين بالضرورة"، فيرتد منكر عالم الجن ـ قلت: ذلك الحديث هو حديث ابن مسعود الذي يؤيد به رأيه، وهو الحديث الذي سوف أقرؤه عبر المنهج "التفكيكي"، بعيد عن منهج "مصطلح الحديث"، مع أن الأخير يساعدني كثيرا، ويقدم لي مشروعية النقد، فيما يسمى "نقد المتن"، فصحة السند عند المحدثين جميعا ليست شرطا في صحة المتن"، والعكس صحيح. لنترك الرازي يروي لنا الحديث:
{قال ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام: ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن، فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية فسكتوا، ثم قال الثالثة فقال عبدالله: قلت أنا أذهب معك يا رسول الله، قال: فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي دب خط علي خطاً، فقال: لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون، فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه فغاب عن بصري فقمت فأومأ إلي بيده أن أجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم، وفي رواية أخرى فقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ما أنت قال: أنا نبي الله قالوا فمن يشهد لك على ذلك؟ قال هذه الشجرة، تعالي يا شجرة، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع، حتى انصبت بين يديه، فقال: على ماذا تشهدين لي؟ قالت: أشهد أنك رسول الله، قال: اذهبي فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت، قال ابن مسعود: فلما عاد إلي قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم، يا رسول الله قال: ما كان ذلك لك هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر، فلا يستطيبن أحد بعظم ولا بعر}. استوقفني هذا السرد الجميل، وهو أقرب ما يكون بأقصوصة رائعة، جمعت بين جل مقومات السرد، من "الحدث، والزمن، والمكان، والشخوص، والبطل، الفكرة، الحبكة، الحوار". يضغط الحوار بعنف على المتن، حتى يكاد ينقله من جنس "الأقصوصة" إلى "المسرحية"، فالنص افتتح بالحوار، وتوسطه الحوار، وانتهى بالحوار. هناك حوار واقعي، وأسطوري غرائبي، وهناك حوار جماعي، وفردي، من جهة أخرى: هناك حوار بين "الناس"، وحوار "بين الإنس، والجن، وحوار بين الإنس والأشجار، ثم ينتهي بالحوار بين الإنسان، والإنسان، فالأول بين النبي، والصحابة، ثم بينه وبين الجن، ثم بينه وبين الشجرة، ثم بينه وبين السارد ابن مسعود، بشكل منتظم، ومربوط بفعل الحكاية: "قال". فالحديث إذن يصلح عليه اسم "الأقصوصة، والمسرحية، والرواية ، ولذلك فهو ينتمي أدبيا إلى ما يسمى ب"المسرواية"، ولو نقل إلينا على أنه "إبداع من مخيلة ابن مسعود"، لسجل ضمن "الأعمال السردية المبكرة"، وفات الإسلاميون من النقاد أن يتحفونا به، على أنه مما سبقت السردية العربية إليه، ويستشهدون به، يا ليت أنور الجندي عثر عليه حين ينظر للأدب الإسلامي. بعد إبداء قيمة النص السردية، أود أن أسجل الملاحظات التالية: 1: ألا يدل ما في النص من مميزات سردية واضحة على كونه ليس من باب "الخبر"، ولا ينتمي إلى مفهوم "الحديث"، بل هو قصة، والقصة دائما تستنجد بالخيال كي تكمل بنيتها، عكس الخبر. 2: لما ذا نمشي بعيدا، ولا ندخل في الموضوع: أقول: إن النص احتوى على وحدات دلالية تنقضه، وتهدمه من الداخل، وتقوض مبناه كله: أ: بداية النص نفسها تكشف عن أمور لن يقبلها العقل، فكيف يمكن أن يطلب النبي محمد من الصحابة أن يذهبوا معه إلى أية مهكلة ويرفضون، "فسكتوا"، فضلا عن أن يؤانسوه إلى حيث "الجن" المؤمنون"؟؟ وهي نزهة طريفة لن يتكاسل عنها من يقدمون صدورهم لعوالى الرماح، وأعناقهم لسيوف المشركين ابتغاء مرضاة الله، ورسوله ؟؟ إن شعار الصحابة هو "سمعا وطاعة"، لا "صمتا وسكوتا" عكس ما يروي ابن مسعود "السارد"، لم لا ومنطق القرآن المتردد "أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول" ... "ويسلموا تسليما" في بعض الآيات؟؟ إذن لما ذا ابن مسعود وحده هو من يتحدى الشيطان في هذا الموقف؟؟ هذا هو السؤال الحساس المقوض للفقرة الأولى. والجواب عنه واضح، إذا علمنا أننا أمام صاحب رأي، يبحث له عن برهان، وإن أصبح هذا مما لم يعلمه سوى ابن مسعود، لأنه الوحيد الذي شاهد، ورأى رأي العين، بهذه الحيلة استطاع ابن مسعود أن يجيب القارئ الضمني الذي سيطرح مثل التالي: لما ذا أنت وحدك من يرى هذا الرأي، وهؤلاء كبار الصحابة كابن عباس خالفوك؟ إذا كان ابن مسعود السارد تنصل بذكاء خارق من قبضة هذا السؤال بخصوصيته هذه في مرافقة النبي إلى الجن، فهل سيتنصل من بقية الأسئلة كالسؤال الأول: هل يمكن أن يخالف الصحابة نبيهم بهذه الوقاحة؟ وكذلك أسئلة القارئ التالية: ب: يبدو أنه بعد هذا نسي ابن مسعود السارد عقل قارئه، ولم يعد يضع له حسابا، فقد صرح السارد نفسه بأن النبي خط عليه خطا، وأمره بالوقوف هناك، { ثم مضى إلى الحجون}، وفي موضع آخر: {حتى غاب عن بصري}، وفي النهاية يتضح بدون شك أنه لم يكن معه، بل "عاد إلي، وقال: أردت أن تأتي معي؟ قلت نعم، قال: ما كان ذلك لك ..}، إذن ابن مسعود أكد بنفسه أنه كالصحابة الباقين المتقاعسين لم يشاهدوا اللقاء السري بين النبي، والجن، لكن هذا ليس مما يهمنا نحن الان رغم تسجيله من باب "التناقض"، والهدم، ما يهمنا أكبر هو أنه إذا كان النبي نفسه غاب عن بصره، وأن ابن مسعود سجن في دائرة خطية، وكان في الليل، فكيف ينقل لنا خبر "الشجرة"، ومجيئها "تجر عروقها قعاقع" كأنما هو شاهدها، وسياق الحديث يقطع بأنه هنا يروي كشاهد عيان ؟؟؟ بل سمع "شهادتها بأن محمدا رسول الله"، وتؤكد الإشارة الواردة إلى الشجرة "هذه الشجرة" انها قريبة من النبي، لا من ابن مسعود، المسجون في "الخط" بعيدا عن المجلس، ويفيد السياق أن النبي ليس من أخبره، فهو عازم على إسناد كل "قول إلى قائله في الحديث"، فلم لم يسند هذا القول العجيب إلى النبي لما عاد إليه، فبعد هذا مباشرة قال ابن مسعود :"فلما عاد إلي قال: أردت أن تأتي معي..." فهو إذن راو مشاهد لحركة، وكلام الشجرة، ورجوعها !! كل هذا يتنافى مع بقائه بعيدا في الخط، ليلا ؟؟؟ ج: أفاد ابن مسعود نفسه أنه لم ير الجن، " حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم،.."، وقد تكون تلك الأصوات حفيف الورق، لأنه سجن في الوادي، مصحوبا بهدير الرعب، وترقب ملاقاة الجن، هذا إذا كانت قصة "الذهاب أصلا حقيقية"، من هنا ينبثق استنتاج، وسؤال محرجان للسارد: أولا: ابن مسعود لم يزد شيئا من الفضل على الصحابة الذين بقوا في المدينة، فهو أيضا بقي في "الخط" الذي خطه النبي، وفاته التمتع برؤية الجن، وليس له من الفضل سوى التشييع. ثانيا: لماذا منع ابن مسعود من حضور الجلسة هذه؟؟ فالعلة التي ذكرت بعد الرفض غير معقولة إن كان هناك معقول: "ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين.."، هل في هذا من سر يمنع الرفيق المخلص من الحضور، بدل البقاء في "الخط"، بعيدا،؟؟ أليس هذا مما يدعوا إلى حضوره أصلا، أم أن هناك أسرارا دارت بين النبي، وبين الجن؟؟ الحديث لا يوحي بذلك، مع صفاء المودة بين النبي وصاحبه من الإنس. د: تأتي المصيبة الكبرى، في النهاية، عندما لا يزود النبي الجواد الكريم هؤلاء الجن المؤمنين بشيء غير "البعر، والعظم"، أية إهانة للجن هذه؟؟ خاصة المؤمنين الدعاة، ثم هل يحتاج الجن أصلا وهم من هم في "القوة، والجبروت إلى زاد من الإنس؟؟ إنما فات السارد على الأقل، أن يشير إلى أن هذا هو ما أحله الرسول للجن، فيكون ذلك بداية التشريع النبوي للحياة الجنية في "باب الأطعمة والأشربة" في فقه الجن. مع ما يطرح على ذلك من أسئلة أخرى، مثل: لما ذا ذكر لهم الحلال، دون الحرام؟؟ غير أن ذلك سيدخل باب الفقه الإسلامي، إذ لم يخل كتاب فقهي من التشديد على من استنجى بالبعر، والعظم، وقد نجانا الله نحن في هذا العصر، وأغنانا عن ارتكاب تلك المعصية، وأرحنا الجن المؤمنين في زادهم المحلل، المبارك في حديث ابن مسعود السارد. هـ: أكرر أن هذا النص لو قدم على أنه تخييل لقبلناه على الرأس، والعينين، لكن ما دام يقدم على أنه حقيقة مما يجب الإيمان به فذلك ما لا نرضيه لعقولنا. تنبيه: اكرر لفظ "السارد" بعد ابن مسعود، إشارة إلى أني لا أقصد ابن مسعود الصحابي الذي يقدسه المسلمون، فأنا أقصد فقط سارد هذا النص، الذي قد يكون شخصا آخر غير ابن مسعود، فالحديث لم أتأكد من صحته، إذ لم أجده في الصحاح، غير أنه عمل عمله في المخيال الإسلامي، بل صدرت عنه تشريعات، كما رأينا، ودخل في الفقه الإسلامي، والميثولوجيا الإسلامية معا، وانتشر من كتب التفسير، والسيرة، إلى المساجد، والشوارع.
#محمد_أيتا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطوارق وفنون الاستعمار
-
الخروج من ....إلى ....
المزيد.....
-
الزاوية اللؤلؤية.. قبلة المبعدين عن المسجد الأقصى
-
هكذا أعادت المقاومة الإسلامية الوحش الصهيوني الى حظيرته
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة-إيفن مناحم-بصلية
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تعلن استهداف مستوطنة كتسرين بصلية
...
-
المواجهات الطائفية تتجدد في شمال غربي باكستان بعد انهيار اله
...
-
الإمارات تشكر دولة ساعدتها على توقيف -قتلة الحاخام اليهودي-
...
-
أحمد التوفيق: وزير الأوقاف المغربي يثير الجدل بتصريح حول الإ
...
-
-حباد- حركة يهودية نشأت بروسيا البيضاء وتحولت إلى حركة عالمي
...
-
شاهد.. جنود إسرائيليون يسخرون من تقاليد مسيحية داخل كنيسة بل
...
-
-المغرب بلد علماني-.. تصريح لوزير الشؤون الإسلامية يثير جدلا
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|