|
النقيض
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3619 - 2012 / 1 / 26 - 20:49
المحور:
الادب والفن
الأعمال الكاملة الروايات (5)
د. أفنان القاسم
النقيض رواية
نسخة مزيدة ومنقحة
الطبعة الأولى اتحاد الكتاب العرب دمشق 1978 الطبعة الأولى بالفرنسية ترجمة أندريه ميكيل دار بابيروس باريس 1983 الطبعة الثانية بالفرنسية تحت عنوان علي وريمي دار لارماطان باريس 2003
إلى غابرييل غارسيا ماركيز
مقدمة بقلم المستعرب الفرنسي الكبير الدكتور أندريه ميكيل
"رواية جديدة؟" إذا كانت حقا هي كذلك، فمن الواجب أن نحيي أفنان القاسم التحية التي تليق به، فهو قد حط الرحال في فرنسا في سنوات السبعين، وتعلم بسرعة لغتنا، واستوعب ثقافتنا ليكون بإمكانه أن يقدم لنا هذا العمل الذي صدر بالعربية أولاً والذي تسطع فيه سيطرته على تقنيات الرواية الحديثة. هذا الكتاب لهو عبارة عن لغز واضح. لغز لأن كل ما فيه يتطلب حله: الحالات، الأمكنة، الأزمنة، المهن، الشخصيات. سرد معقد ونسيج بارع لا سيما وأن كل كائن في الرواية أو كل شيء يزدوج بوضوح تقريبًا حسبما يكشف المؤلف أوراقه أو لا يعلن إلا عن جزء منها. الحاضر والذكرى والمستقبل تتشابك، العاشقة تدرك الأم، وباريس الشرق، ثم تتفجر الحَبكة من جديد، وكل شيء يتجدد. ومع ذلك، لغز واضح، ورواية جديدة أكثر منها رواية تنتمي إلى تيار "الرواية الجديدة"، فالقصة قصة إنسان، قصة منفي، قصة ممزق: بكلمة واحدة قصة نقيض. ولكن قطبي شخصيته المتصارعة بين التخلي والتمرد، بين التعريض بالشبهات والمثل الأعلى، بين الحياة اليومية والمصير الأوحد، يمحيان في النهاية أمام العهد الذي يُقطع للأم البعيدة. لهذه الأم، فيما وراء أم المؤلف، اسمٌ هو فلسطين. مرضعة، منسية، وحتى مغدورة أحيانًا، إنها تعيش. إنها تجمع الأبناء الذين تفرقوا في الحَبكة، وتفرض على "النقيض" العهد الوحيد الممكن: العهد على الحب. هذه الرواية فلسطينية بعمق تحت تجليات السرد، فهل تكون هذه التجليات مصطنعة؟ إنها بالأحرى شفافة. ضد المدينة التي تنحل فيها الأشياء والكائنات ها هي الأم العليا، الأرض، بروائحها وألوانها وحتى شجرها تلتصق بجسد المنفيّ. إنها الأم الممزقة، لأن الموت يرافق أبناءها، والباقي منهم على قيد الحياة لا يمكنه أن يتحرر من هذه الخيالات التي تعيد المدينة، سواء أكانت حقيقية أم تخيلية، إنتاجها كما يحلو لها. ومع ذلك، لقد سبق لي وقلت، سينتصر الحب. مع الأمل. سيتسامى كلا النقيضين في أنقى صوت للأرض-الأم: هذا الشعر وليد الدموع، والذي يبتسم.
باريس 1983
الفصل 1
علي يحكي عن الزنبقة البيضاء عن العربة الملكية التي تجرها الخيول السبعة وعن الحصان الأسود
الساعة الثانية بعد الظهر، رن جرس المنبه، فاستيقظت لتوي، لكنني لم أحرك ساكنًا كالمجداف الملقى على الشاطئ بعد أن صارع الموج المائج مدة تزيد عن الألف عام. تركته يرن حتى ينفد الوقت، ويفرغ، وأنا أرغب في النوم أكثرَ من خُلْدٍ ضل الطريق إلى الشتاء. كان قد منعني من النوم نومًا عميقًا حلم مضنٍ، ومع ذلك نهضت، ودفعت مَغْلَق النافذة، فدخل الحجرة نهار داكن لم يكن الرماد بعد احتراق الليل ولا ثوب مدينة البندقية الشتوي. اللامبالاة كان الكون، والقر كان الشتاء، والخلو من المارة كان الشارع. تركت النافذة مفتوحة، وتوجهت ببطء إلى المغسلة. اصطدمت بالطاولة الصغيرة، ورفعت موقد الغاز. استدركت الذات، وأنا أمضي بالخزانة، والصندوق، الصندوق كان فيه ما فيه، والخزانة كانت فيها ملابس وآنية ومؤونة وعلب سمك محفوظ غير ما كنا قد اعتدنا عليه أنا وإخوتي من ألذ أنواع السمك والصدف. أشعلت سخان الماء، ونظرت إلى نفسي في المرآة، والمرآة تنظر إليّ بوجهي المتغضن من التعب. كان دغل أسود من الشوك يغزو الذقن، وحيات زرق تتحرك حول العين، وكانت على الجبهة آثار كتاب الليل وكلامه. فتحته عن تتمة الصفحة التي قرأناها سوية في الليلة الماضية، فوجدتني قد لجأت إلى الفراش على الساعة السابعة صباحًا. بسبب عملي في الفندق الذي كنت أسهر فيه من منتصف الليل حتى يشلح الليل نصفه، ثلاث ليال في الأسبوع، لكل ليلة حكاية ليست كغيرها من الحكايات. ولما كنت أحب قضاء الليل على هواي، أردت أن أجد عملاً غيره يكون لي في النهار، فالناس الذين هم مثلي كانوا يعتبرون أسرى ليلهم. أو أن أستغني عنه، لكن ذلك يتوقف على الظروف التي آه ما أقساها! كانت هناك عائلتي التي ليس لها من عائل سواي، وأولئك إخوتي السبعة الذين كانوا ينامون طوال الوقت، وتلك أمي التي لم يبق لي ما أملك منها إلا صورة في إطار راحت تتحرك، وتنطق، وتحثني بوجهها الباسم الصارم على ألا أترك عملي إلا إذا أردت الخروج من الحكاية إلى غابة ملعونة تحجرت بالأبطال، فأجبت بأنني لن أترك عملي في الليل، فالقمر لا يصعد من الغيم في الشتاء، وأنا على أي حال لن أجد ما هو أفضل في الليالي الباردة. رحت أحك لحيتي بأصابع خشنة لأنزع عني شهوة النوم وأثر حلم لم أزل فيه، فهذه أمي تخرج من الإطار، وتمسك بيدي، وتذكرني بأن لي ولإخوتي السبعة مهمة أخرى ليكون عيد السين عيدًا ليس مثله عيد بعد أن زرعت زهرة الزنبق في حقل مارس. لم أسألها أية مهمة هي، وأنا أفكر في اليوم الذي وقعت فيه على عملي في الفندق كيف حسدني كل المنحوسين مثلي ممن كنت أعرف، وقد أوصاني ألف منهم على الأقل ألا أنساهم في حال تركي إياه لسبب من الأسباب، بينما كانوا يدركون جيدًا أنني لن أتركه إلا في حالة واحدة: الموت الزؤام! وهم قد تعلقوا بي تعلق الورثة بالمقدم على الموت حقًا، فأشفقت عليهم وعلى نفسي. لكن أمي ضحكت مني، وقالت لي يا لك من غِرّ! عادت ودخلت في الإطار، وتركتني حائرًا، لا لأنني أفكر في المهمة التي لي ولإخوتي لنُخرج عيد السن من الأرض، وإنما لأن زهرة الزنبق الناصعة البياض التي زرعتها أمي في حقل مارس ما هي سوى وسمٍ كان يُطبع قديمًا على أكتاف المجرمين، وكانت في الوقت ذاته شعارًا ملكيًا. فتحت الحنفية بآلية ثم أغلقتها، نقلت قطعة الصابون إلى الدوش في الزاوية المقابلة المغطى بستارة من البلاستيك الأصفر تماما كما كان في حلمي، وفي حلمي لم يكن ماء هناك بل دماء! تنقيت بالدم، وأنا أخال الآلاف المؤلفة من رؤوس الزنابق يقطعها السياف بسيفه، فمؤدى ذلك أن يبعث على رشاد العقل وحزن الفؤاد. احتاجني الحمام إلى عشر دقائق مضت وكأنها عشرة أعوام لثقل الحزن بعد أن انبثقت من أجساد الزنابق أجساد البشر، وتكدست في حقل مارس أكوام الجثث الفائحة برائحة كريهة. أهذه هي إذن المهمة التي كانت تنتظرنا أنا وإخوتي؟ أن نجمع آلاف الجثث وندفنها؟ ولكن أين ندفنها؟ حقل مارس لن يكفي، ولا غابة بولونيا، لا ولا كل صحارى العرب. ارتديت ثيابي بسرعة، وأنا أرمي إلى قلي ثلاث بيضات، لكنني عدلت عن ذلك في اللحظة الأخيرة. عندما رأيت البيض في علبته، صعد في حلقي اشمئزاز كان يأتيني عند أكلة مكررة أو عمل معتاد، كان نوعًا من التقزز والنفور، وعلى الرغم من ذلك، رتبت سريري مثل كل يوم، وجعلت نظرتي إلى أشيائي مريحة. أطفأت سخان الماء، وقررت الذهاب بعد أن تأكدت من أن مفاتيحي معي: مفتاح الباب ومفتاح الخزانة ومفتاح صندوق جدتي الذي أخفت فيه ولديّ بعد أن سَمَلْتُ لهما عينيهما، وقلت لن يخرجهما أحد إلا إذا فتحتُ لهما بنفسي أو إذا أخرجَتْهما أمي من الجدار، فيحولهما الجدار إلى كلبين غير طائعين. ألقيت نظرة أخيرة على سريري الأبيض، وغادرت الحجرة المعلقة في سقف مسرح شاتليه العريق مثل أي ممثل. ركبت دراجتي السولكس، وأخذت طريقي إلى الكلية. عزمت على تناول قهوتي في الكافتيريا ما دام على موزع الصحف أن يأتيني بجريدة "لوموند" على الساعة الرابعة. كان إعلان مسرح شاتليه من ورائي يمثل راقصات من تاهيتي، وبدأت المغناة الهزلية القصيرة تجتاح شوارع باريس، وشوارع باريس رماد وضباب، سماؤها سرج، وشمسها ذكرى قديمة. لم تتمكن الأمواج الزرق لبحر تاهيتي من جرف كل شيء في طريقها إلا عندما انبثقت من سماء الحزن العربة الملكية التي تجرها الخيول السود السبعة، ثم راحت تعدو من ورائها عشرات آلاف الأحصنة البيض التي آخرها كان في الشانزلزيه وأولها أخذ يمر أمامي قرب مترو سنسييه. لمحت أمي تجلس في العربة بأبهة وعظمة، وإلى جانبها كلاب سبعة كانت تشبه الخنازير لبشاعتها. فكرت في طلبة الكلية الجميلين الذين لا يبالون بقدومي مثل كل مرة، كانت وجوههم لا توحي بالأذى، وكانوا أبدا لا ينتبهون إليّ، وكأنني لم أكن بالنسبة لهم موجودًا. كان بعضهم يشتري الجريدة فقط لأنه اعتاد ذلك دون أن يقرأ ما جاء فيها من أخبارنا، وبعضهم ليقرأ العناوين ومقدمة أو مقدمتين. ومع ذلك، كانت تسحرني هيئة الاهتمام العابر التي تأخذ تلك الوجوه الملساء، وأنا أُتعب رئتيّ من فرط الصراخ: لوموند! لوموند! فجأة، إذا بحصان أسود يظهر من بين عشرات آلاف الأحصنة البيضاء بله مئات آلافها، أشد سوادًا من تلك الجنية الإفريقية التي عشقها جدي وعشقته لما كنا في قريتنا البعيدة السعيدة قبل أن يبقى لها غير الحزن جوهرا. انحنى حتى لامس ببطنه الأرض، ورفعني على صهوته، ثم دخل بي كالفاتح ساحة الكلية، وكل الوجوه الصامتة التي أعرف والتي لا أعرف راحت تنطق بدهشة المسحور على منظري من فوق حصاني الأسود الوهميّ، حتى أن بعضًا من الطلبة قد رفع في الفضاء ذراعه، وبعضًا آخر قد أطلق مع الأصداء صيحة.
الفصل 2
ريمي يصل عند علي تعبًا ثم يرمي بجثث الزنابق في السين
ألقيت نظرة آلية على مسرح شاتليه، وأنا أقف إزاء تماثيل فرعونية تقذف الماء من أفواهها في حوض نافورة تقوم وسط الساحة الكبيرة. كنت أعرف تمامًا أن هذا هو المسرح العريق الذي أقصده، وأن الحياة ليست مسرحًا كهذا مثلما يقولون. دخلت القاعة في اللحظة التي كانت فيها أفعى مذهبة تهرب من حنش أسود على الخشبة، ولما رأتني الأفعى تحولت إلى فتاة أحلى من قمر الشام وأبهى، وقالت لي إنها ابنة ملك عظيم في دنيا الكلام، وإنها هاربة من ابن عمها الواسع الثروة ابن ملك المال "خطأ الخلق" الذي هو كيس نقود أخذ شكل ثعبان أسود يظنه صاحبه طاووسًا جميلاً! رجتني أن أنقذها منه، فصعدت على الخشبة، وبضربة سيف فصلت رأس الوحش عن جسده، فإذا بشاب لا يقل عن الفتاة جمالاً يبذل حركة أخيرة قبل أن يموت مع الأضواء التي انطفأت، وصارت للعتمة رائحة المياه الراكدة. دق قلبي من الرعب، لكن الفتاة أخذتني من يدي، وساقتني إلى حجرة علي. كانت ظلال أخواتها تقترب أو تبتعد كلما صعدت بي في الظلام طابقًا، وكان المسرح ميتًا، فلم تتسرب إلى نفسي الراحة، خاصة عندما أرادت أميرة الكلام أن تتركني وحدي وحيدًا. أعطتني من شعرها ثلاثًا، وطلبت إليّ أن أحرق إحداها كلما احتجت إليها لتحضر في الحال أينما كان المكان الذي هي فيه حتى ولو كانت في أقاصي الصين أو في أداني اليمن السعيد، واختفت. نقرت باب حجرته دون أن يأتيني جواب منه، ثنيت قبضة بابه دون أن يجيبني سوى رجع الصدى. كانت حجرته تحمل رقم 48، إلى جانبها سبع وأربعون حجرة راحت أبوابها تنفتح لي الواحد تلو الآخر دون أن يشدني فيها ما هو خارق: في هذه صبية معلقة من جديلتيها، وفي تلك صبية معلقة من ثدييها، وفي ثالثة صبية معلقة من ساقيها، وفي رابعة وخامسة وسادسة وسابعة وثامنة وتاسعة وعاشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وسبع وأربعين صبايا معلقات من خواصرهن أو من آذانهن أو من أنوفهن، أو من أهدابهن أو من زغبهن أو ممن أُريدَ لكل منهن، كل منهن معلقة حسب وضع يختلف عن الأخرى، وقرب كل صبية سيف مدمى، وعندما كنت أسألهن عن مفتاح الغرفة 48 أين أجده وكيف آخذه بعد أن أجده كن يجبن: لن تجده إلا في جيب صاحبه، ولن تأخذه من جيب صاحبه إلا إذا قتلت صاحبه، فهل أقتل صاحب المفتاح وإخوة له سبعة عمالقة؟ وكيف أصل إلى جيب صاحبه وصاحبي ليس صاحبه؟ وقفت أمام الحجرة المحرمة مترددًا في اللحظة التي خرجت فيها أمه من ظلام المسرح في ثوب ساحرة قروسطوية وهي تنشد شكسبير وموليير نشيدًا شجيًا، دعتني إلى أن ألعب معها دورًا، فلم أطعها، فهددتني بمصير يكون لي فاجعًا مثل مصائر كل الأبطال المأساويين، فأحرقت شعرة من الشعرات الثلاث التي أعطتني إياها ابنة ملك الكلام. وفي الحال، مزقت ابنة ملك الكلام حجب الظلام، وحضرت من أجل حضرتي. حكيت لها عن الخطر المحدق بي بلغة فيها بعض الفصاحة، وأمه إليّ شاخصة ببصرها لا تنطق ببنت شفة، فأتت أميرة الكلام بسيوف الغرف سبعةً وأربعين سيفًا انغرزت بأمرها في صدرها، وأنقذتني من مصير غير مصيري، وحررتني من دور غير دوري، وفي الوقت ذاته كل الصبايا معي، ومن عقابٍ كان ينتظرهن خلصتهن. قالت لي لن يمكنك الدخول إلى الحجرة المحرمة إلا إذا تزوجت منهن سبعًا، وحبلن منك سبعًا، وقضيت معهن سبعًا، ولن يخلصك منهن إلا سبعة رجال هم إخوتك وأعداؤك، وذهبت. أمام المأزق الذي تركتني فيه، أتتني أدهاهن برزمة مفاتيح، وقالت سيفتح أحدها باب الجحيم إن أنا أخذتها من دونهن كلهن زوجًا، فأخذت رزمة المفاتيح منها عنوة، ورحت أجربها، لكنها كانت إما أكبر وإما أصغر، وفي النهاية، فككت السلك الذهبي الجامع للرزمة، وجعلت منه شكلاً مناسبًا ما أن دفعته في علامة استفهام الباب حتى انفتح على مصراعيه. استقبلني سوط الريح اللاسع، فأمسكت به قبل أن أغلق النافذة، ورحت أسوط الصبية الأدهى ثم أغلقت الباب بيني وبينها، وأنا أسمعها تنوح، وأخواتها ينحن معها. فجأة، خارت قواي بعد كل ذلك السفر الطويل، ألقيت بنفسي على السرير، وقلت جئت لأرتاح من تعبي ولأريح قلبي. والصبيات ظللن ينحن حتى كللن، فسمعت أجنحة حمائم تخفق، ورأيت من فضاء النافذة سبعًا وأربعين حمامة تعمل غمامة. قرصتني معدتي الخاوية، أردت أن أكسر ثلاث بيضات في المقلى الذي أخرجته من الخزانة بعد أن حطمت أقفالها، لكنني أحسست بجوعي الحقيقي، وكأنني لم آكل منذ دهور، فقررت أن أقلي البيضات السبع التي في العلبة لآكل ولا يُطْعَمُ معي عبادي. وأنا أكسرها كانت تسقط من كل بيضة صبية، وهي تهانف، ثم تهرب خارجة من الحائط، فلم يبق لي ما آكل سوى بضع كسرات خبز يابسة احتجت إلى كسرها بالقوة. سقطت كجبل سقطت حصاه، فخلعت حذائي بصعوبة، ورميت سترتي دون عناية. حملت جسدي بملابسه المغبرة، ودخلت به في فراشه الأبيض، لكن أمه في ثوب الساحرة القروسطوية كانت تنام في المكان الذي أردت النوم فيه. تفاجأت بوجودها، وقمت فزعًا، فسكّنت روعي، وقالت كنت أنتظرك لتأتي معي، فنزرع في حقل مارس زعترًا بدلا من زنابق بيض دمرها ابني في حلمه، ولما طال مجيئك غفت عيني، لهذا تجدني في فراش أنت فيه وهو لابني. أخبرتني أن عيد السين قريب، وإلا لما لجأت إلى عوني، وفي عوني لها قوة الفأس وإرادة البذرة المتفجرة بالحياة في رَمْشِ عين ولعنة غيري بها صالحة. كنت أشك في إخلاص أمه لي، فهي مثل ممثلات المسرح تحب حب الجمهور لها، وهي مثل زوج أبي تكن لي كره زوج الأب التقليدي في مجتمعنا. قالت ليكن زهر الزعتر وعطره ضامنين لي عندك، وبعد العيد لك أن تفعل مع ولدي ما جئت لأجله، لتقتله أو ليقتلك، فهذا دمك، وذاك دمه، وأنتما كل واحد منكما عبد في هذه الحضارة. ولما سألتها عن باقي أولادها لِمَ لا يأتون لعونها قالت إنها أخرجتهم من الجدار، فصاروا كلابًا، ثم تفرقوا على عتبة الدنيا، وهي لا وقت لها كي تذهب عنهم باحثة في كل أرجاء الأرض، أما بعد العيد، فسيكون أمرٌ فيه خير لهم جميعًا. كان حقل مارس يغص بجثث الزنابق التي قتلها علي في حلمه، وكان عليّ أن أرمي الجثث في السين لتأكلها الأسماك، فأخذت أرميها، والنهر يلتهمها. وكانت أمه تنثر في كل شبر أفرغه من الجثث بذور الزعتر البلدي، زعتر الجليل، فتتفتق عنها في اللحظة ذاتها أوراق دقيقة مخملية حتى صارت بحور الزعتر تموج في حقل مارس موجًا، وتطلق عطرها على قباب باريس، فتملأها شذى.
الفصل 3
علي في الكلية... وحش خرافي يخرج من جسد نحلة
أثار عطر الزعتر رغبتي في البقاء في البرد، فخففت من سرعة الدراجة، وغدوت في صقيع العطر مخلبًا ومنقارًا. كنت قد خرجت من جسد الطائر المسحور بضع لحظات بسبب الأضواء الحمراء، ثم عدت أدخل فيه، ومددت جناحيّ في البرد سعيدًا، والريح تلسعني لذيذة، عطر الزعتر المر يجعلها ألذ سكرًا. وأنا أخترقها، وأنا أثيرها، كانت تتمزق كالشِّفِّ بين أصابع نزقة، وأحس بها قطرةً من النشوة تتفجر في كل الأرجاء. بعد ذلك، واجهني الضوء الأحمر من جديد، ضوء بطيء أذهَبَ العطر في سماء الرماد. انحدرت يسارًا، وأنا أرى مصابيح مكتبة الكلية المشتعلة، لانطفاء النهار في منفضة الدنيا، وموت الشموس على الجدران. كانت على الجدران إعلانات من كل نوع وشعارات مخططة بكل لون، من الطابق الأخير إلى الطابق الأول، وكأن واجهة الكلية ورقة رسم منتزعة من دفتر طفل غير بريء! وعلى الرغم من حركة الطلاب الذين يقطعون الساحة للدخول إلى الكلية أو الخروج منها والصيحات الداعية لشراء جريدة أو المطالبة بدعم الحركات الفنية كنت أنأى عن الجميع، ويصبح اتصال الآخرين بي صعبًا، وأبقى دون أن تربطني علاقة صداقة بأحد. كنت أرغب خلال الدقائق الباقية على وصول موزع لوموند في شرب فنجان قهوة ساخن، والتهام أحد الساندويتشات الطرية. وأنا أتجه إلى الكافتيريا، اعترضتني في البهو منصات دعائية لممثلين دوغوليين وتروتسكيين وماويين وشيوعيين واشتراكيين وفاشيين... جبهة فن إريتريا، جبهة فن عُمان، الجبهة الفنية لتحرير فلسطين، واتحادات طلبة مهرجين من كل الجنسيات في العالم... مطالب سيركية على الأعمدة مكتوبة بخط اليد من السقف إلى الأرض، وفضائح فنية... أخذت أربعة منشورات أو خمسة لأرميها في أول صندوق قمامة، وأثارتني قرب المصعد مناقشة حادة بين بعض المنتظرين للصعود فيه، وأنا ألاحظ شعر المناقش السائب كيف يضرب جبينه كلما صاح. انتبهت إلى فتاة قصيرة ذات ثديين هائلين تعيد تلقائيًا آخر كلماته وابتسامة مُرة على شفتيها تذكر بعاهرات بيغال. وفي اللحظة التي عبرت فيها الممر الموصل إلى الكافتيريا، وفي خيالي فنجان القهوة الساخن الذي يتصاعد منه البخار وساندويتش الجبن الأبيض أو اللحم الأحمر، دخلت في عالم أحسست بعدم انتمائه إلى عالمنا، فمجموعات كثيرة من الفنك أو الهيبز في ثيابها الهندية أو الجركسية المزركشة أو الملونة تتوزع هنا وهناك في هذا العالم البدائي الغريب: من يعرض أقراطًا وأساور منقوشة بالإزميل أو ألبسة الزاسية وفرعونية مطرزة باليد ومن يفرش مجلات جنسية إلى جانب صور خيالية مرسومة بالريشة... من يعزف على القيثار ومن يشرب المخدرات. انبثقت من الدخان امرأة شبه عارية، واقتربت مني لتأخذني بين ذراعيها، فقلت إنني جائع، فقالت سأشبعك. لم يكن الوقت وقت عناق، وأنا كيف سأطارحها الهوى تحت بصر كل الناس وسمعهم؟ أبعدتها عني بلطافة دون أن أتحاشى التعثر بسيقان فتيات مستلقيات نصف شابات نصف شيخات ذوات هيئات متوحشة: بعضهن يمددن أياديهن من تحت أثواب رجال حلقوا شعرهم كالكهنة البوذيين، وهم يقفون بأنصاف أجسادهم دون أن يبذلوا أدنى حركة، والفتيات يفركن بين أصابعهن ذكورهم المنتصبة، وبعضهن يطبعن ثغورهن على ثغور بعضهن، ويبقين في أماكنهن شمعًا. كانت الرائحة كريهة، تزكم الأنفاس، ومع ذلك، فنشوة مبهمة كانت تنطق بها تلك الوجوه الشوه. على طاولة الشرب قلت للعاملة البيضاء: - قهوة سوداء وساندويتش... ثم عدلت عن قراري وأنا أردف بسرعة: أعطني قهوة صغيرة وكروك موسيو. سألتني بطريقة آلية: - واحد قهوة وواحد كروك موسيو؟ قلت: نعم. في مثل هذا الوقت من كل يوم تكون الكافتيريا مزدحمة: هرج ومرج وذهاب وإياب وعناق وعناد، بسبب بداية دروس الساعة الرابعة وانتهائها، الساعة ما قبل الأخيرة لبشر الطلبة! لم تتوقف الأصوات المتواصلة خلفي الآتية من آلات القهوة والعصير الآلية، فالرجال الآليون يصبونها في كؤوس كرتونية لكل من يضع قطعة معدنية، والأرض تحت الأقدام قذرة، وكأننا في حظيرة خنازير. كانت إلى يساري براميل ملأى بكؤوس الكرتون المستعملة، وإلى يميني فتاتان بشعتان تنتقدان بشدة أستاذ الفلسفة، فهل تتفلسفان في الفراش عندما يدخل فيهما قضيب بغل؟ رأيت أحدهم يتقدم من إحداهن، ويقبلها من فمها، فأدرت وجهي باتجاه وجه أمي الباسم الصارم، بينما راح اثنان يرمقانني بغضب دون أن أدري لماذا. لم تحضر المرأة البيضاء قهوتي السوداء بعد، فهل أذهب؟ كان الجوع قد غادرني، وكانت فتاة كالشعاع الأزرق تقف إلى جانبي منذ زمن ليس قصيرًا دون أن أشعر بوجودها. ما أن لاحظت الفتاة اهتمامي بها حتى نقلت كأس قهوتها الممتلئة إلى منتصفها، وألقتها في برميل، ثم ذهبت بخطوات لا مبالية. - واحد قهوة وواحد كروك موسيو؟ سألت النادلة. قلت: نعم. وضعت طلبي قبل أن تضيف: - فرنكان ذهبيان. أعطيتها ثلاثة فرنكات ذهبية، وأخذتُ بيضتين مسلوقتين من هرم بيضٍ منتظرٍ لأسنان خوفو. حركت سكر قهوتي، وأنا ألتهم الكروك موسيو الساخن جدًا دون متعة، وقضيت عليه بدقيقة واحدة. قشرت البيضتين، وأنا أدفع في فمي الواحدة تلو الأخرى، ثم حملت قهوتي، وعدت أدراجي، وأنا أحتسيها في طريق الغريبين ذوي الرائحة الكريهة. لم أفطن إلى نفسي، وأنا أعبر بينهم عبور الأليف إلى الساحة. كان الموزع قد وضع أول رزمة من نسخ الجريدة على السور، فتساءلت متى سينهدم تحت يديه، لكنه رفع لي يده ذات القفاز الجلدي عندما رآني، وانحنى مثل عبدٍ لصاحبة الجلالة: - لم أجعلك تنتظر طويلا. قلت: أنتظر منذ أول حرف في الكتابة. لم يفهم قولي، أعطاني ظهره، واتجه إلى العربة. فككت الرزمة، فرشت الغلاف الذي كان يلفها لأضع الجرائد عليه، حملت نسخة، وصحت بالعابرين من بشر الجامعة: لوموند! لوموند! وهكذا بدأت عملية البيع. أخذت أفكر في حقل مارس المزروع بزعتر الجليل، وتمنيت لو أنه العليق أو القويصة، لكنني أوقفت التفكير في ذلك بسرعة لئلا أقتل في خيالي أحب نبتة إلى قلبي وقلب العلم. كان البعض يسلمني ثمن الجريدة في يدي قطعًا نحاسية، والبعض الآخر يلقي بها إلى جانب الرزمة، وأنا أقبض ثمن الكلام البسيط قبل عودة فصلِ قحطٍ سيعم العقل كان قد تنبأ به نبي عليم. قال الموزع الذي عاد: - هذا كل ما عندي لك إلى حد الساعة. وهو يلقي برزمة ثانية، فقلت له: أشقيت نفسك! وأنا أنظر إلى وجنتيه الحمراوين وإلى شاربه مع هذا البخار المتصاعد من فمه، وكأنه عشبٌ في غابة ضبابية. - لم أشقِ نفسي. ابتسم لنفسه برضاء، ثم هتف كمن لا يرغب في غضب صاحبة الجلالة عليه أو أنه رد فعل من ردود فعل العمل الذي اعتاده: - إلى اللقاء مع الطبعة الأخيرة. قلت: إلى اللقاء. ومن جديد، أخذت أنظر إليه بحذر واهتمام، فتخيلت أنني رأيته في اللوفر أو في إحدى هجراتنا أنا وأمي وإخوتي في التاريخ. تمنيت أن يكون شارلمان مخترع المدرسة، للعلاقة التي تربط المدرسة بالكتابة والكتابة بالجريدة وبكل ما نقرأ. رحت أدعو القراء من إنس الطلبة وجنهم إلى شراء لوموند، فتتجاوب معي أصوات أخرى ضائعة في عالم الكلام: روج! شارلي هيبدو! بليه بوي! ريفولوسيون! لكنني كنت الأكثر بيعا والأكثر إحساسا بالبرد، فعزمت على أن أشتري قفازًا من الجلد على غرار عبد صاحبة الجلالة، ثم قلت من الصوف يكون أفضل، وأنا أفرك كفًا بكف دون أن أستطيع إيقاف حركتي هذه: إلى الأمام، فإلى الوراء... إلى اليمين، فإلى اليسار... كانت الحركة لا إرادية، وكانت مقترنة بالانحناء حتى الرزمة كلما أتى أحدهم يريد جريدة، فحركتي إذن كانت موضوعية، مثلما يقول المحللون الإيديولوجيون. غصت الساحة بالطلاب المغادرين أكثر من الآتين، وأنا أفكر في الدخول إلى البهو في المرة القادمة، فهو دافئ، لكن القدم هناك ليست على مثل غزارتها هنا، إذ من العادة أن يمر الجميع من هنا، وعلى أي حال، لا بد من شراء القفاز. معطفي هذا يدفئني جيدًا رغم قدمه، ولن يمددني معطف جديد آخر بالحرارة أكثر. يجب احتمال كل شيء! ولماذا أنا هنا؟ أليس من أجل احتمال كل شيء: القر والحر، الشر والخير، الرديء والمريء! هذا لا يعني أنني أريد العيش فقط من أجل العيش... أما إذا مس شعوري أمر قذفت بكل شيء. الرضاء بالأمر الواقع من صفة الجبان حتى ولو كنت غريبًا! بقيت هذه الكلمات تتصادى في رأسي: "الرضاء بالأمر الواقع من صفة الجبان حتى ولو كنت غريبًا!" كانت تلك كلمات أمي التي ضحكت مني، وقالت: بل عليك أن تحتمل القر والقر، الشر والشر، الرديء والرديء! ثم أضافت للتخفيف عني أن خلاصي كامن في مهمتنا أنا وإخوتي التي حدثتني عنها ليكون عيد السين ولتكون الدنيا عيدًا، فغضبت، وقلت إن إخوتي قد مُسِخوا كلابًا، وتوزعوا في كل أرجاء الأرض، فكيف أجدهم؟ وإذا وجدتهم، فكيف أعيدهم إلى صورتهم الأولى؟ لا هم سلحفاة يمكنني إحراق بيتها ولا هم حية يمكنني إحراق ثوبها، وهم لهذا سيظلون على صورتهم الحيوانية موزعين في كل أرجاء الأرض تائهين، والذنب ذنبك أنت، فأنت التي أخرجتهم من الجدار، والجدار جدارك! قال لي أحدهم: انتبه! أعطني جريدة! كان رجلاً في عقده الخامس، وكان شعره خفيفًا، وشاربه كثيفًا، وقامته قصيرة. ربما كان مستشرقًا. ناولته نسخة من الجريدة، فرماني بثمنها، وهو يقول بعصبية: - أجسادهم على الأرض ورؤوسهم في السماء! وأعطاني ظهره بعجلة، فصحت به متهكمًا قالبًا على ظهرها مقولة قديمة: - أجسادهم في السماء ورؤوسهم على الأرض! التفت إليّ بوجهٍ وحشيّ، وراح يحدجني بعينيْ جزارٍ إلى قطيع بقر مشرقيّ، وهو يجمجم دون أن أسمعه، فصحت به من جديد، وقصدي هذه المرة استفزازه: - أخذ الله في عونك، يا ترجمان القصر! طوى الرجل قامته، ولم يجب. حيرني أمره: أمستشرق هو أم ضابط قديم من ضباط نابليون؟ قبل أن يبتعد، تلقفه متسول يرابض دومًا أمام الكلية، وناداه بصوته الأجش: يا معلم! أعطني تذكرة مترو يا معلم! لكن الرجل ظل يتابع طريقه دون أن يعيره أدنى اهتمام، فتعلق المتسول بذراعه، وأعاد: يا معلم! أعطني تذكرة مترو أبيعها وأشتري بثمنها نبيذًا! نفض الرجل نفسه، وقال بنبرة لا تخلو من الاحتقار: - لا يوجد عندي ما أعطيكه غير الدعوة لأجلك! وراح يحث الخطى مبتعدًا. بعد فترة قصيرة من غيبة المخمور، قفز المتسول مهرولاً، وتعلق بذراع الرجل من جديد: يا معلم! سنعمل تسوية ودية ما بيننا، أعطني فرنكًا ذهبيًا بالمقابل! وقف الرجل بهيئته الغضوب مع المتسول وجهًا لوجه، وراح يقلب فيه النظر، وموجة من التقزز طغت على تعابيره، ثم ما لبث أن رفع عنقه إلى أعلى، ونبر: - يا حثالة، ابعد من هنا! وعاد يحث الخطى، وهو يشد محفظته الثقيلة إلى ضلعٍ لم يصنع الله منها حواء، فترتفع له كتف، وتسقط له أخرى، والمتسول يقذف من ورائه: - أيها العجوز الصغير! هذا جزائي لأنني لم أعرف فيك قذرًا منذ اللحظة الأولى أيها العجوز الصغير! أيها المغفل! أيها الوضيع! فجأة، قطع المتسول شتائمه، وتلقف إحداهن: - يا معلمة! لا تكوني لئيمة، أريد تذكرة مترو، يا معلمة! ابتسمت الفتاة للشخصية التي لم يلتقطها ميكيل أنجلو، وتابعت طريقها، بينما أخذ المخمور يترنح، وهو يردد: آخر الأيام! إنها آخر الأيام! وقد انطحنت ملامحه. قالت لي إحداهن، وهي تقفز كالنحلة: - هل هناك أخبار مهمة؟ وسحبت نسخة من الجريدة، وهي تبدو مستعجلة. - هناك ما هو مهم دومًا. وأعطتني فرنكًا ذهبيًا، وهي تحثني على إعادة ما لها بإصبعيها. وأنا أعيد إليها من القطع النحاسية ما لها، قلت: - لم نعد نراك، يا كاترين. فتفاجأت الفتاة: ولكنني لست كاترين! وتفاجأت من أمر كاترين معي، فهل هي روح شيطان على شكل نحلة؟ كاترين بلجيكية، وهي فتاة ظريفة وطريفة لكنها دومًا مستعجلة أو مشغولة! لم أدر لم حسبت تلك الفتاة كاترين مع أنها لا تشبهها، لربما لأنني لم أرها منذ فترة طويلة. أخذت الساعة تقترب من موعد وصول الطبعة الأخيرة، فقلت لنفسي سيأتي صديقي محمد الفاسيّ بين لحظة وأخرى ليحل محلي. كان عليّ أن أذهب إلى كنيسة سان جيرمان دي بريه، إذ بعد ساعة تكون المراسم قد انتهت، وتبقى لي مهمة التنظيف. اليوم الجمعة، إنه الموعد المعتاد، وكذلك السبت غدًا، أما الأحد، فبعد القداس. رأيت الفتاة ذات الشعاع الأزرق تقترب من بعيد، كانت تختفي وراء أحد العابرين ولا تلبث أن تظهر من جديد. توقفت عن التنفس دون أن أشعر بتهديد الموت الجميل القادم، وأنا ألاحظها ترسل لي نظراتٍ حُيية أذهلتني. لم يكن من عادتي أن أرمي الفتاة التي يقع عليها إعجابي بكلمة إطراء لكنني عزمت على أن أفعل مع هذه الملاك التي لا أدري أمن ملائكة الجنة هي أم من ملائكة النار. معطفها البنفسجي بلونه النقي وعيناها الزرقاوان كسماء صافية وشعرها الذهبي المتراخي ونحول وجنتيها الغريب، كل هذا جعلني أرمي النظر إليها عن كثب مثل عاشق لا يفهم للعشق أي معنى. قبل أن تمضي، ابتسمت لي بشفتين مترددتين، ثم عجلت الخطى، فسجدت لها، ولما رفعت رأسي إليها، رأيتها طيرا يحلق في أعالي السماء. على حين غرة، أحسست بيد محمد الفاسيّ على كتفي، وهو يسأل عن مكاني في الكون: - أين أنت؟ ردني إلى الضجيج والعجيج. قلت: أنا في الحلم والصراع! لكنه سأل: - هل وصلت الطبعة الأخيرة؟ قلت: لا. قال: لقد ماتت كاترين، قتلها واحد أرادته حبيبًا، واحد أحبته حتى الموت، فخرج من جسدها وحش خرافي. إذا بصوت عربة الموزع يصلنا، وهو يطغى على صوت دهشتي. التفتنا، فرأيناه، وقد هبط بخفة، وتقدم برزمتين من الجريدة، وهو يقول بنبرة ساخرة غير مصدق: - وحش خرافي يخرج من جسد نحلة! إنه عنوان الطبعة الأخيرة بالبنط العريض! وضع حمله على السور، وذهب باتجاه العربة متضاحكًا، ومحمد الفاسيّ يقول له حزينًا: - لا تنس الرزمة الثالثة... ومحمد الفاسيّ يقول لي مريضًا: آه! يا لتعاسة العالم! همهمت منذهلاً: أنا ذاهب إلى الشيطان، فإلى الاثنين! قال محمد الفاسيّ دون أن يغادره المرض: إلى الاثنين، إلى فاجعة أخرى. أضاف ليخفف من أثر الصدمة عني قليلاً: لا تفكر كثيرًا في كاترين! وأنا أهمهم: هذا يوم عجز العمالقة! التقيت الموزع، وهو يعود بحمله، فيبدو أقرب إلى شرخ الشباب. سألني، وهو يبتسم كالأبله: أنت ذاهب؟ وقد بان عليه أنه نسي كاترين تمامًا، وكأن الأمر مزحة صحافية سمجة. قلت: أنا ذاهب. فهتف: إلى الاثنين! نهاية أسبوع طيبة! قبل أن يضيف: حذار من أن تقرصك نحلة! ثم انفجر يقهقه، فاندفعت أضربه على صدغه المثلج إلى أن جعلته يتلوى كالدودة في دمه. فككت دراجتي المربوطة بعمود الضوء، وانطلقت باتجاه حقل مارس بحثًا عن أمي إلى أن وجدتها وريمي يصارعان الموج، فالسين فاض بمائه لكثرة ما ألقيا فيه من جثث الزنابق، وكانا بحاجة إلى عوني. أخذت أصارع الموج معهما، والموج يُغرق ربوع الزعتر، وينقض على الجسور، ويجتاح شوارع باريس. كانت الأمواج الجبارة قد ارتفعت، وهدرت، فتجاوزت بعلوها برج إيفل، حتى أننا رأينا من فوقها هضاب الكرمل التي جاءت تسلم علينا. جاء أهل باريس أيضًا، وعملوا بمعونة أستيريكس وعلاء الدين على إفراغها من الأمواج، وأنقذوا تماثيلها ومتاحفها وقوس نصرها. وبعد أن اطمأنت أمي على المدينة التي تحبها مثل القدس قالت لي: اذهب الآن إلى المسيح المعذب وموكب العروس وناتالي الشقية، وغدًا سنقيم للسين عيدًا ما بعده عيد! كان ريمي قد اختفى في رماد الحضارة الحديثة أو أنه غرق في اللج القديم، فقلقت عليه قلقي على إخوتي الكلاب الممسوخين.
الفصل 4
علي في الكنيسة... لقد تأخرنا كلنا عن الدخول في المملكة
أخذت أجراس كنيسة سان جيرمان دي بريه تقرع، وكأنها تحييني تحيتها للسلاطنة والملوك، فخلت قبابها القوطية، وهي ترتفع على أكتاف بنائين أنقياء بالفطرة اختارهم البابا بعد أن فرزهم بالسياط، ورسامين مدنسين أرغمهم على رسم أطهر صور للعذراء، وهي في حضنها صغير سيكبر على صليبٍ من خشب الجوز المتين المجرم الشارب للدم البريء. وأنا أدخل من باب جانبي إلى حجرتي، قابلني القس بهيئة تشبه الشيطان، وقال لي بنبرة ساخطة ليس فيها من الندم والأسف شيء: - تدبر أمرك، ستحل محل معاوني! إتمام العرس يتوقف على حضوره، لكنه لم يأت إلى حد الآن، وقد تأخر بنا الوقت كثيرًا! انفرجت همومي، فكأن كاترين عادت إلى الحياة من جديد. قلت له بهدوء القادم على مشروع فيه من المغامرة الشيء الكثير: - ولكنني لا أعرف شيئًا من المراسم. جمع ثوبه الكهنوت الذي يجر على الأرض، ورفعه بحيث جاءت قبضته تحت سرته، فكأنه يوليوس قيصر بعد اعتناقه المسيحية. رجعتُ خطوة إلى الوراء خشية منه، في اللحظة التي تقدم فيها بكرشه الضخمة مني، وسألني مستنكرًا: - ألم تشاهد أبدًا عرسًا في كنيسة؟ وهو يهز وسطه بعصبية، فيبدو مهرجًا فاشلاً. قلت: - شاهدت، ولكن... - ولكن ماذا؟ من الدارج أن يكون لدي معاون وإلا أنجزت وحدي كل شيء. أمام غضبه، ابتسمت، وأنا أحاول أن أتذكر أول عرس شاهدته في كنيسة قريتنا لما كنت طفلاً غير بريء: - وماذا تريدني أن أفعل؟ - سأرشدك إلى ما يجب عليك فعله، فكن ذكيًا ولا تعقد الأمور. رمى لي ثوب كهنوت كان معلقًا هناك، وأضاف: - عجل بارتدائه، ولا تنس أن تغطي رأسك. وهو يقذف لي قلنسوة. على الباب، التفت إليّ بهيئة مبتهلة، وقال بنبرة دُعائية: - سيغفر لنا الرب يا ولدي! إذا لم نفعل ما نفعل فرغ صندوق الكنيسة، واحتاجنا ذلك إلى طلب الصدقات من عبيد المال الأثرياء! ثم همهم رافعًا رأسه إلى السماء: ليهد الرب أصحاب المال البخلاء! بدأ القس مراسمه، فبدرت عني، في البداية، بعض المواقف المضحكة، لكنني استطعت أن أتعاون معه بقدر المستطاع على الرغم من غيبتي الدينية في جو الكنيسة الصامت إلى حد الرعب. كان الجمهور يتابع بانتباه، وأنا أرهف السمع لما لا يقال بعفوية لا حيرة فيها ولا ارتباك. أضواء القناديل الصفراء، وجذوات الشموع الراعشة، والأيقونات التي تذكر بروسيا البيضاء، والجدران المعتمة ذات الرسوم الزيتية المختلفة للمسيح المعذب، وكراسي القش العتيقة، والتماثيل الكاتمة لضحكها الأسود، وإلى جانب هذا كله نَفَس الموت على الرغم من وجود عروس نضرة في ثوب أبيض تبتسم بين حين وآخر، كل هذا كان يجعلني أصغي لذاتي، فأدرك أمورًا كثيرة مبهمة أعجز عن إدراكها في الشارع. وعندما بدأ القس يرتل، وحمل كل منا وعاء البخور، عندما تقدمنا موكب العروسين، انتهت ما بيني وبين نفسي علاقة معرفة قديمة كنت قد أهملتها منذ زمن، لكنني بقيت أحتفظ بها دون شعور مني، وفجأة، أحسست بي جزءًا من صوت عظيم يتعالى على الرغم مما كان ينقصه من أنغام الأرغن، إلا أنني وصلت بنفسي من خلاله إلى أرقى درجات التعالي، وعند ذلك، كانت علاقة جديدة قد ولدت بيني وبيني، علاقة التحام من نوع الخرافات القديمة. كنت سعيدًا وبي بعض الحزن، وقد أملت أن ينتهي ذلك بأقصى سرعة، لا أدري لماذا، ربما لأنني أردت أن أحتفظ بأثر الشوق الإلهي أطول مدة، وربما بسبب النحلة التي كانتها روح كاترين الشيطانية. ولكن الجنة التي تحت أقدام الآباء كانت قد انفتحت أبوابها على مصاريعها، فرأيت على ضفاف عسلها ولبنها أطفالاً لهم قرون مصقولة وأظافر طويلة ملوثة بالدم والمني، وكان الذكر منهم يقف بذكره القصير المنتصب من وراء الأنثى أو من أمامها، ومن شِقها يسيل المني والدم بينما يقوم القس عليها شيطانًا من شياطين الجنة بقامة عملاقة وذكر عملاق يضرب به في أرض الجنة مزلزلاً، أو بقرنيه الدقيقين يدق شجر تفاحها، فتخرج من الشجر ملايين الحيايا البراقة التي تأخذ بعصر حواء بعضلاتها، وآدم يقهقه منسرًا. ظننت أنني لا أعرف آدم هذا، وظننت أنني لا أعرف حواء هذه، وكان من آدم أن راح يصرع الحيايا بضربات كفه القاتلة، ثم أتى حواء يحملها بين ذراعيه إلى تفاحة قطفها، وقال لها كلي من هذه التفاحة لنخرج إلى الدنيا، فيكافئني الله على معروف أصنعه لك أجزل مكافأة، لكنها أغرته بنهدها وبطنها ومهبلها، فدخل بها عالم الجحيم اللذيذ، المليء بالملائكة الطيبين المحترقين أو الذين في صدد الاحتراق، وهم يبتسمون سعيدين. نظرت في قاعات الجحيم، فرأيت ملائكة من اليهود وملائكة من العرب ترتدي الجينز والبلوفر، ولم أفرق بين عذاباتها وعذابات المسيح الذي كان برفقتها. وفي لحظة من اللحظات حسبتها تبكي بكاء البشر من أهل هذه الدنيا، وليس هذا من شأن أهل جهنم الذين يهبون أنفسهم وقت الخطر عن طيب خاطر، فيعطون درسًا عظيمًا لا يُنسى لنا نحن أهل هذه الدنيا غير الخالدين فيها... ثم ما لبث الجميع أن ذهبوا ليأكلوا الهمبرغر، فقد دقت ساعة الآخرة اثنتي عشرة دقة، وليشربوا الكوكا كولا أو عصير برتقال من كاليفورنيا. عندما فرغت الكنيسة من الناس، أردت مغادرتها بأقصى سرعة. شكرني القس، ووعد بإعطائي بعض الفرنكات الذهبية زيادة على ما يعطيني عند آخر الشهر، وفي الوقت ذاته، طلب أن أترك له دراجتي النارية لقضاء بعض الحاجات، فوافقت، وأنا أفكر في أن أمي ستقتله، لكنني لم أقبل فكرة الجريمة، وعزمت على الدفاع عنه. كنست القاعة بسرعة، ثم رتبت الكراسي. كنت وحدي في جوفها، لكنني لم أكن الماضي، ولم تعد الكنيسة جزءًا من مكان خيالي بعد أن غدت مثل جوف تمساح يترصد العالم. كانت القاعة باردة في كل شيء، وقد أحسست بوطأة الفراغ فيها، مما أثار في قلبي الحيرة من جديد. وكان من عادتي أن أطفئ الشموع المحتضرة، لكنني لم أفعل مثلما لم يفعل يوسف عند قدمي مريم. خففت إلى الحجرة التي أضع فيها أدواتي، ارتديت معطفي، وبعجلة خرجت إلى فضاء باريس، فسقطت بين أنياب البرد وأحدهم يدنف على مقربة. قطعت الحديقة إلى الساحة المقابلة للكنيسة، ساحة المهرجين والممحونين، ورأيت من بعيد، تحت عمود الضوء الملاصق لمقهى تمثالي الصين ناتالي بانتظاري. عندما رأتني بدورها، تقدمت مني باشة هاشة. وفي اللحظة ذاتها، أقفل القس بوابة الكنيسة. ترددت، وأنا أشاهد أضواء معتمة على شفتيها، فصاحت: - أنا بانتظارك منذ أن بدأت الساعة تدق دقاتها. فعن أية ساعة تقول؟ ساعة الحشر المعقول أم ساعة الغرام اللا معقول؟ بقيت أتأمل وجهها الأسمر كيف يغدو حديقة، وكيف تجمع شعر الليل في ياقة معطفها، فتغدو لؤلؤة في محارة. فتحت لها ذراعيّ على سعتهما، فجرت، واحتضنتني بقوة. قبلتها، وأنا أدور بها، وتذكرت فتاة الكلية ذات الشعاع الأزرق. لففتها من كتفيها، وسرت بها... ثم سألتها، وأنا أجذبها إليّ: - هل شاهدت العروس؟ هزت رأسها كطفلة ليست بريئة. - هل أعجبتك؟ عادت تهز رأسها كطفلة ليست بريئة. - والعمل؟ هل وجدته؟ غدت شيخة ليست رجيمة: لم أجده. - ماذا قالوا لك؟ - المصانع تقفل، ولا أحد يهتم بنسيج القطن اليوم، إنه عصر الترجال والبولستر والنايلون! رأيت في عينيها دمعا، فلم أصدق ذلك، هي التي كانت تبدو منذ لحظة واحدة فقط لؤلؤة سعيدة لم تعرف الحزن أبدًا. سألتها عما بها، فانتظرت قليلاً، ثم قالت: - كان العاطلون عن العمل يتدافعون أمام شبابيك الوكالة الوطنية للعمل، يصرخون، ولكن دون أية فائدة، يشتمون، ولكن دون أية فائدة. - أنا أعمل على كل حال، ألستُ من المُسَخَّرين؟ وكأنها لم تسمعني: - سيوقفون ما يدفعونه لي من تعويض عن البطالة ابتداء من الشهر القادم، سيكون شهرًا يتيمًا! - قلت لك أنا أعمل على كل حال، أنا أعمل بقدر قبيلة! قالت لي أمي اذهب، وتعلم أولاً، واتركنا لشأننا، لكنني اكتفيت بشراء قاموس وموسوعة كنت ألجأ إليهما بعد عملي المرهق كل مساء قبل أن أعرفك، قرأتهما لأعرف ما أعرف قبل أن أبيعهما بنصف ثمنهما يوم وقعت أمي مريضة. وكأنها لم تسمعني: - عندما صفوا مصنعنا قالوا لنا لن تحتاجوا إلى كثير الأيام كي تجدوا ما هو أفضل، وتمضي الأيام... فجأة، مضت سحابة الحزن، فابتسمت، وطفا بالحزن قلبي. - أزيد همومك، أليس كذلك؟ قلت: لا. أشارت إلى ساعتها: - لم يبق لك إلا القليل من الوقت، عليك أن تذهب إلى متجر فيليكس بوتان. - لن أذهب. استدارت، وقالت بحاجبين دهشين لذيذين: - أنت متأكد؟ بقيت تتمسك به لأنه عملك الوحيد الذي ترتاح فيه، فحسب رأيك الناس هناك ليسوا عنصريين، كلهم في الليل سواسية. نفخت: يكفيني ما لدي، الفندق والجريدة والكنيسة، يكفيني ما لدي... لن أصبح المسيح ولا عبدًا في خرافتهم الآلية! سألتني بنبرة دافئة لم تخف سرورها لبقائي معها: - هل بدأت تتعب؟ قل، بدأت تتعب أم بدأت تشيخ؟ كنت أفكر أنها إلى جانبي مثل ظل يوحنا ليوحنا، فانبثقت حاجتي إليها أكثر من أي وقت مضى حتى قميص القلب، حتى مسام الأصابع، وعزمت على أن أمنع أمي من ارتكاب جريمتها في القس، وأن أستعيد دراجتي النارية منه في أقرب فرصة. أمام سكوتي، أذعَنَتْ لسعادة تأتي بها صورتي إليها عاريًا: - كما تريد، كان ذلك من رأيي، لكنك كنت تعاند دومًا لأن الله لا يدفع لك كثيرًا. هكذا تريح نفسك، وأستطيع أن أراك أكثر... لا يكفي الحلم أن أراك فيه. تأملتني في صمتي، ثم قالت لي، وقد عتمت ملامحها من جديد: - أتخفي عني شيئًا؟ رفعت حاجبًا مثقلاً، ولم أقل لها إن كاترين ماتت: - لا شيء، كل ما في الأمر أنني جائع. - هناك مطعمنا اليوناني "لاكروبول" على بعد خطوتين. - أريد أن آكل شيئًا خفيفًا، سندخل مقهى، وآخذ شيئًا خفيفًا. رفعت في وجهي إصبعًا مهددًا، وأنا أشم عبق ابتسامتها المر المدوخ: - وهل ستبتسم لي؟ إذا ما شبعت، هل ستبتسم لي؟ بقيت تهز إصبعها على مقربة من وجهي، فتهتز في عينيّ كل براعم الموت المتفجرة بالحياة. أخذت أرنو إلى تلك المخلوقة الفريدة التي تقاوم كل همومها من أجل أن أبتسم، ثم انقذفت جامعًا إياها في أحضاني. وفي لحظة التحام المجنون بالمجنون أردت قذفي معها تحت عجلات أول سيارة قادمة، لكنني تشبثت بلامبالاة البشر العابرين طريقهم. كانت السيارات تعبر شارع سان جيرمان، والأقدام تعبر، ولحظات الليل التي لا تبالي بنا. وكانت أغصان شجرة عارية على مقربة، وأحدهم قد مضى بنا، وهو يصفر: "بلدي ليس بلدًا... إنه الشتاء!" فأردت البكاء. مسحت كفي على جبينها، نقلت بأصابعي خصلتها، وملأت صدري برائحة شعرها. قالت لي: تعال. تعانقت أصابعنا، وسحبتني. تبعتها كطفل غير بريء، وأنا سعيد بشقاء. لم أكن أستطيع تفسير مثل تلك المشاعر المزدوجة: اللاشقاء والشقاء، اللايأس واليأس، اللاأمل والأمل، اللاحقد والحقد، اللاخضوع والخضوع، اللاعناد والعناد، اللاجموح والجموح، اللاتفتق وتفتق براعم الورد في حفلة عصيان على الربيع وانكسار أعناقها في بحيرات الدم، اللاوفاء اللذيذ لذة لا توازيها لذة والوفاء الممل... كانت مثل تلك المشاعر المزدوجة اللامحددة في شرطها الزمني مثلما يقول القاموس تجعلني أرجع إلى الوراء وأتطلع بعين الواعي الواثق إلى المستقبل أو بعين الحالم المتهور. على طاولة الشرب في مقهى كْليني الصغير، أخذت ساندويتش جبن أبيض مع قهوة سوداء. كانت ناتالي تتأملني، طوال الوقت، بحُنُوّ ضقت به ذرعًا، فعجلت الانتهاء، وقلت لها: - سأذهب إلى فيليكس بوتان. لتنكسر كوردة في ضوء معتم: - عرفت أنك ستذهب... إذن، سنلتقي غدًا. دفعت وأنا أؤكد: - بل سنعود ونلتقي الليلة! سأنهي عملي وآتيك على جناحي صقر متهوس بعد أن أبدل ثيابي، حتى ولو كان الوقت آخر الوقت سآتيك! سنتحدى البطالة والعالم، وسنقضي وقتًا ممتعًا. اتفقنا؟ وهي تكاد تطير من شدة الفرح: اتفقنا. سنلتقي في حجرتك؟ - لا، بل في حجرتك. أريد أن نبتعد عن ظلال المسرح الذي أسكن فيه، لا أريد أن أضيعك بين الأقنعة. - سيحتاجك ذلك إلى بعض الوقت. - إذن سنلتقي هنا، في هذا المقهى. سأختصر الوقت. اتفقنا؟ - اتفقنا. - سنبقى معًا طول الليل، وسيبقى الليل طويلاً، فكما تعرفين أنا لا أعمل في الفندق الليلة، حتى ولو كنت أعمل لما ذهبت الليلة لأموت بعيدًا عنك. أحبك! - أنا أيضًا أحبك! أحبك كثيرًا! في الخارج، رفعت لها يدي محييًا، وخلتها ضاعت بين سمك السين وحيتانه. لم أعد إليها، سرت عدة خطوات باتجاه محطة مترو السان ميشيل، لكنها صاحت: - هيه! وهي لا تبتسم، ولا يبتسم معها الحي اللاتيني المتفجر بالحياة عادة في مثل تلك الساعة سواء أكان الفصل صيفًا أم شتاءً. سمعتها تهتف خائفة: - لا تتأخر! قلت لنفسي لقد تأخرنا كلنا عن الدخول إلى المملكة، أنا وناتالي وإخوتي الممسوخون وأمي الملكة وريمي الذي سيغدو أميرًا قويًا وابنة ملك الكلام وكل الفتيات الحمام، لقد تأخرنا كلنا عن الدخول إلى مملكتنا. حلمت بها ملكة متوجة في مراكش المخمل والرخام، وحلمت بها تتأخر بالتاريخ ألف عام إلى الوراء، وصرنا كلنا سعداء، لكن حجر رحى البطالة عاد يطحن رؤوسنا من جديد ورؤوس أهل مراكش السعيدة الذين لا يفصلنا عنهم إلا بحر وقصران. سألني الحارس، وأنا أتساءل أحارس الجنة هو أم النار: - هل تناولت طعام العشاء؟ سؤاله المعتاد! أجبته هذه المرة بالنفي كي أرى رد الفعل لديه، فقال في شبه عتاب: - من واجبك أن تتناول طعام العشاء، هكذا تعمل دون تعب، ولا تكون لك خطيئة! تركني، وذهب في طلب المديرة ليطمئنها، كما يفعل كل ليلة، أنه سيحرس المحل من لصوص الليل، وكأن المحل محله، ولن تغفو له عين، وهو يقلّب النظر في رفوف البضائع حتى الصباح. عندما كنت أقول له تناولت طعام العشاء كان يقول بلهجة رجل جائع متعطش للمجد: "هذا حسن، الطعام ضروري وقتما يكون العمل، فالطعام ابن العمل، والعمل ابن الجد". ولم يكن ينقطع عن تدخين سجائر الذرة. بعد أن ننتهي من التنظيف، يجب أن نمضي بحجرته أولا ثم نقطع ممرًا ضيقًا إلى الخارج، هكذا يمكنه التأكد من أننا لم نلطش شيئًا، وفي كل مرة، كنا نصادفه يمضغ ويبلع ويتجشأ! هذه الليلة مثلاً فتح علبتي لحم بقري محفوظ وعلبتي سردين وعلبتي تنّه وعمل سلطة وقطع العشرات من حلقات السجق المبهر، كما أنني رأيت بضع حبات من التفاح المذهب مفروشة على الطاولة وعنبًا مطعّمًا وبرتقالاً مدمى، إلى جانب صَواع لبن رائب وآخر رز بالحليب وفُرنية، وسمعناه وزميلي الإسباني، وهو يمضغ ويبلع ويتجشأ، فكأنه كتيبة من الجراد الفرنسي المتوسط يروعها السغب الشديد. نظر إليّ، وقال لي كمن يعتذر: - إنه وقت عشائي قبل أن أزمع على السهر طوال... قاطعته، وقلت قوله: ماذا نفعل؟ الطعام ضروري وقتما يكون العمل، فالطعام ابن العمل، والعمل ابن الجد. أستطيع أن أؤكد أنه عشاؤه الثاني أو الثالث والرابع سيكون بعد ساعة أو ساعتين وكأن العالم على أعتاب مجاعة ستودي به إلى إطلاق نَفَسِهِ الأخير، ثم، الحراسة في مفهومه أن ينام ويشبع نومًا إلا وقت أن تأتي الشاحنات بالبضائع، وهذا يحصل مرتين أو ثلاث عند آخر الليل. فجأة، رأيته يمد يده إلى صديقي الإسباني، وصديقي الإسباني يصرخ مستنجدًا بابن سينا، وابن سينا لا يأتيه. كان ابن سينا يحلل دم أهل الذمة، ويقول دم الحضارة من دمهم، وكان ينصح الخليفة بقتل بعضهم ليعرف سرهم، وصديقي الإسباني لا يعلم أن ابن سينا كان من وراء مصرع جد جده. وصديقي الإسباني يعود ويصرخ مستنجدًا بابن سينا، فيرفعه الحارس إلى فمه، ويلتهمه هو وبحر إسبانيا وأندلسنا التي كانت أندلسنا بعد أن غدا السيكلوب الأوروبي المتوقع. أراد التهامي أنا الآخر، فهربت إلى حرم المتجر، وأخذت أرمي برفوف البضائع المكدسة فوق بعضها البعض في طريقه، وهو يهمر، ويزمجر، ويدعس كل شيء، وقد أصيب بلوثة في دماغه. كانت كل الفئران الجسورة في العالم قد خرجت من أوكارها لتمد لي يد العون، فتحول بعضها إلى عرائس جميلة يحبها الأطفال راحت ترقص له لتلهيه أو تجلب له النبيذ لتسقيه، حتى خر من السكر والطرب على قدميه، وذهب غارقًا في نوم عميق. طَلَبَت مني أمي أن أفقأ عينه الوحيدة بملهاب أحضرته لي من لدن صديقها عوليس المنفيّ، فرفضت، وعصرت في فمه المفتوح ليمونة هندية مستوردة من بلاد العم سام ليعود إلى الحارس الوديع الذي كانه، فشكرني، وهو يذرف الدمع الغزير. قلت له إنه أكل صديقي الإسباني، فسخر مني، ثم ذهب جزعًا، واختبأ بين أكوام البضائع الاستهلاكية لئلا آكله أنا أو أقتله لوهم فيه، واحتمى بها، وكأنها بطن عفن. قذفني مترو شاتليه في الطريق المؤدي إلى بيتي، وأنا أحس بجسدي معجونًا بالتعب. فكرت في موعدي مع ناتالي، وفي غانيات المارتنيك، وقلت سأستحم، لا، بل سأحلق، وأغسل ذراعيّ وعنقي. كنت أرغب في مجيء موعدي معها في الحال، وكان شوقي إليها شوق النار للنار... صعدت درج مسرح شاتليه الحديدي الجانبي بعجلة لأتوقف عند عتبة باب حجرتي حائرًا. كان ضوء ينبعث من شق الباب قد ضاعف من خفق قلبي، وفي الوقت نفسه عجلني الضوء في فتحه. وأنا أخطو خطوتي الأولى في حجرتي، فكرت في كل من أعرف دفعة واحدة، وقلت لنفسي لن يكون إخوتي الممسوخون الموزعون في كل أرجاء الأرض قد جاؤوا، لكن مفتاحًا آخر ما كان معهم، وكان مع ناتالي.
الفصل 5
علي وريمي في حجرة كالجحيم: الموت الغريب لروزالي
كانت الحجرة كالجحيم هولاً، والظلام فيها كالسحيق دمسًا! أشعلت الضوء، فلم يبن لي. كان ينام على جنبه، وهو يعطي لي ظهره. وأنا أنحني فوقه، فتح عينيه باتجاه الحائط دون أن يبذل أدنى حركة: إنه ريمي، فهو لم يغرق إذن، ولم ينتحر. سألته: ماذا تفعل هنا؟ وهو دومًا صامت لا يبذل أدنى حركة، يفتح عينيه باتجاه الحائط. بعد قليل، انقلب على ظهره، فالتقت عيناي عينيه الفاحمتين: بطريقة مثيرة! فأين من نظرته النار؟ أين اللعب؟ وأين الرماد؟ قال كالغائب عن الصواب: - كما ترى. لقد دخلت جحيمي. - منذ متى وأنت هنا؟ - ليس كثيرًا، ولكن أقل مما بقي غيري. أنت غيري، فلا تعتب عليّ. - وكيف دخلت؟ غيرك لم يستطع الدخول. سقط في الصمت من جديد ثم انفرجت شفتاه: - كان بابك مفتوحًا. جلس، ويداه تحت اللحاف، وقال بلا تردد: - كان بابك مغلقًا، ولم تكن هنا، فاضطررت إلى فتحه على طريقتي. أقول لك الصدق، كنت منهكًا، فلم أستطع الانتظار، ولا تنس أنه مسرح. وأنا أنظر في عينيه، كانت تنتابني بعض الأفكار السوداء مثل فكرة أنه غيره أو أنه ظل من ظلاله، وفي الأخير قلت إنه هو، فلماذا يكون غيره؟ ولتطمئن نفسي، لجأت لصورة صراعه إلى جانب أمي ضد الموج الهادر في السين. - ألا تحترق في هذا الجحيم؟ أخرج يدًا من تحت اللحاف، وبسط لي كفه. رميت يدي في كفه: كالجليد! فسحبتها بسرعة. وأنا أفتح النافذة، سمعت صوتًا يأتي، وكأنني أسمعه لأول مرة: - لقد ماتت روزالي. عبرت كاترين في خيالي كلمح البصر قبل أن تطغى صورة روزالي على صورتها، فتشنجت أصابعي على قبضة النافذة. اندفعت نحوه كالمجنون، وأمسكت بخناقه دون أن تبدر عنه أية مقاومة: - هل قتلتها؟ - لا! وهو يحرك رأسه على الجانبين ببطء ليؤكد لا البراءة هذه وفي الوقت ذاته نعم الذنب تلك! أحسست مع حركته المتثاقلة وكأنه يرد لنفسه شيئًا، شيئًا ما، لكنه ليس الشيء الذي يريده: - لم أطلب لنفسي فتاة طوال حياتي مثلها، روزالي كانت شوكتي في القلب، وكانت حلمي الضائع، حلمي الخصوصي. عندما ماتت سقطت الشمس في الظلام والجليد. أتعرف شمسًا تطلق الظلام والجليد غير هذه الشمس التي أصبحت شمسي؟ هو جحيم انتصرت فيه العتمة وانتصر البرد وغدا الرماد فيه أجنحة تغطي وجه الكون. قلت غاضبًا: - اسمع، قل الحقيقة، لا تظن أنك ستفلت، تجدهم الآن يصعدون آتين في أعقابك. قتلتها أم لا؟... أنطق! انفتل جامعا نفسه في الزاوية، وقد دب في محياه ذعر شديد، ثم راح صائحًا لا يتمالك عن غيظه: - لماذا أقتلها؟ ماذا فعلت لي كي أقتلها؟ تحجرت الكلمات في حلقه، فراح يسعل سعالاً جافًا حتى دمعت عيناه. اجتاحه الصمت للحظات ثم فتح فمه، وقال بصوت بطيء واطىء كدت لا أسمعه: - كانت روزالي عظيمة، كانت كل شيء بالنسبة لي! سكنت إلى عواطفه، أشعلت سخان الماء، ورحت أنظر إلى نفسي في المرآة، وأنظر إلى نفسه. رأيته، وهو يتكوم على نفسه تعسا: - لكنها كانت تحبني أنا. كانت زوجتنا، وكنتُ مفضلها. كنا صغارًا، كل صبي من صبيان الحارة اختار بنتًا ليتزوجها، أما أنا وأنت فقد اخترناها هي دون غيرها. ابتسم: - خلعنا ثيابنا كلنا في مخزنكم، وأخذ كل واحد زوجته بين ذراعيه إلا أنا وأنت، أخذناها هي دون أن نأخذ رأيها، ونحن نلتصق ببعضنا التصاق الحمام بالحمام. لم نكن نعرف عن الحب إلا صورته الطفولية. ضحكت: - كنا ننام على بعضنا كما ينام الورد على بعضه، فهل كنا لا نعرف؟ كانت متعتنا شفافة، كانت متعتنا! ضحك ريمي بدوره: - كلما تذكرت نصفك السفلي وهو يتساقط كالقُندول أموت من الضحك. قهقهت: - أما أنت، فكنت جامدًا كتمثال، كنا ثلاثتنا تمثالاً واحدًا شفافًا. - ثم قلنا إنها حبلت مني ومنك. - وإنها جاءت بصبي جرى عليه خصامنا الأول. ولا أنا ولا هو نقف عن القهقهة الهستيرية: - لكنها أخذته منا، وأعطته للشمس. - ثم نسينا كل شيء. - كنا قد كبرنا. توقف عن القهقهة فجأة، وعادت التعاسة تطحنه. بدا لي تعبًا جائعًا ومنهارًا. فسألته: أتعرف كاترين؟ ثم عجلت إلى القول حزينًا: إنك لا تعرفها... ماتت هي الأخرى مثل روزالي! لكنك تبدو جائعًا، هل أنت جائع؟ هز رأسه نافيًا، وهو يرمي الطاولة بنظرة مرتبكة، فرأيت عليها المقلى وبعض الفتات. لاحظت أن الإطار الذي فيه صورة أمي مقلوب على وجهه، تقدمت من الصورة، وجعلت أمي تطل عليّ بوجهها الباسم الصارم. لاحظت أن أقفال خزانتي محطمة، فهمهم معتذرًا، فاستشطت غضبًا: ماذا ستفعل؟ كان ريمي لم يزل يفكر في زوجتنا التي ماتت، في قصتنا التي ماتت، وراح البرد، هذه المرة، يجتاحنا أنا وهو، ونحن نحاول احتماله. هل ماتت لأنها تفضلني عليه؟ لأنني هجرتها؟ لأنه يحبها مثلي؟ لأنه يحبها أكثر مني؟ لأنه لا يريد أن أحبها؟ قلت بنبرة أكثر هدوءًا: - ماذا تريد أن تفعل هنا؟ قال بصوت هاذٍ: - سأبحث عن عمل. - سائق قطارات؟ هنا! والمحطة حيث كنت تعمل؟ - تركتها. - أن تسوق قطارات هنا؟! مستحيل! كيف جعلوك تتركهم؟ - لم يجعلوني أتركهم، لكن هاجسًا داخليًا طلب مني ذلك. - أيها الغبي! أتكلمني بكامل حواسك؟ - سأجد عملاً أيا كان... ثم توسل إليّ: اقبلني عندك ريثما أجد عملاً. فكرت قليلاً، اتجهت إلى الخزانة، وأخرجت منها غطاءين. كان سريري من الضيق لدرجة أنه لا يكفيني وحدي، والراحة التامة فيه مستحيلة. رميته بالغطاءين، وقلت له: - ستزيح الطاولة، وتنام مكانها. والآن، من اللازم أن أحلق. أوقفني: - سأجد عملاً، ولن أزعجك كثيرًا، فأنا، كما ترى، لا سيف معي ولا يراع! وبانتظار ذلك، سأسلي نفسي بتقديم يد العون لأمك. أتذكر أول قصة لنا مع أمك؟ لما أتت لإنقاذنا من علقة أعطانا إياها الإنجليز أيام زمان؟ ضحكت: - كنا في الخامسة أو السادسة من العمر يوم رشقنا سيارة الحاكم الإنجليزي بحجر، فأمسك جنوده بنا، وأعطونا علقة دسمة لم أزل أحس بلهبها على بدني إلى اليوم. ضحك ريمي: - كان الجندي يضربني بعصاه، وأنت هو الذي كان يصرخ. انفجرت مقهقهًا: - كنت أصرخ من شدة الخوف، كنت أولول من العقاب الذي كان ينتظرني، من مجرد النظر إليك وأنت تُضْرَب، وأنت لا تطلق صيحة واحدة أو زفرة، وعندما بدأوا بجلدي، رحت تولول بدورك. انفجر مقهقهًا: - لأنني وأنا أراك كيف تتعذب تذكرت عذابي. قهقهنا معًا وتوقفنا عن القهقهة معًا. قال: بعد ذلك، أخذتنا أمك، ومسحتنا بمرهم. سكت قليلاً قبل أن يهمهم منهكًا: - ثم صرنا في عيون الكبار أبطالاً قبل أن نكبر وتكبر روزالي معنا. تأملت سحنته المنهكة، وبدأت أحلق. خلال ذلك، نهض، ولبس سترته وحذاءه، وجلس مقابل صورة أمي، وما نبس ببنت شفة. على حين غرة، جاءني صوته يسأل إذا ما كانت هذه أختي، فأجبت: - هذه أمي. نقل الإطار بين يديه، وسأل من جديد: - أيام كانت فتاة؟ هززت رأسي. قال: كانت أمك جميلة! اختلست النظر إليه عبر المرآة، فرأيته يتأمل صورة أمي. فجأة، قال: أما أنا، فلم تكن لي أم. رفع إليّ وجهًا يتوقد كالمصاب بالتيفوئيد، وراح يردد: - أنا أحسدك! أنا أحسدك! كانت لك أم جميلة، أنا أحسدك! أغمض عينيه، وراح يحكي بصعوبة: - عندما ماتت أمي، كنت صغيرًا، فتزوج أبي من خالتي المطلقة. يوم أتت وابنتها روزالي لنسكن معًا، لعبت أنا والبنت في الحديقة. كنت سعيدًا، وكأنني وقعت على أم صغيرة... كانت لم تعرفك بعد، وكنا نلعب ثلاثتنا بالخفاء بعد أن منعت خالتي روزالي من اللعب معي أولا ثم معك (يقلدها، فيرتفع صوته حادًا) "إنه صبي غير مؤدب لا يحسن اللعب، ابتعدي عنه!" ولم تكتف بذلك، إذ حرضت أبي عليّ، فأمرني بالابتعاد عنها تمامًا، ثم نزل عند رغبة خالتي، وسجلني في مدرسة داخلية. العجوز المزواج! كنت أخشى عصاه، أظن أنه لم يكن يكرهني، لكنه كان يحب خالتي كثيرًا، ولو سألوه، في البداية، أن يختار بين أمي وخالتي زوجةً لفضل خالتي على أمي. كانت خالتي متزوجة من ضابط في البحرية، وعلى الرغم من أنها الكبرى والأقل جمالاً إلا أنه كان يعبدها، هكذا من عند الله، ولما تزوجها قال للجميع "الآن تعود المياه إلى مجاريها"، وفي ظنه أنه ثأر من الضابط غريمه... كانت روزالي لا تستطيع أن تفعل شيئًا بحضور أمها، كيف كان يمكنها أن تتنفس؟ ومع ذلك، فقد كانت تلعب معي، تلعب معنا، أثناء غياب أمها، تشم معنا رائحة البحر، ويشم كلانا رائحة شعرها، وأينما ذهبتُ، أشم رائحة البحر ذائبةً في رائحة شعرها. همهمت: وأنا أيضًا، أينما ذهبت، أشم رائحة شعرها ذائبةً في رائحة البحر. لن أنسى شعرها، ولن أنسى البحر، ولن أنسى خطواتنا على الرمل. فتح عينيه، وتابع: - أما أنا، فقد نسيت كل شيء ما عدا رائحة شعرها المالحة... عندما ماتت أمها لم أعد أخشى أبي. تصور، أيام إجازتي كنت أعود إلى المنزل لقضاء بعض الأيام، فلم تكن أمها تجلس معي لتناول الطعام. وحينما كانت روزالي تقترب مني، كانت أمها تحملق من فوق نظارتيها الطبيتين المتساقطتين حتى أرنبة أنفها، وتنهي ابنتها عن الاقتراب مني (يقلدها وفي نبرته ضغينة) "روزالي! تعالي هنا أيتها الفأرة! بدأ يحكك جلدك، أليس كذلك؟ أتريدين الإصابة بمرض؟" كانت تختار لها أحسن الثياب وأجملها، وتصطحبها وحدها إلى الكنيس. وكانت تخصها في كل شيء، الألعاب والفواكه والحلويات، في كل شيء. ويوم كانت توزع الملبس، كانت ترمي لي بعضه، وكأنها تقذفني بالفضلات (يقلدها متهكمًا) "خذ نصيبك يا كلبي الصغير! إنه ملبس سويسري الصنع، أترى كم خالتك تحبك؟" (ثم يهمهم) الشمطاء! - لكنك ذهبت إليها، وقلت لها كل شيء عما فعلناه في المخزن نحن الثلاثة، فضربتها أمها ضربا مبرحًا، وهي تذرف مر الدمع. وبعد ذلك، لم نرها مدة طويلة، فأردت قتلك. - كنت أغار من حبها لك. - لم تكن تكرهك. - كانت تحبك، فلم أكن أريد أن تحبك. - تريد القول لم تكن تريد أن أحبها؟ - لم يكن باستطاعتي أن أمنعك، أما هي، فقد قلت لنفسي، يمكن أن تمنعها أمها من أن تحبك... إلى أن أتى يوم هَرَبْتُ فيه من السجن الداخلي، سمها مدرسة داخلية، سجنًا داخليًا، مثلما تشاء، وساقتني قدماي إلى محطة القطارات... سحبت قميصي الحريري من الخزانة، وأكملت: - وهناك وقعت على من علمك قيادة القطارات. - لم يكن الأمر سهلاً مثلما تتصور. التقط ذراع قميصي بإصبعين ظامئتين: - لك قميص رائع! - ألبسه كلما أتيحت لي فرصة للتمتع بليلة. - يجب التمتع بقدر الإمكان. يجب التمتع وكأن عيد السين كل يوم. - وأبوك ماذا عنه؟ دومًا في مكانه؟ - دومًا في مكانه. حاز على ترقية منذ وقت ليس بالبعيد، إنه الآن نائب مدير الشركة... نهشت شفتيه ابتسامة حامزة ثم ما لبث أن قال بنبرة لا تخلو من التهكم: - نظرا لخدماته! - شركة النفط ذاتها؟ - نعم. وصارت له علاقات وثيقة. انحنى باتجاهي، وقال بسرعة: - لم تسألني علاقات وثيقة بمن؟ استرقت النظر إلى نفسي في المرآة وقلت: أعرف. لكنه نبر: أنت لا تعرف. ألقى نظرتين جافتين في الفراغ، وقال: - امتدت علاقاته بشكل مذهل إلى أن وصلت أمراء النفط في بلادكم. فجأة، أخذ يكسر بين أسنانه الضحكات تاركًا نفسه معها في اهتزاز مجنون. فجأة أيضًا، توقف عن الضحك، فتح فمًا لاهثًا، وقال: - إذا رأيته اليوم قلت عنه أمريكيًا! يرتدي ثيابه على طريقة سادته، يضع على رأسه قبعة، ويدخن سيجارًا. سقط في الصمت، بدلت بنطالي، وارتديت سترتي الجديدة، وأنا أعلق: - له وجه لا ينبئ بالسوء مع هذا، وهو يحتفظ بابتسامة دائمة على شفتيه. لكنه بقي يسقط في الصمت. نقل صورة أمي، وراح يرميها بالنظرات المبهمة. وضع الصورة مقلوبة على وجهها، وقال لي فجأة، وقد عاوده شحوبه: - لقد ماتت روزالي غرقًا. بقيت ذاهلاً في مكاني لحظةً قبل أن يمكنني النطق: - لماذا لم تنقذها؟ وأعدت حاثًا إياه على النطق: - لماذا لم تنقذها؟ فتح فمه، وجمد كالتمثال لحظاتٍ قبل أن يمكنه النطق: - لقد قتلها البحر. وهو يحدق، ويحدق، وقد غدا تمثالاً. لربما خرج من جسدها هي الأخرى وحش خرافي! نزعت نفسي من فكرة الموت غرقًا، وتوجهت إليه: - هل معك نقود؟ هز رأسه نافيًا. وضعت أمامه قطعة ذات عشر فرنكات ذهبية، وقلت له: - لا بد أنك جائع. تناول قطعة النقود بخفة، ونهض مختلفًا عمن كانه منذ لحظة: - ستأخذ المترو؟ - لا، سأسير على القدمين. - سأسير معك قليلاً حتى السان ميشيل، هذه هي طريقك؟ - هذه هي طريقي. عدلت وضع صورة أمي، وهو يرميها بنظرة عاجلة، واتجه إلى الباب. قلت له: - سأترك لك مفتاح الحجرة، ربما عدت متأخرًا. وأنا أخرج سلسلة المفاتيح من جيبي، وأمدها على مرأى منه، في الظل والدم. فككت سلسلة المفاتيح، وسحبت مفتاح الحجرة. رميته له، فتلقفه بسهولة، ولم يقل لي أشكرك. ونحن على رصيف المسرح، قال لي: - لن آكل تفاحتك هذه المرة، سآخذ قهوة وشيئًا معها، ولن أطيل التسكع في الطرقات مثلما كانت عادتنا. أشعر بتعب شديد! وضربني ضربة خفيفة على ذراعي: - أتذكر يوم كانت أمك تعطيني تفاحةً آكلها من أجل أن تدفعك إلى أكل تفاحتك؟ ابتسمت: - كنت تأكل تفاحتي وتفاحتك، وأذهب لأقول لها إنني أكلت تفاحتي مثلك، فتفرح فرح كل أم تريد أن يكبر ابنها وأن يحب التفاح. - ألم تزل تكره التفاح؟ لم أفه بجواب، ولم يفه بعد ذلك بكلمة واحدة. بقينا صامتيْن ونحن نقطع القنطرة، ومن ناحيتها اليمنى، رأيت مركب أمي راسيًا معتمًا. ألم أزل أكره التفاح؟ كنت أرغب في الوصول إلى ناتالي بأسرع وقت ممكن، كي أبتعد عن كل ما يذكرني بالبحر، وبالموت، وبالتفاح. ونحن على مقربة من نافورة السان ميشيل، قلت له: إلى اللقاء. هتف: مساء سعيد! وانفصلنا.
الفصل 6
علي وناتالي يقضيان الليل معا: أول فنجان قهوة في العالم وابن سينا ودم الله
اتجهت إلى موعدي، اشتريت سجائر شقراء أمريكية من دكان الدخان المجاورة، ودخلت مقهى كْليني الصغير بكل عظمتي وجمالي، وكأنني أدخل قصرًا مليئًا بالإماء والعبيد. بحثت عن ناتالي، فوجدتها تجلس في نهاية صف المقاعد المواجهة للمشرب، عالية، سامية، بأبهة الأميرات وعظمتهن. عندما التقت نظرتانا، ابتسمَت، وفاضت حنانًا، كانت تريد أن تعطي كل ما لديها من دفء العواطف، فأُخذت بلؤلؤ الليل. كانت في غاية أناقتها: فستان مقصب بلون البنفسج، وعقد أحمر. - أتجلسين على عرش عائم؟ كرسيان منجدان ارتفع كل منهما مقابل الآخر، ملتصقان في الحائط، ما بينهما طاولة بيضاوية الشكل يتدلى فوقها مصباح كروي يبدل ضوءًا عسليًا. - بانتظارك لنقطع النيل أو شط العرب. جلست وأنا آخذ أصابعها بين أصابعي: - إلى أين تريديننا أن نبحر يا شهرزاد فرنسا؟ - أينما يريد مليكي... أمر مليكي مطاع، وسيفه على عنقي قبلة! - بل أنت قبلتي ضمًا وكسرًا! أنذهب إلى الشانزلزيه مثلاً، أجمل شوارع الدنيا؟ - آه يا عزيزي! منذ مدة، وأنت تعدني بذلك. - إذن هيا بنا. - حالاً؟ - حالاً. ستكون أمسية رائعة، أروع أمسية نقضيها معًا في الشتاء! - ستكون أمسية رائعة! - سنذهب إلى السينما ونتعشى ثم نتجول حتى الصباح. طلبت بسعادة: - أنذهب إذن؟ قلت: نذهب. ونحن على وشك النهوض، حضر النادل: - ماذا يطلب السيد؟ حملت معطف ناتالي، وقلت له: - نحن ذاهبون كما ترى. فأولانا ظهره. - هل دفعتِ؟ - قلت لنفسي لن تمكث طويلاً، فدفعت. لففتها بذراعي، وخرجنا. وهي قرب قلبي سألتني: - ألا تشعر بالبرد؟ - ليل باريس دافئ في الشتاء. - وآخر الليل؟ البرد شديد آخر الليل. - عند آخر الليل سأضع نفسي في معطفك، فهو يسعنا كلينا أنا وأنت، أليس كذلك؟ أومأت رأسها، وهي تطوقني. قلت: سنأخذ تاكسي. - تاكسي دفعة واحدة! - الليلة ليلتنا! - الليلة ليلتنا! - وأنا أحبك كثيرًا! - وأنا أحبك كثيرًا! قبلتها ثم أوقفت تاكسي. أضواء حمراء، أضواء زرقاء، أضواء بلون الحقل، وأضواء قاتمة. عبر التاكسي بنا الساحة، ولم أفكر في إلقاء نظرة على نافورة السان ميشيل إلا بعد أن تركناها إلى رصيف غرانز أوغيسته. كانت ناتالي تضمني، فأشعر بالدفء، وأفكر أنني لست وحيدًا، وأن هذا الليل المزدان بالأضواء الملونة ملكي. وهي تطوقني، كنت أغيب عن الدنيا، ولا أحس بأصابعي، وهي تشدها من كتفها إلى حد الإيلام دون أن تقول شيئًا. كانت تبتسم باستمرار كالشمس في عز الليل، فأموت ألف مرة لأحيا مرة واحدة في العمر، وأقول لإبليس الفردوس: أيها الشيطان، لقد خلقت لها، لها دون غيرها، فاجعلني أحبها أكثر، واجعلني أعبدها أكثر، واجعلني أموت من أجلها أكثر وأكثر! كانت تهمس في أذني كلمة، وتطبع شفتيها على خدي، فيذهلني انفراج الشفتين وانضغاتهما، ويرشقني ثلج الشفتين ونارهما. تمنيت لو أصبحهما، لو أصبح كحلها، أو أجري في عرقها، فأنمو في كيانها، وأكبر. طوقتها، وأنا أحتضنها كطفل يعشق أمه. وطوقتني، وهي تحتضنني كأم تعشق طفلها، ثم همست في أذني: - يا طفلي! يا صغيري! فأخذت أشدها، وأشدها، وأخذت أنظر عبر النافذة، وأرى كيف بدأت السيارة تقطع بنا قنطرة الكونكورد. كان السين إلى اليسار وإلى اليمين، وهالات الضباب تحيط بأضواء الأعمدة. باغتتني رغبة في أن أوقف التاكسي، فننزل، ونقطع القنطرة مشيًا، لكنني كنت إلى جانب حبيبتي مستسلمًا دون إرادة. تذكرت روزالي التي غرقت، وكاترين التي قُتلت. وأنا على الرغم من هاجس الموت كنت مخدرًا، فهل ينهض الخيّام من الموت مجانًا؟ دارت السيارة بنا، فدارت أفكاري، ولم أصح إلا على صوت السائق الذي يبدو أنه توقف منذ لحظات: - ها نحن ذا! نقدته أجرته، وبدأنا نمشي في ليل شارع الشانزلزيه صعودًا. سألتها: - أتحبين الليل؟ - نعم، أحبه... وأنا معك. - أتحبين الأضواء؟ - نعم، أحبها... وأنا معك. - أتحبين هالات الضباب حول مصابيح الأعمدة؟ - نعم، أحبها... وأنا معك. - أتحبين كل شيء؟ - أحب كل شيء، وأنا معك. - أتحبينني؟ تعلقت على كتفي، وأخذت في عناقي، وهي تهمس: - أحبك! أحبك! أحبك! نبهتها: الناس ينظرون إلينا. - لينظروا إلينا، أنا أحبهم، وأنا معك. - بقدر حبك لي؟ أخذت مرة أخرى في عناقي، وهمست على فمي: - أنت الله! أنت القلب! أنت العالم! قلت لها: وأنا بين يديك... أحس بطفولتي، وأنا بين يديك. راحت تردد بنشوة وحب: يا طفلي! يا طفلي! - أنا... أنا أحار من أمري بين يديك، أحس بأنني طفل حقًا، فأتصرف بطفولة. - هذه ميزة حبك لي. أضافت والقمر يثني رأسه إلى جانب: - هل يزعجك الأمر؟ أوقفتها، أمسكتها من ذراعيها، وقلت لها: - إنني سعيد وشقي في آن واحد. اندفعت تضمني، وهي تتهدج، وتقول: - حبيبي، لا تقل هذا، يا حبيبي، لا تقل هذا! - أقول لك ما أشعر به. - لا تقل هذا، يا حبيبي! وجدتني أقول: أخشى أن أفقدك. تهدجت من جديد، وتلوت بين ذراعيّ: لا تقل هذا، لا تقل هذا! تمالكت نفسي عن فرط الشقاء، وقلت: - إنه شعور سوداوي أحيانًا ما يأتيني. ابتعدت عني، وفركت جبهتها بذقني: - لا تفكر في هذا أرجوك. - لن أفكر فيه. - أتعدني؟ - أعدك. وصلتنا جلبة وصفارات شرطة وإيقاع حوافر، التفتنا نحن والناس، فرأينا سيارة مرسيدس سوداء مصفحة تحيطها كوكبة فرسان، وفي داخل السيارة سلطت الأضواء على روكاردتون رئيس وزراء الضفدعة ذات القوة الهادئة، وإلى جانبه يجلس شيخ جليل ينضح وجهه وعمامته بياضًا. قلت لناتالي: - هذا ابن سينا إلى جانب روكاردتون جاء ليحتفل بعيد السين. كان الموكب قد ابتعد باتجاه قوس النصر، تأبطت ناتالي ذراعي، وسرنا، بينما عاد الناس من حولنا يتابعون نزهة الشتاء. كانت معاطف ثقيلة تمضي بنا، وهناك عاشقان يقبلان بعضهما، وامرأة تؤنب ابنتها بصوت مرتفع: - قلت لك ألا تثقي بكلامه! - ولكنه ليس كالآخرين، إنه فتى مهذب! - قلت لك إلا تثقي بكلامه! - ولكنه ليس كالآخرين، يا أمي، إنه فتى مهذب! - قلت لك ألا تثقي بكلامه! سكتتا، وابتعدتا، وما زالت في الأجواء رائحة الكلمات الحادة. توجهت إليها بنفس نبرة الأم الحانقة: - قلت لك ألا تثقي بكلامه! كاد يغشى عليها من الضحك، ثم قالت بدورها: - قلت لك ألا تثقي بكلامه! كنا نضحك من كل القلب، منذ فترة طويلة، جد طويلة، لم اضحك كما ضحكت في تلك الليلة. كانت هناك سينما على بعد خطوات، توقفنا أمام صورها، وسألتها: - عشاء أم سينما أولاً؟ - أنت جائع؟ - إلى حد الآن... أستطيع أن أقول لا لست جائعًا إلى حد الآن. - إذن؟ - أنت جائعة؟ - إلى حد الآن... أستطيع أن أقول لا لست جائعة إلى حد الآن. كنت أضحك لضحكها، أردت أن أرميها إلى أعلى، وأعود وأرميها. في بعض اللحظات، كنت أحس بعكس ما بحت به إليها منذ قليل، كنت أحس بأنها هي الطفلة، بينما أنا الشيخ الحكيم. وصلتنا جلبة أخرى أكثر قوة من المرة الماضية، كانت كوكبة أخرى من الفرسان تصعد الشانزلزيه، تتقدمها عربة أمي الملكية التي تجرها الخيول السود السبعة. لم يكن معها إخوتي السبعة الممسوخون كلابًا، ولم أقل لناتالي تلك أمي تصعد الشانزلزيه في عربتها الملكية. خشيت أن تغير منها، وألا أقضي ليلتي مثلما رسمت. دخلنا دكان الألعاب الأوتوماتيكية، وضعنا فرنكًا ذهبيًا في إحدى الماكينات، وحاولنا إصابة السفن الحربية التي تدور باستمرار في البحر الاصطناعي خلف الواجهة الزجاجية. كنا نضرب المدفع بطريقة دورية، فأغرقتُ سفينتين، بينما أغرقت ناتالي ثلاثًا. كانت في كل مرة تغرق فيها سفينة تعمل هرجًا ومرجًا، وتجعلني أقبلها. لعبنا لعبة أخرى على ماكينة أخرى فيها طائرات مقاتلة، لكننا انسحبنا قبل أن تنتهي الأدوار. قررنا الخروج من دكان الألعاب فجأة مثلما قررنا الدخول إلى قاعة السينما فجأة دون أن نرى صور الفيلم ولا أن نعرف حتى اسمه. جلسنا في العتمة في قاعة شبه فارغة، لم أضع نفسي بعد في مقعدي، وإذا بها تتعلق بعنقي. رحت أقبلها، وكأنني لأول مرة أقبلها. أشعلت الدنيا بناري، جرحت الكرز بأسراري، وبقينا بضع دقائق في عناق طويل. أحسستها تقترب بأصابعها مني، وهي تمضي بصدري، وبطني، وتلمسني. وضعت يدي تحت فستانها، وجعلتني أمضي بساقها، ففخذها، فوركها. كان الشوق المستعر وحنين البركان للنار على وشك أن يرميانا أرضًا بعد أن صرنا ثمرتين ناهيتين. اقترحت عليها أن نخرج في طلب حجرتها، فوافقت، ولكننا التحمنا في عناق طويل من جديد. كانت تفصل بينها وبيني ذراع المقعدين، ومع ذلك، كنت أحس بها تنغرس في كياني. خرجنا دون أن نشاهد من الفيلم لقطة واحدة، وما أن صرنا على الرصيف حتى انفجرنا ضاحكين. سألتني: - أنذهب إلى حجرتي؟ أنعشتني نسمة الهواء اللذيذ، فقلت: - أفضل أن نأكل أولاً. ضحكنا من جديد، لففتها بذراعي، واتجهنا إلى مطعم نيو ستور. اختارت مكانًا في دغل الظلام والألحان، وعندما لمست الكرسي المقابل لها، طلبت أن أجلس إلى جانبها، ففعلت. ألقيت نظرة سريعة على قائمة الطعام، ثم قدمتها لها: - ماذا تريدين أن تأخذي؟ قلبت النظر في القائمة دون أن تفحص جيدًا ما فيها، وقالت، وهي تطويها: - اخترت. - ماذا اخترت؟ - سلطة خضراء ثم ستيك مضهب. - أما أنا... عدت أفتح قائمة الطعام. - أما أنت ماذا؟ - سلطة خضراء ثم ستيك بالفلفل. ابتسم كل منا للآخر، وكل منا يبتسم لأناه. فتحت صندوق السجائر، وأشعلت سيجارة رحت أبلع دخانها. - يجب ألا تبلع الدخان، وأن تغذي نفسك جيدًا لأن صحتك متدهورة! قالت، وهي لا تتوقف عن الابتسام، فأعيد: - يجب ألا أبلع الدخان، وأن أغذي نفسي جيدًا لأن صحتي متدهورة! - مع طولك أيها العملاق يجب أن ينط وزنك عن السبعين كيلوغرامًا. - مع طولي يجب أن ينط... ثم سألتها متفاجئًا: - أحقًا؟ أن ينط وزني عن السبعين كيلوغراماً؟ أومأت لي رأسها. - يعني أحتاج إلى خمسة كيلوغرامات كي أقفز عن السبعين. - هذا صحيح. - لهذا من اللازم أن آكل. - هذا صحيح. - ومن اللازم أن أحبك. - هذا صحيح. - ومن اللازم أن... قال النادل: - مساء الخير، سيدي سيدتي. قلنا: - مساء الخير. وبعد ذلك طلبت: - اثنان سلطة خضراء، واحد ستيك وواحد ستيك بالفلفل. والنادل يسجل: - الستيك مشوي تماما أم... قالت ناتالي: - الستيك مضهب. قلت: أما الستيك بالفلفل فمشوي تمامًا. - حسن جدًا. ماذا تريدان أن تشربا؟ لدينا سوترنية إن أردتم. التفت إليها: بوردو؟ أومأت رأسها. قلت للنادل: قنينة بوردو. - حسن جدًا. ترك نسخة من الورقة التي سجل عليها طلباتنا على الطاولة، وذهب. سألتها: - هل تعجبك الجلسة؟ - جدًا. - ماذا تتمنين الآن؟ - أن أكون معك. - أنت معي. رمت رأسها على صدري، ثم راحت تتأملني. سألتها من جديد: - ماذا تفعلين؟ - أتأملك. - لماذا؟ - هكذا. لمستها من وجنتها: - أنت جميلة! جميلة كثيرًا! أمسكت رأسي بيديها، وطلبت: أنظر في عينيّ. نظرت في عينيها، فتأوهت. - ما لك؟ - بحر أسود في عينيك! - وفي عينيك ليل ضاوٍ! - أحب عينيك كثيرًا، أتمنى لو أغرق فيهما. رأيتها تغرق في بحر البحث عن العمل الضائع، فقلت لا، لا أريد أن أذكر البحر، ولا الموت، ولا التفاح. أطفأت سيجارتي، وشددتها إلى خاصرتي. فكرت في جبل عيبال، وخيم من حولنا الهدوء. كانت الموسيقى قد توقفت قليلا، وكنت أفكر –لأول مرة- سأتزوجك، فتنتهي كل مخاوفي. تذكرت ريمي، وتساءلت عما كان يفعله في تلك اللحظة، وفي اللحظة ذاتها رأيته يقف في باب المطعم عابسًا متجهمًا لهنيهة واحدة قبل أن يختفي. أردت النهوض واللحاق به لأتأكد من أن الأمر لم يكن حلمًا، ولكن النادل جاء، أحضر السلطة الخضراء والخبز، وما لبث أن أحضر قنينة النبيذ والكأسين. فتح القنينة، وملأ كل كأس حتى منتصفها ثم ذهب إلى طاولة أخرى في الطرف المقابل. حاولت أن أنسى وجه ريمي العابس المتجهم، فالليلة ليلتي، وناتالي بكل جمالها ملكي. سألتها: - أتحبين السلطة الخضراء؟ - جدا. - لماذا؟ - لأنها خضراء. وَضَعَتْ قليلا من الخل والزيت، وراحت تخلط الأوراق. وأنا أخلط سلطتي، قلت لها: - السلطة في نهاية الأكل مفيدة للهضم، أتعرفين السبب؟ لم تجب، وهي تمضغ، وتبتسم، وتبتسم، وتبتسم. قلت: - بسبب هذا... أشرت إلى الخل في قنينته: وللزيوت الطبيعية التي في الورق. - ولماذا تأخذها في بداية الأكل؟ - أحب السلطة الخضراء أول الأكل. انهمكنا في الأكل، وما لبثت أن توقفت، وراحت ترنو إليّ. عندما التفت إليها، قالت مفترة الثغر: - أنت تأكل كالأطفال. - أيزعجك هذا؟ - أبدًا، وإنما أحب مشاهدتك. أضافت بعين معجبة: - قميصك الحريري جميل! رفعت يدها ولمستني على نهدي. سألتها: - هل أنهيت سلطتك؟ - منذ زمن. كان صحتها فارغًا، وكانت قد راحت تطلب إليّ: - أكمل صحنك كله. - أطلبي طبقك الرئيسي. - سأنتظرك. سأنظر إليك ريثما تنتهي. - كما تريدين. تناولت قدحها، واحتست نبيذها. وضعت بدوري الشوكة والسكين، وأنا أقول: - انتهيت. - ولكنك لم تنه صحنك. مسحت فمي، وشربت قليلاً من النبيذ: - يكفيني. عزمت على الذهاب إلى قوس النصر لأرى ابن سينا وأمي وريمي. أيعقل أن يكون قد تبعني؟ ربما جاء مدعوًا باسم موسى أو يعقوب. وصلتنا جلبة من الشارع، وسمعنا بعض طلقات نارية، فابتسمت ناتالي، وقالت عن الناس إنهم دومَا هكذا، يستبقون أنفسهم إلى الاحتفال بالأعياد قبل أوانها. رأيتها سعيدة أكثر من أي وقت مضى، فلم أشأ أن أحدثها عن عملها الذي فقدته، وأجعلها تتأخر بنفسها عن الاحتفال بالعيد. أتانا النادل بالطبق الرئيسي، وقضينا طوال الوقت في حديث مرح. كانت تداعبني أحيانًا، فتلمس عنقي أو تشد خصلات شعري، وكنت بدوري أطوقها بذراعي أو أجمع أصابعها في يدي. لم تتوقف الموسيقى، وكذلك حديثنا لم يتوقف. كان وراء الطاولة البيضاوية التي في الطرف المقابل زوجان عاشقان لم يتوقفا هما أيضًا عن الهمس. كانت تتجاوب ما بيننا ابتسامة، وقد أردت بعد قدحي الأخير أن أنهض وأدعوهما إلى تناول شيء معنا، ومع ذلك، لم أحرك ساكنًا. رغبت في زجاجة نبيذ أخرى، واقترحت على ناتالي ذلك، فاعتذرت بحجة معدتها الحساسة، ولكنها شجعتني على أن أشرب وحدي، فلم أفعل. عجلت بطلب قهوة لناتالي وتارت بالشانتيي لي كي نغادر المطعم بأقصى سرعة، أردت ذلك فجأة. عرضت على ناتالي أن تأخذ التارت بالشانتيي أو أي شيء آخر مع القهوة، فلم توافق. وهي تحرك قهوتها، قلت لها، وأنا أحاول أن أخرج من وهم عيد السين ومفاجآته: - لن تنامي الليلة بسبب القهوة. - على العكس، إنها تهدئ لي أعصابي، وتساعدني على النوم. ردت عليّ، وهي ترمي بنظرة إلى ساعتها، فقلت: - للقهوة حكاية، أتعرفينها؟ - لا، ما هي؟ وراحت تصغي إليّ: - طائر أتى من ضفاف السند، وهو ينقل بمنقاره عرق قهوة أخضر، حتى هضاب اليمن. هناك سقط العرق من منقاره. مضت مواسم، فانتشر على إحدى الروابي نبات فاق العشب اخضرارًا. اكتشف راعي الرابيةَ، فصار يأخذ أغنامه إليها، وقد لاحظ أنها ما أن تأكل من النبات الأخضر حتى تصبح مرحة، وتغدو لعوبة. في أحد الأيام، قطع عرقًا، وراح يقلبه، فاكتشف بعض الحَب فيه. أخذه، وغلاه، ثم صبه في فنجان، وشربه، فكان أول فنجان قهوة في العالم. - رائع! - طبعا لم يكن كفنجانك بذات الطعم واللون والرائحة. - ولكن لا بد أنه كان فنجانًا رائعًا على أي حال. - كذلك، أتعرفين كيف استطاع الطائر مواصلة طيرانه كل هذه المسافة من السند إلى اليمن؟ - لا أعرف، كيف؟ - بسبب الكافيين الموجود في عرق القهوة. تسربت مادة الكافيين إلى لعابه، فخدرت جسمه الناحل، مما ساعده على مواصلة الطيران والصمود. - رائع، وبعد ذلك؟ - هذا كل ما هنالك عن حكاية القهوة. - ولكن... كيف تعرف كل هذا؟ - حكاه لي جدي. أضفت، وأنا أفكر في عروق يديه: - كان من عادته أن يشرب خمسة عشر فنجانًا من القهوة في اليوم كي يعمل تعادلاً مع ما يستهلكه من دخان. - وكم كان يستهلك في اليوم من دخان؟ أشعلت سيجارة، وقلت: - أربع علب إلى خمس وثلاث نارجيلات. صاحت بتعجب: وهل مات منذ زمان بعيد؟ - مات منذ زمان قريب. - بسبب الدخان؟ - بسبب الأرض. وجدناهم وقد نصبوا لابن سينا خيمة بكل أنواع أشرطة الزخرفة والضوء، خيمة عظيمة غطت قوس النصر، وصادفنا عشرات من رجال الدرك والخيالة الذين كانوا يمنعون المارة من الاقتراب. بدأنا نسمع لهثات تأتي من إحدى الجهات المعتمة لساحة النجمة، فأمسكت يد ناتالي، وذهبنا لنرى. عندما حدقنا في الليل والضباب، رأينا خيالين يتصارعان، عرفت في أحدهما ريمي في ثوب مصارع ياباني، ورأيت في الثاني عملاقًا بهالة مقدسة وتقاطيع وجه ناعمة مثل تقاطيع امرأة. مضت بريمي لحظة ضعف، فأحرق شعرة أخرجها من جيبه، وترقّبَ قليلاً كمن ينتظر أحدًا، ثم أحرق شعرة ثانية دون أية فائدة، وهو يهرب من العملاق المقدس من زاوية إلى زاوية. رأينا يأسه يغدو عظيمًا، فدخل مع خصمه في صراع مستميت. بقينا نشاهدهما وآخرون انضموا إلينا وهما بين غالب ومغلوب إلى ما قبل الفجر بقليل، قبل أن يشق الظلامَ والرمادَ أولُ شعاعٍ أحمر. سحبتها من ذراعها، وذهبت بها. لم أشأ أن تكون شاهدًا على خطيئة، فتحمل عبء الله، وتغدو مشاعًا.
الفصل 7
علي وناتالي: الحب والنعش وقدر البحر
قنطرة! كانت العتمة شديدة، والضباب يتساقط في كل مكان. كنا نبعثره، ثم لا يلبث أن يتراكم من حولنا. وكانت القناديل تأخذ أشكال فوهات البراكين الصامتة، ونحن نسير صامتيْن، أطوق كتفيها بذراعي، ولا أحس بذراعي. كان السين أسفل منا، وأضواء خافتة تأتي من بعيد، أضواء بعيدة... بعيدة، كأنها أضواء موانئ بعيدة. وصار في ثغرها الضباب خيالاً، وصار خفقانها في خصري. قلت لنفسي: لا، لن ينتزعها أحد مني، فهي كل ما تبقى لي من جسد المكان الذي أنقله معي في كل هجرة، أتشبث بها وبالجريمة، إلى يومٍ أستعيد فيه كل شيء، وأصبح بالفعل بريئًا. وشيئًا فشيئًا صار المكان مريعًا، وبقدر ما كنت أرغب في البقاء في الليل والضباب كنت أتوق إلى العودة إلى مسرح شاتليه، والاحتماء بملايين السنين من عالم الأقنعة. قفزت بين يديها، ورحت أعدو بعيدًا حتى العمود، ثم صحت بأعلى صوتي: - أنت هنا؟ انطلق صوتها تجاهي: - أنا هنا! ومن جديد، صحت بأعلى صوتي: - أحبك! فليسمع العالم! كنت أرى ظلها فقط، وهي حتما لم تكن ترى سوى ظلي، ظل رجل عبر، وصار طيفًا. انطلق كل منا باتجاه الآخر، والتحمنا في عناق طويل، ونحن نريد أن نحسنا، وأن نجدنا. أخذت أدور بها، وأدور. رميتها على الفراش، وهبطت فوقها، وقد ملكتنا رهبة أخرى. خلعتُ ثيابها، وهي ساكنة طوال الوقت، تقية طوال الوقت، بتول في صومعة. باقة من أزهار اللؤلؤ في مزهرية، فرشتها على السرير، وأخذت أزرعها في شعرها. شكلت شعرها بإكليل، وهي ترنو إلى ملاك هناك، يطل عليها من سماء الحجرة. زرعت في ثغرها زهرة، وزينت حلمتيها، وجعلت شمسًا تبزغ في سرتها. فتحت أصابع يديها، وغرست ما بينها شموسًا كثيرة، وما بين أصابع قدميها شموسًا أخرى كثيرة، ثم نثرت الباقي على فخذيها، فانتفضت كأنها البستان في أفريل. خلعت ثيابي، ووقفت عند قدم السرير، فإذا من أمامي ربيع يستلقي، ويدعوني مثل كل مرة تريد امرأتي الإخصاب. دببت قرب ساقها، ورحت أقطف الزهرات زهرةً زهرةً، ورحت أحصد الشموس شمسًا شمسًا. اختلج الجسد، وأحسست بناره، نار الحرير. صعدت، وصعدت، وصعدت، وأنا أرشف القِشد من الحليب، وهي تعبق روح الورد. صعدت، وصعدت، وصعدت، وأنا أكسر روح الورد، وهي تفتق حبق الشوك. على شفتيها نثرت السكر، فسقتني اللعاب العذب. وفي شفتيها أذبت السكر، فعَبَثَتْ بي لبعض الوقت. وكدت أتحطم في الغابة، لولا أنها جذبتني فيها، وحالت بيني وبين التحطم بالمجد. فجأة، سقطتُ على نهديها، وسقطتْ تحت نهديّ، عسانا ألا نخلص من حالة موت أردناها. صرنا في لحظة موت يا ما تقنا إليها... متنا، ومتنا، طوال جيل، وما أن مضت تلك اللحظة حتى اختطفتنا الحياة، وعدنا إلى الحياة من جديد. كان شعاع أحمر للشمس قد اخترق السماء الغائمة، وأنا أنام عليها إلى أن بدأت تخلل شعري بأصابعها. انزلقت جانبًا، ونمت على بطني. نامت هي أيضًا على بطنها، وطوقت بذراعها عنقي: كان أنفها يلامس أنفي، وعينها تكلم عيني. مضت فترة، ونحن كذلك. بعد ذلك، فتحت فمي، وأنا غائب بعض الشيء، وهمست: - حلمت منذ قليل. - بماذا حلمت؟ تقلصت وجنتاي لألم شديد، حاولت النطق، فلم أستطع. أمام شكلي، شكل الطفل الفزع، جمعتني من وجنتيّ، وراحت تطبع شفتيها على جفنيّ، وهي بلهفة تردد: ماذا أصابك يا حبيبي؟ ماذا أصابك؟ أبعدتها عني، وقلت بين التهدج والهمس: - حلمت بأمي، عملاقة كأنها الجبل، في ثوب فلاحة قديم، خطواتها ثابتة، ترسم على شفتيها ابتسامة، وعلى رأسها تنقل نعشًا. رمتني في أحضانها، وأدنتني منها: - حبيبي! وأنا أبعد وجهي عنها، وهي تمسكني من خديّ: - أنظر إليّ! ولم يزل شريط الحلم يدور في خيالي: - كانت أمي في طريقها إلى المقبرة. وجذبتها إليّ: - ساعديني. - ولكن ليس هذا إلا حلمًا. - ساعديني، ساعديني. - سأساعدك. - لا تتخلي عني. - أنت مجنون! - أحبك. - وأنا أيضًا. - أعبدك. - وأنا أيضًا. - الفجر أحمر! - من العادة أن يكون الفجر أحمر. - في الغيم والضباب؟ - انقشع الغيم وذاب الضباب. - أصحيح هذا؟ انقشع الغيم وذاب الضباب؟ - صحيح هذا، انقشع الغيم وذاب الضباب. - سأتزوجك، وسننجب أطفالاً. سأعمل طوال الوقت، وسأبني لك بيتًا. ستكونين سعيدة، أليس كذلك؟ - سأكون سعيدة. - وستعدين لي الطعام بيديك. - سأعد لك الطعام بيديّ. - ستكون لنا زاويتنا، وسيكون لنا عالمنا، وستجدين عملك المفضل. اسمعي، إنني أكره الكره. - سأحبك كثيرًا. - لكنني أحب وأكره. - سأحبك كثيرًا. - ليس الحب كل شيء كما يقولون، لهذا أعمل ليل نهار. - أنت طفل كادح! - أنا طفل مذنب. - سأغفر لك. - أنا طفل جائع. - سأطعمك. ألقمتني ثغرها: - لعابك عسل. نامت عليّ: - كفى! يجب أن أنصرف. - إلى أين؟ لن أدعك تذهب وأنت على مثل هذه الحال. - سأذهب إلى حيث لن أعود... ما زالت أمي تسير، خطواتها ثابتة، والنعش ثقيل! - لا تقل هذا. لن تكون نهايتك. - النعش ثقيل مع أنه دون ميت. زدتها ضِغثا على إِبّالة، فعزمَت على ألا تتركني أذهب. قلت: - يجب أن ابدأ هجرة أخرى. نحن الآن في النعش الذي تحمله أمي قبل موتنا أنا وإخوتي السبعة كلاب الممسوخة وأبي الذي مات أكثر من مرة. ألم أحك لك قصتنا؟ قصتنا قصة! قصة هجرة تسبقها هجرة! قصة هجرة أخرى! - ستكون هجرة أخيرة. - تبدأ هجرتنا في الحلم، هذه صفة خط تجوالنا، يبدأ تجوالنا في الحلم، ثم يغدو حقيقة مدمرة. تشبثت بي تشبث العاشق بظل ضائع، وجعلتني أحكي عن زمن انتهى منذ لحظة وآخر سيبدأ قبل أن يدمرنا: - ما سأقول لم يعد حلمًا. - حلمك حقيقتك الأولى. - ما سأقول لم يعد حقيقة. - حقيقتك حلمك الأخير. قلت لها: - أذكر يوم أتت أمي بنا إلى ضفاف السين، ثمانية إخوة كل منا كان أميرًا في بلدِهِ قبل الغزو الأخير. وكان سمك المارو الضخم بنوعه الفريد الذي يبلغ طوله المترين، اللذيذ الطعم، هو الذي دفع أمي لتأتي بنا إلى ضفاف النهر الخالد، فنصبنا خيمة لنا أنا وإخوتي السبعة حمراء وخضراء، وخيمة لأمي ذهبية، رفعنا عليها هلالاٌ يضيء أبيض في الليل، وضعنا في قلبه لؤلؤة سوداء، وأخذنا نصطاد المارو بالأطنان، نغوص في اللُّجة إليه، فنجده يبتسم لنا، فنجذبه بعضلات سواعدنا المفتولة كحبال سفينة إلى صدورنا العريضة كصدور النحاس، فيعانقنا، ثم نخرج به إلى أمنا التي كانت تصدع المارو بضربة سيف بحثًا عن جِرِّيّ ذيله ذيل الحية ورأسه رأس المَرْجان، أو تَروتَة منقطة عاشقة، أو سَلْمون مُوَرَّد من شدة الخجل، وكانت ترمي بالجِلاّخ القبيح المنظر كالخنزير لأُخطبوط التقطته طفلاً عمره يومان من شط العرب، وربته على يديها مثلما ربتنا حتى غدا قويًا مثلنا فحلاً وشديد البأس، سَمَّتْهُ "قدر البحر"، وقالت لنا هذا أخوكم التاسع يحميكم وقت الشدة، فأَحِبّوه، فأحببناه، وأَحَبَّنا، وخاض المعارك معنا، ونحن نصطاد المارو ضد حصان البحر، ذلك المارد الأسطوري الذي اختار السين منزلاً عندما انشقت انجلترا عن فرنسا في عصر الحجارة، وصارت جزيرة تحب السكوتش، وتكره الضباب. كنا نركب نصفه الذي كالجواد، ونضرب بسيوفنا نصفه الذي كالسمكة، فنشطره بعد أن يكون أخونا الأُخطبوط قد امتص دمه، وأعياه. وأثناء عناقنا مع سمك المارو ولذة العناق التي كانت تأخذنا، وتأخذه، كان أخونا "قدر البحر" يحرسنا من السمك المكهرِب بالكهرباء الذي تبع قافلتنا يوم كنا نجوب أميركا اللاتينية مع مكتشفيها الأوائل طولاً وعرضًا، وقد صرنا الأسبان بعد أن كنا أندلسيين، وكم من رفيق لنا صرعه السمك المكهرِب بالكهرباء التي يطلقها عليه، والذي يظل يتبعنا أينما حللنا، تجذبه رائحة عرقنا أو بولنا أو برازنا أو الدماء الثخينة التي كنا نهرقها، ويبقى صدأها يعفن باللون الأصهب والأسود والزنجار شفرات سيوفنا. وهناك أيضا سمكة الشواكة التي كنا نخشاها لشوكها السام، وكانت تخشى أخانا الأُخطبوط "قدر البحر"، فتنتقم من كل سمكة نهرية لحمها شديد البياض، وتترك السلطان إبراهيم سلطانًا يتمزق بين أسناننا وأسنان المارو عندما تقوم ما بيننا وبينه هدنة، ولا يبقى لأمنا وقت تقتل فيه ما تقتل من ملايين الأسماك. ثم جئناها بسمك قديم جدًا اسمه كَلْكَنْتا، وبزحافة بحرية منقرضة اسمها البَلْصور، وبسمك مجنح اسمه بيغازا، فوضعتها جميعها في مربى المائيات الذي لها، وقالت لنا سيكون لكم منها إخوة آخرون مخلصون وأخوات أقل جمالاً من جنيات البحر حقًا، ولكنهن أخلص لكم من كل بنات الأرض. ركبت عَلَندًا، وتركتنا وحدنا مع جثث المارو من حولنا كالجبال، فصعدنا عليها لنرى الدنيا، فتجاوزنا بقاماتنا برج ايفل طولاً، فارتعدنا لمضاهاتنا مالك الأبراج في مملكته، وما لبثنا أن جلسنا، وأخذنا نبكي على جثث المحبين، ونطلب من الله المغفرة. ولما جاء أبو طيط الذي كان يحلق ويحلق قاصدًا عشًا له في السماء الأعلى، ورآنا في منتصف طريقه معلقين بين الأرض والسماء نبكي، أخذ يبكي معنا لعجزه عن إعانتنا. فجذب نحيبه كل هزار، وكل غرّار، وكل حميراء، وكل عزيراء، وكل نغر، وكل ذُعَرَة، وكل صُفَّرة، وكل قُرْقُب، وكل قَعْقَب، وكل قَيْقَب، وكل شُقاحة، وكل سُنْقُر، وكل قُنْزُعَة، وكل تُمَيْر، وكل شُحْرور، وكل خَبَل، وكل زُرْزور، حتى أن عصفور البنغال قد جذبه نحيبه، وصار في السماء غيم وبرق ورعد وصقور، وأمطرت الدنيا مطرًا أملح من ماء خليج عكا جعل أمنا تغضب منا، فالمطر ليس صديقًا للعلند، ومن الملح ترشف النحلة العسل الذي تكرهه أمنا، وهي لغضبها راحت تسمن، وتسمن، وتنتفخ، وتتضخم، فملأت الخيمة بجسدها الأضخم من سبعة أفيال قبل أن تدب على الأرض، فتتزلزل الأرض من جهتها الأخرى تحت قدمي إمبراطور الشمس الغاربة، فهربنا منها لنلجأ إلى أغوارٍ بين ثنايا نهديها الضخمين، رُسمت على صخورها بَيْسونات وثيران وأحصنة وأيائل ونساء حبالى، وفي تجعدات فخذيها التي تشبه طرقات فرنسا المبلطة الضاربة في القدم أخذنا نغوص، وكأننا نغوص في ظلال سور الصين العظيم، حتى عاد إليها هدوء البال، فزال عنا الرُّهاب، فخرجنا إلى خيمتنا والليل قد خيم، وتركنا أمنا تتكحل بكحل اليمن، وتتزوق بمساحيق الهند، وتتعطر بعطور السند، ثم رمت عليها كسوتها التي من حرير دمشق الثمين، وجلست إمبراطورة روسية، على يمينها أَرْوس، وعلى يسارها أَوْس، ونادت علينا، وقد لبسنا أنا وإخوتي السبعة أحسن الثياب الإفرنجية، فانسرت أمنا منا، وراحت تربت على خدودنا الواحد تلو الآخر، وقالت لنا اذهبوا الآن، وأتوني بالزبائن الكرام. كان صف من ملوك الدنيا وقادتها وشرذمة من رعاعها الضالين على باب الخيمة كل واحد ينتظر دوره. وكان أولهم شارل مارتل الذي مَرْتَلَ الرقاب في بواتييه، انحنى بين يدي أمي، وقبّل قدميها، ولما خرج من عندها، اختار أخي الذي يصغرني بعام، وأعطاه سيفه، أما الثاني، فكان صلاح الدين الأيوبي الذي أمر بهدم عسقلان ثم أصابه ندم أيما ندم، وهو بدوره انحنى بين يدي أمي، وقبّل قدميها، ولما خرج من عندها، اختار أخي الذي يصغرني بعامين، وأعطاه سيفه، أما الثالث، فكان ريتشارد قلب الأسد الذي أسلم دون أن يبوح بإسلامه لأحد، انحنى بين يديها هو الآخر، وقبلها من قدميها، ولما خرج من عندها، اختار أخي الذي يصغرني بثلاثة أعوام، وأعطاه سيفه، أما الرابع، فكان روبسبيير الذي كان يفضل العادة السرية على الجماع بعد أن أغلق بيوت اللذة، انحنى بين يدي أمي حتى لمس بجبينه الأرض، وقبّل قدميها، ولما خرج من عندها، اختار أخي الذي يصغرني بأربعة أعوام، وأعطاه مقصلته، أما الخامس، فكان لينينوف اليتيم الذي أهدى أمي صورة قائد سيكون له وحام مشهور على جبهته، انحنى بين يديها، وقبّلها من خدها، ولما خرج من عندها، اختار أخي الذي يصغرني بخمسة أعوام، وأعطاه منجله النحاسي، أما السادس، فكان جون كينيدين الذي كان يصطحب معه فتاة شقراء ثلجية أخفاها تحت عباءة سوداء مراكشية، فسمعنا أمنا تضحك عليه، ثم تقهقه، وتكاد تموت من الضحك عليه والقهقهة، انحنى بين يديها، وقبلها من قدميها، ولما خرج من عندها، والفتاة الشقراء تتعلق بذراعه عارية مثلما ولدتها أمها، اختار أخي الذي يصغرني بستة أعوام، وأعطاه قدومه الذهبي، أما السابع، فكان أبي الذي يأتي إلينا من وقت إلى آخر، سلم علينا واحدًا واحدًا، ثم دخل على أمي، وبعد أن أشبعها ضربًا، وأشبعها لثمًا، وأمي تصرخ تارة، وتارة تتأوه، خرج من عندها، وهو يعبس، ويبسم، وأخذ كل السيوف التي كسبناها من عرق جبين أمنا، ولم ينس القدوم والمنجل والمقصلة، أعطى أخي الذي يصغرني بسبعة أعوام قلم الكاتب وريشة الرسام، وأعطى كل واحد منا مصباحًا سحريًا قال إنه لا يمكن أن يستعمله أحد سوانا، وفي اللحظة التي نفركه فيها بأصابعنا سيأتينا أبونا أينما كنا. عاد ودخل على أمنا، وأشبعها ضربًا، وأشبعها لثمًا، ثم ذهب، وهو ينتفض حَبْراً. استمر الزبائن في الدخول والخروج حتى زوال النجوم، عندما تجرفها بحور الضوء، وتمحوها في جسد النهار، من إمبراطور اليابان إلى سارق الخبز الشريف الذي قطعوا يده في جدة، ومن مارد عاص للملك سليمان إلى كلوشار عاشق لا تفارقه زجاجته الحبيبة ولا يفارق فاه المترو، وأتت أمي قِرَدَةٌ ممسوخة هي في أصلها أبطال شعبيون مغاوير، وأتت أمي ديكة مسحورة هي في أصلها أبناء ملوك مغضوب عليهم، وأتت أمي شجرات نخيل وفهود لا أصل لها ولا فصل وثعابين، وكنا قد بقينا على بابها يقظين، نصطف، وننتظر عطاءات غير البشر من الدواب والبشر القذرين منهم والنظيفين بعد أن تسمح لهم أمي بأن يقبلوا لها قدميها. وكانت أمي قد تعبت، ونامت، فقد رحنا نسمع غطيطها، بينما لم يزل غير الناس من الحيوان والناس يدخلون عليها، فينحنون بين يديها، ويقبلون قدميها، ويخرجون، إلى أن دخل عليها الجميع، إذ لم يكن في صالحنا أن نرفض أحدًا، أو نُغضب أحدًا، وذلك عملاً بنصيحة الحكيم القديم الذي رافق اسكندر المقدوني في كل حملاته، فما سمع له، واحتاجه لكي يخر الجميع على قدميه أن يُسيل دماء البشر وغير البشر بحورًا، الأمر الذي حلنا دونه بعد طول تجربة، فها هم الناس جميعًا، عظامهم ورعاعهم يخرون على قدمي أمنا دون أن نجرح إصبعًا واحدة بعد أن فهمنا البعد الفلسفي للنصيحة، وطبقناه... ثم طلعت الشمس على باريس، فذهبنا إلى خيمتنا تاركين لمورفيه إكمال عمله.
الفصل 8
علي وريمي يصارعان الذئبة ذات الرؤوس المتعددة ثم يتصارعان
أخذت أمشي في صباح بارد دون أن أحس بالبرد أو يحس البرد بي، كنت أمشي مثل هوام الأرض في صباح لم يتغير فيه شيء على الرغم من قدوم عيد السين، فهذا كناس أسود يكنس رصيف شارع ريفولي التجاري، وهذه ستائر الدكاكين المصفدة لم تزل مغلقة، وأنا أدوس إعلانًا ممزقًا من بين عشرات الإعلانات التي تمزق كل يوم لتلصق على الألواح الدعائية مكانها إعلانات أخرى لا يكترث بها الكثير من المارة. عندما دلفت إلى ساحة شاتليه، رأيت صبي المقهى الملاصق للمسرح، وهو يرتب بعض الكراسي من وراء الزجاج، وينظر بين فترة وأخرى إلى السماء التي عادت تتصارع في ساحها جحافل الغيم، وعلى بابها قرش يصعّد زفرات الرماد. أردت أن أصفّر، لكنني لم أفعل، وأردت أن أصعد سلم المسرح الجانبي إلى حجرتي، لكني دخلت القاعة. كانت في القاعة سبع وأربعون فتاة كل فتاة تضاهي الأخرى فتنةً وجمالاً، وعلى الخشبة رأيت ريمي يقف وجهًا لوجه مع ابنة ملك الكلام في حلة حديدية، بيدها اليمنى تشد سوطًا، وبيدها اليسرى تشد ذئبة بعدة رؤوس وعدة نهود رأيت فيها أمي. كان يبدو الرعب والروع في عيني ريمي، وهدوء الروح في عيني الأميرة. وعندما تقدَّمَتْ بالذئبة باتجاه ريمي، راحت الفتيات السبع والأربعون يصفقن للمشهد، فها هو ريمي يتراجع مدقوقًا بالرعب مروعًا، وها هي الذئبة قد راحت بأفواهها تفتح عن أنيابها، وتعوي تريد افتراسه، والأميرة تقهقه ملء شدقيها. وعلى حين غرة، تركت الذئبة تقفز على ريمي بطل المأساة، فسارعتُ إلى نجدته، وقطعت للذئبة رأسًا من رؤوسها، وكذلك فعل ريمي، وجمهور الفتيات الجميلات يصفق لنا حماسًا. كانت الذئبة قد أخذت تنوح كامرأة ذبيحة جعلنا نواحها نشفق عليها، فأخذنا أنا وريمي نضمد لها جراحًا لن تندمل. وكنا قد جعنا بعد كل هذا الصراع التراجيدي، فألقمت الذئبة كل واحد منا نهدًا من نهودها، وعلى منظرنا الوديع تحولت الفتيات إلى حمامات شرسات، واختفين، وهن يزعقن في سماء المسرح. كانت ابنة ملك الكلام قد حملتنا لما غفونا بعد أن شبعنا إلى حجرتي، وجعلت ريمي ينام في سريري، بينما جعلتني أنام على الأرض، بعد أن ألبستنا ثياب النوم. أيقظتني خشونة الأرض العارية، فقمت إليه، وهززته، فندت عنه آهة تأسن نومًا. قلت له: - دع سريري. همهم: لماذا؟ - لأنني أريد النوم فيه. لم تبدر عنه أدنى حركة. - حصل خطأ لم يكن بالحسبان، فهذا مكاني في السرير، وذاك مكانك على الأرض. بقي ينام في سريري دون أن يبذل أدنى حركة، دون أن يبذل أبدا أدنى حركة، فضاق صبري. انحنيت، وسحبت الفراش من تحته، فإذا به يسقط على الأرض خفيفًا كالطابة، وقد ذهب النوم من عينيه: - دفعت ثمن نومي في سريرك لابنة ملك الكلام التي حملتنا، فاذهب إليها، وتفاهم معها. - لن أتفاهم مع أحد. هذا سريري، وهذا مضجعي. - إذن لا يمكن التفاهم معك إلا بقبضة اليد. - لا يمكن التفاهم معك أنت إلا بقبضة اليد. تبدلت نبرته، ولكنها عمقت، وصارت مبهمة إبهام دهليز رطب: - كذبت عليك، لم أدفع لأحد ثمنًا، ولكنه القضاء والقدر الذي أراد لي أن أنام في فراشك بعد أن رضعنا من نهد واحد، وصرنا أخوين، فلم تفرق حاملتنا على جناحها بيننا، وصار هناك خطأ هو في حقيقته صواب. لم أجبه، وأنا أفكر في الملغز من كلماته. نهض حادجًا إياي، وراح يفرش الغطاءين اللذين أعطيتهما له عند قدم السرير بلا رضاء. أعدت الفراش، واستلقيت على السرير بتعب شديد. استلقى على الأرض، وغطى نفسه جيدًا، ولكنه بقي يستند برأسه على الحائط. حاولت أن أغفو، فأتاني صوته غير واضح، وكأنه يأتي من بئر عميقة: - علي، هل نمت؟ لم أجبه، فألح: - هل نمت، يا علي؟ لم أجبه، فقال: - أريد أن أسألك سؤالا لم يسألك إياه أحد غيري. ولكنني لم أجبه، فألح من جديد: - هل نمت، يا علي؟ - ..................... وسألني بعد قليل من الصمت دون أن آذن له: - أتحبها حقا؟ أنا لم أحب أحدًا بعد روزالي. لقد تبعتك، فاعذرني. أردت أن أراها. كنت أتوقع أن أرى فيها بعضًا من روزالي، ولكنني لم أر فيها شيئًا منها، فعرفت أنك لم تعد تحبها. ها أنت تتركها لي بعد أن ماتت، لي وحدي دون سائر البشر، فأنا لست غيري في هذا الوجود، أنا الحقد والعقاب حين وجوبه وتعاسة القلوب... أنت تحب فتاتك هذه يا علي، مثل أي واحد يحب أية فتاة، فأين أنت من حبي العظيم لروزالي؟ ومع هذا، أجد أنك قد أحسنت الاختيار على هواك، فهي فتاة دسمة كما بدا لي وشهية! نهضت دفعة واحدة، وقد أزعجتني نبرته، فرأيته ينقل صورة أمي بين يديه. وثبت باتجاهه، وأنا أشتمه: - أيها القذر، دع صورة أمي جانبًا، أيها القذر! وأنا أحاول انتزاع الإطار، فسقط من بين أيدينا المتعاركة، وتكسر. تناولت الصورة بسرعة لأرى إذا ما لحقها سوء، وعندما اطمأننت على سلامتها، أخذتها إلى صدري، ونبرت: - إياك أن تحاول لمسها ثانية، أيها القذر! فانفجر ضاحكًا. أعطيته ظهري، ودخلت فراشي. قال، وهو يقصد استفزازي: - أنا أحسدك! أعاد بنبرة أكثر استفزازًا: - أنا أحسدك على كل ما لديك! هددته: - توقف، وإلا اضطررتني إلى طردك. انفجر يقهقه من جديد، وعلى الرغم من إمارات العزم والتصميم التي ينطق بها وجهي، قال لي بشيء من التحدي: لن تستطيع! حتى ولو صرت مَلِكًا للأقفال لن تستطيع! رفع مفتاح حجرتي المعلقة بين الأرض والسماء بإصبعين، وأومأ رأسه كمن يعاند طفلاً. قال متهمعًا: - المفتاح معي، مفتاحك، مفتاح عالمك، وكل وجودك، خذه مني إن استطعت بعد أن أعطيتني إياه في لحظة صداقة أو لحظة غباء. وعلى أي حال، هي مشيئة ربي الذي أعطاني المفتاح من قبلك. وعاد يقهقه. قفزت جاذبًا ريمي من خناقه، ولكنه دفعني بعنف، وهددني: - أقعد عاقلاً وإلا حصل لك ما لا ترضاه! تساءلت إذا ما كان يهددني بالفعل، وقلت أيقتلني إذا لم أقعد عاقلاً أم يطردني إلى جزيرة أظل فيها غريبًا؟ عزمت على أن أقعد عاقلاً، ولم أشأ الدخول معه في شجار، خاصة وأن الناس نيام في مثل تلك الساعة من الصباح الباكر، وأن أمي الذئبة تنفق دمها وحدها في مسرح لا يوجد فيه جمهور، ولكن لم أتردد عن تذكيره: - أنقذتك من أنياب كادت تفتك بك منذ قليل، ورضعنا سويًا من لبن واحد، فأعد المفتاح لي، واذهب بسلام، ولا تعد إليّ ثانية. انطرح على الأرض، وقال ببرود جم: - أذهب متى أشاء وأعود متى أشاء بعد صراعٍ جعلني قدر نفسي. فصار ذهولي مشلاً: - إذن هكذا! ها هو جزائي يا ريمي! لأنني عملت لك ما لم يعمله أخوك! لأنني لم أفعل في روزالي ما كان بإمكاني فعله! لأن لا شيء لديك تحسد عليه! أهو ذنبي أن تكون من كنت؟ أهو ذنبي أن أكون من لا تريد أن أكون؟ ارتجف، وأشهر في وجهي إصبع الإدانة: - هو ذنبك، نعم، هو ذنبك، فأنت لم تحمني مني، هو واجبك نحوي أنا الذي أنكرت! تريدني أن أذهب؟ إذن، سأذهب، ولكنك أنت أيضًا لن تبقى! وقبل أن أذهب، سأريك شيئًا يسرك على التأكيد، فيجعلك تنام مرتاحًا، وتحلم أحلامًا سارة (جذب صندوقًا من الخشب حسبته للوهلة الأولى الصندوق الذي يُخفى فيه ولداي. خفض صوته، وغلبت على نبرته سخرية مقصودة) إنه هنا هذا الشيء الساحر الذي سيفتنك افتتانًا ليس له مثيل فقط لمجرد رؤيتك إياه (نقر بإصبعه قفل الصندوق، فانفتح بسرعة تحت تأثير زنبرك إلى أعلى) أنظر (أخرج شعرًا أحمر مستعارًا) هذه باروكة روزالي التي كنت تحبها كثيرًا! أنظر أيضًا، هذا فستانها القصير المعرق الذي كانت تلبسه من أجلك دون أن تأتي أبدًا لزيارتها. أنظر، أنظر جيدًا، هذا قرطها، وهذا عقدها، القرط أهديته أنت لها لما كانت صغيرة، والعقد أهديته أنا لها لما كانت كبيرة، ذوقك جميل أيها الصبي الفاتن! وهذه... هذه أدوات زينتها، هنا (قلب الصندوق، فتساقطت أدوات زينة روزالي على قدميه، وقد ضربت لهثةٌ صدرَهُ) هل أنت سعيد الآن؟ نزعت ثياب النوم، وبخفة، ارتديت ثياب كل يوم. دفعت صورة أمي في صدري، واتجهت نحو باب حجرتي الفاصل بين جحيمين، فالتقطني من ذراعي: - إلى أين أنت ذاهب؟ - إلى الشرطة. - أنت مجنون! وبكل ما استطعت من قوة وجهت إليه ضربة ظللت أمنعها طوال بعثرته لأشياء روزالي وروائحها وذكرياتي معها وظلالها، رأيت في عنقه تنبت رؤوس ذئب متعددة، فهجمت عليه، ورحنا في صراع دام نصف قرن مضى كلمح البصر، كان ريمي قد فقد بعض رؤوسه، وأنا قد نبت لي بعضها إلى أن أوقفته عند حده قبل أن يبدأ معي من جديد. حمل ثوب روزالي، وراح يربط به جراحه، فأوشكت على التفجر ثانية، ولكنني تمالكت، وقلت: - أنت لست ريمي الذي أعرف، أو أنك ذلك الصبي الفظ الذي عرفت، أنت الآن غيرك، أنت الآن غير متاهتك، أنت الآن متاهتي. لماذا صرت متاهتي؟ لماذا صرت غيرك؟ لماذا صرت بياض ليلك وسواد يومك؟ لماذا تريدني أن أكون غيري؟ أن أكون غير متاهتي؟ أن أكون متاهتك؟ لماذا تريدنا أن نصبح أنا وأنت رؤوس ذئب قطعناها بالسيف؟ أن نصبح سيفًا قاطعًا للرؤوس؟ أن نصبح وعدًا من جهنم وتكون الجريمة؟ أيتها الجريمة الحبيبة التي ستغدو نهدًا! انتزعني ريمي من خناقي، وقذفني من أعلى درج المسرح إلى قاعة يشلها الصمت. فركت مصباح أبي السحري، فلم يأتني أبي.
الفصل 9
علي في مقبرة التماثيل ثم في خيمة ابن سينا
لم أكن أعرف أين يوجد مركز الشرطة، وأنا من يسكن في الحي منذ سنوات، ربما سقط من ذاكرتي في تلك اللحظة الحاسمة من عمري. خففت السير، ورحت أبحث عن شرطي في الطريق الصاعدة إلى حديقة اللوكسمبورغ. كانت الطريق فارغة على التقريب مثلما هي على عهدها كل صباح، وشيئًا فشيئًا أخذتُ أفقد أنفاسي، وشيئًا فشيئًا أخذتِ القدم تزداد وحركة السيارات تنمو. دخلت الحديقة أول ما فتحت بوابتها، واتجهت إلى قرنة بعيدة عن عيون الآخرين، الحمائم اليتيمة كانت هناك، في الزوايا النائية، بعيدة عن عيون الآخرين والأخيرين. كنت لا أفكر بشكل طبيعي، كانت للطبيعة في ذهني صورة تجريدية صعبة الفهم، فأحسست بحاجة شديدة إلى النوم. جمعت نفسي على مقعد لم يكن مريحًا، ولكنني غرقت في النوم بسرعة، وكأنني حجر يغرق في قعر الماء. أيقظني الحارس مرات، وفتحت عينيّ على انهيار العالم مرات، ثم لم ألبث أن أعود وأغفو. وفي إحدى المرات، استعمل الحارس معي بعض التهديد، طردي من الجنة أو تسليمي للشرطة! صحوت في الأخير على أصابع صغيرة تجس أنفي، كانت يد طفل كالقمر، في الثالثة أو الرابعة من عمره، راحت أمه توبخه: - أترك السيد على راحته، يا جان! ورحنا كلانا، أنا والطفل، نرنو لبعضنا بوداعة فقيدة لقيناها. قلت لنفسي: ها هو طفل يقف على عتبة الحياة أو على عتبة الهاوية بينما هموم وصقور كثيرة بانتظاره! أعاد الصوت الموبخ وصاحبته تغنج: - لا تزعج السيد، يا جان! سحبته أمه الغنوج من ذراعه، ورمتني بنظرة كيبودية استطعت أن أميز فيها رغبة شهوانية خاطفة. - تعال يا جان، سيصب المطر بعد قليل، وعلينا أن نعود إلى البيت بسرعة. على بعد خطوات، التفتت المرأة إليّ، وهي تبتسم، فتساءلت: أتبتسم للطفل أم لي؟ كانت تومئ رأسها متصانعة الحديث مع الطفل. دعوة للبيت مع امرأة فخمة، زوجة قاض! كنت أحتقر مثل تلك اللقطات المجانية، ولم أكن أسمح لنفسي بمجرد التفكير في ملاحقة نساء الحدائق. تطلعت نحو قرش السماء، فهاجمتني غيوم كثيفة واطئة. استشرت ساعتي، فكانت واقفة. وصلتني بعض النقط المبشرة بسقوطٍ زخمٍ للمطر قادم، فدفعت يدي في جيبي معطفي، وعجلت اللحاق بالأم المغناجة. كانت قد دلفت إلى مقبرة تماثيل الحديقة، عشرات التماثيل النائمة أو القاعدة. تماثيل لهراقلة، وتماثيل لكتاب، وتماثيل لملوك حكموا وزالوا، وتماثيل لصعالكة. رأيت تمثالاً لفلوبير محطَّم الذراع والقلم، وآخر لبودلير محطَّم القدم، وثالثا لأخي الذي أراد أبي أن يكون كاتبًا نزيهًا، ورأيت رأس لويس السادس عشر المتآكل في حضن تمثال حنون لإحدى الحوريات الشيطانية. كان الطفل قد ذهب يلعب بين غبار التاريخ وظلال عظمائه المنسيين، والمرأة قد وقفت مثل فينوس مخضلة كلها شوق وارتياع بانتظاري. جذبتها إلى صدري، فراحت تضرب، وتلهث، وترعش متفجرة دفعة واحدة، وهي تلتقطني من فمي. رَفَعَتْ ثوبها إلى خاصرتها مضفية الرعب والروع على المكان، رعب الرغبة وروع المرأة، وانحنت ببطنها على بطن أخيل، وألصقتني بظهرها. كانت لها ميولها المفرطة، وأنا قد رحت مع هوسها حتى استنزاف رمق هوسي الأخير، وهي تطلق صرخات اللذة المتوجعة. وعندما هدأت، وهي تمسح لي عرقي، وتبتسم بإعياء المحب الشاكر، وكأنها تبتسم لرودان نافخ الروح في الحجر المعاند، صرخ ابنها صرخة واحدة جزعة، صرخة واحدة مستسلمة، وصمت. خففت إليه، وأمه تسبقني إلى فزع الروح، لتجد عليه تمثال فكتور هيغو قد سخط بكل عظمته. حاولت أن أزحزح التمثال، فلم أستطع لثقله الشديد، بينما راحت أم الطفل تولول، وتنادي، وعلى ندائها أتانا رجل مربوع القامة قوي البنية عرفت فيه جان فالجان. انحنى مثل عشرة رجال، وبعد جهد جهيد رفع تمثال سيده ثم حطمه، لأنه أخطأ في رسم بطل من أبطاله أراد له الموت بينما هو بريء. شكرته الأم، وشكرتني، وخرجنا ليذهب كل واحد منا في طريق. لم أكن أدري إلى أين أذهب، كان الجوع قد أخذ بي أيما مأخذ، إلى جانب شعوري الشديد بالتعب. أردت الذهاب إلى عيد السين كي أنسى، ولكنني عزمت على الذهاب إلى الكنيسة، فوقت الاحتفال لم يحن بعد، وأنا كنت يائسًا يأسًا كبيرًا. عندما دخلت الحجرة الجانبية كانت أصوات التراتيل ترد بصحبة أنغام الأرغن، ألقيت نظرة من وراء أحد الحواجز، وشاهدت القس وأربعة صبية جميلين بلباس أبيض يحيطه اثنان من كل جانب. كان معاونه يعزف على الأرغن، ويساهم بدور كبير في الجوقة. لم أشاهد الحضور: السادة والسيدات العجائز، رموز العائلات المصطحبين أحفادهم للصلاة. عدت إلى الحجرة، وجلست منتظرًا: كنت مثقلاً بالهموم، وكانت معنوياتي منهارة! لم أدر لِمَ فكرت في روزالي، ربما لأنها كانت تحب الصلاة. تذكرت روزالي، وتذكرت أيضًا أنها لم ترغمني على الإيمان أبدًا مثلها، قلت لنفسي يجب عليّ أن أفعل شيئًا من أجلها، ولكن أي شيء يجب عليّ أن أفعله من أجلها بعد أن ماتت؟ كنت مع انسياب الأنغام المتناسقة مشلول الفكر، مشلول الإرادة، انسياب أنغام لا تتوقف عن مطالبة الغيب بما نعجز عن تحقيقه في الشمس. أدخلتني الأنغام إلى عالم الموت، فأرعبتني جثة روزالي المشوهة. صرت على وشك الاختناق، وقد ضغط عنقي طوق نحاس كدت أقيء معه روحي. قفزت صوب الباب المؤدي إلى القاعة، وأغلقته. ابتعدت التراتيل قليلاً، وزالت نوعًا ما حدة الضغط الرهيب على عنقي. ارتميت على المقعد، وكأن قواي قد بذلت آخر فعل. أعادتني لمسة من يد القس إلى واقعي، كانت التراتيل قد انتهت، والناس قد صلوا، وغادروا المعبد. أنهيت عملي ببطء، ببطء شديد، مما سبب للقس بعض الضيق. كان يقف بانتظاري تحت قدمي العذراء، وعندما أصابه العياء، أخذ يقطع المسافة بين سبعة صفوف، في غدو وإياب، إلى أن انتهيت. خرجت من البوابة الكبيرة هذه المرة، بعد أن ألقيت على القس التحية، وفي اللحظة ذاتها، دخلت فتاة في السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وراحت تقبل القس من فمه، ومن ثديه، ومن فخذه، وعلى باريس سقط المطر شديدًا. جمعت نفسي، وسرت تحت المطر. وأنا أسير، كانت تصعد من جسدي لذة تقارب الخدر، لمجرد السير تحت المطر. وأنا أشعر بالقطرات، وهي تنفجر في عنقي، كنت أشعر ببعض التحدي، لكن الشعور بالموت ظل يترصدني. داومت على السير تحت المطر، والناس يحتمون بمظلاتهم، يخافون متاهات السفر، فأين هم من سفرٍ يعدو في الدم؟ كان بعضهم يعدو، أما أنا، فكنت لا أعدو، قلت مجانين الذين لا يأبهون للمطر، الذين لا يرون فيه جفاف الصحراء، والصحراء بحر، والبحر رمل. صارت رغبتي في مواصلة السير جامحة، نسيت الذهاب إلى ناتالي، لا لم أنس، لكنني تعمدت النسيان، وجعلت تفتك بذاكرتي مخالب جارحة. لن أذهب اليوم، اليوم ليس البارحة. اليوم مطر، اليوم عذاب، المطر عذاب، والسير عذاب القافلة. سأسير تحت دموع السماء، وأعب الدم من القطرات، وأفقأ عيناٌ من عيون الماء، وأترك آثاري على الأرصفة. أخرجت من صدري صورة أمي، تأملتها، وقطرات المطر تسقي وجهها، ثم أعدتها إلى صدري. جرفت آثاري الوحول، ولكنني عزمت على السير ما دام مطر هناك، وفي قدمي عصب. وجدت نفسي أصعد الشانزلزيه، وأطرق باب خيمة ابن سينا، فتفتح لي أمي، وتقول لي: - جئت في وقتك، الآن سيحضر روكاردتون ليتبادل مع ابن سينا بمناسبة عيد السين الهدايا. قدمتني لابن سينا، فكان مجرد النظر إليه ينقلك إلى عالم آخر، ونفسية أخرى، وبكلام آخر يحدثك غير ذاك الكلام. كان ابن سينا يفرض نفسه عليك بهيبة الشيخ العالم الجليل التي له، وكان يخيفك منه ويبعدك عنه بقدر ما يوثقك به ويقربك منه عطره الليموني الماضر الرائحة ونظافته التي تتفجر بها طلعته المهيبة البهية السمات ورداؤه الأبيض الأنيق الهندام، في ذلك المكان الغني بأشيائه الغريبة العجيبة الزاخر بالوسائد الحريرية الرغيدة والطنافس العجمية المسدّاة والثريات التي تعجز عن عد طبقات الكريستال طبقاتها مع خدم وحشم لا يعدون ولا يحصون، وكأنه قصر أحد الملوك العظام الغابرين. في ذلك الجو المضاهي لعظمة قوس النصر، فكأن القوس ديكور نابليون الصغير فيه، الرافع من معنويات ظباء الجبال عاليًا حتى القمم، كان المطر يصبح ذكرى من الذكريات البعيدة، وصراعي مع ريمي صبينة من الصبينات العديدة، أما ضياعي فمزعومًا وطرفة من الطرف الصغيرة.
الفصل 10
علي بين يدي ابن سينا وروكاردتون: الحريم والكمبيوتر وسيف باريس
أتى روكاردتون بهداياه على رأس قافلة من جمال تشق الشانزلزيه بينما ترفرف عليها أعلام فرنسا الثلاثية الألوان وأعلام ابن سينا السوداء والبيضاء والخضراء المدبجة بمثلث أحمر، ولطول القافلة وقف أولها على باب خيمة ابن سينا في قوس النصر وآخرها عند المسلة في ساحة الكونكورد الشهيرة. بدأت الجمال تنوخ، ومن هوادجها تهبط عشرات الحريم الشقر الشعر، الزرق أو الخضر العيون، وحمل الخصيان برئاسة وإرشاد صديقي محمد الفاسيّ سلال اللؤلؤ والذهب والفضة وسلال الفواكه المجلوبة ومناسف لحم الناقة المطهوة لدى الطباخ الفرنسي الشهير فوشون ألذ طهو. كان ابن سينا يتقبل هدايا رئيس الوزراء الذي ينحني بين يديه مبجِّلاً متهتهًا متمتمًا، والذي لِقِصَرِهِ يضيع في ظل ضيفه العملاق المهيب. ولما انتهى روكاردتون من تقديم هداياه، شكره ابن سينا، وقال له: - أما عن الحريم، فهي لي لما ولدت شيخًا، وأنا مثلما تراني أصغُرُ مع مضي الأيام. وأما عن الذهب والفضة ولؤلؤ بحر النورماندي، فهي عملة قديمة، ونحن مثلما ترانا نتداول ورق النقد الأخضر والرمان. وأما المناسف، فهي أكلنا البدويّ في كل وقت وأكل غيرنا الذين يحبون بطونهم كثيرًا في الأعياد. وابتسم، فكانت ابتسامته بردًا على قلب روكاردتون وكل من معه من القادة والوزراء، وما لبث ابن سينا أن أضاف: - ولكنني قبل أن أعطيك من النفط ما تسعى إليه أريد أن أقدم لك هداياي لتعرف كم نحن نحبكم، نحبكم أنتم ولا نحب برد بلادكم، بسبب برد بلادكم لم نحتلكم يوم كنا جيرانًا وليس لأن شارل مارتل مرتلنا... ابحث عن آثارنا في شمس شواطئكم تجدها في بيربينيان وفي نيس. ولكن عدا هذا الطور وذاك القدر، فقد جئناكم بجهاز أسميناه الشاشة الصغيرة... وضرب كفا بكف، فأحضر الخصيان برئاسة صديقي محمد الفاسيّ وإرشاداته صندوقًا مربعًا شبكوه بالكهرباء، فإذا على شاشته تظهر صور ناس وطير وبحار ووهاد، وأصوات تند عنها، وهي تنطق، وتتكلم، فقفز روكاردتون في مكانه هو وصحبه مرتعبين، وأرادوا النجاة بجلدهم، وهم يقولون كما قال شارلمان وصحبه عن ساعة هارون الرشيد من قبلهم "ما هي إلا بدعة": ما هو إلا صندوق شياطين! لولا أن أمسك ابن سينا بهم، وأوضح لهم: - ما هذا سوى شيء قليل من حضارتنا، فانظروا الآن إلى صندوق أعظم أسميناه الحاسب الآلي... وضرب مرة أخرى كفا بكف، فأحضر الخصيان كمبيوتر شبكوه هو أيضًا بالكهرباء، فإذا على شاشته تظهر طلاسم كل العقول الالكترونية التي أذهلت روكاردتون وكل من معه من القادة والوزراء. وبعد ذلك، أهداه ابن سينا قمرًا صناعيًا، وقال له: - هذا ما هو إلا قمر لم يحلم به أجدادنا الإغريق، آخر ثورة في عصرنا الحديث، وليس آخر صيحة في عالم الاتصال. أذكر الآن نقاشاتي العلمية والفلسفية مع ملككم فرانسوا الأول، كان يتفق معي دومًا على الأساسي: أن العلم أقوى من الحرب، وأن الحرب أبشع جنون حيواني، ومع ذلك، كان يطلب مني أن أصنع له الأسلحة. قال روكاردتون بأدب جم: - ليحميكم من همجية الماضي، ويرفع من شأو حاضركم المجيد. نبر ابن سينا بلهجة أزعجت مضيفيه: - بل ليخضعنا بدين نستدين عليه، فندفع لكم فوائده، ولا ندفعه، ويبقى علينا دينًا إلى أبد الآبدين. ثم أطلق ضحكة رنانة لطفت من الجو قليلاً، ودعا الجميع: - لنأكل على جوعنا قبل أن يبرد طعامنا، ولنشرب على ظمأنا اليوم، فغدا لنا أمر. وبدأ الكل يأكل ويشرب بينما الجواري غير بعيدات يرقصن على أنغام لموزارت فعبد الوهاب فغانزبور. استدار نحوي ابن سينا الذي يجلس على يمينه روكاردتون وعلى يساره أمي بعظمة الملكات وأبهتهن، وكلمني: - أنت طالب علم في هذه البلاد؟ قلت: لا. - إذن أنت طالب ثروة؟ قلت: ولا هذا. فبان على وجهه الضيق، وقال لأمي: - أعطيت الدر من لا يميزه من البَرَد. ابتسمت أمي، وقالت: - هذا ولدي هنا من وراء وعد لغيره. فقال ابن سينا: - سيكون صراعه داميًا. ألقى عليّ نظرة، فوجدني أسقط في صمت طافح بالخوف الشديد، فقال لي: - أما عن أبيك الذي لم يأتك هذا الصباح، فلأنه حبيس في أحد السجون العربية. ووعدني بإطلاق سراحه. كان الكل قد أكل حتى شبع، والبعض قد راح يأكل فاكهة من الفواكه الأفريقية أو الآسيوية، وكان روكاردتون قد أشار بيده إلى بعض معاونيه الذين أحضروا لابن سينا كما توجب البروتوكولات عند آخر حفلة الغداء سيف باريس المطهم. وبسرعة نيزك انتُزِعَ من أديمِهِ جرده ابن سينا من غمده، وعيناه الواسعتان تبرقان سوادًا لشدة سعادته به وبجماله وبرعد الدم عليه: قبضته المرصعة بالجوهر، وشفرته المصكوكة بالماء المذهب، وظلاله المحروقة بالمرايا، كل هذا كان يشي بأنه سيف متقن الصنع، كامل الشكل، مختزلٌ للتاريخ، سيف ليس مثله على وجه الأرض سيفًا، تتلوى على شفرته أجمل الصبابا، وتسقط ما دونه أعظم الرؤوس، سيف مزيج من برق وريح! شكر ابن سينا روكاردتون أحر شكر، وبينما هو على باب الخيمة العظمى همس العالم العلامة الطبيب الفيلسوف في أذن رئيس الوزراء إذا ما كان لديه مشكل مع زوجه بخصوص الإنجاب، وأمام علامات نفي روكاردتون واستنكاره، أوضح له أنه اكتشف حبوبًا لمنع الحبل وتحديد الذرية في عالم يعاني من الانحسار الاقتصادي الشيء الكثير ومن تفاقم البطالة، وعلى انفراج سيماء مضيفه، أخرج علبة حبوب زهرية اللون من جيبه، وأعطاه إياها، وروكاردتون يشكر، ويشكر، وينحني، ويحمر خجلاً، ويمدح، ولكن ابن سينا قال له إن هذا من واجبه، وهو لا يعدو قطرة واحدة في بحر العالم، وحثه على استثمار رؤوس الأموال في آسيا الحزينة وأفريقيا السوداء، ثم أنهى قبل أن يركب سيارته المصفحة: - مع تحياتي للمدام! كانا قد اتفقا على الالتقاء ثانية مع بداية الاحتفالات بعيد السين في المساء.
الفصل 11
ناتالي وابن ملك المال وريمي يرتدي جسد روزالي
عزمت ناتالي على أن تصعد سلم مسرح شاتليه لتفاجئ علي أشد مفاجأة، فهو قد وعد أن يأتيها على الرابعة، ولكنه لم يف بوعده مثل الكثيرين من العرب المشتتين، وقالت ربما أخذه سلطان النوم بعد أن أخذه عبد السهر الليلة الماضية في متاهاته. تذكرت أن من عادته أن يضبط منبهه قبل أن ينام، فخافت عليه مغبة أن يكون شيء مكروه قد وقع له في يوم عيد عزمت على أن تقضيه كأسعد عاشقة على وجه الأرض. سحبت مشطها الذهبي على شعرها الليلي الطويل، وتأملت وجهها الذي يتغير مرة أبيض ومرة مثل القمح أسمر، تأملته في مرآتها الصغيرة، وهي تسألها السؤال الذي لم تسأله "بيضاء الثلج"، كانت تلك عادتها في كل مرة قبل أن تلقاه، وأن يغرقها الموج في بحر عينيه السوداوين، ولتتأكد من أنها كالقمر دومًا جميلة. وبينا هي تتلهى بجمالها أتتها بعض صرخات من قاعة المسرح لرجل يستنجد بها وحدها دون غيرها، وكان ذلك إنقاذًا لها من صعود السلم الحديدي الدائري للمسرح لما يسببه لها من دوار. دخلت القاعة المعتمة بحذر، وعندما ضوت الخشبة رأت الشاب "خطأ الخلق" ابن ملك المال يحاول الهرب والنجاة من الحية المذهبة التي تقطع عليه الطريق، وهي تنفث، وتريل، تريد لسعه، وافتراسه مثل فرخ عصفور صغير، ورأت ناتالي في عيني الشاب الجامدتين من الرعب واليأس ما رأته في عيني حبيبها بعد حلمه بأمه، وهي تنقل نعشه، فخفت إليه، وجذبته من يده إلى ما رواء الكواليس، ومن ما رواء الكواليس إلى ما وراء المسرح حيث الحلزون الملولوب الذي هو الدرج الحديدي الخارجي. ولارتباكها الشديد، أخطأت حجرة علي من بين الحجرات الثماني والأربعين التي دخلتها هي وابن ملك المال كلها، وفي كل واحدة فتاة عارية معلقة مثلما كانت معلقة كل واحدة بطريقة مختلفة عن الأخرى، لا شفقة ناتالي عليها استطاعت إنقاذها، ولا محاولاتها العاجلة اليائسة في فكها. كان خطأ الخلق الذي أنقذته يسخر في كل مرةٍ من المحاولة، ويحثها على الذهاب إلى الحجرة الملعونة ليلقى فيها الأمان والاطمئنان. ولما وصلتها مجهدة متعبة منهكة وجدتها مغلقة من الداخل إغلاق الجحيم على الخالدين فيها، فطرقت بابها عدة طرقات دون أن يأتيها جواب لا من ملاك ولا من شيطان، عادت وطرقت الباب الذي لا يجيب ولا يستجيب، فتحركت في الجحيم خطواتي. كنت في كل خطوة إليها أبدل جسدي وشكلي، وأسمعها بصوتها الهياب الجنسي تناديه: - علي! علي!...... ولا جواب يأتيها منه، ولا حضور يأتيها غير حضوري الذي كنت أكمله على مسمع كل لهثة من لهثاتها إليه: - علي! هذه أنا، ناتالي، افتح لي! صارت العتمة القوية تدق قلبها الضعيف على الرغم من وقوف ذلك الشاب الجميل خطأ الخلق، ابن ملك المال، إلى جانبها، الذي كان لها محفزًا على بعض الاطمئنان، والتي كانت له محفزًا على عظيم التوتر، وعلى الدخول في جسد حيوانه: - علي! هذه أنا حبيبتك... افتح....... فوثب ابن ملك المال عليها دفعة واحدة يريدها جسدًا ورداء، وبينا هي تخدش، وتعض، وتضرب، تركتُ الباب يسيل محدثًا صريرًا زاد في قلبها الرعب رعبًا، وتركتُني أرى نصفيهما العاريين في معركة الحب الحامية الوطيس، فتلذذت قليلاً على مرأى عضوه المنتصب، وهو يحاول الدخول، فيفشل، ويحاول الدخول من جديد، فيضرب، ويُضرب، إلى أن توقفت كل حركة متوترة له، فتساقط، وفي اللحظة ذاتها، طرقتُ رأس صاحبه بساطور جعله يقفز على الأرض قفزًا، فعاد ابن ملك المال إلى أصله ثعبانًا أسود اللون رأسه انفصل عن جسده، وجسده أخذ يرتعش، ويرتعش، إلى أن جمدت فيه الروح. طوال كل ذلك الوقت، كانت ناتالي تحدد النظر مشلولة إلى قدميّ المشعرتين من تحت ثوبي النسائي، جذبتها إلى الحجرة الملعونة، وأغلقت عليها الباب بقوة إلهية، ولئلا تحاول معي ما حاولت مع خطأ الخلق من مقاومة طوقتها بذراعين عنيفتين، وأطبقت فمها بكف أعنف، وأنا أسدد نظري المشل إلى عينيها المنفجرتين من الرعب وبالرعب عازمًا ومصممًا وشديد البأس. عندما أحسست بها تلين لين الفرس اللجوج بعد ترويض، أضأت النور، ورحت أتأمل تعابيرها كيف تهتز كالشجرة المقتلعة بين أصابع الريح بعد أن وقعت على وجهي، تعابير وجه يجتاحه مهرجان مأتم جنوني، ولم أزل أشدها بقوة صقر بين ذراعيّ. عند ذلك، أحسست بها لانت تمامًا، وسكنت تمامًا. مددت يدي إلى شعري الأحمر الاصطناعي، وسحبته عن رأسي، فرأتني على حقيقتي رجلاً بوجه امرأة مبالغ التزويق، فالمساحيق التي منها الأحمر والأخضر والأبيض والأسود كانت ترسم وجهي بطريقة شرسة. كنت قد تسليت بطلي نفسي ساعات وساعات: بمساحيق روزالي، وها أنا أقف أيضًا: بفستان روزالي، وفي أحضاني أجمل فتاة: فتاته الجميلة تسقط في أحضاني. رفعتها إليّ، وقد غدت فرسًا طيعة، وضغطتها بشفتيّ، ثم قضمت شفتيها بأسناني: أدميت لها ثغر التوت، جذبتها إلى السرير، ومددتها باستسلام الميت الحي، وبدأت أبدل شكلها، ليصبح غيرها ذاتها أو ذاتها غيرها، وضحكت على كيف تصبح أو ماذا تصبح ومن، فالأمر لا يعنيني بقدر ما تعنيني هي في لحظة تملكي لجسدها: صنعت لها وجهًا كوجهي شرس الألوان... هذا الثغر الممتلئ الفاتك جعلته وحشيًا بلونه الجارح. هبطت على نهديها، وبعثت في البركانين الأسودين نارًا مدمرة، وفي بطنها شققت الأثلام، وزرعت أسلاكًا شائكة. رشقت ساقيها بالسواد والرماد، وعلى أصابع قدميها صببت الدماء. نهض في أعماقي غضب قديم، غضب العاجز من نفسه، لأنه كان عاجزًا وعاجزًا، ولأنه كان مشردًا ومشردًا، ولأنه كان مشوهًا ومشوهًا. لوثت فخذيها، ولم أتمالك نفسي، خدشتهما بأظافري، فصنعت دروبًا منحرفة، ونصبت قلاعًا شاهقة. التقطت بفمي خنصر قدمها، ولعقته. لعقت أصابع قدميها العشرة، ولحست اللون المجنون عنها، وتحديت الجنون بها. كانت رغبتي أن ألتقي جسد روزالي... ويداي تبحثان في فخذيها عن شيء، عن طريق صحيحة، عن هداية ممكنة، عن حقيقة مستحيلة. هذا الجسد أخيرًا هو الطريق! هذا الجسد أخيرًا يسري في أصابعي! انتهت شهواتي في حبيبتي التي ماتت، والتي لم أستطع الحصول عليها. وانتهت كل نزواتي، غيرتي منه، ومن طفولتهما، وتحولت كل حياتي الماضية قطرة حمراء تلوث كل الضمائر، كل الجماجم. هبطت، وهبطت، وهبطت، وما ارتحت، وما انتظرت. هبطت، وهبطت، وهبطت، وما أردت إلا أن أهبط، أن ألتقيها بجسدي الآثم هذا، فأجبلها، ونصبح واحدًا، مهما كان فينا من شر، أن نصبح واحدًا، أن نصبح كلاً واحدًا، وهكذا كان زحفي، وأنا أضغطها بأصابعي، فتصبح أصابعي وهجًا، وتصبح ما دوني وهجًا. أهبط، وأهبط، وأهبط، ولا أحاول الصعود من هاويتي. فقط انتظري! سأهبط إليك، لأحرق فيك معصيتي ومعصيتك، وأسحق فيك ضعفي وضعفك، أسحق فيك العار، وتصبحين في قبضتي شعلة! هذان هما فخذاك! ضغطتهما بأصابعي، فلانا، وانعجنا، وصارا كالرغوة تحت ملمسي. إنّي... أنينك الذي لا حد له! إنّي، وتنهدي، وموتي! وانغرست فيها، وقضمت حب الهال واللوز وكرز الشام، وقضمت المستحيل هناك، كلانا أنا... كلانا أنا...
الفصل 12
ريمي يكشف لناتالي حقيقة موت النورسة
رميت لها ثوب روزالي، وطلبت منها أن تلبسه، فلبسته دون أن تبدي أدنى ممانعة. حملتها كالحمل الوديع، وأجلستها على الطاولة التي تربعتْ فوقها مثل أول بوذية تدخل معبدًا صينيًا، ورنتْ بشرود إلى ظلي المتحرك في شعلة الموت، وكأنها لا ترى كيف ألبس قميص علي الحريري، وكيف أنا عاري الفخذين، وليست هذه كل أسراري. انتصبتُ فوق ركبتيّ، واعتمدت على الطاولة بذراعيّ، ورحت أقاوم شعورًا يسبق نوبات الصرع سببه تلك الهالة من القداسة المدنسة التي تنير انطواءها وشرودها، وبسبب انطوائها وشرودها فقط فتحت فمي، وقلت كالمكبل بأصفاد روما: - لم تكن لها صفاتك، كانت موزعة بين الأهمية والتفاهة، الاندماج والتعالي... (بسبب انطوائها وشرودها فقط، بسبب ذلك التمثال المحطم الداكن تكلمت عن الأخرى) لكنك تفوقينها جمالاً! رحت أرمي النظر إليها، إلى آثار اللطخات المسعورة على وجهها، ووجدتني أقول كأنني أعاين جوهرة زمني العاتي: - أنت كالذهب الأبيض في تاجٍ فرعونيّ! كاللؤلؤة العظمى في عقدٍ فارسيّ! كمقص ايف سان لوران الذهبي في ثوبٍ دمقسيّ! أنت الجسد الذي رضخت له كل الحضارات الغابرة! ظلت داكنة، ساكنة، يبدو أنها تعيش ولا تعيش طقس أسراري المقدسة. تعامَدَ رأسي باتجاهها، وتحركت شفتاي بآلية: - طلبت إليّ ذات مساء أن أصحبها إلى البحر، كانت تحب البحر كثيرًا، كنا كلنا نحب البحر، من أجل ذلك رحلنا من هنا لنسكن هناك، لأننا كنا نحب البحر كثيرًا، ولأن أبي كان يريد أن يغسل تعبه وآثار المذابح التي ارتكبها النازيون فينا، يوم كنا نقاوم الموت وحدنا في أوشفتز، وكانت نساؤنا يغدون تماثيل شمع في الأفران، يوم كان أطفالنا يدفنون أحياء في مقابر جماعية (نهضتُ، ورحت أنظر في عينيها أقرب ما يكون من عينيها، وهي تنظر في عينيّ أعمق ما يكون في عينيّ) أنظري إلى تاريخك في عينيّ تري الجرائم التي جنيتِها بيديك وأنت تراوحين بين اللامبالاة والتواطؤ، التآمر وأداة التنفيذ (رفعتْ أصابعها إلى وجهي، وراحت تلمسني بعطف من وجنتيّ كما لو كانت أمي) كانت عذاباتي ثمنًا لسعادتك، ولأحميك بموتي من نزواتك، لأحميك من جريمتك الخاصة فيك (فتحت عن صدرها، ورفعت ثديها إلى فمي، وألقمتني إياه) لأحميك منك ومن مستقبل كان سيدمرك حتمًا، لولا تضحيتي لأجلك أنا حَمَل المسيحية المعاصرة، والمسؤولية التي حملتها على عاتقي لإنقاذك (راحت تضربني بثديها، ثم تلطمني بكفها، ثم تضمني، ثم تعانقني) أنقذتك بموتي ومن الموت استطعتُ الهرب بعد أن دفع أبي بالماس أغلى ثمن، كان الثمن الوحيد الممكن للذين تاجروا بموتنا في مرحلة، وتهريبنا من الموت في مرحلة، وصاروا أسياد العالم فيما بعد. وبعد ذلك، أردت أن أحميها هي وحدها من دون سائر البشر من كل أولئك البشر المذنبين، أن أحمي روزالي الدم منهم ومنك ومنه، قلت لها ذلك هو شكيم ابنُ حَمُورَ الحوِّيّ الذي أجرم فيك وأذلك قبل كل أولئك الذين بذلوا رجولتهم على فخذيك، ولكنها رفضت حجتي الميثية إليها، ورفضت محاججتي في غرامها لعلي قبل أن يقع علي في غرامك، وقيدتني ببراءته أنا الذي خدمت للابان سبع سنين من أجلها، سبع سنين ثم سبع سنين أخرى أعطيتها من عمري. لقد أحبته على الرغم من هجره لها، هو والبحر صارا واحدًا، وهي قد راحت تتقصى في المدن مركبًا عائدًا. كان الطقس باردًا، والبحر فيه أمواج. لم تكن الأمواج مرتفعة، ولكنها كانت متلاطمة. مشينا على الشاطئ بعض الوقت صامتيْن، حاولت أن أقول لها كلمتي غزل، وقلت لها، ولم تنتبه إلى ما قلت لها، بقِيَتْ طوال الوقت صامتة كأنها خيال صورة أو صورة خيال، كأنها خيال الخيال. رميتها بنظرة خفيفة، فلم أستطع رؤية تعابيرها بسبب الليل، ولولا الزبد الأبيض للموج لما استطعت أن أشاهد ما شاهدت: كانت تبكي بصمت المختنق، بدموع امرأة بائسة أو يتيم بائس! لم أجد الجرأة على فتح فمي، وسؤالها عن سبب كل هذه الدموع الدافقة... فجأة، إذا بها تنفجر باكية، وإذا بها ترتمي على صدري دون أن تشدني، وقد ازدادت بكاءً على بكاءٍ، ونحيبًا على نحيبٍ. هزني ذلك، فسألتها هذه المرة عن سبب كل هذا النحيب المعذب، وبعد تردد قالت لي: إنها أرادت البكاء من أجل البكاء! ثم أضافت بصوت راجف غلبت عليه زمجرة الموج: ربما كان ذلك بسبب البحر! مسَحَتْ دموعها، وذهبت حتى قدم الموج، وأنا بقيت أقف بعيدًا، أنظر إلى قامتها من الخلف مثل قامة نورسة، وإلى طبع قدميها في الرمل مثل طبع أقدام أطفال لا يكبرون. كنت في داخلي أرقب حصول أمرٍ ما، أمرٍ ليس عاديًا. استمر ذلك نصف ساعة، وكأن نصف الساعة نصف دقيقة. وفجأة، شاهدت على مسافة غير بعيدة من الشاطئ شيئًا داكنًا يصعد كلما صعد الموج، ويهبط كلما هبط: كان جسد روزالي. عدوت بلا شعور مني، ونيتي أكيدة على إنقاذها. ما أن بلل جسدي ماءُ البحر حتى توقفت متيبسًا في مكاني: أشاهد معركة الجسد والموج إلى أن قضى الموج على الجسد. كانت طوال سردي لها قصة موت روزالي التي هي قصة موت نورسة ضائعة في بحر حيفا أو يافا، وهي جامدة الحركة، فكأنها آلة توقفت عن النبض. رميت نفسي على السرير، ورحت أحدق في سقف جهنم اللامتناهي اللهب، فتساقطت منه غمامة قاتمة اللون، سقطتُ في فحمها المدغم للوجود، وشعرت بصداع هائل أدار الكرة الأرضية بي، وأدارني حتى انفصل عني شيء لم أدر ما هو، وكأنني أعدو باتجاه الموج دون أن اصل الموج أو يصلني. فتحت فمي، وقلت دون أن أريد القول: - كان بإمكاني إنقاذها. إذا بفمها يطلق صيحة أقوى من الصيحة على فم الرعد. هببت واقفًا، وحاولت ردعها بحب ومسؤولية إلا أنها غرزت أسنانها في عضلة إبهامي، وأسالت دمي، واستمرت تطلق صيحتها... كيلا تصبح ذئبة خاضعة. فجأة، سكتت، بدأت تلهث، وأسنانها تصطك. حملتها إلى الفراش، ورميت عليها غطاء.
الفصل 13
علي يفسر حلم روكاردتون بعد فوات الأوان
وحدث بعد ساعتين من الزمان أن روكاردتون قد رأى في قيلولته حلمًا يقف فيه على كشح السين، وهو ذا سبع سمكات طالعة من السين حسنة المنظر وسمينة اللحم، ثم هو ذا سبع سمكات أخرى طالعة من النهر قبيحة المنظر ورقيقة اللحم، فوقفتْ بجانب السمكات الأولى على شاطئ السين، وأكلتِ السمكات القبيحة المنظر والرقيقة اللحم السمكات السبع الحسنة المنظر والسمينة، واستيقظ روكاردتون، ثم نام، فحلم ثانية، وهو ذا سبع زنابق طالعة في ساق واحدة طويلة وحسنة، ثم هو ذا سبع زنابق رقيقة وملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها، فابتلعتِ الزنابق القبيحة الزنابق السبع الجميلة، واستيقظ روكاردتون، وإذا هو حلمٌ، وكان في المساء أن نفسه انزعجت، فأرسل من وراء جميع سحرة باريس وجميع حكمائها، ودعاهم إلى قصر ماتينيون، وقص عليهم روكاردتون حلمه، فلم يكن من يعبّره لروكاردتون، وقال له وزيره بارتون دون أن يخفي غضبًا حصيفًا: - ما هي سوى أضغاث أحلام، وأنا عهدي بك يا سيدي رجل علم واقتصاد، أخذت منك قبل أن تكون في مكاني، وأخذت مني بعد أن صرت في مكاني، وكلانا لا يفسر مشاكل مجتمعنا بالقضاء والقدر، العبث أو اللامعقول، إلا لحظة استفحالها، وكلانا يعرف جيدًا أنه تبرير طوباوي، ولكنه التبرير الأخير الذي نلجأ إليه للحفاظ على شعبيتنا. أضف إلى ذلك أن حلمك لا يأتي في وقت حرج كالاقتراع مثلاً، فالوقت عيد، وشعب باريس يستعد للاحتفال بعيد السين أعظم احتفال بين لحظة وأخرى. ولكن الحلم استمر يطارد روكاردتون حتى صار حِيْصَاً بِيْصَاً، فدعا ابن سينا ليستشيره في عويص حلم أعجز السحرة والحكماء الذين سبق لهم وقالوا في بعض أمور الدولة نبوءة ورؤية كانتا كاذبتين، وعلى الخصوص أن ابن سينا حجة للإسلام وحجة للأحلام يعطيها التفسير المعبر، فتكون الأحلام أو لا تكون. واعتقد ابن سينا أن روكاردتون بدعوته العاجلة يريد أن يطلعه على عظمة قصر ماتينيون الذي ينزل فيه، ثرياته ولوحاته ومدفآته، أو أن يريه الوثائق الأصلية لقراراته الصانعة للتاريخ، والتي كان أهمها في عينيه تلك التي تم التوقيع عليها سنة ألف وتسعمائة وثلاثين وست ميلادية، ولكنه تفاجأ بانزعاج رئيس الوزراء الشديد لحلم جرى له في القيلولة، فأسف لبلد حاكمه يمكن أن يكون نغلاً ضعيفًا، ولم ينف ما يحوي الحلم من سوء مغبة، فحزم أمتعته، وغادر باريس دون أن يشارك بعيدها، بعد أن اعتذر، وترك لروكاردتون بارتحاله المفاجئ ذلك التفسير الوحيد. ثم تكلم لانغتون رئيس سقاة روكاردتون قائلاً أتذكّر اليوم خطاياي، روكاردتون سخط على عبديه، فجعلني في حبس بيت رئيس الشرطة السابق باسكواتون أنا ورئيس الخبازين، فحلمنا حلمًا في ليلة واحدة أنا وهو، حلمنا كل واحد بحسب تعبير حلمه، وكان هناك معنا غلام عربي اسمه عليّ ابن أمه التي هي صاحبتنا أراد رئيس الشرطة طرده وتسفيره بالأصفاد عنوة على الرغم من كونه مطبقًا للقانون محترمًا له وإقامته لم تزل صالحة، ثم عرفنا فيما بعد أن أمره كان لعداوة زوجه التي راودته عن نفسها، فقصصنا عليه، فعبر لنا حلمنا، عبر لكل واحد بحسب حلمه، وكما عبر لنا هكذا حدث، ردني أنا إلى مقامي، وأما هو فعلقه. كنت أنتظر ناتالي أمام باب حجرة النعيم التي لها بينا غشيني النعاس بعد أن راح يستلبني بالتدريج، أحسست بثقل في رأسي يجذبني إلى قاع بئر تركني فيها إخوتي الممسوخون كلابًا وحيدًا وحدي، فانزحت من تلقاء نفسي، ووجدتني أنطرح على الأرض مثل جذع قصمت ظهره الريح، فلا على إثم سأحتكم، ولا على حلم سأرتفع، ولا على عرش سأقيم، وسأكون عبدًا لإخوتي... وأنا على حالي تلك وانتظاري لناتالي أرسل روكاردتون إليّ نحلة كاترين، واستدعاني، وقص عليّ حلمه الذي كان حلمًا واحدًا مثلما قلت، السمكات السبع الحسنة سبع ليال، والزنابق السبع الحسنة سبع ليال تكون سبع ليالٍ عيدًا، كان الحلم واحدًا، والسمكات السبع القبيحة التي طلعت وراءها سبع ليال، والزنابق السبع القبيحة الملفوحة بالريح الشرقية تكون سبع ليالٍ مأتمًا، كان الأمر الذي كلمت به روكاردتون، وقد أظهرت لروكاردتون ما هو صانع، هو ذا سبع ليال قادمة عيدًا عظيمًا في كل أرض المسدس ثم تقوم بعدها سبع ليال مأتمًا، فيُنسى كل الفرح في أرض المسدس، ويتلف الحزن الناس، ولا يعرف الفرح في الأرض ولا الشبع من أجل ذلك الحزن بعده والجزع، لأنه يكون شديدًا جدًا... والآن ليلغ روكاردتون الاحتفال بعيد السين قبل أن يفوت الأوان، وليدرأ عن شعبه آلامًا يمكن أن تدوم سبع ليال من الحزن بقدر سبع سنين أو سبعين سنة لن يخرج من عاقبتها أحد سالمًا. انفجر بارتون يضحك ضحكته المتهكمة بينما غشيت عينا لانغتون بالدمع، جاءت أمي بين يدي روكاردتون الحائرتين، وعرضت عليه عونها، ولكنه رفض عونها. فتح نافذته المطلة على شارع فارين، ومنه على كل شوارع باريس، فأتته صيحات الاحتفال بعيد السين وموسيقى قريبة وأخرى بعيدة، فحزن في وقت لم يكن للحزن فيه مكان، كان كل شيء قد فات أوانه.
الفصل 14
عيد السين..................
الليلة الأولى انطلقت الأسهم النارية من حقل مارس وكأنها الشهب المتفجرة بألف لون ولون، وفي الوقت ذاته أتى أهل باريس بشاحنة صهريج مليء بالغائط، وعلى صيحاتهم المسكورة التي تدق أعتاب السماء راحوا يقذفون بجواهره برج ايفل، وقصدهم جلب الحظ لهم في ليلة عيد لن تتكرر سوى سبع مرات، كل مرة لا تختلف عن الأخرى. كانت طيور الغائط قد ضربت بأجنحتها بعض المحتفين المزهوين الذين كانوا يمضون على مقربة من هناك، فراحوا في هرج ومرج زادتهما الرائحة الكريهة نكهة طيبة في اللحظة التي بدأت فيها عَبّارات السين تعبر، وهي تعرض تحت الأضواء الباهرة للجمهور ما تنقل من مفاجآت حَلَمَ بها الجميع كثيرًا. وبين التصفيق والهتاف والأكل والشرب والرقص والغناء والتزمير والتدمير السعيد أتت على العَبّارة الأولى أخواتي السمكات عاريات مثلما ولدتها أمي، كل سمكة تضاهي الأخرى فتنة، بصحبة أخي الأُخطبوط قدر البحر وعلى أكتافه يلاعب بعض الأطفال الشوادن الذين كان يتلقفهم بأصابعه اللامتناهية العدد، وهم يطلقون الضحكات تلو الضحكات. وفي العَبّارة الثانية التالية للعَبّارة الأولى كانت أمي في ثوب الملكة المبجلة تجلس بأبهة وعظمة، على يمينها أروس، وعلى يسارها أوس، وعندما مضت بالأمواج والناس هتف المحتفلون بحياة الملكة ماري أنطوانيت التي ظنوها هي، حتى أن البعض قام، وسجد لها. أما في العَبّارة الثالثة التالية للعبارة الثانية، فقد كانت خشبة مسرح شاتليه تمخر بعد أن أعاد مهندسو الديكور تشكيلها أحسن تشكيل، وعليها ترقص سبع وأربعون فتاة في ثياب راقصات المارتينيك المزركشة المهفهفة، تلفح زنودها البضة وصدورها شمس الجزيرة الهاربة مع الأمواج البعيدة. وكان لحن سَكْسِيّة هو الطاغي على الموسيقى التي تُرَقّصها والصادرة عن فرقة موسيقية فلكلورية في العَبّارة الرابعة التالية للعَبّارة الثالثة. أما في العَبّارة الخامسة التالية للعَبّارة الرابعة، فقد كان ذلك الحيوان الخرافي الذي له رأس ليث وجسم شاة وذيل حية، والذي اسمه خَيْمَر، هو وسبعة وأربعون من بنيه. كانوا ينظرون إلى العَبّارة السادسة التالية لعَبّارتهم الخامسة ليروا عجل البحر ومن حوله سبعة وأربعون هو أيضًا من بنيه. وكان الناس يصرخون مهيجينهم ليقتتلوا فيما بينهم، وليهرق الدم العذب مثلما يهرق الخمر المبهر إهراقًا. وفي العَبّارة السابعة التالية للعبارة السادسة كان بعض المهرجين والشياطين يقومون بدور مبك وعليهم تكاد حناجر المشاهدين تتمزق من شدة الضحك. وفي العَبّارات الثامنة والتاسعة والعاشرة التالية للعَبّارة السابعة كانت فرق عسكرية مؤلفة من جراد ماء تحمل أعلامًا بصليب معقوف صفق لها جمهور باريس المسكور أحر تصفيق، وكذلك فعل لفرق زاغ نابلس الدينية ذات العباءات السود في العَبّارات الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة التالية للعَبّارة العاشرة. ثم عبرت العَبّارة الرابعة عشرة، وعليها فرقة برلين السيمفونية التي يقودها موزارت، وقد غدا شيخًا عجوزًا جدًا، فهو لم يتوقف عن الكبر بعد مماته، فسخر منه أهل باريس أشد سخرية لأنه ذكرهم بعهد الشباب والاحتلال، ولكنهم جرعوا الكثير من النبيذ، وضحكوا، وتقيأ بعضهم في السين، وغنوا، ورقصوا، وفيما بينهم هاجوا، وماجوا، وهاطوا، وماطوا. كنت قد عدت مباشرة بعد مواجهتي لروكاردتون أطرق باب حجرة النعيم على ناتالي، وقد عدلتُ عن الذهاب إلى فيليكس بوتان. وأنا على الباب الموصد في وجهي، جاءتني خطوات تصعد الدرج لامرأة سمينة في الأربعين من عمرها، وهي تدب دبًا، وكأنها فيل من الفيلة أو جمل من الجمال. وهي تقترب مني، راحت تحدجني، فتعمدت نقر باب حبيبتي باب النعيم نقراتٍ ثلاثًا. وراحت تدور حولي بتوأدة قبل أن تهبط الدرج من جديد، وأنا أتابع حركتها البطيئة الثقيلة. نزلت درجتين أو ثلاثًا، والتفتت إليّ، ثم قالت من وراء شفتيها الرقيقتين رقة زجاج الساعات السويسرية: - ليس هذا موعد الزيارات، خذ حالك، وانصرف، الكل في عيد إلاك، فاذهب، واحتفل بعيد السين كالجميع أحسن لك! سارعت إلى النزول بسرعة بعد أن حككت بها لضيق العبور في الخط الواصل بين نعيم الحبيبة وجحيم باريس في عيد سينها. أخذت قهوة في مقهى أستطيع أن أرى منه نافذتها المطلة على شارع سان جاك، قهوة سوداء على عكس كل الناس الذين كانوا يدورون بي ويشربون نبيذًا أو بيرة وهم يصولون في أوهامهم ويجولون. رحت أراقب قدوم ناتالي، وأنا أرتشف قهوتي السوداء، وأنفخ سيجارتي الشقراء التي أنهيتها لأشعل أخرى. ذهبت بعد ذلك إلى حديقة كنيسة سان سيفران، وجلست على مقعد مواجه لباب عمارتها، وأنا أدخن، ولكن ساعات طويلة من الليل مضت دون أن تأتي، وناس باريس لا يشعرون بالزمن، وهو يسيل من بين أصابعهم، كانوا يعيشون أسعد لحظاتهم، حتى أنهم لكآبتي وحزني وانتظاري قد شكّوا في أمري، فراحوا يراقبونني مراقبتهم لأجنبي عنهم وعن تقاليدهم. وكان منهم على الخصوص رجل يضع على رأسه طاقية مع كلب لم يترك مقعده بعد أن توقف عن احتساء النبيذ من زجاجة لفها بجريدة، وراح يحاصرني بنظراته. قلت لنفسي ربما كان الأمر عاديًا والجو هو الجو، لكن وجوده قد سبب لي كثيرًا من الضيق. جمعت بأسي ويأسي، وسرت في الضباب المنافس للأضواء. كانت تصلني صرخات فرح قريبة وأخرى بعيدة، ولم أنقطع لحظة واحدة عن التفكير في ناتالي والتساؤل: إلى أين يمكن أن تذهب؟ وأين يمكن أن تكون؟ لم أشأ إطلاق العنان لخيالي، فأراها بسحرها وخجلها ودلالها قد جاءت عندي ليحتبسها ريمي... كنت أحاول بقدر المستطاع أن أمنع عن خيالي صورة كهذه. وفي النهاية قلت لنفسي: هذه هي كل الحكاية، لقد جاءت عندي، فاحتبسها ريمي! صعد الدم إلى رأسي صعود الحمم من بركان باريس القادم، واتجهت في الحال إلى حيث أسكن هناك في مسرح من مسارح العجب التي عبرت السين على عَبّارة ثالثة تلت عَبّارة أمي الثانية وحسبها البعض ملكة الملكات ماري أنطوانيت. أقسمت أن أقتله لو فعلها، والله أن أقتله! وأنا أخرج من ماء نافورة ساحة شاتليه إذا بريمي يخرج من نار المسرح بوجه لوثته المساحيق حسبته في البداية قناعًا، ومن ورائه ناتالي تتبعه بوجه لوثته المساحيق أيضًا، وتبذل خطوات عاجزة مزقت قلبي. أردت أن أقفز مثل شيطان أو جني، ولكنني خبأت نفسي بسيارة نصف شحن، وأخذت أتابعهما، وهما يهبطان درج المترو. كانت بينهما مسافة قمرٍ لقمر، وكانا صامتين. لاحظت خطوات ناتالي البطيئة، الثقيلة، الزاحفة زحف التماسيح الثملة، ورأيت يديها الساكنتين، الجامدتين، الساقطتين كرأسين لطائر لم تنجح في فصلهما المقصلة. انقضضت عليه قبل دخوله قطار المحطة، ولكمته، ثم لكمته، وأسلت الدم من صدغه، ولكمته من جديد، ثم لكمته. شددتها من ذراعها، وهو يتلهى بالنظر إلى دمه، ولكنها رفضت المجيء. راحت إليه، وصعدت القطار معه. ضمها، وقهقه المجنون ساخرًا بجنوني. كنت أبدو كالمهرج، والناس في القطار يرفعون لي كؤوسهم، ويشربون نخبي. قلت لا بد لي من عون أبي، لا بد لي من إحضاره. كانت أمي لاهية بالعيد، وبمن معها. فركت المصباح الذي أعطاني إياه، فجاءني في القطار التالي إخوتي السبعة الذين هم كلاب وإخوة. كانوا يرتدون ثيابًا ملكية، يحيط بهم حراس يحمونهم، ويخضعون الناس لهم. جعلوني أسجد لإخوتي سجودي للآلهة، وأخبروني أن أبي لم يزل حبيسًا في أحد السجون العربية المحصنة تحصينًا قويًا، وهذه نُهْزَة جيدة كي أقودهم إلى الاحتفالات مثل كلب، فأطعت.
الفصل 15
عيد السين (يتبع) .............
الليلة السابعة جاء أعمى من الأرجنتين يطرق عصاه، وهو يحمل في كيسٍ على كتفه ليالي البشر ليبيعها. وبينا هو يسير في الطرقات المظلمة بيسر صاحب العينين وثقته، كان ينادي على الذين سيشترون أثمن ما في العناصر الأربعة على حد زعمه ألا وهو الليل. قلت له: - العناصر الأربعة هي الهواء والنار والتراب والماء، فأين موقع الليل منها؟ قال: - بل هي الهواء والنار والتراب والليل، الليل هو الماء في عصرنا، والحياة هي هذي الليالي التي أبيعها للناس، ليلة بالحُزْوى وليلة بالعقيق، وإن أردت تجربة فهاك الليلة السابعة من عيد السين أهبك إياها مجانًا. أنزل كيسه عن كتفه، ومد يده فيه، وبعد أن جسّ ليلة عيد السين السابعة أخرجها، وأعطاني إياها، ثم أطلق زفرة عميقة. قال: - أرحتني من عبء لم يعد بإمكاني احتماله أكثر مما احتملت، فخض في القصص عني منذ الآن، ودعني لشأني. وتركني وهو يطرق عصاه إلى أن ذاب في الظلام. دخلت في ليلة عيد السين السابعة مباشرة بعد الليلة الأولى، وقد اختزل ذلك الأعمى القدير لياليه الأخرى، وجعلني أذهب من أولاها إلى سابعتها، أقفز عن ثانيتها وثالثتها ورابعتها وخامستها وسادستها دون أن تقع في زمن صار لغزًا، فإذا بأحصنة نصفها روبو ونصفها أحصنة تصعد الشانزلزيه في استعراض أقام باريس وأقعدها، وإذا بفهود نصفها روبو ونصفها فهود تلحق بالأحصنة، وإذا بقطط جبارة نصفها روبو ونصفها قطط تلحق بالفهود، وإذا بثعابين أصلها أبناء وبنات ملكي المال والكلام نصفها روبو ونصفها ثعابين تلحق بالقطط الجبارة، وتسير بانتظام خلفها، وإذا بأخواتي السمكات المخلصات نصفها روبو ونصفها سمكات تلحق بالثعابين وتتبعها، وإذا بأخي قدر البحر نصفه روبو ونصفه أُخطبوط يلحق بأخواتي السمكات ويتبعها، وإذا بأمي ملكة الملكات نصفها روبو ونصفها أمي تلحق بأخي قدر البحر وتتبعه، وإذا بالسبع والأربعين فتاة اللاتي في ثياب راقصات المارتينيك المزركشة المهفهفة نصفها روبو ونصفها بنات تلحق بأمي الملكة ماري أنطوانيت وتتبعها، وإذا بخيمر وأبنائه السبعة والأربعين خيمرًا صغيرًا نصفهم روبو ونصفهم ليث وشاة وحية يلحقون بالراقصات المارتينيكيات ويتبعونهم، وإذا بعجل البحر وأبنائه السبعة والأربعين عجلاً بحريًا صغيرًا نصفهم روبو ونصفهم عجل بحر بريء يلحقون بخيمر وأبنائه السبعة والأربعين ويتبعونهم، وإذا بمهرجين وسعلاوات وجنيات وعفاريت وشياطين ملعونين نصفهم روبو ونصفهم من جنسهم مهرجون وسعلاوات وعفاريت وشياطين ملعونون يلحقون بمن سبقهم، ويصعدون الشانزلزيه باتجاه قوس النصر، والناس يتراصون على الأرصفة في آخر احتفاء، يصفقون، ويصرخون، ويغنون، ويهزجون، والموكب يتقدم على إيقاعات وأنغام فرقة برلين السيمفونية التي أعضاؤها نصفهم روبو ونصفهم بشر من غير أولئك البشر، وكذلك موزارت المايسترو... سمعت أحدهم ينادي عليّ من أحد شوارع الشانزلزيه الفرعية، فلم أميز إذا كان النداء لرجل أو امرأة، وذهبت أسعى وراء الصوت الذي ناداني. بحثت في العتمة، فلم أجد سوى أزواجٍ من المتعانقين المنبطحين على الأرصفة، ولم أجد سوى شبانٍ من المتعاطين. عرض عليّ أحدهم جرعة بلطف، فرفضت عرضه بلطف أكثر، والصوت المناديني قد عاد يهتف بي من جديد دون أن أقع على صاحبه. كانت تأوهات العناق وروائح البراز والبصاق والأفيون تطغى على المكان، وأنا قد رأيت بعض شقوق النساء تنزف كالأشجار سائلاً أبيض. وعلى حين غرة، أتتني بعض الصيحات المستغيثة التي تلتها بعض الطلقات النارية، فسقط عليّ جسد مدمى من نافذة في الطابق الأول، جسد مثقوب بالرصاص، ودمه الساخن قد أحرق لي كف يدي، وما لبث رجال شرطة نصفهم روبو ونصفهم رجال نظاف مثلنا قد أتت على أحصنة نصفها روبو ونصفها أحصنة مثل أحصنتنا، وراحوا يطلقون النار علينا كيفما اتفق، وفي ظنهم مطاردة بعض القتلة من رعاة البقر الكلاسيكيين، ولولا أن يدًا جذبتني إليها، وراحت تعدو بي في الزقاق المجاور لكنت إحدى ضحاياها. استطعت أن أرى في أحد الأضواء السوداء أبي يبتسم لي، على وجهه آثار التعذيب، وفي عينيه جليد السجن الذي أمضى بين جدرانه السميكة وقتًا طويلاً. وأنا أضمه، وأبذل صرخات مختنقة للمفاجأة، طلب مني أن أوطئ صوتي، وأطفئ لهفتي. أخبرني أنه هرب من السجن بتواطؤ حارس الملك سليمان نفسه ومساعدته، جاء ليحتفل بعيد السين كالجميع، وغدًا سيكون له مع إخوتي حساب. أخذني إلى زاوية تقف فيها بعض العاهرات، وهو يبسم لي بسمته الحنونة، ولم أستطع كتم دهشتي عند وقوعي على الشعاع الأزرق، تلك الفتاة الرهفة الخجولة التي لجمتني مثل حصان في الكلية. وقفت بين يديها مرتبكًا دون أن أستطيع التفوه بكلمة، فابتسمت لي، وسألتني إذا كنت أرغب في الصعود معها، في الوقت الذي كان أبي فيه يساوم فتاة أخرى عرفت فيها ايمّا التي سمعتها تقول لأبي بعد أن اتفقا على الثمن: - اذهب وادفع لعرصتنا مدام بوفاري التي تجلس هناك. عرض عليّ أبي أن يدفع لي ثمن مضاجعة الشعاع الأزرق في نفس الوقت الذي يدفع فيه ثمن مضاجعة ايمّا، فشكرته، وقلت لا رغبة لي في ذلك، وأنا أفكر في ناتالي، وفيما فعله ريمي. رافقته عند مدام بوفاري، عرصة بنات الزقاق، فغشينا الأمر، لأن تلك لم تكن سوى فلوبير نفسه، في زي امرأة قذرة بشعة. قلت لأبي: - سنلتقي في ساحة النجمة بعد أن تنتهي. لكن أبي كان قد ذهب، وهو يضم ايمّا، ويضحك كالبوهيمي بصخب. عزمت على البحث عن ناتالي وريمي، كان عليّ أن أجدهما بأية طريقة، وأن أستعيد ناتالي من ريمي بأي ثمن. وقبل أن أسقط في ضوضاء الاستعراض من جديد، أتاني الصوت نفسه الذي ناداني منذ قليل، والذي حسبته صوت أبي. وأنا ألتفت من حولي، خرج لي من قلب العتمة رجل قصير ممتلئ القامة قويها، رأيته في الضوء الأسود، فعرفت فيه روسيّاً أبيض. كانت تبدو عليه إمارات المهموم، ولكنه لم يكن مستسلمًا لها. أشار إلى ناحية اختفى فيها شبح هارب، وقال لي: - تلك الفتاة هي التي نادت عليك. أردت اللحاق بها، فأمسكني من ذراعي، وأضاف: - لا فائدة، لقد ضاعت في الغوغاء. انتظرت ما يريده مني، وكان كذلك عندما ذهب بي إلى أحد شبابيك البطاقات الزرقاء، وطلب أن أفتحه له مقابل أحد فصول رواية يكتبها، ويتوقع لها شهرة عظيمة بعد مماته، رواية ستكون كالفكرة الخالدة، فلم أتمالك نفسي عن الصياح: - هل أنت مجنون؟ أجاب بالإيجاب، وهو يشدني من ذراعي، ويمنعني من الذهاب. أوضح أن أسرته تشكو الفاقة والجوع، وأن بنتا من بناته مهددة بالموت لمرض عضال، وأن اسمه دوستويفسكي. سخرت منه، ومن أسرته، ومن ابنته، ولم أستطع التخلص من قبضته إلا بعد أن دفعته عني بكل قواي... عندما أصبحت في آخر الزقاق، أتاني صوت انفجار، بينما انطلقت صفارة الإنذار، فالتفت لأراه، وقد نسف شباك الدفع الأوتوماتيكي، وأخذ يغترف من أوراقه ما يغترف، ثم رأيته يهرب كاللص المحترف، ويختفي. كان دور جراد الماء ذي الصليب المعقوف الذي نصفه روبو ونصفه جراد ماء قد أتى في الموكب الصاعد للشانزلزيه، تبعه زاغ نابلس ذو العباءات السوداء. وعلى حين غرة، راحت فرق جراد الماء والزاغ تنتشر بين الجمهور الثمل السعيد بعيده، فتقتل ما تقتل، وتعتقل ما تعتقل، في الوقت الذي شب فيه حريق كبير في برج ايفل هز باريس من أقصاها إلى أقصاها، وكذلك في أساكل الشرق هز العالم من أقصاه إلى أقصاه. ورأيت في الرعب والضوضاء لوبنتون يصعد الشانزلزيه وعلى صدره شعار يقول: يهود، عرب، زنوج، آسيويون... برّه! وكأنه سيد المسدس. إلى يمينه – ويا للمفاجأة – موزع جريدة لوموند في بذلته العسكرية، وهو يمد ذراعًا نازيًا، وإلى يساره حارس متجر فيليكس بوتان في الزي نفسه والوقفة نفسها. سمعت إلى جانبي لهثاتٍ، وعندما التفت رأيت ريمي يحاول الاختباء في ظلي، ولكنني وإياه هربنا، وأنا أرى زبانية لوبنتون يشيرون إلى صديقي محمد الفاسيّ، ويقولون: - هذا هو مُحَمّدٌ العبريّ! كانوا قد رموه في محرقة، فدبت الحياة في تمثال جان دارك الذهبي، وأتت تعدو على حصانها الذي نصفه إنسان ونصفه حصان، وهي تشق صفوف الجموع التي استولى عليها الهلع، وأنقذته من الموت في آخر لحظة... كان على وشك أن يطلق الروح في اللحظة التي رفعته فيها جان دارك من قلب اللهب.
الفصل 16
مأتم السين..................
الليلة الأولى أخذني الأعمى القادم من الأرجنتين إلى خيمة ابن سينا في أعظم ساحة، خيمة ترد عن قوس النصر هجمات جراد الماء ذي الصليب المعقوف وزاغ نابلس ذي العباءات السود، وتحميه. فتح لي كفي المحترقة بالدم، وراح يقرأ في كتاب حياتي. كانت تصلنا من وقت إلى وقت صرخات بعض الذين ينفذ لوبنتون فيهم حكم الإعدام فورًا أو الإبعاد إلى برلين على أنغام موزارت. قال لي الأعمى الأرجنتيني: - بعد دمار برج ايفل وعساء السين لن تجد في هذه الأرض من يحفظ عليك هويتك، وسيجبرك جراد الماء على حمل كلمتين ذميمتين تقولان "عامل أجنبي". قلت: - لكن ماء السين الذي أطفأ نابه البرج العظيم حتى بانت طحالب صخوره لسوف يعود إلى التفجر بروافده كالطوفان جارفًا معه كل هذا الدم وهذه العنصرية. ضحك الأعمى الأرجنتيني لسذاجتي، وقال: - لن أقذف في روعك أن خير هذه الأرض قد غادرها في اللحظة التي جف فيها الماء، فاذكر أن الليل هو ماء هذه الدنيا، ولك أن تظن ما تشاء، وأنا، ما أنا سوى قارئ كف أعمى. حدق بعينيه الفاقدتين للبصر في وهاد كفي ووديانه، وكأنه اكتشف فجأة أمرًا عضالاً سألته ألا يخفيه، فبعد هذا المأتم الذي نعيشه، وهذا الكرب، وهذه الكوارث والنكبات، لا آمل في هذه الحياة شيئًا. كانت دمعة حرى قد سالت من عينيه لم يمسحها، وبعد أن أطنبت عليه في الكلام عن العبث والموت، قال لي: - قبل ألفي سنة كنتَ ابني وكنتُ أباك، وقد بكيتك حتى لم أعد أرى النور الذي رأيت فيه غدر إخوتك بك. ونهض في اللحظة التي دخل فيها علينا أبي، وفي يده سلسلة جبارة يجر بها من ورائه سبعة كلاب. قال الأعمى القادم من البحار المعتمة قبل أن يذهب طارقًا في الفضاء عصاه: - في كتاب المآتم تحدثوا عن رجل هو أبوك يأتيك بكلاب سبعة هم إخوتك مقيدين بالسلسلة العظمى لينتقم لك من إثم قديم ارتكبوه في حقك وإثم حديث سيرتكبونه مع قادم الليالي. أردت أن أبقيه معي، ولكنه لم يشأ مواجهة أبي، ولا النظر في عينيه. كان قد غادر خيمة ابن سينا ليذوب كعادته في الليل، فحير أبي أمره، وقال إنه يعرف هذا الأعمى، ولا يذكر أين التقاه. وراح يشير إلى إخوتي الممسوخين كلابًا واحدًا واحدًا، وهو يحكي لي قصصهم لما تفرقوا، وصاروا حكامًا دمويين. - كان هذا حاكمًا في بلاد التشيلي البعيدة، وكان هذا حاكمًا في بلاد بوروندي الوسط وسط، وكان هذا حاكمًا في بلاد المسيح القريبة، وكان هذا حاكمًا في بلاد الخيالة المتهورين، وكان هذا حاكمًا في بلاد سويسرا الشرقية، وكان هذا حاكمًا في بلاد الصين التي ستنزف دماء بطها وطلابها، وكان هذا حاكمًا في بلاد أحلام كل المساكين في العالم، جميع إخوتك هؤلاء الذين حكموا وتحكموا رفعهم لوبنتون إلى مرتبة الرؤوس على عروشها، وجعلهم حكام نار وحديد. إذن لا أحد آخر سواه القابع رواء تلك الصورة الكاريكاتورية لبلدان الدم والنار التي هي بلداننا. حاكمنا قامع ومقموع بسلطته. ولكن المحير فينا أننا لا نلبث أن نعتاد قمعه لنا، ونصبح له شِئنا أم أبينا عابدين. جاء إخوتي الكلاب، وأخذوا يمسحون صدورهم بصدري، ويضربون ذيولهم ضربات خفيفة مستعطفة بحضني، فقلت لأبي: - لا تحكم عليهم حكمهم عليك، وانظر فيما عساهم أن يكونوا وواحدٌ قد حفر أنفاق المترو الجبارة، وثانٍ قد صنع كل تلك السيارات الفخمة، وثالثُ قد حفظ كل الكتب المكدسة في السوربون، ورابعُ قد أصلح كل الألعاب الميكانيكية بما فيها جراد الماء الروبو والزاغ الميكانو، وخامسٌ قد أخضع جرذان حي باربيس قبل أن يخضع لها غيره، وسادسُ قد عاشر امرأة أحد رؤساء الجمهورية التي تتاجر بالحشيش، والتي كلما مرت بيدها عليه تخيل يد الدولة تمر على رجولته، فيزداد رغبة فيها ومقدرة، وسابعٌ هو عطيل ملك النمل سواء أكان حاكمًا في التشيلي أو حاسدًا في البندقية. قال أبي: - حقا هما صنفان، ولكن من سيفرق بينهم في مأتمٍ أسيادُهُ زاغٌ وجراد؟ هما صنفان لي ولك، مثلهما مثل أخويك التوأمين اللذين رفض أحدهما أن يكبر في بطن أمك، فظل صغيرًا، وثانيهما قَبِلَ أن يكبر، فصار دمويًا. نزع عن أعناق إخوتي الكلاب السلسلة العظمى، وأطلقهم في الشانزلزيه، في مأتم السين الحبيب، في ظلال الأعلام ذات الصليب المعقوف المنكسة، وقال لهم: - اذهبوا واختاروا مصائركم. امتطى ثعلبًا ساميًا قتل باقي الثعالب التي كانت تتقاسم السلطة معه في بوجمبورا، وذهب إلى الزمن الماضي أو المستقبل بعد أن أخذ معه لعبة كازانوفا الميكانيكية التي قال إنها أمي، وعزم على العزلة. طرق في ذهني أن أذهب إلى ناتالي التي لم تكن مع ريمي حين اختبائه في ظلي، قلت عادت حتمًا إلى عالم النعيم الذي تتحصن فيه من مسببي مأتم السين القذرين، ذهبت، وطرقت عليها الباب، بابها الذي ظل عنيدًا، وناديتها باسمها، اسمها الذي ظل لذيذًا: - ناتالي! وأعدت النداء: - ناتالي! ثم همست بشوق الشقيّ: - هذا أنا عليّ! عَلِيُّكِ الحبيب! خطت بحذر شديد، فسألتها: - لِمَ تقفين قرب بابك دون أن تفتحيه، فأنا أحب الدخول؟ هو عالمك، أعرف ذلك، ولكنني هارب من عالمي، فلا تتركيني مهددًا بخطر الحامل على صدره رسالتهم للوجود. ومن ألمي ضحكت بألم، وعدت أسأل: - لِمَ لا تجيبين عَلِيَّاً؟ افتحي لعليّ بابك قليلاً. أنسيتني بسرعة؟ هذا أنا... عليّ! سمعتها تهمهم محطمة حطام نفسها: - هذا أنت... عليّ! أنت أيها العليّ العالي في سماء سقطت على رؤوس أصحابها المخلصين! سقطت حبيبتك من بين ذراعيك مرة ثانية قبل سقطتها الأخيرة، فإذا بها غصن زيتون انفصل عن جذعه في أرض خراب. أسقطتها بنفسك في اللحظة التي رَفَعْتَ فيها لك تمثالاً في مقبرة التماثيل، وها أنت على باب نعيمها ترجو أن تفتح لك، وهي حطامُ مَحرقةِ الدنيا، بل ها أنت على باب جحيمها تتوسل أن تقول لك كلمة من الكلمات الحلوة، وهي العاجزة عن غير مر الكلام، وها أنت على باب هاويتها، وما بينكما فاصلة، وما بينكما خطوة، فلا تمحو الفاصلة، ولا تقطع الخطوة إليها، بل تنتظر أن تفتح لك مثل كل مرة، وكأن كل مرة كباقي المرات. لقد تغير كل شيء فجأة، ودفعة واحدة، وأنا عاجزة عن أن أصنع شيئًا غير عادي. الذي أستطيعه أن أحرق دمعي في مجمرة خدي الأيمن بعد أن تحول خدي الأيسر إلى ندم ورماد، وها هو آخرُ نبعٍ لدمعي المتفجر يحترق، ويحرقني كالبنزين الملتهب، فأَفْعَلُ كل ما أستطيعه. إنني أبكي لأجلك، وأبكي لطيبتك الشقية. اذهب، لتذهب ما دمت طيبًا وشقيا، لتذهب من هنا، وإلا فحطم الباب، وتعال إليّ لتنقذني! استدرت بهامة الكهل التي صارت لي، هامة كهل يحمل على عاتقه كل هموم البشر والطير في هم كبير واحد. وجرفني شك في كوني، أحقًا صرت جبانًا، وقد فقدت أسلحتي... كل أسلحتي؟ ومن جوف الفناء والعدم، وجدتني أحطم الباب، وأقذفني معها على الفراش، وأمزق ثوبها لأمتطيها كالعقاب والندم. - ألأجله توصدين بابك في وجهي؟ ألأجله تمنعين ثغرك عني وثديك وفخذك؟ ألأجل فحولته، وهو يدخل فيك، ويخرج؟ ألأنه لَذّك؟ ألأنه ذَلّك؟ ألأنه يعرف كيف يسحقك تحته، ويجعلك مثل كلبة تلهثين؟ ولكنها نجحت في منعي من أخذها عنوة، جعلتنا نلهث أنا وهي، وكل واحد منا يسقط في جحيمه... وأنا على بابها الذي حطمته ليظل مفتوحًا للريح والموت واللعنة والدم والمني والسحل والخراب، سمعتها تهمهم محطمةً مثل بابها المحطم: - هو ليس بريئًا، ولكنك أنت الذي تدينني أسوأ منه!
الليلة الثانية وأنا أجلس في ظلام مسرح شاتليه منتظرًا أحداث ليلة مأتم باريس الثانية إذا بضربات سوط تبرق وصرخات نسائية ترعد كلما بَرَقَ السوط وقاء. أحسست بمائع لزج كان دمًا يسيل من الخشبة إلى القاعة راحت تغطس فيه قدماي وتطفوان مثل مركب. وعلى حين غرة، تحركت الأشياء التي حولي، وأضاءت الخشبة أنوار تبهر العيون، فرأيت ريمي عملاقًا في يده سوط أسود من الفحم وأحمر من الدم يغشى به سبعًا وأربعين فتاة كما ولدتها أمها عارية. كانت كل فتاة معلقة من شعرها الأسود الطويل، وفي كل فتاة كانت ناتالي المعذبة القانطة بشكلها وحزنها وجمالها... وبعد فترة من الصمت المخيم الباعث على القلق لدى المشاهد، راح إعصار حلزوني يهب بالخشبة وهو يريد اقتلاعها وقذفها من قلب الوجود إلى هامشه. وأمام العجز البادي عليه، خرج من جوفه ابن ملك المال في ثوب تِنين جهنميّ راح يلتهم الفتيات السبع والأربعين الواحدة تلو الأخرى، وريمي يطلق قهقهة المغتبط. وأراد ابن ملك المال الجبار التهام ريمي الذي راح يغشيه بسوطه دون أن يمكنه قطع شهيته... لم أمكث حتى نهاية الفاجعة، كنت أحس بالوحدة القصوى بعد أن غادرني أبي وأمي وإخوتي، وبعد أن ماتت أخواتي السمكات وقدر البحر أخي الأُخطبوط لجفاف السين، وعلى الخصوص بعد أن حطمت الباب على حبيبتي وتركتها في عالم الهاوية.
الليلة الثالثة وأنا أمضي بمتحف اللوفر، رأيت في ساحة نابليون نارًا جبارة تتصاعد منها إلى أعتاب السماء، فذهبت لأقف على هرمٍ من التماثيل واللوحات أقامه جراد الماء وزاغ نابلس في وسطها قبل أن يدقا جهنم الدنيا في كل حضاراتنا. كان أعوان لوبنتون قد أعادوا اللوفر إلى عهده القديم لما كان سجنًا، فرأيت المعذبين في ردهاته، ورأيت الجلادين، وهم يبتسمون لفيليب أوغست بعد أن جعلوا من إحدى قاعات اللوفر العظيم ساناتوريوم للمصابين بالإيدز. وفي ضباب باريس كانت مشاهد الخراب تقوم ولا تقعد: مكتبات محترقة وسينمات مكتسحة ومسارح منتهكة... كانت الجثث مطروحة في الأزقة إلى جانب المرضى والجرحى، وكانت بعض ساحرات الغجر يقرأن في أكف الناس مصائرهم: ستموتون ذبحًا مثلما فعل المتحضرون بأهالي البلاد الأصليين في أميركا وجنوب أفريقيا أو ستموتون سحلاً مثلما فعل قاسم العراق بمواطنيه أو أنهم سيخوزقونكم مثلما كانوا يفعلون بأجدادكم في القرون الوسطى، فاختاروا من هذه الميتات أطيبها. انبثقت من دخان الحرائق والخراب والضباب ثلة من جنود الموت، وهي تعدو على أحصنتها التي نصفها روبو ونصفها أحصنة مثل أحصنتنا التي فقدناها، وراحت تزرع الهلع في صدور أهل باريس، وتصرخ بهم أن انهضوا واعملوا! وأخذت تضرب الناس بأعقاب البنادق وهي لا تكف عن الصراخ بهم: - ألا انهضوا واعملوا! لماذا لا تنهضون إلى العمل أيها التنابل! أعربٌ أنتم أم يهودٌ أم غيرُهم من الكسالى؟ التقط جنود الموت ثلاثة أو أربعة في جو الهلع العام ولنَّشوهم. على مسافة ليست بعيدة، كانت سيدتان أرستقراطيتان تلعبان التنس، وقد أخذتا كطابةٍ لهما رأسَ أحدِ الذين مقصلوهم. كانت الرأس تقهقه تارة وتولول تارة وهي تنتقل تحت ضربات الميجار من يمين الشبكة إلى يسارها ومن يسار الشبكة إلى يمينها إلى أن أكملت إحدى اللاعبتين الأرستقراطيتين الأكثر شطارة قتل الرأس بضربة قاضية على دماغها، فصارت لينةَ العريكة لينَ طابة من البلاستيك تمثل الصيحة الأخيرة لمصانع عديداس المرصودة لرولان غاروس في الفصل الرياضي القادم.
الفصل 17
مأتم السين (يتبع)...........
الليلة الرابعة وجدت نفسي أمام الفندق الذي أعمل فيه حارسًا ليليًا، اتجهت إلى مكتب الاستقبال، فانفجر في وجهي هذا الصوت اللعين: - هذه هي المرة الأخيرة التي تتأخر فيها عن الحضور وإلا بحثت عن شخص آخر غيرك إذا كان العمل في الليل يسبب لك كل هذا الضيق. قلت لصاحبة الفندق: - حصلت لي بعض المتاعب، باريس تحترق، والناس في قيام وقعود. - أترك متاعبك لك، أما أن تجلب لي المتاعب أنا، فهذا أمر لا أريده أبدًا. ومن جهة باريس التي تحترق وتنهدم، فهي تحترق وتنهدم بسببكم. إذا تأخرت مرة أخرى عن عملك بحثت عن شخص آخر، ولا بد أنني واجدة إياه منكم كما تعرف بكل يسر، لأنكم لا تعطون لليل حق قدره، ولأنكم تعملون كالبغال في الليل والنهار على حد سواء. هاأنذا أقول لك، جعلتني أنفق نصف ساعة تأخير عمن سينفخ فيّ روح القدس، هذا ما يسمى بالمتاعب، هذا ما يثير المشاكل. حملت محفظتها بعصبية، وقالت لي بلهجة فوقية: - إذا تلفن الإشبيني قل له زوجتك في الطريق كي ترفع ساقيها في الهواء مثلما أراد، وإنها على وشك الوصول إلى موعدها. هكذا إذن... لقد أخرتك عن المضاجعة أيتها البغيّ! هذه هي المتاعب بالنسبة لك! أن يعهرك زوجك لتأتيه بأولاد يبيع الواحد منهم بخمسين ألف فرنك ذهبيّ، هذا هو الشغل المضبوط، لا فندق تنهب الدولة معظم مداخيله ضرائب ومصائب ولا هَمّ ولا من يحزنون! أعطتني ظهرها، وراحت تهمهم دون أن أفهم شيئًا. وهي في وسط المعبر، التفتت إليّ، وقالت بوجه لم يزل يحتفظ ببعض الحسن على الرغم من كل تلك المساحيق: - وجبتك في الثلاجة، سخنها، وانس أن تطفئ الغاز كالعادة، ليكتمل احتراق باريس على رؤوس الذين خلفوها! ألفت انتباهك إلى أنني عددت حبات الفاكهة، وكذلك زجاجات البيرة، ونصيبك الليلة من الحلوى قطعة بسكوت تجدها على الرف. دَفَعَتْ الباب الدائري، فلف على قائِمِهِ ثم توقف في ضباب شارع راسين وأقنعته. كانت معظم المفاتيح غير معلقة على الواجهة المخصصة لذلك، يعني أن النزلاء قد لجأوا إلى حجراتهم. في الحجرة 67 فتاتان سويديتان لم تعودا بعد، فهل تكونان من جماعة الجراد الأشقر الآتي من الشمال؟ لكنني استبعدت ذلك، وأنا أتذكر في آخر ليلة كنت هنا كيف صعد معهما صديقي محمد الفاسيّ إلى الطابق الرابع، ولم ينزل من عندهما إلا بعد عدة ساعات. قلت لنفسي ثلاث حجرات فارغة. فقط. فجأة، نهضت: سأذهب إليها، سأعود إلى طرق باب النعيم عليها، فماذا تبقى لي بعد أن أصبحت باريس جحيمًا؟ لكنني عدت إلى الجلوس. لماذا لم تفتح لي الباب قبل أن أحطمه وينهار العالم على قدميّ؟ لا بد أنها غاضبة مني الآن أنا الأسوأ منه. كنت أسمع ضربات قلبها، ضربات قلبها هي التي دفعتني إلى تحطيم بابها ونبضها وقوتها على العيش في الموت والخراب. دخلت المطبخ، وفتحت الثلاجة: قطعة لحم بالبطاطا في مرقة حمراء. لم تكن لدي أدنى شهية. تناولت زجاجة بيرة، ورفعت سِدادتها. سأدفع لك ثمنها أيتها المرأة القذرة! أخذت جرعة من فم الزجاجة وأنا أفكر: كان عليها أن تفتح لي. أخذتُ مكانًا في مكتب الاستقبال وجرعة ثانية. ماذا لو ذهبت إليها الآن؟ لا! لن تستقبلني، والوقت جد متأخر. حركت الكرتونة التي كُتبت عليها كلمة "استقبال" بحروف كبيرة، وكلمتا "أهلا وسهلا" بحروف صغيرة. بالإنجليزية والفرنسية. قررت الانتظار حتى الصباح. ثم هاجمني التعب، واكتسحني النوم عدة ساعات. عندما استيقظت، تناولت طعامي، وشربت زجاجة بيرة ثانية. فجأة، عبرت خيالي كالشرارة: صورة ريمي وناتالي. سارعت إلى الخروج لأجدني وجها لوجه مع اثنين من رجال الجراد وهما يحملان حقائب ضخمة. قالا لي ما لم أفهم منه كلمة واحدة. ركضت إليها شارع سان جاك. كان الدخان يتصاعد في الليل من الجهة الأخرى لباريس، فوقفت مترددًا على الرصيف، وأنا أرفع عينيّ إلى غرفتها. كانت مضيئة. كانت الوحيدة في كل صف العمارات التي يتسلل من نافذتها الضوء. ظهرت سيارة شرطة من بعيد، واقتربت بضوئها الأزرق الدوّار. امتلكني ذعر شديد، وعملت على أن أبدو كمن يعبر طريقه. خفّفت سيارة الشرطة، وهي قربي، من سرعتها، وكادت تقف، ثم ضاعفت سرعتها، فجأة، وتابعت طريقها. عدت أدراجي، وتسللت داخل العمارة. وأنا على وشك الوصول إلى الطابق الأول، اشتعل الضوء عند البوابة. لم أصل إلى الطابق الثاني حتى انفتح باب، وأتتني خطوات. التفت، وأنا أواصل الصعود، فوقعت على البوابة السمينة سمن أفيال سبعة، وهي تفغر فمها على سعته: - ماذا تفعل هنا أيها السارق؟ مع كل الاحتياطات الأمنية التي تملأ البلد كيف تُراكم تجرؤون؟ تبًا لكم! رجعت على عقبيّ، وأنا أطلب منها أن تخفض صوتها، فأصرت على إيقاظ الجميع من سبات لن يكون وظروف البلد حتمًا عميقًا: - تجول قرب الأبواب الآمنة ليل نهار ولا أرفع صوتي أيها السارق! سأطلب رجال الشرطة ليضعوا القيد في يديك. هذا ما يؤدبك أيها السارق! وأمسكتني من ذراعي، فانفتلتُ، وتخلصت منها لأكمل صعود الدرج بسرعة. اجتزت باب ناتالي المحطم إلى عالمها دون أن أجدها فيه، بينما عادت البوابة تهبط الدرج متثاقلة متلاهثة، ولم تزل تشتم، وتهدد: - انتظر قليلاً! لا تهرب كالجبان! ستؤدبك الشرطة! سمعت صوتًا لرجل تعب يأتي من الطابق الثاني: - جوزيفين، لم كل هذا الصياح، يا جوزيفين؟ انفتح باب فجأة في الطابق ما قبل الأخير ثم انغلق بقوة. قالت المرأة: - هناك من يجول بين أفخاذنا ونحن نيام! ولم يزل تبادل الكلام يصلني من خلال الباب المحطم، والقلق لدي يزداد كلما تأكد لي غياب ناتالي رغم أنني رأيت ضوءًا في حجرتها منذ برهة. قال الصوت التعب: - لا تخشي شيئًا، يا جوزيفين، فأنا أسهر طوال الليل مفكرًا في مصائركم. نبرت جوزيفين بحدة: - اليوم لسنا بحاجة إليك لتفكر في مصائرنا... اليوم مصائرنا معروفة، ألا تجد معي غريبًا على الرغم من كل الاحتياطات الأمنية التي تملأ البلد أن يجولوا ويصولوا في الليل ونحن نيام بين أفخاذنا؟ إذا وجدت الجواب تكون قد فكرت جيدًا في مصائرنا، أريد القول في مصائبنا. أدركت أنها وقفت على بابه، وهي تذرف دمعة مسحتها بطرف ردائها: - أنا لست معهم، يا ماركسوف، تعرف جيدًا أنني لست مع كل هذه الاحتياطات الأمنية المفزعة، لست مع هؤلاء القتلة، ولكنني لست أيضًا مع أولئك اللصوص مهما كان أصلهم وفصلهم. لأن الليل بالنسبة لي رمز النوم والراحة والأمان. قال لها صاحب الصوت التعب: - لا تقلقي ما دمنا معًا، وما دمنا معًا لن تدوم الأحصنة الروبوتيكية. - آه، يا ماركسوف العزيز، يا ماركسوف الطيب! ابتسمت له، وأنا أنظر إليها من فوق بعد أن خرجت إلى الممر بحثًا عن ناتالي. ضمته إلى صدرها، وهي تسأل بينما كان يشد بأصابعه لحيته الكثة على دفعات: - ألم تنته بعد من التفكير في مصائرنا؟ ألم تنه كتابك بعد؟ - لن أنهي كتابي، يا جوزيفين، بعد أن مزقته. - مزقته بعد كل هذا التعب؟ أنت مجنون؟! - لأنه ينادي باتحاد غيرنا أنا وأنت في العالم، وغيرنا لن يكون معنا. سيتغير غيرنا، وسيتغير العالم، ولكن بقوة الأقوياء من جراد الماء أو قوة الضعفاء من زاغ مدينة نابلس البعيدة الغارقة في سراب التاريخ. سيتغير العالم، نعم، لأن العالم لا بد أن يتغير لا كما نحلم، فهم يفرضون علينا ما يريدون. ضمها بكل تلك الكتل الهائلة من الشحم المتراكم التي لها بحنان وقوة، وجذبها قبل أن يغلق الباب عليه وعليها، وهو يهمس لها: - تعالي، يا جوزيفين العزيزة! - تعال، يا ماركسوف العزيز! وأنا في الممر، سمعت فحيحًا ولهاثًا يأتيان من حجرة ناتالي، كان الفحيح ثاقبًا واللهاث متوترًا قصيرًا مختنقًا متواصلاً، وما أن عدت أدلف إلى الداخل حتى رأيت في فراش ناتالي مشهدًا من جهنم. كان الثعبان الأسود الدميم ابن ملك المال والحية الذهبية الجنسية الشبقة ابنة ملك الكلام يتناكحان في ثوبهما الحيواني الوحشيّ، وقد اندقت أنياب الواحد في أنياب الآخر، وانعقد لسان الواحد المتشعب بلسان الآخر، وسال من نواجذ الواحد والآخر لعاب النشوة الفاحشة، فكأنه زبد البحر مخفوقًا بالسم واللذة. أخذ اثنانهما يتداخلان تداخل الواحد في الواحد وفي الوقت ذاته يتصارعان تصارع الفاتح مع الفاتح حتى صارا جسدًا عبقريًا واحدًا وعقلاً عبقريًا واحدًا وإرادة مجرمة واحدة أنجزت في عناقها الحميم المحموم خنق العالم في ثوانٍ قبل أن تعيد إليه الروح من جديد، روح الجسد المجتاح والمحتاج إلى فترة من الزمن الضائع يستعيد فيها توتره الجنسي العبقري، ليرتكب جريمة الجرائم الأزلية، وليمارس سر الأسرار المدنسة.
الفصل 18
مأتم السين (يتبع)...........
الليلة الخامسة قررت أن أتجول في الليلة الخامسة من مأتم السين بحثًا عن ناتالي، أخذني شارع الشانزلزيه بأنقاضه إلى بعض الأزقة التي تسقط في السكون، الصاعدة فيها جثث أطفال مهجورة، وعجلت الخطو في دخان الحرائق والضباب السميك. وأنا أمضي بين جنود الموت النائمين وقوفًا جامدين جمود التماثيل المسحورة، راحت خطواتي تصعد على العالم، والعالم بين قتيل وقاتل لا يبالي بخطواتي. وجدتني في شارع فيكتور هيغو، شارع لا نهاية له ولا بداية، وأولُ الليل أسودٌ فيه وآخرُه. أتت سيارة بسرعة يرافقها الضجيج... ثم ذهب الضجيج بسرعة يرافقه الظل. انبثقت ضحكة من قلب الأشياء الثابتة... كانت ضحكة أجمل من نواحٍ لعاهرة أبشع من قمر، فأين أنت أيها الشاري للجسد؟ عندما مرت بي عرفت فيها ايمّا التي ضاجعها أبي، فخبأت وجهي بيدي، ومضيت، وأنا أرى من بين أصابعي على الرصيف الآخر عاهرة ثانية كانت "الشعاع الأزرق". ابتعدت قليلاً في الظلام، ونظرت إلى ايمّا، فوجدتها تتفرس فيّ بوحشية، وكأنها تريد افتراسي: خداها المنحوتان من حجر الليل، وجهها المرسوم بقلم حبر أبيض، شعرها المنثور بأصابع طفل متوحش. وبينا كانت سيارة أخرى تقترب، قفزت ايمّا إلى وسط الشارع، وعرّضت محاسنها لأضوائها. قلت: ايمّا لا تشعر بالبرد! هل هذا لأنها تريد العيش كما تريد العيش هي لا كما يريد غيرها وإن كان قوادًا عبقريًا؟ ربما أرادت الانتقام من فكرة "تريد العيش" في كابوس باريس ومأتم نهرها ورغبات الأحصنة الروبوتيكية التي تصل إلى كل مكان بحوافرها ونزعات المجرمين الذين لا يسمحون إلا بما لا يتعارض مع إجراءاتهم الأمنية... نكاح القحبة مثلا في عز الحزن واليأس الشامل. كان الليل أقوى من الموت، فتلطخت ايمّا بالعطن والعتمة حين أنّت عجلات السيارة، وهي تنحرف عنها. في تلك اللحظة، انبثقت من صلب الليل المنهوك عاهرة ثالثة ظننتها، وقلبي يهوي في بئر بلا قرار، ناتالي. سمعتها تصيح بغضبِ شعبٍ جثثُ أطفاله تتكدس جبالاً في الأزقة: - أيها الأحمق، نحن بائعات الهوى، ها هي أجسادنا، فانتبه إلى الطريق! توقفت المرسيدس المصفحة كالحيوان المتربص، فنبرت ايمّا: - الكلب العجوز! وتأوهت الشعاع الأزرق: - القذر، لن أدعه يلمسني. لكن ايمّا سخرت منها: - لا بد أنك مجنونة! رددت الأخرى: - لن أدعه يلمسني، لن أدعه يلمسني. وأعطتها ظهرها. - تعالي إلى هنا، أيتها الغبية! - على قفاي! - ألا يعجبك؟ - مرة أخرى على قفاي! وايمّا لا تتوقف عن ترداد: - أيتها الغبية! أيتها الغبية! - ألف مرة على قفاي! ثم قالت الشعاع الأزرق بغل وضغينة: - أنا أعرف، لم يعد لي قفا! لقد انتهيت! أطلقتا ضحكات بلا استحياء، وبعد ذلك تبادلتا الصيحات مع أخريات على الرصيف المقابل، ورحن يتحدثن عن كساد السوق في مأتم السين. أتت ثلة من فرسان الأحصنة الروبوتيكية، أخذت ايمّا والشعاع الأزرق وعددًا من زميلاتهما بالعنف دون أن تنفع المقاومة معها. اغتصبهن الفرسان في زوايا الشارع ثم ما لبثوا أن ذهبوا باتجاه ساحة النجمة على سماعهم لدوي طلقات نارية ضاعفت من فورة الضباب في شوارع الموت والنظام الآلي. خبأتُ شارة "العامل الأجنبي" التي على صدري، وعدت أدراجي، ولأتحاشى رجال الموت، أخذت طرقًا ضيقة موازية للشانزلزيه. وبينا كنت في الظلام الدامس أمضي، وقلق نفسي أعظم قلق، أتاني الصوت الذي ناداني، وهتف باسمي في ليلة عيد السين السابعة، فصحت سائلاً خائفًا حانقًا راجيًا: - من أنت؟ اظهر نفسك! انطلقت ضحكة رنانة ليس فيها شيء من سخرية، وطلب الصوت مني: - اتبعني! وللظلام الدامس المهول وكذلك لخوفي الساحق من أن أطأ جثة طفل أو كلب قلت: - الظلام دامس والجثث في كل مكان، اظهر نفسك أحسن لك! قال الصوت وقد لاحظ ما شاب لهجتي من تهديد: - لن أظهر نفسي إلا إذا أردتني أن أظهر نفسي بالفعل. أدهشني: - أنت بشر أم وهم؟ انطلقت الضحكة الرنانة من جديد، ضحكة ذكرتني بضحكة أعرفها، ضحكة امرأة، دون أن أحدد أي امرأة هي. كانت أجنحة طائر قد اصطفقت فوق رأسي قبل أن يغيب الطائر في الليل، ويرسل بريق النجم الغريب في كل ذلك الظلام المخيم.
الليلة السادسة نظرت إلى السماء، كانت سوداء أسود من سماء إفريقية، وكانت أصابعي سوداء أيضًا. حرّكتها، وجمعتها، فقفزت مثل أطفال إفريقيين. كان النفث في صدري أسود من كل ضباب العالم: هل أصبحت لهب الليل الذي يغشى باريس؟ هل أصبحت النسخة السلبية للصورة؟ هل أصبحت للعدم موضوعا ملموسًا؟ مددت قامتي العملاقة إلى أقصاها، فكم كانت قصيرة؟ فتحت عيني الواسعة على سعتها، فكم كانت حسيرة! لطمني صقيع الليل، فكم كان لاهبًا! أخذت أسير في بحر بلا طريق، فلست موسى، وناسَ قلبي حزنًا على حبيبتي التي فقدتها حتى كاد ينطفئ مثل جذوة اليأس. رحت أفكر ببطء الخارج من معركة القلب النازف: سينبثق الفجر عما قريب، وستصبح المعمورة بيضاء بياض وجه حبيبتي الذي يتبدل مرة أسمر ومرة أبيض! ولكنني كنت أتيه مع خطواتي في الخراب، والفجر أين هو ذلك القواد الذي سينبثق مثل ابن العاهرة؟ والمعمورة البيضاء أين هي تلك الأدنس من كل عفيفات شارع فيكتور هيغو؟ ليس هذا فجري، وليست هذه معمورتي، وفي قفاها سأحشو قدمي حتى أفجر خراها نجومًا تكتسح كل عوالم البشرية. كنت قد تشبثت بخطواتي تشبث من عبثوا بحياته، فلست واحدًا من شخوص كافكا، على الرغم من أنني لم أكن أنا وقتذاك، لا، لم أكن أنت. كان عليّ أن ابحث عن ناتالي تحت كل قدم، وراء كل فكرة، في كل قطرة دم، على كل جدار... كان عليّ أن أجد ريمي في كل ظل، أمام كل حافر، خلف كل قناع، كل فاصلة. وبينا أنا أبحث، حطم بعضٌ من أهل باريس العراة في الموت والاستلاب والضباب بقضبان حديد صدئة مهترئة صديدية واجهة دكان للملابس في اللحظة التي خرجتُ فيها عليهم خروج من لا صدى له: ثلاثة ظلال عملاقة لثلاثة أولاد ضربوا قدمًا في الأرض هاربين لمقدمي اللامتوقع... أخافتهم مشيتي الميكانيكية، وظلي أرعب ظلالهم، فكل واحد منا يحمل معه ظله، ويسير على حافة الجحيم. رأيتني أنا والليل والواجهة الزجاجية المحطمة للنوفوتيه كل واحد منا أمام الآخر كصورة في مرايا لامتناهية، خلت زجاج الواجهة قمرًا ذا مليون شظية باردة، ونظرت إلى قميص عثمان الممزق في زجاج أنشب فيه أظافره. كان نصف البضاعة المعروضة مسروقًا من طرف شعب باريس الصغير، بعد أن ترك ذلك الشعب الكبير بشرف أشعة الكهرباء تنطلق قوية في وجهي، وخلف وجهي ترك العتمة الرهيبة، والدم، والعفن، والعطن، ومستنقع الإنسان، وحزن باريس الأكبر. فأين أبي الذي يحبني كثيرًا؟ تركت أصابعي تمر على النتوءات المحفورة في الزجاج من جراء نحته المفاجىء، فأصابتني نشوة المتوثب الخائف. أثّرت بأصابعي على حوافها، وأردت أن آكل الحروف بأصابعي. قلت لنفسي: أحدهم قد أهوى هنا غضبًا، أحدهم قد فجر هنا رغبة. وعلى التو أضاءت نجمة منطفئة، وعلى التو انتهت علاقة زائفة. وأنا أجسّ النتوءات بلا انقطاع، وقد أصبحت الانتشاء. منذ قليل، كان اللوح الزجاجي أملس مثل بشرة امرأة بيضاء، أما الآن، فقد تمزق. فاجأني ريمي، وهو يخرج من الواجهة الصارخة بالضوء. كان يبتسم، وكان يرفع في يده قضيبًا حديديًا نسيته الظلال أو أنه سقط عن خطأ من يدها. قدمه لي، وقال: - الآن جاء دورك، وبعد ذلك يجيء دوري. وأراد أن يذهب، فلحقت به، وأمسكته بعنف، ولكنه تخلص مني، وهو يمسك نفسه عن رد فعل ليس في مكانه، ثم قال: - الآن سأذهب، وبعد ذلك ستأتي. وذهب، فصحت من ورائه: - إني واجدك لا ريب! صاح ريمي: - الآن هي لي... وسكت. تقدمت في الظلام، وأنا أحثه على المتابعة: - وبعد الآن؟ لكنه أعاد بصوت مدو قبل أن يختفي في الظلام تمامًا: - الآن هي لي... وسكت. صحت به: سأقتلك، وأقتلها إذا صارت لك. وانفجرت أبكي، وأنادي ناتالي! ناتالي! جمعت قبضتي على القضيب الحديدي بقوة، ورفعته إلى أعلى، إلى أعلى، وكأنني مقدم على تحطيم أبراج روما. بدافع آخر غير الغضب، غير الحقد، غير تمرد الفقير، بدافع آخر. ربما كان دافعي أن أوقظ العالم في الليل أو أن أقتل ليل العالم. ثم قلت: آه ما أجمل الليل! ما أجملك يا ليل، وما أفحشك، وما ألذ الارتماء بين فخذيك! رحت أسدد قضيب الحديد في لوح الزجاج، فيتساقط ما تبقى منه، ويخر القمر ذو اللامعنى. كانت قد خفقتني لذة الإقدام، وخطر على بالي أن أغني أغنية كانت ترددها أمي يوم كنت بالنسبة لها ملاكًا صغيرًا وجميلاً، أن أقول قصيدة لرامبو حفظت بعض مقاطع منها عن صديقي محمد الفاسيّ. كان يحاول قرض الشعر في الأوقات السعيدة القليلة، وكانت لهثتي قصيدة، دقة قلبي بعد أن عاد يخفق خفق جناح طائرٍ تعبٍ مخدرٍ بالفضاء الذي ينغلق من ورائه مع عبوره كان أغنية، جرحٌ في كفي كان حية، وصار حكاية. وأنا في عز انتشائي، سقط عليّ صوت أهوج متهم كقرش السماء: - ماذا تفعل، أيها الإرهابي؟! أفعل باقي الفعل الذي بدأه شرفاء باريس الكبار أيها القاضي المبجل! ذلك ما كنت أود قوله لأحد قضاة أورشليم المعاصرين قبل أن أحمل صليب غيري الصدئ. كان من دعاني بالإرهابي قد استدار بسيارته اللادا البيضاء المصفحة، وهجم بجنون قبل أن تزحك عجلاته صاعدة الرصيف ضبعًا أو سيفًا في اتجاهي: - أيها الإرهابي الصغير، انتظر ريثما ألقي القبض عليك، وأعلقك على حبل من جهنم! رحت أعدو بكل قواي، بكل قوى العدائين الأبطال في الألعاب الأولمبية التي جرت منذ أول إغريقي عدا إلى آخر عربي سجد له القمر في المغرب، بينا سيارة أخرى مرسيدس سوداء مصفحة قد لحقت بي مثل سابقتها، وسيارة ثالثة مثل هذه أو تلك قد اعترضت طريقي. اخترقتُ أحد الأزقة بلهفة الطريد المطارد، ودخلت إحدى البنايات المعتمة بعد أن دفعت بابها الخشبي الثقيل بصعوبة، وأقفلته من ورائي إقفالي على ولديّ التوأمين في صندوق الأسرار الذي لديّ. أخفيت نفسي تحت الدرج، وخفق قلبي الذي عاد إلى الدق العنيف يهزني كوتر، كان الخطر يحدق بي من كل مكان، وأنا، مع ذلك الخفق الساحق، كنت أتفتح كزهرة. رأيت في العتمة بياضًا يتشظى، فإذا بي سعيد على الرغم من كل شيء. كنت خائفًا، لكنني اكتشفت طمأنينة الطفل في اللحظة التي يعود فيها أبوك وأمك بعد أن تركاك وحيدًا في العتمة، لأنهما عادا، ولأن ستر العتمة بيضاء بعد خروج الجن وباقي الشياطين. كان قضاتي الباحثين عني لتلنيشي كتلك المخلوقات الغريبة، سمعت خطواتهم تذهب بعيدًا، وفي ذات اللحظة حطت في نفسي كآبة شديدة، أحسست بنوع من الحرية الزائفة، وأنا أجيل النظر في مأتم باريس وقدرها. كان لا بد لي من الخروج إلى قدري، كان لا بد لي من مواجهة المصير الذي ينتظرني. خرجت في الليل، ومشيت... من أمامي الليل، أنا والليل وأنا، ثلاثتنا فقط.
الفصل 19
مأتم السين (يتبع)...........
الليلة السابعة وأنا أدخل إحدى الطرق الضيقة، رأيت أحدهم يأتي من بعيد، عرفت فيه المتسول المرابض دومًا أمام الكلية، وقد شاخ كثيرًا. كان ضوء القنديل الأصفر يجعل من حوله هالة من الضباب ملوثة، وكان قد انحنى على أحد صناديق القمامة، وأخذ يبحث عن شيء فيه، ويلح في البحث، وقد قذف معظم محتوياته. عندما توقفت على مقرية منه، رفع نحوي وجهًا مفجعًا، وجه تِنين منكسر، وقال لي بصوت شديد الوقع في النفس: - يا معلم، هذه ثروة، هذه سوق الروبابيكا التي لي! وهو يشير إلى القمامة. أضاف دون أن يشوب التهكم صوته المرتعش: - يا معلم، أتسمع؟ هذه أعظم ثروة ورثتها في حياتي! وقد كان ذلك بالضبط ما أنظر إليه، حياته، بينا يطبق على فمي السكوت. - أجد فيها العجائب، كتب وخبز وصحون مشدوخة لكنها صالحة للاستعمال تمامًا، وفي إحدى المرات وجدت مذياعًا. وهو يلوح طوال الوقت بكتاب قذر. اندهش الرجل لسكوتي الطاغي: - يبدو أنك لا تصدق! أسرف بعض اللهثات المختنقة، وقال: - يا معلم، انتظر. انحنى، وراح يبحث في قفة من الجلد المسود من القذارة، وقد سقط معطفه المسود من القذارة على الأرض، وهو يهبط ويرتفع كلما هبط جسده المضنى وارتفع، وكأن شعب باريس يهبط ويرتفع بمصابه. كنت أنظر طوال الوقت إلى شعره المتلبد من الوراء وإلى حياته، فأقول لنفسي: لقد توقفت حياة هذا المتسول المُعْوِز عند الحد الذي يقف فيه الآن، أما بعد هذا، فالأمر سيان. رفع قامته متلاهثًا، كان يحمل زجاجة نبيذ بيد، وبالأخرى يقدم مني مذياعًا: - إنه يعمل تمامًا، أستطيع أن أؤكد لك، فقط تنقصه البطاريات. تقدم مني خطوة، فشممت عنه مزيجًا من رائحة الكحول ورائحة القذارة. كان قد خفض صوته، وأخذ يوشوش: - لا أكتمك سرًا، عندما عرضته على الشركة دفعوا لي مائة فرنك من الذهب الخالص، لكنني رفضت. ابتسم لنفسه، وغاب بعض الشيء، وبعد قليل، راح يهمهم بنشوة المندهش غير المصدق: - بعدما أشتري البطاريات سيصبح العالم ملكي، أدير الزر... هُبْ! إذا بي في لندن... هُبْ! إذا بي في نيويورك... هُبْ! إذا بي في القدس... وغضب: - لهذا رفضت بيعه. رفع نحوي وجه التنين المنهزم المنكسر الذي له، أعطاني ظهره، وابتعد عني قليلاً، وهو يترنح. توقف، التفت إليّ بهيئة هالكة، هيئة ظل الظل التي له في الظلام والضباب، وأعاد بنوع من التعلق القدري بحلم لن يتحقق: - لهذا رفضت بيعه. بقعت شفتيه بسمة، أية بسمة بقعت شفتيه، وهمس بصوت عاشق متأوه: - القدس! وأنا أراه يغيب مع العمر والحلم، فكأنه رحل إلى القدس بالفعل. وعلى حين غرة، مد أحد الأولاد الثلاثة الذين حطموا الزجاج وسرقوا الثياب يده، واختطف المذياع منه، وكأنه اختطف منه عينيه. صرخ كمن لدغته عقرب، ودار حول نفسه باحثًا في الليل والضباب عن سارق المذياع وحلم القدس البعيدة. كان الأولاد الثلاثة قد راحوا يدورون به، وهم يتضاحكون، ويتقاذفون المذياع وقلب المتسول معه، وفي الأخير، جعلوه يسقط في القمامة، فيبدو أوسخ شيء فيها، وجعلوه يبكي. وضعوا في المذياع حاشدة، وجعلوه يصرخ بموسيقى الروك التي أحببتها، ورقصت عليها أنا وناتالي، ورقصت عليها أنا وروزالي، ورقصت عليها أنا والإخوة جاكسون، وصرنا في غابة أفريقية ترأف بروحنا الحائرة، بينما أخذ الرجل يصرخ فيهم مؤنبا: - يا عيبكم يا أولاد، الدنيا قتل، الدنيا موت، الدنيا مأتم وحزن، وأنتم ترقصون وتلهون! أخذ يشتم القدس ولندن ونيويورك، وأخذ يشتم طولون ونانت وليون، وكان الأولاد قد رموا المذياع على الأرض، فتكسر، وحط الصمت فجأة، والمتسول قد نقله إلى صدره، وبكى، بينا هم لا يتوقفون عن الهزل والضحك. فك أحدهم قبضة المتسول عن زجاجة النبيذ، وراح يكرع من فوهتها النار، ويُكرع رفيقيه، وبعد ذلك أشعل أحد الثلاثة الأكثر إحساسًا ببرد الموت المخيم على باريس صندوق القمامة، وأدفأ على نار نُفاياته يديه، بينا أتاني الاثنان الآخران بالثياب المسروقة، وعرضا عليّ شراءها لقاء زهيد الفرنكات الذهبية... عندما اعتذرت، أعطاني الثلاثة بعضها مجانًا، وأخذوا يُلبسون المتسول بعضها الآخر، وهم يضحكون على القذر الذي صنعوا منه سيدًا نظيفًا... أتتنا من قلب الضباب والموت والظلام ثلة من الأحصنة الروبوتيكية، فانطلق ثلاثتهم يعدون في الأزقة الضيقة ضيق إنسان نحيف الجسم ضامره لا يمكن الأحصنة الروبوتيكية الضخمة اجتيازها. تقدم أحد الفرسان الجهنميين من المتسول، وسأله إذا كان قد رأى ثلاثة أولاد أشقياء عفاريت مضوا من هنا، فأجاب بالنفي، ولما سألوه عني، ومن أنا الواقف في دخان القمامة، خبأ إشارة "العامل الأجنبي" التي على صدري بمذياعه، بنيويورك ولندن والقدس، وقال إنني ابن ضائع له، وإن الرصيف خبزي ومهدي. وبعد أن دارت الأحصنة الروبوتيكية حولي دورتين، راحت تقفز على أجساد قطارات المترو المحطمة، وتركتني حرًا معه. بعد قليل، سمعته يقول: - يا معلم، الآن أريدك أن تعطيني تذكرة مترو مقابل إنقاذي لك من ورطة وخيمة لو وقعت. نظرت إلى محطة المترو المتفجرة، وإلى قطاراتها المتحطمة، ورحت أطلق قهقهة المهووس المصدق مع ذلك لما يسمع، والرجل لا يبدي دهشةً: - إذن ستعطيني فرنكًا ذهبيًا بدلاً من ذلك لأشتري ما يقيتني، فلا أبيح للذئاب الخروج من معدتي. نظرت إلى متجر فيليكس بوتان المنهوب، وإلى دكاكين المواد الغذائية المكتسحة، وعدت أقهقه بكل العنف الذي أمكنني، والرجل يهمهم، وينكفئ على عقبيه، ثم ينحني على قفته، ويخرج منها زجاجة نبيذ غير تلك التي اختطفها الأولاد منه، زجاجة نبيذ ممتلئة إلى نصفها، أخذ منها جرعة كبيرة، وعاد يقترب مني، وهو يترنح: - خذ جرعة نبيذ إذن. وهو يقدم لي الزجاجة. تناولت الزجاجة منه، وأخذت جرعة من نبيذ رديء فيه طعم غريب يغريك على أخذ جرعة ثانية، فلم أفعل، وأعدت الزجاجة له، وهو يلح عليّ: - خذ جرعة ثانية، كيف لا يصيبك الظمأ، وأنت شاب؟! لقد كنت شابًا أنا، وكنت أشرب البحر! حقًا في الخمر معصية لكنها معصية لذيذة، ألذ معصية تخفف عنك مصابك في أبناء النكاح الذين يتنقلون اليوم على أحصنة من جهنم! وبصق حانقًا شقيًا: - لتنطبق جهنم على رؤوسنا نحن المغرورين الذين نستأهل أن يحشوا في مؤخراتنا مهاميزهم الملائكية! أخرج من القفة زجاجة ثالثة، رفعها بيد مثقلة ذات أظافر متشققة وجلد مبثور، كانت أجمل يد في الوجود، وصاح بصوت متهالك: - يا معلم، أترى؟ هناك أحمر للجميع! ما عليك سوى أن تشرب. أخذ جرعة كبيرة، كان يريد أن يشرب البحر بالفعل، ثم أسقط يده متلاهثا، وقد ازرق لونه، فصار طيرًا من طيور الجنة المغضوب عليهم، وما لبث أن عاد يهمهم لحارسها الوهميّ: - حقا في الخمر معصية لكنها معصية لذيذة! أخذت بدوري جرعة كبيرة، وأنا أغمض عينيّ على معصيتي اللذيذة، وعندما فتحتهما كان على وشك السقوط من شجرة التفاح المجرمة التي ظلت له وفية، فخففت إليه ممسكًا إياه، ولكنه قذفني في كتفي، ونبر: - أيها الصعلوك، أتظنني انتهيت، أيها الصعلوك؟ جمع نفسه قرب صندوق القمامة الباذل لآخر سحابات الدخان، وأغمض عينيه في البرد القاصص للحديد دون أن يبذل أدنى حركة. قعدت على الرصيف، وأخذت جرعتي الثالثة، وأنا أنظر إلى آخر الزقاق الدامس الصامت صمت الأخرس الصارخ في البرية أو السكين الملقى بعد جريمة. كانت بيوت بعض الأغنياء المتعاطين للمال لا السياسة تنبت كالدمامل المحظوظة على جيد باريس هنا وهناك، وهنا وهناك صناديق قمامة على العتبات ترمز في الوضع الكارثي العام إلى الرفاهية، صناديق عبارة عن ثروة بالفعل للارتياد والاكتشاف، بعضها كان منبوشًا، وبعضها كان مقذوفًا: ربما فعل ذلك كلب هامشيّ، ربما فعل ذلك رجل عاديّ... نظرت إلى المتسول دون أن تند عنه دومًا أدنى حركة، إلى وجهه، فصفعتني وجوه كثيرة في جنات أهلي الطالحات التي تنبت هنا وهناك على كف العالم. وأنا أجمع ثوبي حولي، انبثقت من قلب الظلام فراشات بيضاء راحت ترفرف في كل مكان. بدأ الثلج يتساقط، وأخذ التعب يضمني بين ذراعيه بحنان باز. وضعت رأسي على حافة الرصيف، ومن كان معي في جسدي قد نام.
* * *
قلت للبارمان: واحد قهوة. فلم يحرك البارمان ساكنًا، كانت لحية خشنة تحتل وجهه، والبرد يجمّد عظمه، فها هو يلتف بغطاء من الخيش الممزق، ويترامى كالدب الكسول على طاولة الشرب، ويقفقف. التفتُّ من حولي، فوجدت بعض الزبائن الملتحين المقفقفين يترامون هم أيضًا على كراسي عالية جدًا تصل السقف وأخرى قصيرة جدًا ترتفع قليلاً عن الأرض، وكأنهم أجدادنا رجال المغاور. التفتُّ إلى النوافذ، كان الجليد يقاتلها بعنف الوحوش الضارية، بلونه الأبيض الجميل، يدق مخالبه في الزجاج هنا وهناك بعد أن استسلم وانكسر. وأنا في طريقي لآخذ مكانًا قرب المدفأة المتراكمة عليها نسائج العناكب، اندفع باب المقهى، ودخل أحد العمال الملتحين بطاقمه الأزرق المبقع. قال للبارمان بشفتيه المنتفختين، وهو ينفخ من شدة البرد: - واحد قهوة مع الكرواسان. فرفع البارمان رأسه بتثاقل، وبذل بسمة هزء وسخرية، وكأن ما سمعه يسليه، ثم عاد وأسقط رأسه بين ذراعيه المتجمدتين، وترك عينيه تحملقان دون أن تند عنه أدنى حركة. قلت لنفسي: هذا واحد يموت من قر الشتاء الهاجم على باريس جيشًا لا يرحم! رفع رأسه المتثاقل من جديد على اندفاع الباب، ودخول أحد العجائز الحليقين، ونهض بجسمه الدبي متثاقلاً حقًا، ولكن بحفاوة محاولاً أن يبذل أقصى جهد في مقاومة البرد المحدق بالمقهى من كل جانب: - صباح الخير، يا سيد مارشيتون، البرد شديد! قال السيد مارشيتون، وهو لا يبدو عليه التأثر بالبرد: - ليس شديدًا جدًا! - كما تريد، يا سيد مارشيتون. وحاول البارمان أن يقول جملته دون صعوبة في النطق من شدة البرد: - أتمنى أن تكون قد نمت جيدًا، يا سيد مارشيتون. أدار السيد مارشيتون رأسه دون أن يتفقد شيئًا معينًا، فانتبه بعض الزبائن إلى حضوره، حضور ملك من ملوك مسرح شاتليه. لحس شفتيه، وقال دون حماس: - مثل كل ليلة. - كالعادة، يا سيد مارشيتون. - نعم، كما تقول، كالعادة. ابتسم بعض الزبائن على لهجته، وضحك البعض الآخر على منطقه في هذا البرد الكاسح. سمعت البارمان يمالق السيد مارشيتون، وهو يسأل: - ماذا يأخذ سيد مارشيتون، قهوته ثم بيرته كالعادة؟ فثغثغ السيد مارشيتون: - ها أنت حزرتها! قهوتي ثم بيرتي كالعادة! أطلق البارمان ضحكة مهنية مرددًا "كالعادة"، وقد استعاد نشاطه دفعة واحدة. وضع حفنتي بن بواسطة مفتاح أداره مرتين داخل يد حديدية ثم ضغط اليد في آلة تحضير القهوة الإكسبرس البخارية. أحضر فنجان القهوة لزبونه المحظوظ، وأتبعه بزجاجة بيرة سمراء، وهو يقول مداعبًا: - السيد مارشيتون لا يتغير، السيد مارشيتون لا يتغير أبدًا! نظرت إلى السيد مارشيتون ذي الذقن الحليقة المتأنقة المتصابية بينما كان يتشبث بفنجان قهوته وكأس بيرته تشبث الحاكم المترهل بسلطة لا يفسح المجال للشباب من جماعته بانتزاعها. ولكنني قلت ما الفائدة ولهم كلهم الأسلوب نفسه والخطاب نفسه؟ سمعت السيد مارشيتون يقول مع زفرة تعب وعياء: - أسبوع عمل طويل بالانتظار، سبعة أيام يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة دون توقف وعلى الأكتاف هذا السمك الطائر المدعو بجراد الماء المهلك للعمال... العمال... العمال... العمال... علق البارمان متفكه!ا منقذًا إياه من كلمة تعلق دومًا بلسانه: - ما زلت شابًا، يا سيد مارشيتون، ما زلت شابًا! اندفع باب المقهى، ودخل من دعاه السيد مارشيتون ب "فرانسيس"، فسأله فرانسيس إذا كان سيشارك في احتلال الباستيل أم ماذا. التفت السيد مارشيتون إلى البارمان، وقال بلهجته المثيرة لضحك الحاضرين المخففة لإحساسهم بالبرد المساعدة على تزجية بعض الوقت: - أيها البارمان ألم اقل لك منذ لحظة واحدة فقط إن أسبوعَ عملٍ طويلاً بالانتظار؟ فانفجر الكل ضاحكًا، أما أنا فلم يعد السيد مارشيتون يضحكني، كان يحزنني أن أراه وجماعته يخسرون، وبعضهم في غبائهم يوغلون. أقره البارمان بهزة من رأسه، وفرانسيس يسأل مع بداية غضب: - ماذا تعني؟ تردد السيد مارشيتون، وتلعثم قبل أن يجيب: - أعني أنني سأشارك. ابتسم فرانسيس، وقال: - أنتم أملنا الوحيد في هذا البلد، فلا تخيبوا أملنا. وكان فرانسيس صادقًا. التفت إلينا، وراح يخاطبنا: - رأيت في ليلتي الماضية حلمًا غريبًا، كان لويس السادس عشر صاحب مصنعنا الحديث يحلم هو الآخر بأنه يخنقني بمخدته الحريرية، وفي الصباح يجدني واقفًا وراء آلتي الجبارة، يحلم بأنه يمتص دمي مثل دراكيلا بريء، وفي الصباح يجدني أطالب بالخبز والحطب بدم أكثر غزارة وحرارة، يحلم بأن زبانيته من الزاغ والجراد يقيدونني، ويمنعونني عنكم وعن أصحابنا المرميين بين حجارة الباستيل الرطبة رطوبة الكهوف والقبور، وفي الصباح يجدني بصحبتكم، فنتقدم عازمين باتجاهه، ونلقي به في السين، ويقاوم الأمواج بينما يضحك السمك عليه. انطلق ضحكٌ فضيّ الجرس في القاعة، وأنا أبتسم، ولم يعد هناك مكان لقدم واحدة في المقهى. ثار الصخب، وتباينت الآراء حول احتلال الباستيل، انتهى البرد، وانتسى. أخيرًا تم إعداد قهوتي، فحملت فنجاني، وأخذت بجرعه كمن يجرع غيظه. وأنا أبتلع جرعتي الأخيرة، أحسست بفمي لزجًا وبطعم بدا لي غريبًا. بصقت في منديلي، ولوثته بالدم. غادرت المقهى بسرعة، وأنا أبصق على الأرض، وألوثها بالدم. سارعت إلى مقعد، وأنا أمسح الدم الذي يسيل من جانبيْ فمي، وأكاد أفقد عقلي. صحت: الغوث! الغوث! لم يجئ أحد إليّ، لم تجئ حشرة إليّ! توقفت عيناي فجأة على لطخة دم تحت قدميّ بدأت تتسع كبحيرة. بحيرة دم بدأت تغلي بصمت كالطين الأحمر أو المعدن المذاب. استولى عليّ القلق عندما أخذ سطح الدم يرتفع كما لو كانت ترفعه آلافٌ من أصابع انتهت بتمزيقه. أخذ يغلي لزجًا لزوجة الحُمَم. ومن تلك الأعين المفتوحة انبثقت ذراع مقطوعة جمدت أصابعها في الهواء. دفعني القلق إلى التعلق بذراعي، لم تكن لي ذراع، ومن كتفي كان يتفجر شلال دم. نهضت، وأنا أصرخ، وأركض مرتعبًا، ولكن ما سمرني في مكاني أقرب إلى العجب العجاب: ثلاثة أرانب بيضاء ولدت من دمي. قفزت على مرآي هاربة فوق الحشيش. ركضتُ من ورائها، وسألتها: كيف تهربين وأنت مني؟ كيف تهربين وأنت دمي؟ عادت الأرانب الثلاثة، وهي تعتق من بدنها الأولاد الثلاثة. رحت أجر نفسي جرًا، والأولاد الثلاثة يتبعونني، وما لبثوا أن قفزوا، وساروا إلى جانبي. أفقت من نومي على يد تنزع عن صدري كلمتي "العامل الأجنبي" ثم تنطلق في فحم الزقاق الأبيض، وهي تصفق، وأتاني الصوت المحير المطاردني يطلب إليّ: - قم وانهض إلى ريمي لتنقذه من ريمي. انهض إليه وأنقذه منه. كانت دهشتي كبيرة نجمة صاعدة يشدك بريقها وانتشار البريق في كبد السماء المدلهم، كنت قد سبرت صاحبة الصوت، وعرفت فيه صاحبتي روزالي، فنهضت إليها مرتبكًا، وناديتها مبتهلاً، وكررت النداء في الأرجاء، وكررت الأصداء في الأعماق.
* * * لاحظت كيف عبثتُ في جسد الطريق بقدمي من جراء الحلم، كان ذلك واضحًا من بعثرتي للثلج في ألف اتجاه. لمستُ ذراعي بنفس قلقي في الحلم، فكانت ذراعي معلقة في مكانها، ولكنها تتساقط شبه ميتة. نقلتها كالمشلولة، فتشت عن الأولاد الثلاثة الذين خرجوا من أبدان الأرانب الثلاثة، فعثرت على ثلج أبيض يزداد بياضًا كلما ازداد سقوط الثلج. كان إحساس لدي يقول: شيء ما قد وقع لي خلال نومي. وبينما أنا أنفض الثلج عني وأُعتم لآلئه، أدركت كل شيء: سرقوني بطاقة هويتي ونقودي وتركوا لي فقط صورة أمي. تذكرت المتسول، فبحثت عنه دون أن أعثر عليه. جمعت نفسي في معطفي، وسرت لا أدري إلى أين وأدري لماذا بعد مطلب روزالي إليّ. كان عليّ أن أجد ريمي بأية طريقة، في أية طريق، أن أجده، وأجد ناتالي، فأنقذه منه، وأنقذها مني في هذا المصاب العام المدمرنا في مأتم السين الحبيب. قطعت طرقًا لا أعرفها، مررت بطريق لم أقصد المرور بها، قلت على الأقل أبتعد قليلاً عن خطواتي في هذا الليل المومس في هذه الناحية المضببة المنبعثة من سجادته البيضاء رائحة الموت المثلجة وخفافيش الخراب المحظوظة التي يمكن أن تنبثق في أية لحظة. وبينا كنت أعبر أحد الأزقة، وصلتني صرخات امرأة قانطة من محطة مترو محطمة، فهبطت أجري على نداءاتها المستغيثة لأرى ثلاثة من شمال إفريقيا المحرومين يغتصبونها على مرأى ومسمع المشردين الضائعين من كل جنس المقيمين في أنفاق المترو الأكثر أمانًا ودفئًا من أي مكان آخر سواء أكان هذا المكان في ظلال متاحف باريس أو تحت قناطر سينها. كان المقيمون في النفق يتابعون مشهد الاغتصاب بحذر أو خوف أو لامبالاة وببعض المتعة عندما أتيت وأتى من ورائي الأولاد الثلاثة الذين خرجوا من دمي لما كانوا أرانب في الحلم، سبقوني للدفاع عن المرأة المغتصبة، ونشب عراك بينهم وبين رجال جراد الموت تحول إلى معركة سدّسَ هؤلاء فيها مسدساتهم وسافوا سيوفهم. كان بعض المقيمين في نفق المترو قد سقطوا شهداء، وبعضهم الآخر قد فروا بشجاعة الأشباه، وأنا قد ذهبت أبحث في ركام عربات القطارات عن جثث الذين جاؤوا من الحلم، فلم أجد لا جثة حية ولا جثة ميتة. كان برد المكان هو المهيمن، فخرجت أكمل الطريق إلى مهمة كلفني بها وهم أو خيال أو شبح يطاردني في هجرتي تلك، لأن روزالي قد أماتها البحر أو أنها انتحرت، ولأنها أختٌ للسمك الذي ينام الآن في تراب السين بعد أن أصابته لعنة الجفاف والعساء لأول مرة منذ ألفي عام، منذ وجود زيتون الكرمل. كانت دوريات زاغ نابلس تتركني أعبر سبيلي دون كبير تدقيق في منطقة تهيمن عليها أكثر من رجال جراد الماء ذي الأحصنة الروبوتيكية، كان يكفيني أن أبرز لرجال الزاغ صورة أمي بدلاً من بطاقة هويتي التي فقدتها، وكنت أتابع بحذر أحيانًا وبإعجاب أحيانًا أخرى أفراد فرقهم وهم يتنقلون على جمالهم الميكانيكية بمهارة تفوق مهارة زملائهم من الجراد، ولكنني من وقت إلى آخر كنت لا أميز بينهم، فأرى الجمل حصانًا والحصان جملاً، الزاغ جرادًا والجراد زاغًا، وما كان يسعف عينيّ المضنيتين في ذلك الليل الثقيل المخيم ذوبان أجساد الزاغ في الظلام بسبب لونها الأسود، فلا يبدو منها شيء غير بريق العينين البربريّ في الوقت الذي كان فيه جراد الماء يسطع بكل لون، فتطغى ألوانه على لون الليل، وتجعله مزدانًا بالفاجعة. وصلني أنين رجل في صدد التعذيب، فحثثت خطاي صوبه، لتتضح لي إيقاعاتُ سيمفونيةِ اللكمات الحاقدة والصفعات المتحضرة... الصيحات المبحوحة والزفرات المغلولة... قلت ليس بمقدوره الصياح لأنهم حتمًا فاجأوه، واستنفدوا قواه منذ أول لحظة. خمسة سبعة أو تسعة أو أكثر كانوا يعملون حوله بسياراتهم الفخمة المصفحة دائرة مغلقة، وحولهم تصفر الريح منطربة. كانوا يقومون بكل تلك الحركات البهلوانية في طبق الليل غير المنسجمة مع كل تلك الفاجعة التي تتسلى بها الريح، ولكن بكل حرية. قلت سيهلكونه، وتساءلت أين أنتم يا أولاد الحلم؟ دون أن أنقطع عن الاقتراب من حفلة التعذيب الممتعة. رأيت قدمًا ترتفع كلما سدد أحدهم في بطنه لكمة وترتخي، ترتفع وترتخي، ترتفع وترتخي، إلى أن صارت عضوًا ملائكيًا طيعًا! دنوت في لطخات الدم، واجتاحتني في البرد الساحق حرارة شديدة. انبثقت في أعماقي رغبة بل حاجة لأن آخذ وأعطي، ولكن جرأتي لم تكن كافية. هؤلاء الملاعين أبناء جهنم هم الذين طاردوني وأرهبوني، والذين كانت أزقة باريس ملكًا لهم، وساحات باريس، وتماثيل باريس، ودم قلبي كان ملكًا لهم. سألت ماذا تريدون من هذا الغجري الحديث؟ خذوا دمي وللبراءةِ اتركوه. كنت قد اصطدمت بقدم محطمة، وأسنان متشظية، ولطخات شفافة ترشق الدنيا ولا تلوثها... ولطخات أخرى، ولطخات، وأقدار تقهقه ساخرة. كانت القدم تحاول الحركة لتقفز، وتعض، وتعوي، وتهجم، ثم لا تلبث أن تتراخى مثل دودة، تحاول الحركة من جديد، ثم لا تلبث أن تتراخى مثل حبل مشنقة. لم أعد أتساءل لماذا يعذبون الرجل أو ماذا فعل لهم كي يعذبوه عندما عرفته على الرغم من الليل والجروح والعبودية، يكفي أن أعرف فيه صديقي محمد الفاسيّ لتصبح تساؤلاتي الطبيعية لا إنسانية. وفي لحظة غياب قصيرة ضيعني فيها مصير محمد الفاسيّ الذي تركته جان دارك هذه المرة وحيدًا يواجه فيها مصيره كانوا قد انقضوا عليّ، وراحوا يسددون لكماتهم إلى وجهي وبطني وروحي وعقلي. طرحوني على الرصيف الخائن خيانته لنعال الناس المخلصة التي اهترأت عليه، وبدأوا بتنفيذ جريمتهم الصغيرة فيّ، جريمتهم الشرعية الغالي أنا عليها: كعب ارتفعت ودقت صدغي، كعب ارتفعت وشجت أنفي، كعب ارتفعت وفتحت رأسي، كعب ارتفعت وهبطت، ارتفعت وهبطت، عادت وارتفعت وهبطت... لم أعد أحس بألمي العنيد، ألمي العتيد، تخدرتُ، ولم أعد أسمع إلا أنيني الحقيقي. كان واحد منهم قد صب على محمد الفاسيّ مقدارًا من البنزين الجيد النوع، وأشعله بعود ثقاب أخير كان لديه، ثم انخطف هو وأصحابه راكضين إلى سياراتهم الفخمة المصفحة في اللحظة التي أتت فيها ثلة من جراد الأحصنة الروبوتيكية. رفعتني عن الأرض صرخات محمد الفاسيّ المرتعبة المرعبة، خلعت معطفي بصعوبة، ورميت بنفسي عليه، وأنا ألفه حتى أطفأته. احترق نصف محمد الفاسيّ، وغدا وجهه أسود من زفت الشارع المرمي عليه بجسد الكركدن المتكاسل الذي له. توقف عن الصراخ فجأة، كان قد فقد وعيه. أخذت في جره إلى الشارع العام، وأنا ألهث، وأسعل، وفي شراييني أنصال الألم الذي ما عرفته روزالي في البحر، غير الذي عرفته روزالي في البحر، ما يعرفه الآن شبحها الرائف بريمي. جاءت سيارة فخمة مصفحة من بعيد ليس أبعد من خط جهنم الذي قمت ووقفت بقامة متهاوية في عرضه، ورحت أرفع يدًا منكلاً بها قصد إيقافها، وكأن السائق لم يقع عليّ إلا في آخر لحظة من رقصة المذبوح، انحرف انحرافًا شديدًا، ولم يتدارك صدمي. قذفني بضعة أمتار، ودخل في سيارة فخمة مصفحة كانت واقفة، وهو يصيح صيحته الخصوصية صيحته الحميمية: - اللعنة! وهو يقفز من سيارته باتجاهي قفزته الخصوصية قفزته الحميمية، وهو يعود ويردد شتيمته الخصوصية شتيمته المؤنبة: - اللعنة! اللعنة! توقفت سيارة فخمة مصفحة ثانية، وهذه الصيحة الخصوصية الصيحة الحميمية التي مثل سابقتها تسأل إذا ما كنت ثملاً: - هل هو سكران هذا "اللا تلمس صديقي"؟ أجاب مرتكب الحادث جوابه الخصوصي جوابه الطفولي جوابه البريء جوابه الصادق على السريع: - كان يقف في وسط الشارع، وكنت أقود سيارتي بكل سرعتي، وإذا... في الوقت الذي قلبتني فيه يد أحد أفراد ثلة الأحصنة الروبوتيكية، وجاء صوته متهيبًا مؤنبًا، ولكن برفق وهدوء وتوءدة: - لقد قتلته! والرجل يردد حانقًا مني ومن صدمي أنا لسيارته، لأنني جرحتها له عندما ضّرَبَتْ لي جسدي، ولأنني لوثتها له عندما أسالت لي دمي: - اللعنة! اللعنة! اللعنة! توقفت سيارة فخمة مصفحة ثالثة، وجاء صوت مستفسر صوت خصوصي العذوبة: - ماذا هنالك؟ أجاب رجل الجراد: - قتل هذا السيد أحدهم، هذا كل ما هنالك. مما جعل قاتلي يصيح صيحته المرتعبة صيحته الخصوصية بنبرة من الرعب والترعيب: - ولكنك مجنون أيتها الجرادة! قلت لك كان يقف مترنحًا وسط الشارع هذا السكير القذر بينما كنت قادمًا بأقصى سرعة! أتت ثلة من زاغ نابلس على جمالها الميكانيكية بسرعة من أقصى الطريق دون أن يبدو منها سوى بريق عينيها الساطع، سمعت بعضها ينعق، ويصفق بجناحيه على مرآي بحنق وغضب. تناثرت الأقدام متفرقة، والرجل لم يزل يقذف شتائمه الخصوصية التي تمتعه وتخفف عنه الشيء الكثير من مصابه الكبير فيّ: - القذر! القذر! القذر! قال رجل جراد الماء لزملائه: - يجب أن تطلبوا عربة إسعاف وإلا قضى نحبه. وقاتلي يضغط أسنانه الخصوصية أسنانه المتأثرة جدًا بموقف صاحبها الذي يلوثها بشتائمه غير المؤدبة جد الخصوصية: - خراء! خراء! خراء! كان حديث حاد قد نشب بين راكبي الأحصنة الروبوتيكية وراكبي الجمال الميكانيكية، فطلب أحد رجال الزاغ بطاقة هويتي ليفحصها بعد أن رفض اعتبار صورة أمي كما كان دأبهم معي، ثم لم يتردد عن صفعي، وضربي بكعبه على جروحي لولا تدخل أحد رجال جراد الماء، وطلب إلى زملائه التعجيل بإحضار عربة إسعاف أمام دهشتي الكبيرة، وما لبث أن راح مثل رجل الزاغ يصفعني، ويضربني بكعبه على جروحي، فقال رجل الزاغ: - هذا واحد منا، وأحرى بنا أن نعالجه نحن... نعالجه نحن أو نقتله. وعاد يسدد لي الضربات بكعبه، وأنا أهمهم أين أنت يا غافروش وأين أخواك؟ أين أنتم يا أولاد الحلم؟ أين أنتم يا أولاد الدم؟ أين أنتم يا أولاد فرنسا الجميلين؟ لأسمع في اللحظة ذاتها أحد الأولاد يقول بصوته الرنان المتحدي: - هذا واحد ليس منكم ولا منهم، هذا أبونا، ونحن أولاده. فابتسم دمي، وابتسمت روحي، وابتسم عقلي، وشدني الأولاد الثلاثة إلى قلوبهم بعد أن رفعوني عن الأرض في اللحظة التي اجتمع فيها رجال الزاغ ورجال جراد الماء ضد أولادي الشقر الشعر الزرق أو الخضر العيون، وما لبث راكبو الأحصنة الروبوتيكية والجمال الميكانيكية أن راحوا يتبادلون التهم والشتائم. قال الأولون إن هؤلاء الأولاد الثلاثة جواسيس للآخرين، وقال الآخرون إن هؤلاء الأولاد الثلاثة جواسيس للأولين، وتحول الأمر ما بينهم إلى معركة حامية الوطيس شملت الطرفين لما صاحت امرأة ذات قلب حنون عندما رأت صديقي محمد الفاسيّ يرقد في رماده على الأرض، ويرأب صدوعها بصمغ لحمه، كانت المرأة الناعمة قد صاحت بزوجها مناديةً لخوفها من رجل الرماد وكتلة الصمغ التي صارها محمدٌ الفاسيّ: - أنظر يا جاك، رجل محترق نصفه صمغ ونصفه رماد أشبه برماد سجائرك!
***
كانت المعركة التي دارت بسبب غافروش الصغير وأخويه جهنمية جبارة بين جراد الماء الخارج من بطن السين وزاغ نابلس الخارج من بطن التاريخ، وكانت جحافلهم قد أتت كلها، واجتمعت في حقل مارس الذي اكتسحوه بسنابك خيولهم الروبوتيكية وبوابيج بعرانهم الميكانيكية دون أن يخطر ببالهم غضب أمي لمثل هذا الفعل الشائن. كان الدم الذي راحت تنضح به الجروح القاتلة وتقذفه الأفواه قبل أن تسلم الأجساد أرواحها قد زأر ورعد في نهر السين جبارًا، وقد رفع على قمم أمواجه المتلاطمة باريس كلها، وصارت باريس بشعبها مثل باخرة عظمى تمخر المحيط ذكرتني بفلك نوح لما مخرنا فيه لأول مرة. وكان السمك الذي يحبنا ونحبه قد خرج من الأحشاء اليابسة للنهر الحبيب، ونادى عليّ لأَبْشُرَ بانتهاءِ مأتمٍ كانت لياليه السبع بقدر سبع سنين طويلة من عمرنا، فابشر يا عليّ، هكذا قال السمك، ابشر بانتهاء المأتم الفاجع، وهو ينظر إليّ، وأنا أنظر إليه عساني أن أهتدي إلى إخوتي وأخواتي، عساني أن أجد أمي وقدر البحر أخي الأُخطبوط، فأذهب على أكتافه بحثًا عن الذي لا يريدني أن أجده. كان عليّ أن أداوي جراحي وجراح صديقي محمد الفاسيّ أولا بعد أن نقلنا الأولاد الثلاثة إلى أقرب مستشفى.
الفصل 20
ريمي يبحث عن عمل... لا تثق إلا بالبحر!
مثل ضربة حافر! ضربة واحدة لسبع وأربعين فتاة يشبهن أولئك اللواتي في مسرح شاتليه أو ربما كن ذاتهن، كانت الواحدة أجمل من الأخرى، وهن لشدة جمالهن كن يقلن أقعد للقمر لنطلع مكانك! نظرت إليهن، وهن يرقصن في مايوهاتهن البراقة، وعلى رؤوسهن قبعات مزدانة بالأرياش. ظننت أنني في أحد ملاهي شيكاغو، في الثلاثينات، وليس في ملهى الليدو، في باريس. كانت الموسيقى صاخبة، وضجة الجمهور متوافقة مع إيقاع الراقصات اللواتي تأبطن الذراع، ورحن يدرن في حلقات، وهن يرمين بأيديهن إلى أعلى بينما يثنين رؤوسهن قليلاً إلى الوراء، فيصنعن وردة، وكلما رمين بأيديهن إلى أعلى أطلقن صيحة. فكرت دون حماس: هؤلاء هن عملاقات شيول SCHEOL! كنت آخذ مجلسًا على طاولة الشرب المزدحمة بالزبائن الأنيقين في ليلة عادية من ليالي باريس بعد أن عادت طقوس لياليها إليها. سمعت كهلاً في السبعين وعاهرة في السابعة عشرة، وهما يتبادلان عبارات الغزل. كان يلتصق بها، ويمرر خاتمه المرصع بحجر ماسي ضخم على زندها، وعندما كان يتكلم كان يأخذ بالهمهمة بشفتيه الغليظتين بطريقة منفرة، والعاهرة الصغيرة تحتمل طريقته دون اشمئزاز، وترى في التصاقه بها من طبيعة عملها، فكيف ستكون طبيعة عملي يا ترى؟ جرع الكهل ما تبقى من ويسكي في كأسه دفعة واحدة، وغادر المكان مع العاهرة بعجلة. علق ليوتون البارمان الذي كنت أعرفه وأعرف أنه يبتسم لي لأسباب شخصية وفي الوقت ذاته يكرهني لأنه يكرهني ولأنه يغير مني: - ربما كانت ليلته الأخيرة. أضاف وهو يلمّع إحدى الكؤوس بقماشة: - هذا ما أقوله في كل مرة يذهب مع واحدة، لكنه لا يلبث أن يعود ليذهب مع أخرى في الليلة التالية. قلت لليوتون: - وما دخلك أنت؟ هل هي أختك التي يذهب معها؟ ضحك ليوتون دون أن ينجح في إخفاء امتعاضه، وأنا أتابع: - تتمنى أن تكون مكانه لتذهب مع واحدة كل ليلة، وتشعر بعظمتك بينما أنت لا تفلح إلا في تلميع الكؤوس لزبائن الملهى المشهورين. لم يضحك ليوتون هذه المرة، قال لي قبل أن يذهب إلى زبون فرقع إصبعيه: - سأفلح في تلميع مؤخرتك المغرية ذات يوم! ابتسمت للتهديد المبطن، ولكنني اعتبرته إطراءً من طرفه، وبعد أن أجاب على هاتفه الذي أطلق رنينًا مختنقًا في صخب الملهى، أتاني عابسًا، وقال لي: - الباترون بانتظارك. كرعت كأسي، ونهضت. - خذ الباب الأسود على اليمين هناك، سيصادفك ممر طويل، إنه الباب الذي في الوجه المقابل. قال ليوتون، وأنا أردد لنفسي: "لا تثق إلا بالبحر! لا تثق إلا بالبحر!" طلب إليّ الباترون جيسكاردتون: - اجلس. فجلست وأنا أفحصه: كان طويلاً، أصلع، يرتدي بذلة سهرة مرصعة بماسة ضخمة، في الخمسين. جلس بدوره، وسألني حذرًا: - منذ متى تعرف شيراكتون صاحب أحدث نظرية في انتصار شياطين الإيديولوجيا القدامى؟ - منذ فترة طويلة. قال جيسكاردتون، وهو يدفع ظهره المتطاول على كرسيه المرتفع: - أنا آسف، لا توجد عندي أشغال هذه الأيام. نهضت، وأردت مغاردة مكتبه، ولكنه استوقفني: - ماذا كانت مهنتك؟ قلت: سائق قطارات. همهم دون أن يفوه بكلمة. قلت: إنني أبحث عن أي عمل كان، هنا في الملهى... همهم دون أن يفوه بكلمة. - ... مثلا. عاد يهمهم من جديد دون أن يفوه بكلمة. - المهم أن أقوم بواجبي، حتى ولو اضطرني ذلك إلى القيام بعملي تطوعًا، فأكون قدوة للآخرين. لم يهمهم هذه المرة، ولكنه لم يفه بأية كلمة. قلت: إذن لقد قلت لي كلمتك. اتجهت صوب الباب، وهو يقول من ورائي: - للعمل هنا شروط، لنقل شروط مهنية معينة، أما أنت... التفتُ إليه، وأنا أنتظر "أما أنا" ماذا؟ - ... أما أنت فقد كنت سائق قطارات. وسأل بنبرة متأنية: - أي نوع من القطارات؟ - قطار بضائع. نهض من وراء مكتبه، وتقدم مني خفيفًا مثل ديكٍ خطوتين أو ثلاثًا: - لكنكم كلكم سواء، تأتون هنا، وفي أذهانكم فكرة أن تتبوأوا العرش، فيكون انحلالكم أسهل من أي شخص آخر. قلت: ومع ذلك نخلص لفكرتنا ولرب عملنا في آن. نبر: وما يدريني أنك مبعوث من طرف أخي وعدوي للاندساس؟ أقولها لك دون أن يسمعني أحد غيرك، لأنني وهو أمام الناس لا نظهر إلا بمظهر المتوحدين كالنار والحديد، أقصد كالحديد والحديد. لماذا لم يجد لك عملاً في ملهاه؟ - لأنني أنا من طلب العمل معك. نفد صبره: لماذا؟ - لأنني أعرف كما يعرف كل الناس أنك لا تطيقه وأنه لا يطيقك، أضف إلى ذلك لأنني معجب بمصباحك. وأنا أشير إلى مصباح طاولته بضوئه العظيم قبل أن أضيف: - ولأنني معك أستطيع أن أحقق طموحي باستقلالي، هذا الطموح الذي يفوق ربما طموح الهيمنة لديك. ولا تنس أنك أنت الذي كان رئيس كل ملاهي باريس. صاح جيسكاردتون: - وسأكونه في القريب العاجل على رأس كل ملاهي أوروبا. تمالك، وقال: - عند ذلك الوقت، لن يكون مكانك معي، فأنا لا أريد منافسة من أحد. سيكون مكانك مع غيري، وفي مكان آخر... مكان بعيد لا يدفعني إلى كرهك أو على الأقل لا يلزمني بإظهاره لك. اندفع بابه المنجد بجلد أسود، ودخل ابن ملك المال، في فمه سيجار ضخم، وعلى رأسه قبعة مزدانة بحنش ذهبي مرصع بالماس. أراد الباترون أن يقدمه لي، فقلت أعرفه، وقال يعرفني. جرى حديثهما عن مثلث الذهب في بيرماني ثم أخرج ابن ملك المال من جيبه بضع حزم من الدولارات الخضراء خضارَ بحار جنوب-شرق آسيا، ووضعها على المكتب. قال ابن ملك المال متأففًا: - قل لابن سعيد ولليوبولد وللوسط كله إن الأمر سيبقى أمرهم، وإلقاء التبعية على الغير لم يعد يقنع أحدًا، كما أن الجنوحية في باريس تتفاقم، لتكن هناك جنوحية معقولة تتناسب وصرخات ساستنا غير المعقولة وإلا تركتهم في الغائط وشأنهم. همهم جيسكاردتون: ليس الفتى من يقول كان أبي! وأراد صرفي بأية طريقة بعد الذي سمعت، فتوجه إليّ: - أما فيما يخص مسألتك، مر عليّ غدًا، وسأعطيك كلمتي. على خشبة الملهى، كانت كل واحدة من الراقصات الجميلات الأجمل من قمرٍ بدرٍ مصعّدٍ في أعالي السماء تتسلق ركاسة، وتقوم بالحركات المغرية المثيرة لحواس الحاضرين الدفينة. وفي غمرة الحماس والصخب جَعَلَتْ كل منهن ركاستها تخترقها من بين فخذيها، فتفجر الدم لاطمًا كل تلك الوجوه اللماعة. وعلى صراخ الإعجاب لمشهد الرعب ذاك، والتصفيق الحار، انطلقت قهقهات الراقصات قبل أن يتحولن إلى بنات آوى، ويأخذن بالعواء.
الفصل 21
ريمي، ناتالي، وبحيرة النساء
كنت واقفًا صامتًا في فُتْحَةِ الباب، وناتالي تراني كما لو كان بيننا درب طويل، وبعد ذلك لم تعد تراني. كانت تنحني جالسة على حافة سريرها في ثوبها الأسود وفي يدها كأسها الأبيض، وكانت تبدو كلعبة ملوثة أضناها العياء. أراحت كتفها على المخدة، وبدا وجهها المبودر بألفِ لونٍ مرعبٍ كقناع. كانت باروكتها الحمراء تسبب لها الألم في رأسها، وراحت في سكونها وتحت ثقل جفنيها تقول لي بصوت لم أكد أسمعه: - هذا أنت؟ وصلها صوتي، صوتي الجاف، وكأنه يخرج من حلقها: - الباب مفتوح. وأغلقتُ الباب. - هل هناك مطر... في الخارج؟ - البرد شديد. وأغلقتُ النافذة. وضعتُ معطفي، وجلست مقابلاً إياها. أخذتْ جرعة من كأسها بصعوبة، ووضعتْها بيد ترتعش على الطاولة القصيرة. لم تكن لديها القوة الكافية على رفع رأسها، وأبقت عينيها ثابتتي النظر إلى الأرض. - لم تعد هناك نافذة مفتوحة، ومنذ لحظة أغلقت الباب. نبرتُ بقوة وحب: - سأمنع عنك الريح وبرد الشتاء القاسي. - وهل يسقط المطر؟ - لا... هناك ضباب كثيف. - متى سيسقط المطر؟ - عندما تتوقفين عن البكاء. وبصعوبة بذلتْ ضحكة: - أنا أضحك، أترى؟ أنا أضحك! - أنتِ على وشك الموت. سَقَطْتُ على قدميها، ورفعتها من خاصرتيها، ورحت أرجو بابتهال وقوة: - لا تموتي! لا تموتي! استقام رأسها بصعوبة، وما لبث أن سقط إلى جانبٍ معطيًا التفاح لفمي: - من أجل أن أبقى شهوتك، أليس كذلك؟ رحت أقبلها من خدها الذي يسعى للحنان، أقبلها من جبينها الذي يحث على الصلاة، أقبلها من شعرها الذي يموج قمحًا أسود، وأنا أتعذب كالعاشق المهيض الجناح، وأبكي على مصيري، كنت أحبها بكل عواطفي حتى الموت. قلت لها كالمجنون بلعبة لا بامرأة: - لقد صرتُ بالغًا، وعليّ أن أختار لي زوجة، فاخترتك أنت من بين كل نساء العالم. لكنك لست امرأة مثل باقي النساء، أنت في أصلك بجعة مسحورة امرأة، في الليل بجعة وفي النهار ما أنت عليه الآن: هذه المرأة القانطة المتشيئة فيك ليست حقيقتك، ولتكوني حقيقتك تزوجيني، فتزول القوة الشيطانية لرقية السحر المؤذية، وتعودين بجعتي المفضلة، فليس أحب إلى قلبي في هذا الوجود غير اصطياد البجع في البحيرات الغارقة في الضباب. وابتهلتُ إليها: تزوجيني! ولكنها همهمت قانطة: لن أتزوجك! أبقى متشيئة ولا أتزوجك! صحتُ بها: عودي إلى حقيقتك بجعة أو إذا شئت بطة أو سمكة... فقط تزوجيني. عادت تهمهم مصممة: لن أتزوجك! أفلتُّها، فتساقطت على نفسها رخوةً، فتحت فمها، وراحت تقول همسًا، وهي تبذل جهدًا: - عندما يشتد البرد، يتساقط المطر، فيمتلئ الكون باللآلئ. وأنا كنت صغيرة، عشقت المطر المتساقط في شعاع القناديل. قبل أن تسقط لآلئ المطر على الأرض، وتذوب، كانت تضوي. وأنا كنت صغيرة، فتحت فمي للمطر المتساقط، فضوت في فمي بعض اللآلئ (أخَذَتْ نفسين قصيرين ونَطَقَتْ بصعوبة:) عندما يصبح الشتاء في منتصفه من العادة أن يسقط الثلج، فيصبح الليل أبيض، وتثمر بالثلج أشجار الحدائق. وأنا كنت صغيرة، لعبت في الحديقة، وأكلت بعض الثلج. وعندما يقترب الشتاء من الانتهاء تجتمع الدموع... قاطعتها آمرًا: - اخرسي! فلتخرسي! لكنها داومت على الكلام: - ... في مآقي البراعم، وإذا ما بكت تفتحت الورود في كل مكان. إنه الربيع... نعم، إنه الربيع! جفت الكلمات في حلقها، مدت أصابعها الراعشة إلى الكأس، ونقلتها إلى شفتيها، وقطعة الثلج تمنع تسرب المائع إلى فمها... فجأة، راحت تردد مأخوذة بوهم موسم لن يكون: - إنه الربيع... إنه الربيع... انفجرتُ مقهقهًا: - كفاك تهتهة! اختطفتُ من يدها الكأس، وكأنني اختطفت روحها. انفجرت عيناها بلا أثر، وتوتر حاجباها أيضًا بلا أثر، وبعد أن انفصلت شفتها السفلى عن العليا، راحت ترتعد كسنبلة في الريح. كانت قد ارتفعت قليلاً باتجاهي ثم تساقطت قطنًا منقوعًا، وانبعث عنها أنين الضعيف المستلب. عدت أطلب مبتهلاً: تزوجيني! تزوجيني! وهي تحرك رأسها على الجانبين رافضةً. لم أتمالك زمام نفسي، إذ رحت أصيح كالمجنون بامرأة لا بلعبة: - سأعيدك إلى الرائع فيك غصبًا عنك. وصفعتها. وَثَبَتْ كحيوان فزع منشبةً مخالبها في وجهي، وهي تهمر، وأنا أدفعها، إلى أن أطلقتني. قلت لها، وأنا ألتقط بعض أنفاسي: - في المرة القادمة سأقتلك! انفجرتْ تقهقه. عندما انتهت قهقهتها ملكها ذل شنيع، وحطمها الكرب من جديد. أعطيتها ظهري، وصرت مريضًا تتسلط عليّ فكرة الموت، ويطاردني شكل الانمساخ الذي يلبس ناتالي. وضعت على جهاز الأسطوانات قطعة بحيرة البجع، فانطلق تصفيق من المسرح، وصعد تشايكوفسكي إليّ، وراح يكرر عليّ: أنت ذلك الأمير فكنه، أنت ذاك الأمير فكنه! أخذت أمسح بالقطن جراحي، ثم رحت أدهن وجهي بالأصباغ والمساحيق، فقد آن الأوان كي أثأر لذاك الأمير الذي كان أنا دون أن أعرف. سأضاجعها بعنف، وأدخل في ألمها. سأمزقها مثل قطعة لحم بين أنياب كلب جائع، وأهمس في أذنها: يا شهوتي! يا شهوتي! ولا أعرف أنني أقتل شهوتي، ولا أعرف أن لذتي تجف رويدًا رويدًا في أحشائي، ولا أعرف أنني أسلخها عني. سأدغم عينيّ بكحل عيني روزالي، وسأصبغ شفتيّ بدم شفتي روزالي، ثم آتي لأنزع عنها ثيابها، وأبدأ بتطبيق حكايتي الموروثة في جسدها. سأشعر للحظات بأنني لست تائهًا في الأرض، وأنني لم أكن مطاردًا أو مطرودًا من قبل التاريخ. سأجمع شتاتي للحظات ما أن تنتهي حتى أمعن في التيه: فقد كنت أعمى! نقلتْ كأسها، وهي تحاول رفعها بجهد جهيد إلى شفتيها، ولكنها شاءت أن تسقط، فسقطت، وتحطمت. وكانت هي على وشك السقوط، والتحطم، فتلقفتها بذراعيّ. كنت عاريًا، ووجهي الشرس الذي اعتادته كان وجهها التوأم. رحت ألهث، ورحت أهتز، أرقص كالمحاربين القدامى قبل أن يخوضوا المعارك! تضاعف اهتزازي، وفي رأسي تفجرت الطبول. كانت خفيفة بين ذراعيّ، أنقلها مثل ريشة، وكلما قفزتُ كانت تطير مثل بجعة. أنا مجنون ما في شك! رفعتها عن الأرض لمرات، وهي تحدق في عينيّ الليليتين، تحدق في مستقبل أسود مجنون السواد يومئ لها قائلاً: تعالي، أنا هنا، تعالي! تدوخ، والطبول تقرع، وأنا ألهث في وجهها بشراسة ومسؤولية. إلى المضجع أيتها المرأة، إلى هلاكك، فهذه هي الحياة على حقيقتها. هناك تبدو الحقيقة واضحة كالشمس إلى أن تنشل كل قوى الكون فيك... إلى المضجع أيتها المرأة! إلى المضجع! سقط رأسها إلى الوراء، وصار رخوًا، ومع حركاتي الجنونية صار ينقذف يمنة ويسرة، وكأن الحياة قد فارقته. توقفتُ عند حافة سقوطي أنا الآخر، وفجأة، تركتها تسقط من بين ذراعيّ، فانعجن جسدها على المضجع. في الليل، صارت بجعة بيضاء واسعة العينين طويلة العنق رشيقة القامة، أتى تشايكوفسكي بساطوره الأهوج وشج رأسها، فخرجت من دمها بجعة ثانية أشد منها بياضًا ورشاقةً وجمالاً، فشج رأس هذه، فخرجت من دمها بجعة ثالثة أشد من سابقتها بياضًا ورشاقةً وجمالاً، فشج رأس هذه، فخرجت من دمها بجعة رابعة، وهكذا بقي يفعل إلى أن أتى على سبع وأربعين بجعة تحولت في النهار إلى سبع وأربعين فتاة كل فتاة تضاهي الأخرى بياضًا ورشاقةً وجمالاً، رأسها انفصل عن جسدها وجسدها انفصل عن رأسها، فجعلته خاتمته هذه مجنونًا. دخل على إثر ذلك مصحًا للأمراض العقلية، وبقي فيه إلى أن شج رأسه مجنون آخر قال إن اسمه ايزنشتاين، فخرجت من دمه ناتالي، فوضعتها وجهًا لوجه مع مصيرٍ كان تشايكوفسكي قد مَوْسَقَهُ في سيمفونيته المشجية.
الفصل 22
علي يشهد موت محمد الفاسيّ ومحمد الفاسيّ يرفض الموت في الجزائر
كان جسدي سجين الجبس على التقريب كله، واللفائف حول وجهي تجعل منه قناعًا موميائيًا مخيفًا: كانت لي عين واحدة ترى من حولها الذي أرى، وساقي المدفونة في الأبيض الصلب مرفوعة على حاملة. كانت عظامي مكسرة كسورًا غير حسابية يصعب تصحيحها، وقد أرادوا أن يصححوا لي على طريقتهم كسوري الوجودية. حيث كنا ننام في المستشفى كانت الحجرة مستطيلة، فيها سبعة أسرّة أو ثمانية، وكان صديقي محمد الفاسيّ المحترق يستلقي على سرير إلى يساري دون أن يبذل أدنى حركة. في تلك الليلة، أطلق محمد الفاسيّ نداءات مكابدة طالبًا الممرضة التي تعتني بنا ليلاً: - مدام! مدام! فلم تأت المدام. - مدام! مدام! ولم تأت المدام. ذهب مريض فرنسيّ كان يشاركني الحجرة في طلب الممرضة، فوجدها تضاجع ثعبانًا أسود جميلاً يمكن أن يكون أجمل ثعبان في الوجود، ولما سألها أن تأتي لترى ما يريده محمد الفاسيّ قالت: - لا أستطيع أن أفعل شيئًا لهذا السيد المتمارض دون إذن رئيسة القسم. ذهب المريض الفرنسيّ الذي يشاركنا الحجرة في طلب رئيسة القسم، فقالت: - لا أستطيع أن أفعل شيئًا لهذه الممرضة التي لا تتوقف عن التظاهر وعمل الإضرابات لأجل تحسين وضعها دون إذن طبيب القسم. ذهب المريض الفرنسيّ القلق على صديقي محمد الفاسيّ في طلب طبيب القسم، فقال: - لا أستطيع أن أفعل شيئًا لرئيسة القسم المتغيبة دومًا عن القسم دون إذن مدير المستشفى. ذهب المريض الفرنسيّ القلق على مريض مثله اسمه محمد الفاسيّ أو جان النيساوي أو غيره في طلب مدير المستشفى، فقال: - لا أستطيع أن أفعل شيئًا لطبيب القسم الذي قتل أكثر من واحد لجهله في الطب أو للامبالاته دون أن يأذن لي وزير الصحة بذلك. فتضاعف مرض المريض الفرنسيّ الذي يشاركنا حجرتنا، وعاد إلينا مخيبًا دون أن يتوقف محمد الفاسيّ عن نداءاته المكابدة: - مدام! مدام! قال المريض الفرنسيّ الزافر من الوجع لمحمد الفاسيّ: - لا تأمل بمجيء المدام، فهي لن تأتي إليك إلا بإذن من وزير الصحة المنشغل بحالته السيروبوزيتيف. إذا كنت محتاجًا إلى شيء قله لي. كنت أحس بموت محمد الفاسيّ على مقربة مني ولا أستطيع له شيئًا. سمعت جاري المريض الفرنسيّ يقول لمحمد الفاسيّ: - لو طلبت الذهاب إلى الجزائر لكان الأمر أهون لك. فحرك محمد الفاسيّ رأسه بيأس على الجانبين، وسمعته يزفر، ويبكي، ويهمهم: - لست جزائريًا، فلا تبعثوني إلى الجزائر، أفضل الموت على الذهاب إلى الجزائر. أمام رد فعل محمد الفاسيّ وحرارة دموعه، أخذ المريض الفرنسيّ يخفف عنه: - ولكنني أمزح يا هذا، أنا لا أعني ما قلته. ومحمد الفاسيّ يعود ويقول دون أن يقوى على القول لأوجاعه: - لست جزائريًا، فلا تبعثوني إلى الجزائر. والمريض الفرنسيّ يقول مداعبًا: أنت إذن غير جزائري! أتكون من النرويج؟ - هم يروجون هناك أن الجزائر للجزائريين لا لأحد آخر غيرهم من أجانب عرب أو غير عرب، وأنا لست جزائريًا. كان لي صديق فلسطيني يدرس هناك، لما تخرج أعطوا عملاً لكل أصحابه الجزائريين ما عداه، وهو الذي دون بلد، فمرض، وذهب إلى المستشفى، لكنهم أماتوه، ثم ألقوه في صندوقٍ للنفايات! راحت بعض فلول زاغ نابلس الأسود تضرب بمناقيرها الزجاج وهي تريد تكسيره في الوقت الذي انطلق فيه بعض المرضى الجزائريين في الحجرة المجاورة يطبلون ويغنون:
ولاد بلادي راية وبنات بلادي راية والسر عليهم بان وولاد الصحرا الباهية ما يقدر لهم فرسان
فأخذ محمد الفاسي يضرب وجهه المحترق بكلتا يديه، وقد انفجر شاتمًا باكيًا، وغدا أكثر يأسًا ووجعًا. أتت الممرضة تصرخ بهم أن هذا مستشفى وليس مرقصًا للعرب، وإذا كنتم أولاد الصحراء حقا، فاذهبوا إلى دياركم. نكسوا راياتهم، وتقهقر كل واحد إلى سريره. أمسك المريض الفرنسيّ الممرضة من ذراعها، وأتى بها إلى محمد الفاسيّ الذي عاد يردد "مدام مدام"... قالت له بصوتها الملعلع: - أنا هنا، فماذا تريد؟ فأطبق محمد الفاسيّ على فمه السكوت. أعادت الممرضة بعصبية: - ماذا تريد؟ وأخذت تحدث نفسها: لقد أطبق على فمه السكوت! عندما ذهبت راح محمد الفاسيّ يردد بآلية: مدام! مدام! اقترب منه المريض الفرنسيّ، وقال: - كانت المدام هنا، فأضعت فرصة لن تتكرر ثانية. ومحمد الفاسيّ مثل أسطوانة مجروحة: مدام! مدام! صاح الرجل: لقد ذهبت المدام! طلب محمد الفاسيّ إلى المريض الفرنسيّ: - هلا أخذتني إلى المرحاض؟ فاستنكر الآخر: ولكنك مجنون يا هذا! ليس بإمكانك الذهاب في حالتك هذه إلى المرحاض. ومحمد الفاسيّ بإلحاح يقول: أريد أن أبول. - سآتيك بوعاء البول، لا تتحرك. أتاه بالوعاء معاتبًا: - لماذا لم تقل منذ البداية بالله عليك؟ رفع عنه الغطاء ووضع الوعاء تحته، ثم أعاد عليه الغطاء، وطلب إليه: - خذ راحتك الآن. بعد قليل، سأله برفق: - هل انتهيت؟ فلم يجبه محمد الفاسيّ، وعندما سحب الرجل وعاء البول وجده فارغًا. قال بابتسامة غاضبة: - أيها اللعين! ابعث في المرة القادمة في طلب أمك كي تخريك! عندما ذهب الرجل إلى سريره، عاد محمد الفاسيّ إلى النداء: - مدام! مدام! وانفجر باكيًا دون صوت هذه المرة. أمسكه المريض الفرنسيّ من كتفه، وهزه: - ماذا بك؟ فسمعنا جميعا نقطًا تسقط على الأرض. في الصباح، أتى أحدهم بنقالة، وذهب بمحمد الفاسيّ بعيدًا عن حجرتنا. أخبروني أنه مات. أتتني بجعة بيضاء رشيقة القامة بعنقين آدميين، عنق لناتالي وعنق لروزالي، كانتا تبتسمان لي، قالتا لي لا تحزن على صديقك محمد الفاسيّ، هو الآن طائر من طيور الجنة. وأخرجتا من جناحي البجعة أربع أياد راحتا تنزعان بها اللفائف التي تحيط بوجهي من كل دربٍ وواد، وفي الوقت ذاته قناعًا مِصريًا عمره أكثر من خمسة آلاف عام. قالت لي روزالي، وهي تبتسم لوجهي: لن تجد ريمي بعد أن تبرأ، ولكن بعد أن تموت وتحيا، وقالت لي ناتالي، وهي تبتسم لوجهي: لن تجدني بعد أن تبرأ، ولكن بعد أن تموت وتحيا، وراحت كلتاهما تضحك عليّ، وتقهقه، ثم أخذ رأس ناتالي يضحك ورأس روزالي يبكي، وبعد ذلك أخذ رأس روزالي يضحك ورأس ناتالي يبكي، وقبل أن يتحول الرأسان إلى رأسي بجعة مزدوج في جسدٍ آدميٍّ رشيقٍ راقصٍ على كف بحيرة غائبة في ضباب الموت، أخذتا تبكيان معًا، وتنوحان، وأنا أنظر إليهما مهمومًا مدهوشًا مدحورًا، والدمع يتساقط على خدي مدرارًا.
الفصل 23
ناتالي تنام مع باترون الملهى وريمي يقبض الثمن ماسًا
توقف التاكسي أمام باب قصر الباترون جيسكاردتون، فنزلت منه أولاً، ثم أنزلتها، وهي تعتمد على ذراعي. كانت ناتالي خائرة القوى، ووجهها الشاحب يذوى من الحزن تحت غطاء التل المرمي عليه. ظلت تتشبث بذراعي طوال الطريق، وفستانها الطويل الحريري يضرب بساقي. كان التل على وجهها أسود، وأحمر الشفاه على ثغرها أسود. اعترضنا حرس جيسكاردتون الخاص، وأوقفنا رجاله ريثما تدخل القصر قوافل لأفارقة تحمل هدايا العاج وأمخاخ القرود والأحجار الكريمة التي من كل نوع وحجم، والأقنعة السود المحفورة على خشب الكافور، والتي عمرها يذهب إلى آلاف السنين. ودخلت قوافل لصينيين تحمل هدايا الشاي والأرز والتوت والسوجا وقصب السكر وأقمشة حريرية مطرزة باليد بآلاف الخيوط القزحية وشمعدانات تمثل عذابات طنطال من عهد الإمبراطورية وأحذية الأميرات التي حكت عنها بيرل بك الحديدية وإناءات قصديرية منقوشة بأسنان الطلاب المحكوم عليهم بالإعدام فورًا تحت الأنظار المتباكية لثلث سكان الكرة الأرضية. ودخلت قوافل لعرب من سلطنة عُمان تحمل هدايا الخيول المطهمة واللآلئ السود التي من بحر مسقط والخناجر المرصعة بالأحجار الكريمة التي من كل نوع وحجم والحليّ التي عمرها مئات الأعوام والخوابي الفخارية التي كان قدماؤهم يحفظون فيها أحشاء موتاهم. رافقنا أنا وناتالي حارس خاص إلى باب القصر الداخلي، وقرع الجرس، ففتحت لنا خادمة تربط شعرها على طريقة غولدا مائير، وهي في كامل أناقتها. أدخلتنا على التو إلى حجرة من بعد حجرة وكأننا نسعى سعي التائه السعيد في قصر بابليّ إلى أن وصلنا قاعة كبيرة باذخة لم أر أبذخ منها في حياتي، راحت أقدامنا تغوص في سجادها غوصها في بحر. وبينما نحن في وسط القاعة انفتح باب ضخم، فسمعنا الباترون جيسكاردتون، وهو يعنف زوجه النائحة، وزوجه تقول بقنوط: - إلى متى سأظل أنقذ المظاهر لأجلك؟ لم يتوقف الباترون عن تعنيف زوجه: - اعلمي شيئًا، أنا لا أسعى إلى الطلاق لا أنا ولا أولادي ولا أولاد أولادي، هكذا نحن أبًا عن جد، لهذا أريدك أن تحجّري عاطفتك، وأن تقبلي بالأمر الواقع. لم أعد أحبك هذا صحيح، ولكنك ستظلين زوجة وفية فوق كل حساب. - كيف أراك مع عشيقاتك وأسكتُ؟ - كيف رأيتني مع تلك الممثلة التي نسيت اسمها وسكتِ؟ - سكتُ لأنها لم تكن بالفعل عشيقتك، كانت مجرد إشاعة روجها الدساسون والحساد. - اعلمي شيئًا، أنا أقيم علاقاتي الجنسية لأنها شيء لطيف في مفهوم الناس عندنا، فلم نصبح برابرة بعد كما هم عليه الأمريكان من هذه الناحية. ظهر الباترون في فتحة الباب الذي من خشب كرز الطير الفخم، حنيت له رأسي تحيةً، وحنى لي رأسه تحيةً، دون أن يدنو خطوة واحدة في اتجاهنا، وقد رفعت ناتالي رأسها بصعوبة لتنظر إليه. نادى الباترون الخادمة باسمها: - تعالي يا مدام فيلتون، تعالي هنا! فذهبت إليه مدام فيلتون مرتبكة، همس لها عدة كلمات في أذنها أبلغتها لي في أذني: - يسأل الباترون إذا ما كانت يهودية. وهي تومئ حاجبها المرسوم بدقة إلى التمثال الصيني الذي كانته ناتالي. حركت رأسي نافيًا، فعادت فيلتون تقول لي في أذني: - يسأل الباترون إذا ما كان لها قريب يهودي. وهي تلقي على ناتالي نظرة مترددة. حركت رأسي نافيًا، فعادت الخادمة فيلتون تقول في أذني: - يسأل الباترون إذا كان أخوه الذي هو في الوقت ذاته عدوه قد قام بفعل الحب معها. وهي تتحاشى النظر إلى ناتالي مديرة وجهها إلى الناحية التي فيها عشرة فهود محنطة مفزعة. حركت رأسي نافيًا، فرسمت الخادمة فيلتون بسمة خفيفة على شفتيها، وقالت أيضا في أذني: - الآن لن تكون هناك عقدة ذنب لديه، فالباترون يحبنا. تفاجأت لصيغة الجمع التي استعملتها الخادمة، قلت لها: - وماذا يهم؟ لكل شيء ثمنه، أما إذا كان حساسًا إلى هذه الدرجة، ويحبنا إلى هذه الدرجة، فلا قلق لذلك. لم تعجبها كلماتي المباشرة ولا نبرتي البراغماتية أو صراحتي، قالت لي بعصبية: - من يزرع الشقاق يحصد الاشتراكية! فلم أقف جيدًا على ما تعنيه، وقلت حتمًا تتهته هذه الخادمة. أردت التحرك بناتالي إلى سيدها، ولكنها أوقفتني، وجعلت ناتالي تتقدم وحدها خائرة القوى دون أية مساعدة من أحد، فأخذها من يدها، وأدخلها الحجرة معه. ذهبت فيلتون بي إلى الطابق العلوي، وجعلتني أنظر من سقف غرفة الباترون المزجج إليه، وهو مع ناتالي: أجلسها على السرير، ورفع عن وجهها التل الأسود مثل طرحة عروس أرغمت على الزواج. أمضى لحظة في النظر إلى جمالها الفتاك، وهو متسمر في مكانه، ثم استعاض عن سكونه بحركة أصابعه، وهي تفك أقفال ثوبها، وهي تنزعه، وهي ترتعش على حافة نهديها اللذين برزا على حين غرة، وبذلا حركة الخضوع والتمرد معًا. رفعت رأسي إلى سقف الحجرة التي أنا فيها، فإذا بسبعة وأربعين سقفًا مزججًا، السقف فوق السقف، وفي اللحظة ذاتها انسحبت سبع وأربعون فتاة كن يشاهدن ما شاهدت، انسحبن بعجلة، وأخفين عني أنفسهن. جاءتني الخادمة فيلتون بعد اختفاء دام مدة من الزمن بصرة من المخمل، وهي تقول: - يطلب إليك سيدي العودة عند منتصف الليل. ورافقتني إلى الطابق الأرضي... فتحتُ الصرة المخملية، وجسست بأصابعي الظامئة حفنة من قطع الماس ذات أحجام صغيرة، وجسست قوة الثروة التي ستكبر وسعادتها. دفعت الماس في جيب صداري، وتركت بابل ريباسًا أسود في مهب الريح.
الفصل 24
واحدة تبذل جهدا لتبتسم لعلي وواحدة تذوب في البحر بين ذراعيه
لم أستطع متابعة الممرضة والممرض اللذين يعملان مقصهما في الجبس المحيط بساقي وقدمي، كانت هناك ممرضة ثانية جميلة أجمل ممرضة رأيتها في حياتي تمسح آثار الجراح على وجهي بمادة حارقة، وهي تبذل جهدًا لتبتسم لي، فأحس بوجهي كالنار في كانون جدي المتقد بالجمرات. أخبرتني أن التهابًا أزرق بنفسجيًا لم يزل تحت عيني، وفي الأخير أطرتني: - أنت جميل كإله! أطلقتُ صيحة موجعة، ليس لأنها قالت لي إنني جميل، ولكن بسبب القوة التي بذلها الممرض في سحب جبس قدمي. سألتني الممرضة الجميلة القلقة عليّ قلق أخرى على الذي قال في بيض الحمائم قبلي: ماذا بك؟ وهي تضمني حتى لا أبذل أقل حركة. قال الممرض: هذا بسبب مشط القدم. وطرقه مرتين، فآلمني بشدة: بما أنه يؤلمه، فهو لم يبرأ بعد، سنعيد تجبيره. بمعنى أنني لن أستطيع السير لفترة أخرى ستطول ربما. قالت لي الممرضة الجميلة دون أن أتوقع منها ذلك: - عندما تستطيع السير ستصطحبني إلى السينما. وهي تبذل جهدا لتبتسم لي. وَضَعَتْ لصقتين على خدي وتحت عيني بعد أن صبغت المكان بالميركروكروم، وسألتني: - هل ستفعل؟ لم أجبها، كنت أفكر في روزالي، وأتمنى أن تأتيني بجعةً أو حمامةً أو حتى واقاً، هذا لا يهم، المهم أن تأتيني، وأن تصطحب معها ناتالي. كان الممرض قد ذهب بعد أن أعاد تجبير قدمي، وأنا أضع قدمًا في عيبال وأخرى في جرزيم. غطتني الممرضتان، وإحداهما تقول للأخرى: - سيقفز من جديد عما قريب. - المسكين! لقد تعذب كثيرًا! - وستعود له حريته. - نعم، ستعود له حريته. سوت الممرضة الجميلة بأصابعها شعري، وهي تبذل دومًا جهدًا لتبتسم لي، بينما كنت أفكر أنني سأصطحبها إلى السينما متى استطعت السير، وعندما خرجت الممرضتان فكرت في جملتهما الأخيرة "ستعود له حريته". كان المرضى قد غادروا الحجرة مباشرة بعد موت صديقي محمد الفاسيّ، وبقيت وحدي بين أَسِرّة تعاقب عليها ألف مريض ومريض. وبينما أنا أفكر في كل هذه الأمور، في روزالي على وجه الخصوص، وفي ناتالي، خفت كثيرًا من صورتهما المزدوجة التي صارت تطاردني، فهل تكون ناتالي قد ماتت ولحقت بروزالي في عالم خيالي المضني؟ بحثت عن ظلهما دون أية فائدة. فجأة، وجدتني أبكي، ويد روزالي تمسح لي دمعي على خدي، وتطلب مني ألا أبكي، فناتالي لم تمت، ناتالي حية ترزق، تعيش دومًا بصحبة ريمي. قالت لي إن ريمي لم يندم بعد على فعلته، ولكنه يحبها بقدر حبي لها، أو ربما أكثر، فاستشطت غضبًا، وأقسمت أن أجعله غيره. ظلت روزالي تمسح بيدها الحانية على خدي، وتتلفظ بوضوح الناشد للملحمة القديمة:
الفيل ليس جميلا دون خرطومه الجمل ليس جميلا دون سنامه الذئب ليس جميلا دون أنيابه
أخذتني من وجنتيّ، وشدتني إلى صدرها مثل ولدها، ثم قبلتني من خدي، ومن جبيني، ومن رأسي، وعادت تشدني مثل ولدها إلى صدرها. رحت أحس برمانتيه الطريتين الفياضتين بلذيذ الحنين، بينما راحت تهمهم مرددة: - يا أيها الراعي، يا أيها المنقذ، يا أيها المنجّي، يا أيها الفادي، إن خلاص البشر على يديك، وريمي ما هو سوى واحد من البشر، فأنقذه قبل فوات الأوان. قلت لها متهكما لنطق شفتيها مندحرًا لحنين نهديها: - لقد فات الأوان. قالت: - عذاباتك ما هي سوى الثمن الذي ندفعه لسعاداتنا. دق لهيب شهوتي إليها، إلى نهديها، وخاصرتيها، وفرجها، وسرتها، دق في جسدي المتألم المتعب المتعذب، فقلت لها إنني أريد أن أمارس معها فعل الحب، وإنني أكره دور الأم الذي تمارسه في هذه الرعوية، فقالت ما هي سوى خيالٍ من الخيالات، فهي روحها بعد أن مات جسدها، وعندما يموت جسدي ستمارس روحانا فعل الحب في عالم الصورة العليا. قلت لها: - لكنني لا أريد لجسدي الموت من أجل شهوة ستكون إشراقية. - هذه هي لحظتك القادمة، لحظة تنهي أسباب التعب في هجرتك. - لهذا لا أريد الموت في لحظتي القادمة. - ستعطي في لحظتك القادمة كل عذاباتك لنا، وبعد ذلك ستتحرر، وتنفض عنك عبء الحياة، بعد ذلك ستفعل بروحك ما تشاء. ضمتني إلى صدرها مثل ولدها، وهي تقول: - بعد أن تغادر المستشفى لا تنس الذهاب إلى ريمي، لا تنس... لا تنس... لا تنس... أما أنا، فلا تفكر فيّ بعد الآن، لا تستحضرني، أتركني أعود إلى مكاني في بحر عكا أو بحر يافا أو البحر الميت، سأعود إلى مكاني في البحر الذي يمكنني أن أذوب فيه مثلما ذابت فيه من قبلي عائشة... وأنا أحس بها تذوب حولي وبين ذراعي إلى أن تلاشت بريقَ سيفٍ مسالمٍ بينما أصداء صوتها الراجي تصلني وهي تردد: - لتغفر لي... لتغفر لي...
الفصل 25
باترون الملهى يعطي عملاً لريمي وآخر لناتالي بين خطأ الوجود وخطأ القصيدة
قال لي الباترون: - ها أنا أعطيك عملاً من الأعمال التي أكرسها لأجل أن تنهض فرنسا، فتصبح من أقوى دول العالم، إذ أن مصالحها مصالحي ومصالحي مصالح أوروبا، ليس أية أوروبا، وإنما أوروبا المتحدة، فالوطنية الحديثة هي أوروبا، والوطنية الفرنسية هي الإتحاد في أوروبا، وإلا أصبحنا بلدًا ضعيفًا نعاني من الانحطاط الشيء الكثير سنة 2000. إن مصالح فرنسا لتكمن في أوروبا الليبرالية، وبفضل الدور الذي ستلعبه فرنسا الليبرالية في أوروبا الليبرالية سنغدو خلال خمس سنين بقوة أمريكا، فلا أريدك أن تخاف مما تقوله خادمتي فيلتون عندما لا تتوقف عن اجترار شيوعية، شيوعية، شيوعية! والادعاء بأن العالم مليء اليوم بالبلبلات والاضطرابات! أنا وهي على تكتيك عندما أردد وحدة، وحدة، وحدة، مقابل أن تردد أحمر، أحمر، أحمر! وفي حالة الأصولية مع انتهاء الشيوعية: أسود، أسود، أسود! كذلك إياك أن تخشى لوبنتون الذي بدأتُ السياسة وإياه سنة 1956 عندما لا يتوقف عن اجترار هجرة، هجرة، هجرة! لقد تفاقم احتلال المهاجرين لفرنسا هذا صحيح، ولكننا سنحافظ على استقلالنا وهويتنا وثقافتنا، ولن نقلق على مصيرنا بعد أن امحت حدود الاتحاد السوفياتي الذي كان على حدودنا. أنا وهو لدينا نفس الاهتمامات وليس نفس القيم، إذن لا تخش على وجودك عندنا شيئًا أيها المهاجر الأزلي! واعلم أن لوبنتون يخافك لأنني أخوفه بتاريخك، فيخافني بدوري، لندعه يردد إذن كما يشاء ويبغي أنني بطل الغموض، وأنني لست ضد مهاجري إسبانيا والبرتغال وضد مهاجري تركيا المسلمة وإفريقيا السوداء وشمالها، وأنني الناطق الرسمي لأحزاب الأجانب. فجأة صاح: - تحيا فرنسا الليبرالية! تحيا أوروبا الليبرالية! يحيا العالم الليبرالي! وتباكى الباز الليبرالي الذي فيه: - كل هذه التحايا لتجدني على الطرف النقيض للوبنتون، لوبنتون يريد فرنسا فرنسية في أوروبا أوروبية، لوبنتون مع أوروبا وطنية ضد أوروبا عالمية، أي هو وصاحبة الجلالة الضفدعة رئيسة جمهوريتنا الاشتراكية متفقان على الفشل في إيقاف البطالة والفقر في فرنسا وفي أوروبا والعالم وفي الوقت نفسه، وهذه هي النقطة الوحيدة التي أتفق فيها مع الخضر، النجاح في تفاقم الأزمة الإيكولوجية. أما الذي لا أتفق فيه أبدًا مع الحمر، فهو اجترارهم لتنهيض قوى اجتماعية ونقابية ووطنية وعمالية عمالية عمالية ضد قوى رأس المال إلى آخر الأسطوانة المعروفة، وأننا مكتسحون بهيمنة اليابان وأمريكا ما دامت الأولوية عندنا للاستثمارات الأمريكية الحبيبة على قلبي. أخذ عدة أنفاس قصيرة متلاحقة ثم نهض من وراء مكتبه، وشد على يدي مفخمًا كلماته: - ستكون أمين سري. تناول كأسين صب فيهما سائلاً كحوليًا ناولني إحداهما ورفع الأخرى ليشرب نخبي، وبعد أن أخذنا جرعة صغيرة، قال لي دون أن يشرح في الحال ما يريد شرحه: - أنت بحاجة إلى قليل من الشرح على التأكيد. كانت ناتالي في الوقت ذاته تُستقبل بتصفيق حار من طرف جمهور الملهى، ثم حط السكون مثل طائر شرس. كانت تقف من وراء الميكروفون، وهي من وراء قناع المساحيق جلدتها، وكانت أغنيتها الأولى بعد أن اكتشفها جيسكاردتون مباشرة عقب ليلته معها، وجعلها تمضي عقدًا للعمل لم تتردد في التوقيع عليه، فهي تعاني من مشكل بطالة مزمن، والتحول إلى الغناء على الرغم من صعوبته إلا أنه أسهل بكثير من أي عمل آخر، والشوبيز يسيطر سيطرة كاملة على وسائل الإعلام، ويكسب ذهبًا. يكفي أن تكون قد غنيت مرة واحدة في الحمام، وأن لديك الاستعداد لتكشف عن ثديك أو فخذك، ولترقص كما يجيء الرقص على أنغام الروك أو الراب أو حتى الهاوس ميوزك. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن لناتالي كانت بالفعل موهبتها في الغناء، كان لها صوت شجي يفرض على أذنك الإصغاء، وكانت الموسيقى قد انسابت، وناتالي قد بدأت تغني مقتطفات من "جندي يحلم بالزنابق البيضاء"*:
حدثني عن حبه الأول فيما بعد عن شوارع بعيدة وعن ردود الفعل بعد الحرب عن بطولة المذياع والجريدة سألته: أنلتقي؟ أجاب: في مدينة بعيدة.
* لمحمود درويش وكذلك القصائد الأخرى.
وانتبهت إلى الباترون وهو يقول: - إلى جانب كل هذا يجب أن تعود إلى مهنتك القديمة، ستسوق قطار بضائع الملهى مرة أو مرتين في الأسبوع، هكذا نبعد الشك من حولك، وتتواشج مصالحي ومصالح فرنسا. ولكنني كنت أفكر في حبي الأول، حبي لروزالي الذي بعثته أغنية ناتالي في نفسي دفعة واحدة، فاختنقت، خنقني حبي الأول، ورحت ألعن في صدري روزالي وأم روزالي والساعة التي عرفت فيها روزالي. تبدت لي شوارع عمري مغرقة في السواد وفي عدم الانتهاء وفي التمني المفزع لعدم استقراري ويأسي. رحت أعيد في رأسي تدمير الزنابق البيض التي قتلها عليّ ذات مرة في حلمه، وأنكل بجثثها التي أخرجتُها من طين السين، وأردت أن أصرخ بها: أنت مخطئة يا ناتالي كل الخطأ، فهي لم تكن في حلمي مثلما هي عليه في أغنيتك، لا هي ولا أغصان الزيتون ولا صدرك المورق أو زهر الليمون، كل هذا صورة للخطأ الملصق بي، والذي صار حقيقتي في اللحظة التي سمعتها فيها تواصل:
يحلم بالزنابق البيضاء بغصن زيتون بصدرها المورق في المساء يحلم –قال لي- بطائر بزهر ليمون ولم يفلسف حلمه ولم يفهم الأشياء إلا كما يحسها، يشمها يفهم –قال لي- إن الوطن أن أحتسي قهوة أمي أن أعود في المساء...
أردت أن اصرخ بها: وإلا كيف تريدينني أن أفهم الأشياء؟ طز فيك وفي الوطن ذاك القواد الذي أراه في سترة الباترون الأنيقة، طز في أمي وفي قهوتها وسيان عندي أن أعود إلى البيت في المساء أو لا أعود، المهم أنني أشتهيك... لكنني انتبهت إلى جيسكاردتون وهو يحدد لي أول عملية: - ستكون لك أول عملية ابتداء من الأسبوع القادم، وستصبح غنيًا برمش عين، أنا أقرأ أفكارك، لهذا وقع اختياري عليك، لأجلي، ولأجل مصالح فرنسا. بين اغتناء جيسكاردتون بمصالح فرنسا الأوروبية العالمية وغناء ناتالي الشجي الإنساني كنت أفضل نبرة صوتها المرمري في اللحظة التي سمعتها فيها تقول:
سألته: والأرض؟ قال: لا أعرفها ولا أحس أنها جلدي ونبضي مثلما يقال في القصائد وفجأة رأيتها كما أرى الحانوت... الشارع.... والجرائد سألته: تحبها؟ أجاب: حبي نزهة قصيرة أو كأس خمر أو مغامرة من أجلها تموت؟ كلا!
بل أموت وأميت أيتها الغبية، أُقتل وأَقتل، أكره وأحب مثل حب أخير، حبي الكبير لك، وأعرفها قبل أن أولد، قبل أن تولدي، فلا تكذبي باسمي، ولا تتقمصي على طريقتك شخصيتي... أحس بجلدك ونبضك، وأحس بأنك فيها جلدي ونبضي، لأنني اليوم أستطيع فرز عواطفي على الرغم من تداخلها، فأعاني من الصراع ما بينها ربما أكثر منه، ولأنني وإياه لم نعد في قلب المسافة سادرين. سيقف كلانا وجها لوجه عما قريب، عندما ينتهي غناؤك عني وعنه، ويبدأ عن ملحمة بنيهِ في التاريخ بعد تاريخ خطأي في حبك. سمعت جيسكاردتون يضفي على التحديد نوعا من التفسير: - قبل أن تصل الحدود الغربية هناك نقطة يجب التوقف فيها، ولإفراغ صناديق الأسلحة ستجد من يكون بانتظارك. أما بانتظارك أنت يا ذات اللحن الأشجى، فسيكون الإيغال في خطأ حبي لك، كي أموت من أجل خطأ الحب لا حب الخطأ، وهذا هو الموت العبثي المفضل من طرف التاريخ، الموت الفاجعي المؤشر إلى الخلود، وأسمعك تقولين العكس، وتؤكدين:
من أجلها تموت؟ كلا. وكل ما يربطني بالأرض من أواصر مقالة نارية... محاضرة! لقد علموني أن أحب حبها ولم أحس أن قلبي قلبها ولم أشم العشب والجذور والغصون كيف كان حبها يلسع كالشموس... كالحنين؟ أجابني مواجها: وسيلتي للحب بندقية وعودة الأعياد من خرائب قديمة وصمت تمثال قديم ضائع الزمان والهوية!
ربما كان الأمر صحيحا مثلما تقولين بالنسبة لأبي أما بالنسبة لي فسأواصل الخطأ بعذاب تارة وبسعادة تارة لئلا تتحول كلماتك إلى مجرد كلمات. انتبهت على أهم ما قاله الباترون لي، لغروري، لرجولتي، لصورتي وصورتك في التلفزيون الأمريكي، وربما لحبي مثلما تقولين: - ستتعلم ضرب النار، إن هذا ضروري من أجل منصبك الجديد. كي أحبك على طريقتي أكثر منه، أما إذا فشلت أكون قد حاولت، لأن لا قضاء ولا قدر للفشل، ولن أردد مثلما يردد الباترون في محله وفي غير محله ليس هناك إلا طريق واحد للنجاح هو طريق الإتحاد... الإتحاد نعم مع جسدك، الإتحاد بجسدك، الإتحاد في جسدك، في صميمك المتفجر بعدم الرغبة فيّ، ثم المتفجر بالرغبة فيّ بأمر جسدي المرغِم المتمرد القوي النافث القاذف الدبق الملعبط كسمك الأردن المخضل اخضلال العقارب النجدية، ثم الساكن سكون الريح على اليد المنبسطة بعد أن فتحت أصابعها وماتت. لم أسمعها، وهي تنهي أغنيتها، لم أشأ أن أستمع إلى نهايةِ قصيدةٍ منذ بدايتها خاطئة:
دخن ثم قال لي: كأنه يهرب من مستنقع الدماء: حلمت بالزنابق البيضاء بغصن زيتون بطائر يعانق الصباح فوق غصن ليمون وما رأيت؟ رأيت ما صنعت زنابقًا حمراء فجرتها في الرمل...
كنت قد تفجرت أنا على فخذيها زنابق حمراء وسوداء وبيضاء قبل أن أميتها، قبل أن أميتني، قبل أن أميتنا... كان لا بد أن أذهب بالخطأ إلى أقصاه.
الفصل 26
علي وإخوته السبعة... لكل أخ حكاية
كان المستشفى يغرق في السراب، وغيمة من رائحة العقاقير تغطي المكان. وكانت تصلني التأوهات الجنسية للممرضة المناوبة، وأنصاف صرخاتها تسود الحواس. كان الجسد الأبيض شيئًا من عبث الوقت، وحرية الإجبار على الرضوخ. وكنت بطبيعتي أرفض نقيضي في السلوك أو أستسلم لهواجسي، لكنني لم أستطع فعل شيء، حتى الاحتيال على نفسي لم يكن بإمكاني، والتظاهر بعدم الفهم أو عدم الإدراك. انقلبت على ظهري، وشعرت بأنفاسي تضيق. أردت أن يفتح لي أحدهم النافذة، فلم أجد أحدًا لا إنسًا ولا جنًا. كانت بعض ظلال الموتى أو الشياطين قد استشاطت من حولي عندما رغبت في القيام إلى النافذة، وكأنني حجر رحى في قرية جدي أحاول زحزحته دون أية فائدة، والظلام يزحف من كل حدب وصوب زحف الجيوش إلى ميادينها. أحسست بسقوط المستشفى في هدوء مرعب بعد أن شبعت الممرضة المناوبة عناقًا، ومنعني الصمت الراسي من قطع حبل مرساته على الرغم من أن الحرارة صارت بحورًا، واحتمالها كان أمرًا محالاً. لم أعد أستطيع الانتظار أكثر مما انتظرت، فوطئت الأرض بقدمي المطوقة بالجبس، وعندما أردت الاعتماد عليها، وجدتني أنطرح انطراح قطعة من خشب السنديان المثقلة بماء الشتاء. وبينما كنت في وجعي ويأسي أحاول أن أطرق باب الجحيم انتشر الضوء، ورفعتني أيادي إخوتي إلى فراشي. فتحوا لي النافذة، وأخذ كل منهم سريرًا من حولي، فذهب روعي، وهدأت نفسي، وعم جو الألفة ما بيننا والطمأنينة بعد أن غدا جو الحجرة معقولاً. كان كل أخ من إخوتي السبعة يكابد ألمًا من الآلام، وكانت لكل منهم حكاية قضينا الليل معها دون أن ننام، نحكي عن سبب الألم الجسدي أو النفسي الذي لنا، لنخفف من وطأة الألم علينا، وليقف كل واحد منا على حكاية أخيه الذي تبع مصيره في أغلب الأحيان لا كما اشتهى والدنا وتمنى يوم أطلقنا في الشانزلزيه عبثًا نسعى لنختار مصيرنا بيدنا. كنت أول من أخذ الكلام، فقلت: - كانت لي حبيبة فرنسية الأصل، أصلها وفصلها أمام حبي لها لم يكن عائقًا كي أفهمها وتفهمني. عرفتها أول ما عرفتها في المترو الذي قام على أكتافنا يوم قمت لأُجْلِسَ امرأةً حبلى في مكاني ظلت تقف ببطنها بطن الأمة الذي لها مدة من الزمن وسط لامبالاة الناس وموت الاعتبار عندهم، كنت وناتالي، وهذا هو اسمها، قد نهضنا في آن واحد أنا وهي، فضرب رأسي برأسها عن غير قصد مني ومنها، وانطلقنا نضحك لبعضنا، على بعضنا، وكأننا نعرف بعضنا، فلحظة مثل هذه سببها سري لا صفاء النفوس يمكن أن يفسرها ولا الاستعداد للصداقة أو الإعجاب بالآخرين أو حتى الصدفة الرابطة لعواطف البشر المحفزة في الوقت ذاته لانفعالاتهم. المهم أنني نزلت معها في محطة السان ميشيل غير بعيد عن مسكني في مسرح شاتليه لأرافقها، فرافقتها، ومن جراء سحر تلك اللحظة الغامضة حددت موعدًا معها، ثم توطدت علاقتي بها وعلاقتها بي حتى صرنا ما يصيره أي زوج سعيد في باريس مدينة النور والحب على طريقتنا المتواضعة في هذا العالم الصخرة الجبارة التي نطرق عليها رؤوسنا كل يوم لننزف دما يُسقى منه جلمودها. ولتعلقي الشديد بناتالي عزمت أمنا على تزويجي بها، فما يهم ليس البنت –مثلما قالت- وإنما أولادي منها، واتفقنا على أن يكون الزواج في أول فرصة سانحة، خاصة أنها كانت عاملة من عاملات النسيج في مصنع ابتلعه مصنع، وقد رمتها التكنولوجيا بين أنياب وحش البطالة... إلى أن أتى يوم حل فيه عندي ريمي الذي تعرفونه جميعًا، فأخذ مني بيتي، وأخذ مني حبيبتي، وأخذ مني مستقبلي، ووجدتني أتيه، وأنا أستنفد حق التيه في شوارع جحدتني حق الحب حين امتلأت بنعال الزاغ وجراد الماء، وملأتها بالكره والموت والدم، دمي المجاني، فها أنتم يا إخوتي تجدونني هنا مريضًا محطمًا لا أعلم عن حبيبتي شيئًا، وكل الذي علمته مؤخرًا أنها لم تزل حية ترزق، فأية حياة تعيش؟ وأي مصير يواجه ريمي بعد فاجعة السين التي أصابت الجميع؟ لأن رجال جراد الماء لا يفرقون بيني وبينه، كلنا متهمون في نظرهم إلى أن تثبت جريمتنا، لا يفرقون بين أحد وأحد، ولا بين قمر وقمر، قمر نابلس محاق وقمر باريس محاق، لا هذا قمر ولا ذاك قمر! وبعد أن تأوهتُ، وسكتُ، أخذ الكلام أخي الأكبر كبير أخوتي السبعة الذي سأسميه أخي السابع، فقال: - حكايتك من مصابِ غيرِ أهلِكَ عليكَ، أما حكايتي، فمن مصاب أهلي عليّ، ومصابك من أهلك جرح لا يداويه دواء، خاصة أن سبب الأحداث جرى على غباء، وتلاحقها كان سريعًا جعلني ألهث، وأنا بين مصدق وغير مصدق... فزوجتي التي زوجتني أمنا في البلاد على الرغم من الاحتلال، وباركتني بها وبنسلي منها، قد خلفت لي أول ما خلفت بنتًا ثم بنتًا ثم بنتًا، ثلاث بنات خلفت لي، كل واحدة أجمل من قمر يافا وقمر الشام، ومع أن جمالهن وحسنهن كانا هدية من عند الله إلا أنني طلبت من سيد الأكوان أن يرزقني ولدًا يحفظ لي ذريتي من بعدي بعد عجزي عن حفظ أرضي، وأن يحمل اسم أبينا الذي هو مفخرتنا جميعا، فأفخر بدوري، وأحقق لأمنا أمنية بقائنا وانتشارنا في الوطن لولد الولد مع أن لبنات اليوم بعض دور غير دورنا، لكنه بعضٌ مفيدٌ على أية حال، فماذا نفعل وهذه هي تقاليدنا وعاداتنا نموت ونحيا عليها؟ إذن لم تكن زوجتي لتشكو من عقر مثل سيدتنا سارة، ولا أنا من شيخوخة مثل جدنا أجمعين سيدنا إبراهيم عليه صلوات الله وسلاماته، وإنما كانت المسألة تكمن في مطلبي لذكر لا لأنثى بعد بناتي الثلاث، وكان الذي كان، كان من الله أن حقق لي مطلبي الغالي، عندما اجتمعت بامرأتي في ليلة ظلماء لا نجم فيها ولا قمر وعيون الضباع تراها لامعة من جنين وأنت في طولكرم، فحملت مني، وبعد تسعة شهور لا يومًا ناقصًا ولا يومًا زائدًا أتتني بصبي أجمل من كل أخواته الثلاث، وجماله يفوق ثلاثتهن معًا، وزنه ستة كيلوغرامًا أو يزيد، تراه فتظنه يجادلك بعينيه، على وشك أن ينطق، ويقوم، وينزل إلى السوق، ويأخذ نارجيلة في المقهى، ويعود إلى البيت متأخرًا في المساء، فيصرخ بأخواته، ويعنف أمه، ثم ينحني على يدي مقبلاً ظاهرها وباطنها قبل أن يذهب إلى الفراش وينام... غمرتني السعادة حتى أن الأرض لم تعد تسعني لسعادتي، هذه السعادة العظمى وذاك الفرح الكبير حالا دون أن أرى الشر وما تخفيه بناتي الثلاث لغيرةٍ من أخيهن وكرهٍ له في أعين بريئة واسعة سعة الأعين الوحشية، ففي يوم الأربعين، وهو يوم طهور ولدنا، دعونا كل أصحابنا وأحبابنا ليشاركونا فرحنا وسعادتنا، في ذلك اليوم ذبحت خرافًا عشرة وبقرتين وألف دجاجة، لنأكل منها ما نأكل، ونوزع الباقي على المساجد والفقراء، وعلى غفلة منا جميعًا، حملت بناتي أخاهن الرضيع المطمئن لحرارة أكفهن، ورمينه في طنجرة يغلي فيها حساء أو طبيخ، فمات الصغير في ساعته، فأصاب امرأتي صرعٌ دفعها إلى الجري في أعقابهن حتى سطح البيت، وفي يدها موساي الماضية، وأمام تهديدها لهن وغضبها المزبد رمت الواحدة بعد الأخرى بنفسها من السطح ليسقطن جثثًا هامدة فوق بعضهن البعض، ولم تكتمل مصيبتي التي ما بعدها مصيبة في الوجود إلا في اللحظة التي غرست فيها امرأتي موساي في بطنها على منظر كل تلك الجثث وتلك الكوارث، ليجثم صقر الموت على قلبي، ويفتك به أشد فتك. وبعد أن أطلق آهة خرجت من عميق فؤاده، وسكت، أخذ الكلام أخي السادس، فقال: - حكايتك من مصاب أهلك عليك، وحكايتي أيضًا من مصاب أهلي عليّ، ولكن شدة مصابي تفوق شدة مصابك يا أخي، فهون عليك، لأن المصاب في طريقته يزداد على الرغم من طريقه التي يسلك، وإن كانت هذه الطريق واحدة. فهذا ابني الأول الذي باركته لي أمنا خير مباركة، وتمنت أن يذهب من مصر إلى بلادنا لما يكبر، ليعيد كتابة تاريخنا المجيد، هذا ابني الأول يأتي ضعيف العقل والبنيان منغولي الخلقة، لا يوجد طبيب على وجه الأرض إلا وعرضته أمه عليه، والولد لا فائدة من الحيلولة دون تطوره اللاطبيعي الذي أثر تأثيرًا كبيرًا على نفسية امرأتي وصحتها، ففقدت لأجله صحتها، وفقدت لأجله جمالها، وتحطمت نفسيتها، خاصة بعد أن فقدنا ولدنا الثاني لموت طبيعي، وهو رضيع عمره سبعة أيام، لقد كان جميلاً أجمل من قمر عكا وقمر الإسكندرية، يضاهي بجماله جمال البنات اللواتي منهن بنات أخينا رحمهن الله. وراحت الأيام تمضي وراء الأيام حتى صارت الأيام شهورًا، والشهور أعوامًا، وزوجتي قد صارت زوجة لابنها بعد أن صار محور حياتها وكل اهتماماتها انصبت عليه دون أن تقطع الأمل في معالجته، وقد اشتدت بنيته، وغدت صلبة بصلابة بنى الرجال، بينما لم يتطور عقله الضعيف، ولم يتجاوز بمستواه مستوى عقل طفل في سنيه الأولى، فأية مفارقة؟ وأية قصة؟ وأية مصيبة كان يمكن أن تقع يوم كان يلعب مع أطفال في سن عقله وبقوة الرجل الذي له وعضلاته أراد خنق هذا أو ذاك دون أن يدرك بالطبع شيئًا مما يفعل، ولولا انتباه أمه التي كانت تحول دون ذلك في آخر لحظة لارتكب العديد من الجرائم، وذلك الذي حصل بالفعل في إحدى الليالي مع زوجتي نفسها رحمها الله بعد أن تجاوزت قوة ولدنا قوة حصان وعضلاته عضلات جني سيدنا سليمان عليه السلام، عندما أراد أن يلاعبها ملاعبة طفل لأمه، فإذا به يدق عنقها، ويقصمه لها لتموت بين يديه، وهو يطلق الضحكات العِذاب ظنًا منه أنها لم تكمل بعد معه اللعبة، واللعبة قد اكتملت بالمأساة. وبعد أن مسح دمعة حارقة سقطت على خده، وأطلق آهة، وسكت، أخذ أخي الخامس الكلام، فقال: - حكايتي أمر آخر يختلف في المصاب ويتشابه في أماني أمنا التي لم تتحقق، وباختصار كنت قد حططت في بلد عربي كل شيء فيه يجري "بالبيستون"، والبيستون كلمة عربها ناس هناك تعني المعرفة والواسطة، فإذا أردت إنجاز معاملة إدارية فبالبيستون، وإذا أردت شراء تذكرة سفر بالطائرة أو بالقطار أو حتى بالحافلة العامة فبالبيستون، وإذا أردت اقتناء كيلو بطاطا أو رغيف خبز أو كيلو عنب أسود فبالبيستون، حتى أنه –وهذه هي حالي- يمكنك الزواج من ابنة رئيس الجمهورية بالبيستون. وبعد أن باركت لي أمنا زواجي هذا مثلما باركت لكم من قبلي زواجكم، وتمنت لهذا النسب العظيم عزة لبلدنا وأهلنا، وبعد أن تركتني وحدي، وذَهَبَتْ عند واحد منكم على التأكيد، وجدتُني قد تزوجت امرأة في النهار أجمل من قمر حيفا وقمر الجزائر، وفي الليل أبشع من غراب نابلس ملك ظلام حديقة المنشية... كانت مسحورة بسحر مشعوذ قالوا إنه طلبها قبلي زوجة، فرفض أبوها طلبه لأنه استفسره عن حرب ستقع في الصحراء الغربية قال له سيكسبها وما كسبها، وعلى الرغم من معرفته بسحر ابنته إلا أنه أخفاه عني ليورطني، فالزواج بالبيستون سهل، ولكن الطلاق بالبيستون أو بدونه من سابع المستحيلات، فما العمل إذن للخلاص منها؟ أو على الأقل ما العمل لفك السحر عنها؟ ولما وجدتني أمام معضلة مزدوجة كهذه –وهذا ما كان يرمي إليه أبوها- كان لا بد لي من إيجاد حل أضع فيه حدًا لسحرها، فالخلاص منها عن طريق الهرب كان من سابع المستحيلات، وكل ذلك الحرس الذي كان يحرسني، ويطوقني ليل نهار، وكل ذلك العسس الذي كان يعسني، ويحد من تحركاتي حتى في الأحلام. في إحدى الليالي سمعت أنات عناق وأصوات لثم وقبلات، فهببت مذعورًا غيورًا مدافعًا عن شرفي لأجدها عارية في أحضان رجلٍ غرابٍ مثلها كان المشعوذ الذي ما أن قطعتُ رأسه حتى بطل السحر عن ابنة الرئيس، وعادت إلى وضعها الطبيعي، فماذا كانت مكافأتي على ما صنعت برأيكم يا إخوتي؟ رموني في السجن بين مئات بل آلاف البشر البريئين مثلي، إلى أن جاء يوم عَرَفَتْ فيه أمنا مكاني بعد أن رشت الذي رشت، وجعلت من رئيس الشرطة بيستونها ليطلق سراحي. لقد تزوجَتْ زوجتي –أقول زوجتي لأنني لم أطلقها والقانون مثلما سبق لي وذكرت يصعّب الطلاق- لقد تزوجَتْ زوجتي من ابن أحد الأثرياء الأقوياء، وخلفت له عددًا من البنين السعيدين الذين كان من الممكن أن يكونوا بنيني، فما كان لي ابن ولا صارت لي ابنة، ووقفت ذريتي على عتبة عدم الإنجاب بعد أن خصاني الجلادون في السجن ودمروا حياتي. وانفجر يبكي، وأخي الرابع يطبطب على كتفه مهونًا مشجعًا، ولما كف عن البكاء، أخذ الكلام، فقال: - أما أنا، فحكايتي غير حكاياتكم كلها، لكنها لا تخرج عن إطار الزوج والزوجة والأبناء، وإن خرجت عن إطار المكان إلى أرضٍ صحراؤها ثلج، ومرايا صيفها جليد، وبناتها شقراوات أشقر من كل أقمار بلاد العرب وبيضاوات أبيض من حليبها، ولا أدري إذا ما كان ذلك لفرحي الغامر أو لحظي العاثر، مع أن مصابي قد كان عظيمًا... طلبتُ من أمنا الذهاب إلى بلاد لا سواد فيها، فقالت لي هي السويد، فاذهب إليها، بلاد كلها بياض، وإذا كنت تحتمل بردًا لا يمكن فلسطيني احتماله حتى ولا في حلمه فتوكل على الله، واعقد العزم كي أرافقك في رحلتك غدًا مع بزوغ الفجر، وبالفعل هذا الذي كان، وعندما وصلنا السويد أول ما وصلنا زوجتني أمنا فتاة من عندهم لها أخت توأم لا يفرّق الناظر بينهما لشدة شبه الواحدة بالأخرى، فقلت لها لِمَ هذا الزواج المقلق لي؟ وأية ورطة أوقعتني فيها؟ فقالت لكي تفهم حياة هذا العالم الذي هو غير عالمنا، وتعرف أن النساء نساء مهما كانت النساء، وغادرتني. لم تنته حيرتي من أمري مع الأختين بل ازدادت أكثر فأكثر يوم حبلت زوجتي التي كنت أعتقد أنها زوجتي وأختها في آن واحد، فها هو بطن هذه وبطن تلك يكبران، ولم يتوقف شعوري بالإثم والجرم عن الكبر أيضًا، فهما أختان، وأنا من أيهما نسلي الشرعي؟ ومن أيهما نسلي الدعي؟ وهل كلاهما شرعي أم هجين؟ إلى أن كانت تسعة شهور ليست ناقصة ولا زائدة، أتاهما طلق، فولدتا في نفس الساعة وفي نفس اليوم، كل منهما ولدت توأمين صبيين، أحدهما أبيض البشرة مثل جلد أمه وأحدهما فاحمها أسود من الليل الحالك شعره أكرت ووجهه على جماله إلا أنه لم يكن كوجهي أو وجه أبي أو وجه جدي أو وجه أي واحد منكم يا إخوتي... والذي فعلته ولليوم تدهشني فعلتي أنني تركت أولادي الأربعة في حضن زوجتيّ الاثنتين وهربت في ليلة سوداء أسود من بشرة ولديّ العبدين باردة مجرمة ليست مقمرة. وانطلق يضحك بينما راحت ضحكته ترن في أرجاء المستشفى، ثم انطلق يبكي بينما راح بكاؤه يتصادى في أرجاء الكون، فأتانا صوت الممرضة المناوبة معنفًا إيانا طالبًا منا النوم والسكوت، فسكتنا، ولم ننم، ظل كل واحد منا يحدق في سقف الوجود، فإخوتي الثالث والثاني والأول لم يرووا حكاياتهم التي هي من غرائبه، لهذا بقينا على انتظار وقلق، وقد طلع النهار علينا، فأعطتنا الممرضة الجميلة، وهي تبذل جهدًا لتبتسم لنا، حبات منوم كي ننام طوال نهارنا، وبعضُ فلولٍ من زاغ نابلس تحط على رؤوسنا وبين سيقاننا.
الفصل 27
الحكايات الباقية وحكاية أخيرة لامتوقعة
سقط الليل لننهض من نومنا تعبين، فنوم النهار لا يريح البدن ولا الضمير، خاصة بعد أن نمنا بمنوم، وغرقنا في بحر اصطناعي غرق سمك موسى في مخداتنا. أخذنا قهوتنا ثم حساءنا بعد أن جمعت الممرضة المناوبة فطورنا وعشاءنا في وجبة واحدة، وأخذنا بعد ذلك دواءنا، وثار اشتياقنا لأبينا، فقلنا يَحُكُّ كل واحد منا مصباحه السحري الذي أعطانا إياه، نَحُكُّها كلنا معًا كي نكون لحضوره ضامنين، ففعلنا، وما حضر، فكررنا حك المصابيح حتى احتكت أصابعنا، ولم يحضر، ولما يئسنا قلنا لا بد أنهم أعادوا اعتقاله في أحد السجون العربية الحديثة التي يندر الإفلات منها بسهولة. وبينما نحن ننتقل بين صمتنا وقلقنا وصعود شمس الليل في أعيننا أخذ أخي الثالث الذي وقفت حكاياتنا عليه الكلام، فقال: - ليلة البارحة وقفت حكاياتكم عليّ يا إخوتي، والآن يجيء دوري لأحكي، فنحن لم نزل في أول الليل، وأول الكلام عندي هو غير أول الكلام عندكم، وآخر الكلام عندي هو غير آخر الكلام عندكم، فأنا قد رفضتُ الزواج كما ترغب أمنا، وخرجتُ عن طاعتها، فأنكرتني، وتنكرت لي، لأنني منعت نسلاً اختارته، ورأت في أقداره، وتركتني لأقداري، وبالفعل هذا الذي كان، ولليأس الذي زرعته أمنا في نفسي كرهت كل هذا الوجود، فقلت أغادره إلى عصر يكون الناس فيه أقل كرهًا، فكان عصر هارون الرشيد الذي أردت، العصر الذهبي لأمتنا، وبينما كنت أسير في أحد أزقة بغداد الحبيبة باحثًا عن عمل يقيتني وسقف يأويني إذا بمصراعي طاقة ينفتحان، وتبرز منهما عينان سوداوان من تحت حرير أزرق وفم كرزي راح يناديني همسًا، ويد صغيرة مثل يد رضيع راحت تشير لي بسبابتها خشيةً، فجذبني حجر العقيق الذي في خاتمها، وأتيتها دون أن تخطر ببالي نتائج فعلتي تلك. كان باب قد انفتح لي لما وصلته، ولما اجتزته إذا بي أمام ثلاث نساء في عمر واحد، كل واحدة قمر في مملكتها، فلا قمر بغداد يكفيهن وصفًا ولا قمر القدس الحبيبة ولا قمر سمرقند الآخذ بلباب الخيام والساحر لفؤاده، ثلاث نساء في العشرين من العمر يشبهن بعضهن شبهًا عظيمًا، قلت هن من بطن واحد ما في شك، فهل يكن من حَبَلٍ واحد؟ لم يتركن لي مجالاً لسؤالهن عندما اشترطن عليّ للبقاء معهن ألا أسأل في أمرهن شيئًا، فوافقت، كيف لا أوافق وكل هذا الحلم حقيقة؟ كنت عرقان فاستحممت، وكنت جوعان فأكلت، وكنت ظمآن فارتويت، وكنت تعبان من عناء جولتي في الزمان فارتحت على وسائد الأطلس ورياش النعام. بدأت ألاعبهن واحدة واحدة، فخلعن عني ثيابي، وجعلنني ملكًا على عروشهن التي اعتليتها كلها. على نهودهن كسرت الرمان، وعلى خصورهن هدمت الأسوار. وبقينا هكذا نرتع في نعيم العناق إلى أن صار منتصف الليل، ودق البندول الذي أخاف شارلمان دقاته الأربع والعشرين، فإذا بهن ينأين عن صحبتي، وينهضن كل واحدة إلى حجرة أغلقتها على نفسها بالمفتاح، وأخذت كل واحدة تصرخ صرخات الموجع المعذب الذي على وشك الموت. حاولت أن أفتح عليهن الباب فلم أستطع، وحاولت تركهن والذهاب لأمري فلم أستطع، كانت كل الأبواب موصدة بإحكام، وبقين يصرخن، وينحن، ويطلقن عظيم الآهات إلى أن بزغ الفجر، وصعدت الشمس من بطن دجلة سمكة ملونة. كان التعب والسهر قد رمياني أرضًا، فرحت في نوم عميق لم أصح منه إلا في الليل على أيديهن الجميلة توقظني. لم أر على بشرتهن أثرًا لجرح ولا كدمةً زرقاء أو خضراء، كن يشعشعن نضارة على نضارة وبهاء على بهاء، كررن عليّ شرطهن ألا أسأل في أمرهن شيئًا، فلم اسأل، وقضيت ليلتي الثانية معهن أطيب من سابقتها وأمتع وأروع وألذ وأفظع، وما أن كان منتصف الليل، وما أن بدأت دقات البندول الأربع والعشرون تدق حتى تركنني كل واحدة إلى حجرة أغلقتها على نفسها بالمفتاح، وبدأن يصرخن، ويتأوهن، ويتوسلن حتى بزوغ الفجر، وبالطبع لتعبي وسهري رحت في نوم عميق حتى أول الليل لأنهض على لمسات أناملهن ولثمات ثغورهن، وهكذا كان أمري معهن ليلة بعد ليلة طوال تسعة شهور جاءتني عند نهايتها كل واحدة منهن بوليد ذكر عمره يوم واحد، وكل واحد يشبه الواحد، قلت هم من حَبَلٍ واحد ما في شك، فهل يكونون من بطن واحد؟ رمين الصغار الثلاثة في حضني، وقلن لي هذه ثمرة عضوك فينا، فما ألذ عضوك، وما أعفن ثمرتك، خذها وارحل عنا ولا ترينا وجهك إلى الأبد. وبينما كنت ذاهلاً مجدفًا في خضم حيرتي ويأسي، أنهضني صغاري الذين لم يتجاوز عمرهم يومًا واحدًا، أمسكوا بيدي، وقالوا لي تعال لنكبر في كنفك وتحت رعايتك، اتعب علينا اليوم قيراطًا نتعب عليك غدًا عشرة، وخرجوا بي إلى طرقات لم تحنّ علينا كثيرًا، تَسَاعَدْنا على العيش حتى صاروا رجالاً، فقلت لهم مثلما قال لنا أبونا لما رمانا في أجمل شوارع الدنيا: اذهبوا الآن واختاروا مصائركم... أحدهم صار لصًا، وأحدهم صار عالمًا ذريًا، وأحدهم صار فدائيًا، ألقت الشرطة العربية القبض عليهم، ورمتهم في معتقلاتها، فلا استطعت أن أراهم ثانية، ولا قبلوا أن أوكل لهم محاميًا، ولا جرت محاكمتهم إلى حد الآن، فأين هم الآن؟ وما هي حالهم؟ أحياءٌ هم أم أموات؟ وماذا فعلوا ليلقوا كل هذا الحيف؟ وليتركوني وحدي أعاني أمرّ معاناة بعد أن انتحر أيوب في جسدي ومات؟ وانفجر يبكي، ويطلب من أمنا المغفرة على كل الذي فعل، وأخي الثاني يبكي لبكائه إلى أن سكت، فأخذ الكلام، فقال: - أما أنا، فلن أطلب من أمنا المغفرة بعد كل الذي فعلته فيّ، عليٌّ أخونا أرادت له الزواج من تلك الأجنبية على الرغم من كونها ليست منا، وقالت له المهم أولادك منها يا بنيّ، أما أنا، فقالت لي لا أولادك منها هم أولادنا، ولا ولدي أنت إن تزوجتها، اذهب عنا بعيدًا في طرف الدنيا لا نعرفك ولا تعرفنا... آه من قلبها المتقلب قلبها القاسي قلبها الفظ! كأنني ولدت من بطن غير بطنها، وكأنني شربت من ضرع غير ضرعها، حتى وإن كنت نغلاً فسأبقى من صنيع أحشائها. السبب الأساسي ليس لأنها فرنسية أو غيره ولكن لأنها يهودية من مدينة ليون المغيبة في ضباب المصانع والأحاسيس. ولم يقف الأمر عند رفض أمنا للودميلا، وهذا هو اسمها، بل امتد إلى رفض أبي لودميلا لي، هذا الرفض الخشن القاسي دفع حبيبتي الحساسة حساسية الورد من الظلال إلى الهرب من البيت في ليلة ليست مقمرة حنونة عطوفة محزنة، قالت لي إنني حبها والعالم الذي في الخارج عالم للحشرات ليس لنا، وهي تختار العيش معي في شرنقة القز التي كانت كل ما أملك. تزوجنا، وجاءتنا بنت لا قمر باريس ولا قمر صفد ولا قمر صور وصيدا وكل أقمار الدنيا تعادلها جمالاً، أخذت جنسية زوجتي الفرنسية بعد أن أعطتني ابنتي، وأعطيتها عمري وقلبي، وظننت أن حياتي الزوجية قد قامت على هذا الأساس من سعادتنا المتواضعة، لكنني كنت مخطئًا، إذ ما لبثت أمنا أن راحت تطاردني ليل نهار، وتلح عليّ في هجرها وهجر بيتها وابنتها والعودة إلى حِجْرِها، حِجْرِها هي وحدها، وحدها هي دون غيرها، لأنها تحبني بقدر حبها لكم جميعًا، لأنني أذكّرها برِفقة، لأنها بالفعل رِفقة، وهي ستسعى لتنتزع من أخينا عليّ بركة إسحق أبينا إن أنا أطعتها، ولم أطعها، كيف أطيع هدم بيتي وحياتي؟ أطيع حتفي ولا أطيعها. فماذا فَعَلَتْ؟ ذَهَبَتْ إلى أبي زوجتي الذي يكرهني أشد الكره، والذي حاول مع لودميلا عبثًا فصلها عني، قابلته، وأقامت ميثاقًا بينه وبينها، أن تعيد له ابنته مقابل أن يعيد لها ابنها، وكانت طريقة كليهما ويا للصدفة واحدة عندما اختطفا ابنتي من حُجْرِنا، وصنعا منها رهينة انفصالي النهائي عن التي أحببت وانفصالها النهائي عن الذي أحبت، وبالفعل هذا الذي كان، فصلنا الآباء عن بعضنا، فصلوا حبنا عن قلبنا، استعادها أبوها مثلما استعادتني أمي، وأعادت لي جنسيتي الأولى التي لم تكن سوى جنسية البلد الذي كنا نازحين فيه، أخذت مني جنسية زوجي لتعطيني جنسية غيري وكل مصائب الخضوع المترتبة عن مثل تلك جنسية، أما سعادتي الشخصية، فلم تعطني شيئًا مقابلها، ولم تعطني ابنة ثانية غير ابنتي التي لم أرها منذ سنين، والتي غدت حتمًا اليوم صبية... ستبحث عني ذات يوم في مكان غير هذا المكان، وإذا تمكنت من العثور عليّ نصحتها ألا تتزوج غير رجل ينوء بعبء البحر، ولكنني طوباوي منذ مولدي. ولم يبك، بل راح يجمجم ويجمجم دون أن نفهم من كلماته التي يجمجم شيئًا، وبعد أن سكت، أخذ أخي الأول الكلام، فقال: - حكايتك يا أخي حديثة لكنها بعمر الزمان الذي ينعته الناس بالغدار، لأن تاريخ العواطف يبتعد عن العقل لما يقوم الصراع بينها، مع الأسف غالبًا ما كان تاريخ العقل ضحية لعواطف البشر التي حكايتي هذه من صنعها، لا شأن بيهودية هنا أو بفرنسية أو بصينية تهتف طوال آلاف السنين للشمس الغائبة، ولكن بابنة عمنا زهية التي تعرفونها كلكم، والتي تزوجتها برضاء أمنا وأمها ولما تبلغ بعد الخامسة عشرة، ولم تدم سعادتي معها أكثر من خمسة عشر يومًا، لأن القمر كان هابطًا، لا قمر حيفا صعد، ولا قمر يافا صعد، ولا قمر غزة الأحمر، فالقمر مصير كما تعلمون، ونحن له عبيد، ولا أدري لِمَ تبدلت أمنا كل ذلك التبدل في أمرها معها اللهم إلا لأنني مُدَلَّلُها آخر العنقود، فهي أَرَادَتْهَا بكل إِرَادَتِها ولم تُرِدْهَا بكل إرَادَتِهَا، وقلبت حياتنا جحيمًا، جحيم الآخرة في دنيانا، ووصل بها الأمر إلى أن ضربتها، وبحجر حاولت إسقاطها، وفي الأخير طردتها... أما بعد ذلك، فقد جاءني من زوجتي ابنٌ ذكرٌ جميلٌ بجمال قمر بيجاية الحبيبة الذي هو غير كل تلك الأقمار السابحة، قمرٌ ماسٌ ليس أبدع منه إلا قمر جيسكاردتون في الليالي السوداء، فقلت لها عودي إليّ، ولنفتح صفحة جديدة مع أمنا التي هي أمي وأمك على الرغم من كل شيء، لكنها قالت لي إنها صارت تبغضني بقدر ما تبغض أمنا التي هي أمي وأمكم! أَخَذَتْ ابني، وتغربت عند أمها في بلاد الغرب، ورغم كل تلك الغربة بقي موقف أمها إيجابيًا مني، فأنا ابن عم ابنتها، وأنا زوج ابنتها، وأنا أبو ابن ابنتها، وأنا ديني من دين ابنتها، كل هذا كان حافز أمها، الكارهة للأجنبي الذي هي في بلده، وللعربي الذي هو في بلدها، حتى أنها لا تقبل بقبائلي من غير بيجاية مدينتها، حافزها للتغلب على كل المشاكل التي بيننا، فلم ينفع مع امرأتي شيء لا بالترهيب ولا بالترغيب... الآن هي عني بعيدة، وأنا مريض وتعيس، كيف أجبرها على العودة إليّ أنا الذي أحبها أكبر حب في الوجود؟ فكرت في اختطاف ولدي منها بعد خروجي من المستشفى، فأجبرها على الرجوع إلى أحضاني التي تجمدت لبعدها عني، وصارت ببرودة الجليد، لكنني لن أنجح في إجبار أمنا على تبديل موقفها منها، وأنا لهذا حيرتي تتضاعف، وخوفي يتفاقم، وحبي لابنة عمي يقرع كالطبول في صدري قرعًا قاهرًا يكاد يقضي عليّ. وراح يفتح عن صدره بكلتا يديه، فتدوي في المستشفى الطبول، ويأتينا صوت الممرضة المناوبة ملعلعًا مهددًا أن هذا مستشفى وليس ميدانًا للعرب لا ولا ماخورًا لنا نحن الإخوة السبعة والسبعين، وتطلب منا أن نخرس، لتصلنا بعد قليل تأوهاتها مع ثعبانها الأسود الذي سمعناه، وهو يعانق، ويقهقه. وعلى حين غرة، انفتح باب حجرتنا، وإذا بأخينا الأُخطبوط قدر البحر يأتينا عابسًا على غير عادته مطبِق القسمات معتِم النظرات، وبعد أن سلم علينا واحدًا واحدًا وجلس قال لنا لا بأس أن نعرف ومن واجبه أن يجعلنا نعرف بما لم يكن يعرفه من حكاية مذهلة ليست متوقعة وقعت له مع أمنا عندما تزوج منها في ليلة سوداء مجرمة ليست مقمرة، فوثب أخي المخصي عليه، وراح به لكمًا وشتمًا، وأخونا قدر البحر خانع خاضع تاركه يفعل فيه ما يفعل دون أن يدافع عن نفسه، وفجأة انفجر نائحًا باكيًا، فملأ الحجرة بموج دمعِهِ الذي طفت عليه أسِرَّتُنا، ورحنا نبحر في آخر حكايا العجب أو لربما أولها، فمن يدري؟
الفصل 28
ريمي مثل ظل بحار "باسك" محمل بالوعود
أخذت أصوب مسدسي إلى قلوب الفتيات السبع والأربعين، فيتساقطن واحدةً تلو واحدة على الخشبة، وفي القاعة من حولي أقنعة تبتسم أو تقهقه إلى أن أهلكتهن بالنار كلهن. كانت ابنة ملك الكلام قد تقدمت بسبعةٍ وأربعين كمانًا جهيرًا، ورفعتها في وجه أهدافي التي لم أخطئ منها هدفًا واحدًا، والأقنعة من حولي تعبس أو تدمع، ومن الجمهور الذي أمثله لا تحصل إلا على فَهْمِ ما أريد أن يجري أنا وحدي على الخشبة ولامبالاتي وحذقي في إطلاق النار وجسارتي الخاصة بي. انطفأت الأضواء على الخشبة، فصار ليل القاعة ساحقًا، وكذلك الصمت، وأخذت المقاعد تنبت في الظلام والضباب. فجأة، انطلقت صفارة القطار. كانت القضبان تمتد إلى ما لا نهاية، فيبدو أن لا نهاية هناك أو أن النهاية بعيدة. وعلى الرغم من الليل والضباب والأقنعة فإن القطار كان يسير بسرعة هائلة، كنت كلما أسرعت ازددت متعةً وعزمًا، وهذا عكس ما تعلمته في المدرسة الداخلية. كانت مُدَرّسة العبرية القديمة تقول لنا إن التاريخ سلحفاة تزحف ببطء ولكن بتصميم على الوصول. كنت قد سرت مسافة خمس ساعات، وقد بدأ رماد النهار ينتثر من منفضة الحلكة. كان عليّ أن أتوقف بعد مسافة ربع ساعة، وبيارتز هناك لم تزل تنتظر، لهذا خففت السرعة، وأنا أفحص المكان بدقة، إلى أن بدأ ضوء أحمر يشتعل ثم ينطفئ من نقطة ليست بعيدة. أوقفت القطار في نفس اللحظة التي قَفَزَتْ فيها مجموعة من الظباء المذعورة، ورأيت من طاقتي خمسة من الرجال الذين تبدو على وجوههم آثار التعب والسهر رغم برد الصباح اللاسع. كان يتقدمهم ملتح عرفت فيه مساعدًا لأمير عربي يعمل معه أبي، ولم ينتظر الرجل الملتحي هبوطي من القاطرة إذ صاح بي: - الشتاء فصل ساخن! قلت له: إن هذا لا يكفي. أضاف بنبرة أشد: - الطيور تسكن البحر! قفزت من القاطرة، وتقدمت منه، وقبل أن أصله، قال لي بلهجة مهددة: - تأخرت خمس دقائق، خمس دقائق شيء كثير، فحذار! دون أن يتوقف عن ضغطي بناظريه، وأنا أفكر: هذا أول عربي أمين لمواعيده! قلت له: الضباب كثيف وهذه رحلتي الأولى. لم يسمعني: أين الصناديق؟ اتجهت إلى عربة الشحن الثانية، ورفعت عن الحمولة غشاية كتيمة، فبانت الصناديق. عندئذ حصل الانفراج، ابتسم الرجل، وبدت الثقة في عينيه. أشار برأسه إلى جماعته، فخفوا يصعدون العربة، وما هي سوى بضع دقائق حتى أنزلوا الصناديق كلها. قلت للرجل الملتحي: يجب أن أتابع طريقي، إنه الوقت. قصدت أن أذكره بدقته، لكنه أوقفني، وهو لا ينقطع عن الابتسام، كان يبذل هذه المرة ابتسامة حذرة. فتح أحد الصناديق، فبرقت الأسلحة. عند ذلك، أطلق الرجل الملتحي نفسًا مرتاحًا، ونعمت نبرته: - لا تتأخر في المرة القادمة. قلت: لن أتأخر. أعطاني مغلفًا لجيسكاردتون، وودعني ببشاشة: حظ طيب! قلت: حظ طيب! وقفزت في القاطرة... بعد لحظات، انطلقت كالرصاصة. استعدت في خيالي مئات الأقنعة المقهقهة على منظر تساقط أجمل فتيات العالم جثثًا هامدة على الخشبة، وقلت كان الأمر سهلاً إلى هذه الدرجة، ومربحًا بهذه السرعة، فمعلمة العبرية القديمة من الغباء بحيث أن تاريخ اللغات كلها بريء منها. بدت في خيالي بعض أقنعة بشعة كانت تعلقها في القسم وبعض جماجم كنا نضحك عليها، وشممت بعد كل هذي السنين رائحة بخور كانت تحرقه في صحن فضي قبل أن يبدأ درسها، رائحة مزيجة من عطر الصندل وعَرَق الإبط كانت تقرفني بقدر ما كانت تهيجني جنسيًا، فأشتهيها على الرغم من عقدها الخامس، أشتهي أن أقتل شيئًا فيّ أو أن أنقذ شيئًا فيّ، ولم أطق أكثر رائحة الإبط تلك المطاردتني حتى هنا، وأنا على بعد آلاف الكيلومترات منها بينما أنا منطلق بأقصى سرعتي في ريح بيارتز المالحة، وبحرها ينتظرني هناك مثل ظلِ بحارٍ "باسك" محملٍ بالوعود الغالية يأتي بعد عاصفة. أخرجت رأسي من طاقة القاطرة، وتنفست عمرًا من الهواء المثلج اللاذع اللاسع اللذيذ، وقررت في المرة القادمة أن أعمل في تهريب الأسلحة لحسابي، المرة القادمة أو التي بعدها، وهذا ما حصل بالفعل بعد أن غير الملتحي مكان استلام الصناديق. ولكن جيسكاردتون علم بالأمر في اليوم نفسه، فمن قال له غير الرجل الملتحي ليضاعف من عمولته. استدعاني إلى مزادٍ لبعض الماس ستذهب نقوده إلى صندوق الدولة، وبعد أن اشترى الماس كله، وهو يجمجم مغضبًا: ما هذا إلا نصب شرعيّ! أشار بإصبعه إلى ثلاثة من أعوانه لم يترددوا لحظة واحدة عن إجباري على الذهاب معهم إلى كهف الملهى أو لنقل مكان التعذيب فيه. أخذوا بضربي ضربًا مبرحًا، وأخذوا بشتمي وشتم أبي وكل أجدادي، وأخذوا يقولون إنني يهودي محتال كالدولة، تنكرت للباترون تنكر شعبي لموسى في سيناء، وهذا جزاء المعروف الذي صنعه فيّ، وهذه نتيجة ثقته وآماله بمواهبي، وظلوا معي إلى أن أعطيتهم كل الدولارات الذهبية التي ربحتها من صفقة لم تتكرر ثانية بعد أن أخذوا مني وعدًا قاطعًا بذلك وإلا كان موتي أسهل الحلول. التقطت أنفاسي، لملمت أشلائي، وذهبت بها إلى أحضان ناتالي المستعدة لاستقبالي على الخشبة، ألقيت بنفسي على قدميها، ورحت أبكي بحرقة بكاء روزالي القديم، فمدت ناتالي أصابعها إلى وجنتيّ، ومسحت لي دمعي برفق وتحنان، وضمدت لي جراحي. أتتنا بعض الأقنعة التي كانت تبكي معي أو تبكي عليّ بصوت أخرس، وجعلت من حول جسدينا درعًا يحمينا من الباترون، ونحن نكاد نختنق لضغطها الشديد علينا دون أن نستطيع مع كل ضغطها ذاك وإصرارها على حمايتنا أن نفعل شيئًا... ثم انطفأت الأضواء، لم يكن في القاعة أحد غير الظلام جسدًا عملاقًا والصمت ثوبًا شفافًا. كان عليّ أن أحمل قنديلي المشتعل في النهار بحثًا عن الشرفاء في العالم، حملته ورحت أقطع شوارع باريس شارعًا شارعًا، فلم أجد إلا فلولاً من جراد الماء هنا وهناك.
الفصل 29
علي يشاهد مصرع رولان بارت قال لي الطبيب بوشين: - انهض! فاجأني ذلك منه، فقراره بنهوضي لم يمهد له عندي، وخشيت أن يكون الأمر ضربة دماغ لا أكثر ولا أقل. رفع عني الغطاء والممرضة الجميلة تقف إلى جانبه، وهي تبذل جهدًا كعادتها لتبتسم لي: - ستعتمد بذراعك على كتفي، هيا انهض! يجب أن تسير بعض الأمتار كل يوم، هكذا يقوى عظمك، وتستغني عمن يقودك من إخوتك، وكل هذا بالطبع تحت إشرافي وحسب أوامري، فلا تخش شيئًا. أوقفني رافعًا إياي من ناحيته، ولكنني تساقطت من الناحية الأخرى، فرفعتني الممرضة الجميلة، وجعلتني ألفها من حول كتفيها. ظل الطبيب بوشين يمازحني طوال الوقت محاولاً تشجيعي، ومع ذلك، فكرت أنني أزعج الجميع، وقد عادت لي بعض صفاتٍ كريهةٍ من طفولتي، فمثلاً كان الاحمرار يخفق لي وجنتيّ لأدنى ملاحظة، وقد عرقت، واعتقدت أنني أثير قرفها، أقصد بالطبع الممرضة الجميلة. حاولت أن أتركها إلى أخٍ من إخوتي، فحذرتني من السقوط، وطلبت مني أن أتشبث بها. بعد ثلاثةِ أيامٍ أخذت أسير وحدي في الممر الطويل، أسير، ولكن بصعوبة، وبعد شهر أمر الطبيب بوشين بنزع الجبس عن قدمي، ثم أعطاني إذنا بمغادرة المستشفى. والممرضة الجميلة تأتيني بثيابي، قالت لي، وهي تبتسم بجهد: - ها أنت قد برئت. - كما ترين. - وعدت تسير بسهولة. - تريدين القول بسهولة ليست سهلة. قالت، وهي تبتسم بجهد دومًا: وعدت باصطحابي إلى السينما إذا ما عدت تسير بسهولة، أليس كذلك؟ وأعادت حاثة إياي: - أليس كذلك؟ هززت رأسي بالإيجاب، وفي صدري أقول: لم يحصل شيء من هذا! الذي حصل أنها رسمت كل شيء، كانت تصنع مغامرتها، وكنت مكبلاً بجمالها. قالت: - السبت، ما رأيك؟ - تقصدين غدًا؟ - أنهي عملي على السابعة مساء كالعادة. وجدتني أقول لجمالها: - سأنتظرك عند الباب الخارجي. - انتظرني هنا في حجرة الاستقبال، فالبرد شديد في الخارج، وربما تأخرت قليلاً. - لا بأس في ذلك، سأنتظرك عند الباب الخارجي. ابتسمت دون أن تبذل جهدًا هذه المرة، على الأقل هذا ما بدا لي، وما لبثت أن قالت: سأتركك لترتدي ثيابك بينما أعد أوراق الخروج. طلبت من سائق التاكسي أن يوقفني قرب كنيسة سان جيرمان دي بريه، رأيت في صمتها الساجي وظلالها الثابتة ثلاثة أو أربعة يتعبدون في جهات متفرقة وقِسّاٌ يصلي تحت قدمي العذراء. قلت هو قس الكنيسة، فذهبت إليه بينا تثير في نفسي جذوات الشموع نوعًا من مرارة الدواء، لم أكن أدري لماذا، وكأنني أجبر نفسي على السير إلى حياتي الطبيعية إجبارًا بعد خروجي من المستشفى. وفي اللحظة التي توقفت فيها قرب القس الغائب مع تمتماته، تبين لي أنني أخطأت الهدف، فهذا إبليس يرتدي ثوب قس يصلي ويتعبد. جلت بنظري مرة أخرى في أرجاء القاعة، فلم أقع على قس الكنيسة، قلت من الممكن أن يكون في حجرته التي ذهبت إليها، وطرقت بابها قبل أن أدخلها لأجده يرسم فتاةً عاريةً رأيت فيها تلك التي كانت تقبله في وضع إباحي. طلب مني أن أنتظر قليلاً، فانتظرت طويلاً. بعد ذلك، انحنيت على أذنه، وهمست له بشأن تنظيف الكنيسة، فأخبرني أنه أحضر شخصًا آخرَ مثلي مسلمًا أندلسيّ الأصل، ووعدني بأن يبحث لي عن عمل خارج الكنيسة على أن آتي لأراه بين فترة وأخرى، وسيحصل خير. قال لي كل ذلك همسًا دون أن ينقطع لحظة واحدة عن تأمل محاسن الفتاة والغوص في ألوان لوحته، وكأنه يخضع لوحي ملهم. ذهبت إلى حيث كان من عادتي الانتظار ريثما ينهي القس مراسيمه، فرأيت شابًا إسبانيا غجريّ الملامح يمسح البلاط. قلت لنفسي ها هو ذا المسلم الذي حل محلي. أخذت دراجتي السولكس، وتوجهت مباشرة إلى متجر فيليكس بوتان على الرغم من أن الوقت باكر على التنظيف. أردت مقابلة المديرة، فكانت دهشتي كبيرة لما رأيتها ترتدي جلدًا أسود والحارس بين يديها عاريًا جاثيًا له شكل الخروف المنسلخ، لم تأبه لحضوري، إذ أخذت تفعل فيه نافخةً لاهثةً، ثم أبلغتني مشفقةً عليّ وعلى حالي أن عربيًا مثلي ربما كان من معارفي قد حل محلي، وقالت لي مثلما قال القس أن آتي بين فترة وأخرى لأراها، وسيحصل خير. خرجت من عندها إلى مدام الفندق، فوجدت زوجها يبيع طفلها لسائح وسائحة أمريكيين. كانت تجلس على كنبة ببطن منتفخ، فقلت ها هي المومس تحبل مرة أخرى من جديد. سمعتهم يتساومون على الطفل، فأصابني غثيان دفعني إلى العودة على أعقابي. قلت سأذهب عند موزع لوموند، فأسأل عن بيع الجريدة بما أن محمدًا قد مات، وعلى أي حال سأقضي ليلتي معه، وفي الصباح أجد حلاً، هذا إذا وجدته ذلك الحل السحري. وأنا على دراجتي، وأشعة شمس بعد الظهيرة تشق أخيرًا غيم باريس لتسقط على عتبة رمشي، تذكرت صورة أمي التي هي هويتي وحياتي وكل ما تبقى لي، أفلت المقود، وبيديّ الاثنتين رحت أبحث في جيوب معطفي عنها بجنون. انقذفت الدراجة عدة أمتار في خط منحرف يشبه إلى حد بعيد خط الجحيم الذي أودى بي إلى ما أودى في مأتم السين، مأتم أرجو ألا يتكرر، وكدت أسقط تحت عجلات سيارة تشبه إلى حد بعيد السيارات الأخرى المصفحة عبرت من جانبي بسرعة، ولكنني مع النفير الشرس انتبهت، وأمسكت المقود بيد وباليد الثانية رحت أبحث بلهفة طفل سيفقد أمه عن صورتها إلى أن وجدتها مدعوكة ، ولكن ذلك لم يكن ليهمني، المهم أنني قبضت على هويتي بأصابعي. وكان من أمي أن ابتسمت لي، ثم مدت يدها من الصورة، ورفعت لي شعري عن جبيني. جمعتُها على صدري، مسحت شعرها عن جبينها بدوري، ثم أعدت وضعها في جيبي بكل وداعة. لم أذهب عند الموزع، تجولت في شوارع باريس دون هدف معين، ولما تعبت من التجوال، سحبت دراجتي في شارع المدارس، وهدفي كان طبعًا ناتالي في السان جاك. وأنا أنتظر ضوء مرور المشاة عند الملتقى، رأيت أحدهم، وهو يهبط درج الكوليج دو فرانس مثل صورة لتقتله سيارة مسرعة. ذهبت لأرى الرجل، فوجدته يغرق في دمه المؤشر إلى آلاف السهام. سمعت بعضهم يقول ها هو رولان بارت يموت، فرأيته يبتسم، وهو الميت. أكان يبتسم لأنه مات أم لأنهم لا يرون ابتسامته؟ حملوه مثل كتاب مليء بالعلامات، ورموه في جوف سيارة إسعاف تقودها ابنة ملك الكلام التي وصلت متأخرة. كان موت بارت قد شجعني على الصعود إلى حجرة ناتالي حجرة الرموز والألغاز، فلم أجد بابها مفتوحًا على مصراعيه مثلما كنت أتوقع، كان كل شيء قد عاد كالماضي بعد انتهاء المأتم. دققت على الباب، فلم يجبني أحد. قلت هي عنده بلا ريب، وعليّ أن أجده، هذا ما طلبته روح روزالي مني، ولكن ما جدوى ذلك؟ كانت عواطفي قد جمدت تجاه ناتالي فجأة، فريمي، فصورة أمي، فتمثال العذراء. كانت عواطفي قد جمدت تجاه جميع البشر. قررت أن أحمل مصباحي المنطفئ في الليل بحثًا عن الشرفاء في العالم. عند ذلك، سمعت حوارًا بين اثنين يأتيان من ورائي: - لو قرأ بارت الكتاب الذي نكتبه لأحبه، لكنه انتحر قبل أن يقرأه. - لو نجح كتابه الأخير لما انتحر. - لو قرأنا لما انتحر. لأننا أنا وأنت، يا عزيزي أفنان، نكتب الكتاب الذي كان على بارت أن يكتبه كيلا يموت. تجاوزاني، فرأيت ستاندال الذي أعرفه جيدًا بصحبة شخص آخر لا أعرفه. أضافا: - كتابة تزأر خِلاسية قبل كل شيء على صورة عصرنا ولكنها مبتكرة كقمر أسود في جحيم أبيض. - لنكن ملعونين إذن إلى الأبد! لم أعد أسمع شيئا، اختفى الرجلان، ولم ألتق سوى فلول غربان أينما ذهبت. تحت قنطرة الفنون، لمحت نارًا، فهبطت لأدفئ يديّ قليلاً لأجدني وجهًا لوجه مع أولادي الثلاثة، غافروش وأخويه، أبناء حلمي، مفخرة كل الملعونين.
الفصل 30
ريمي يقص شعر ناتالي ثم يجرعان شراب الحب السحري
أصدرت أوامري لفرقة الرقص المؤلفة من سبع وأربعين راقصة من أجمل راقصات الدنيا كي تظهر على الخشبة، فاشتعلت ملايين الأضواء وانطفأت كالموج على دفعات إلى أن غرقت القاعة في بحر من الضوء الجهنميّ، عندما اكتمل دخول الراقصات أمام الجمهور تركت خلفية المسرح، وأخذت طريقي إلى ناتالي بعد أن عقدت العزم هذه المرة على أن نشرب معًا شراب الحب السحري. كان يمضي بي بعض الموظفين والعمال والفنانين، فيلقون عليّ تحيتهم المنافقة، وأنا أجيب بهزة من رأسي أو بحركة خفيفة من طرف إصبعي، لأن هيبتي عمت الجميع، وأصبحوا كلهم يأخذون الأوامر مني بعد الباترون الذي أفهمني جيدًا أن كل ما لي وما عليّ سيظل رهن سلطته، وأن لا سلطة أخرى غير هذه السلطة التي لن تعرف في حياتها لعبة القط والفأر. عبر عن إعجابه الشديد بجدارتي في العمل لحسابي وجرأتي في الخروج عنه، وقال إن كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على طموحي الهائل، وإن عليّ أن أكرس هذا الطموح في مملكته، وهكذا كان –إلى حد تلك اللحظة على الأقل- فالدخول إلى المملكة غير الخروج منها، وهذا أمر لا يحتاج إلى الذكاء الفذ الذي أتمتع به، طفل صغير يعرفه، وهذه هي سلطة جيسكاردتون في الملهى وكل هذه الخفايا وهذه الأجواء. أصبح الذي يهمني أكثر من أي شيء آخر أن تبقى ناتالي ملكًا لي وحدي، أن أجدها دومًا قربي، إلا تفكر في عليّ، وهي لن تفكر فيه إلى الأبد بعد جرعتي السحرية. فتحت عليها حجرتها، فوجدتها تجلس أمام مرآة الزينة. كان وجهها أبيض ملوثًا بالجير، وجهَ ميتٍ، وكانت بصدد تلويث شفتيها بالجير، وعندما التقت عيناي بعينيها عبر المرآة اقتربتُ منها حتى لاصقتها تمامًا، ورحت أدعك نهديها، وهي لا تفعل شيئًا. ألقت يدها بكلل في حضنها، وانتظرت أن أنتهي من شم شعرها، ولعق عنقها، وعض حلمتها، ولكنني همست لها مجنونًا بها: - أشتهيك، ناتالي خبلي وسعاري، أشتهيك! ولا أستطيع إلا أن أحفرها في لحمي. تخلصت مني مؤقتًا، ووقفت بكلل دومًا، ثم قالت بصوتها الواهن: - المشهد القادم لي. أرعبني برد صوتها، واستفزني موت روحها: - وأنا أسمعك تقولين "المشهد القادم لي" أتذكر امرأة أبي عندما كانت تضم روزالي إلى صدرها، وتقول بكبرياء منهوك (قلدتُها:) هذه الطفلة لي! أعطتني ظهرها، فأسرعت صوبها ذاهلاً، وجمعتها في أحضاني. رحت أرفع لها خصلات شعرها، وأمصها من عنقها، وأنا أهمهم تائهًا: - ها أنا أقولها، ها أنا أقولها... هذه المرأة لي! هذه المرأة لي! وأدرتها بعنف، فانفجرت عيناها، وسالت منهما دمعة. بقينا في سكون هيوب لمدة لحظة ثم أطلقتها وقلت لها: - وأنا طفل صغير كان لي شعر طويل كشعرك، شعر جميل، أجمل من شعر امرأة. ذات يوم، دخلت امرأة أبي عَلَيّ، وبيدها مقص تناولته عن طاولة الزينة (تناولتُ مقصًا عن طاولة الزينة) قالت لي بصوت حاد النبرة (قلدتُها:) لا تخش شيئًا، هذه خالتك أيها الشقي، لك شعر ساحر كشعر الأميرة! تعال! أخذتني في أحضانها (أخذتُها في أحضاني) جَلَسَتْ على كرسي وأنا فوق فخذيها (جَلَسْتُ على كرسي وهي فوق فخذيّ) أمسَكَتْ خصلة من خصلاتي (أمسَكْتُ خصلة من خصلاتها) وقالت لي وهي تطلق ضحكة شيطانية (قلدتُها:) اسمع يا صغيري، لو أن هذا شعر بنت لكان جميلاً أن تطلقه ما دون كتفيها، أما أنت فمن الواجب أن تكون ولدًا على حقيقتك، ولو كانت أمك موجودة لأغضبها ذلك، أن تحتفظ بشعر طويل كالنساء. أنظر! أرتني خصلة من شعري قصتها (أريتها خصلة من شعرها قصصتها) بَدَأَتْ تقص لي خصلات شعري، وترتبها فوق بعضها البعض (بَدَأْتُ أقص خصلات شعرها وأرتبها فوق بعضها البعض) في الأخير، فركتْ لي رأسي المشوه، حملتْ خصلات شعري، وخرجتْ (فركتُ لها رأسها المشوه، حملتُ خصلات شعرها، وخرجتُ). تركتها، وهي تنهمر في بكاء صامت. عدت، وفتحت عليها الباب، وقلت: - لقد بكيت وقتها، مثلك تمامًا. أغلقتُ عَلَيّ باب مكتبي، وأنا أشد في قبضتي قمقم شراب الحب السحري الذي لم أُشربه لها بسبب كل ذاك الهذيان، فندمت أشد الندم، وعنفت نفسي على ما فعلت أشد العنف، ورحت أصرخ بين جدراني المغطاة بالجلد العازل: يا إلهي! ماذا جعلت مني أُم روزالي؟ آه يا إلهي! ماذا علمتني؟ لما كان قلبي الطفل نبتة خضراء، وكانت السماوات في عينيّ حمامات زرقاء. علمتني ألا أكون ذاتي، ومضيت دون أن أدرك طريقي الصحيح. انتقمت من شعر ناتالي الجميل، وذهبت ثملاً، وفي ظني أنني احتسيت كؤوس انتصاري! وها أنا أمشي وأترنح، الطريق مستقيم، ولكنني أمشي بشكل متعرج لا تنتهي في قدميّ دورته. هكذا أنا أمشي الآن، بينما أدعي أن سراطي مستقيم، وأنه أبدا لا ينحرف. ماذا علمتني أمك قبل أن يبتلعك البحر؟ ألهذا سكنتِ البحر؟ ألهذا سكنتِ إلى البحر؟ لتطلبي إليه مع الموج أن يأتي إليّ؟ لم يأت مع الموج، ولم يأت إليّ بالموج، ولم يتحَدّ ظله المنسيّ، وصرت حكاية من حكايات أمك، يشدني ذلك الكهف المعتم الذي في أعلى جبل جرزيم، فهل أصعد؟ إني صاعد إليه، إني صاعد إليك؟ أخشى السقوط، فهل أسقط بعد أن صعدت إليك على هواي الذي صار هواك، فالهوى علم وعذاب. وصلني غناؤها المالنخولي المحزن المتعس المشجي، قصيدة أخرى لشاعرها الذي سكنه البحر وسكن إليه:
غابة الزيتون كانت دائما خضراء كانت يا حبيبي إن خمسين ضحية جعلتها في الغروب بركة حمراء... خمسين ضحية يا حبيبي... لا تلمني... قتلوني... قتلوني... قتلوني...
أخذت أضرب رأسي في جدراني المعزولة، وأضربه، ثم أضربه، وأنا ألعن هذا الوجود، وأصرخ أنه إذا ما كانت هناك ضحية فلا ضحية أخرى غيري، وإذا ما كان عدد الضحايا خمسين، فالخمسون هم أنا، وما معنى الضحية إن لم تكن على المذبح من دمي. حملت سكينًا يقهقه على مكتبي، وهممت بقطع يدي التي قصت شعرها بضربة ساحقة، ولكن صوتها العذب مع كل الحزن الذي فيه قد منعني من تنفيذ ذلك:
كان قلبي مرة عصفورة زرقاء يا عش حبيبي ومناديلك عندي كلها بيضاء كانت يا حبيبي ما الذي لطخها هذا المساء؟ أنا لا أفهم شيئا يا حبيبي!
حملت نفسي الضحية ونفسي المذنبة إليها، وحملت إليها قلبي الذي صار كعشب الصيف، والذي لم يزل عصفورة زرقاء لونتها لي روزالي، وخبأتها من لحظة كتلك. أمسكت بذراعها بعد انتهاء الأغنية، وتصفيق الجمهور لم يزل يدوي في القاعة، وذهبت بها، وهي تعتمد على ذراعي إلى غرفتها. مددتها على السرير، وجعلتها تشرب من شراب الحب نصف ما في القمقم، وشربت نصفه الباقي. عانقتها بحب، وعانقتني بحب، ولأول مرة أحسست بجسدها دافئًا على جسدي. ولأول مرة نَظَرَتْ في عينيّ، فأَحَبَّتْ وجهها الجيري في عينيّ ورأسها المشوه ودمعها الجاف، لأول مرة نَظَرَتْ في عينيّ، وأَحَبَّتْ عينيّ. قلت لها إنني لم ألطخ مناديلها، ربما فعل ذلك أحد غيري، أما أنا فلم أعتدِ على المساء الذي أقضيه الآن معها، وعلى أية حال الدم قدر علينا أن نعيشه بقدر الحب الذي هو قدر أيضا، والدم في نهاية المطاف حياة، فهذه حياتنا لنقطعها... أيمكننا أن نفعل غير ذلك في عالم لن نجد فيه إلا نحن؟ عادت تقبلني، فغدوت مركبًا يغرق في بحر سعادتي. فتح علينا باترون الملهى الباب، وقال لناتالي إن شيخًا عربيًا يريدها أن تنام معه بعد أن أحزنه غناؤها وأعجبه صوتها، فقالت له يمكن أن ينتظر الشيخ طوال العمر، فهي لن تنام منذ اليوم مع أحد، وهي لم يعد اسمها ناتالي بل ايزوت، وأنا لم يعد اسمي ريمي بل تريستان، وحبنا حب أبدي، فغضب جيسكاردتون، واتهمها بالسخف، وقال أما إذا كان الأمر كذلك، فهو حب خالد ومشئوم كروح الماس، وخرج، وهو يضرب الباب من ورائه. كان الشيخ العربي القرد الجميل المسرف قد راح يكب الشمبانيا كبًا لأجل صوت ناتالي الذي أعجب به، ولجسدها النحيل الذي اشتهاه شهوة نحلة تائهة في صحراء إلى ظل نخلة، ولم يعرف جيسكاردتون ما يقوله له بعد أن طعنت ناتالي برفضها القاطع ذاك مصالحه في الصميم. قال للشيخ ائتني بعليّ أوظفه لك، أعترف به، وأحميه، فغضب الشيخ منه لأنه لم يذكر عليًا ولا يريد أن يذكره أو حتى أن يسمع بسيرته، ذاك الذي باع نفسه وأرضه وعرضه للشيطان، وأصر على أن يمتطي البنت أو يشتري الملهى، وهو سيشتري الملهى ومقهى فوكتس وكل الشانزلزيه، وفضلاً عن ذلك الملهى جزء من تراث العرب الثقافي. وأخذ يبعثر دولاراته الذهبية، وينثرها على رؤوس الحاضرين، فحولهم ببدلاتهم السوداء البراقة إلى كلاب أنيقة تلهث على نعليه، ثم تستقيم على نعليها، وتضحك عليه. باءت محاولة الباترون الثانية مع ناتالي بالفشل، فراح يضرب نفسه قبل أن يعرض على الشيخ المتعطر بأغلى عطور شانل أن يأخذ من راقصات الملهى السبع والأربعين من يأخذ ومن يريد، أن يأخذهن كلهن لو يشاء، ويمتطيهن واحدة واحدة أو معًا، وأن يمتطيه هو أيضًا أو العكس بالعكس إذا كان يحب الذكور والباكاكس، ويرغب فيهم، فقط ليستر عرضه، هذا كل ما يطلب. وليعبر عن مدى صدقه، إذا بالباترون يفك سرواله، ويكشف للشيخ عن مؤخرته، وينحني بين يديه متوسلاً مطنبًا، مما دفع الشيخ إلى إطلاق ضحكة مدوية على منظره، وبعد أن طبطب عليه، غادر وصحبه الملهى إلى حلبات قمار غابة بولونيا ليكب دولاراته الذهبية ذهبًا أسود فيها كبًا. وعندما دخلتُ على الباترون في الليلة التالية، وجدته يسدد بوتده مؤخرة الشيخ، فخرجت بعجلة.
الفصل 31
ظِلُّ عليّ يقتل بالسيف ظِلَّيْ ابن ملك المال وابنة ملك الكلام
أعلمني غافروش أنه ذاهب وأخواه للتحضير لعيد الثورة الفرنسية، قال لي تصور أن مائتي سنة مضت على أول ثورة ديمقراطية في العالم، ولم نزل ننام إلى اليوم تحت القناطر، فقلت له إنها أعظم ثورة في التاريخ على الرغم من كل شيء، فابتسم، وقال قبل أن يذهب أما أعظم ثورة تأتي في الدرجة الثانية بعدها فهي ثورتكم اللاثورة، وانطلق مع أخويه على رصيف السين راكضين، وأنا أفكر في كلماته، وأدقق النظر في عبارة "ثورتنا اللاثورة" التي يعتز بها لقيط قنطرة الفنون. كان العياء قد اعتصرني بقبضته الحديدية، فاليوم هو أول يوم لخروجي من المستشفى. لم أكن جائعًا ولا حزينًا بعد أن جمدت عواطفي تجاه كل من أحب وكل من أكره، لكنما أحس بضرباتٍ لا تني داخل جدران صدري. فكرت في الذهاب إلى المترو والارتماء في جوفه سعيًا وراء الدفء بعد أن انطفأت النار، ومع ذلك أخذت طريقي إلى مسرح شاتليه لأنام في الحبكة بين الظلال. أفقت من نومي على حوار بدا لي سريًا يأتي من القاعة، فرأيت كشافين للضوء مسلطين على ابن ملك المال وابنة ملك الكلام، وهما جالسان على مقعدين المقعد إلى جانب المقعد والمرفق إلى جانب المرفق، كانا ينظران في اتجاه الخشبة حيث كنت أنظر إليهما منها: قالت ابنة ملك الكلام: - لنترك أرسطو وبريشت إلى لعبة مسرحية جديدة. قال ابن ملك المال: - لنترك اللعبة المسرحية الجديدة إلى أرسطو وبريشت. - كلاهما لا يتحاب. - سيتحابان عندما نتحاب أنا وأنت (يقبلان بعضهما قبلة ميكانيكية ثم يعودان إلى وضعهما الأول) وعندما ينظر الجمهور إلينا من الخشبة (يشير إلي) الموقع أهم ما في الحياة، أما الموقف منها، فهو في أيامنا هذه طبيخ يصنعه كلانا. - طبيخ يمتع. - طبيخ يسلي. أنظري إليه (يشير إلي) الجمهور يتسلى! - لكننا هو. - نحن هو، وهو نحن، يتطهر بنا، ونتدنس به، أو العكس بالعكس. هو يتسلى بنا، ونحن نتسلى به. - صه، عليك ألا توقظه، عليك ألا تفضح اللعبة. - لا تخافي علينا، نحن نتسلى بالكلام عنه وبسلبه ماله، نسلبه ماله وقلبه وحياته، وفي الوقت ذاته يتسلى. هذه هي التسلية الخاصة بعصرنا اليوم بعد أن أوجدناها. مبدأ علمي، أليس كذلك؟ (تحرق ابنة ملك الكلام كتاب ألف ليلة وليلة ويحرق ابن ملك المال بنكًا). - تقصد رؤية علمية إلى الجمهور الذي هو المجتمع، لأننا في الحقيقة الممثلون بينما نقوم بدور الجمهور، ألا نمثل في القاعة؟ - نمثل أدوارنا في مسرح الحياة إذ أن القاعة هي الحياة لا الخشبة، وإذا ما اعتبرناه (يشير إلي) يقوم بدور ما من هناك، من الخشبة، فهو ممثل فاشل، لأنه في الحقيقة الجمهور بينما يقوم بدور الممثل. - ممثل فاشل أو حاكم فاشل، على ألا يستمر ذلك في نفس الموقع إلى الأبد، ويصبح قدرًا مسلطًا. - السيدة الحديدية في الحكم منذ عشر سنين. - عشر سنين؟ عشر سنين لا شيء عندما يأخذ رئيسٌ الحكمَ من مهده إلى لحده... عسل الطائفتين مثلاً أو بصل الأمريكتين. - هذا غير هذا، هذا لأنه هذا. - نسيت أن مثله مثل بعض منشطي التلفزيون الفرنسي: منذ مولدهم وهم هنا، وجوههم التي كانت جميلة لم تزل في وجوهنا التي ظلت دميمة. - هذا هو مصير الكفاءات التي اكتسبوها من خبرة الفشل ومعرفته، لهذا من الصعب تنحيتهم من مواقعهم. - والشبان؟ ألن تكون لديهم كفاءات؟ أولئك كانوا شبانًا أيضًا؟ لنفتح مجال الفشل للوجوه الجديدة والمواهب الدفينة وإلا طالبنا بأن تحل السيدة الحديدية محل كولارو بعد تقاعدها، أو على الأقل بعد أن تخسر الانتخابات القادمة إلا إذا أشعلت حرب مالوين جديدة. - أتشكين في مواهبها المسرحية إلى هذه الدرجة؟ - أنا لا أشك، ولكن لأنني خائفة عليها من هذه المواهب، الله يستر الإنجليز والفلسطينيين بعد أن ينشئوا دولتهم والمعجبين بالكوكوجيرلز! انطفأ الضوء عليهما وأضاء عليّ صانعًا لي ظلاً رحت أراقبه وهو يسعى إلى التطابق معي، وأنا أهرب منه بينما ابن ملك المال وابنة ملك الكلام يهزآن بي، ويضحكان عليّ، إلى أن استطعت الركض في ناحية، وظلي في ناحية، فتفاجآ، وراحا يحددان النظر في ظلي ظل ملك الصمت المريب الذي هبط الخشبة إلى ظليهما وفي قبضته سيف أهواه عليهما، وصرعهما بضربة قاضية، ثم ما لبث أن عاد لي، وهو ينقط بدم المتعة، فلبسته، وخرجت من كشاف الضوء إلى القاعة لأرى الجسدين اللاطبيعيين اللذين عريتهما من ظليهما، ووجدت ناتالي وريمي يتعانقان في الجسدين بشوق كبير. دفعني المشهد إلى مغادرة المسرح بأقصى سرعة، وأنا أسحق بقدميّ ملايين الأقنعة الضاحكة أو الباكية أو الضاحكة الباكية. سرت طويلاً في البرد والليل إلى أن فتح المترو مع الفجر، وذهبت نائمًا على مقعد فيه حتى الساعة السابعة لأصحو على دفعة موجعة من قبضة رئيس المحطة. كان على الرصيف المقابل المتسول الهرم الذي أعرفه، وهو ينامُ، ويغِطُّ، ويبدو عليه أنه يحلم أحلى أحلامه، فرعد صوت رئيس المحطة بقصد إيقاظه، لكنه لم يحرك ساكنًا. أخذ بعض الركاب ممن ينتظرون القطار ينظرون بفضول إليه وبعضهم الآخر ممن لا يرون فيه صورهم تدغدغهم أصابع السخرية. هبط رئيس المحطة من الدرج الممنوع إلى خطي السكة الحديدية، واجتازهما إلى الرصيف الآخر. خلال ذلك، أيقظ أحد الركاب المتسول، ففتح الرجل عينيه نصف فتحة، وبدأ يهمهم بشيء من الضيق: - حلوا عن ظهري! خراء إذن، خراء! تحرك ضجرًا في استلقائه، ثم عاد يغفو. كان رئيس المحطة قد جاءه، ودفعه دفعة قوية في كتفه تمامًا مثلما فعل معي، فهب المتسول ناهضًا كمن حط به عفريت، ورئيس المحطة يقول بفظاظة: - ليس هذا نزلاً، قم واخرج من هنا حالاً! ولم يجد المتسول ما يفعل، أخذ يهمهم بلهجة نصف نائمة نصف دائخة: - رويدك، أنا لا أنام في فراشك، رويدك! بينما راح يبحث عن حوائجه. ولم يتمالك المسئول عن المحطة ذاته، فصاح: - أخرج من هنا حالاً أيها السكير! ورفعه من تلابيبه، والرجل بارتباك يهمهم: - رويدك، رويدك، أنا تارك لك قصر الإليزيه الذي لك! وهو يبحث باستمرار عن حوائجه التي على مرمى يده. جاء القطار ليهبط البعض، ويصعد البعض، وتكررت ذات النظرات، وذات الإمارات، وبعد ذهاب القطار تجمع نفر من الرجال والنساء حول رئيس المحطة والمتسول، فأتيت للسؤال عن حافظة نقودي وبطاقة هويتي، ولم أستطع القيام بشيء. وقفت أتابع المشهد مع المشاهدين، فأين كنت؟ وأين صرت؟ وأين الخشبة؟ وأين القاعة؟ ورئيس المحطة أو مدير المسرح لم ينفك عن الصياح: - أخرج بسرعة وإلا استدعيت الشرطة... أيها السكير، أيها القذر، أيها الوضيع! وقد أراد التسلي إلى أقصى درجة، قبض على المتسول من كتفه، وسحبه دون أن يتدخل أحد من المشاهدين المبتلين بالعقل البليد والمسافة اللامبالية المكتسحين بضباب النعال اللاهثة ورائحة الأنفاس النافذة في الدهاليز، فلا غاليليه ينفع ولا أفلاطون ولا إنجلز، قلت لرئيس المحطة إنني أعرفه، هذا أبي الذي بحثت عنه طويلاً، فليتركه وشأنه! نظر إليّ وإليه، وبعد تردد تركه شرط أن آخذه، وأخرج به. أخذته، وخرجت به. كان أحدهم قد أتى للمتسول بحوائجه، فوجدته يمد يده في قفته، ويتناول حافظة نقودي. قال لي: - إني أعيدها لك. - والنقود؟ - النقود... لقد اشتريت بها نبيذًا. بدا في صوته اعتذار من يستعيد وعيه وقدره في عالم مليء بالوحوش، فلم أعلق. فتحت محفظتي، لأجد بطاقة هويتي لم تزل في مكانها. ابتسمت له، وأردت أن أشكره. في تلك اللحظة، اختطف المحفظة سوقيٌّ من يدي، وانطلق كالسهم، بينما راح المتسول يدفعني، ويحثني على اللحاق به. كان كل شيء قد تعدى إدراكي، وظللت لفترة ذاهلاً. سحبني المتسول من ذراعي إلى زقاق أشربني فيه نبيذًا رديئًا، ولم يتكلم طوال الوقت. كان ظلي بعد أن اختطف السوقيُّ جسدي.
الفصل 32
علي يغادر قفص الممرضة الجميلة إلى ابتسامة الجوكوندا الملغزة
خشيت ألا تراني الممرضة الجميلة عند خروجها، فإلى جانب الليل والموت والضباب كان مصباح عمود الكهرباء منطفئًا. سقط الضباب في كل مكان، اكتسح الظل، واكتسح الروح، فتداخلا، وذاب الواحد في الآخر، وطَفَوَا على سطح الوجود، ولما نظرتُ إليّ، أحسستني أرتفع خفيفًا إلى أعلى، فكأن العالم مبخرة صمتت. كان ذلك مذهلاً على الرغم من أن البرد لم يكن جحيميًا. تقدمت ساحبًا إلى جانبي دراجة السولكس التي لي حتى البوابة الكبيرة، قلت سيفاجئها ألا أرتدي قميصي الحريري وسترتي الجديدة، ألا آتي إليها نضرًا مثل كف مريم، مشتعلاً مثل وردة أريحا. رأيت إحدى الممرضات تخرج، وهي تلقي على الحارس تحية المساء، فتمنى لها نهاية أسبوع سعيدة. شدني حارس الجنة ذاك، رحت أدقق النظر فيه، فأرى أن على رأسه طاقية من الصوف خشنة، وأنه يرتدي صدارة كلاسيكية بصفين من الأزرار المذهبة، وأن حول عنقه وشاحًا ضخمًا. قلت لنفسي هذا واحد يخشى برد الجحيم ما في شك! عندما كان يبذل أنفاسه كانت تفور كرمادِ صورٍ افتراضية، فلا الظل هي ولا الروح، وكأنه يدخن سيجارًا كوبيًا، وعندما كان يتوقف عن التنفس كانت أشكال الضباب تطغى على ضوء المصباح القريب منه، فلا حريق النفس هي ولا لهب الفكرة، وكأنه ضوء سفينة تغرق بالتدريج. تأخرت التي موعدها معي، تلك التي قررت كل شيء، ورضخت لإرادة جمالها. فحصت ساعتي قلقًا: كانت الساعة السابعة وعشر دقائق. قلت سأذهب، لأنني لا أريدها أن تأتي، ولأنني لا أريد أن أراها. عزمت على الذهاب، ولكنني بقيت منزرعًا في مكاني. بعد لحظات، انفتحت البوابة، وخرجت ممرضتان، سلمت إحداهما على الأخرى بتقبيل الوجنتين، وانفصلتا بعد أن حيتا الحارس. الأولى أخذت الطريق الصاعدة إلى جبال كلكوتا الوهمية، وهي تلتفت إليّ، فأرى على ثغرها ظل ابتسامة، والثانية جاءت من كوكب الزهرة، وهي تشير إليّ، فأشير إلى ظلها. - مساء الخير. تأخرت عليك. - قليلاً. سرنا على الرصيف والدراجة ما بيننا بعد أن أخذنا الطريق الهابطة لا أدري أين. قالت لي الممرضة الجميلة بلطافة، وهي تثني رأسها مثل أجمل قمر في العالم: - كان من الأفضل لو انتظرتني في الداخل، سبق وأخبرتك أنني سأتأخر ربما. كيف حالك؟ - ليس سيئًا. - ما دمت تركب السولكس، فالحال حسن جدًا. الطقس بارد قليلاً. - قليلاً. فجأة قالت بمبالغة المحب المشتاق: - أنا سعيدة إذ أتيت! لم تكن تتوقع قدومي، ولكنها أرادته. ماذا تريد مني؟ عادت الأسطوانة في صدري التعب تعوي دون كلل: لم أعدها على الذهاب إلى السينما، لم أفه بحرف واحد حول ذلك، لم أعزم على ذلك. لقد قررت كل شيء... هي صاحبة الدعوة إذا ما عدنا إلى الحقيقة. لا أعرف عنها شيئًا سوى أنها ممرضتي التي تبذل جهدًا لتبتسم لي، ولا تعرف عني شيئًا غير ما قرأته حتمًا من معلومات ليست وافية في بطاقتي المرضية. ماذا تريد مني على التحديد؟ منذ لحظات قليلة أردت الذهاب، فلماذا بقيت بما أنني أردت الذهاب؟ كنت قد أتيت على أي حال. ليس من أجل السينما على التأكيد، ربما لأنها كانت جنسية قمرية نجمية، ولا هذا أيضًا، أو هو هذا وشيء آخر. لقد بدأت علاقتنا منذ قليل في قلب الليل والموت والضباب، وها نحن نسير جنبًا إلى جنب، وها هي تحادثني باستمرار، وكأنها تعرفني منذ زمن طويل، أما أنا، فأجيب باقتضاب، ومع هذا أجيب على أي حال، وأستمع إليها على أي حال، وأهز لها رأسي. قالت لي، وهي ترميني بضحكاتها العِذاب: - من العادة أن آخذ الباص إلى البيت، ليس من أجل هذا أضحك، ولكن لأنني أجد نفسي قصيرة في الليل. لم تقل لأنني أجد نفسي قصيرة في الليل إلى جانبك! وأنا أنظر إليها، فأراها جسدًا وظلاً حيين، وأنا أنظر إليّ، فأراني ظلاً وروحًا ميتين. - إنها المرة الأولى منذ ستة شهور التي أتمشى فيها بعد انتهاء العمل، ربما يزعجك الأمر أو يسبب لك الألم بسبب ساقك. أقصد لم يمض وقت طويل على شفائك، فلا تجهد نفسك كثيرًا. كان جوابي المقتضب دومًا: - لن أجهد نفسي كثيرًا. جوابي المقتضب الذي زاد من قلقي على ظلي الميت في ثوب روحي الضبابي، قلت لم تلاحظ بعد قلقي، لم تشم بعد دخان احتراقي، فهل وقعت في حبي إذن ليُغَيِّبَ عنها هذا الحب كل شيء، فلا ترى فيّ إلا لحظة عناق قادمة، بينما أنا جسد مريض غادرته الشهوة ورغبة البقاء قرب الحبيب؟ سمعتها تقول: - هناك مقهى عند نهاية الطريق، سنأخذ قهوة إذا شئت، ثم نذهب إلى بيتي، يجب أن أبدل ثيابي، فمن اللازم أن... قَطَعَتْ كلامها فجأة، وقالت بدهشة ووجل: - أنظر! شجرة خضراء ملأى بالأوراق! كانت على بعد قريب من الشجرة الخضراء شجرة عارية من كل ثوب، وقفنا تحت أغصانها التي تشكل لوحة لأصابع مخيفة مفروشة في كل الاتجاهات، وكأنها أصابع أخي قدر البحر، دفعتها المفارقة إلى الابتسام في نفس اللحظة التي انطلق فيها أحدهم يغني:
سآمر الشتاء أن يقف ما دام دفء هناك في أحضان العشاق!
قالت لي: أحب الشتاء، إنه فصلي المفضل! بقيت أنظر إلى وجه المغني صامتًا، فخَضَعَتْ للصمت هي الأخرى، وراحت تنظر إلى حيث أنظر. تنهدنا، وسرنا صامتين إلى أن دخلنا المقهى. كانت في المقهى بعض المجموعات الهاربة من ضباب الموت وآهات الموجعين واليائسين، كانت لبعضهم لحى طويلة، ولبعضهم شعر طويل، وكانت لهم كلهم سحن مريضة، وكلهم يشربون الكحول. وددت لو أبقى في عالمهم المعطوب، ولكن المحمي من هجوم باقي العالم مثل سفينة أضاع ربانها البوصلة، وترك نفسه ومن معه ذاهبين في خضم الموج تعبين غير مهمومين بعد أن انتهى انتظارهم لكل شيء، بعد أن انتهى انتظارهم لانتظارهم. قالت الممرضة الجميلة: علينا أن نخرج، فخرجنا إلى الانتظار، إلى القلق، وإلى الضيق. كانت نصف ساعة مضت على إبحاري بعيدًا عن العالم، وكأنها كل العمر، والآن أراني آخذ طريقي إليه على دراجتي. ركبت من ورائي، وهي تحيطني بذراعيها رغم أن قانون المرور لا يسمح بذلك لصغر الدراجة، لصغر الشرنقة التي تمزقت. كانت تلتصق بي، فأحسني نهبًا للنار التي في خاصرتيها، يلطمني لهب الجسد الملتصق بي، فألتقط بعض روحي، وأفكر فيما لو أقذفني وأقذفها معي تحت عجلات أول سيارة قادمة. سيطرت عليّ الفكرة، ولم أستطع تنفيذها. كان بيتها الذي وصلناه في أحد أحياء سان كلو الراقية، وكانت المفاجأة عندما طلبت مني الوقوف أمام أحد القصور البارزة بروز وحش مفترس في الضباب والظلام. أوضحت بسرعة: - لا تظن بي الظنون، فليس لي من هذا القصر ذي الألف غرفة وغرفة سوى غرفة واحدة متواضعة أجرتها لي صاحبته لأكون قربها إذا ما أصابها توعك مفاجئ، فقد سبق لي أن أشرفت على معالجتها عندما كانت مريضة مرضًا خطيرًا وكادت تموت. رأيت في الحديقة عربة أمي الملكية التي تجرها الخيول السبعة السود الفاحمة، فلم يخفف توضيح الممرضة الجميلة من لغز كل هذا لديّ، وبالفعل كانت في القاعة الرئيسية أمي بصحبة امرأتين ذات مال وجاه عرفت في إحداهما الملكة ماري أنطوانيت آخر ملكات فرنسا وفي الأخرى السيدة الحديدية رئيسة وزراء بريطانيا، كانت ثلاثتهن في وضعة أمام رسامين شهيرين عرفت فيهما ليونار دي فينشي وميكل آنج، ومن النساء الثلاث كان كل منهما يستخرج رسمًا واحدًا لامرأة واحدة هي مزيج منهن جميعًا. تقدمت من أمي بلهفة الابن الذي لم ير أمه منذ فترة بعيدة، فتجاهلتني، وأظهرت أنها لا تعرفني، ولما ألححت لم تتعرف عليّ. قلت ربما تعمدت الأمر، وذلك لحضور السيدة الحديدية وماري أنطوانيت، في الوقت الذي أبعدني فيه حرسها الخاص، وطلب إليّ بعض الخدم المحيطين بالنساء الثلاث العُظميات أن أغادر المكان بسرعة. وبالفعل، سحبتني الممرضة الجميلة من يدي، وصعدت بي درجًا في طرف القاعة، بينما أتت بعض الفتيات لتسوي لهن أظافرهن، وتصبغها. همست الممرضة الجميلة استنكارًا: - أمجنون أنت لتفعل الذي فعلت؟ سيدات العالم هن اللواتي لا يقربهن امرؤ إلا بإذن لا يعطى بسهولة، وهن يستعددن على طريقتهن للاحتفال بمرور مائتي سنة على الثورة الفرنسية. أدخلتني حجرتها، وبعد أن استعادت هدوءها، مسحت بيدها على شعري، وراحت تقدم لي أشياءها الموضوعة في أقفاص مذهبة: - هذا دبي، وهذا تمثالي، وهذا ألبومي، الدب أحتفظ به منذ طفولتي، والتمثال بحثت عنه في سوق البراغيث حتى كللت ثم وجدته وكأنني وجدت أغلى شيء في الوجود، أما ألبومي ففيه كل الصور الغريبة التي يعجز المرء عن تصورها. أنظر! نظرت إلى صور لجرائم ارتكبت في يهود وغجر وشيوعيين وأرمن وفلسطينيين وسود وهنود، كل هذه الصور الفظيعة التي كانت في الحقيقة صورة واحدة لبشر واحد معذب على أيدي بشر ليس بشرًا بل بشر جهنمي. وجدتني أنظر إلى قفص فيه قاموسي الذي بعته في يوم ضائق مضى، فحملته، ورحت أقلبه، وأنا أقرأ على هوامشه الملحوظات التي دونتها بخط يدي، وإلى جانب القاموس في القفص كانت بعض كتب لبارت وستاندال وأفنان. فتحت الممرضة الجميلة قفصًا، وجلست فيه. طلبت إليّ أن آتيها، فأتيتها، وجلست إلى جانبها صامتًا. أثارها صمتي، فانحنت بين يديّ، ونظرت بلا كلفة إليّ. راحت تتأملني وكأنني دبها أو تمثالها أو صورة من صورها، وسألت بإخلاص، وهي تحاول الانفعال، وهي تضغط حاجبيها: - ماذا بك؟ ماذا جرى لك؟ أمام صمتي المتواصل، سَحَبَتْ نفسًا والقلق بادٍ عليها، وقالت بإخلاص، وهي تحاول الانفعال دومًا مع أنها أرادت أن تظهر إخلاصها فقط دون انفعالها: - سأصغي إليك... ثرثرت أنا بما فيه الكفاية، وهذا عيبي. هل أزعجتك ثرثرتي؟ إنها لعادة رديئة أدري ذلك، حاولت التخلص منها منذ لاحظت عليّ أمي عادتي هذه رغم أنها لا تسكت عن الكلام طوال الوقت. أعدك بأن... أما أنا فأمي قد تجاهلتني وكأنني لم أعد موجودًا! كانت أصابعي قد ارتفعت من تلقاء ذاتها، جسست بأصابعي شفتيها، وجسست بأصابعي أنفها ووجنتيها، دفنت أصابعي في عنقها، فأمالت رأسها ضاغطة أصابعي في رخاصة كتفها... هناك بعثرت بعض البراعم، وهناك نبتُّ في يوم مضى كأني عرق نرجس، وتفتحت في يوم مضى كأني عرق نرجس! كانت حبيبتي بين أصابعي، وها هي ذي تذوب بين أصابعي، وها هي ذي تذوب في أصابعي، فأصبح ثغر الصبح، وأصبح قلب الصبح، وأصبح الصبح، ويظلم الصبح في حقل حياتي. كانت حبيبتي في أحضاني، وها هي ذي تذوب في أحضاني، فيذوب العالم في عينيها، ويصبح العالم زنبقة، ويصبح العالم ضوءًا أزرق، ويضيع العالم في المساء الليلكي. أردت أن أصيح بناتالي أين أنت؟ وأين أنت يا روزالي؟ في أي بحر سكنت؟ أين أنت يا عائشة؟ ابتلعت صمتي بصعوبة، وسقط دمعي البريء في أثلام خدي المجرم. جَمَعَتْني في أحضانها، وراحت ترشف لي دمعي نحلةً تحب الملح، فتشنجتُ، وأبعدتها إبعادي لوتر في كمان توقف عن العزف، مما جعلها تجفل، فسيمفونيتها لم تزل في أوجها. ابتعَدَتْ عني ذاهلة، وأنا أتخيلها وترًا تمزق، وجدتني أمام ذهولها أبتسم، وألم جميل يفتك بي فتكًا جميلاً. أحسست وقتها بأنني روحٌ تخرج من ظلي لتلتقي طفولتي شمعةً انطفأت فجأة لما هبت عليها الريح المعاقبة. قالت لي دون رغبة: - ربما كان من الأفضل لو نخرج من القفص الصغير إلى القفص الكبير. وأخذت تبحث عن تبرير: - إن حجرتي كئيبة! سبقتها إلى الخروج من القفص، وأنا أسقط في الصمت، ثم قلت لها بعد قليل: - سأذهب إلى القفص الكبير وحدي. واتجهت إلى الباب، فجاءني صوتها الفائض بالأسف، وقد امتلكت أخيرًا الانفعال فيه: - أنا آسفة! قلت: لا تأسفي. وفتحت الباب. قالت: لم أكن لطيفة معك! فكرة السينما التي كانت فكرتي، والشجرة المورقة، والقفص، كل هذا ليس لطيفًا من طرفي! فنفيت: بل على العكس. فسارعت إلى القول: لسوف تأتي يومًا. قلت وأنا أفكر ألا أعود على الإطلاق: لسوف آتي. وأغلقت الباب. عندما هبطت الدرج الداخلي نظرت إلى سيدات العالم الثلاث العُظميات وإلى أعظم رسامين في العالم وهما يرسمانهن والملكة ماري أنطوانيت تضاجع مدام فيلتون من وقت إلى آخر، وعندما ابتعدتُ عنهن بعض مسافة دفعني شوقي الشديد إلى أمي إلى الالتفات، وكذلك استغرابي الكبير منها، وعتابي العميق عليها، فرأيت طيف ابتسامة على ثغرها، ظل روح أشبه بظل ابتسامة الجوكندا ذات اللغز المخيف.
الفصل 33
ريمي يتزوج من الأيادي البيض تسعًا
لم يُرْضِ جيسكاردتون حبنا الخالد المشئوم، لأن امتناع ناتالي عن فعل الحب مع زبائنه قد عطل عليه كثيرًا من مصالحه، فلجأ أول ما لجأ إلى الدبلوماسية في إقناعها على الرجوع عن رأيها، فهو دبلوماسي منذ أن ولدته أمه، وذلك بأن يكتب لها باسمها بعض أسهم الملهى، فتغدو له شريكة، وأن الأمر لن يقف عند ذلك الحد، فهو سيزوجها من شيخ عربي بهي الطلعة، شيخ شاب ستعود إليها أمواله بعد أن يموت غدرًا، ومن هذا اليوم التعيس إلى ذلك اليوم السعيد، يوم التنفيذ، سيسمح لها شيخه الشاب بممارسة كل ما تريد وما ترغب، لأنه متنور متفتح ومتحضر، حرية المرأة الغربية غالية على قلبه. أمام إصرار ناتالي على رفض اقتراحاته لأنني حياتها وموتها اضطر إلى استعمال دبلوماسيته معي بعد كل تلك القدرة التي كانت على ناتالي لشراب المحبة، أخذ يصب عليّ وعوده النعيمية صبًا، وذلك بأن يسعى لتحقيق استقلالي، أليس هذا ما كنت أبتغي؟ فيكون لي ملهاي الخاص، وتجارتي بالأسلحة الخاصة، وقصري البابلي الخاص، أضف إلى ذلك منحي بعضًا من حجارته الكريمة الثمينة التي لم أحلم بمثلها طوال حياتي البخسة، فأصررت على رفض كل تلك الاقتراحات مقابل أن تبقى حبيبتي لي وحدي، وأن أبقى حبيبها لها وحدها، هي ملكي، وأنا ملكها، افعل بها ما أشاء لأجلي، وتفعل بي ما تشاء لأجلها، لأجلنا نحن فقط دون غيرنا، وفي قفا غيرنا سندفع يدنا إلى أقصاها. وعند ذلك ذهب الباترون من الترغيب بجنة الوعد إلى الترهيب بجحيم الوعيد، فأخذني رجاله وناتالي إلى كهف الملهى، وبدأوا يعذبون لي ناتالي، وأنا أراهم كيف يسومونها أشد العذاب كي أرجع عن حبي لها، وأتركهم يحبونها على طريقتهم: لم يكونوا ليعرفوا أن تعذيبها يزيدني بها تعلقًا، فلا أنا خضعت لموسى، ولا هي خضعت لنار أحرقني بها أولئك البرابرة. رحنا في الموت نتحد كما كنا في الحب. لم تعد ناتالي تحتمل ما احتملته من عذاب، فقررت لأجل إنقاذها الموافقة على الزواج من أيادي الملهى البيض. كن في عددهن تسعًا بين السبع والأربعين راقصة، وكانت ناتالي تفضل التنكيل بها على أن تراني زوجًا لنساء أخريات غيرها، ولمنع زواجي تآمرت مع جلاديها ضدي، ووافقت على شروط معلمها ومعلمي. كان الزواج، ولم يكن لنسائي يوم سعيد: كليو صُلبت على صليب التاريخ، أوتيرب غدت طرشاء لم تعد تسمع الموسيقى، تالي غالبًا ما كانت تعاف نفسها من زهقها للكوميديا، ميلبومين على العكس منها كان يسر خاطرها الفاجع، تيربسيكور لم تعد ترقص، ايراتو رثت الأحياء، بوليمني حطمت قيثارتها، أوراني لم تعد تريد سماع ما يقال عن النجوم، كانت تنام في الليل، أما كاليوب فغدت تفضل فصاحة الصمت. سمتهن ناتالي عاهرات أورشليم، بينما كن تسع آلهات شقيقات يحمين الفنون... وما سلمت من لسان ناتالي السليط واحدة: هذه قاتلة وهذه إرهابية وهذه مجرمة، وما سَلِمْتُ من دسائسها وخططها ومؤامراتها عليّ، حتى أنها أحرقت قلبي وعقلي وذراعي، وقتلت أطفالي من زوجاتي، دفنت بعض أطفالي أحياء، وقاتلت زوجاتي بكل ما يملك الباترون من أسلحة، ثم اتفقت مع رجاله بقيادة والد روزالي المتقاعد المنسيّ على مطاردتهن، فقتلوا بعضهن، وفرقوا بعضهن في شتى العواصم. كان ذلك قدر زوجاتي الأيادي البيض اللواتي صار بياض أياديهن دمًا وفحمًا لغضب ناتالي عليّ، فلم أكرهها لكل ما فعلت، ولم أحتج لدى جيسكاردتون، تركت نفسي تتعذب بحبي المشئوم، وقلت ذاك قدر زوجاتي وهذا قدري، وفي غيابهن الجسدي عني مارست كتابة الشعر الذي أخذت ناتالي تغنيه في الملهى، فلا يهتم به أحد من الزبائن المهمين بعد أن اعتادوا صوتها، ولم تعد تسعدهم لا النغمة فيه ولا معانيه. ومع ذلك، داومت على كتابة الشعر وزوجاتي يأتينني وحيًا وإلهامًا، في الوقت الذي كنت أنتظر فيه موتي وموتها، أنتظر فيه موتنا الذي سيكون في يوم واحد، وفي موضع واحد، وليكون دفننا في قبر واحد يظل مفتوحا على ضفة السين.
الفصل 34
علي يحتفل بعيد الثورة الفرنسية المائتين قبل أن تغدو باريس عاصمة من العواصم العربية
كان على الممرضة الجميلة أن تعطي جرعة دواء لمريض جديد عجوز في الثمانين من عمره، وعندما غادرت حجرته دقت الساعة السابعة مساء. خلعت بلوزها الأبيض، ووضعت معطفها الأسود، في الوقت الذي جاءت فيه صديقتها من آخر الممر، وراحتا تثرثران حتى الباب الخارجي. ودعتها الممرضة الجميلة، وذهبت إلى موقف الباص. وهي في الباص، وبينما هي تنظر من النافذة، كانت تفكر فيّ، وتقول عني فتى غريبا! كانت تنظر إلى الناس الغادين والآتين على الرصيف دون أن تميز وجوههم ولا خطواتهم رغم أن الليل لم يكن شديدًا. تعطل السير، فتوقف الباص، ثم سار حتى الضوء الأحمر ليتوقف من جديد. لم يكن بإمكانها التقدم، كانت تريدني أن أبقى معها، ولكنني لا أحب الشتاء. كيف أمكنها أن تتركني أذهب؟ كان عليها أن تركض من ورائي كنمرة جائعة كي تخضعني، فالقلب لا يفهم سوى لعبة واحدة، ولا مكان هنا للحكمة. وعلى العكس، يجب الأخذ والعطاء بسرعة، الاستسلام والاجتياح، والتمتع بالوقت الذي يلزم. كنت غريبًا حقًا، ولكن لم يكن هذا كل شيء، فالحقيقة هي شيء آخر دومًا. لم تنتبه إلا بعد لحظة على الباص، وهو يشق طريقًا ضيقة. كان هناك بعض الركاب الغارق كل منهم في محيط أفكاره، والزمن سفينة راسية. رأت أحدهم يغني في البرد والضباب دون أن تصلها كلمات الأغنية، رأت ظلاً لشفتين تتحركان، وظلاً لأصابع تخرج من قفاز ممزق لتضرب أوتار القيثار، ولم تقف على تفاصيل أخرى من ابن الليل، فتذكرت لحنًا كنا قد سمعناه سوية، وأملينا النظر في تضاريس صاحبه:
سآمر الشتاء أن يقف ما دام دفء هناك في أحضان العشاق!
كنا قد أملينا النظر في تضاريس صاحب اللحن لئلا يضيع من ذاكرتنا، وتمنت لو تجدني، فتنتزعني كشجرة عارية في البرد، ولا تطلقني. عادت تبحث بين الوجوه اللامرئية الزاحفة على الأرصفة عن وجهي بينما كنت قربها معها في نظرتها، وفي البعيد أضاء إعلان عملاق ثم انطفأ، فتقدم الليل منها على حقيقته بعد أن محا الأجساد والوجوه، مما جعلها تضيق من جمالها، تضيق بجمالها. جمعت ياقة معطفها من حول زهرة النسرين التي لها، وتذكرت دموعي. قالت كلماتٍ لم تقلها لأنها كانت كلماتي، ولم تصدق ذلك، لم تصدق إلا صورتي وإياها في قفص الحب الذي دخلته بمحض إرادتي، بدوافع عديدة هذا صحيح، ولكن بإرادتي الكلية. كان يبدو لا شيء لنفسه، قالت لنفسها، لا شيء لغيره، وكنت له المستحيل! لم تشأ تصديق ذلك. انتزعها صوت السائق من أفكارها معلنًا اسم المحطة التي تنزل فيها، فقفزت من الباص حاثة خطاها في الضباب، والضباب رخام، والرخام قارة مجهولة. وبينما كانت تفكر في الدخول إلى القصر الساقط في دغام انتظار العيد بأقصى سرعة، اصطدمت خطواتها بخطواتها، وانشلت حركتها: شجرة عارية تحركت، وارتمى الليل ارتماء لا مثيل له، كأن أضواء شديدة السواد قد انسحبت في عاصفة الثلج. كنت أقف وحيدًا، وقد حنيت رأسي قليلاً. لاحَظَتْ في عينيّ بريقًا ربما كان رماد القبلة الملتاعة، رما كان آثار الجذوة المنطفئة، وعرشت في خيالها أحلام لم تكن بالأحلام، ربما كانت قصة أرادت أن تقرأها دون أمر ابنة ملك الكلام، وأن تكون امرأة فيها: امرأة بكامل صفاتها، وذلك لم يكن أيضًا ما تسعى إليه. وفي اللحظة التي ركضت فيها إليّ استقبلتها في أحضاني، كان احتضاني لها احتضان الشموس للثلوج في ذلك الليل الصقيعي، وأنا أهزها، فتتساقط أوراق الأشجار التي لم تسقط بعد تمامًا في العراء ورقة فضية تلو ورقة فضية. كانت تحس بنفسها ممتلئة في أحضاني، أما عني، فكنت أبدو اثنين، أحدهما الغصن العاري الذي كان يعانقها، والآخر الذي لم تكن تجده. اشتعلت أضواء القصر، وانطلقت أسهم النار مطرًا جهنميًا ممتعًا، وكأن عالم القصر كان مكبلاً بسحر فككناه لما تعانقنا والتصقنا بجسدينا. ذهب الليل، وانسحب الضباب، وغادر البرد باريس إلى جبال الجورا، وأتت عربات المدعويين التي تجرها الخيول أو السيارات الفخمة التي من كل لون وطراز المصفحة وغير المصفحة، وانجرفنا مع تيار المحتفلين بعيد ثورة العلم الثلاثي الألوان إلى قاعة القصر الرئيسية، فكان عظام الرجال في فرنسا والعالم يقفون في صف طويل، وهم يقبلون يدي الملكة ماري أنطوانيت والسيدة الحديدية، ثم ينحنون على قدمي أمي، ويطبعون عليهما قبلة طويلة، وثلاثتهن يتعالين بأنفة. لاحظت أن هناك من بين المدعوين روكاردتون وجيسكاردتون ومارشيتون ولوبنتون الذي ما أن انحنى على قدمي أمي ليقبلهما حتى ضربته بكعبها في دماغه، فراح يتهمع، ويقول بألم متكلف إنه يهودي السياسة الجوال بينما يطبطب على كتفه بعض أبناء المدعوين الواقفين كالديك على المزبلة، وعرفناهم باسم "المجددين" أو "المصلحين". كان دانتون وروبسبير والضفدعة ذات القوة الهادئة من بين مدعوي الدرجة الأولى الجالسين على وسائد حريرية من حول النساء العُظميات بينما ميكل آنج وليونار دي فنشي يضعان اللمسات الأخيرة على لوحة المرأة العظمى المشتركة، فلاحظت الضفدعة ذات القوة الهادئة بدون إعجاب ولكن بهدوء جم ورصانة أن التركيز على قدم السيدة الحديدية لهو تركيز على الشهوة الجنسية لا علاقة له بوحدة أوروبا النقدية، وهو نوع مبتذل من التيمية، فإذا كان لا بد من تقديس – وأعطت على ذلك شخصها مثلاً – فعليه ألا يكون تقديسًا أعمى، لأن على الإيمان بالبدود أن يكون معاصرًا حضاريًا إنسانيًا – وأعطت مرة أخرى شخصها مثلاً على ذلك – فغضب ليونار دي فنشي، وفسر ما فسرته الضفدعة ذات القوة الهادئة بأنه موقف من شخصه، فهو لوطي هذا صحيح، ولكن قدم السيدة الحديدية التي تفوق بجمالها كل أقدام الرجال لم تكن لتغريه في لحظة فن كونية، أضف إلى ذلك أنه في تنافس مستمر مع ذاك البشع الوسخ ميكل آنج، مما جعلنا نلتفت عن قصد إلى جماله هو الحق وأناقته، ثم رمى الريشة محتجًا، وفي الحقيقة رماها بسبب ضعف التحريض النفسي لديه على إتمام اللوحة مثلما هي عادته، وغادر القاعة باكيًا شاكيًا أنه المعذب الأكبر المضطرب الأكثر قلقا في هذا الوجود، في الوقت الذي راح فيه ميكل آنج والضفدعة ذات القوة الهادئة يتبادلان ابتسامة خفيفة متواطئة. كانت موسيقى الحجرة التي هي عبارة عن موسيقى مجموعة آلات ذات صوت هادئ قد صمتت لتحل محلها موسيقى صاخبة، فرأينا في حلبة الرقص أنصاف أجساد سفلى لسبع وأربعين فتاة عارية ترقص عليها رقصًا حاذقًا، ثم ما لبثت أن نبتت في خصور بعضها حمامات شرسة، وفي خصور بعضها صقور وادعة، اختلط المدعوون بها، وهم يراقصونها في هرج ومرج هزا أركان القصر، وبين رقص وقصف رحنا نضيع عن بعضنا أو نصير في بعضنا دون إرادة أحد، وتاج لويس السادس عشر العظيم معلق في سقف القصر، يهيمن علينا كلنا. كانت عيون ساسة فرنسا كلهم ترتفع إليه، وتتودد في الوقت ذاته لماري أنطوانيت ذات القلب الممتلئ بشهوة الثأر، فلا تلبي لأحد منهم مطلبًا جنسيًا واحدًا، وتتركهم لاهثين على قدميها. خَلّتهم كلهم، وأخذت مني الممرضة الجميلة بعد افتقادها لمادونا الاستبار مدام فيلتون، قالت لها تعالي يا ماريا المملكة، وأخذتها إلى فراش الملكة التي تعشق التصاق نهدين أنثويين على نهديها، وتثور لاحتكاك حلمتين سمراوين بحلمتيها، تموت في تلامس الدمقس مع الدمقس لحظة التصاق الجسد بالجسد وقصل القشدة، وتروح في عواصف زغب الزغاليل لحظة مرور اليد على اليد وذوبان الفخذ في الموج. وبينما كنت أبحث عنها بين الحضور، وقعتُ على أبي في ثوب الماركيز دو ساد الأسود الجلديّ. قدم لي شخصًا له جسم ليث وأجنحة طير ورأس امرأة وصدرها، وقال لي هذا هو صديقي طه حسين، وجدته في زنازين المطارات العربية بعد أن اعتبروه فلسطينيًا ذا وثيقة سفر مصرية، فلاقى الألاقيّ منهم. لم يأبه ذلك الكائن الخرافي، صديق أبي، كثيرًا بأمري، كان أعمى العينين يبحث بين بشر القصر عن رجل جاحظ العينين عظيمهما ليقوده إلى جنائن القصر المعلقة. طلب مني أبي أن أتركه وشأنه، وأن أتصانع بعدم معرفتي له إلى حين أن ينهي مهمة كلفه بها رجال أمن المطارات العربية. سألته إذا ما كان كل ذلك الوقت الذي طلبناه فيه أنا وإخوتي بمصابيحنا السحرية في زنازينهم، فأجاب بالإيجاب، وقال إن حبسه كان على الرغم من الفيزا التي أعطاها له قناصلهم، ثم كشف لي عن مهمته العربية عندما قال: - هي صفقة بيني وبينهم، أن اشبع أمك بالسوط ضربًا، فتهنأ، وتسعد، بعد أن تقع في حبي، ويهنأون، ويسعدون، بعد أن يقع تمثال العتق في حبهم. - إذا ما عَرَفَتْكَ لن تقع في حبك ولن تهنأ ولن تسعد. - لن تعرفني متخفيًا في ثوب ساد. - لسوف يسيل دمها. - أيها الجاهل، لسوف تحبني أكثر. وفي اللحظة التي أراد فيها الاختلاء بأمي في إحدى حجرات القصر الألف حجرة وحجرة، وقعتُ على ناتالي بصحبة ريمي، فقال لي أبي: - اذهب وخذها بالحسنى، هذه مهمتك وتلك مهمتي، ولكل صباح صبوح. رفضتني بالطبع ناتالي، وتعلقت بريمي، بينما تفاجأ ريمي من سلوكي، وقال لا بد أنني على خطأ، فهو تريستان، وهي ايزوت. وأمام تهديدي له، نهضت السيدة الحديدية، ووقفت إلى جانب غريمي لتحميه مني، ثم حملتني على الذهاب إلى حجرتها، عرتني، ومارست عليّ فحولتها إلى أن رضخت. ومن حجرات القصر الألف حجرة وحجرة، كانت أصوات السياط والعناق ما بين رجل وامرأة أو امرأة وامرأة أو رجل ورجل أو رجال ونساء أو نساء ونساء أو رجال ورجال تدك أعتاب السماء، وكان أخي الأُخطبوط قدر البحر قد جلس على عتبة باب حجرة أبي وأمي يبكي، وهو يسمعها تصرخ، وتتوسل، وتتنهد، وتتأوه. كان بعض المعفو عنهم بسبب العيد المجيد يبكون هم أيضًا، وقد جلسوا على عتبة باب حجرة دانتون وروبسبيير، وهم يسمعون دانتون يصرخ، ويتوسل، ويتنهد، ويتأوه. كان منهم مجرمون، وكان منهم لصوص، وكان منهم إرهابيون، وكان منهم سمك وطيور، ثم ما لبث أبي أن ذهب ليسوط ماري أنطوانيت، وليجلد السيدة الحديدية، وكلتاهما تتوسل إليه أن يزيدها ألمًا على ألم ورغبةً في الثأر والانتقام على رغبة وتسلطًا على تسلط... كنت قد صرت ظبيًا غبيًا يبكي، وتبكي معي كل الحمامات الشرسة، وكل الصقور الوديعة، فصفعني أبي، وقال لي لا تبك على مصير باريس التي تحب لفحش ساستها، وإن الأمور لن تقف عند هذا الحد، فبسحر تاج لويس السادس عشر المعلق فوق قبة الدنيا وباستطاعته سيكون عقاب باريس بأهلها لتصبح عاصمة من عواصمنا.
الفصل 35
علي في عاصمة من عواصمنا
تعالوا نذبح هذا الأُخطبوط، قالت العشائر، ونتقاسمه بالعدل والقسطاس، فنهنأ جميعًا إلى يوم "نُبعثون". وجرى أن كان الأُخطبوط أخانا قدر البحر والعشائر عشائر إخوتي السبعة بعد أن صاروا على رأس عشائر باريس نوابًا عامين، وبعد أن صارت باريس عاصمتنا، فكيف نتقاسم أخانا الذي ربته أمنا مثلما ربتنا ويكون عدل ويكون قسطاس؟ وإذا ما تقاسمناه فهل ستكون قسمة أخينا الأكبر مثل قسمة أخينا الأصغر والسكين لا يقبل بالقسمة قدرًا؟ فأي عضو أكبر من أعضائه سيكون للأكبر؟ وماذا لو أخطأ القسام أو أجرى ذلك عن عمد أو مراء فأعطى من أخينا عضوه الأكبر لأخينا الأصغر وعضوه الأصغر لأخينا الأكبر؟ صارت باريس حزينة لمصيرها في ذلك الوقت، لم يعد لشعبها الاستمتاع ممكنًا بالشمس مثلما كان استمتاعه بها لما كانت لا تصعد إلا لمامًا على قبابها الرطبة، فها هي شمس باريس العربية تصفع الجلد صفعًا، وقد جف السين، ولم يعد أخونا قدر البحر قدرًا بل حيوانًا مثل سائر الحيوانات التي يمكن ذبحها والتهامها، وها هي سيدة باريس الضفدعة ذات القوة الهادئة لم تعد لها الكلمة الفصل والمعركة الفاصلة تُلزم صفة العنف على القوة لا الهدوء صفةً للشموخ. أما عني، فلم أكن أريد حصة من أخي الذي ربته أمي مثلما ربتني، كنت أسعى كالديْسم الأبيض أو الماليزي إلى زاوية منعزلة أكتب فيها قصتي مع ريمي، فأكلت الحجر والتراب قبل أن أصعد على ظهر قوس النصر أبشر بالخراب. كانت شوارع باريس قد انجرفت بطوفان دم أخي قدر البحر وطين عظمه ودماغه، فهو أُخطبوط عظيم الجسم رهيب العظم والدماغ، عظمته ورهبته بقدر عظمة دولة ورهبتها، وكانت الضفدعة المحنكة قد قسمت، فأعطت، وسخت، لكن تيوس العشائر الذين هم أخوتي راحوا يتنطاحون على نصيب الواحد ونصيب الآخر من هذه الإصبع أو تلك الإصبع، ليأخذوا أكبر قدر قبل أن يفوت الوقت، فلا يعدو أوان، ويضيع الوقت في جلبة الدنيا. أما عن دنياي، أنا المضرب عن كل جاه ومتاع، فقد رحت أجدف في الدم الجارف لشوارع باريس بعد أن توقف بحثي عن ريمي أمام بحثي عن نفسي، وعلى الأرصفة المدمرة أو على العتبات الشاكية هنا وهناك كان شعب باريس يبكي عبقرية الحرية مثلما بكيتها لما كنت ظبيًا غبيًا، وإذا ما صلى أفراد هذا الشعب في المعابد لإلهة الديمقراطية أحضرت لهم الضفدعة المحنكة إلهة من ورق راحوا يعبدونها، ومن ربيع بيكين بعض مركبات رومانية راح دمهم يسعى إليها، وأمام سعيهم في الدم والجحيم أصبح إخوتي السبعةُ ألف مسئول إداري يقولون للعباد نحن أربابكم الذين نصرفكم من هنا إلى هناك ومن هذا إلى ذاك، وإذا أردنا تصرفنا معكم تصرف السكاكين مع الشياه. أضف إلى ذلك الناقص في كل واحد، وقد ألبس وجهه قناع الاحتقار، فعن أي ذئب سنكتب لأبنائنا، عن ذاك الذي فينا أم ذاك الذي فيهم؟ وعن أية رغبة في القتل سنحلل، عن تلك التي فينا أم تلك التي فيهم؟ وعماذا سنحكي لدم الأُخطبوط قبل أن يموت إذا لم نحك عن جمال سكاكين إخوتي وأناقة بهائمهم في الحفلات التي يدعون غيرهم إليها بمئات آلاف الدولارات والتي يدعون أنفسهم إليها في اللحظة التي لا يجدون فيها من يتفرج عليهم؟ وبعد أن تمضي لحظة أمل ورجاء كنتُ ضحيتها الغبية أكتشف أن كلاً منهم لا يسعى إلا لحل مسألته: أن يكون أقرب ما يكون من الضفدعة المحنكة في الوقت الذي يعمل فيه بأنيابه ومخالبه وكل كلاشينكوفاته على أن أكون أبعد ما يكون عنها، وبعد ذلك يبحرون مع المبحرين الموهوبين على ظهر الأُخطبوط الذي ذبحوه وذبحوني معه ليروا في شؤون الدنيا، والذي اختلط دمي المالح بدمه الحلو في شوارع باريس المفتوحة لجزماتهم فتحًا مبينًا... آه يا باريس الغضيبة! حضارتك ستنهدم – بهذا تكهن الراوي الذميم – وزولا سيتهم، وشعبك سيقمع قمعه المكين، فليس شعب بيكين بأحسن منه أو شعب شنغهاي في عرف المغضبين... وأضاف الراوي الكاذب يحدس أن أَزِمَّةَ الأمر ستفلت من يد الضفدعة المحنكة بعد أن تصدّق في الدم وجثث الظباء والرَّغام المديح لشخصها في معلقات كتبتها داعرات برودواي بتعليمات جد مدققة من طرف ابنة ملك الكلام التي توجها إخوتي ملكة على كل العفيفات في العالم. فتدخل الأعمى القادم من الأرجنتين، وقد أخذه الجنون، وراح يصرخ بالقدس كمن يصرخ بامرأة تخلع عنها ثوب النوم لتنام عارية: ألا انهضي في عرائك يا القدس الحبيبة، فحضارتك أنت التي ستنهدم كما ستنهدم حضارات غيرك من أخواتك، وسورك أنت الذي سيتهم اتهام زولا للضمير، وشعبك أنت الذي سيقمع بعد كل هذا القمع والتعنيف، فليس شعب مكة بأحسن منه أو شعب يثرب... فقاطعه راوي الخيالات الملتبسة، وقال: ولكن على الرغم من ذلك المعلوم، ولربما بسببه، ستفلت أزمّة الأمر من يد الضفدعة المحنكة من المعلوم إلى المجهول بعد أن تصدق في عسل النحل والزلال وسلام العسل والدعم لشخصها في مشاريع رسمها دبابير الفايننشال وورلد بتعليمات جد مدققة من طرف ابن ملك المال الذي توجّهُ إخوتي ملكًا على كل الزيزان في العالم. كانت أمي قد أطلقت ولديّ القنطورُسين اللذين سملت لهما عينيهما الحبيسين في ظلاميْ صندوق النفس وصندوق العجب الذي تركَتْهُ لي جدتي قبل أن أقتلها لأنقذني منها وأحررها من عبء آلاف السنين الماضية، فأتيا بنصف الرجل الذي لهما إليّ في حي المجانين حيث كنت أبحث عن روحي الضائعة، وزرعا سيف باريس في ظلي الذي أخلص لجسدي وحفظ جسدي من خيانة الظلين وانتقام الجسدين، ثم ذهبا بنصف الفرس الذي لهما ليتقاسما بالعدل والقسطاس ميراثي... وبينما كانت قصتي هذه مع ولديّ القنطورُسين تكتمل كان زوج صاحبة الفندق الذي كنت أعيش فيه كوابيس ثلاث ليالٍ في الأسبوع غير كل كوابيس أعمالي النهارية الأخرى التي لا تعد ولا تحصى يجدف في دمي المالح ودم أخي الحلو على غندول من غناديل البندقية، وهو ينتقل بين عشائر إخوتي السبع التي هي في أصلها تسع عشائر إذا ما أضفنا إليها عشيرتي وعشيرة أخي الأُخطبوط قدر بحر لا قدر له المتمردتين من داخل إطار أمنا وأبينا لا من خارجه مثلما حصل مع بعض أفراد عائلة أمي البعيدين، المتمردتين ولكن المنبوذتين من طرف باقي العشائر السبع التي اقتسمت باريس فيما بينها، كان زوج صاحبة الفندق ميخائيل الإشبيني ينتقل بين بطون عشائر أخوتي ليبيعها بطونًا للحبل توفر على أربابها عناء إنشاء الأطفال في بيئة مصطنعة وتكاليفها الباهظة، أضف إلى ذلك الناقص في كل واحد، وقد ألفى في البطون التي يشتريها حرارة إنسانية لن يوفرها المختبر ولا أحدث الأدوات، مما دفع الكثيرين من إخوتي الذين زوجاتهم عواقر إلى التعامل معه، ودفعوا له بسخاء أغضب الدكتور بوشين، فطلب من ماريان المملكة ممرضته أن تأتي بي ليحكي معي في شؤون إخوتي السلمية الذين زوجاتهم شقراوات من سان فرانسيسكو ولوس آنجلس قبل أن تصير باريس عاصمة لهم بقصد أن يكن عواقر لا يأتين بالشياطين من الأولاد. كان الدكتور بوشين قد عزم على أن يعيد باريس إلى موقعها الذي كانت عليه في البرد والضباب وإلى نظامها الجمهوري إذا ما فشل سعيه معي، أو إذا ما فشلتُ في سعيي مع إخوتي ونظامهم العشائري في القيظ والودقان... وكان الأعمى الأرجنتيني المتبصر يرى والراوي البدوي المتخيل يسمع ويضحك ويكتم الضحك فلا ينجح.
الفصل 36
باريس تعود إلى موقعها على ظهر الحمائم التي نصفها حمائم ونصفها صقور
هذا وقد كانت ماريان المملكة تنام ملء جفنيها، أما عني، فكنت بين نائم وصاح، أحس بنفسي وحيدًا في هذه الدنيا على الرغم من استلقائي في فراشها عاريًا كما ولدتني أمي. ألقيت نظرة الضائق من عري الذات لأغطي روحي بجمالها الذي يفوق جمال سائر النساء، فأدفأ، وأذيب عني جليد النفس. أردت أن تنهض من نومها إليّ، وتلقي بجسدها عليّ، أن أغطي جسدي بجسدها بعد أن أغطي روحي بجمالها، فيدفأ جسدي بعد أن تدفأ روحي، ولكنها كانت في عالم النوم تبحر، وتوغل، وقلت لنفسي ها هي ذي تبحر في عالم الموت قاربًا. تساءلت دون دهشة كيف استبدلت التشبيه بالتشبيه؟ وكان الجواب ورود ذلك مع أفكاري التي لم تخفف من حيرتي ووحدتي. وخلت ماريان المملكة تبتسم في نومها على صورة الموت التي وضعتُها فيها، وكأنها تسخر من التشبيه بينا تبادلني النظر من خلال نومها إليها، وتبادلني الحديث، فأدهشني ذلك، وتساءلت دون تشبيه كيف استعدتُ الدهشةَ، ولم يأتني النوم، ولم تقر لي عين. ولما قلت لإخوتي هذا الذي يطلبه بوشين منكم، ألاّ تشتروا بطونًا تأتيكم بالشياطين من الأولاد، لم يوافقوا كلهم في البداية، ثم وافق بعضهم، ورفض بعضهم، ثم وافقوا تحت ضغطي وإلحاحي كلهم، فذهبت لبوشين أنقل إليه نجاح مسعاي، ولا داعي لتعذيب باريس بشعبها في تغيير موقعها أو في إعادتها إلى موقعها بعد أن اعتادت تماثيلها طقسنا الصحراويّ القائظ نهارًا القارس ليلاً، فإن في ذلك لعذابًا شديدًا. ولكنه أبدى دهشة هي غير ما استعَدْتُه من بسمة ماريان المملكة في نومها، وأصر على إعادة باريس إلى موقعها في حضن ريح الشمال، فلا يحس شعبها مثل شعب دانكرك بأنه يتيمٌ أو مخانٌ أو مهجورٌ، ولإخوتي أن يفعلوا ما يشاؤون وما يريدون ببطونِ حَبَلٍ يشترونها أو يؤجرونها، وقد غدا أمر أولادهم ملائكة كانوا أم شياطين واحدًا لديه، خاصة أنه ضد الإجهاض، وكان الذي كان... كان أن راح كل أخ بعشيرته يقاتل الآخر بعشيرته الأخرى لأجل بطن أبيض أو ولد دعيّ، وكان الدم قد سال وطفا إلى أن وصل الركبتين، فلا هذا بطن لذاك ولا ذاك ولد لهذا، وكان بوشين وهو يجري عملياته الدقيقة في أحدث مستشفيات الغرب يعطينا مثلاً على همجية حاضرنا لصحبه ولمن هم في مستشفيات الدنيا معه لما يقارن عالمه بعالمنا هو العالِمُ المعلّم الفائق المتفوّق، ولا ينسى التمجيد بماضينا الغابر الرغيد الذي يتبعه ب "ولكن" عندما يضيف: ولكن ماضيهم قد صار ماضيًا من الأوابد والدوائر، ولحاضرهم لا بد من حاضرنا الحضاري الحر الحِرّيف، وخاصةُ الحِرّيف هذه يسبغها على حاضره لحاضرنا بعد أن يقول لأخي الأُخطبوط قدر البحر كن قدري، فيكون قدره، ليكون عقيدةً وأخلاقًا وصرخةً في وجه الظلمات، وكان الذي كان... كان أن راح أخي قدر البحر الذي هو الأُخطبوط ذاته الذي ربته أمنا يصارع الوحوش في إخوتي المسلمين أقدار البر، ونقلت الأقمار الصناعية إلى الدنيا صورًا لهم، وهم يتصارعون لنذرف دمعنا على السمكة – بعد أن صار الأُخطبوط سمكة – التي تُصارع الوحوش، فتعالوا يا بلدان الدم والنار – هكذا هتف الراوي الذميم قبل أن يضيف متفشيًا – تعالوا إلى اقتتال الإخوة، تعالوا إلى ليل العصور الوسطى الجهنميّ – ثم غالب الراوي الصدق في لحظة كذب – هذا زمن البصاصين، فأين أنت يا عذراوات القدس؟ وأين أنت يا ثوراتنا الزراعية؟ أين أنت يا مصانعنا التي دون مواد أولية؟ أين أنت يا سنة 1799؟ ويا سنة 1848؟ ويا أختها بعد مائة سنة؟ ثم سقط في الصمت المطبق الذي ألزمه إياه الأعمى القادم من الأرجنتين. كان بوشين قد أنهض الهمم والعزائم من حوله لما حرر باريس من أيدينا، لما أشار لبنيه إلينا، لما روج بصاصوه أخبارًا مفادها أن كل المساوئ مساوئنا، مما أثار حنق الراوي السليط اللسان الذي قال لبني بوش: تعالوا أقول لكم غير ما تريدون أن أقول وغير ما تريدون أن تسمعوا، أنتم الذين لا تريدون أن تروا غير الدمامة في جمالنا، وأن تلقوا كل ما هو مشين منذ عهد آدم إلى عهد بوشين على شرفنا... فأخذ الأعمى المتبصر الكلام، وزعم أنه عربي من الأرجنتين آت، ومع ذلك لم يكن التحزب من طبعه ولا الحياد من شأنه هو الرائي في كل شأن. ولما هدأت عصبية الراوي، وزال تعصبه، أقر الأعمى القويم أننا كنا سيئين بالفعل وبلا شرف حين جعل بعضنا من بعضنا ذريعة وفي الوقت عينه بغية الثريا، فعدا عن بربريتنا المحاكة ها هو بعضنا يقدم البرهان الساطع لغيرنا الذي لا يرى في أسبابنا على أننا كلنا قتلة ولصوص وجنوحيون ومتهمون بالبطالة والبحث السهل عن الرغيف والتزوير والتحوير والتحشيش والتهريش والتهريب والتهريس والتعريص... ولاحظ الراوي للكاذب من القصص دمعة تسيل من عين الأعمى من شدة الغضب عندما أضاف لكل الحيوانات الشرسة منا والأليفة: أنظروا في قصة عليّ جوهر القصص! كلوا من ضوء فاجعته واشربوا من ماء الحكمة فيها! فركع الراوي للكلام لأمر الكلام في ظل الأعمى الذي راح يقرأ من كتابٍ فتحه أمام عينيه المغمضتين عن صورٍ صاغها بكلماته ونحن نصغي إليه عربًا وعجمًا إلى أن أتاه بوشين من شرخ الكلام، من خارج الكلمات والصور، بكل القيمين على أحزاب باريس الذين من اليسار والذين من اليمين والذين مما بينهما، انحنوا بين يدي الطبيب النطاسيّ شاكرين له فضله في تحرير باريس، وإعادتها إلى موقعها على ظهر الحمائم التي نصفها صقور، والصقور التي نصفها سلاحف في البرد ورماد الشتاء وريح الشمال، في إعادة نظامها الجمهوري الحر إليها نظام الدولة أو الأُخطبوط الذي هو أُخطبوط غير ذلك الذي ربته أمنا، لربما كان أبيض البشرة يشرب القهوة بالحليب مع الكرواسان في الصباح، ويأكل الستيك فريت عند الظهر أو ساندويتش جامبون بالزبدة، ويقلم أظافره عند مطبب الأرجل، وأخيرًا في إعادة حقوق الإنسان، والقصد بالطبع حقوق الأحزاب التي هي عشائرهم الحديثة... وما أن أتم القيمون على الأحزاب مراسم الشكر والنفاق وذهبوا لامتطاء نعل رئيس الجمهورية نظر الراوي الذميم في عيني الأعمى المتبصر، وانطلقا يضحكان ضحكًا حرًا عنيفًا متواصلاً. في اليوم التالي، أرسلني إخوتي إلى الدكتور بوشين الذي اقترح عليّ عملاً في مستشفاه ليرد لي بعضًا مما صنعته من معروف لدى إخوتي رغم إفشاله للوساطة في آخر لحظة ونقضه لوعوده وتلك كانت عادته معي مثلما كانت عادة أبيه مع أبي ومثلما ستكون عادة ولده مع ولدي، وبعد أن شرح لي كل التفاصيل الخاصة بعملي الجديد، وهو يرى ترددي وعدم استجابتي الفورية، سمعته يقول مشجعني: - أنه عمل ككل الأعمال لن تلبث أن تعتاده. بينما كنت أفكر في ناتالي وأقول لنفسي لقد كنت سعيدًا معها، كاترين أيضًا لو لم تُقتل لكنت سعيدا معها. كنا سعيدين أنا وناتالي، هي التي من قلب الحضارة وأنا الذي من قلب الصراع، كنا سعيدين على الرغم من كل شيء، ولكن أين أنت يا ناتالي؟ أين محبتك؟ أين حنانك؟ أين حضارتك؟ سمعت بوشين يضيف، وهو يبالغ من الابتسام لي: - من حسن حظك أنني الطبيب المناوب ابتداء من الليلة القادمة، ارجع لي في كل ما تريد الاستفسار عنه أو فيما يخص أية صعوبة تواجهك، هذا إذا ما حصلت هناك صعوبات، وسأكون لك عونًا. طبعًا بإمكانك البدء بعملك اعتبارًا من هذه الليلة. سار معي حتى باب مكتبه، وهو يقول: - أما إذا كان السهر يضايقك إلى هذه الدرجة فهذا شيء آخر. قلت له: أنا معتاد على السهر وكل كوابيس الليل. ضحك، وهو يقول لي مودعًا: إذن أتمنى لك التوفيق! ومع ذلك، لم أيأس من جمال الحضارة وحنان الحضارة وحقوق الإنسان الإنسانية، كانت ماريان المملكة أو الممرضة الجميلة قد احتضنتني بكل جمالها وحنانها وأخذتني إلى نافذة تطل على تمثال لنابليون في حديقة محطمة الورود، وشيئًا فشيئًا راحت تُخرج رأسها من ثوب جمالها وحنانها دون أن تشاء، وتصبح في ظل الأُخطبوط امرأة ثانية، لا يسهل التمييز بين هذه وتلك. عَصَرَتْ أصابعي بين أصابعها وكأنها تريد كسرها: - طمني ماذا قال لك؟ - سأبدأ عملي اعتبارًا من هذه الليلة. قفزت إحداها من الفرح والأخرى ظلت ساكنة: - ألم اقل لك؟ إنه طبيب إنساني لا مثيل له! وتفاصيل العمل؟ - سأشرح لك فيما بعد. - إذن لن نتعشى سويًا هذا المساء؟ - لن نتعشى (ولرد فعلها غير السعيد أضفت:) أنا آسف! - متى سأراك؟ - غدًا صباحًا في الممر... ألا تعرفين؟ عندما ينتهي عملي يبدأ عملك. أخذوني منها في الليل أو أنهم أخذوها مني في النهار، فهذا يسمى نهاري وذاك يسمى ليلها... انعكس ذلك على ملامحها، لكن الممرضة الجميلة ما لبثت أن أطلقت ضحكة الممرضة بعد أن خلاها عبوس الجميلة: - ستكون لي حصة فيك على أي حال، وليس من المعقول أن ينتزعوك مني طوال أسبوع بأكمله. قلتَ لي سنتحدث في ذلك فيما بعد؟ - سنتحدث في ذلك فيما بعد. - متى؟ ولماذا لا نتحدث الآن؟ - سنتحدث في ذلك فيما بعد. - أنت ذاهبٌ إذن؟ - أنا ذاهب. أسقطَتْ أصابعي من بين أصابعها، فسقط عني ثقلها، ولكنني لم أستطع إسقاط جمالها، كنت أحب صورتها ولا أحب روحها. قالت بحماس الأخرى التي فيها: - المفتاح تحت ممسحة الأرجل كالعادة. مع السلامة! قلت بفتور الآخر الذي فيّ: - مع السلامة!
الفصل 37
علي يلعب الورق مع الشيطان
أعلنت دقات الساعة منتصف الليل، فقالت الممرضة المناوبة، وهي تنيم ثعبانها الأسود بين ذراعيها: - الرقم 242 الحجرة 21. دفعتُ عربة نقل الموتى إلى أقصى الممر، وطلبت المصعد إلى الطابق العلوي. كانت المرة الأولى. والمصعد يصعد بي كنت أفكر في الميت الذي سآتي به بعد أن أحمله بين ذراعيّ، وأُجري معه عناقًا خاطفًا، فأحس أنني مقدم على عمل قريب من المغامرة، مع أنني لم أكن متحمسًا لذلك منذ البداية. كنت لا أستسيغ ذلك، وفي نفس الوقت، أريد بطريقة غامضة أن أعيش التجربة. لهذا قلت منذ قليل أحس أنني مقدم على عمل قريب من المغامرة، ولهذا أيضا عجلت الخطو بعد أن غادرت المصعد إلى الحجرة 21. كانت الحجرة أصغر من الحجرة التي كنت فيها مع إخوتي يوم كان لكل منا داء بلا دواء، وكانت أسرّة ثلاثة ترضخ لظلال الموت رحت أفحصها بحثًا عن "جثتي": السرير 240 فارغ، السرير 241 غطاء على وجه صاحبه الساكن سكون الزمن في لحظة العدم المخيفة، وفي السرير 242 الجثة التي جئت من أجلها، "جثتي" التي صارت سرًا خفيًا. بدا لي الجانب الأيمن من رأسها، فحصل في أعماقي نوع من الإشراق قريب من التجلي، مضى في مثل لمح البرق، ثم حط في كاهلي عبء الموت، وركدت نفسي ركود الماء الضحل. كان الوجه وجه امرأة عجوز، امرأة ميتة. كان فمها مفغورًا، فرأيت طرف لسانها. تحركت أصابعي بآلية، ونقلتُها إلى العربة. فرشت عليها غطاء أبيض، وعدت أدراجي، وأنا أفكر: أدفع جثة! عندئذ، فهمت ما هو عملي بالضبط، لكنني كنت عاجزًا، ولم يكن بإمكاني، وأنا والميتة في المصعد، أنا وهي فقط، أن أطلق العنان لخيالي، فأرى أكثر من صورة باستطاعة كل امرئ في مثل وضعي أن يسقط عليها بتلقائية. أصابني الدوار، وكاد يغمى عليّ، ثم دخلت حجرة الموت. كانت في حجرة الموت أربع أو خمس جثث ممددة تحت غطاء أبيض لا يظهر منها إلا وجهها المتشمع، وحين صرت وسطها، وطئتني رهبة دينية غريبة من نوعها كلدانية أو آشورية، وكانت قوة، ربما دينية أيضًا، تمنعني من القيام بأدنى حركة. لم أكن في الموت وقتها، كان الموت من حولي. وددت بأقصى سرعة ممكنة الهرب بأية وسيلة، وفي اللحظة التي عزمت فيها على طلب باب الخروج، ألقت عليّ القبض من كتفي يد عظمية، فانقلبت أحشائي كالأمواج لمدة لحظة... وهذه اللعثمات: - أ... أنا... أين أنا؟ التفت بلا خوف، بلا حذر، بلا وطأة تاريخ موت البشرية على كتفيّ، ورأيتها... العجوز. قالت لي بصوت امرأة أخرى، فتلك ماتت في نظري: - هل الطبيب في العيادة؟ روزالي تشكو من وجع المفاصل. لم أعد في حضرة الموت، كانت الحياة قد عادت من جديد. قلت لها: - من المؤكد أن خطأ قد وقع، سأعيدك إلى حجرتك. لم تتوقف عن التهتهة: - روزالي تشكو من وجع المفاصل. فجأة، حملقت بعينين منطفئتين، وغابت، ثم قالت، وفي نظرتها تشنج: - مسكينة روزالي! تشكو من وجع المفاصل. مددتها، غطيتها، وسألتها: - عن أي روزالي تتكلمين؟ أجابت وقد استعادت بعض قوتها: - عن روزالي التي تعرف يا عليّ. دُهِشْتُ: - من؟ أم روزالي؟ أعادت معاتبة: - روزالي تشكو من وجع المفاصل وأنت لا تفعل لها شيئًا! ولم تزل دهشتي: - أعائدة أنت من مملكة الموتى؟ - لم أمت بعد لأعود، كذب عليك ريمي، فصدقته. أما روزالي، فقد ماتت، وعادت، وهي تشكو اليوم من وجع المفاصل بسبب رطوبة البحر. تعرف أنها سكنت البحر؟ همهمت وقد زالت دهشتي: - أعرف. - وتعرف أنها زنت بمحرم! - لا أعرف. قهقهت أم روزالي: - لهذا السبب أردتُ الانتقام من ريمي ابن أختي وابن زوجي. قلت: - ريمي حلالها، فهي ابنة خالته، هي ابنتك، وأنت خالته. نَبَرَتْ: - يا لك من ساذج، يا عليّ!، لم يكن ريمي، كان أبوها. وبكت: - لهذا طلبت الطلاق كي أبعدها عنه. قلت: - إذن ما ذنب ريمي في كل هذا؟ همهمت خاضعة مستسلمة لموتها: - أيها الساذج يا عليّ! لا بد في هذه الحياة بعد أن صُلِبَتْ السمكة من مذنبٍ فينا، أنت أو ريمي أو كلاكما أو غيركما، كل ذلك يتوقف على الأقدار، لنمحو من ذاكرتنا صورة الأب المحرمة في آدم التي هي غير صورة التفاحة بعد أن أتينا إلى هذه الأرض، وصارت في عداد الماضي أسطورتنا. أترى معي روزالي في حضن أبيها عارية؟ أترى ثدييها البارزين قليلا المنكسرين على ثدييه؟ أتراها تشرب من مني أبيها؟ (وصرخت برعب:) يا لهول الجريمة! ويا لَعَناء ابنتي المسكينة التي أرادت أن يغسلها البحر لعظم الجريمة، فغسلها، ولكنه أصابها بروماتيزم المفاصل. قلت لنفسي هذه امرأة تخرف، وعدت بها إلى حجرتها، فقالت لي قبل أن أتركها: - أطلب من ريمي أن يغفر لي. قلت غاضبا: ريمي لن يغفر لك، وأنا لن أغفر لريمي، ولتعاني من موت الروح أشد معاناة! ثم تركتها باكية شاكية. كانت الممرضة التي أعطتني رقم الميت قد أخطأت حينما قالت لي 242 بدلا من 224، وعندما ذهبت بجثته إلى حجرة الموت هذه المرة كانت الجثث الأخرى التي شاهدتها هناك قد اختفت. رأيت مكانها، في ظلال الموت، الشيطان الذي كان في ثوب القس المتعبد. لم يكن عابسًا ولا بشعًا، كان باسمًا وجميلاً، ولم يكن حاملاً لا لمنجل ولا لمطرقة، وهو من بدأني مخاطبًا: - أنا هو ذاك الكاهن اليوناني معلم الأسرار. - ولكنك الشيطان، الشيطان بعينه. - في مملكة الموت لا شياطين هناك ولا أبالسة، الكل في مملكة الموت أصحابٌ لمعرفة، نجسد الوهم، ونعزل البشر عن عالمنا. ارتعبت، وارتجفت، وأنا أسأله: - أتراني في عالم الموت الفعلي؟ - في هذه اللحظة أنت فيه بإرادتي. لطمتُني، وقلت: - من سيضمن لي لحظتي معك وأنا في ذمتي عهود ووعود؟ هدأ روعي، وقال: - أنا ضامن لك لحظتك القادمة معي، أنا الشيطان أعطيك كلمتي. لاحظت صدقًا في نبرته وإخلاصًا، فاطمأننت بعض الشيء، وسمعته يضيف: - أما الآن فاختر إحدى شخصياتي الشيطانية المفضلة: مصطفى سعيد أو السيد عبد الجواد أو كريم الناصري. قلت: إني أختار مصطفى سعيد شخصيةً تمنى الطيب صالح أن يكونها في حياته، وأن يكون بمثل عنفها وعزمها وجمالها دون أن يفلح. قال الشيطان: لك ما شئت. غدوت مصطفى سعيد بعد أن خرجت من فم تمساح في النيل الذي غرقتُ فيه دون عنفي وعزمي وجمالي، كنا أنا وبشر الجحيم سواسية نتشابه ولا نعرف أننا نتشابه وأننا صور لبعضنا، ولكن سعاداتنا كانت مختلفة، وكذلك لذاتنا وانشراحاتنا ومتعنا. قال الشيطان: - أما الآن وقد أصبحت واحدًا منا فسألاعبك الورق في الوقت الذي ينجب فيه إخوتك أطفالاً سيكون لهم شأن في حياتهم، أطفال شياطين لن يكونوا وَهْمَ أحد مهما كان لهذا الأحد من خيال واستطاعة على خلق الشخوص، أطفال شياطين سَتُكْتَبُ عنهم آياتٌ كريمةٌ لعزة أفعالهم حتى أن الحجر سيغدو لهم بيتًا وتاريخًا. أخذنا أنا والشيطان نلعب الورق، فأربح، ويخسر، ويقول: - أما أنت فقد ربحت مصيرك المشئوم على الأرض، وعليك أن تذهب بهذا المصير إلى نهايته. تحسرت على اللذائذ التي سأخسرها في عالم الموت، وقلت: - لن يعترف إخوتي بمصيري، ولن يعترفوا بأنهم كانوا في حياتهم مخطئين. - لهذا عليك أن تذهب بمصيرك المشئوم إلى نهايته، فاقبل بما يعرضه بوشين عليك بعد أن تخرج من عندي، أنا الشيطان محرك الصراع سأعمل على إخوتك الذين لن يعترفوا بك ثورة واجبة، ولن يقول أحد بعد ذلك الله الذي في الأعالي والقيصر الذي في الأداني. سيقول إخوتك الحقيقة، ولن يعودوا مرائين منافقين ومخادعين كالماضي بعد أن تبدأ عقلية جديدة تميز بين ما هو عقل في التاريخ وما هو عاطفة. وسكت. كنا قد انتهينا من اللعب، فقال: - أما عن ذاك الذي يسعى إليه أبناء إخوتك الآن، وقد ولدوا، فسيكون بعد سبعين، لقد بدأت لعبتهم التي سيربحونها، وسيكون نصر، وستكون حرية، لأن لعبتهم مصيرية بعد أن وجدوا أنفسهم وحيدين مهجورين منبوذين في هذا الوجود، ولأجل الحقوق والواجبات، الحقوق التي لهم والواجبات التي عليهم، فالتمرد كرامة الإنسان وحق من حقوقه وفي الوقت ذاته واجب الواجبات، إنه واجبكم نحو غيركم. ثم سلم عليّ، ترك في قبضتي حجرًا، وذاب في الظلام. لم أعرف ما قصده من "سبعين"، أهي سبعون يومًا أم سبعون شهرًا أم سبعون عامًا؟ أردت أن اسأله قبل ذهابه عن رأيه في آيات سلمان رشدي الشيطانية، ولكن حكمة هذا الشيطان المحنك جعلتني أوقن أن مسألته بين شرق وغرب طبيعية، ولكن اللا طبيعي أن يصبح رشدي أداة في يد الذين هم ضدنا، وكذلك أن يكون الحكم عليه بما جرى الحكم عليه، فلم أكن لا مع هذا ولا مع ذاك، وكنت مع حرية الكاتب الحائر في هذا العصر أمام ملايين المواضيع الشائقة. ذهبت على التو بعد لقائي بالشيطان إلى الطبيب المناوب بوشين كي أبلغه خبر اختفاء الجثث، فشرح لي بطريقة مبهمة، وهو يداعب حية مذهبة، أنه تم نقلها إلى المختبر، وطلب مني ألا أهتم بالأمر، وأن أكتمه. نبرت: - والموتى، أليس لهم أهل؟ سيطالب أهلهم بجثمانهم ما في شك. كرر بوشين مستعملاً سلطته ألا أهتم بالأمر، وهو يوجه فم الحية المذهبة القاذفة بلسانها المشعّب إلى وجهي، وقال إنه تدبر الأمر مع أهل الموتى. قلت هذه عصابة خنازير! عصابة لسرقة جثث الموتى، لبيعها أو لإماتتها من جديد. تعجبت كيف عالجني هذا الطبيب كل تلك المدة ولم يمتني، فلا أهل لي هنا بعد أن غادرني إخوتي ولا قريب أو بعيد، وقد كان بإمكانه أن يسرق جثتي دون أن يثير ذلك أدنى نوع من المتاعب. تكررت عمليات سرقة جثث الموتى في الليالي التالية، فأصبح العمل عبئًا ثقيلاً على كاهلي، واعتبرت نفسي مشتركًا في الجريمة. قررت أن أترك العمل، وذهبت لأرفع استقالتي إلى بوشين، فرفضها، واقترح عليّ أن أعمل في المختبر. قال لي إنه يقع في الضواحي، وعدا عن الراحة البدنية والنفسية التي سأظفر بها هناك سيكون تحسين وضعي كاملاً، وذلك بإعطائي مسكنًا مجانيًا، وقال ستكون لي أوراق الضمان الصحي كاملة وكذلك التأمين على الحياة، وستحل مشاكل إقامتي آليًا، فلا حالات غير قانونية للأجانب ولا مراقبة دخولهم على الحدود أو إخراجهم، وبإمكاني خلال عامين أو ثلاثة أن أطلب الجنسية المستحيلة حاليًا بعد أن أبرهن على كفاءتي في الانسجام الاجتماعي، وهو بذلك لن يحفظ للفرنسيين هويتهم الفرنسية، فيقف معي ما لا يقفه مع حلفائه، إضافة إلى ذلك هناك علاوة سنوية ويوم عطلة غير العطلة الأسبوعية في كل شهر... إنه عمل نادر ويحتاج إلى خبرة ومهارة لكنني ذكي، هكذا هي انطباعاته عني، وسأتقن ذلك بسهولة، ثم بسبب تلك العلاقة الإنسانية التي تربط بيننا يعرضه عليّ، فهو لم يزل دومًا طبيبي رغم شفائي التام. وقال: لو لم تكن أنت لما عرضته عليك، لأن عملاً كهذا، مثلما سبق وقلت لك، يحتاج إلى خبرة ومهارة، وقلما أعطيت موافقتي لشخص دون أن نجربه، أما أنت، فلك موافقتي منذ الآن... ماذا قلت؟ لم أقبل بعرض بوشين كما طلب مني الشيطان، فالتناور جوهر التحاور، لهذا طلبت: - أعطني بعض الوقت لأفكر في الأمر. وقلت لنفسي: عمل في مختبر، سأغلي البول، وأحلله، وسأفحص براز المرضى. قال بوشين: - لا تترك عملك هنا قبل أن تعطيني كلمتك النهائية.
الفصل 38
علي يعمل في معمل للهياكل العظمية
أنزلني الباص في منطقة منعزلة أرضها ليست أرضًا وسماؤها ليست سماءً، فوجدتني وحيدًا على رصيفٍ بلقعٍ. كانت المنطقة هادئة هدوء الجزر المسحورة، منعدمة الحركة، وكأنها جزء من عالم العدم، لا توجد فيها قدم واحدة. وكانت هناك منازل صغيرة متفرقة تحيط بها حدائق مهجورة، فقلت أقطع الطريق إلى طريقي، وفي يدي ورقة عليها عنوان المختبر الذي أقصده. انتظرت أن يمر بي أحد من الجن أو الإنس، فأسأله كيف الوصول إلى عنواني، ولكنني عبثًا انتظرت. وعلى حين غرة، ظهر لي قصر ذو أبراج ومنارات جذبني قرميده الأحمر، تقدمت منه، وطرقت مطرقة حديدية على شكل الفك، فانبعث نباح كلب يكره الأجانب على ما يبدو وعابري السبيل، ولم يجبني أحد من ساكنيه. وبينما أنا ألوك سوء وقعتي أتت عجوز حبلى في شهرها التاسع من أقصى الطريق، فقلت أي حظ يأتيني في الأخير، ها هي ذي حبلى في التسعين تأتي من أقصى الطريق! وهي على مقربة مني قلت لها بأدب جم: سيدتي، هل تعرفين مختبر كذا وعنوان كذا... لكنها حدجتني بلا طيبة لا تكلف شيئًا في تلك الجزيرة النائية، واستمرت تعبر الطريق بخفة شابة في العشرين إلى أن اختفت مع انحدارها في الجهة الأخرى منها. ومن القصر الغني إلى المسكن الفقير ذهبت في اللحظة التي تقدمتُ فيها من كوخ حقير يربض مثل حيوان هرم منتظر، تقدمت منه، وطرقت مطرقة ذهبية على شكل الكف، فجاءني صوت امرأة هرمة، فظننت الكوخ متكلمًا: - من بالباب؟ اقتربت من الباب، وقلت بصوت رفعت من عقيرته متعمدًا: - أبحث عن مختبر كذا وطريق كذا. تباطأ صوت المرأة عن الجواب، الأمر الذي دفعني إلى السؤال: - هل المنطقة مهجورة؟ فجأة، انفتح الباب، فإذا بي وجهًا لوجه مع امرأة قردة نصفها امرأة كباقي النساء ونصفها قردة كباقي القردة. قلت ها هي ذي أمنا حواء أصلنا وفصلنا، فسألَتْ: - ماذا قلتَ؟ تمالكتُ، وأنا أمد لها الورقة بالعنوان، فالتفتَتْ بعد أن قرأت المكتوب في الورقة إلى الشمس لترى شرقها من غربها، ثم مدت سبابتها، وأشارت إلى الغرب، ومن السبابة خرجت إناث من عمر السنة الواحدة إلى عمر المائة والسبع والأربعين. كن يتتابعن الواحدة تلو الأخرى، وهن يزددن في العمر سنة بعد سنة، وينتشرن على الطريق في خط طويل لم يعد بإمكاني أن أرى نهايته. أمام حيرتي، قالت لي حواء: - اطبع شفتيك على ثغر كل منهن وامسك نفسك عن أن تصيبك براءة القبلات أو متعتها لا ولا قرفك منها، فهؤلاء كلهن أخواتك، ولما تنتهي من تقبيل أكبرهن التي لها من سني العمر مائة وسبع وأربعون ستجد نفسك قد وصلت إلى مبتغاك بعد أن يكون المكان الذي تبحث عنه والذي لن تبحث فيه عنا. بدأت أطبع شفتيّ على ثغور أخواتي ثغرًا ثغرًا المصطفات جنبًا جنبًا، على ثغر تلك الغِرّ ذات السنة الواحدة التي لا تكاد تُرى على حافة الأرض لقصرها، وعلى ثغر تلك الغراء ذات السنتين، فالثلاث سنين، فالأربع، فالخمس، فالست، فالسبع، فالسبع العشرة، فالسبع والعشرين، فالسبع والثلاثين، فالسبع والأربعين، فالمائة والسبع والأربعين... كان شرط حواء أن تكون قبلاتي كالندى محايدة، فكانت قبلاتي كذلك رغم مرور شفتيّ على أشهى ثغور النساء أو أقرفها أو أكثرها براءة، فما العمل وهدفي كان الوصول إلى عنواني بأي ثمن كي أخرج من هذا التيه الشبيه بتيه الفيوم أو تيه كريت. هذه هي الطريق إذن، وهذا هو المختبر: كان المختبر عبارة عن ثلاثة طوابق وسط حديقة واسعة. قطعت المعبر الطويل الذي يشقها، وأنا أدعس أوراق شجر عفنة، وأسحق بعض ديدان كانت تحاول عضي بلثتها عبثًا قبل أن تنفق الروح. قال لي السنجاب، رئيس العمال، بعد أن قدمت له أوراقي، وفحصها بدقة: - وصلتني الأوامر بشأنك منذ يومين. اعلم أن التنافسية لهي منهجنا في العمل، وأن مساواة الحظوظ لهي هدفنا، فلكل واحد نفعه، ولا نفع لرب العمل وحده. لم أنتبه إلى كلماته الجديدة، كنت أرزح تحت وطأة عملي الجديد. نهض من وراء مكتبه، وفتح خزانة حديدية صدئة، وهو يقول: - سأعطيك حالاً كل ما يخصك من أشياء، ولا تنس أن حرية التصويت لدينا بالنسبة لغيرنا مطلقة، فالرجاء عدم احتقارها، وذلك بالذهاب إلى صناديق الاقتراع، وعلى الخصوص أنني أتكلم باسم الضفدعة ذات القوة الهادئة لا باسم بوشين وصحبه الداعين إلى تأسيس معمل أوروبي للهياكل يجنون من ورائه الأرباح الطائلة، نحن مع معمل هياكل أوروبي يكون لكل واحد فيه نفعه مثلما سبق وقلت لك باسم الضفدعة ذات القوة الهادئة. هل ذكرت اسمها في بداية كل جملة ونهايتها؟ - ذكرت. أجبت، وأنا أقول لنفسي إن الدكتور بوشين لم يكلمني عن انتخابات نقابية قادمة. - إذن باسم الضفدعة ذات القوة الهادئة التي سترأس إدارة المعمل بقوتها الهائلة سنقيم سياسة أوروبية للعائلة وسياسة أوروبية للبطالة وسياسة أوروبية لصناعة الهياكل العظمية، أَوَ ليس هذا هو عمل مصنعنا؟ أردت أن أذكره بحفظ هوية مصنعنا الفرنسية، شعار الانتخابات السابقة، لكنني أكدت: - هو هذا. وقلت لنفسي هذا أول سنجاب جريء يخرج عن طاعة بوشين – أمعقول هذا وهو غلام في خدمته؟ - بينما كان يبسم بسمة غبية، ويلوك كلماته بأبوية الضفدعة ذات القوة الهادئة، ولم يزل بعد غرًا في ريعان الشباب. أضف إلى ذلك ما لاحظته من ديماغوجية هي لأي أخ من إخوتي عند توجهه إلى أفراد عشيرته. قلت لنفسي لأسكت عليه، فلن أعطيه لا له ولا لغيره صوتي، ولسوف أسقطه باستنكافي لتكون له عبرة. أخرج السنجاب من الخزانة الحديدية حقيبة من البلاستيك مهترئة، رفع مريولاً أبيض عليه آثار لطخات حمراء كمريوله عن علاقة، وقال: - مريول أبيض. ورماه في الحقيبة، ثم أخذ من الخزانة قفازين أصفرين مثقوبين، وقال: - قفازان أصفران. ورماهما في الحقيبة. راح السنجاب يأخذ بقية ما يخصني من أشياء من الخزانة الحديدية، ويقول: - صدار من الجلد... حذاء من الجلد... غطاء من الجلد... راميًا إياها في الحقيبة البلاستيكية، ثم سمعته يهمهم لنفسه مثل روبو مؤمم أو اسطوانة مجروحة: مساواة الحظوظ... مساواة الحظوظ... مساواة الحظوظ... وعلى حين غرة إذا به يصيح بغضب: مساواة الحظوظ بين هيكل وهيكل، ثم انتبه لوجودي، فاعتذر، وتمتم بأدب جم: - بعض الأدوات. وراح يلقي في حديقة البلاستيك دزينة من السكاكين لم تستعمل من قبل بأحجام مختلفة: من سكين اللحام إلى سكين النحات، إلى جانب آلتين أو ثلاث غريبة الشكل معقدة التركيب لم أر في حياتي مثلها. في الأخير، قال لي: - هذه ملعقتك وشوكتك وسكينك وكذلك صحنك وكأسك وفنجانك. كانت كلها من الألمنيوم. أغلق السنجاب الخزانة الحديدية بعصبية، ودفع لي الحقيبة البلاستيكية، وفي الحال بعدئذ، أومأ إليّ أن أتبعه، فتبعته. أخذنا ندخل في حجرة، ونخرج من حجرة، إلى أن بدأت تتسرب إلى أنفي رائحة غريبة. دفع السنجاب بابًا بيد لا مبالية، فبرزت جثة! وثارت زوبعة! وهدر بخار! إلى جانب أصوات مختلفة: صوت المرجل، وصوت الفرن، وصوت المحرك، وصوت العربات. كانت الجثة ترتفع في زوبعة البخار بواسطة كُلاّب مغروز في إبطيها، والرأس مكسور، الذقن في العنق، والأصابع مفتوحة. ظلت الجثة ترتفع وترتفع باتجاه المرجل الضخم، في بطنها فجوة عميقة، وعلى لحمها دماء غزيرة. ظلت ترتفع، فارتفع ألم حاد في حلقي، أحسست أنني تقلصت، وتمزقت، لحظتئذ عرفت أين أنا، ولكنّ أذنيّ امتلأتا بالضجيج، ولم أعد أسمع مما كانوا يفعلون شيئًا. كنت أرى بعينيّ الاثنتين فقط رؤية الأعمى في عالمه الأبيض، وقد تبعت نفسي في دهاليز الموت. ارتفعت الجثة السعيدة مرة أخرى، وهي تتأرجح على حبل جهنم العدنيّ، ورؤيتي لا تتأرجح، رؤيتي الفاحصة للأصول والفصول. كنت أحدد النظر إلى ماض بأكمله يرفعه كُلاّب بواسطة محرك آلي، بإرادة رجل آلي، من المرجل إلى الفرن، وكانت حياة صاحب الجثة هي الماضي الذي صار حرًا، حياة إنسان عاش، إنسان لم يتبادر إلى ذهنه يومًا أن يصير إلى مثل هذه الحال. إنسان عاش! شخ أقل مما بكى، وفعل أقل مما عمل. لعله شرب الخمر، ولعله لم يشرب إلا البول. لعله سافر مرة أو مرتين، ولعله كان في غربة دائمة. إنسان مات! اختلط ماضي البشر كلهم بابتسامة لاهية ما زالت تثقب شفتي تلك الجثة، وكان ماضيّ قطرة دم في لطخة الحياة، فإذا بي أذوب في بحيرة من الدواء الأسود سقطت الجثة فيها منذ قليل، وإذا بي أصبح مركبًا كيماويًا، وإذا بي أشم الموت في جسدي، فأبتسم، وتنتهي كل شهواتي، وإذا بي لا أعرف معنى البكاء، لا ولا معنى النهيق، لا أعرف من أنا في غابة الضحك، لا ولا من نحن بين أسنانها اللبنية. كنا بشر الماضي الذي يرتفع رويدًا رويدًا إلى الأعالي، وكان المجد لنا يعني سقوطًا، وقد انتهينا، ولكن جثتنا ظلت تثقب في الفضاء خلودًا على الرغم من كل شيء، خلود ألف عام أسود لا يعني شيئًا في عمر الزمن، ومليار رأس أصفر لم تهز التنين النائم في جثته ضوضاء جزم العساكر في تيان آن من، فأين أنت يا جثة ثلث الكرة الأرضية؟ أَدخلوا الزمن في الموت زمنًا كونيًا، ولكن دون لذة، جفت كل اللذائذ، وزالت المسافات بين الأماني، بقيت أمنية واحدة ليست أمنية بشر يعيشون بل أمنية بشر عاشوا، فيا شعب الصين متى ستنهض جثتك؟ كان على جثتنا أن تنطرح أولاً على خشب الوقت. انطرحت الجثة، فانطرحت الأمنية، وقفزت مثل لفتٍ خائفٍ، واختبأت. سقطتُ بفمي في البالوعة، فتفجر سائل أصفر عفن عفونة الحفلات التأديبية. كان لساني ينقذف بتلقائية العضلة المتشنجة، وكان يجعلني ألعق قذارتي مثل كلب مرغم على فعل ذلك، فأملأ فمي بالقذارة، وأطفو بالقذارة، ولا أتوقف عن إطلاق الحشرجات تلو الحشرجات... وبعد ذلك، ارتحت قليلاً. نهضت، فخارت قواي. عدت إلى السقوط كلي جسدًا وروحًا في البالوعة، هكذا أحسست، وأنا أطلق الحشرجات ثم الحشرجات والحشرجات بينما تلطم وجهي قاذورات هي جزء مني مثيرة للاشمئزاز. حاولت النهوض من جديد، وأنا ألهث كبالعٍ للبحر الميت الذي هناك بموجه المالح ومراكبه، وأخذت أنظف بصعوبة آثار الفوسفات على وجهي إلى أن بذلت آخر لهثاتي، وحين سقطت بعيني على صورتي في المرآة، رأيت خلفي جثة منطرحة على حامل، فاستدرت دون أدنى ضجة. تقدمت من الجسد الميت، ثم تذكرت كل شيء. كان السنجاب رئيس العمال قد دخل معي، وشرح لي على الجثة طريقة عملي الجديد، وكان ما استعمله من سكين ملقى قرب يد الجثة اليسرى بينما لحم ذراعها من باطن الكف إلى نهاية الساعد كان متهدلاً على الجانبين وعظم ساعدها بارزًا بروزًا منفرًا. نظرت إلى النافذة المربعة ذات الزجاج بمساحة لا تزيد عن 30 سم مربع إلى جانبي في الحائط، كان السنجاب قد قال لي إن بإمكاني طلب العون عبر النافذة المربعة من شخص يعمل في الحجرة المجاورة وقت الحاجة، وقال أيضًا ألا أتردد في طلب أي شيء، فكلنا زملاء وخلية نحل واحدة المساواة بين أفرادها حسب قول الضفدعة ذات القوة الهادئة مسألة مقدسة. تقدمت من النافذة الواطئة، وانحنيت لأتمكن من رؤية من كان يحتلها، فعرفت فيه دوستويفسكي شخص الليلة السابعة لعيد السين. كان قد أزاح قدم الجثة، وراح يتناول طعامه على طرف الطاولة، ولما التفتَ إلى النافذة المربعة الواطئة وقع عليّ، فابتسم ابتسامة واسعة، ورفع لي كأسه محييًا. قلت لا بد أن أحواله قد تحسنت، فهو لا يبدو مهمومًا مترحًا بهموم وأتراح تلك الليلة البعيدة. لاحظت أن الجثة التي أمامه مسلوخة حتى الحوض، أما رأسها، فعبارة عن ثلاثة أرباع جمجمة فقط لم تزل الشفة العليا فيه معلقة والسفلى كانت ممزقة. قلت: معمل للهياكل العظمية، سلخ اللحم عن العظم وبيع الهياكل، هذا هو المختبر. ارتديت ثياب الشغل، وتقدمت من جثتي. كانت جثة امرأة في السبعين تشبه إلى حد بعيد أم روزالي التي أخذتها إلى حجرة الموت بالخطأ في تلك الليلة، لربما كانت أم روزالي قد ماتت بالفعل، فأراحت واستراحت، ولكن هذه صفراء صفرة شديدة، ولحمها بعد الغلي والمواد الكيماوية قد تهدل. رفعت الساعد، ورميتها على ساعدي، فالتصقتا. فتحت الأصابع، رفعت السكين، وغرزت النصل في باطن الكف... لم أهتز، لم أرتعش، ولم أضغط أسناني بعد أن عزمت على أن أقتل فيها بقايا موتها، وأحطم في عالمها كل ما هو عبث وخيال، وأفتح عليها باب آخرتها، وأحيلها أطرافًا أطرافًا، فكأنني أصنع من لحمها وليمة... وبينما كان النصل يزحف باستمرار إلى أعلى واللحم يتهدل باستمرار على الجانبين كانت قوة الموت تسري في نصلي وأظافري التي تمر على عظمها، وكنت قد تذكرت لمدة لحظة واحدة كل ما فكرت فيه منذ قليل ثم انعدم تفكيري، صارت الجثة كل شيء، فقط، وعملية اغتيالها من جديد. لم أتوقع أن تسقط نقطة محرقة على فخذي، ثم تفجر نبع دم أحمر مجنون الاحمرار بركانًا أحمق، وتحررت أحصنةٌ عادِيَةٌ، ولأنه نبع ثائر وعنيف راح يتساقط فوارًا في حضني. لما وقعتُ على الدم شق عيني برق، ولما جذبتُ ساعدي انجذب النصل مع كل كياني. كان النصل في لحمي قد انغرز، وقبل أن يسقط على الأرض تعلق متأرجحًا بلحمي. قلت ها هو جرح يولد، أو إنه أمنية انتحرت. ولم تعد الساعد ساعدي ولا الدم ولا الزوبعة، كانت ساعدًا أخرى ودمًا آخر وزوبعة أخرى مجنونة الاحمرار، احمرارها هذا بالذات كان قاتلاً! نهضت بسرعة إلى النافذة المربعة لأطلب مساعدة دوستويفسكي زميلي، فلم أستطع فتحها. نقرت زجاجها، فلم ينتبه دوستويفسكي، كان في شغل شاغل عن دمي. حملت ساعدي القتيلة إلى الباب، دفعته، ودخلت القاعة الكبرى للمعمل. استقبلني البخار الأهوج والجثث الممددة على الطاولات، جثث أراها لأول مرة، ورأيت لأول مرة جثة طفل معلق في طريقه إلى المرجل. دفعت الباب على دوستويفسكي، فواجهتني هياكل عظمية ثلاثة أو أربعة جميلة جدًا لإتقان صنعها لا رخودة فيها. لم يُقلق دوستويفسكي دمي المسفوح، نهض بلا مبالاة، وجاء إليّ بخطوات متباطئة. لما وقع على جرحي، ابتسم بسخرية، وأخذ يهمهم: - أنت طفل في مهنتك، يا راسكولينكوف! أعطاني ظهره بتثاقل، وبدأ يبحث في خزانة الإسعاف بتكاسل بينما كنت أنظر خلال ذلك إلى دمي المراق، إلى أصابعي الغاطسة في جرحي الغائر، وبدأت في أصابعي نمنمة غريبة من نوعها حتى تحولت إلى ديدان كتلك التي سحقتها في الحديقة، وغطست كلي في اللزوجة. أحسستُ بالجرح في عنقي وفي ثديي وفي فخذي، وتحولتُ إلى جرح يشقني نصفين، فَعَذُبْتُ، وتمنيتُ ألا يأتي دوستويفسكي بالقطن، وأن يبطئ أكثر. أردت أن أتركه، وأغادر حجرته، وبالفعل تحركت خطوتين، فغابت الرؤية في عينيّ، وأخذت فقاعات في حلقي تطلق أقواسًا، ومرة أخرى فاجأني الغثيان... رأيت دوستويفسكي وهو يقترب مني وفي الوقت ذاته راحت لطخةُ دمٍ تنتشر وتنتشر ملوثة العالم: صار الرجل أحمر كالجدران كالمستقبل كهياكل العظم ككل شيء، ولم أعد أرى شيئًا.
الفصل 39
حواء التي شغلت بال علي
أربعون يومًا مضت وكأنني في الخدمة منذ أربعين عامًا قطعتها بسعادة من يقطع العمر في حياة رابغة، في كل صباح كنت أنهض بنشاط يفوق نشاط كل السناجب، وأذهب إلى عملي كما يوجب العمل في الوقت المحدد دون تأخير أو تقصير. أتقنت المهنة بعد أن وقفت على خباياها السبع، وأخذ كل شيء يجري بشكل طبيعي. صرت أشق الفخذين بخفة، وأسلخ اللحم بمهارة. أفسخ اللحم عن قفص الصدر دون أن أخدش العظم، وأتقن الحفر بين سلاميات الأصابع. لم أكن أتناول طعامي مع باقي العمال لا لأنفة مني ولكن لأنني كنت أفضل أن آكل وحدي على طاولة العمل مستأنسًا بوحدتي وجثتي، ولم أحاول الاختلاط بهم مع أنهم كانوا يتقربون بطيبة مني. مضى كل شيء برتابة، ولم أكن أدري معنى ذلك، أصبح عملي باختصار عمل كل يوم دون فلسفة أو إبانة. بعد عدة أشهر، وبعد أن تحسنت أحوالي وبرد أمري، اشتريت دراجة ياماها من الحجم الكبير، ورحت أذهب بها إلى بقاع منعزلة. كنت أجتمع بنفسي أحيانًا، ولكن دون أن أفوه بكلمة واحدة، دون أن أفوه بحرف واحد. كنت أتأمل ساق شجرة أو جذرًا قهوي اللون، وأقف عند هذا الحد، ومعظم أوقات فراغي كنت أقضيها في حجرتي في الطابق الثاني من بناية العمال: كنت أنام طوال الوقت، فلا أُجري حلمًا، ولا أُمني النفس بإجراءات أخرى تقيم الصور أو تقعدها، وإذا ما مرت صورة ناتالي في خيالي أو صورة روزالي أو صورة ريمي فمرور الغيوم أو الظلال المضببة، إلى أن كان يومٌ كنت أخترق فيه بدراجتي المعبر الطويل للحديقة المحيطة بالمعمل، وللضجة التي كان يحدثها المحرك طارت عن إحدى شجرات التفاح بعض عصافير الجنة، فتوقفت دهشًا لما رأيتها، ورحت أتابعها بالنظر إليها، وكأنني أقع على شيءٍ ما لم يمكنني تفسيره. وقبل أن أتابع طريقي باتجاه البناية، جاء من خلفي صوت ضعيف النبرة لامرأة هرمة تلقي عليّ التحية، فالتفت مأخوذًا بنبرة غير غريبة عني، وشاهدت حواء التي شاهدت أول ما أتيت في جلد عجوز نصف امرأة ونصف قردة، وهي تحمل على كتفها سلمًا قصيرًا من ذوي القدمين، بيدها تنقل دلوًا فيه بعض أدوات الحقل، وإلى جانبها بنت أجمل من كل أقمار الدنيا، في التاسعة من عمرها، حبلى في التاسع من شهرها. كانت حواء قد مضت بي دون أن تنتظر مني ردًا على تحيتها، بينما نظرت البنت في عينيّ، والتفتت إليّ بعد أن تجاوزتني، وظلت تلتفت إليّ، وأنا أتابع انشدادها إليّ، إلى أن ابتعدت مع حواء في حديقة الآخرة. ظننت أنني رأيت ذات البنت فيما مضى من أيامي الخوالي، ولكنني لم أستطع تحديد متى وأين. قلت هذه واحدة من البنات اللواتي طبعت على ثغورهن قبلي الشفافة، وطغت صورة حواء بقامتها القميئة وشعرها المجعد الملوث بلطخات الزمن على روحي. رحت ألاحقها بخيالي، وهي تلتف بردائها الصوفي الخشن المشغول باليد أو القدم، ولو كانت أمي لما أحببتها. وبينما كنت في حجرة العمل، وقف تفكيري على العجوز الشمطاء، وقد نسيت بنت التاسعة حبلى الشهور التسعة. ولما أَلْيَلْتُ، لم يأتني النوم، وأنا أسمع طرقاتٍ في الليل أخذ صداها يأتي من الحائط الملاصق لسريري، ثم توقفت الطرقات على حين غرة. انتظرت أن تعود الطرقات من جديد، ولكن عبثًا كان انتظاري. عوضني عن ذلك قليلاً دقُّ الساعة الرتيب، وأقزام الجن الخارجة منها المتراقصة. وعندما كنت ذاهبًا إلى عملي في الصباح، التقيت بحواء صدفة أثناء خروجها من الباب المجاور لحجرتي لأكتشف اليوم فقط أنها جارة الحائط بالحائط. لم تلق عليّ التحية بل حدجتني بكره شديد، وكأنني الفاعل في ابنتها، وسبقتني إلى الدرج هابطة بسرعة. كانت وحدها، فقلت يمكن أن تكون البنت المخلاعة قد ولدت، ولكنني لم أسمع للوليد صوتًا. في الليلة التالية، انتظرت الطَّرقات، طرقاتها، وألصقت أذني بالحائط، حائطها، وأنا أرهف السمع، لألتقط كل جزء من حركاتها، ولكن دون أدنى فائدة. فكرت ماتت حواء، فأضاقتني الفكرة كثيرًا كما لو كانت أمي. وفي الصباح انتظرت أن ينفتح بابها، وتخرج، فلم ينفتح بابها، ولم تخرج. وأنا أهبط الدرج، التفت إلى بابها عدة مرات، وانتظرت أن ينفتح بابها، وتخرج، فلم ينفتح بابها، ولم تخرج، ولم ألاحظ دوستويفسكي، وهو ينتظرني على أول درجة، وهو يتأملني، ويبذل ابتسامته الساخرة. أوقفني، وقال لي مثل كل مرة يقول لي فيها: - أنت طفل في مهنتك، يا راسكولينكوف! قلت له: - الطفل الضليل فيّ هو الذي يبحث عن الضال فيها. قال دوستويفسكي، وقد ارتدى وجهه الساخر قناعه الفاجع: - ولكنك تبذل جهدًا لن يعود عليك بالنفع لأنه جهد ضائع. من العادة أن نبذل الجهد من أجل نفع يعود علينا وإلا ما الفائدة؟ والمسعى؟ يجب ألا نغض الطرف عن المسعى وإلا كان الجهد مدمرًا. ينقلب الجهد عليك، فلا يعود ضائعًا فقط بل ومدمرًا أيضًا، وهذا ما يدعى بالتدمير الذاتي؟ ولكي تتحاشى ذلك، يا راسكولينكوف، على مسعاك أن يكون في نتائجه خيّرًا، وإن كان في وسائله شريرًا. خذ مثلاً هذه العجوز، حواء التافهة التي بقيمة نصف قرد متطور، تصبح محط مسعاك، فتبذل جهدًا كبيرُا بينما هي لا تستحق كل هذا الجهد لأنها في حقيقتها مسعى خاطئ، لو كانت مسعى خاطئًا وفي نفس الوقت نافعًا مثل عملنا في صنع هياكل عظمية متقنة لاختلف الأمر، إنها مسعى خاطئ وغير نافع، إنها التافه في الإنسان، والتافه في الإنسان إن لم تقتله قتلك، فحذار! حذار من التمسك بالإنساني الخاطئ في الإنسان، وبالشرعي الكاذب، الشرعي اللاشرعي واللاطبيعي الذي له صورة بنت حبلى في التاسعة من العمر. ولتنتبه جيدًا، أقول هذا ليس لأنها حواء ولا المرأة ولكن لأنها هي. وبعد لحظة حدد فيها النظر بعينيه الهادئتين في عينيّ الحائرتين أعاد لي محذرًا: - التافه في الإنسان، يا راسكولينكوف، إن لم تقتله قتلك. أقتله وحرر الإنسان منه! - هل أقتل أمي إذن؟ - أقتلها إذا كان في ذلك قتل التافه فيها. أنت تعيد قتل الجثث يوميًا، ولكنك لا تقتل فيها التافه. لماذا؟ لأنها جثث أناس سبق لهم الموت موتًا طبيعيًا بعد أن تركوا لغيرهم التافه فيهم. لهذا السبب عليك أن تصنع موتًا غير طبيعي موتًا استثنائيًا يموت معه التافه في الإنسان والإنسان فلا يُبقي لغيره عدواه، وهذا ما لا يسمى بالجريمة، هذا يسمى بإنقاذ الإنسان من جريمته في الإنسانية، إنقاذ الإنسانية من حواء هي على مثل هذه التفاهة. تركني أشد حيرة مما كنت عليه، وذهب ليندمج اندماجًا كليًا في عمله المتقن بتجريد الجثث أشد إتقانًا. مضت مدة ليست بالقصيرة دون أن أرى حواء أو أسمع حركاتها، وفي ليلة من الليالي، نهضتُ صائحا من الرعب، وقد حلمتُ بها، وهي تربض بكل قواها الشيطانية عليّ قصد خنقي. وفي إحدى المرات، على الرغم من عملي الكثير، ألقيت السكين، وأشعلت سيجارة رحت أنفخها، وأنا أفكر فيما قاله دوستويفسكي لي، فهل كان يخلط بين التفاهة لامرئ هو تافه بالفعل وبين البشاعة في شكله أو سلوكه؟ كنت حائرًا لأنني لم أجد حواء منذ أيام، وقد أخذ اختفاؤها يؤثر على شكلي وسلوكي، فلم أعد أحس بأنني جميل، وصرت عصبيًا أنفخ سيجارتي دون لذة أو شوق، والدخان يتصاعد في حلقات وحلقات ثم لا يلبث أن ينتشر وتصبح له حركة غريبة قرب السقف. وبينما كنت أحدق في الحركة الغريبة، اكتشفت فجأة ثقبًا في زجاج النافذة الأخير، واكتشفت أيضًا أن زجاج النافذة مصبوغ باللون الأسود. نهضت دون شعور مني صوب الثقب الكائن في منتصف اللوح، والدخان قد راح يتسرب منه، فقلت هذا ثقب أحدثته رصاصة وإلا تكسر الزجاج، الحجر لا يفعل هذا ولا المسمار حتى ولا عصا فرعون! لقد اخترقته رصاصة! رفعتني الفكرة من قدميّ، وصعدت على الكرسي لأمد أصابعي إلى الثقب، وألمس دائرته، فالتصق زجاج مطحون بأطراف أصابعي، وعندما فركت مطحون الزجاج سرت في بدني كهرباء من الرمل، وسارت روعة الخشونة إلى أسناني. وضعت عيني في الثقب لأرى، وكأنني أرى في صندوق العجب ما رأيت، كان بوشين بصحبة ابن ملك المال يقفان تحت شجرة تفاح، وفي قبضة هذا ابنة ملك الكلام حية مذهبة متلولبة، وبضربة سيف كالبرق قطع رأسها، وأخذ يعصر دمها في كأسٍ دواءً للفحولة أعطاها لبوشين، فشربها حتى الثمالة ثم ألقاها للسنجاب الذي راح بهوس يلعق بقاياها. وبعد أن سلخ ابن ملك المال، الذي توّجه إخوتي ملكًا عليهم في زمان آخر ومكان آخر، جلد الحية المذهبة، رمى جسدها في النار، وشواها، ثم قدمها قطعًا قطعًا لبوشين ليهنأ ويشبع، فأكل منها ما أكل، وترك الباقي لابن ملك المال، وترك ابن ملك المال بدوره قطعة أو قطعتين للسنجاب المضرب عن أكل البندق رغم جودة نوعه وغلائه واستيراده له خصيصًا من البلجيك. وما لبث ثلاثتهم أن ذهبوا، فأتت حواء، بلحمها وشحمها، إلى حيث كانوا، بصحبة بنت التاسعة حبلى الشهور التسعة، وقد بدت عليها آثار مخاض قريب. صعدت على سلمها، وبدأت تقلم أغصان شجرة التفاح الشاهدة على الثلاثي الآكل للحم الحية تحتها. شدتني حواء ليس لأنها تقلم الأغصان في وقت لم يحن موعد تقليم الأغصان فيه بل لأنني وقعت عليها بعد كل تلك المدة الطويلة. كانت حركاتها حركات امرأة ميتة، وبشكلها المكعبل القردي الدينصوري كانت شنيعة بشعة مقرفة، ولكنني داومت على مراقبتها من الثقب السحري بشغف إلى أن انتهت من شجرة تفاح، وذهبت إلى شجرة تفاح أخرى. فجأة، رأيتها تنزل إلى الأرض، وتضم على الأرض ما لم ألاحظه من قبل لشد ما كنت مشدودًا إليها. كانت على الأرض حبلى التاسعة من العمر، وقد رفعت ساقيها المفتوحتين حتى أقصاهما إلى جذعٍ رابضٍ ضخمٍ بينما أخذ يخرج منها وليدان أحدهما صبي في التاسعة بكت حواء لأجله وآخر صبية في مثل عمره حبلى ما أن تفتح عينيها على أرزاء الوجود إلا ويأتيها المخاض، فتضحك حواء لأجلها بعد أن تضع مثل أمها صبيًا في التاسعة وأختًا له صبية في مثل عمره حبلى، وهكذا جرى الذي جرى، وأنا أشاهد بأم عيني: حبلى تلد حبلى في كل دقيقة أو بعض دقيقة إلى أن امتلأت الحديقة بالأطفال من صبيانٍ وصبيات. صار الأطفال كالنمل جيشًا أخذ يغزو المكان، ويكتسح فيه كل ما هو حجر خارج مصنعنا، مصنع من حديد وزنك، ومكان نومنا، حتى قَلَبَ جيش نمل الأطفال بنايات المنطقة كلها هياكل عارية. وبينما كان الأطفال يحملون أطنان الحجارة، وهم يقفزون بين جبالٍ أتوا بها وخلايا صنعوها منها سمعت وقع أقدام لمارد أو عملاق تأتي من بعيد، وكلما وطئت الأرضَ قدمٌ من ناحيتنا راحت تتزلزل من الناحية الأخرى للعالم، ثم صار الوقع يهدر كالطبول المجعجعة المجلجلة، فأقفلت أذنيّ بإصبعين، وفتحت عينيّ على سعتهما، وأنا أرى السنجاب الآدميّ، رئيس العمال، وقد صار سنجابًا بحق وحقيق، أعملق من عملاق، وأمرد من مارد. راح يطارد الأطفال مطاردته للنمل المتفرقين من وراء عجلات محترقة في كل الجهات في الشرق وفي الغرب وفي الشمال وفي الجنوب، وراح يهدم جبال الحجارة المقامة وخلايا النمل بقدميه العملاقتين وحركات يديه الجنونية حتى أحال الدنيا دمارًا على دمارٍ ضاعفَ من جمال الحجارة وجبالها الكريمة، وفي الأخير، رضخ للهاثه منهكًا ميئوسًا منه يائسًا. لم أشعر بالوقت الذي قضيته في مراقبة ما جرى من مشاهد بقدر ما كانت غريبة، وعندما نزلت من مكاني المحمي بشرخ زجاجي، كان موعد الانصراف قد حان. نهضت عند منتصف الليل على طرقات تأتي من الحائط، طرقات ما لبثت أن توقفت فجأة ليستفزني السكون المخيم، سكون آخر كان غير سكون الموت، وجدتني أشد فيه قبضتي بقوة وبأس، فتحركت عروقٌ في قبضتي، بقوة معصرة زيتونٍ في قريتنا ويأسِ ثلاثِ حباتِ ليمونٍ لم يقطفها أحد. صارت قبضتي حجرًا من لحم رفعتها بنوع من الوقوع على شيء: الذاتية، الحاضر، أمل الليمون، نوع من الوقوع على شيء، حتى حاذت أفقًا في عيني، وأهويتها على الجدار مرتين، فبدرت عن ذلك بعض الأصداء. ألصقت أذني بالجدار، فسمعت حركاتٍ خلف الجدار، لهثاتٍ خلف الجدار، قلت حواء خلف الجدار. رحت أخدش بأظافري الجدار، فتزداد من خلفه اللهثات، ويزداد انفعالي. لم يأتني النوم، كانت حواء، المرأة المتهدمة المنحنية بثياب النوم خلف الجدار، الصورة الطريفة التي ظلت تعلق في خيالي، وكانت تنبثق من الجدار بعض اللهثات على شكل صور أخرى أكثر طرافة. نهضت إلى الطشت حيث أنقع أدوات العمل، أخرجتها من الزيت، وبدأت أنشفها، وألمعها، وأصفها على الطاولة. قبل أن أضع آخر سكين، تأملته بشيء من الروع، ثم رميته فوق السكاكين الأخرى، وغادرت شقتي بعد أن كان الصباح. انتظرت مثل كل مرة أن تخرج حواء دون فائدة، وبإصرار تقدمت من بابها، وطرقته، فلم يأتني أي جواب سوى الأصداء وضحكات دوستويفسكي. جثم على صدري هم ساحق أشبه بهموم فقدانك لذاتك ولحاضرك ولأمل الليمون، وهبطت الدرجات ببطء الأموات وانكسار الجند. أول ما دخلت حجرة العمل، رفعت عيني صوب ثقب الأسرار بعد أن صار انشدادي إليه انشدادًا مهووسًا. دخل عامل نقل الجثث بإحدى العربات حاملاً جثة ابنة التاسعة من العمر الوالدة لجيش من الأطفال المتروكين ولكن المتحدين، رماها على الطاولة دون أن ينبس ببنت شفة، وخرج دون أن ينبس لا ولا بابن فم، ذلك يعني أن عملي اليومي قد بدأ. تقدمت من الجثة دون أن تنتهي علاقتي بكل ما يمكن أن يصلني الثقب به، وانخرطت في عمل متواصل بلا توقف قطعه صراخ طفل خديج في الثالثة من العمر خرج من صرتها، وهو يزبد ويرغي. كنت لما فتحت الصرة بنصلي قد شققت في الوقت نفسه كيسًا كان الصبي يختبئ فيه، ويحتمي، فأصابه النصل بجرح في صدره لم يكن غائرًا. وبعد أن لففته بضماد، قال لي إنني أبوه، وقال إنه سيرافقني في وحدتي، وإن جليس السوء في زمننا خير من الوحدة.
الفصل 40
قدر البحر يرفض أن يكون دولة وحواء الشمطاء تقتل دوستويفسكي
طلب مني ابني أن أسميه غافروش، فسميته محمدًا، وسميته غافروش، لأنني أردت إكرام صديقي الذي مات في الوقت الذي أردت فيه إرضاء ولدي وإغضاب أعدائي، وليكن ما يكون. أخذته معي إلى حديقة الدنيا في يوم أحد لم يشبه أحدًا من الآحاد، فالتقط محمد غافروش صمت الحديقة بأصابعه، ومزقه مثلما مزق الصمت في حديقة نفسي، ولعاصفة الأجنحة التي أحدثها بهرجه ومرجه تمنيت ألا يطير طائر في الأجواء بعد ذلك الأحد، ولكنني لم أكن جادًا فيما تمنيت، فالقطن الذي يسقط في كل مكان لا بد من تلويث طهارته وإلا ما صار لونه الأبيض جميلاً، وضباب الشتاء الذي يتسلق الجبال لا بد من تطويق مونوتونيته وإلا ما صار رتوبه الرطب منعشًا، وعراء الأشجار الذي يلبس الحياة لا بد من خلع شفافيته وإلا ما صار ملجأه اللاسري ملاذًا. لوث ولدي قطن الشتاء بقدميه، وعبث بضبابه، وخلع شفافية عرائه، لاحظت هذا الانقلاب المفاجئ للطبيعة على الطبيعة حين عادت الطيور إلى أعشاشها المتهدمة بعد رحيل، ولم تعد الحلم الضائع هي أو الأمنية المستحيلة، قلت عما قريب سيتصاعد من جوف الأرض أنين فعل العشق بينها وبين المساء تاهورًا متنزهًا. تركت ولدي يجمع حجارة حمرًا وخضرًا وزرقًا وصفرًا وبنيةً وذهبيةً وناريةً وليلكيةً وزهريةً وتوتيةً ليبني بيوتًا لا تعد ولا تحصى دون أن يكون أبدًا راضيًا تمام الرضاء لأنه كان لا يلبث أن يهدمها أو تهدمها له ريح غضوب، فيعيد بناءها بعناية أكثر أو بإهمال أقل، وقلت هو مثل إخوته مع أنه أصغرهم، فلا صغر السن من الأهمية بشيء ولا صغر القامة، وليس من الدهشة في شيء أن يكون المرء صغيرًا، فإذا ما عزمنا أصبنا والعزيمة هي القدرة. ولما نظرت إليه في حضن حجارته وحجارته في حضنه كانت تلوح عليه العزيمة في الوقت الذي تغادر فيه القدرةُ أصابعَهُ الصغيرة، فيبدو كمن يتسلى. جلست تحت شجرة تفاح، وقلت هذه هي الشجرة التي صعدت عليها حواء الأولى أول ما خرجت وآدم من جهنم، أشبه بتلك التي قلمت أغصانها حواء الأخيرة، وأكل بوشين تحتها الحية المذهبة، فانسابت في أنفي رائحة دم وتفاح ومتعة، وتسربت إلى جسدي رطوبة الأرض الملتذة الملذة، الملتذة بحرارة جسدي الملذة لجسدي في حضنها. أحسست بطعم طين في حلقي وورق عفن له مذاق الخمير، وهتف بي جسد ناتالي الراضخ للعناق مجبولاً بعرق الحب واقتراب لحظة قتل الشوق في صراع هو ألذ صراعات الحياة، فأطلقت تأوهة من يقيم العناق في الصور، وعلى فُجْاَةٍ مني أحسست بانفصالي عني، وبأنني أصبح سبعة وأربعين جذعًا في الأرض، لكل جذع ألف جذر، ولكل جذر ألف ثغرٍ زاحفٍ صوب النسغ باحثٍ عن قبلات لها طعم ما بعد ظهر الشتاء. أتاني دوستويفسكي مهرولاً من بعيد، وهو يتحاشى هدم بيوت ولدي محمد غافروش الحجرية. رمى بنفسه إلى جانبي على جذع شجرة التفاح، وقال لي مخيب الظن منشغل البال قلقًا ومهمومًا: - اسمع، يا راسكولينكوف، إني تارك لك كل شيء بعد أن حجبوا عني الجنسية الفرنسية لا كما وعدوا، وكأني عملت لأجل قيصر روسيا، وإني عائد إلى الكتابة. أنت وضعت ولدًا يعينك على قطع العيش، وأنا سأضع كتابًا لن يكون لي عونًا كبيرًا وكل هموم النشر التي لا تعرفها، ولكن ما العمل ولا خيار آخر لي غير هذا الخيار؟ سيسحبون كتابي من المكتبات بعد عشرة أيام من توزيعه ليخزنوه، وبعد ذلك ليبيعوه بأبخس الأثمان، فيشتريه من يقفون لي بالمرصاد. أنت لا تعرف مدى عزيمة وقدرة الذين يقفون لي بالمرصاد، نعم، لم يعد لي من خيار آخر غير خيار الكتابة، لأني لا أحسن سوى واحدٍ من اثنين: صناعة الهياكل العظمية أو صناعة الكتب... أعرف أني في كلتا الحالتين خاسر، فلغة العظم مثل لغة الخشب في البرافدا والايزفستيا والمجاهد ليست لغتي، وهم مثلما قلت لك يقفون لي بالمرصاد. قلت له: - في هذا العهد الجديد الذي لن يلبث أن يصبح قديمًا بعد أن كان تدجيلاً يتحدثون عما يدعونه الغلاسنوست، أي الشفافية. قال محتدًا محتدمًا: - الدم يشف أيضًا في المساء ويصير لونه أبيض! إذن ليعيدوا نشر كتبي القديمة، ولينشروا كتبي الجديدة، لكن الحقيقة مقلقة، يا راسكولينكوف، وأنا تعيس، تعيس جدًا، لأنهم بعد مرور أكثر من سبعين سنة يأتون اليوم ليتكلموا عن المنافقين الذين تربوا فينا، فبالله عليك أين هم الكسالى الذين شمروا عن سواعدهم بعد الحرب؟ أين هم أولئك الرواد الذين بدلوا عقلية الآباء؟ أين هم أولئك المؤسسون للصيرورة الديمقراطية نصرهم الله؟ لا، ليس سوء الحظ هو السبب، ولكن الظروف التي خلقوها، لا، وليست الحياة هي القذرة، ولكن الإنسان الذي فبركوه، وفبركوا معه كل تلك الأوهام العظيمة المنحطة، أما أنت، فسيُلقى على عاتقك أكبر عبء لأنك أكثرهم إخلاصًا لَمّا تجهز على التافه، هذا التافه الذي سيجهز عليك، ويجهز على طفلك، ويجهز عليّ. قَبَّلَ كتاب رأس المال، وتركني في حيرة من أمره، وذهب مثلما أتى مهرولاً ، ولم يستطع هذه المرة أن يتحاشى هدم بعض بيوت ولدي الحجرية، وقد ازداد قناع القلق والخيبة الذي من لحم وجهه قتامة. كان صوتُ ترحابٍ لولدي محمد غافروش بأخي قدر البحر قد مزق الأسماع. رأيتُ لما استدرتُ أخي الأخطبوط، وهو يضم محمد غافروش بين أذرعه الألف ذراع وذراع، ثم يرفعه إلى أعلى، ويقذفه، ليلتقطه، ويعود ويقذفه، وولدي الصغير يطلق أعذب الضحكات وأسعدها، وما لبث طفلي أن رفع أخي قدر البحر بين ذراعيه، ونام على ظهره، ثم راح يتلقفه بيديه الصغيرتين، ونام على بطنه، ثم راح يتلقفه بقدميه الصغيرتين، وقدر البحر يطلق بدوره أعذب الضحكات وأسعدها. سألته: ما الذي جاء بك؟ أجاب وقد عتمت ملامحه، وبدا عليه الاستياء: - لا أريد أن أكون دولة لإخوتك. اندهشت، وأنا أسأله السبب، فأجاب: - لأنني سأكون دولة كباقي الدول العربية. اندهشت مرة أخرى، وأنا اسأله مرة أخرى السبب، فأوضح: - لأن في جسد كل أخ من إخوتك فدائيًا متجبرًا، ووالدك قد تركهم يخلطون الحابل بالنابل وهو يراهم ولا يفعل شيئًا. قلت: هذا لأنه والدهم. قال: لا أريد أن أكون دولة وكفى. لا أريد أن يقتتلوا باسمي أو يقتلوا غيرهم، وبعد عهد أن يتكلموا دون أن يفعلوا عن تغيير البنية الإدراكية بسواها في حارة الياسمينة والشفافية في باب الواد. أريد أن أبقى حرًا طليقًا، أصنع من البحر كوخًا ومن البر متاعًا. قلت: كن دولة أولاً وحسنًا أن تكون بإخوتي جهنم فيما بعد. المهم أن تكون لنا دولة نقيمها، فتنقذنا من جريمة العصر، وتجعل لنا في هذا العصر بطاقة تعريف لا بد منها في السجن وفي السوبر ماركت. قال: إذن أكون دولة لولدك محمد غافروش. رفعه على رأسه، وراح يدور به، وولدي يطلق أعذب الضحكات وأسعدها، وما أن أنزله قدر البحر عن رأسه حتى طالبه بمزيد من اللعب، فأزاد، ثم بمزيد، فأزاد، ثم بمزيد ومزيد حتى أكرهه حياته، ولما رفض اللعب معه، رشقه محمد غافروش بحجر شج رأسه، فصرخ الأخطبوط من شدة الوجع، وأتى طفلي يريد قتله لولا أنه احتمى بجذع شجرة التفاح الرذيلة وظلِّ حواءٍ لم تعد عذراء بعد أن اغتصبها الحاكم عليها بالموت ليمكنه تنفيذ حكم الموت فيها. قلت له: لقد صرت دولة، فاذهب الآن إلى حكامك. طأطأ رأسه، وذهب. وضعت ولدي محمد غافروش أمامي على الدراجة، وانطلقت به، وأنا أهتز اهتزاز ملك الخلق. كانت السهول تترامى على مد البصر، والروابي لوحاتٍ دبجها فان غوغ بدم أذنه المقطوعة. كان العالم تاهورًا، والضباب قصة قديمة. كنت أهتز اهتزاز ملك الطير، ودراجتي تهتز مثل جناحي بلشون أبيض، وصوت المحرك يرتفع ذربًا مثل ضحكة سعيدة متواصلة. انحنيت لما انحنت الطريق، ورحت أرقى هضبة مثل سيزيف يرقى هضبته وعن ظهره ألقى بصخرته العظمى لينقل العالم خفيفًا على كتفيه. كان كل شيء يصغي، وأنا أستمع إلى الصمت في قلبي ومن حولي دون أن يختلط ذلك بصوت المحرك المدوي إلى أن خرج من الصمت كل كائن حي، وسقطنا كلنا في الضجيج والعجيج. انفتحت الطريق طريق أهل النوبة في البحر منذ آلاف السنين قبل مولد من زرعوه على الصليب، فرحت أضاعف من سرعتي لتصير سرعتي القصوى لآلتي المتحررة، وأنا أهتز، فتسقط عن كاهلي أعباء كثيرة، وأنا أهتز، فتجتاح حياتي رياح كثيرة... كان الوداع قد حصل في المحطة السابقة مع أخي الذي كان أخي وصار قبيلة، وها أنا أسعى إلى حيث هناك اللقاء الشرعيّ، وأنا أتلوح كأني السيف، وأنا أتلوع كأني الشراع، وأنا أتفجر كأني يراع دوستويفسكي المنكسر. كنت قد صبوت، وصبوت، ولم أفهم أن اللقاء يعني ذلك، ألا أفهم شيئًا عند الوداع. وجدت دوستويفسكي جالسًا على طرف الطريق، وهو يبكي مر الدمع، ولما سألته السبب، قال لي لأنني سآخذه إلى الموت قبل أن يكتب كتابه الأخير، ولأنه لن يموت حتف أنفه، فلم أتأثر لحاله بعد كل الذين أودت بحياتهم الحروب من أصدقائي والأمراض الخطيرة، ومثلما حملت طفلي من أمامي حملته من ورائي، وعدت أنطلق وصوبي هذه المرة نقطة سوداء حاولت أن أستبق إليها السرعة والزمن، وأن أخترق كثافة الأشياء، ولكن المسافة بقيت ما بيننا ثابتة، فقلت بعدما أصل سأعرف كل شيء، لربما كان هذا موتي، ولربما كان هذا عالمي الداخلي. وأنا أمر بالشيء الأسود بعد أن قطع المسافة إليّ، خففت سرعتي، وعرفت كل شيء. كانت النقطة السوداء حواء! كانت تنقل بيد سلة وبيد عصا النبوة بينما طلت وجهها بمساحيق مجنونة الألوان فاقعة، وجعلت منها قناع الشباب، ولكن دون أدنى فائدة. كنت قد تجاوزتها مبتعدًا عنها المسافة التي يمكنني فيها الابتعاد صاعدًا على الرصيف خفيفًا دون أية صعوبة ثم عرجت عائدًا أدراجي إليها بسرعتي القصوى، باتجاهها، باتجاهها، وأنا أتخيل كيف سأقذفها ككرة المطاط عما قليل، وكيف سأجعل عجلاتي في جسدها تدور قاطعة التافه والدميم، فانزاحت عني بعيدًا، وقد أسقطت من يدها كل شيء إلا من شيء راح يلمع في قبضتها كالقدر الشرس: كان الشيء الذي أطلق دمًا وبرقًا أحد سكاكيني التي أدللها قبل النوم، فلم أهتم لذلك بعد أن صار مصرعها كل رغبتي... عدت إليها وخيالي لا يكف عن الحركة ولا عن اقتراح طريقة للقضاء عليها: كيف سأخترق في الرأس العفن مسافات، فأتركه حطامًا من ورائي، وكيف سأقتل الوجه الدميم، وأمزق اللحم الخشبي. ورغم أنني لم أحقق ذلك بعد إلا أنني أحسست بالخدر ينشب مخلبًا في كياني، صرت حارًا، وصرت طليقًا، وصار اهتزازي مهولاً، وأخذت أنغام سيمفونية لفاغنر في أوبرا الباستيل الجديدة تدوي بكل آلات الطبيعة، وهي تزف لأمي التي لم تَسْعَ إليّ منذ وقت بعيد سعيي إليها، فهل أعود إلى الأصل؟ هل أعود إلى الحزب والعائلة؟ صحت بالوجود إني أعود عودة الغريب إلى دياره النائية عنه المشتاقة إليه الغاضبة عليه، وصحت بالجنود إني أعود عودة الفارس إلى جواده الذي أضاع الخطام، وصحت بالوعود إني أعود عودة السكين إلى غمده الذي أنكرني لتعصبٍ لرأيٍ ولمتعةِ جرحٍ صنعته لولدي، وجدتني أخرج من الماضي الذي كان ماضيًا مكبلاً، وأدخل في المستقبل الذي سيكون ماضيًا حرًا، فهل أخرج من التوقف لأدخل في الصيرورة التي تهدم أم تلك التي تبني وتبدع إبداع هذا الكاتب العظيم الذي آتي به ضمانًا ورهانًا؟ أيزول الضباب المتمرد وتتضح المعالم على الرغم من بشاعتها؟ ووجدتني أنطلق مرة أخرى صوب حواء تلك النقطة السوداء بالذات بعد أن انحرفت عني متفادية هجمتي، ووقفت ماردةً عملاقةً متحديةً قدومي المظفر، فهل سأظفر بدنياي؟ لا أريد الظفر بآخرتي وثلجُ هواءٍ مثل هذا الثلج يلطمني بحنان، يتلاطم وقلبي، فأنتعش مثل دبور متيم، ويزهر النحل أسفل جلدي، وإذا ما رآني أحد قال عني هذا بطل يعود إلى فرحه بعد طول أسى. ستغني كل الجثث التي جعلت منها هياكل عظمية متقنة، وسيزهر الموت إزهارًا ليس له مثيل... وكان الذي كان في اللحظة التي انقضضت فيها بدراجتي عليها سهمًا لصلاح الدين أخطأ الهدف عن غير قصدِ صاحبِهِ الشريف. كانت يد حواء قد امتدت إلى دوستويفسكي المنسيّ من ورائي في لحظة البرق والرعد، وقد عادت إليها القوة المجرمة لست أدري كيف. تناولته، وقذفته بعيدًا عن الدراجة في فضاء هي مليكته، تعود إليها حرية التصرف الإنساني فيه، ودرء الخطر عن الدمامة. وعندما هَجَمَتْ عليه، وفي قبضتها سكيني المدلل، فتح محمد غافروش فمه على سعته، وأنجز صرخات الطفل اليتيم الهالع المرتعب. كانت حواء قد أخذت تزرع النصل رعدًا وبرقًا في جسد الكاتب العظيم إلى أن أحالته جثة دموية هامدة من ورق لن يقرأه أحد وقد غدا أحاجيَ وطلاسم، ولما جئتها بجسدي ساحة وغى نزلت في الوادي المقدس جوزا، وجعلت من شجره ثوبًا شفيفًا للرغبة ودرعًا متينًا للبطولة.
الفصل 41
حين يذهب علي باحثًا عن فرانسيس
أبلغت الشرطة مصرع أعظم كاتب في التاريخ وأعظم شهيد، ولكن ما الفائدة؟ ذهبت لتوي إلى مصنع النسيج الحديث كي ألاقي فرانسيس، وألقى بواسطته عملاً في المصنع مثل أي عامل سعيد الحظ. كان قد أعطاني عنوانه الذي قلت أعرفه واسمه الذي قلت لا أعرفه ولدي محمد غافروش بعد أن عزم على رشق كل حجارة الدنيا على الدنيا انتقامًا من حواء القاتلة، وبعد أن بثت في نفسه الشعور باليتم والخيانة والنكران إلى أن يُلقى القبض عليها، وتأخذ العدالة مجراها، فلم يعد يخاف من أحد، لا من جندي ولا من أب ولا من بحر، لا هو ولا أحدٌ من أطفال إخوتي، وقد أوصاني بالعمل مع فرانسيس مثل ظل لجسد أو جسد لظل، دون أن يغريني التشبيه كثيرًا بعد كل العمر الذي أنفقته بصحبة جثثٍ هي أجسادٌ لا ظلال لها. وبينما رحت من المصنع مقتربًا، وصلتني بعض الصيحات الغاضبة، ورأيت عمالاً في تجمعات كبيرة. كانت الساحة تغص بهم، وكذلك الرصيف الذي أَرْوَحَ برائحة عرقهم. وعلى الرصيف المقابل رأيت جنودًا يحملون سيوفًا فضية ودروعًا ذهبية، على رؤوسهم طاسات حربية ذات أقنعة حديدية تبدو لمهرجين حزينين، ورأيت شاحناتٍ عسكريةً رابضةً في نواحٍ متفرقة بانتظار أول إشارة للهجوم. وفي قلب الرماد أو رماد القلب قرأت شعارات رفعها العمال تقول: "ضد تسريح 250 عاملا في ربيع باريس القادم" "لا للباترون والحكومة" "نعم للتكنولوجيا وحفظ المِلاك" "المصنع مهدد بالتصفية" "الإنتاج الوطني في تراجع" "النقابات تدعم حركتنا" "مفاوضات"! وقرأت على جدران المصنع التي من الطوب المسود لافتات أخرى تقول: "مصنع محتل" "العمال يديرون مصنعهم" "الإنتاج مستمر" "حذار من خداع السلطة" "معًا إلى أن نسترد حقوقنا"! احتدت الهتافات، فاعتقدت أن مقدمي كان للمضربين محفزًا قبل أن أشاهد زحف الجنود بخطواتهم التنظيمية وأقنعتهم الحديدية، وقد نصبوا دروعهم الذهبية، وأشهروا سيوفهم الفضية، فهاج جمع العمال وماج، وكل واحد منهم يقترب من الآخر حتى صاروا جسدًا واحدًا وظلاً واحدًا خلتهم سمكةً أو عقربًا أو تمساحًا. عاد وهاج الجمع وماج مَوَجانَ البحر في الشتاء العاصف، وهذه الصيحة التي انطلقت من حنجرة حوت وجد ملجأ بينهم: - فاشيون! فاندفع الجنود يعدون، وقد أصابهم جنون صائد يكره السمك، ويحب الصدف، وانفرط عقد العمال عقد لآلئ اصطناعية. بعضهم أخذ مكانًا في الزوايا المائلة، وراح يقذف الأقنعة الحديدية بالحجارة، وبعضهم وقع تحت حد السيف، وراح يقذف أنصال الفضة بدمه. رأيت كيف يرتفع السيف مدنسًا إلى أعلى، وكيف يهبط مقدسًا إلى أسفل، ليفتح جرحًا! كيف يرتفع السيف مقدسًا إلى أعلى، وكيف يهبط ماسًا إلى أسفل، ليعانق حية! وتابعت الركلات الجميلة في بطن إحدى العاملات الدميمات التي جعلتها الأحلى، وأنا يشدني العنف في الأرض جذرًا، وأنا جذر نحاس، وأنا نار لن تكون بردًا، وأنا في قلبي كان مرجل، وأنا صياح لن يموت قتلاً! كان الجنود قد اقتحموا أبواب المصنع، وهم يشجون الرؤوس، وكانت الدماء تتفجر كالنبع الأحمق في الأرض الجدب مجانًا، وأقدام رعاة البقر تضرب أجسادًا كانت سمكةً كبيرةً بعنف، بعنف اللابطولة. وكان حريق هائل قد شب في سيارة بيضاء فخمة واقفة في ظل تمثال أحد الجنرالات المهربين للكوكايين في كوبا في اللحظة التي دق فيها أحد العمال الملعونين جنديًا في جبهته الملساء المستفزة ورماه أرضًا، وعندما أراد العامل الاحتماء بظل المصنع حاصره ستة جنود أو سبعة، وبدأوا يغتصبون ظلاله التي كانت ويا للهول ظلال الإكثور أو الإكصور أو الزُنْجور المنقرضة ذات المنقاد البارز المتحجر، وما لبثوا أن راحوا يزرعون في جسده سيوف قانون غابة بولونيا المهذبة، ويحصدون اللذة من آهات لا تستأهل أفواه العقارب بعد ذل. وعلى التو، نبتت في الجسد الملتحم بظله ألف زهرة، وعلى التو، ارتدى ثوب ثعبة. التقطت سيفًا مرميًا، وتقدمت في الدماء إلى غير دمي، فأين دمي الذي أنفقته؟ رحت أعدو مخترقًا الحواجز إلى أحضان العمال المبعثرين، وحسبت أني أدخل في القوة العادلة، كان مسعاي عدل القوة في معركة كانت معركتي دون أن أعرف أن معركتي قد بدأت منذ زمن، والآن عليّ أن أربح معركتي. رددنا المغول من الجنود على أعقابهم خاسرين، وأخذنا نجمع أنفسنا وأنفاسنا من جديد استعدادًا للجولة الثانية بعد أن عملنا على معالجة بعض جرحى جروحهم خفيفة، أما أصحاب الجروح الخطيرة، فقد نقلناهم إلى المستشفى. قلت أية صدفة نار مؤججة ليست متوقعة! أتيت باحثًا لدى فرانسيس عن عمل للاستقرار، فإذا بي أجد كل هذه الفوضى! تساءلت إذا ما كانت هذه الفوضى الخاصة عدل القوة، ولم أبطئ النظر في الجواب. سألت العمال عن فرانسيس إذا كانوا يعرفونه، فكانوا كلهم يعرفونه. كنت أتخيله شابًا في العشرين، فإذا به في عقده الخامس، يتمتع بصحة جيدة، وتعابيره تنطق بعنفوانِ ذاتِ أجراسٍ طيبة. كان لجسده قوام تمثال ملك الملوك في صحن اللوفر، له ظل سيف على الأرض، فأرعبني سيف الظل في الوقت الذي رحت فيه أتابع في وجهه إماراتٍ حبيبةً كانت لأبي، فارتحت إليه، إلى لهجته، عندما قال لي أول ما التقاني: - أنا أعرفك. قلت له: وأنا أيضًا أعرفك، لكنني كنت أظنك أصغر سنًا. قال: ألم يقل لك محمد غافروش إنني في عقدي الخامس، وإن لي بنتين وولدين تزوجوا جميعًا وبقيت لي مدللتي إلزا؟ قلت له: قال لي إنك مقاتل قديم. ضحك ضحكة المصدوم بماض كانت هوسه الحرية، وقال: - إن هذا لا يكفي. سألته عن حسن نية: - لماذا؟ قال، وقد انفصل الظل عن الجسد، وصار الظل ظلاً، والجسد جسدًا: - لأن النازية انتهت إلى حد هذا اليوم على الأقل، ولكننا لم نزل فريسة الحرية، الحرية عندنا حرية الدعاية، فما تصنعه الأنظمة الكليانية بالقوة تصنعه ديمقراطياتنا بالدعاية. لهذا تجدني اثنين ظلاً وجسدًا، تجدني موزعًا بيننا وبينكم، تمامًا مثلما أجدك موزعًا بينكم وبيننا، وفي هذا الخضم الذي هو خضمنا سنتحد أنا وأنت. هل سنتحد، فلا يتحول الأبطال فينا إلى ضحايا ومجرمين، ويصل "الوحش الإنساني" بالقطار إلى مبتغاه؟ كان سؤاله في الوقت ذاته جوابًا، فعدت أسأل: - والأشكال الأخرى للحرية؟ - إذا كنت تقصد أشكال الحرية الأخرى عندنا، فهي موجودة بيننا نحن العمال وبين الذين يتركون هامشًا لنا نتحرك فيه مثلما رأيت اليوم كيف تحركنا، هذا الهامش هو ضمان الأبطال لأولوية الحياة، فلا يكون خضوع الواقع للفكرة المدمرة. لهذا كوني مقاتلاً قديمًا فقط لا يكفي، إنني مقاتل جديد، ولا شأن للعمر هنا تمامًا كولدك صاحب الحجر والحلم مقاتل الأخطبوط الذي لن ندفع لفتك ولدك به ثمنًا وجوديًا آخر غيرَ حريةٍ لكم من هامشٍ نقف فيه أنا وأنت وفيه الآن نحميها، بشرط أن يعود الجسد للظل والظل للجسد، فلا يقوم بينهما سيف ولا محكمة. - الديمقراطية البورجوازية العجوز كتلك الشمطاء التي قتلت أعظم كاتب في الوجود ليس في قلبها رحمة وهذه الضحايا بين صحبنا، ضحايا يمكن أن تكون أنا وأنت هنا وولدي وبعض إخوتي المخلصين هناك، هي لا تريد غير حريتها، لا تريد غير حرياتها بينما أرى أوجاع أهلي، فأجدني أريد لهم حريتهم، أريد لهم حرياتهم، اليوم قبل الغد. طلب مني أن أتمهل، أنا الذي كنت على أحر من الجمر لأحقق تاريخيتي، لأجمع بين ظلي وجسدي، بين ظل الظل على الأقل وظل الجسد، وكرر مطلبه إليّ بالتمهل وبالتضحية في آن واحد، فلم أمنع نفسي عن سؤال: - إلى متى؟ أجاب: - دورة الشمس بطيئة في بلادنا، وعليك أن تعتاد ذلك إلا إذا كنت كونكيستادور. دفعني إلى التفكير في دورة الشمس البطيئة وفي ظروف الأقوى التي سيفرضها عليّ بعد أن يجعل من ظلي شرطًا أو من جسدي ميدانًا، فأسعى أنا البطل لأكون جلادًا ربما أو ضحية دون إرادة مني... صرت خائفًا مني أشد الخوف، ومن صداقتي له، وتمنيت في تلك اللحظة أن أتحول إلى الأخطبوط الذي سأهدمه، المهم أن أنقذني من وضع شاذ. وما لبث فرانسيس أن أنقذني من هاجس مدمر: - لا تخش شيئًا ما دام الهامش في الحرية يحميك، ويظل هذا الهامش ضمانتك. سكت قليلاً ثم سألني: - أنت تبحث عن عمل ما في شك؟ أكدت: - نعم، معك. - إذا كان الأمر كذلك، فقد وجدته عملك هذا لحظة دخولك مصنعنا بالسيف، السيف الذي كان مجرمًا وغدًا سيكون بريئًا قبل أن يقاوم لأجل الهامش الذي تقف فيه، ونريده أن يكبر ليشمل الجوهر في الحرية، ويا لك من محظوظ! من العادة أن ينتظر المرء شهورًا طويلة والعاطلون عن العمل يملأون الدنيا. استعدت صورة المغول من الجنود، كان التركيز على التناقض الحضاري فيها أكثر من المعلومة الساذجة، وقلت: - نعم للعمل من أجل الدفاع عن المصنع، فقد كان هجوم الجنود قويًا. - وهجومنا المضاد أيضًا كان لا بأس به. كنتُ مستعجلاً كما هي عادتي معجلاً القيام بدوري، فسألت: - ومتى سيعيدون الكرة؟ - سيعيدون الكرة بين لحظة ولحظة. - وماذا سنفعل؟ - سنردهم على أعقابهم مرة أخرى. - وإذا لم نستطع؟ - سنخرج إلى الشوارع. ابتسم فرانسيس، وقال لي، وهو يمسح العرق عن جبينه: - في شوارعنا الواسعة مكان لنا جميعًا. أعاد الجنود المقنعون بأقنعة الحديد المسلحون بسيوف الفضة المحميون بدروع الذهب هجومهم على المصنع مثلما كان متوقعًا، وتمكنوا هذه المرة من اقتحامه، وإلقاء القبض على بعضنا، بينما أفلت بعضنا الآخر. وبعد أن تعبنا كثيرًا من مقاومة الجنود المنتصرين علينا، ذهبت مع فرانسيس لنرتاح في بيته. وفي بيته، قدم إلزا إليّ: - هذه إلزا. وقدمني إليها: - هذا عليّ. قالت إلزا: - سمعتهم في الراديو يقولون إنهم أخذوا مصنعكم. قال فرانسيس: - أخذوه ولم يأخذونا. وأشار إليّ ضاحكًا مني: - أنظري يا إلزا إليه، ما زال يقبض على سيفه، هذا السيف الحزين، كمن يقبض على أعنة سلطان فقيد. فطنت للسيف في قبضتي، فرحت إلى عيني إلزا الساحرتين، وأنا أمني النفس على عدم الشعور بالضجر حين ألقي السيف في ظل السيف في زاوية من الزوايا. قالت إلزا: - هذا لأنكم لم تحلوا مشكلتكم بعد. وأنا أذوب في عيني إلزا. كانت إلزا تنظر إليّ دون دهشة أمام دهشتي من عينيها، أردت أن آخذها من يدها، فابتسمت، وكأنها قرأت ما يجول في خاطري. أخذ فرانسيس مني السيف، ورماه في جسد السيف، في زاوية من الزوايا، وقال: - ستذهب لتغتسل بينما تعد إلزا لنا ما نأكله، هل أنت جائع؟ كنت جائعًا لعيني إلزا وللوز غزة، فقلت: - أنا جائع. - حسن، اذهب، واغتسل الآن. دخلت الحمام، وقلت لن أشعر بالضجر وعلى مقربة مني إلزا وجدت فيها ناتالي وروزالي، وجدت فيها عائشة، وشممت في جسدها رائحة غزة. أصابني نوع من الخيبة لتقصير ناتالي كل ذاك القصور، لأنها لم تسع إليّ كما سعيت إليها، لأنها لم تمنع ريمي عن امتلاكه لجسدها، لأنها لم تحاول الاتصال بي عن طريق الكتابة على الأقل، أنا العنوان الذي كان على ريمي أن يأتي إليه، ووجدتني أبحث عن فرصتي قرب إلزا، وأعتب على محمد غافروش ولدي لأنه لم يأت إلى الوجود قبل هذا الوقت، لأعرف قبل هذا الوقت إلزا، ولأوقف نزيفي أو بعض نزيفي... لم أكن صانعًا للحب، ولكن الحب كان صانعي. سمعت فرانسيس يسأل ابنته: - هل اتصل بي أحد أثناء غيابي؟ أجابت إلزا: - لا أحد سوى تريستان، ذهب إلى المصنع ليراك، فوجده محاصرًا، أتى، وترك لك بعض القصائد هناك على الطاولة. سمعت خطوات فرانسيس تذهب حتمًا إلى الطاولة، كما أنني سمعت إلزا تسأل أباها بلهجة قلقة: - ماذا ستفعلون بعد كل ما فعلتم؟ - سنستعيد المصنع، وسترضخ الحكومة. - ولكن تريستان مريض، مريض جدًا، يبدو أن لديه الكثير من المتاعب الشخصية، تريستان حزين جدًا. - لسنا بحاجة إليه، فلينه متاعبه، وليضع حدًا لأحزانه. عادت إلزا تقول بلهجتها القلقة: - إن تريستان مريض، وهو بحاجة إلى طبيب. وبينما رحنا نأكل أطيبَ أكلٍ من تحت يدي إلزا، أخبرني فرانسيس أن زوجه ماتت منذ وقت ليس بعيدًا، وإلزا اليوم تعمل مكانها. قال لي كانت زوجُهُ تخرج من المعمل، فإذا بسيارة سوداء فخمة تعجنها بعجلاتها، وبدا حائرًا حزينًا. كنت أفكر طوال الوقت فيها، في إلزا اليتيمة من أمها، في شعرها المتراخي على كتفيها، وفي عينيها اللتين تشبهان لوز غزة وليل غزة.
الفصل 42
وريح الشمال التي ابتسمت لنا...
وبينما كان أهل البيت ينامون ملء أجفانهم، كنت أرمي النظر إلى السيف المرتدي لجسده في الزاوية المعتمة. نقلته بين أصابعي الذاهبة إلى عناقه، وكأنه غصن زيتون أينع فجأة، ودنوت أنظر إلى ليلٍ لم يُخْفِ بالويلِ أحدًا، والثلج يتساقط مكللاً قلب الدنيا بفرح قتيل. قرأت القصائد التي تركها تريستان، كانت موقعة باسم ريمي، وعليها طابع ملهى الليدو. قلت إذن هو ريمي، ولم أبق على حالي التي أنا فيها أتنازعني. وجدتني أنزل إلى الشارع، وفي يدي السيف لأستقبل الثلج استقبال الليليات المتوجة، ولأنهي ما بدأت من قصتي. كان عليّ أن أجد ريمي بأية وسيلة لا تبرر إلا غايتي في الوقوع عليه، وصار لدي إصرار على أن أجده بنوع من حدة البصر وحدة الأهواء إلى جانب ما بثته روزالي فيّ من حدة الأزمة وحدة الذهن. أخذت أسير إليه، إلى الملهى الليلي الذي من المفترض أن أجده فيه، وفي كل مكان، ثلج أبيض في كل مكان، وباريس صارت امرأة وحمامة ووسق سفينة. وصلتني أضواء الليدو، ولما أترك بعد ساحة النجمة، أضواء ملونة كانت تنطفئ وتشتعل في صحراء الشانزلزيه القطبية، وبدأت أسمع من الملهى بعض أنغام موسيقية تأتي انفتح إثرها بابه ليرافق حراس روما الحديثة الليليون بحنان روما القديمة أحد المخمورين. ومرة أخرى بعد تلك المرة، انفتح باب الملهى، وخرج زوجان، رجل وامرأة، ثعبان وحية، وهما يتأبطان بحب قوي عرفت فيهما ابن ملك المال وابنة ملك الكلام التي قالت بنصف صيحة بنصف دهشة: - يا أميري، هناك ثلج، يا أميري! فيأتي صوت ابن ملك المال هادئًا كبحيرة رامدة عميقًا كصدى نقدٍ يرن: - أرى ذلك، يا أميرتي. وتضمه هاتفة: - أحب الثلج كثيرًا، يا أميري! ويضمها كيّساً: - وأنا أيضًا، يا أميرتي. رأيتها تطبق بشفتيها على شفتيه، وتمصهما له، وهو مثل نبي النقود محظوظٌ مسعودٌ، ثم سمعتها تهمهم نصف غائبة نصف ناعبة: - يا حبيبي! يا حبيبي! وبعد أن دخلا سيارتهما المصفحة، تعلقت عاهرة الكلام بعنق عاهر المال، وانطلقت السيارة بهما إلى أن اختفت في ظل قوس الهزيمة. وبينا أنا أحمل ظلي وسيفي، توقفت سيارة سوداء مصفحة نزل منها السائق بعجلة، وهو يفتح مظلة، وغاب في الملهى لحظاتٍ انفتح إثرها بابه لأجدني وريمي وجهًا لوجه وما بيننا ناتالي الملتفة بالسواد من رأسها إلى قدمها: مصقول بالشمع وجهها، مجبول بالموت جسدها، كان ريمي يطوقها من كتفيها لئلا تسقط من بين يديه، وهي تسير بخطى قصيرة مضطربة، لم تكن ذاتها، ولا ريمي كان ذاته، كان يبدو مريضًا وحزينًا. رحت أردد، وأنا أقبض على سيف الفضة والورد والدم: سأفصل رأسه عن جسده بلحظات لا تتجاوز زمن انقضاض البرق في رحم الفضاء، لحظات ستمضي بسرعة الطلق، وننتهي! وضع ريمي ناتالي في السيارة، وما لبث السائق أن ذهب بها إلى مصيرها الحتمي، وبقي على الرصيف في حضن فراشات الثلج، فهل ستحميه من نصل الحريق؟ قلت لربما رآني مثلما رأيته، هو ريمي رآني عَلِيّاً الآتي، فها هو يبقى كي أصفي معه حسابي! شد قبعته على رأسه، وبعد أن تردد قليلاً، سار عني مبتعدًا. تبعته بخطى مختلسة، وما بيننا ظلت مسافة تقوم في الثلج وفي العمر، كنت أدفع قبضتي قابضًا على السيف بقوة المغامرين، وكان الثلج الأسود والأشجار العارية في ثوب الصمت المؤقت والليليات البيض قد راحت تشاهد المطاردة، وتشهد زورًا عليها بينما هي شواهد نفي وإثبات، أما عن قلبي، فقد كان يخفق كالطائر في الماء، وعن سحري، فقد كان بساط الأرصفة الجديد غير الذي جعل لكم الأرض بساطًا المحوك هنا وهناك ببعضِ آثارِ دعساتٍ تنكسر المناقير على حوافها. رأيت كيف يعفر كعبه الثلج كالرمل، وكيف يجعل من بياض الليل عفارًا. صرت أجيء في إثره، وظلي يجيء في إثر ظله. قلت إذا ما انعطف مع انعطاف الطريق ظفرت به، وجعلت منه الغريم ما يعنيه، فأين السقوط من السقوط؟ وأين ارتفاع النفوس من انهيارها؟ وأين المجد من المجد؟ أسئلة كانت في الماضي أما مطاردة كهذه في الليل الحادب عليّ، فهي تعني كل شيء. راحت ريشة رسام الطبيعة الأزلي تلطخني بدم الرحمة الأبيض بشيء من الإصرار على استهلاك دم العناق كله كلما ازداد إصراري على الظفر به، وصارت الرحمة جسدًا من الغضب المجبول بهذه الثلوج السود التي ترشقنا في كل مكان فلا نيأس، وكلما فكرت في أن إلزا تفكر في عناقي. عجل ريمي خطاه، فعجلت على خطاه خطاي، وأنا أفكر أنني سأكون العبث والوفاء، وطار الثلج كالحمام الذي نصفه حمام ونصفه كرز. أخذ ريمي تاكسي إلى مسرح شاتليه، ففعلت مثله. توقف التاكسي قليلاً على رصيف المسرح، والتاكسي الذي أنا فيه يكاد يمس التاكسي الذي هو فيه، ثم ما لبث أن تابع طريقه إلى مسرح الأوديون. غادر ريمي التاكسي، ففعلت مثله. راح يقطع المسافات بين أعمدة رصيف المسرح المسقوف بسرعة أكثر من سرعتنا في المسافة الثابتة والعمر المتوثب، ولكنني عجلت في إنضاج فواكه الغضب، وانقضضت بسيفي على الندامة، ففصلت رأس طائر أسود كالفحم عرفت فيه زاغ شكيم الغارقة في التاريخ. كان ريمي قد رشقه دم الطائر المتفجر في وجهه المريض الحزين، فوقع على الأرض، وهو يبصر بعد أن أغشى الله على بصره كل ذلك العهد الذي مضى، والذي كان فيه غير من كان فيه. أمسكني من كلتا يديّ، وشدني إليه، وهو يردد آيات الشكر والعرفان: - أشكرك لأنك قتلت تريستان وأعدت لي ريمي! فمن كان؟ ومن سيكون؟ وأي ريمي سيكون؟ وفي قرية جدي إبراهيم الخليل، قرية طوال عمرها قرية جدي الذي له عمر القرية وعمر الوجود، كانت أمي تجر بقرة، والبقرة تجر محراثًا، والمحراث يجرف التراب من شقوقِ أرضٍ تنظر إلينا، وأنا على وشك الخروج من الأحجية. وبينما نحن كذلك وجهًا لوجهٍ مع مصائرنا، أتتني صفارة ثاقبة للأذن من بعيد ليس أبعد من الخط الفاصل بين دمي ودمه، وهرع لنجدة ريمي رجال شرطة أمسكوا بي في شارع راسين، وراحوا يسددون إلى وجهي وإلى قلب بيرينيس وإلى بطني مطارقهم الملتذة، فالمطارق حفلتهم الساهرة حين انطفاء النجوم على قدميّ، لأنني طائر الجحيم الذي لن يحلق بعد تلك الليلة، ولأنه من الطيور الساكنين في جنات عبادهم الصالحين أو على الأقل في جنينة أعمالهم التي جاء منها سرب من زاغ شكيم كان مختبئًا بين أغصان شجرة تفاح فيها وسرب من جرادِ ماءِ لوتِسَ تلك المدينة الغاليّة التي كان قلب باريس موقعها... قالوا عن ريمي: هذا ريمي الذي لم يعد تريستان ولم يعد ريمي بعد أن قطع عليٌّ منا لأجله رأسًا، وافتداه على الحجر المقدس بضحية. وأضافوا علينا قَتْلُهُ واجبٌ ليكون ضحيتنا على الحجر المقدس، تلك التي نفتدي بها أولادنا من جراد ماء وزاغ. كان رجال منهم قد رفضوا قتل نفس بريئة، وقالوا نحن نفر لا يشاء تضحية كاذبة، وإن للثلج علينا مثلما على يسوع الذي خرج منا أمانة ألا ننقل إليه ذعرًا آدميًا، وذهبوا إلى صوامعهم في الأوديون يصلون، ويتعبدون، ويطلبون لإخوتهم عفوًا على ذنبٍ وهَدْيَاً على ضلالٍ، بينما راح الآخرون يعذبون ريمي، ويمطرقونه أو يسوطونه أو يمزقون أديمه بمخالب أو حراشف. ولما رأوني من قريبٍ ليس أقرب من الخط الفاصل بين دمي ودمه أتقدم بدمي هويةً وعلمًا غادروا الحجر المدنس هارعين وقد رفعوا على وجوههم كل ما في المسرحين من أقنعة. كان ريمي قد رأى معي الأقنعة التي تختبئ من وراء الأقنعة التي تختبئ من وراء الأقنعة تتمزق وهو على وشك الموت في دمِهِ النازفِ على دمي النازفِ حين رفعته بدمعٍ على دمعي، وقد انهزم انتصار الخوف، وقلت له تعال يا صاح نكن ظلين لجسد أو جسدين لظل فلا ننفصل في ترح أو فرح إلا إذا فَصَلَنا سيفٌ، وليكن قدرنا بعد الليلة واحدًا لأن لأعدائنا قدرًا واحدًا وقمرًا واحدًا متحدًا، فيا جدنا إبراهيم الذي لك عمر قريتنا وعمر الوجود كن لنا عونًا كما كنت لأبوينا عونًا لنقطع العمر والوجود إلى أمنا التي راحت تنثر قمحًا ينتظر ريح الشمال وريح الشمال تبتسم لنا كي نأتي مطرًا بعد كل تلك الثلوج!
الفصل 43
لا أنت ورقة توت ولا أنا خبر تافه في جريدة
أخذت نفسي وأخذ ريمي نفسه لتعالجنا إلزا الحبيبة خير علاج، فغسلت جراحنا بسائل معقم، ثم مسحتها بمرهم الشفاء، وضمدتها، وكلانا ينظر إليها شاكرًا ممتنًا لعملٍ قامت به على أحسن وجه. راح فرانسيس أبوها يعتذر عما أصابنا من مصاب لم يكتبه الله لنا بعد أن غيرت اعتداءات شارع روزييه وشارع كوبرنيك وشارع رين الناس وتغيرت النفسية العامة والجو ونضبت في صدور مواطنيه المودة واللطافة والحدب على الغريب، ولم يعودوا مضيافين كما كانوا عليه في سنوات السبعين. - استلب الإرهاب من رؤوسهم الأضواء السحرية للصحراء، قال، لسراب بلدان الهناك، لماضي النعيم والرمان، فأحلوا إرهابًا محل إرهاب، وها أنتما في دمائكما تسعيان! وعاد يعتذر ويكرر الاعتذار بينما أنا وريمي ننظر إلى عيني إلزا الجميلتين ونذوب كالسمك فيهما. قلت لفرانسيس المهم أن نكون قرب إلزا، وقال ريمي المهم أن نبقى في ظل إلزا، وقلت لإلزا كيف أفتح لك المدينة الخالدة، وقال ريمي لها كيف أوجد لك المملكة الوحيدة تحت السماء، فابتسمت لنا بعد أن حولتنا بجمالها إلى ردود أفعال، كانت سلطة الصورة علينا وإنشاد الشعر، وراح كل منا يفكر في الطريقة المثلى للظفر بقلبها، كيف يغريها، وكيف يغويها، وكيف يأسرها، ولم تكن للظفر بحبها ما بيننا فروق كبيرة، كنا نتشابه في الطريقة وفي حب حبها لنا، وفي الأخير سلمنا أمرنا لأمرها، وقلنا نحبها نحن الاثنان حب عصفورين لحبة تين واحدة، فقالت إنها تحب ثالثًا اسمه من اسم جبل إسباني، فضحكنا لأننا لم نصدق هوى لها بجبل من غير جبالنا، جبل عيبال مثلاً أو الزيتون أو جرزيم. وفي بعض لحظات غيرتي منه أو غيرته مني كنا نصبح ظلاً يطارد ظلاً، فنلحق بظلينا ونعيدهما إلى جسدنا المتحد، وفي بعض لحظات أخرى كان ظلي يغدو ثورًا هائجًا وظله عتريسًا مائجًا، فيتقاتلان، ويتصارعان إلى أن نفصل ما بينهما، أو أنهما يغدوان أُرْوِيَةً وخروفًا فينأيان عنا بعيدًا، ونتعب حتى نعيدهما إلينا. وذات يوم، قال لي ريمي إنه حلم حلمًا لم يزل يقض له الكيان، فقلت له ارْوِهِ لي أفسره لك، فقد سبق أن فسرت ما كان سبعَ لياليَ فألٍ وسبعَ لياليَ شؤمٍ رفعتنا وطوحتنا، وأضفت إني صنعت أنا أيضًا حلمًا لم يزل يقض لي الكيان سأرويه لك ما أن تنتهي من روي حلمك لي. قال لي اعلم أنني كنت قد عزمت على قتلك في حلمي بينما في رأسي أسطوانة لا تنفك عن الدوران دون نهاية، أسطوانة تقول: أقتله، فتنتهي همومك! أقتله، فتنتهي همومك! أقتله، فتنتهي همومك! عند جنوح الليل والمطر يصب من أعماق السماء مدرارًا يوجب الحذر والدهاء، فتحت عليك في المسرح بابًا كان مفتوحًا بحذر اللص ودهاء العنس، فإذا بك تنام على وجهك نوم العنبر على وجهه، فغرزت في رأسك رأس مسدس لم أسدس به رأسًا غير رأسك، وأنا أفكر في إلزا، وقتلتك... ضحكت، وقلت له ما هو إلا حلم، فضحك هو الآخر، وسألني أن أفسره له، فقلت تفسيره في حلمي، فاستمع إليه جيدًا تجد فيه ضالتك، ورحت أروي بدوري حلمي الذي حلمت. قلت له اعلم أنني ذهبت بأصابع ديناميت وفي خيالي ما سيجري عما قليل، قطارك الذي تسوقه وقد طار وتمزق، ولما كانت صورة أمي سوداء وبيضاء رحت أبحث في جيبي عنها لتتلون بألوان انفجار سيكون أعظم من انفجار هيروشيما وأمتع. وعلى حين غرة، شاهدت سكة الحديد بعد أن بحثت عنها طويلاً في الظلام، فأخذت أعدو بين خطيها إلى نقطة معينة دفنت فيها أصابع الديناميت. والمطر يصب من أعماق السماء مدرارًا يوجب الحذر والدهاء، ذهبت إلى بُعدٍ ليس بعيدًا بحذر اللص ودهاء العنس بعد أن شبكت الديناميت بآلة نسف أستعملها لأول مرة في حياتي، وكمنت منتظرًا قدوم قطارك، وطال انتظاري، فكرت في إلزا، فأتتني ضجة بعيدة هجمت، وانبعثت في الليل صفارة حادة نعبت، ولم تعد في رأسي سوى فكرة عنيدة واحدة تقول لي: أقتله، فتصبح حرًا! أقتله، فتصبح حرًا! أقتله فتصبح حرًا! مضى قطارك منخطفًا كالبرق، فقصفته بالبرق والرعد... ضحك، وقال لي ما هو إلا حلم، فضحكت أنا الآخر، وقلت الحمد لله الذي جعلها أضغاث أحلام يريدها لنا أعداؤنا، فبدا عليه بعض غضب وبعض قلق، وقال إن إلزا لا تحبه، وإنه من وجهة نظر بعض الذين دبت عقاربهم منهم خائن، فما الذي استفاده؟ لاح عليه بعض التردد حين قال إنه على الرغم من كل ذلك لم يعد ورقة توت لأحد، وحلت محل التردد في وجهه علامات الرضى، فقلت له أنت لم تعد ورقة توت لأحد وأنا لم أعد خبرًا تافهًا في جريدة يريدونني أن أكونه بكل الوسائل، فلا هم يفلحون، أما إلزا، فستحبك بقدر حبها لي الذي لا أعلم عنه شيئًا بعد، وأنا لا أعلم إذا ما وقعت في غرامي. اقترحت عليه أن نكسب قلبها بنفخ صدفة كبيرة تزعم الأساطير أن آلهة البحر كانت تصنع منها بوقًا لتنفخ فيه أنغامًا توقع بقلوب الحور، وأفهمته أن المرأة الفرنسية لكي تستأهلها عليك أن تملك موهبة الغزل معها، وأن تتعب في كسب ودها. وكان أن نفخنا في البوق الصدفي أنغامًا لا أحلى منها ولا أشجى، فوقع في غرامنا السمك والطير والزهر الذي سقانا من أَرْيه، وانتظرنا أن تأتينا إلزا، وهي هارعة إلى أحضاننا، بياسمين الحجاز، فجاء فرانسيس، وقال لنا: - بعد أن خرجنا إلى الشوارع سقطت ركب الحكومة، فوافقت على المفاوضات. سألناه: - والمصنع؟ قال: - سنسترجعه يا ريمي، ويا عليّ، سنسترجعه سوية، وضامننا الهامش في الحرية. أخيرًا، وقعت إلزا في غرامي، ومضت الأيام...
الفصل 44
علي لريمي: إني أتركها لك!
وفي يوم لي كان بياضه سوادًا سألت إلزا التي صارت غير إلزا التي أريد وأشتهي سؤالاً مصيريا: لِمَ تحبينني، يا إلزا؟ لِمَ تحبين عليّاً؟ أجابتني جوابًا معهودًا: لأنك الله والقلب والوجود! فلم يقنعني جوابها، فأين أنا من الله؟ ومن القلب؟ ومن الوجود؟ الأمر الذي دفعني إلى القهقهة، وكأنني أسمع أفكه نكات العصر، فاندهشت إلزا، وقطبت حاجبيها بعد أن جذبتها إليّ بعنفٍ أوجعها تحت أصابعي، وقلت لها: لا تكذبي يا صغيرة، فأنت أقوى من الله وأقوى من الموت وأنا لا القلب ولا الوجود! اندهشت إلزا مرة أخرى، وحاولت أن تتخلص مني، فخبطتها على صدري، وهي ترعُدُ، إلى أن خضعت، واستكانت استكانة الذات للأنا أو الأنا للذات، فألجمتُ ذاتها، وسألت أناها: - لِمَ تكذبين عليَّ؟ أنا عليٌّ الذي لا يكذب عليه أحد! - لِمَ أكذب عليك وأنت ذاتي؟ ما لك أنت اليوم، يا حبيبي؟ أنا مجنونة فيك كما تدري! لم أحتمل همسها، لا ولا نطقها لكلمات الهوى، لم أحتملها كلها، لا ولا حوار الضباب في عينيها، دفعتها بكل قواي على الحائط الذي تهدم، وأنا أندفع عليها، فصرخت من الألم، وبكت بكاء النساء اللواتي تركهم إخوتي أيامى. ضربتها على فكها ضربتين، وأسلت دمها من فمها، وأحسستها داخت، وانشلت بين ذراعيّ، فمزقت ثيابها، وعريتها... هذا نهدها الآثم، وهذا بطنها الخائن، وهذا شِقها القاتل. هذه محاسنها المجرمة، وهذه محاسنها الملهمة، وهذا انحطاطها. هذا جموحها، وهذا طموحها، وهذا جنونها الكاذب فيّ. رفعتها إلى أعلى، وهي جسد ملوح، ورحت أدور بها في الأنواء، أبحث عن مكان أقذفها فيه، فأكسرها، وأنهي علاقة حب شقيّ. كان البحر قد ابتلع المراكب، وتركني شراعًا على الرمل وحدي معها، فوضعتها في حضني، ورحت أبكي. أحرقتها دمعة سقطت على خدها، ففتحت عينيها لتراني، وقد فشلتُ في إغوائها كامرأتي بعد أن فشلتُ في إغواء أمي كأمي وحواء كسيدة عربية حديثة، وسألَتْ خائفة عليّ بعد أن صارت في جسد ملكة الإخلاص، تلك التي حاولتُ إغواءها كامرأتي لما كانت خائنة: - لماذا تقتل نفسك، يا حبيبي؟ - لأني سأقتل نفسك. - لم تعد تحبني؟ - بل أحبك. - إذن اقتلني لأنك تحبني. أدهشني منطقها، فحملتها، وألقيتها على الأرض، وأنا ألهث، وأبكي، وأهمهم: - أحبك لأني أكرهك! أكرهك لأني أكرهك! ثم انحنيت على دمها، ورحت ألعقه، ورحت أعبث به، ورحت أحمل سيفي الذي أتيت به إلى عنقها، وأنا تجتاحني لذة المقدم على الانتقام من العالم ومحو الوجود، فإذا بريمي يدخل عليّ، ويأخذ السيف من يديّ، ويهددني به... حمل إلزا إلى قلبه، وراح يهدهدها، ويمسح بأصابعه خدها، ويملس بأصابعه شعرها، ويذرف دمعًا سخيًا، وهو يردد: لا تقتلها! لا تقتلها! أعطني إياها ولا تقتلها! سألته: أي إلزا أعطيك؟ إلزا التي لي أم إلزا التي لك؟ فتحت إلزا عينيها، ورأت ريمي يبكي، فقالت له: - لا تبك، يا ريمي، وخذني معك. أخذها ريمي معه، وهي تنظر إليّ، وتقول له: - عليٌّ يريد قتلي لأنه يحبني ولأنه يكرهني. أخذها معه، وهو ينظر إليّ، ويقول لها: - أنا لا أريد قتلك لأني أحبك ولأني أحبك. - لكني لا أحبك، يا ريمي، وأحبه. - ستحبينني. - سأقول لك إني أحب دمك. شد ريمي السيف في قبضته، وقدّمه من رسغه، ولكنها أوقفته، وقالت: - سأقول لك إني أحب دمه. قدم لها السيف، وكشف عن رقبتي، وثناني قرب النصل، وقال: - انحريه إذن هو أولاً وانقذيك منه. وبعد أن عَبَثَتْ بالنصل على عنقي قليلاً، راحت تقهقه، ثم ارتمت عليه تعانقه، وهي تفتح عينيها لتراني، وقد فشلتُ في إغواء أمي كأمي بعد أن فشلت في إغوائها كامرأتي والسيدة العربية الحديثة كحواء! استمرت تعانقه، وتنظر إليّ، بعد أن صارت في جسد ملكة الخيانة، تلك التي حاولتُ إغواءها كامرأتي لما كانت مخلصة، ثم قالت له: - سيكون كلاكما قرباني، أما الآن، فخذني إليك بعد أن أخذتني معك. أخذها إليه، وأنا أنظر كيف يأخذها. أخذها من نهدها، ومن بطنها، ومن شِقها. أخذها منها كلها، وهي تتأوه، وتتنهد، وتتأوه. أخذها من عقلها، ومن قلبها، ومن نفسها، وهي ترتفع، وتهبط، وترتفع، وتهبط. رأيتها ليلاً يشرق، ونهارًا يظلم، وشممت رائحتهما، فدخت، وراح الجسد في الجسد يتحول إلى تنين، ففرقت، وأخذتني النار التي تقذفها بالنار، وأَخَذَتْ بيدها تلامس يدي، وتلامس نهدي، وتشدني من عرقي... راحت تعطيني من ثغرها بقدر ما تعطيه، ومن بطنها، ومن سفحها، وعلى سفحها كان القمر الفضيّ جوهرًا للوجود، منه نشقى، وبه نسعد. تلاحمنا، وقام ثلاثتنا معًا، فصرنا طيرًا، وصرنا نحلق، ونحلق، ثم حططنا على السرير، وصرنا جناحًا لا يطير. ذهب ريمي يعد لنا طعامًا، وأنا بقيت معها عاريًا. لم تكلمني، ولم أكلمها. كنت أتأملها، وأفكر في فعلتها. لم أكن أكره ريمي وقتذاك، كنت أكرهها، لا لأني أحبها، كنت فقط أكرهها، فهي التي دبرت، وهي التي فعلت، وهي التي قدرت. أتانا ريمي بالطعام، فأكلنا صامتين. تعلقت إلزا بكتفينا، وعادت إلى معانقتنا نحن الاثنين، فلا نفعل إلا ما تفعل، ولا نقوم إلا بما تقوم. وبعد أن صرنا طيرًا، فجناحًا لا يقوم، صرنا ظلاً يغضب من فعلي، ويصفع له وجهه، أو يغضب من فعله، ويصفع لي وجهي. استعاد خيالي المَرْكِبَ من فم البحر، فنهضت نهوض بحار لم يزل يبحث عن جزيرته المسحورة، وقلت لريمي: إني أتركها لك! التقطت صورة أمي، ومزقتها، وألقيتها في الريح. تدخلت إلزا، وقالت لي: - إني أريدك أنت. قال ريمي: - إني أريدها هي. قلت: - لا يمكنني البقاء معك، وهي تريدني أنا، وأنت تريدها هي، وأنا أريد السفر. هددني بالسيف لأبقى، فرفضت، وقلت: - لا أريد أن أعيد تجربة قديمة، لا أريد أن أعيش معك، لا أريد أن تعيش معي. قال: - يا ليت الإرادة تكفي. قلت: - ستكفيني الإرادة، فلا نكون ظلين لجسد أو جسدين لظل في الوقت الذي لم يكن فيه كل منا ظلاً لجسده أو جسدًا لظله. وانظر إلى ظلينا كيف يغضبان منا على أفعالنا، وكيف يصفعان وجهي المهان ووجهك، ويخططان لأجل خصائص لنا خاصة بي وبك، وإن كان لهما الموت ثمنًا، فلا تقل إن وضعنا الغريب أمر طبيعي، وهذه هي ظروفنا التي ليست طبيعية. وذهبت إلى هجرة أخرى من هجراتي، فمكان الجسد لا يعني شيئًا إلا إذا دخل جسدي في اليأس، وصارت له الهزيمة مسرحًا.
الفصل 45
كيف يقترب ريمي من علي الذي أنقذه للمرة الثانية؟
أقلق إلزا ذهاب علي في البداية، ولكنها ما لبثت أن اعتادت عدم إيابه، عوضتُها عنه بحبي، بباقات وردي، وإتياني. غدوت لإلزا كل شيء، الضوء والجُنان، الغرام والهوان، الابتسام والدمع، وعوضتها عن البكاء بزفرات الحائط الذي كان سمك قرش. ولأول مرة في حياتها قالت لي إلزا أحبك، وهي لا تعرف أتقول الصدق أم تكذب. - أما أنا فأعبدك، يا إلزا! وقالت لي إلزا أعبدك، وهي لا تعرف أتقول الصدق أم تكذب. - أما أنا فأموت من أجلك، يا إلزا! أعطتني السيف، فضربت رسغي بنصله، وجعلتها تشرب من دمي حتى ارتوت، وفي جنون الدم وعبثها به ولعقها إياه، دخل عليٌّ، وراح يضرب إلزا بقبضته حتى أوقفها عن ارتكاب الجريمة التي ليست في صالحها، ثم أتاني بضماد، ومنعني من الموت. بعد الحادثة، وقعت إلزا في غرامي غير المقيد بزمن كما وقعت في غرامي من قبلها سالومي، وأنا قد صرت أنأى عنها بعد أن تعبت معها، إذ كان عليّ أن أخدمها، وأن أنحني حتى قدميها، وأن أحبها. رحت أقترب من عليٍّ الذي أنقذني من القوية، المُهيبة، الرهيبة إلزا، وصرنا نذهب، أنا وهو، إلى المقهى لنلعب الورق ثم لنحرقه، أو إلى الحقل لنعبث مع النحل الأبيض ثم لنقتله. غدت إلزا عبئًا ثقيلاً علينا، أردنا التخلص منها بأية وسيلة لا تبرر إلا غاية قتل الأسطورة فيها، أن نقتلها، أن نحرقها، أو أن نبعث بها إلى أحضان أخرى، فنقتل شوقها إلينا، وننتقم لأنفسنا منها. ولما كنا ضعفاء أمام قتلها وضعفاء أكثر أمام حرقها، أتيناها من الخليج السعيد ببعض الذين رموها على الطراريح مثل كتلة من لحم الضأن، وارتموا عليها يمزقونها بأظافرهم وأسنانهم هناك حيث كانوا يصلون بعدها أو يعقدون الصفقات أو يَغتصبون أو يُغتصبون أو يقامرون أو يتخدرون أو يلتهمون صفائح الذهب بالشوكولاطة المصنوعة في اليابان أو يقيئون بدر الكلام أو ينامون نوم الأبرار. وأتيناها ببعض نواب البوربون المنافقين الذين رموها بالتصاريح، وارتموا عليها حيث كانوا يذرفون دمع الصائدين المتباكين على ماضيِّ البعيد تارة وتارة أخرى على ماضي عَلِيّ القريب الذي ليس ماضيًا. وأتيناها ببعض الذئاب، وبعض الكلاب، وبعض القروش التي تنطق بكل اللغات، وفي كل مرة كانت إلزا تموت ألف مرة، وفي كل مرة كانت الوردة تذبل ذبول ألف وردة، وعندما دخلنا عليها ذات يوم بالذهب والفواكه والمال وجدناها تلفظ أنفاسها الأخيرة. اتهم كل منا الآخر، واقتتلنا أنا وعليّ بالحجر، وبالنار، إلى أن نزفنا الدم، وأدمينا الوجود، وعدنا واقتتلنا بالحجر، وبالنار، وأحدنا يهلك الآخر على مرأى من عيني إلزا الميتتين، ثم أتيناها برقابنا قبل أن تقول لنا وداعًا أخيرًا لتنحرنا، فنحرت ظلينا، ونهضت بأنفاس تنين لا يتعبه السير في الطرقات تبحث عن كل واحد منا في جسده، وفي كيانه، ولا بأس بعد ذلك أن نرسل لبعضنا القبلات.
الفصل 46
العودة بالعالم إلى مراهقة أطفال غزة
استقبلت باريس أبي هذه المرة لا بقدرة مصباحٍ سحريّ، وإنما كملكٍ من الملوك. خرج البشر إلى ملاقاته، والكل يريد أن يراه، وأن يسلم عليه، وأن يهتف بحياته. وكان بعض الذين يكرهونه من الحكام المرائين أو الذين لا يفكرون إلا في انتخاباتٍ تأتيهم بالسلطة على طبقٍ من فضة قد غادروا البلاد بحجة دعوة قديمة فبركوا توقيتها فبركةً أو جلسوا أمام شاشاتهم الصغيرة، وهم يرمون النظر إلى الاحتفالات التي أقيمت على شرفه بغيظ فاقم منه التحضير المستفصل للحدث العظيم بشكل عجيب أدهش الجميعَ وأدهشنا أنا وريمي وأخي الأخطبوط على الخصوص من بين كل إخوتي، فها هو من شرفة فندق كريون فندق الأباطرة والعظماء من وراء زجاجٍ لاتقاء الرصاص يطل على ساحة الكونكورد ساحة الوفاق والوئام، وقد غدت الساحة أعظم مسرح في العالم يعرض شتى لوحات الرقص والغناء، الموسيقيون كانوا بالمئات، وكذلك قارعو الطبول الذين راحوا يطرقون أداة الطفولة والكون، أول أداة موسيقية عزف عليها آدم أغنيته الأولى، ويقولون لأبي هذه هي أمتك التي تتكون في الساحة الملكية هناك قرب مسلة تقوم مثل سيف ضَلَع من الحجر والحروف الهيروغليفية في نفس المكان الذي تزوجت فيه ماري أنطوانيت وأُعدمت بالمقصلة، وهذه هي أفكارك الكبرى تحط في مجمع الأرباب بعد أن قلت بأخرى غدت متقادمة في ساحة الثورة، وفي نفس المكان الذي أعدم فيه روبسبيير ورفاقه بنفس المقصلة. رأيت إلى جانب أبي ولدي محمد غافروش أميرًا من الأمراء يتقلد السيف الذي أهدته باريس لابن سينا في ذلك الزمن البعيد، فرقص قلبي من شدة الفرح، وقلت لريمي هذا ولدي محمد غافروش على خاصرته سيف باريس لأجل تسليح الذكاء والسلام، ولكنه ذكرني بالألم الذي عاد علينا من حبنا لإلزا وبالغربة وبالفشل، وقال انظر إلينا كيف صرنا نحن المنسيين المستبعدين المستعبدين، وراح يبكي، فرأيت الوالد ينظر إليه بعطف العاهل الجمهوري بعد أن كتب بحضوره الفذ صفحة من صفحات التاريخ خالدة حجبت عنا في حُمَيَّا المناسبة حمأة الرذيلة وارتفاق الميازيب. ولما توقف العازفون عن العزف والراقصون عن الرقص والمغنون عن الغناء، غادر الناس ساحة الكونكورد، ولم يبق إلاي وريمي في ظل خمسة آلاف سنة من عمر المسلة والحضارة، ومن حولنا في كل مكان خيالة الحرس الجمهوري، وعلى السطوح قد توزع أفراد الفيلق الحادي والخمسين من كوماندوس البحرية لحماية أبي من الذين يكرهون الذين منهم ويسعون بجبل الألم كي يزداد علوا. وبينما نحن وحدنا في عراء الوجود نتغطى بالشعور بالإثم وبأمانينا الخصوصية بعد أن كان عجزنا أمام رقص هندي مقدس يرمز إلى الاحتفاء بمقدم بطل كانه والدي وإلى إبداع كوني كان يمكن أن تكون فيه ثقافتنا حركة خلابة أو خمارًا خفيفًا إذا بولدي محمد غافروش يرشقنا بالحجر تلو الحجر إلى أن أدمى لنا الجسد والوجود، فسقطنا في المكان الذي سقطت فيه رؤوس الذين جرى فيهم قَصْلٌ من مجرم أو بريء، ثم أتانا بسيف باريس البارق جوهرًا، الراعد دمًا، وأراد فصل رأسي عن جسدي ورأس ريمي عن جسده لأننا لم نحب التي أحببنا حبًا عذريًا باستقلال الواحد عن الآخر في الوقت الذي نأخذ فيه حبيبتنا التي نخصب فيها ممن نشاء. وقال لنا أنظرَا إلى تلك التي شخصنتها ماريان كيف تعلق الكل بها مهما كان الرأي من حولها لهذا الجزء أو ذاك ومهما كان أصل هذا أو ذاك وفصله، أما عن صفة عصرنا اليوم، فهي الخِلاسية التي كقطف عنب حَبُّهُ أسود وأصفر وأحمر، والتي تهدف إلى إزالة اللون والعرق في الوقت الذي يكون فيه لكل واحد لونه وثقافته كما يشاء، وهو إن اغترف شهدًا من ثقافة الآخر فهذا شأنه. وكان غضبه من نزقنا وأنانيتنا شديدًا، لأننا لم نعرف كيف نحب، ولم نفهم من نحب، ولم نحاول كيف نوجد في الوجود بعد أن جعلنا من الهامش في الحرية ضمانًا سحريًا ومجالاً ضيقًا، ولولا تدخل أمي التي أتت طائرًا نصفه صقر ونصفه يمامة لكنا في عداد الموتى الملعونين. وبعد جدل ومماحكة وأخذ ورد وحل وعقد قالت أمي لمحمد غافروش إننا سنكون منذ اللحظة شأنها وأمرها، وإنها ستنزل بنا أشد عقاب لأننا لم نطعها، وهي التي يسقط العظماء على قدميها، وبما أنها ضد حكم الإعدام مهما كان ذنب المحكوم عليه عظيمًا، فلسوف يكون عقابها لنا غير إنزال عقوبة الموت بنا، ولكنه سيكون شديدًا شنيعًا، فاذهب أنت يا محمد غافروش إلى البحث عن حجر جهنم، ذلك الذي يحيل العمالقة إلى عدم، لأن مهمتك أن تخلّص شعبك من طاغوت الاحتلال مرة واحدة وإلى الأبد، وتعمل مع المخلصين على إنقاذ العالم، فلا تكون خصومة ولا سوء فهم، نحن الأطفال الذين كنا لم نفهم هذا، أما عنكم يا أطفال اليوم، فأنتم تحبون الخطر منذ مولدكم لتصيروا إما مجرمين وإما أبطالا، ولقد اخترت لك يا محمد غافروش أن تغدو بطلاً! سددت صفعة إلى وجهي لأنني لم أكن طائعًا، وسددت صفعة إلى وجه ريمي لأنه لم يكن خاضعًا، ثم قالت إني أغفر لكما ذنبًا، وليس هذا بالحق بل هو سماح. وراحت تضمد لنا جراحًا بكل أنواع الياسمين، الزنبقي منه والياباني وديك جحا الألزاسي، وأطعمتنا، ولما أكلنا، وبرئنا، وضعت أحدنا على ظهر أرْخُص وأحدنا على ظهر ماموث، وصعدت على ظهر بهظم، وسارت بنا في الطريق السائرة إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. كان ولدي محمد غافروش قد ذهب إلى البحث عن حجر جهنم، فوجد في طريقه حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن الخسيسة إلى ذهب أو فضة وقصر الحياة إلى إطالة، ووجد في طريقه حجر القمر الذي يحول الدخان والعذاب إلى إكسير أو آس وآسن الماء إلى كوثر، ووجد في طريقه كل أنواع الحجارة في العالم من العصر الحجري إلى عصرنا الذي تكثر فيه حجارة الكليتين والمثانة، ولكنه لم يجد حجره المنقذ بعد سعي، فلم يفتر حماسه، ولم يثنه العياء عن عزمه، فأين هو مما أخذه؟ وكان خضيري أخضر الريش عابر سبيل قد قال له اذهب إلى حيث يقيم أبوك في مسرح اسمه من اسم حُصَيْنٍ صغير تقوم فيه الحياة ولا تقعد، فذهب إلى حيث كنت أقيم في مسرح شاتليه ليجد المسرح في السكون يسقط، وفي الظلام يغرق، وغرفه السبع والأربعين في الانتظار تمخر، ففعل أول ما فعل أن خلع قفل باب حجرتي الثامنة والأربعين، ووضع مكانه قفلاً جديدًا أودع مفتاحه في سرته. وكانت الفتيات السبع والأربعون لم يزلن معلقات كل واحدة بطريقة تختلف عن الأخرى، وكل واحدة مربوطة بحزام العفة، وكن كلهن حبالى من سيقانهن، لكل منهن ساق منتفخة من ربلتها، نما شعرها، ونما في شعرها قمل العانة. قلن له نحن عاهراتٌ في حقيقتنا مسحوراتٌ علقنا هنا مرابط ناسك منذ تسعمائة سنة قضيناها سنةً بعد سنةٍ وعقداً بعد عقدٍ وقرنًا بعد قرنٍ ونحن بانتظارك، فاقطع بسيفك القاطع الساق لنلد، وحررنا من عذاب لم نعد نقدر على مكابدته بعد كل هذه السنين! فأخذ محمد غافروش يقطع لهن الساق الحبلى بسيفه، وفي اللحظة ذاتها يخرج من الساق زوجان اثنان، وتسقط الفتاة عجوزًا شمطاء دميمة مسيخة تافهة لا تلبث أن تتحول إلى غبار. وكانت الأضواء قد عادت تملأ المسرح، وقد دبت الحياة فيه، وصارت فيه كل كائنات الأرض من أشجار وأطيار ودواب اثنين اثنين راح بعضها يأكل بعضها، الأشجار تأكل الأشجار، والأطيار تأكل الأطيار، والدواب تأكل الدواب، وفي وضع جهنم ذاك الذي وضع فيه ولدي محمد غافروش نفسه وجد الحجر الذي يبتغيه بعد أن حَجَّرَ الدمُ غبارَ البنات السبع والأربعين اللواتي حررهن، وجعل منه الحجر الذي سينقذ العالم من نهايته الجهنمية، ويعود به إلى عدل النرجس ومراهقة أطفال غزة. وقال ولدي محمد غافروش إن سان جوست قال إن التعاسة تنتهي عندما تكتمل السعادة.
الفصل 47
لا تصدقوا الخيال!
وبينما راحت الأضواء تُسَلّط على خشبة مسرح شاتليه العريق كان أخي الأخطبوط قدر البحر يتربع وراء كاميراه الذكية بعد أن أعطاني وريمي آخر تعليماته من أجل تصوير دبوس دعائي للتلفزيون، وكان يمكن الناظر إلى ثيابنا البوذية التي نرتديها وإلى المساحيق الفرنسية التي نطلي بها وجهنا وإلى الديكور الإفريقي الذي يشكل عالمنا أن يرى في كل هذا جامعًا لعوالم مختلفة تعكس حياة المواطن العالمي الذي كانه أخي وطريقة تفكيره. أصدر أوامره بالبدء بالتصوير، فقلنا أنا وريمي بصوت واحد وإيقاع واحد متوجهين إلى الكاميرا: يولد الناس ويكبرون ويبقون عبيدًا ومتساوين في الخضوع. عجبًا! المواطنون جميعًا والسمك سواد في زرقة الدانوب. عجبًا! الجبار هو مغتصب السلطة عند اليونان وهو طير عنيف يلتهم الحشرات. عجبًا! الجبابرة الطغاة الأكثر إجرامًا في التاريخ هم ضامرو الأجسام بريئو النظرة. عجبًا! روما أمنا وريمي مثل عليّ الشهيد يريد أن يأخذها له زوجة. عجبًا! روما تسرق من جوبتر النقود كي تشتري لولديها مخدرًا بعد أن غَدَوَا مدمنين ميئوسًا منهما. عجبًا! علي يريد أن يعيد لروما كل عظمتها. عجبًا! ريمي يرى في نبل الرومان وعظمتهم خستهم وعنجهيتهم. عجبًا! روما محكمة سياسية أو حقوقية قديمة أو حديثة. عجبًا! روما فكرة فانية في روح الله وخالدة في عقل الكون. عجبًا! روما كالقدس مدينة ملوثة بهياكلها المقدسة أو بدون هياكلها. عجبًا! الزحف على روما الزحف على الدولة. عجبًا! روما تموت فيبكيها الولدان والوالدان. عجبًا! مغويات الرجال يقلن: لص ألماني يقبض على كلب عربي. عجبًا! إنها على جانب عظيم من الجمال ومن الجنوح إلى الدمامة. عجبًا! حرية عدالة مساواة باللغة الصينية وبالحبر الصيني غدت أحمر من بول فلسطين. عجبًا! الحرية دينامية لا تتوقف عن التفاعل ولا يسمح بها نظام محافظ من اليمين إلى السكين. عجبًا! قل لي وزن أية حشرة في السياسة وزنك أقول لك كم بالكيلو بيضًا عفنًا. عجبًا! السلام والحرية وحقوق المواطنة المثل العليا لدم الثورة الفرنسية بعد التنكيل بالياسمين –عجبا!- جثةً لديدرو. عجبًا! الدكتاتورية؟ لا، النظام، النظام، اليمام. عجبًا! ميكانزم عمل السلطة في الأزمنة الحديثة لشارلي شابلن كميكانزم عمل السيف العربي الباتر في الأزمنة القديمة. عجبًا! الموقف من السلطة عند التسلط وكأنها علاقة جنسية بين القمر والقبر. عجبًا! في السياسة الرؤية البعيدة النظر واجبة؟ لا، في الرؤية الدنيئة النظر السياسة واجبة. عجبًا! السياسة أخلاق عالية؟ لا، الأخلاق سياسة سافلة. عجبًا وعجبًا! السياسة ليست شغل المواطنين وإنما شغل السياسيين فتعالوا نمتص العلق ونطرد الأجانب. عجبًا وعجبًا وعجبًا! السياسة ليست شغل الأجانب ولكن شغل السياسيين فتعالوا نسحق المواطنين ونُنَصّب العلق في كل الأماكن. عجبًا وعجبًا! العالم أيضًا أسود أو أبيض من خلال النظرات الباسلة للذئاب الجبانة. عجبًا! ليسرقوا الدولة التي سرقت لهم عمر الكلاب العظيم من عمرهم الذليل. عجبًا! لما تكون زوجاتهم حبالى منهم أو من غيرهم لا يقولون أبدًا "ابنتي" أبناء الزلم أولئك المتعنجهون الذين سيدهم الوتد السعيد. عجبًا! الإعلانات التي تدعو إلى تحديد النسل في تونس تشجع على النسل والإنجاب والاغتصاب. عجبًا! شعب القوارب، شعب الحيتان، شعب السلاحف، شعب الغادوسات، شعب الطراخورات. شعب السكاكين. شعب النعال، شعب النوايا المجرمة، شعب الأنقاض، شعب الصرخات الأخيرة. شعب الجراذين، شعب الزفر، شعب الوضر، شعب النفوس المنحطة، شعب النفوس الضائعة، شعب الأيادي القذرة، شعب الأعمال القذرة، شعب المتعَهَّدين، شعب المِسْتَرين، شعب الناس الغير الجميلين، شعب آلاف التُرَّهات المرادة. شعب قطارات تحت الأرض. شعب البوم، شعب القمل، شعب الطين، شعب المسامير، شعب المجاري، شعب المزابل، شعب العيوب، شعب الخضروات... العفنة، شعب النتانة، شعب القيء، شعب الروث، شعب الكلاب الإنجليزية، شعب القش، شعب السكك الحديدية، شعب الأسوار... المنهارة، شعب الحشائش، شعب الرؤوس الفارغة، شعب المضحى بهم، شعب المُحَرِّكين، شعب المُلَوِّثين، شعب الدعاية، شعب النفوس الجريحة، شعب الشفاه المُفَلَّعة، شعب أعقاب السجائر، شعب المصابين بمرض العظمة، شعب الإبالة، شعب المحتقَرين، شعب المُتَقَزِّزين، شعب المُقَزِّزين، شعب اليائسين، اليائسين إلى أقصى حد، شعب الغبيين الكبار، شعب النبيذ الغير الجيد، شعب ملاجئ الصفائح، شعب الأقمار الشائخة، شعب السجائر البنية، شعب الرجال الغير الشرفاء، شعب اللصوص، شعب الدهماء، شعب الأشرار، شعب الخراء... عجبا من هذه شعوب! عجبًا! الأولاد الجمهوريون الثلاثة هم الثلاثة الموسكتير أولئك الفرسان الملكيون الذين يحملون بندقية الفتيلة في عصر القتلة الجهنميين نور الأمم أو حميرها. عجبًا من هذه أمم! عجبًا! يغسل ببول المرأة وينضح ببول الرجل. عجبًا من هذه نساء... عجبًا من هؤلاء رجال! عجبًا! يتغدى بعسل القيح ويتحلى بقيح العسل. عجبًا من هذا قيح... عجبًا من هذا عسل! عجبًا وعجبًا! عجبًا! يلعب بإصبع الله ويتعلق بإصبع كاهانا. عجبًا من هذا إله... عجبًا من هذا كاهانا! عجبًا وعجبًا وعجبًا! عجبًا! ماذا سيقول ماركس عن رأسمالية الحزب في الإتحاد السوفيتي؟ عجبًا وعجبًا! ماذا سيقول غاندي عن نجاح محبذي الصيد في الانتخابات الأوروبية والإيكولوجيين ذارفي الدمع على حبة فاصوليا؟ عجبًا! ماذا سيقول تاريخ الميرغاز الذي تم اختراعه في عهد لويس الخامس عشر وتاريخ الثورة ونظرياتها السائبة في شريانات شمال إفريقيا؟ عجبًا! ماذا سيقول التاريخ عن فكرة الثورة التي لم تنته بعد –أحقًا لم تنته؟- وماذا سيبقى منها؟ -إذا بقي منها شيء يا للعجب- طالما بقيت معسكرات الغضب، رمز أحجار الأطفال السود حتى وإن كانوا بيضاً أبيضَ من بطون جوز الهند، ورمز زهور الوهم. عجبًا! أحجار الحداد أحجار الموت أحجار العدم نهود الثلج. عجبًا... صخرة سيزيف سيزيف الآخر سيزيف الحالي رمز التقدم ويأس الموز وبكلام آخر الشرط الإنساني. عجبًا! التأخر ليس فقط لأجل البلد كل بلد ولكن أيضًا لأجل الجنس البشري المصنوع من بويضات وخراء. عجبًا من هذا خراء! عجبًا! إفريقيا غناء العالم الذي كان جديدًا وفلسطين غناء العالم الذي لن يكون قديمًا كقطرة ندى على وتر. عجبًا! اليسار عفن واليمين عفن وبعض طيور لليسار غريبة في غربة غريبة. عجبًا! دمع الإيكولوجيين على حبة فاصوليا أكثر سخونة من كل الدموع الأخرى سواء أكانت من اليسار أو السكين. عجبًا! دمع الإيكولوجيين سكري الطعم. عجبًا... عجبًا! ما عدا دمع الإيكولوجيين كل الدموع كل الأصوات كل الثقافات كل الألوان كل ما هو خاص بنا كل ما هو خصوصي كل ما هو عمومي لكل هذا قاسم مشترك: الحقوق العجيبة للحيوان! عجبًا! لا جنسية محددة للبرابرة وخصائص الشعوب المتوحدة للبرابرة جنسية محددة. عجبًا! حان الوقت كي تتوقف حقوق الإنسان عن كونها ماكينة حرب بين الشرق والغرب فأين هي في الشرق وأين هي في الأرض؟ عجبًا وعجبًا من هذه حقوق! عجبًا! لا جنسية محددة للجوع وأطفال إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية ذات أدب الشمال ذي العشرة الآلاف عام يموتون بمئات الآلاف كل عام وأطنان الذباب التي هي أكفانهم لهم جنسية محددة. عجبًا وعجبًا من هذه جنسية! عجبًا! أخونا المحامي الذي منذ سنين يمكن أن تغدو قرونًا لم يجد عملاً في الجزائر وباريس وأريحا –أرشقهم بالخراء يا للعجب!- فقط لأن لا جنسية محددة له، ولأنها متعتهم المخصية. عجبًا وعجبًا من هذه متعة! عجبًا! التمرد كرامة الحيوان. عجبًا! الرجل في كوريا خاضع للمرأة يعطيها حريته لتتصرف بها فتتصرف بحريتها. عجبًا! الفردية الاستهلاك الاستهلاك الاستهلاك وقليل من الإغراء: سحر الموت سحر الحياة. عجبًا! سُعر جنسي، تبادلية، جماعية:جماع الموت جماع الحياة. عجبًا! الفرنسيات كالعربيات لسن كلهن خالعات العِذار ويا للعجب، لسن كلهن ثائرات ضد الحجاب: نور الاحتشام وعدم الاحتشام. عجبًا! المبادئ الجذور القيم أي كلام. عجبًا! الحدث النص الموسيقى أي إجرام. عجبًا! الصورة قدرة إرادة طاقة سلطة نفوذ موهبة سحر سيطرة إخضاع إخضاع إخضاع وفي الوقت ذاته حرية الأكوان. عجبًا من هذه صورة! عجبًا! القمر الصناعي ت.د.ف. ستغطي برامجه 23 بلدًا بما فيها المغرب وبكلام آخر مملكة الخبز الحفيّ. آه! أي احتفاء! عجبًا من هذا احتفاء! أي استمناء راق! عجبًا من هذا استمناء! أي رقيٍ مستمنٍ! عجبًا من هذا رقيّ! عجبًا وعجبًا! عجبًا! التأكيد على القوة الثالثة القامعة للعنب من عندنا ومن عندهم وعلى فرعها "المهادن" الديماغوجي المتواطئ الحاكم معها (وماذا لو لكمك أحد في بوزك؟ ويا للعجب!) والحاكم على قاطفات الخضروات الفلسطينيات اللواتي لم يبلغن الخامسة بعد... الخامسة ويا لرب العجب! واللواتي ينهضن باكرًا للعمل في المزارع الإسرائيلية وكل إسرائيل تنام على الساعة الخامسة صباحًا. عجبًا وعجبًا! عجبًا! على الساعة الخامسة مساءً تبدأ التحقيقات تحت الأرض في وزارة الداخلية الفرنسية وكل وزارات الداخلية في جنان الكون. عجبًا وعجبًا! عجبًا! جمهوري نوع من الطيور التي ظلت تبني عشها في مخبأ مشترك بعد الثورة. عجبًا وعجبًا! عجبًا! كل حجر وله قصته وحياته الخاصة وموته اللاعادي وأطفاله العاديون. عجبًا! عجبًا! عجبًا وعجبًا! اكتشاف فضاء جديد ومجال جديد وسماء جديدة للعبودية. عجبًا! عجبًا! عجبًا وعجبًا! حق الاستيطان؟ لا، الميسيانية. عجبًا وعجبًا وعجبًا! عجبًا! حق المصادرة؟ لا، الناسيونالوزسم. عجبًا وعجبًا! عجبًا! الشعب القامع لشعب آخر شعب عبد؟ لا، شعب ليس حرًا. عجبًا وعجبًا وعجبًا! عجبًا! الحيوانات تبكي علينا؟ لا، تضحك منا. عجبًا وعجبًا! عجبًا! دالي وأخوه العجيب التوأم هما تمامًا كبلال وعادل في أحداث الجزائر أحدهما الفاني وأحدهما الخالد فأيهما الفاني وأيهما العازم الأبدي؟ اسأل هرمس ويا للعجب! هرمس؟ من هو هذا الأحمق؟ هرمس رسول الآلهة عند الإغريق إله الطرق والتجارة والمكر. عجبًا! الميثولوجيات تتوالد وكذلك الأديان في عصر هرمس. عجبًا! الحس ينحل وكذلك العقل في عصر هرمس. عجبًا! الروح العلمية توجب الروح النقدية في عصر هرمس. عجبًا! المتنبئون لا يخطئون أبدًا عندما يتأملون النجوم ويؤوّلون في عصر هرمس. عجبًا! الآخرون هم أنفسنا في عصر هرمس. عجبًا. كوكتو هو الجميلة وأنا الوحش في عصر هرمس. عجبًا! حقنا في تقرير المصير و"قدر البحر" في الجبال في عصر هرمس. عجبًا! حقنا في الحقول في عصر هرمس في الحقول بكل بساطة وفي الخيول وفي الأراضي المحررة حقنا في هدايا يهوه وهدايا الشيطان وحقنا في الرحيل. عجبًا! الدين فبركة اللحى في عصر هرمس. عجبًا! فبركة ردود أفعال الجنود سخرية في عصر هرمس. عجبًا! النطفة العلقة الانتفاضة رحم العذراء لكلها الدلالة نفسها في عصر هرمس. عجبًا! لا تكونوا للتنازلات قاربًا استسلمَ للأمواج في عصر هرمس وجنون الأشرعة. عجبًا! ولا طُعم الأسماك الغبية التي يتغذى بها بطن هرمس (أي هرمس؟) في عصر هرمس. عجبًا! مقاتلونا الأشاوس هم الطُعم مذ وُلدت الأسماك الذكية من عقلنا في عصر هرمس. عجبًا! ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين نطالب بأن تكونوا متمردين أقل منا لنحلم أكثر منكم ومن أحلامنا نصنع سلسلة ذهبية أكبر من كل الأحلام التي جرت في عصر هرمس. عجبًا! عجبًا وعجبًا! عجبًا وعجبًا وعجبًا! يجب ألا تصدقوا الأحلام. يجب ألا تصدقوا كل ما يقال. يجب ألا تصدقوا الخيال. نريد أن نضحك.
وانفجرنا نضحك... نضحك ونضحك... نضحك ونضحك ونضحك...
الكتابة الأولى 13 أكتوبر 1972 باريس الكتابة الثانية الاثنين الموافق 17 يوليو 1989 باريس
للتوثيق تم نشر هذا النص بشكله الحالي بالفرنسية ودون أدنى تغيير في شهر مايو 2003
أفنان القاسم
المجموعات القصصية
1) الأعشاش المهدومة 1969 2) الذئاب والزيتون 1974 3) الاغتراب 1976 4) حلمحقيقي 1981 5) كتب وأسفار 1988 6) الخيول حزينة دومًا 1995
الأعمال الروائية
7) الكناري 1967 8) القمر الهاتك 1969 9) اسكندر الجفناوي 1970 10) العجوز 1971 11) النقيض 1972 12) الباشا 1973 13) الشوارع 1974 14) المسار 1975 15) العصافير لا تموت من الجليد 1978 16) مدام حرب 1979 17) تراجيديات 1987 18) موسى وجولييت 1990 19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991 20) لؤلؤة الاسكندرية 1993 21) شارع الغاردنز 1994 22) باريس 1994 23) مدام ميرابيل 1995 24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995 25) أبو بكر الآشي 1996 26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999 27) بيروت تل أبيب 2000 28) بستان الشلالات 2001 29) فندق شارون 2003 30) عساكر 2003 31) وصول غودو 2010 32) الشيخ والحاسوب 2011
الأعمال المسرحية النثرية
33) مأساة الثريا 1976 34) سقوط جوبتر 1977 35) ابنة روما 1978
الأعمال الشعرية
36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966 37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967 38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968 39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001 40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002 41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009 42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010 43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010
الدراسات
44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975 45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983 46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984 47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984 48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995 49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004 50) خطتي للسلام 2004
[email protected]
النقيض هي التعبير الجريء عن اندماج طموح لأساليب السرد والتعبير وللأنواع الأدبية والثقافات العالمية على مستويي الشكل والمضمون، وقد تم قطع الحدود بين الحلم والواقع، وكذلك لم تعد هناك حدود بين ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، لم تعد هناك حواجز بين الشخصيات، حقيقية كانت أم مبتدعة، حية أم ميتة، كما وتتألف الرواية من تراكب عدة أفلاك تبني الفضاء. يدور كل هذا التعقيد (يقول البروفسور أندريه ميكيل "هذا الكتاب عبارة عن لغز واضح") حول حكاية شخصيتين استعاريتين - الأولى يهودية فرنسية والثانية عربية فلسطينية – هما في الواقع شخصية واحدة، مزيج من كلتيهما، "أنا" مزدوجة ملقاة في أجواء جديدة ليست معروفة إلى حد الآن، وباريس، المدينة الحقيقية أو الخيالية، مسرح الأحداث. ولإعادة النظر في الماضي، وتخيل المستقبل، يلجأ المؤلف إلى الرموز المسألية للتجربة الإنسانية كابن سينا ودوستويفسكي وستندال أو بارت، بورخيس يقرأ المستقبل، ماركس يقوم بنقده الذاتي، هيغو يتحول إلى تمثال… وبوصفه داعيًا للواقعية السحرية، يرفع أفنان القاسم إلى درجة عالية جدًا الفانتازي والدرامي، الحاضرين بقوة في هذه الرواية، فاتحًا بذلك حقلاً واسعًا جدًا للتفكير، وراميًا إلى إلزام الإنسانية باسترداد حقها في عيش جمالها وحريتها. ومن وجهة النظر هذه، لدينا هنا رواية ترمي بنظرة عميقة جدًا ليس فقط على شخصيتيها الأساسيتين، علي وريمي، ولكن أيضًا على الإنسان بكل بساطة.
* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شارع الغاردنز
-
لؤلؤة الاسكندرية
-
باريس
-
بيكاسو
-
قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
-
القدس
-
الشعراء
-
البرابرة
-
الأخرق
-
الباشا رواية النكبة الأولى
-
تراجيديات
-
تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
-
فلسطين الشر
-
المواطئ المحرمة
-
العاصيات
-
غرب
-
العودة
-
وظائف الكلام في قصة الزكام لنبيل عودة
-
الحجر
-
نابلس
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|