|
شارع الغاردنز
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3618 - 2012 / 1 / 25 - 11:30
المحور:
الادب والفن
الأعمال الكاملة الروايات (15)
د. أفنان القاسم
شارع الغاردنز موسم الهجرة إلى الجنوب رواية
نسخة مزيدة ومنقحة
الطبعة الأولى دار النسر عمان 1995 الطبعة الفرنسية دار لارماطان باريس 2003 تحت عنوان محمد خيري نبي الماء
إلى جون لو كاريه
الفصل الأول
أجمعت آراء الأصدقاء على بقائي في عمان، قالوا: ما لك عن الوطن غنى، وأنت لا بد أنك عائد إليه مهما طال بك المطال. كنت أنظر إلى وجوههم بلين الطبع الذي لي، وأرى أنها لم تتبدل. أدخل الزمن عليها بريشته اللامرئية بعض اللمسات، وجعلها تبدو قابلة للانجراح أكثر، فهي ثلاثون عامًا مضت على آخر لقاء ما بيننا، ثلاثون عامًا مضت في لمح البصر، وكأننا افترقنا بالأمس. كان كل واحد منهم يريد إقناعي بترك باريس على طريقته. قال مصطفى شريف: - ستعود عاجلاً أو آجلاً، فعد اليوم خير لك من أن تعود على عكازك غدًا! قال مجد الدين الطاهر: - عد إلى بلدك الذي يحتاج إليك، من أجله عد ومن أجل بناتك، فهل ثمة أحسن من أن ينشأن على تقاليدنا وعاداتنا؟ وقال محمد باهر: - نعم، عد الآن، عد إلى بلدك، عد إلينا... ثم، عمان تغيرت، لقد تغيرت عمان، وهي حتمًا ستعجبك. قلت: - هذا الشارع الذي نأكل في أحد مطاعمه لم يكن موجودًا. سأل ثلاثتهم معًا: - شارع الغاردنز؟ أجبت: نعم. فضحكوا، وأسرفوا في الضحك، وأنا أضحك معهم دون أن أفهم شيئًا إلى أن أوضح لي محمد باهر ووجهه يخفق احمرارًا: - هذا هو شارع الشانزلزيه الذي لنا... - لم أر بعد شوارع عمان الجديدة، ولكنه شارع رائع ذو مستقبل. انتظرت من محمد باهر شرحًا أوفى، ولبطئه في فرش فكرته، أخذ مصطفى شريف منه الكلام بعد أن أغمض عينيه بقوة وحك أنفه، وقال بسرعة: - أتذكر محمد خيري؟ - كيف لا أذكره؟ - كان له ملهى اسمه ملهى الغاردنز سُمي هذا الشارع باسمه. قال مجد الدين الطاهر بعد أن نظر إلى السقف ونظر إليّ: - الملهى أصبح في خبر كان مثل صاحبه ذلك المتهور! صحت: - مات؟ - كما لو! ألقى العراقيون القبض عليه وفي حوزته ذهب يحاول تهريبه. ومنذ ذلك الحين، لا أحد يعرف أخباره. خاطبت مصطفى شريف: - أنت محامٍ، ولم تفعل له شيئًا؟ أغمض عينيه بقوة وحك أنفه: - العراقيون دون الحصار المضروب عليهم لا يرحمون من يخطئ في حقهم، فكيف والحصار؟ حتى الله لن ينقذه! أضاف محمد باهر كالجمر أحمر الوجه: - ورط نفسه بنفسه! كان الكل يحلف بحياته، وهو، كان يلعب بالملايين لعبًا، الملايين التي جاء بها من السعودية، يوم كان المليون الواحد يساوي عشرة، ثم فقد كل شيء لطيبة أو غباء لست أدري! قارنوه بوصفي حبيب الذي عاد من السعودية غنيًا تمامًا كمحمد خيري، ولكنه عرف كيف يستثمر بفطنة أمواله. ومنذ ذلك الوقت، وهو يحظى بالنجاح والتقدير. وبعد ذلك، عرجوا على أصدقاء طفولتنا وشبابنا الأول، وأنا أسألهم عن هذا أو ذاك، وهم يجيبون: فلان جن، وفلان انتحر، وفلان مات، وفلان اختفى لا تُعرف له أرض من سماء. غرقت في المحاضرات التي دعيت من أجلها والحفلات التي تكررت كل مساء، فنسيت محمد خيري تمامًا. كان كل من أراه يلح على بقائي في عمان، حتى أن بركات جمجوم الذي لم أره منذ كنا نعمل معا في جامعة مراكش قد فجر في وجهي كلمة "انتحار" تعبيرًا عن وضعه، ومع ذلك طلب مني أن أحرق السفن وأن أبقى. كان يرجو أن تسير الأمور كما يأمل لتسويق ملابس النساء الداخلية التي يصنعها، ثم ذهب ليصلي بين تماثيلها العارية. كانوا كلهم يبحثون في عمان عن كل ما اعتدت عليه في الغرب كي أبقى: جامعات، ومنتديات، وصحافة تقول فيها كل شيء أو على الأقل تقول فيها أكثر مما كنت تقوله من قبل. وفي النهاية، وافقت على المشاركة في الفصل الصيفي أستاذًا محاضرًا، وأخذت أتردد على مصطفى شريف في مكتبه الواقع في شارع الغاردنز. كان أسعد مخلوق في الوجود لأني أعمل في الجامعة، صحيح إن عملي فيها مؤقت، ولكن في يومنا هذا المؤقت يؤدي إلى الدائم، وهم بعد نجاحي الأكيد سوف يأخذونني السنة القادمة، وإن لم يأخذوني في الجامعة الأردنية ستأخذني جامعة أهلية، فأخلص من باريس وبرد باريس. قلت: لم أعتد بعد على جو عمان الحار. قال: ستعتاد عليه. وهو يضاعف من قوة المروحة. قرع جرس الهاتف فجأة، ومررت السكرتيرة له المكالمة. وبعد حديث قصير، وضع مصطفى شريف السماعة، وقال لي: - التي على الخط كانت زوجة محمد خيري. أربكني، فها أنا أعود إلى محمد خيري! - من؟ زوجة محمد خيري؟ - لنقل مطلقته، فهو قد تزوج عدة مرات، وهذه زوجته الأولى. تريد أن أتكلف بقضية الإرث. - محمد خيري لا تعرفون إن كان حيًا أم ميتًا وهي تريد أن ترثه! - ليس محمد خيري ولكن زوجها الذي مات منذ فترة قصيرة. - هل تزوجت عليه؟ - ثلاث مرات أو أربع، وفي كل مرة يموت زوجها بعد أن تنجب منه ولدًا أو ولدين. - لترثه أرملة بكل احترام! ضحك مصطفى شريف: - ها أنت فهمت كل شيء. - وما المشكل إذن مع زوجها هذا؟ - إخوته لا يريدون اقتسام أملاكه معها، يقولون إنها هي التي قتلته. - أمعقول هذا؟ - ويقولون إنها لا تملك أوراقًا تثبت حق إرثها في زوجها. - أصحيح هذا؟ - اختفت كل الأوراق الثبوتية بعد موت زوجها بقدرة غير قدرة الله! - هم الذين أخفوها. - هذا ممكن. - بعد أن قتلوه. - ممكن وغير ممكن. - لأنهم يكرهونها كرهًا شديدًا! امرأة مزواجة اختطفت منهم أخاهم الذي كان يفضلها على كل أفراد أسرته! هذه هي كل الحكاية! - لماذا لم تعمل محاميًا؟ - الأمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، ولا حاجة بي إلى العمل محاميًا. عليك أن تفعل شيئًا ولا تتركها مثلما تركت محمد خيري. - محمد خيري لم أتركه، هو من ترك الكل، ومشى حسب مزاجه. - إذن افعل شيئًا من أجل مطلقته، فهم هنا لن يترددوا عن إلحاق الأذى بها لأنها امرأة ولأنها في مركز كل هذه الحكاية. أغمض مصطفى شريف عينيه بقوة وحك أنفه: - الحق أنها هي أهم ما في الحكاية، فهي امرأة بالفعل، ربة للجمال! ضحكت: - أتعد نفسك لتصبح زوجها القادم؟ - أنا؟ زوجها القادم؟ آه لو يمكنني ذلك! ولكنها لن تقبل بي. - لماذا؟ أنت محام كبير، جميل وغني، ماذا تريد أكثر؟ - بسبب محمد خيري. - بسبب محمد خيري؟ - بسبب محمد خيري. بسببه. - أنا لا أفهم. - تحبه مطلقته أكثر من كل أزواجها الآخرين، وهو على كل حال لا يمكن كل نساء الأرض إلا أن يحببنه. ليس لماله أو لجماله ولكن لأن لديه شيئًا معطى شيئًا إلهيا. أطلق نفسًا وحلق بعيدًا: - آه لو كنت محمد خيري! قهقهت: - إنه الدون جوان فيك الذي يتمنى هذا! محمد خيري ليس من هذا النوع حتمًا. - أنا أحب كل النساء بينما هو كل النساء يحببنه. لو كنت مكانه لجعلت من هذا البلد بيتا للدعارة، ومع ذلك كانت علاقاته مع النساء محدودة جدًا، ذلك المجنون! كان غالبًا ما يكون مشغولًا بشيء لست أدري ما هو. إنه إحساسي. كانت النساء له شيئًا مما يريد الحصول عليه، فهل ترى أي نوع من الرجال كان؟ كان لا يعرف أن النساء كل شيء في الحياة، الحياة نفسها، وبدونهن الحياة لا تساوي شيئًا على الإطلاق. لو كنت مكانه، لأخذتهن كلهن بين ذراعيّ كرب من الأرباب! آه لو كنت محمد خيري! فقط يا ليت مطلقته تقبل بي زوجًا، لأني كما سبق وقلت لك إنها بالفعل إلهة وحتى أبدع من إلهة! في الوقت الحاضر تجدها تتعذب المسكينة: زوجها الأخير مات، إرثها ضاع، ومحمد خيري، الوحيد الذي يمكنه الوقوف إلى جانبها في هذه المحنة، يأسن في السجون العراقية.
الفصل الثاني
حيرتني زوجة محمد خيري، بدا لي أن في أمرها لغزًا أردت البحث عن مفتاحه لدى محمد باهر، فهو كان أقرب الناس إلى محمد خيري، وأنا كنت أقرب الناس إلى محمد باهر، وهو لن يخفي عني شيئًا، هذا إذا كان حقا يعرف شيئًا. ذهبت إلى مكتبه في جبل الحسين الغربي، منطقة في عمان منتعشة لم تكن على عهدي. وجدته يكتب رسائل يطالب فيها بمائتي ألف دينار لم تدفعها له بعد إدارة السجن الذي بناه. قال لي: - بنيت لهم سجنًا مريحًا من أحدث ما يكون، جعلت فيه مكتبة وبركة سباحة وملاعب لكرة القدم وكرة السلة وكرة المضرب، وحتى يومنا هذا لم يدفعوا لي المبلغ الأخير الذي وجب عليهم دفعه منذ سنين! ابتسمت: - هذا ما استحققت عليه من عقاب، لأنه فندق أربع نجوم، وليس سجنًا! لقد شجعت على ارتكاب الجرائم! ضحك، وهو يطوي أوراقه، وأتى يجلس إلى جانبي. بدأ يحدثني عن أيام الشباب في نابلس، عن طفولتنا. كان خائفًا من أن أكون قد تغيرت، لكنه اطمأن إلى طباعي التي بقيت هي هي، وإلى سجاياي التي عمقت، وتعددت، وهو يشعرُ بنفسِ دِفءِ صداقتي، تماما كالماضي، كلما التقاني. قلت له: - أنت أيضًا لم تتغير، بقيت أنت أنت، ذكيًا براقًا لطيف المعشر! خفق وجهه احمرارًا. طلبت منه أن يزيل الغامض في حكاية تلك المرأة الاستثنائية زوجة محمد خيري، فابتسم، بالنسبة له لم يكن غموض هناك: - كل أزواجها ماتوا بالسكتة القلبية. - كلهم بالسكتة القلبية؟ انفجر محمد باهر ضاحكًا، ووجهه يزداد احمرارًا: - إنها امرأة ليست عادية! تذكرت أن بعض النساء لا يشبعهن عشرة رجال، ولكن أن يموت كل أزواجها بالسكتة القلبية يبقى الأمر لغزًا محيرًا. قلت: البطل الوحيد هو محمد خيري، فقد نجا بجلده! حزن محمد باهر لمصيره، وقال: - إنه مقعٍ في السجن الآن. أخذنا نتحدث عنه يوم كان في نابلس، عن حاسة الخيال المبالغ فيه التي كانت لديه. أكدت أنه أول مخترع للفيديو، واعتبر محمد باهر من جهته أنه أول مخترع للتِلْفِريك. قلت: في إحدى المرات، جاءني محمد خيري، ودعاني إلى مشاهدة فيلم عنده. لم يكن التلفزيون قد دخل نابلس، فسألته إذا كان لديهم تلفزيون يلتقط قناة أجنبية، لكنه أكد لي إننا سنشاهد الفيلم ذاته الذي يعرض في سينما غرناطة. أخذ معي موعدًا دون أن يأتي إليه، وذهبت إلى داره، فلم يستقبلني. وعندما التقيته فيما بعد، وعاتبته، أصر على أنه صندوق مثل صناديق العجائب، ولكن كالتلفزيون له شاشة، تضع الفيلم فيه، الفيلم الذي يعرض في قاعات السينما أو أي فيلم آخر تختاره، فتشاهده وحدك دونما حاجة بك إلى مغادرة دارك. كان يكذب كذبات جميلة، لكنه كان يجعلنا نحلم. قال: أراد لنابلس أن تكون أعظم المدن، وأكثرها تطورًا، فكان التلفريك الذي يصل بين قمتي جبليها عيبال وجرزيم واحدًا من مشاريعه الكثيرة، وكانت الطرق المتحركة. كان يريد أن يوفر الوقت على الناس، وأن يجني الأرباح الطائلة. كان يريد أن يملك كل نقود الدنيا! - واستطاع أن يملك الكثير من النقود. أطلق محمد باهر نفسًا: - كان الكل يحسده، وأنا أول من كان يحسده. - لكنه لم يكن يحترم النقود كثيرًا. - لكثرة ما كان يفرط في الكرم. - كنا نسميه حاتمًا الطائيّ. - وبقي حاتمًا الطائيّ الذي تعرفه، لهذا السبب خسر كل شيء، خسر أول ما خسر ملهى الغاردنز، ثم خسر حياته. كرمه تحول إلى تبذير، وللحصول على النقود، كان يفعل أي شيء يمكنه فعله. هل كنت تتصور يومًا من واحد مثل محمد خيري أن يرتكب مثل هذا الخطأ الجسيم، ومع من؟ مع العراقيين في عز أزمتهم! - لا بد أن أسبابًا وجيهة دفعته إلى ذلك، وإلا من دفعه إلى المقامرة بحياته؟ - زوجته الأميركية ربما. - كانت له زوجة أميركية؟ - تعرّف عليها في السعودية، ويقال إنها انتحرت، لكني أشك في ذلك. في رأيي أنها لم تزل حية ترزق لأنها تحبه ولأن المحبين لا يفكرون في الموت. - على العكس، تكون انتحرت لأنها تحبه! أنت تعلم إلامَ تؤدي خيبة الحب الأولى. - الحب لا يقتل أحدًا. أسمعت عن أحد قتله الحب؟ - سمعت. لقد قتل الحب سيدة كنت أعرفها. - الأميركية لم تكن من هذا النوع. كان حبها أقرب إلى اللهو. - لماذا؟ - لأن فكرة ملهى الغاردنز كانت فكرتها، امرأة مثلها خليعة كانت تحب السهر واللهو. كانت تحبه من أجل الملهى، من أجل التسلي فقط. - ربما كانت فكرة الملهى فكرتها ولكن زوجها من نفذ كل شيء، الأمر الذي يعني أنه أراد ذلك بكل قوة. عاد محمد باهر بذاكرته إلى الوراء، إلى الوقت الذي كان الملهى يُبنى فيه: - كنت أحد مهندسيه، وفي الحقيقة محمد خيري هو الذي أشرف على كل بنائه، وتابع وضع كل حجر فيه. كان لا يريده ملهى كباقي الملاهي، وإنما المكان الخرافي الشبيه بالجنة على الأرض. لهذا كنت أحسده، كنت أتمنى أن أشبهه، وأن أتزوج بأميركية حتى ولو لم تحبني بالفعل. كنت أتمنى أن تكون لي أحلامه، أنا الملتصق كثيرا بالواقع. كنت أتمنى أن أكونه، بكل بساطة أن أكونه. - وزوجته الأخرى، هل تعرفها؟ - تريد القول مطلقته؟ نعم، أعرفها. لا شيء يجمعها بأميركيته. سمعت أن آخر أزواجها قد مات.
الفصل الثالث
عزم محمد باهر على حملي بسيارته إلى بيت أخي في تلاع العلي، فَعَبَرَ شارع الغاردنز، وتوقف عند الشجرات الثلاث الوحيدة المغروسة في رصيفه. أتاه حالما نزل من السيارة صبي يلمع السيارات، وتابعت عبر المرآة الارتدادية لغة الإشارات: كانا يتكلمان عن الثلاث الشجرات اليتيمة. أتى الصبي محمد باهر بدلو ماء راح يصبه على الشجرات الثلاث، ورأيت صديقي يخرج من جيبه قطعة نقدية، ويعطيه إياها. وبعد أن أوصاه الوصايا العشر، عاد محمد باهر إلى السيارة، ووجهه المحمر يقطر انشراحًا. قال لي إنها شجرات محمد خيري، فمكان هذه العمارة كان الملهى، وهذه الشجرات غرسها بيده، إنها كل ما تبقى منه. عندما كان هنا، كان يسقيها بنفسه، وأثناء غيابه، يسقيها محمد باهر أو يكلف عنه من يسقيها. كانت رغبة محمد خيري قبل سفره إلى العراق، لأنه لا يحب الشوارع التي لا شجر فيها. سألت أخي أيمن السيوف إذا كان يعرف شيئًا عن محمد خيري، فأجاب إنه لا يعرف شيئا. نادانا مجد الدين الطاهر الذي يسكن في الطابق الأول لنشرب القهوة، فلبينا النداء. كان أيمن السيوف يتدرب عند أحد المحامين، فسأله مجد الدين الطاهر عن أحواله. رسم أخي الصغير ابتسامة متهكمة على شفتيه: - زي الزفت والحمد لله! أطلق مجد الدين آهة عميقة: - أحوالك ليست أحس من أحوالي. نظر إلى السقف، ونظر إليّ، وقال فجأة: - الوحيد الذي فهم اللعبة جيدًا هو محمد خيري، آه لو كانت لي جرأته وإقدامه لكانت أحوالي في الريح! لكنه تهور، بدلًا من أن يضرب ضربته في أي بلد آخر غير العراق! أردت أن أسأله عنه، عن مطلقته أو عن زوجته الأميركية، لكنه قاطعني: - قلت لرقية مطلقته قبل أن تتزوج من رجلها الأخير: "إياك أن تبيعي الدار التي تركها لك محمد خيري، فهي لأولادك"، لكنها لم تسمع لي. أردت أن أقول له إن زوجها الأخير مات، وإن بينها وبين أنسابها مشكلًا كبيرًا بسبب الإرث، لكنه تابع: - لو لم تبع الدار لازداد ثمنها أضعافًا مضاعفة، لو أجرتها على الأقل لجنت منافع كثيرة. أترى الإيجارات كم هي مرتفعة؟ أنا لدي إيجار قديم رخيص نوعًا ما أحيانًا لا يمكنني دفعه. أنا يمكنني أن استدين، وغيري لا يمكنه، لأن الأزمة قوية لا أدري كيف سنخرج منها؟ أما رقية، التي تسكن على الرغم من كل شيء في فيلا فخمة، فقد مات زوجها، وهناك مشكل كبير بينها وبين إخوة زوجها، لكنهم في نهاية المطاف سيقفون إلى جانبها. يكفي أن تكون بين أهلك، إذا مرضت الكل يسأل عنك، وإذا ضاق حالك الكل يقف إلى جانبك. - ومحمد خيري، لماذا لم يقف الكل إلى جانبه؟ - لأنه كان متهورًا! فهم اللعبة، ولم يعرف كيف يلعبها. - بسبب من؟ بسبب زوجته الأميركية؟ - بسبب زوجته السعودية. - تزوج من سعودية؟! - من أميرة سعودية، وهي زوجته إلى اليوم. ابتسم مجد الدين الطاهر ابتسامة خفية، رفع رأسه بغطرسة وعجرفة كما لو كان يرفع على رأسه تاجًا: - هذا لأنه أمير فعلاً! - هل يعرف أحد بالأمر؟ - لا أحد يعرف بالأمر غيري. ضحك ضحكة مختصرة: - ربما لأن في عروقي دم الأمراء. طلبت إليه أن يحكي لي عن صديقه، عن شخصيته، عن حياته. أردت أن أعرف كل شيء. - إنه الشخص ذاته الذي كنت تعرف، لم يتبدل فيه شيء، لا في طباعه، ولا في أخلاقه. أما أفعاله، فقد كانت عظيمة. لم يكن الملهي غير عالم من عوالمه الأقرب إلى قلبه، فقد كان له العديد من العوالم، وكان سيدها المطلق. كان يريد أن ينافس الغرب في لهوه وعلمه، لهذا لم يكتف بأن يكون وكيلًا أو عميلًا بل منتجًا ونَدّاً. رفع عينيه إلى التاج الخيالي، وأنهى: - لا أحد على وجه الأرض يمكنه أن يماثله!
الفصل الرابع
حدثت أخي أيمن السيوف عن محمد خيري، وأخي أيمن السيوف يستمع إليّ بانتباه، ولا ينبس ببنت شفة. حكيت له كيف كنا نذهب إلى دكان والد سجين العراق، وكيف كان يطعمنا الجبن الأبيض والزيتون الأخضر. كان والده يحملنا صفائح الزيت الحر، وكان كرمه من كرم والده. وعندما كنا نذهب إلى دارهم المبنية من الحجر الأحمر في الجبل الشمالي، كنا نلتهم أقراص الكعك بالعجوة التي تصنعها أمه بمهارة خصوصًا له، ونأتي على علبة الشوكولاطة باللوز، وهو يسأل إذا كنا نريد المزيد. كنا نطلب منه أن يحكي لنا آخر "جعطة" حاكها، فيقسم أن كل ما يقوله صحيح. كان يذهب بنفسه مع خيالاته، ونحن نكاد ننفجر من سطوة الضحك علينا. كانت العظمة محورًا له ولنابلس، والشموخ، والنقود. وعندما توظف في أحد البنوك، اقترح علينا أن نسرقه، ولم يكن يمزح وقتذاك. قال أيمن السيوف إنه كان في ذلك الوقت طفلًا صغيرًا، وبالتالي هو لا يتذكره. - ولكنك سمعت بملهى الغاردنز. - وباسمه سُمي شارع الغاردنز. - الملهى كان ملهاه. - والشارع؟ - والشارع صار ملهاه، فلا أحد يعرف عنه شيئًا صحيحًا، كله ألغاز ورموز كالأحاجي. جاءت ابنة أخي نور العيون، وأخذت تصرخ دون سبب. كانت دومًا هكذا. ضربتها رغم حبي لها، وضربها أبوها، وبقيت تصرخ دون سبب. علل أبوها ذلك بصغر سنها، لكنه كان يقول ما يقول بدافع الحنوّ، لأنه كان يتألم لضربها. أجبت: الأطفال اليوم يفهمون كل شيء منذ اللحظة التي تلدهم فيها أمهاتهم، ومجرد الوجود يبرر الصراخ، فعصرنا من أقسى العصور. أخذته، وهربت به بعيدًا عن صوت ابنته التي لم تزل تصرخ. سألني: - إلى أين نذهب؟ - إلى شارع الغاردنز. لم يكن يحوجنا ذلك إلى أكثر من عشر دقائق، فما أن نهبط تلاع العلي حتى نجد أنفسنا في قلبه. ونحن نقطع شارع الغاردنز باتجاه شجرات محمد خيري، اعتقدت أني رأيته، وهو يسقيها. أمسكت بذراع أيمن السيوف، وهمهمت: - ها هو ذا محمد خيري! فاندهش: - ألم تقل لي إنه سجين لدى العراقيين؟ أخذت أركض بأيمن السيوف نحو الرجل الذي حسبته محمد خيري. سألته عنه، فقال إنه ملقى في غياهب أحد السجون العراقية. - ومتى سيخرج؟ - الله وحده يعلم متى سيخرج، هذا إذا لم يقتلوه. أشار إلى الشجرات الثلاث، وأشار إلى الصبي الذي أحضر لمحمد باهر دلو الماء: - أنا وابني نعتني بها، فهي أشجاره. أخذت ألمس جذوعها، وأحتمي في ظلها. ذهب الرجل ليملأ الدلو، فقلت لأيمن السيوف: - إنها الشجرات الوحيدة في الشارع، غرسها بنفسه، لأنه لا يحب الشوارع التي لا ظل فيها. اقترح أيمن السيوف أن نذهب إلى "السيفوي" لشراء بعض الحاجات ما دمنا على مقربة منه، فأخذنا نهبط شارع الغاردنز، والسيارات تمنع قطعنا له. كانت العمارات جديدة، اكتمل بناؤها منذ زمن قصير أو أنه لم يكتمل بعد، ولكن كانت حركة البناء لا تقف عند حد. وكانت بعض الأراضي على الرصيف الأيسر للبيع، أقيم على إحداها سيرك للأقزام، وغير بعيد من السيرك معرض للكتب، ومفرش للبطيخ، السيرك مليء بالناس، والبطيخ يباع لسائقي السيارات، أما الكتب، فقد كساها الغبار. قال أيمن السيوف: - الأرض في شارع الغاردنز بثقل الذهب لا أحد يقدر على شرائها. أشار إلى اسم المحامي مصطفى شريف المخطوط على عمارة الرحمة من طرفها إلى طرفها: - وإذا أردت أن تستأجر فيه مكتبًا، فعليك أن تكون من المحظوظين مرتين، مرة عندما تجده، ومرة عندما يمكنك دفع إيجاره. طمأنته: - عندما تنهي تدربك سنجد لك أحسن مكتب، وستكتب اسمك بحرف أكبر من الحرف الذي كتب به مصطفى شريف اسمه. صاح أخي: - كل شيء إلا هذا! أتريد ألا يأتيني أحد؟ عندما ينظر الناس إلى الاسم ذي الحرف الكبير يقولون ما سندفعه بكثيرٍ أكبر، والناس هذه الأيام أحوالها تعبانة. أنا أريد أن أكون محاميًا شعبيًا. - ومصطفى شريف، ماذا يفعل هو؟ ألا يأتيه الناس؟ - مصطفى شريف اسم كبير قبل كل شيء. أخبرني أن هناك آلافًا مؤلفة من المتدربين وآلافًا أخرى من المنتظرين للتدريب، وأن المستقبل بالنسبة له لن يكون سهلًا حتى وإن ربح كل قضاياه. قلت له: - لو كان محمد خيري هنا لأعانك. نظر إليّ قليلًا ثم قال: - أنا وأنت لا حظ لنا... لا نقود لنا، ولا سلطة، ولا عمل أكيد، وكأننا توأمان في حظنا العاثر رغم أنك أخي الكبير! لو كان محمد خيري هنا لأعاننا نحن الاثنين، ولرفعنا إلى أعلى المراتب. دخلنا السيفوي، فأشار أخي إلى الأسعار. كانت تفوق أسعار باريس ارتفاعًا. اختار حاجاته الضرورية، الضرورية بالفعل، وعند رف اللحوم تردد: اللحم البلدي لا يشتريه إلا المحظوظ! تناول قطعة لحم بلغاري رماها في سلته بعنف: - لحم محنط تأنف من أكله الكلاب! ومرة أخرى رأيته حائرًا في أمره، ماذا يأخذ لنور العيون، حليبها بالشوكولاطة أم لبنها الرائب؟ دفعته إلى أخذ الاثنين، فأخذهما، وهو يرميهما بغضب في سلته. - لن آخذ إذن سوى فاكهة واحدة. تناول تفاحاتٍ بحجم الكلل، لكن ثمنها فاحش: - لو بحثت عن الفيتامينات فيها لوجدتها لا تتجاوز عدد أصابع اليد، وفوق هذا فيتامينات ميتة. تذكر شجرات محمد خيري الثلاث: - لماذا لم يغرس شجر تفاح؟ ثم أضاف: - مجنون صاحبك! كيف أمكنه أن يزرع شجراته؟ ستموت حتمًا من بعده!
الفصل الخامس
فاقمت كلمات أيمن السيوف من قلقي، طلبت إليه أن يعود إلى بيته وحده، وأخذت سيارة أجرة إلى مشغل بركات جمجوم في جبل الحسين، عله يعرف شيئًا عن صديقي السجين. أول ما التقاني بركات جمجوم فجّر في وجهي كلمته كبركان: - انتحار! انتحار! وتعابير وجهه العريض، وجه طفلٍ شاخَ يُعتصر في قبضة الرفض والاستنكار. حياته كانت انتحارًا. انتحار الأستاذ الجامعي الذي كانه. حياة صاحب الحرائر. حياة لم تكن حياته. حياة لم يخترها. سألني إذا ما أحرقت السفن، فقلت كيف أحرقها، وأنا أحيا في المؤقت وعدم اليقين؟ - في الجامعة، ألن يثبتوك؟ - يعد مدير القسم بعقد للعام القادم. - هذا خبر مفرح! سيكون مرتبك كذا، وستكتب في الصحافة، وستدرّس زوجتك الفرنسية، فيتضاعف دخلك. سيكون لك دخل وزير، فلماذا إذن لا تحرق السفن؟ - إذا تم كل هذا كما تأمل أحرقتها. لم يسمعني، فأعدت: - فقط إذا تم كل هذا كما تقول. اقترح عليّ أن أزور مشغله، أراني ماكينات الخياطة والشابات اللواتي يعملن عليها، وشرح لي مغامرات العرض والطلب لكني لم أفهم منها شيئًا. ما أثار انتباهي التعايش السلمي القائم وراء الماكينات بين المحجبات وغير المحجبات. قلت له: - أهم ما في مشغلك الروح الديمقراطية التي تسود فيه. لم يسمعني، فأعدت: - الروح الديمقراطية من روح العمل عندك، أنا أيضا لدي في الجامعة المحجبة والسافرة. - المهم هو العمل. وافقته، وقلت إن بعض المحجبات عندي قد تحمسن للمنهج البنيوي الذي أدرسه أكثر من السافرات. الأمور نسبية. - وزمنية. كل وقت وله "موضته"! وضحك ضحكة العملاق الذي كانه: - تماما كما أحاول أن تكون الحرائر التي أصنعها على موضة اليوم، والوقت أو إن شئت الزمن هو سيد كل شيء. قلت له: - في شارع الغاردنز تمضي المحجبة دون أن تلفت انتباهك تماما كنصف العارية في شارع الشانزلزيه. كان قد سمعني هذا المرة جيدًا، فوافقني، وأفضى، وأنا على وشك أن أطلب منه أن يقول لي شيئًا عمن كان الأكثر في مركز اهتمامي: - أتعلم أنهم سموه شارع الغاردنز على ملهى كان يحمل نفس الاسم؟ - أعلم. وصاحبه كان واحدًا من أصدقاء الطفولة. هل تعرفه؟ - محمد خيري، أليس هذا هو اسمه؟ انحنيت باهتمام: - هذا هو اسمه. - أنا لا أعرفه شخصيًا، لكني سمعت عنه كثيرًا. أصدقاء لي في السلك الدبلوماسي كانوا يترددون على ملهاه، وكانوا كلهم يحيون فيه كرمه ونخوته، ويتأسفون على لياليه "الحمراء"! لم يكن الفجور من خلقه، ولكن حب السهر والطرب والمُدام. ليالي عمان الجميلة قليلة، ليالي عمان الجميلة كانت لياليه. كان يريد أن تكون أطول الليالي، أن تخيم بألقها طويلا ليس على عمان فقط بل وعلى ربوع القدس ونابلس والخليل أيضًا، حتى أنها بزت كل ليالي يافا وحيفا وعكا التي تركناها خلفنا... سكت حزينا، ثم رماني فجأة بسهم نظرة عابرة: - أنا أقوم بكل الصلوات وأتخيل محمد خيري كما لو كان الملاك جبريل عليه السلام. ضحكت: - الملاك جبريل! - ملاك يمكن أن يكون لنا مثلًا، هو من خاض غمار معركة طويلة لأجل الوصول... إلى أن خدعه الخادعون، وأوقعوه في حفرة لن يقوم منها. أردت أن يحكي لي بشيء من التفصيل عمن خدعه، وكيف خدعه، ولماذا، أن يقول لي الحقيقة، لكنه قال إنه وقت الصلاة. فرش سجادته بين سيقان تماثيله النسائية، وأخذ يقوم ويقعد.
الفصل السادس
من هم أولئك الخادعون؟ كيف تم خداعهم؟ ولماذا؟ أخذت سيارة أجرة إلى شارع الغاردنز، كانت شمس آخر النهار تضرب ضربًا في عينيّ، ولم تخفف من حدة سهامها نظاراتي. ظهر الشارع لي غريبًا، رأيت فيه غبارًا وبخارًا، وبدا الناس يعومون في مراياه. أوقفني السائق أمام عمارة الرحمة، وأخذ يزمر لاصطياد راكب آخر، ولما أدفع له بعد. وحالما ذهب، رأيت على الرصيف المقابل محمد خيري، وهو ينغرس كتمثالِ إلهٍ إغريقيّ. أردت اللحاق به، لكنه اختفي. أوقعني في حيرة كاملة، وقلت إذا كان بالفعل هو، فلماذا يخفي نفسه عني؟ كنت في شوق عارم إلى لقائه، والتحدث إليه. لماذا يلعب معي هذه اللعبة؟ كان المصعد معطلًا، فصعدت الطوابق الأربعة على قدميّ، ودخلت على مصطفى شريف، وأنا ألهث: - محمد خيري هنا، رأيته منذ قليل واقفًا على الرصيف المقابل. وذهبت إلى النافذة بينما مصطفى شريف يتكلف الضحك: - محمد خيري يضيع الآن في غياهب السجون العراقية. طلب مني أن أجلس، وأرتاح، فأذعنت، وأنا أتحكم بلهاثي. أغمض مصطفى شريف عينيه بقوة، وحك أنفه قبل أن يصرّح بلهجة وقار مصطنع: - كان من المفروض أن يصلحوا المصعد. لكني كنت مطاردًا بشبح محمد خيري: - والله رأيته، رأيته بأم عيني! - من؟ - محمد خيري. - أرجوك! كف عن التفكير فيه! ستصاب بالهلوسة بسببه! طلب لي فنجان قهوة وكأس ماء بارد، وأخذ يوقع على بعض الشيكات قائلاً بلا نقود نضيع في لجج البؤس التي اسمها الأردن. درت من ورائه، ونظرت من النافذة، فعدت أرى "السجين"، وهو يقف على الرصيف المقابل. تركت مصطفى شريف، ورحت أجري. اصطدمت بساعيه، وقلبت الصينية التي يحملها. نزلت الدرج قفزًا، ومن باب العمارة، ألقيت نظرة على المكان الذي كان يوجد فيه محمد خيري قبل عدة ثوان دون أن أجده. قطعت الشارع بين السيارات المسرعة بسرعة جهنمية، وجازفت بحياتي. مرضت، واكتأبت. أحسست بشعري الذي خف كثيرًا ينبت من جديد، ويقفّ على رأسي. يئست، وأحبطت. أخذت أصعد شارع الحديقة زحفًا كسلحفاة من حديد. كان الشفق قد بدأ يرشق الشارع باللون الأحمر المتأجج، وبدا لي طويلًا لا نهاية له ولا بداية. كان معلقًا بين الأرض والسماء، وكان محمد خيري يطل عليّ بوجهه الشفاف مبتسمًا. وجدت نفسي أقف تحت شجراته الثلاث، كانت أجمل ما في الشارع، وعزمت على الاعتناء بها إذا مات صديقي. ذكرتني الشجرات بشجرة السرو السامقة في الشارع حيث كنا نسكن في نابلس. كان أبي لا يتوقف عن سقيها، والنبش من حولها. وكنا نحاول الصعود عليها، ونحن أطفال صغار، فنقع، ونجرح أذرعنا أو سيقاننا. أتت سيارة، وصدمت دعامتها جذع أصغر الشجرات سنًا، وجرحته. لم أستطع قول أي شيء للسائق الذي غادر سيارته ضاربًا بابها من ورائه. كنت أفكر في محمد خيري، وأقول ترى ماذا سيفعل لو يرى هذا؟ وعلى غفلة مني، تحركت السيارة. دفعها أحدهم بعيدًا عن الشجرات الثلاث، ثم انحنى، وراح يمسح بكفه جرح الشجرة. عندما رفع رأسه، عرفت فيه محمد خيري. أخذته بين ذراعيّ، والدمع يثب من عينيّ. بكى هو الآخر، وشدني إلى صدره بقوة. لم يسأل عن أخباري بعد كل تلك السنين الطوال من الغياب، ولم يعلق إذا كنت قد تغيرت أم لا. أشار فقط إلى الشجرات: - يجب أن تحب الشحر لينمو ويكبر، وهؤلاء يكرهونه، ويحاولون بشتى الطرق خنقه. هذه السيارة، بوقوفها قرب شجراتي، لم تجرحها فقط بل وضغطت على جذورها أيضا، ومنعتها من التنفس. فحص الشجرة جيدًا قبل أن يضيف: - الجرح ليس عميقًا يمكن معالجته، سأعالجه بنفسي.
الفصل السابع
أخذني محمد خيري من ذراعي، وسار بي، وقد حط الظلام على عمان دفعة واحدة، إلى مطعم ريم البوادي. كانت القناديل تتساقط من الخيمة العملاقة التي يتشكل منها المطعم، وبعيدًا عن خرير ماء النافورة، اختار صديقي طاولة قصيرة في زاوية. قال لي أول ما قال إنه رآني بصحبة محمد باهر يوم جاء ليسقي الشجرات الثلاث. أشار إلى أجواء المطعم الصحراوية، وأبدى: - يذكرني هذا المطعم بأيامي في السعودية، بالبادية، ورملها، وكرم أهلها. كنت أريد أن أعرف كيف هرب من السجون العراقية، فضحك: - أتظنني سوبرمان زماني حتى أهرب من سجون الطير لا يستطيع الإفلات من بين قضبانها؟ طلب لنا أطباقًا كثيرة، وطلب لنفسه ماء معدنيًا ولي بيرة، وبعدما ذهب النادل، أوضح: - العراق بحاجة إلى كل خدمة مهما كانت حتى الصغيرة منها تخفف عنه في حصاره، وتفك أزمته، وأنا قدمت للعراقيين أكبر خدمة، فأطلقوا سراحي. - ذهبك لن يكفيهم لفك أزمتهم النقدية. ضحك: - ذهبي توزعه رجال النظام الأقوياء فيما بينهم، لكني قدمت للبلد خدمة كبيرة. لم يقل لي أية خدمة هي. جاء النادل بالمقبلات، فأخذنا نأكل، وهو يقول: - هذا أحسن مطعم في البلد، وانظر أي أكل يقدمون! قلت: - لا أجد في الأكل طعم الماضي، طعم زيتون نابلس الأخضر والزيت الحر والجبنة البيضاء التي كنا نلتهمها ونحن صغار، لا أجد شيئًا من هذا الماضي المبارك. كل شيء قد تغير إلى الأسوأ. للشاورما طعم سليخ ورائحة بغال أو حمير، ولكن الناس يلتهمونها التهامًا! - في ملهى الغاردنز كنا نأكل أحسن أكل، ونشرب أحسن شرب، وفوق هذا كنا نلهو حتى الفجر. غرق في الصمت، وظل مجانبًا طوال العشاء. كان يملأ صحني كلما فرغ، وكنت أقول له: شبعت، وهو يلح عليّ بالأكل. كان يقول لي: البيرة الباردة تفتح الشهية، وتساعد على الهضم، نسبة الكحول فيها قليلة لن تسكرك. كان يطلب لي منها كلما قاربت كأسي على الانتهاء، ومن اللحم المشويّ أيضًا وأيضًا. حدثته عن اختراعاته البعيدة، عن الفيديو والتلفريك والطرق المتحركة. سألته إذا ما كان قد قرأ جول فيرن في ذلك الوقت البعيد، وعرفه قبلنا كلنا، فقال إنه قرأه بعد أن افترقنا. ذكرته بالبنك الذي أراد أن نسرقه، فضحك، وقال: لو سرقناه لكنا نتعفن في السجن إلى اليوم. سألته إذا كان يحن إلى نابلس، فقال إنه يحن إلى أولاده فيها. أدهشني سماعي منه أن له فيها أولادًا: - أليسوا هم هنا مع أمهم؟ - في نابلس زوجتي الأولى، وهم معها. ضاعف من دهشتي، فأوضح: - تلك كانت ابنة عمي، تزوجتها على الفاتحة إرضاء لأبي، تزوجتها دون حب، وعشت معها في كنف والدي الذي اختارها لي، وهي لي والظل واحد. أمرض ابنة عمي استشهاد ابني الأكبر، وفاقم من مرضها إلقاء ابنتي الكبرى في الحبس، أما الصغير الذي لم يزل يرمي جنود الاحتلال بالحجارة، فهو على وشك أن يميتها، لكن ابنتي المحجبة تسهر عليها ليل نهار. - هل تزورهم من وقت إلى آخر؟ - لم أزرهم منذ مدة طويلة، ولن أزورهم قريبًا حتى وإن عرفت المنطقة عصر سلام جديد، لأني لا أطيق أن أرى جماعة تونس حكامًا عليّ. سأبقى هنا في عمان، عمان اليوم أقرب إلى القدس من أية مدينة من مدن الضفة. ونهض: - سنذهب الآن إلى الملهى. - أي ملهى؟ - ملهى الغاردنز. أسقطني في الحيرة، فملهى الغاردنز لم يعد موجودًا. أمسكني من ذراعي بعد أن دفع، وخرجنا.
الفصل الثامن
أنزلتنا سيارة أجرة في حي الصويفية الراقي. طرق محمد خيري باب إحدى الفيلات الفخمة، وفي الحال، فتحت لنا امرأة متشحة بالسواد: امرأة جميلة ذات جمال حزين وهيئة وديعة. لم يقدمني صديقي لها. سلمت عليّ، وكأنها تعرفني. سألها إذا كان الأولاد نيامًا، فقالت إنهم نيام. وسألها إذا كان يعقوبيّ كبير أبنائه نائمًا في حجرته، فقالت إنه ينام في حجرتها كما هي عادته. غضب غضبًا شديدًا، وهو يصيح بها: "توقفي عن تدليله! ستجعلين منه امرأة!" سار أمامي في ممر طويل، وأنا أتبعه. عند نهايته، كان درج داخلي ينتهي بباب. أخرج مفتاحًا من جيبه، وفتحه. أدخلني، وأشعل الضوء، ثم أغلق الباب بالمفتاح من ورائه. أوضح: - هذه الحجرة لا يدخلها أحد غيري. أشار إلى باب آخر في أقصاها: - في حياة زوج مطلقتي كنت أدخل من ذلك الباب، إنه باب يؤدي إلى الطريق مباشرة. هكذا استمر يسكن عند مطلقته في حياة زوجها! وجدت الوضع غريبًا. فكرت في المجيء عند مطلقةٍ أثناء غياب زوجها، وماذا يقال أثناء وجوده؟ كان ذلك يتجاوز إدراكي. وكأنه حزر ما يدور في خلدي إذ قال: - مطلقتي اليوم هي أختي، أزواجها كلهم تفهموا الأمر، وكان شرط قبولي لهم عندما طلبوا يدها مني. ابتسمت دون أن أعلق. أخذت أتنقل فيما يدعوه "حجرة"، والتي كانت عبارة عن عشر حجرات عشرة أمتار مربعة الواحدة. كانت الستائر مسدلة في كل مكان، ولم تكن هناك لوحة واحدة، فلا تعرف إذا كان من وراء الستائر حائط أو نافذة. أشار إلى زاوية فيها مكتب أسود ضخم محاط بأرائك من الجلد الأسود: - هذا هو المكتب الذي كان لي في الملهى. اعتمد على رأس أيِّل محنط، ورفع رأسه إلى ثريّا ضخمة من الكريستال، ثم تقدم إليّ بعلبة سيجارات مؤكدًا: - الأيِّل اصطدته بنفسي في إحدى طلعات القنص التي كنا نقوم بها في القصيم، وثريا الكريستال أحضرتها من طوكيو. - يصنعون الكريستال في طوكيو؟ ضحك: - أتظنهم لا يصنعون إلا الكاميرات والحاسبات الالكترونية؟ أشعل سيجاري. جاءتنا طرقات خفيفة جدًا على الباب، فذهب محدثي ليفتحه. سمعت مطلقته تسأل إذا كنا نحتاج إلى شيء قبل ذهابها إلى النوم، فشكرها، وتمنى لها ليلة طيبة، ثم عاد يغلق الباب بالمفتاح. فتح خزانة مزججة فيها كل أنواع الكحول، لكنه أخرج زجاجة ماء معدني وكأسين من الكريستال سائلًا إياي إذا كنت أريد قليلًا من الثلج، وهو يتجه إلى الثلاجة، فطلبت كثيرًا من الثلج للحريق الذي أشعله الطعام الوفير في حلقي. قال لي تعال، فتبعته. فتح بواسطة جهاز إحدى الستائر، فبان ما أثار دهشتي وإعجابي: عشرون أو ثلاثون فتاة في ثياب الرقص وفرقة موسيقية جمدت في لحظة قصوى من الحركة. ضغط على زر ثان، فانطلقت الموسيقى. دبت الحياة في الأجساد الشمعية، وأخذت الفتيات يرقصن رقص العرائس الميكانيكية. قطع محمد خيري السحر: - هذا هو صندوق العجائب الذي لا أملك شيئًا آخر غيره، تمثلته بنفسي، وصنعته بيديّ هاتين. فتح ستارة ثانية، فإذا بي أمام شارع الغاردنز بعماراته التي تم بناؤها أو الأخرى التي كانت بصدد البناء وأراضيه التي تنتظر أن يُبنى فيها. كان ملهى الغاردنز يقوم في قلبه، ومحمد خيري يقف تحت أضوائه بآخر أناقته وأبهته. كان مصنوعًا من الشمع صنعًا متقنًا، ولم أفرق بينه وبين من كان إلى جانبي يبتسم في منتهى السعادة. قال: - بفضل المرايا يبدو الشارع كما لو كان حقيقيًا. ثم أضاف: - كل شيء خادع هنا، وفي الوقت ذاته حقيقي. ضغط على زر ثالث، فبدت كثبان من الرمل لا تنتهي، وعشرات من الغزلان بين الأعمدة المنهارة. وعلى طرف، كان هناك مسبح على حافته تحت مظلة تمثال امرأة شقراء على عينيها نظارات. قبل أن يحكي لي عن المرأة، أوضح: - هذا هو موطني الثاني، الصحراء والغزلان والأعمدة المنهارة. وهذه هي روبيكا كلايتون. حسبتها خلال عدة لحظات كائنًا حيًا ينهض ويأتي ليسلم عليّ. ألجمني جمالها، ولم أصح على صوت "العائد" إلا بعد أن فتح الستارة الأخيرة: - هذه هي نابلس وقد حققتُ فيها حلمًا بعيدًا. ألقيت نظرة على نابلس، على جبليها المقدسين اللذين وصل محمد خيري بينهما بالتلفريك. تخيلت نفسي أعود إلى شوارعها، فكدرني ذلك. فجأة، وجدتني في صميم حركة قوية جرفت كل شيء. كان محمد خيري قد ضغط على زر، ودبت الحياة في كل شيء. رحت أقطع معه سماء نابلس في تلفريك يزلق على سلكين بينما كان في قمة جذله. غادرني الكدر، ، وأحسست أنا الآخر بالمتعة والجذل. رفع كأسه صائحًا: - بصحة نابلس! بصحتك! وشربه دفعة واحدة. أخذت أقهقه، والتلفريك على وشك الوصول إلى قمة جرزيم. بللت شفتي بماء كأسي، وعدت أضحك بكل سعادتي. أنزلنا مصعد ما أن وصلنا قمة الجبل إلى مكتبه، وجلسنا.
الفصل التاسع
صب محمد خيري لنفسه كأسا ثانية من الماء المعدني، فثالثة، فرابعة... وبعد قليل، همهم: - كل شيء هنا حقيقي وخادع في آن كالحياة. وتابع: - كنت أعمل في القصيم لدى سيد من أسياد العرب اسمه أبو فيصل النجداوي. لم يكن شخصًا عاديًا. كان بطلًا أسطوريًا. عندما تراه آتيًا تظن أنه جيش قادم من بعيد، وعندما يسلم عليك تظن أنه غمام يعصر يدك. وهو لهيبته كانت تأتمر بأوامره وتنتهي بنواهيه قبائل نجد والحجاز وعسير حتى أن نفوذه قد امتد إلى نهر الأردن والفرات وبردى. أول ما التقيته لاءم دمي دمه، وما لبث أن اعتبرني ابنه. طلب مني أن أبحث عن آبار طُمّت، وأعيد حفرها، لأن تلك الأرض في جوفها من الماء الحي ما يفوق نفطها. كان يريد أن يستعد للمستقبل، يوم تجف آبار النفط، وتعجز الدولة عن تحلية مياه البحر. كان يقول: "الماء الحي هو روح حضارتنا، معه ننهض، ومعه نتوحد. أما النفط، فهو روح الموت، له رائحة الجثث المتخثرة، معه ننحط، ومعه نتفرق". وجدت العديد من الآبار التي مُلئت بالتراب، فأغدق عليّ أبو فيصل النجداوي العطاء. وكلما كنت أكتشف بئرًا كان يذبح الذبائح، وكانت القبائل ترقص حتى الصباح. كَرُمْتُ بدوري تجاه الذين يعملون معي، لأني نديّ الكف منذ صغري، فدعوني بالضحاك، وأخذوا يحلفون بحياتي. وفي آخر كل أسبوع كنت أدعوهم إلى الصيد، فنمتطي الخيول، ونخرج إلى الصحراء. لم تكن تشدني في الصحراء كثبانها الأملس من خصر امرأة، وإنما روح الاجتياح. كانت الصحراء تدفعني إلى أحضانها بحثًا عن أيِّل أو غزال، فأصرع هذا أو ذاك، وأشعر بأني سيد الرجال. لم يكن يشدني في الصحراء غموضها الأوضح من عينين واسعتين، وإنما هبوب الريح عندما تعصف بالروح. كان أصدقائي يحذرونني من سخط الصحراء وقت العاصفة، فأركب الخطر، لأن في الخطر وحده سحر الغموض. كنت أحمل على كتفيّ كل غضب الصحراء، وأذهب لأحكي مع الذئاب. كنت أغدق عليها مما أصطاد، فتأكل حتى تشبع، وبعد ذلك، كانت تدور من حولي، وهي تومض بعين الامتنان، ثم تذهب، وهي تعوي. في أحد الأيام، عدت بصيد كبير، وجعلت من دم الأيائل والغزلان ما يفيض بعشر آبار. غضب أبو فيصل النجداوي غضبًا شديدًا، ومنعني من الخروج إلى الصيد. قال لي: "إذا قتلت حيوان الصحراء ماتت الصحراء ومتنا كلنا!" لم أعد أبحث عن الآبار التي طُمّت بحماس كالماضي، وأخذت أتغيب عن الذهاب إلى ديوانه، ثم أخذت أتغيب عن الذهاب إلى العمل. غالبًا ما كنت أذهب بسيارتي إلى واحة بعيدة فيها مقبرة قديمة ملأى بالأعمدة المنهارة، فأقضي نهاري، وأنا أحفر فيها. وجدت حجرًا منقوشًا من أحجار الرجم، وخشبا محفورًا من أخشاب الجفر. ذات مرة، وجدت تمثال أبي مِنْجَل برأس ذئب. وفي إحدى الليالي، وصل إلى مسمعي عواء، فقلت إنهم أصدقائي الذئاب. كانوا في حديقة الدار، أتوني من رمال النفود بعد أن غبت عن بصرهم. في أحد الصباحات الباكرة، أيقظني طرق على الباب، طرق شديد زلزل البيت. قمت لأفتح بسرعة، فوجدت أبا فيصل النجداوي يقف أمامي كالجبل بقامته الفارعة. دفعني، ودخل. لم يكن غاضبًا، كان باسمًا. سألني عن سبب توقفي عن العمل، فقلت له أسهل عليّ حفر آبار جديدة من البحث عن تلك التي طواها الرمل. وافقني، ورجاني أن أرتدي ثيابي لأرافقه إلى الصيد. قال إنه لم يصد منذ عهد بعيد. جعلني أركب في سيارته، وذهب بي إلى مزرعته. وجدت رجاله قد أعدوا عدة الصيد وخيله، ولاحظت تحت العريش فارسًا ملثمًا قدمه أبو فيصل النجداوي لي: "هذه ابنتي الصغرى ظبية نجران، وهي في الوقت ذاته ابني على اعتبار أن الله لم يرزقني الابن، تعشق الصيد مثلك، وتهواه!" رأيتها كيف امتطت مطيّتها كرجل، كيف قالت لي بعينيها أتحداك! قبل أن تنطلق، وننطلق كلنا في أثرها، وفي خِرَجَتِنا بنادقنا، كانت نظرة التحدي التي رمتني بها بداية حب غير معقول ما بيننا. لم أكن أعدو سعيًا من وراء أيّل أو غزال أصرعه، كنت أنا الصريع بعد أن قتلتني ظبية نجران بسهام رمشها، وفي الوقت ذاته المصارع للموت من أجلها. أصبح همي الوحيد أن أصطاد ظبية نجران فقط من بين كل ظبيات العالم. كان هدفي الوحيد أن أعدو من ورائها. كنت أراها تطلق النار، وأخشى أن أطلق النار عليها. لم تعد الصحراء شيئًا مهمًا، أصبحت رملًا تثيره حوافر خيولنا بعد أن سلبتها ظبية نجران كل سحرها. أردت أن أرفعها عن سرجها، وأحلق بها على جناحي طير. تخيلتها عارية، وتخيلتني عاريًا معها، ونحن نمارس الحب على السرج. رمتني مرة أخرى بنظرة متحدية، وهي تحاول تطويق أحد الظباء. تجاوزتها إليه، فضاعفت العدو، وتجاوزتني بدورها. بقينا هكذا نتبارى دون أن نفطن إلى اختفاء الظبي، وابتعدنا كثيرًا في أعماق الصحراء. توقفنا، ونحن نلهث، ونظرنا من حولنا، فلم نجد أحدًا. ساطت ظبية نجران حصانها، وصعدت أحد الكثبان. نَظَرَتْ إلى الأفق البعيد، فلم تر إلا الرمل والشمس. اندفَعَتْ باتجاهي كالسهم، وبسوطها أخذت تلسعني. كنت السبب في رأيها في ابتعادنا عن الآخرين، وأرادت قتلي. رميت بنفسي من حصاني عليها، وأوقعتها عن حصانها. سقطت تحت جسدي، وأنا أحاول شل حركتها. أردت أن أقتطف منها قبلة، وهي تقاوم، لكني نجحت في سحب اللثام عن وجهها، وقطفت من شفتيها قبلة، آه، ما أحلاها! قبلة لن أنساها طوال حياتي. عضتني فجأة، ورمتني. امتطت حصانها، وذهبت. عدوت من ورائها دون فائدة. لم أجدها، ولم أجد طريقي. سقط الليل، لكن قنديل بدوي متوحد هداني إلى خيمته. أطعمني لحمًا مقددًا، وسقاني لبنًا مخثرًا، وقرأ عليّ شعرًا إلى أن ذهبت نائمًا. في الصباح، سقاني قهوة مُرة، ودلني على الطريق. كان أبو فيصل النجداوي قد أرسل طائرة مروحية تبحث عني، وكانت ابنته هي التي طلبت منه ذلك. مضت الأيام، وأنا أحفر آبارًا جديدة، كنت أجد ماء في بعضها، وفي بعضها الآخر لا أجد شيئًا. طوال الوقت، كنت أفكر في ظبية نجران. لم أعد أفكر في زوجتي التي في نابلس، ولا في زوجتي التي في عمان: كنت مجتاحًا بحضور ظبية نجران الوهمي. لم أرها منذ طلعتنا. تَرَكَتْ على شفتيّ طعم التوت والدم، وذهبت دون عودة! صنعت مني نصف إله، وذهبت دون أن أنالها! في إحدى الليالي، سمعت طرقًا على الباب، طرقًا خفيفًا جدًا كأنه حفيف الأوراق. فتحت، ووجدت نفسي أمام شبح امرأة أسود لا يبين منها شيء. دخلت دون أن آذن لها بالدخول، فأغلقتُ الباب، وأنا آمل أن تكون هي: كانت هي بالفعل. أخذتها في أحضاني في اللحظة التي خلعت فيها عباءتها، ورحت ألثمها لثم بحر لجزيرة، وأرويها إرواء مطر لقبيلة. كانت قبيلتي وجزيرتي التي تهت فيها بتلذذ وشهوانية. أردت أن أقرأ الفاتحة لها، وأتزوج بها في الحال. زلقت من بين ذراعيّ، وقالت عليّ أن أطلب يدها من أبيها. أجبت لن يوافق أبوها، فأنا غريب، وأنا متزوج. أكدت لي العكس، فأبوها يعتبرني بمثابة ولده، وأنا يحل لي الزواج من أربع. في اليوم التالي، ذهبتُ إلى أبي فيصل النجداوي، وطلبت يد ابنته. لم أشعر بأنه فوجئ، قال لي إني غال وعزيز عليه، وهو لن يرفض لي مطلبًا، فقط هناك وردة السراة، الأخت الكبرى لظبية نجران، إما أن أتزوج بها هي أو أن أنتظر زواجها حتى أتزوج بأختها. لم يترك لي مجالا لمناقشته، طلب مني أن أفكر في الأمر، وصرفني. كنت أريد ظبية نجران، ولا أعرف عن وردة السراة شيئًا. لم أرها في حياتي مرة واحدة، ولم أكن أريد أن أراها. كنت أريد ظبية نجران، كنت أريدها هي دون غيرها. حاولت مع والدها مرة أخرى، فذهبت محاولتي سدى. قلت له إنني سأعمل لحسابي، وتركته. أردت الابتعاد عن كل ما يربطني بظبية نجران، وبالفعل أخذت أبني المسابح، وبدلا من أن أبحث عن الماء في جوف الأرض، رحت أفيض به على سطحها. الفصل العاشر
كانت كأسي قد فرغت، فصب لي ماءً معدنيًا، وصب له. طلب مني أن أتبعه، فتبعته. أخذ مجلسًا قرب تمثال روبيكا كلايتون، وأخذت مجلسًا قربه. شربنا نخب السيدة الشقراء الساحرة الجمال، وقهقهنا. فجأة، خيم الحزن على وجه محمد خيري: - تعرفت على روبيكا كلايتون عندما بنيت لها مسبحًا، كانت مهندسة زراعية مهمتها الأساسية إخصاب الصحراء، وكان بالتالي كل ما يتعلق بالماء الحي يثير اهتمامها. كذبت عليها، قلت لها إني اكتشفت آبارًا منذ عهد نوح، وإن البحر الميت ملك لأبي. قلت لها إن البحر الميت كان مسبحًا خاصًا لنا، وإن علاقتي بالماء بدأت هناك، يوم حولت ماءه المالح إلى ماء حلو، وربيت فيه شتى أنواع السمك، وفي عالمه الضائع جعلت تتوالد أطول الحيتان في العالم. أريتها النقوش القديمة التي عثرت عليها، وقلت إنها من عهد آدم. اندَهَشَتْ، وطَلَبَتْ عرضها على خبير في أميركا: إذا كان الأمر صحيحًا مثلما تقول اعتبر نفسك منذ الآن مليونير. قلت لها إنني مليونير ولا حاجة بي إلى المال، لأبي نصف فلسطين. وقدمت لها النقوش هدية: كانت طريقتي للذهاب إلى فراشها، أحسن الطرق، وعلى أي حال أكثرها حسمًا. كانت لتلك المرأة شفتان بروعة شفتي ظبية نجران اللتين بطعم التوت والدم، روبيكا كلايتون كانت لي، وظبية نجران منذورةً لغيري. وعلى عكس ظبية نجران، أغدقت عليّ روبيكا كلايتون الشيء الكثير. كانت بمحاسنها تسكّن كل رغباتي تسكين العسل للجراح السرية، وتملأني بالحنين. كنت أحس في قبلتها بلدغة ثعبان يريق العسل، ويطلق من القفص طائر الحنين. ربطتني بنهدها وفخذها وأصابع قدميها كالنار بالحرير، وكان كذبي عليها بداية لكذبة كبيرة، بعد أن تحولت علاقتي بها إلى علاقة الماء الحلو بالماء المالح، لا يمكن الفصل بينهما، فهذا ماء وهذا ماء، إلا بالمذاق. خشيت أن أفقدها ككذبة، فأردت الزواج بها، لكنها رفضت، وقالت إنها ستكرس حياتها لعملها، وعملها هو كل حياتها. قلت لها حياتي من حياتها، واقترحت عليها فكرة جمع مياه الأمطار التي تضيع سدى بواسطة شوارع إسفنجية. في المناطق الغربية كان المطر يصب بغزارة، يصب لأيام وأيام، وبدلًا من أن يضيع نجمعه تحت الشوارع، ونفجر عيونًا تسقي كل مشاريعها الزراعية. أذهلتها الفكرة، وفي الوقت ذاته، أبعدتها عني. رأت فيّ منافسًا، ولم يعد سيفي البتار يطمئنها في الفراش. قالت لي إنها تريد أن تعرض الفكرة على شركة أميركية، وأن نتقاسم الأرباح. وجدت ألا فائدة من تمثيل دور البطل معها، فلم أقل لها "خذي كل شيء فقط أعطني نهدك!" اتفقنا على أن نتقاسم الأرباح إذا وافقت الشركة الأميركية على المشروع، وهو المشروع ذاته الذي قدمته للعراقيين بعد أن هدمت الحرب خزاناتهم، فأطلقوا سراحي. غادرتُ روبيكا كلايتون، وعدتُ في اليوم التالي لأجد عندها الأميرة نود. حسب روبيكا كلايتون المشروع لن ينجح إلا إذا حصلنا على دعم نود، وراحت الأميرة تتردد على روبيكا كلايتون. كنا نجتمع ثلاثتنا حول كأس من الشاي، فنحكي عن المشروع وعن أشياء أخرى. شدني جمال الأميرة نود، جمال صمت الصحراء بعد هبوب الريح. كان يشدني جمالها ويخيفني في الوقت ذاته. كلما لامَسَتْ أصابعها أصابعي وقت السلام عليّ كانت تصيبني رعشة الخوف والاشتهاء، فأنظر في عينيها الواسعتين، وأضيع في مداهما الذي لا أفق له. وعلى العكس، كنت أرتاح إلى جاريتها عدنة التي غالبًا ما كانت ترافقها، وأشعر بالأمان بين يديها. كانت عدنة جميلة، غابة من شجر الإجّاص، وكانت بشرتها بلون الحليب، وكلما نظرت إليها تخيلتها نهرًا رقراقًا. أخذت روبيكا كلايتون تتغيب عن عمد كلما أتت الأميرة لأقيم علاقة جنسية معها، فتقطع كل شيء ما بينا. وبالفعل، حاولت مع نود بعد تردد، وفي لحظة من لحظات ضياعي، أردت أن أسعى في أرض التيه التي لي فسادًا كريمًا، وأن تجرفني كثبان الرمل إلى بطنها، فتحبل بي بئرًا للقوافل. كذبت عليها مثلما كذبت على روبيكا، ولكن بطريقة ترضيها، وتضرم حلم الغرب في جسدها. قلت لها إنني زرت باريس ولندن ونيويورك، وقضيت فيها أمتع لحظات حياتي. كنت أصعد الشانزلزيه في سيارة مكشوفة، وأنتصب انتصاب مسلة، فتأتيني النساء بالعشرات. وكنت أقف على تمثال في البيكاديللي، وأجعل من النقود مطرًا تجمعه النساء بأثدائهن، ويأتينني بالعشرات. وكنت في الشارع الخامس أطرق الأبواب، وأقول فقط أنا الضحاك، فترتمي كل عذراواتهم على فخذي. إلى جانب أني كنت دومًا أول المدعوين إلى المحافل علمية كانت أم أدبية، بسبب الاعتراف بأعمالي في كل أرجاء الكون. وقلت لها إن شق النفق تحت المانش فكرتي، وكذلك إرجاع تمثال الحرية للفرنسيين. اعتبرتني الأميرة نود فارسها، فجعلتني أعدو في محاسنها إلى نقطة لم أصلها أبدًا، نقطة اللانهاية. حولتني تارة إلى شعب من الخنازير، وتارة إلى شعب من الوطاويط، وكلما ظمئتُ شربتُ من نهدها حليبًا مالحًا، وكم كان حليبها المالح لذيذًا، كان حليبها يضاعف من ظمأي وإحساسي بالموت، ولكنه كان لذيذًا، ألذ حليب شربته منذ مولدي. وبقيت هكذا يضيعني حبي للأميرة نود، وروبيكا كلايتون تبارك هذا الحب، وتشجعه. حتى أنها قذفت في روعي أن أبني للأميرة مسبحًا كمسبحها، ففعلت، وأنا أدرك الضياع الذي أنا فيه، وأواصل ضياعي. حنّت عليّ الجارية عدنة، انتزعتني من صحراء سيدتها، وظللتني بظلالها. كانت الواحة والأمن والهدوء الذي تمنيته، ولقيته، وكانت دفء الجسد، واللقاء بالذات، وعطاء العقول. أردت أن أتزوج منها، وأعود بها إلى نابلس أو عمان بعد أن أنستني ظبية نجران، وجعلت لحياتي طعمًا. كشفت للأميركية ما عزمت عليه كي تساعدني، فقالت إنها ستساعدني، وبدلًا من أن تساعدني سارعت إلى إخبار الأميرة نود بكل شيء. ألقتني الأميرة نود في السجن تحت ذريعة أن أوصاف المسبح لم تكن ذاتها التي في العقد، أشبعتني ضربًا وجلدًا، في كل يوم كنت أُضرب وأُجلد، طوال أربعين يومًا لم تَكْفِ الأميرة نود لتأخذ بثأرها مني. لم يعد جسدي سوى جرح مفتوح، لكن غليل الأميرة نود لم يكن شيء يرويه... إلى أن أنقذني أبو فيصل النجداوي لما علم بالأمر، وأعادني إلى العمل عنده. كانت الجارية عدنة قد اختفت تمامًا، ولم أكن أعلم وقتذاك ماذا جرى لها.
الفصل الحادي عشر
- عدت أبحث عن الآبار التي طُمّت أو أحفر أخرى جديدة، تزوجت من وردة السراة بعد أن أردت الاستقرار، واقتنعت بها زوجة ورفيقة. كانت نحيفة وناشفة على صورة الجبال التي تحمل اسمها، ولم يكن لشفتيها طعم الدم والتوت، وكانت باردة برودة الصحراء في ليالي الشتاء. أما ظبية نجران، فقد اكتأبت، ومرضت. لم تحضر زواجنا، ولم تكلم أختها شهورًا طويلة. رفضت كل خطيب تقدم لها تحت حجة أنها "رجل" البيت، وبعد وفاة أبيها ستتربع هي على عرش القبيلة. في أحد الأيام، جاءت ظبية نجران، وارتمت في أحضان أختها، وأخذت كلتاهما تبكي، ففاض دمعهما نهرًا. لم أكن مرتاحًا لعودة المياه إلى مجاريها بين الأختين، ولم أكن غاضبًا. كنت لم أزل أحب ظبية نجران، ولكني كنت أخاف هذا الحب، كنت أريده ولا أريده، أريد أن أبعدها عني، وفي الوقت ذاته أتمنى لو تبقى قربي إلى الأبد. أخذت ظبية نجران تتردد علينا كل يوم تقريبا، نزعت الخمار عن وجهها أمامي، وقالت إني بمثابة أخيها، وبدا لي أنها دفنت حبي إلى الأبد في صحراء قلبها. حزنت لذلك، وتألمت. تمنيت لو أذهب بعيدًا، لو آخذ وردة السراة إلى الهند أو الباكستان، إلى أبعد مكان لا يجمعني بظبية نجران. ولكن ما أن كانت تأتي إلا وأفرح بها فرح أكثر الناس في العالم، وتذهب رغبتي عبثًا في الهرب منها. بعد ظهر أحد الأيام، وأنا أظنها تَقِيلُ مع أختها، فتحت عليّ الباب، وأتتني كالطوفان. مخرت بي مثل فُلْكٍ، وكادت تحطمني في أمواجها. أهرقت دم شفتيّ، ومزقت بمخالبها صدري. قالت لي إنني جنونها، وهي مستعدة لأن تفعل من أجلي كل شيء. أردت أن آخذها مثلما أخذها نوح من قبلي، لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة. قالت إنني زوج أختها، بمثابة أخيها، وإنها عذراء، ولسوف ينفضح أمرها. ذهبت لتعود في اليوم التالي، في نفس الساعة، ساعة القيلولة، كالطوفان الذي يجرف كل شيء، الأرض والسماء، وأنا أغرق في حمى جنونها. قالت لي إني حبها الأبدي، وقلت لها إنها إلهتي. وعندما كانت الرغبة تجرفني مثل مطر يجرف الكثبان، ويغير مجرى الأودية، كانت تقوم، وتقول إني بمثابة أخيها، وإنها عذراء، وفوق هذا وذاك لا يحق لها أن تسيء إلى أختها وردة السراة. كانت تذهب لتعود في اليوم التالي، في نفس الساعة، ساعة القيلولة، تعود إلى حالاتها الجنونية، وتهرب عند اللحظة الحاسمة. ثم أخذت تأتيني في كل لحظة كان يمكنها أن تختلي بي، في المطبخ أو الحمام أو غرفة النوم. كانت تأتيني شبقة، تحتك بي، وهي تنوس لذة، فتُخمد رغبة مجنونة، وتذهب. في أحد الأيام، طلبت مني أن أقتل أختها لأتزوج بها، وعندما رفضت رفضًا قاطعًا، قالت إنها ستقتلني ذات يوم. ذهبت لتعود في اليوم التالي، وقد عَزَمَتْ على أن أنهي عُذرتها. قالت إنها صممت على أن تعيش معي أحلى لحظات حياتها، وعندما تقع مني حبلى، ستقتل نفسها أو تجعل من جسدها وليمة لوحوش الصحراء. وككل مرة، كانت تلقي بي كالسيف المحطم في اللحظة الحاسمة، وتذهب. حبلت وردة السراة مني، ولكن الجنين لم يكبر في أحشائها، سقط بعد عدة أشهر. بكت وردة السراة كثيرًا، وضحكت ظبية نجران كثيرًا. في ذلك الوقت، ذهبت إلى الصيد، لأول مرة منذ زمن بعيد أذهب إلى الصيد، وكانت المفاجأة عندما وجدت هياكل بعض الأيائل هنا وهناك. قال لي عرب البادية إن فصلاً من المحل قد بدأ، نظروا إلى السماء نظرات قلقة، ثم ألقوا عليّ النظرات نفسها، وقالوا سيكون فصلاً لا تُعرف له بداية من نهاية. وبالفعل، عم المحل والقحط منطقة نجد والمناطق كلها، جفت الآبار، وجفت وردة السراة. رأيتها تذبل كلما اشتد المحل، وتفاقم، وتغدو ذاهبة اللون. طلب مني أبو فيصل النجداوي أن أفعل شيئًا، فأخذت أفكر في طريقة تحول النفط إلى ماء. كان النفط قد تفجر من كل آبار الماء التي حفرتها، وكانت ظبية نجران كلما رأتني أعكف على دراسة تحويل النفط إلى ماء تسخر مني. كانت تحثني على ترك كل شيء، والهرب معها إلى بلاد يصب فيها المطر معظم شهور السنة. أخذت تلمسني أمام أختها التي كانت تذبل رويدًا رويدًا، وتسخر من أختها التي كانت تموت على مهل. كانت تريد أن تدفعها إلى الموت بسرعة لأبقى لها وحدها، بينما كانت وردة السراة تنظر، وتتأوه، ولا تفعل شيئًا. قالت لي وردة السراة، والقحط على أشده، إنها حبلى مني، ففرحت، ولكن فرحي لم يدم طويلًا، وأنا أراها قد ذبلت تمامًا. كانت على وشك الموت، وبالفعل ماتت قبل أن تصل شهرها السابع. جاءتني ظبية نجران، وطلبت مني أن أتزوج بها، ولم تمض بعد الأربعون يومًا على موت أختها. قالت إني لم أعد أخاها، وكل الطرق أصبحت مفتوحة إلى فخذيها. استنكر أبو فيصل النجداوي مطلبي، فعيناه لم تزالا بيضاوين من الحزن على وردة السراة، والأربعون يومًا لم تمض بعد على موتها، لكنه زوجني رغم ذلك ظبية نجران. كان يريد لي راحة النفس والاستقرار، وكان يأمل أن يساعدني ذلك على تحويل النفط إلى ماء. أهداني قوسًا خيبريًا، وبارك ظبية نجران، واختُصرت المراسم عند هذا الحد. في ليلتي الأولى معها، منعتني ظبية نجران من لمسها. قالت لي إني خنتها مع أختها، وهي لن تتركني أبدًا أن ألمسها. بدت جافة ومدمرة، جذع شجرة يخنق سيلًا. حاولت أن آخذها باللين، فلم أفلح، وبالشدة، فلم أفلح. أنشَبَتْ مخالبها في وجهي، وفي عنقي، وفي صدري، ضربتني على عضوي، وقالت إنها عذراء، وستبقى إلى الأبد، وإنها ستنتقم مني لأني خنتها مع أختها. قلت لها أبوها هو الذي أراد، وأختها ماتت، وأنا لم أتوقف عن حبها لحظة واحدة. قهقهت، وطردتني من غرفتها. بقينا على هذه الحال شهورًا، شهور المحل الزوجي تلك، آه! كم كانت رهيبة، أرهب من محل الصحراء. في تلك الأثناء، راودتني لأول مرة الرغبة في شق شارع مليء بالشجر يكون لي وحدي، ولانعدام الشجر في القصيم، واحتراق الحدائق، قلت سأسميه شارع الغاردنز. لم تكن فكرة الملهى مختمرة في رأسي، لأنني لم أكن يائسًا كل اليأس من علاقتي بظبية نجران، كنت أقول هي ملهاي، وكل حياتي، وكنت أعول على الوقت كي يجرفنا بطوفانه. صنعت ماكيت أجمل شارع في العالم، قضيت في صنعه ليالي طويلة، وعندما أوشكت على الانتهاء، أتت ظبية نجران، وهدمته لي. قالت: مكانك بين العقارب والأطلال، وهذا الشارع أبشع شارع في العالم. أعدت بناء شارعي، شارع الغاردنز، من جديد، فأتت ظبية نجران، وهدمته لي. كانت تقهقه، وتقول: لا مكان لهذا الشارع الأخضر في صحراء نجد. هددتها بالقتل، فسخرت بي، ونعتتني بالجبان. قلت بذاهب الصبر سأعيد بناءه، وإذا هَدَمَتْهُ هذه المرة ذبحتها، فأكدت لي أنها ستهدمه، ولأفعل ما أفعل. وأنا أعيد بناء شارعي، شارع الغاردنز، للمرة الثالثة، في ليلة سوداء سوادها أسود من قبر، وحرها أحر من جهنم، دخلت ظبية نجران عارية، وفي يدها سكين يومض وميضًا سحريًا. قالت لي إنها ستهدم الشارع، وإنها أتت بسكين كي أذبحها إذا كنت رجلًا. تفجر قلبي فجأة بكل العواطف والأشواق، فأخذتها في أحضاني، وقلت إنها حبي وحياتي وسبب وجودي، وأنا لن أقتلها، تقتلني هي ولا أقتلها. تركتني أقطف ما أشاء من ثمر بطنها ونهديها، وأوصلتني إلى نقطة ما قبل ذروة النشوة بقليل، ونهضت جافة كوادي نجران في الصيف. هدمت شارع الغاردنز بقدميها، وألقت السكين في حضني. قلت لها سأذبحك، وأنا أتفجر غضبًا، فقالت لا أريد أن أموت عذراء، ماذا سيحكي الناس؟ أتت، وأخذت تلعق بلسانها كل جزء من جسدي، وأخذت تنبح، وأخذت تشدني إليها، وترجوني أن أخترقها، ثم أقتلها، فأنا حبيبها المجرم، وأنا خائنها الوفي. شدت على السكين في قبضتي، ووجهته إليها، جعلته يمضي باللهب على حافتي فخذيها، ودفعته ببطء ما بينهما، ببطء شديد، جعلها تفح فحيحًا طويلاً، وأنا أرى في عينيها ارتحال طائر ترك فرع شجرة، وراح يحلق في البعيد، وراح يحلق، ويحلق، إلى أن اختفى، ولم أعد أراه.
الفصل الثاني عشر
سالت دمعة على خد محمد خيري مسحها بظاهر يده، وصب الماء المعدني في كأسي. كانت آخر قطرات القنينة، فنهض إلى الخزانة المزججة، وأتى بأخرى. ملأ كأسينا، وقال: - حكيت لأبي فيصل النجداوي الحكاية كلها، وانتظرت أن يرميني في السجن، لكن كلامي لم يترك على وجهه من الغضب أي أثر. تحول إلى دولة قوية مهابة تتجاوز حدودها المحيط والخليج. أمر لي بالمال الوفير، وطلب مني أن أترك البلاد حالاً إلى أبعد مكان يمكنني الذهاب إليه، فلا يتناهى إلى سمعه خبر عني حلوًا كان أو مرًا. ليلة سفري، أتتني روبيكا كلايتون، وبمعيتها بنت صغيرة لم يتجاوز عمرها سنتين. قالت إن الأميرة نود قد أخبرتها بكل شيء، وبما أنها هي أيضًا مسافرة، فقد أرادت أن تقدم لي ابنتي من الجارية عدنة. كشفت لي أنها خبأت الجارية عدنة عندها لما علمت بكونها حاملًا، وأن الجارية عدنة ماتت في اليوم الذي ولدت فيه كيم. لقد سميتها كيم، وأعطيتها اسمي، هذه هي كيم كلايتون بنتك، يا محمد خيري! أردت أن آخذ ابنتي في أحضاني، لكنها تشبثت بروبيكا، وخبأت وجهها في ثوبها. قالت لي الأميركية إن أحدًا لا يعلم بالقصة، وعليّ أن أقرر مصيرها. قلت سآخذها معي إلى عمان، سأذهب إلى عمان حيث سأشق شارعًا اسمه شارع الغاردنز. أوضحت روبيكا كلايتون أن لكل شارع في بلادها قلبًا، والقلب غالبًا ما يكون مقهى أو ملهى أو ناديًا. اقترحت عليّ أن أبدأ بالقلب، وأن يكون القلب ملهى يملأ قلبي بالفرح وقلوب الناس. قالت إنها ستقوم باللازم فيما يخص فرقة الرقص، وكل شيء. اقترحَتْ أن أسميه ملهى الغاردنز لتعلقي بالإسم، ووعدَتْ باللحاق بي هي والبنت عندما يتم بناؤه. كان مشروع بناء الملهى يعيدني بالطبع إلى فكرة تحفر في ذاكرتي، فكرة خلق صندوق العجائب، فاستحسنت المشروع. قلت أريد أن أعطي اسمًا آخر لابنتي، اسمًا عربيًا، فأخبرتني روبيكا أن الجارية عدنة كانت تريد أن تسميها عيساية. قلت هذا هو الاسم الذي أريده، عيساية، وسميتها عيساية. في عمان، بدأت البحث عن مكان أقيم فيه ملهاي يكون قلبًا لأجمل شارع في العالم. تجند معي أصدقائي المهندسون محمد باهر ومجد الدين الطاهر وحاتم الحجلاوي –رحمه الله- دون أن نجد ما أريد. كانت عمان لم تمتد بعد شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، كانت عمان كما تركتها قرية كبيرة. كنت أقول لنفسي: سيبدأ مستقبل عمان من شارعي، ومستقبل عمان هو مناطقها البعيدة. في أحد الأيام، وأنا أقف على قمة تلاع العلي، والرعاة يشببون لقطعانهم، استقر بي الرأي على أن أقيم ملهاي عند قدم ذلك الجبل، في تلك المنطقة المنعزلة، البعيدة عن عمان التي كنتَ تعرف، عمان الحاضنة لجبالها السبعة. كنتُ أقول لمن يعترض على اختياري إنه خير مكان يستتر فيه كل محب للهو، وهذا غالبًا ما يكون رجلاً مهمًا ذا نفوذ أو ابن عائلة غنية. وكنت أجيب على كل من يسأل عن سبب إقامتي ملهى لا مدرسة أو دكانًا أن الملهى مدرسة ودكان، كل واحد يدخله هو في الوقت ذاته طالب علم ومعلم، فاللهو علم لا يعرفه حق المعرفة إلا من يبيع الليل ويهواه. أخفيت عن الجميع، حتى عن أصدقائي المقربين، مشروعي الأعظم، شارع الغاردنز. خشيت أن يطمع بي الرعاة، فيضاعفوا ثمن أراضيهم. وكنت أسعى بشتى السبل إلى إبقاء المراعي على ما كانت عليه، لأخلص من عقدة المحل التي طاردتني، ولكن أيضا وخاصة كي يرضى عني الرعاة. اعتذرت للراعي الذي باعني أرضه، وطلبت منه أن يأتي بأغنامه كما اعتاد على الإتيان بها كل يوم، لكنه ذهب، ولم يعد ثانية. أوصاني خيرًا بذئب وذئبة كان يُعنى بهما. وأنا، لهذا، عندما ذبحت عجلًا على حجر الأساس، تركت لهما ضلعًا، فأتيا في الليل، وجلست أحدثهما عن صداقتي مع ذئاب الصحراء. تابعت بناء الملهى حجرًا حجرًا، كان حاتم الحجلاوي مريضًا، فأخذت على عاتقي كل شيء تقريبًا. كان البناءون في معظمهم مصريين، وكان يجيئني كل يوم عشرات الشبان من ماركا والوحدات وخربة السوق، فآخذ بعضهم، وأساعد بعضهم، لكن المصريين هم الذين رفعوا الملهى على أكتافهم، وكل عمان، بأبخس الأثمان. لم أبخل عليهم، وجعلت من بعضهم، فيما بعد، خدمًا لي في الملهى. كنت أذبح لهم خرافًا بلدية من وقت إلى آخر، وبنيت لهم غرفًا من الطوب ينامون فيها. كنت أحب كل شيء له رائحة مصر منذ صغري، وعندما زرت القاهرة لأول مرة قضيت طول الليل، وأنا أقوم بفعل العشق مع فتاة مصرية، خمرية، لن أنساها ما حييت، رغم أنها اختفت تمامًا في اليوم التالي بعد أن سرقتني. بدأ الملهى يرتفع شيئًا فشيئًا، وبدأت معالمه تبين، وتظهر. ذاع صيته في كل أرجاء عمان قبل أن يتم بناؤه، وأتى الناس ليروه من كل مكان. جاءني المهندس سعد السلطي من أمانة العاصمة، وبحث معي خير الطرق التي تربط الملهى بالمدينة. قلت خير الطرق طريق تكون أعظم طريق، واتفقت معه أن يتمهل قليلًا ريثما أشتري معظم أراضيه. جعلت منه شريكًا بعد أن أحببته منذ أول لقاء، واعتبرته بمثابة أخي. بدأنا نحتفل على هوانا أنا وهو وبعض الأصدقاء في الملهى، والملهى على وشك الانتهاء. كان حاتم الحجلاوي يشرب كثيرًا، لا لينسى أنه سيموت، ولكن ليرفض أن يموت. كان يحلم باللحظة التي تأتي فيها الراقصات، ويرتمين كلهن بين ذراعيه. كنت أقول له هذا الحلم بعيد عنه بعد الأرض عن السماء، لأني أريده ملهى محترمًا، فيزعل، ويضحك عليه باقي الأصدقاء. وكان مصطفى شريف يذكره بمغامراته مع غجريات الغور أيام كان شابًا، ويضحك عليه باقي الأصدقاء من جديد، فيأخذ بشتمهم، وقد عادت إلى شفتيه الجافتين ابتسامتهما. كنت أقول إن هناك فرقًا شاسعًا بين البدوي والغجري، البدوي أصيل يدافع عن شرفه بالسيف، والغجري شرفه كسيف من خشب، يجعلك تدخل على امرأته، ويقف حارسًا لك بسيفه على بابها. كان حاتم الحجلاوي قد شرب كثيرًا في تلك الليلة، وكان قد راح يتهته: "ولكنها غجرية ليست كباقي النساء، ثديها يصل البطن، وإليتها تصل الأرض، وهي لشدة ما تأخذك في لحمها تتخيل أن لها قضيبًا ترفعك عليه!" كنت أخرج أنا ومحمد باهر إلى الحقول بعد أن يجعلنا حاتم الحجلاوي نقهقه كثيرًا، ونأتي للأصدقاء بالبطيخ والفقوس كي "يبلوا ريقهم" كما كان يقول محمد باهر. كانوا يبلون ريقهم، ويزيلون من أجوافهم ملح الكحول، ثم يعودون إلى الشرب من جديد، وكل واحد منهم يحلم على طريقته باللحظة التي يفتح فيها الملهى أبوابه. وأمام تصميمي على "عدم اللمس" شعارًا، كانوا يثورون، ويقولون أنت لن تجعله ملهى للمشايخ والصالحين من المؤمنين! كنت أضحك، وكانوا يضحكون، ويعودون إلى مناقشة الأمر معي "بجد" كما كانوا يقولون، ووصفي حبيب يَعِدُ بصدر من الكنافة مثل كل مرة من صنع يديه إلى أن يقترب الليل من آخره. وفي آخر الليل، كنت أتركهم، وأذهب لأنام مع الرعاة.
الفصل الثالث عشر
- أتظن أني نسيت ظبية نجران؟ أتظن أني اقتلعت شجرة حياتي؟ أتظن أني عدت إلى عمان لأن بعد نابلس لا توجد لي غير عمان أم لأن عمان أقرب مكان إلى ظبية نجران؟ ظبية نجران كانت ولم تزل سر حياتي، حلالي وحرامي، وكل القبائل التي تركتُ في نجد والحجاز. ببنائي الملهى لم أكن أريد أن أنسى، وإنما كنت لا أريد أن أنسى الظبية التي قَتَلَتْ نفسها من أجلي. لهذا عزمت على أن يكون أعظم ملهى، وأن أنقل منه الصخب والفرح إلى أركان العالم الأربعة. ظل الشبان يتوافدون إلى العمل في بناء الملهى حتى آخر يوم، الشبان الذين كانوا يأتون من ماركا ولا يجدون خبزًا مقابل الشبان الذين لم تزل ترضعهم أمهاتهم. كنت أريد أن أعود بالعالم إلى عصره الذهبي، إلى أيامنا الماضية، أيام الزيتون الأخضر والجبن الأبيض والزيت الحر، أيام السعادة، فالعصر الحديدي الذي نحن فيه من صنع البشر، وكل شيء ذنبهم، ولكني لم أكن القاضي ولا حامل السيف، كنت سيد الآبار وابنًا للمطر، وما الملهى سوى جنتي الصغرى التي لم أفتحها للرياح بعد أن امتد المحل من نجد إلى كل مكان. أرسلت لي روبيكا كلايتون من أميركا فرقة الرقص، وقالت إنها ستكون في عمان ليلة الافتتاح، ولم تكن فيها إلا بعدها. ليلة الافتتاح شكا لي سعد السلطي شِح الماء، كل الماء الذي في تلاع العلي لم يكفنا لكثرة ما استهلكنا منه! لم أهتم لقلق سعد السلطي، جعلت من الشمبانيا موجًا يجرف كل شيء، واتفقت معه أن يأتي بالماء من صويلح لو لزم الأمر بانتظار أن أنفذ مشروع شارعي الإسفنجي. صاح، وهو يرى إلى كل تلك الشخصيات الهامة التي أتت الملهى، إنه سيأتي بالماء من نهر الأردن لو لزم الأمر، وانطلقت الموسيقى بصخب هز أركان العالم. تركت اللاهين، وهم في عز لهوهم، والراقصات، وهن في عز رقصهن، وصعدت على سطح الملهى. كان الليل نديًا، فما أروع الليل في صيف عمان! كان الليل منثورًا بالنجوم، وكانت النجوم تلهو على صدر السماء لهو عقد من اللؤلؤ على صدر امرأة. أحسستُ بقامتي تطول إلى أن وصلتُ برأسي النجوم، ونظرت إلى عمان من حولي. كنت أحب جبالها حب أبنائي، وكنت قد رأيت بعين الحلم شارعي الذي سأشقه فيها، والذي سيقطعها من خاصرتها إلى خاصرتها. رأيته بعين الخيال يمتد من ملهاي إلى قصر رغدان، وقد قامت على رصيفيه العمارات، وامتلآ بالمارة والعشاق. مددت ذراعيّ إلى أقصاهما، وأخذت أصيح بأعلى صوتي: تعالوا جميعا وادخلوا جنتي! أتتني حركة من بين الأشجار، فنزلت من سلم خلفي، ورأيت عينين فاتنتين وامضتين، ثم عينين أخريين: كانت الذئبة وزوجها، قلت أتيا ليهنآني بافتتاح الملهى. أحضرت لهما خروفًا مشويًا، واقتربت منهما كثيرًا دون أن يخافا مني. لاحظت أن للذئبة بطنًا منتفخًا، فقلت هي لا شك حامل. تذكرت وردة السراة التي قتلها طفلها، وتذكرت امرأتي التي في نابلس، لم تكن تحتضر في ذلك الوقت، وكان أولادي يذهبون إلى المدرسة كل صباح ككل الأولاد. مطلقتي هنا لم تكن مطلقتي، كانت لم تزل على عهدتي، فعزمت على النوم عندها في تلك الليلة. قطع عَلَيّ سعد السلطي كل ذلك الحنين الذي جَعَلَتْهُ ينبثق فيّ الذئبة الحبلى، وسألني بشيء من العدوانية: أين أنت يا رجل؟ الكل يطلبك! أخبرني أن زعيم آل بشير أكبر مقاولي البلد يريد أن يكلمني، وأن زعيم آل قيس أكبر تجار البلد يريد أن يراني. لم نتمكن في تلك الليلة من الحكي والكلام، فأخذ كل منهما موعدًا معي لنلتقي في النهار. كانت فرقة الموسيقى قد عزفت من المقطوعات الشرقية والغربية الشيء الكثير دون توقف، وكان الحاضرون قد رقصوا مع زوجاتهم أو بناتهم حتى الفجر. سألني أصدقائي الذين لا يكبرون أبدًا عن ثمن "البضاعة الأميركية"، وهم يغمزون بمكر أو يضحكون، فذكرتهم بشعاري "ممنوع اللمس!" في الأيام التالية، أتتني فتيات سريلانكيات اغتصبهن أرباب البيوت التي يعملن فيها، وأتتني فتيات من عندنا فقيرات فيهن مسحة من جمال يردن العمل في الملهى، فطردتهن. كن مستعدات لكل شيء. وجدني سعد السلطي بعد النجاح الهائل الذي حققته في أكثر حالاتي تعاسة، ظن أنني استلمت تهديدًا من أحد، فطمأنته. أوضح لي أن المعركة ستكون حامية الوطيس بيننا وبين زعيمي آل بشير وآل قيس، وكشف لي عن شرائهما لبعض الأراضي القريبة من الملهى، ومحاولاتهما ليفض شراكته معي. قلت يجب أن نبدأ بشق شارع الغاردنز، فأخبرني أن كل شيء معد، وهم في أمانة العاصمة ينتظرون إشارة واحدة منه، لكني طلبت أن ألقي نظرة على الخرائط.
الفصل الرابع عشر
- بعد أن رأيت الخرائط، طلبت من سعد السلطي أن يضاعف عرض الشارع، وأن يعبده بالإسمنت الإسفنجي، لنجعل من جوفه أكبر خزان للماء، فبعد تجربتي القاسية في القصيم، لم أشأ أن يكون لعمان مصير ربة عمون. قال سيكلفنا الإسمنت الإسفنجي مالاً كثيرًا، فقلت خذ كل ما تريد من مال، لأني لا أريد لعمان مستقبلًا مشؤوما. جاء زعيما آل قيس وآل بشير لمقابلتي معًا رغم أن كل واحد منهما قد أخذ موعدًا مستقلًا، قالا لي إنهما اتفقا على رأي واحد، وهو أن يشتريا مني الملهى وكل الأراضي المحيطة به بالثمن الذي أريده. قلت لهما إن الملهى لا يقدر بثمن، أما الأراضي المحيطة به، فمن قال إني أفكر في بيعها. اسودت سحنتهما، وقالا إن الوصول إلى تفاهم معهما خير من كل المشاكل التي يمكن أن تحصل، وهما بإمكانهما أن يأخذا الملهى بأبخس الأثمان، أما الأراضي المحيطة به، فسيحصلان على نصفها بعد أن وافق شريكي سعد السلطي على بيعها، لكنهما يريدانها كلها، وأنا مهما فعلت ووسطت لن أحول دون وضع أيديهما عليها! وخرجا، وهما يضربان باب مكتبي من ورائهما! بالطبع، سعد السلطي لم يوافق على بيع أي شيء، كانا يريدان الضغط عليّ، فأقبل بعرضهما. أخبرت مصطفى شريف بالأمر، فأفهمني: لا يوجد مخلوق على وجه الأرض يجبرك على البيع، القانون معك، وإذا هدداك لجأنا إلى القضاء. قال: انس الموضوع، فنسيته. جاءت روبيكا كلايتون وابنتي عيساية لتقيما معي، استلَمَتْ إدارة الملهى، واتفقْتُ معها على تقديمها للناس بصفتها زوجتي. قلت هكذا أحميك، فالناس هنا لا يرحمون أحدًا، ويطمعون بكل غريب، وخاصة إذا كان الغريب أجمل النساء. رفضت روبيكا كلايتون أن تسكن عيساية عند زوجتي أم يعقوبيّ، ولم توافق على إرسالها عند زوجتي المحتضرة. أبقتها معها في الملهى، وقدمتها للناس على اعتبار أنها ابنتها. كانت تقول للناس، وأنا أسمع: هذه ابنتي كيم كلايتون! ورغم لونها الخمري وشبهها بي كانت تصر على شبهها بها، وسمارها من سمار أبي كلايتون المكسيكي. عندما كنت أعاتبها، وأتساءل أين يُذهب بها؟ كانت تقول أنت لست زوجي، وهذه البنت ابنتي، فمن قام بتربيتها غيري؟ ابتدأت الحرب بيني وبين روبيكا كلايتون حول موضوع البنت، كانت ابنتي، فرفضت أن تكون ابنتي، وتطورت حول موضوع الزوجة، كانت زوجتي، وهي في الحقيقة ليست زوجتي. أخذت تتعمد مخالطة الرجال الذين يتوددون إليها أمامي، وتسعى إلى إذلالي. بدأ الناس ينظرون إليّ بعين الاستصغار، لأني أمام سلوك زوجتي الشائن أغض الطرف، لأني –باختصار- أبيع زوجتي. كانت روبيكا كلايتون تلعب معي لعبة ماكرة، لعبة الرجولة والشرف والنخوة التي ورثتها عن أجدادي لتصل إلى تحقيق مآربها. لم أستطع إقناع نفسي بكونها ليست زوجتي بالفعل، ولتذهب إلى الشيطان! أثارت روبيكا كلايتون في قلبي حبي الدفين لها وكل رغائبي الماضية. اشتهيتها كامرأة، وأردتها كزوجة. كانت تقول لكل الناس إنها زوجتي، وعندما يذهب الناس تغلق الباب في وجهي. كانت تتركني أتوسل على بابها، وأنا أنوس ألمًا، فلا تفتح لي. في إحدى الليالي، شَرِبَتْ كأسًا مع زعيمي آل بشير وآل قيس، وسَمِعْتُ ضحكاتها المسكورة. رأيت زعيم آل بشير، وهو يطوق كتفيها، ويهمس في أذنها. ولاحظت من تحت الطاولة قدم زعيم آل قيس، وهي تضغط على قدمها. قلت يريدان أن يصلا إلى تحقيق مآربهما في شراء الملهى والأراضي المحيطة به عن طريق زوجتي. صعد الدم إلى رأسي، جذبتها من ذراعها بقبضة من حديد، وهي تصرخ من الألم. وفي مكتبي، بدأت تشتمني، وتقول إنها ليست زوجتي، وهي حرة تفعل ما تشاء. قلت سأحرمها من كيم كلايتون، فهي ابنتي عيساية أولاً وقبل كل شيء. سخرت مني، وقالت لعيساية جواز سفر أميركي، إن لمستها اتصلت بالسفير الأميركي. في الليلة التالية، تكرر المشهد مع زعيمي آل قيس وآل بشير، وأنا أغلي غضًبا، ولا أستطيع أن أفعل شيئًا. حذرني سعد السلطي، وقال سيسلبانك زوجتك، ثم الملهى، وكل شيء! وأنا لا أبذل أدنى حركة، لا أنبس بأبسط كلمة، كنت ساكنًا سكون بئر طُمّت أو واد جف. رأيتها تتأبط ذراع الواحد والآخر، وتغادر الملهى معهما. انتظرت عودتها إلى ساعة متأخرة جدًا من الليل، وأنا ساكن سكون المحتضر. عندما عادت، ورأتني بانتظارها، أطلقت عليّ ضحكة ساخرة، وأرادت أن تغلق بيني وبينها الباب بالمفتاح، لكني دفعته بعنف، ودفعتها على الفراش، وأنا أمزق ثيابها، وهي تقاوم مقاومة العاصفة للعاصفة. لم تخضع لبرقي، ولا لرعدي. قالت لي إذا كنتَ تغير على شرفك إلى هذه الدرجة تزوج مني! همد غضبي، وقمت عنها هادئًا، مفكرًا. ظننت أنها تسخر بي، لكنها اعتدلت، وقالت إنها سئمت من الكذب على نفسها وعلى الناس. وافقتُ على الزواج منها تحت شرط أن تُخلص لي وحدي، فاشترطَتْ هي الأخرى أن أكتب الملهى باسمها، لكني رفضت، واقترحت أن أكتب باسمها الأراضي المحيطة به، فالملهى كل حياتي. قالت لي: أنا كل حياتك! فقلت لها: أنت والملهى كل حياتي! طَلَبَتْ أن أطلق زوجتي التي في نابلس وزوجتي التي في عمان قبل عقدي عليها، فقلت زوجتي التي في نابلس تحتضر، وهي على وشك الموت، ووافقتُ على تطليق زوجتي التي في عمان. طَلَبْتُ أن تعطيني بعض الوقت لأشرح لها، فضحكت عليّ، وقالت تصرف بوصفك عربيًا! وإذا كنت تخشى مواجهتها طلقها غيابيًا. أعادت: تصرف بوصفك عربيًا! تصرف بوصفك مشرقيًا! أم أنك تنسى من أنت؟ بوصفي عربيًا؟ بوصفي مشرقيًا؟ قلت لن أنسى أصلي، وإذا كان الأمر كذلك، فهي أول من سأتصرف معها حسب أصلي. ذكرتها بشرطي عليها، بإخلاصها لي وحدي، فانفجرت تصهل، وهي تؤكد أمام دهشتي أنها ستكون أخلص الناس لي، لن تلوث شرفي، ومن هذه الناحية ستكون أكثر مني مشرقية!
الفصل الخامس عشر
- بعد زواجي من روبيكا كلايتون عشت أكثر أيامي سعادة وأكثرها هناءة، أَطْعَمَتْ روبيكا الذئبة الحبلى، ونامت معي عند الرعاة. شجعتها على العودة إلى مهنتها كمهندسة زراعية، واقترحت أن أشتري لها نصف أراضي الأغوار، لكنها رفضت، وقالت إنها اعتادت حياة الملهى، وهي تفضل أن تكون قربي، وقرب كيم. أخذتُ أنادي ابنتي كيم كلايتون كما تناديها بعد أن أقنعتني بأثر ذلك عليها، فشتان بين كيم وعيساية، والبنت تحس بنفسها أقرب إلى كيم من عيساية. إضافة إلى أن كيم اسم سهل النطق، ويمكنه أن يكون في نفس الوقت عربيًا وأميركيًا. انقطع زعيما آل قيس وآل بشير عن السهر في الملهى عدة أسابيع، وفي إحدى الليالي، جاء زعيم آل بشير وحده، وأخذ كأسًا على المشرب. أتت روبيكا كلايتون، وسلمت عليه. عزمها على كأس قبلتها، ولم يبق زعيم آل بشير طويلًا كعادته حتى الفجر. عندما ذهب، ناديتها، وعنفتها. قلت لها أنت زوجتي بالفعل الآن، وإياك أن تشربي مع أحد. أنت وعدتني بذلك، وفوق هذا إنها عاداتنا وتقاليدنا ألا نشرب مع أحد، فحافظي عليها. ذهبت غاضبة، وطرقت باب مكتبي في وجهي. في الليلة التالية، أتى زعيم آل قيس بصحبة زعيم آل بشير، عزما زوجتي، وطلبا لها زجاجة شمبانيا. وعندما بدأ ثلاثتهم يشربون، ويضحكون، جذبت روبيكا كلايتون من ذراعها بعنف جعلهما ينهضان كثورين هائجين، وخلصاها مني. هدداني إذا لمستها مرة أخرى رمياني في الحبس. أخذاها، وخرجا معها. ذهبت إلى شارع الغاردنز أركض على حصاه. ضربت بيديّ على الآلات العملاقة التي كانت تحفره، والتي كانت تربض في الليل كالوحوش الصماء. انقلبت على عقبيّ، وتوغلت في الحقول باحثًا عن صاحبيّ، الذئب والذئبة، دون أن أجدهما. بدأت أعوي، وأناديهما، فأتى بعض الرعاة، وحاولوا أن يأخذوا بخاطري، وأنا أبكي، وبقيت أبكي طوال الليل إلى أن غفوت، ورحت نائمًا حتى ساعة متأخرة من الصباح. قمت، وأنا أنادي روبيكا كلايتون، ثم ذهبت إليها. كانت نائمة، فأيقظتها بعنف، وأنا أردد أنت زوجتي لي وحدي! وأردت خنقها، وفي اللحظة الأخيرة توقفت. جَلَسَتْ على حافة السرير، وأخذت تبكي. قالت إنها تريد أن أبيع لهما الملهى، فهي الطريقة الوحيدة للتخلص منهما. قلت سأبيع لهما الأراضي المحيطة به، وليتركاني بسلام. سألت عن أي أراض أتكلم والأراضي المحيطة به كتبتها باسمها؟ إنها أراضيها، وهي باعتها لهما. لعنتها، وأشبعتها ضربًا. كانت تبكي، وتصيح بي: ستبقى في حال يرثى لها إلى الأبد! جاءني سعد السلطي غاضبًا، واتهمني بالخيانة وعدم الصدق. اعتبر بيع الأراضي العائدة عليّ طعنة في الظهر. قلت إنها روبيكا كلايتون بعد أن كتبتُ الأراضي باسمها، فلم يشأ تصديقي، وأخبرني أنه مضطر بعد كل ما حدث إلى بيع حصته بأبخس الأثمان، ثم ذهب مثلما جاء غاضبًا. تضاعفت ديوني، فلجأت إلى الأصدقاء، ولم أحل مشاكلي التي أخذت تزداد يومًا عن يوم. اضطررت إلى رهن الملهى، وروبيكا كلايتون تسهر في الخارج كل ليلة. لم تعد تساعدني في شيء، ولم أعد أراها. كانت تسهر مع أناس لا أعرفهم بعد أن بدلت زعيمي آل قيس وآل بشير بعشرات غيرهما. لم أتعود على الذل أو ابتلاع المهانة. كنت أستمد القوة على الصمود من وميض عيني الذئبة الحبلى وعيني زوجها الذي كان يرعاها. وذات يوم، وجدتهما يعومان في دمهما على عتبة الملهى. كان الذئب قتيلًا، وكانت الذئبة لم تزل تنبض، وهي على وشك الولادة. نقلتها إلى فراشي، أحضرت ماء ساخنًا، ومناشف بيضاء، وساعدتها. كان ذئبًا وليدًا أجمل من طفل، وأحن من مدينة. أخذ يرشف الدم من جراح أمه التي لفظت أنفاسها في اللحظة التي أتت فيها به إلى الوجود، وحاول أن ينفث فيها الحياة، وهو يعطيها حياته. فرحت بالذئب الوليد فرحي بابن لي، أحبني، وأحببته. أخذ يلعب مع عيساية، وينتظر عودتي. في أحد الأيام، بينما كنت أمر بالعمارات التي بدأ زعيما آل بشير وآل قيس يبنيانها في شارع الغاردنز، شممت رائحة شواء غريبة. وعندما نظرت، رأيت جمعًا يحيط بذئبي الصغير، وأحدهم يحرك سيخًا من فوق نار غرزه فيه.
الفصل السادس عشر
أخبرني محمد خيري أن روبيكا كلايتون قد أصيبت بالإيدز، وماتت، وأنه باع الملهى لغريميه كي يسدد ديونه. قال لي إنه أرسل عيساية لتنشأ في أحضان زوجته المحتضرة، وإنه لم يرها منذ عدة سنوات. تمدد على أريكة، ونام. كان حصان الليل قد صهل، وغادر عمان دون أن يأخذني معه. تمددت على أريكة أنا أيضا، ونمت. عندما نهضت، وجدت مطلقته تجلس قُبالتي، ولم يكن محمد خيري هناك. مدت لي مفتاح عالمه، وظرفًا فيه رسالة، وقالت: لقد ترك هذا لك. تناولت منها الظرف والمفتاح، وأنا أنظر إلى شعرها الغزير الأسود المضفور وقامتها المتسقة. وقبل أن أفتح الظرف، حدقت في عينيها الواسعتين، وقلت لنفسي امرأة تجاوزت الأربعين لم تزل تحتفظ بجمال لا يصدق! فضضت الرسالة، وقرأت: "كنتَ نائمًا، ولم أشأ إيقاظك. سأذهب إلى حيث لا يعلم أحد، فلم أعد ملاك الخير بعد أن أمحلت الدنيا في وجهي. أنا ملاك المحل، لهذا سأغادر عمان من خوفي على عمان؟ لن أكون ظلك، سأتركك دون ملاك حارس، ولكني سأجعلك تعرف أخباري من وقت إلى آخر، وإذا استمعت لنصيحتي، سأعطيك موعدًا في الكمرون. لماذا الكمرون؟ لأنهم يحتفلون هناك بحز حلمات النساء لا لشيء آخر. أنصحك يا صديقي بالزواج من مطلقتي رقية، هكذا تستقر نهائيًا في عمان، دون أن تكون بك حاجة إلى أحد، لأني سأترك لك إرث زوجها الثالث تتصرف به على هواك. بإرث زوجها الأول بعدي اشتريت مئات آلاف الدنانير العراقية التي ألغيت، وبإرث زوجها الثاني حاولت تهريب بعض الذهب إلى بغداد لأستعيض عن خسارتي الأولى بربح خيالي، وحصل ما تعرف. حقًا لا حظ لي مع العراقيين! أما إرث زوجها الثالث، فتصرف به كما تشاء، ابنِ جامعة أو افتح مجلة أو اجلس في دارك باقي العمر، واكتب القصص والروايات. الناس الذين يركضون من ورائك سيتركونك تركض أنت من ورائهم، لهذا، تزوج برقية تنقذ نفسك، وتنقذ نفسها من كيد إخوة زوجها، لأنهم سيقتلونها بحجة أنها قاتلة أخيهم، والحقيقة لأنها وريثته. تزوجها لئلا يقتلوها، وأنا أضمن لك العيش الهنيء إلى آخر أيامٍ تموت فيها موتًا طبيعيا ككل الناس، وستكون هذه المرأة سعد حياتك. ستخصب منك، وستنجب عددًا كبيرًا من البنين والبنات. أوصيك خيرًا بيعقوبيّ، إنه يحب أمه كثيرًا، وأمه متعلقة به، أما باقي إخوته وأخواته، فليختر كل واحد منهم طريقه. أترك عيساية وأخاها رامي الحجر يبنيان ملهى آخر في نابلس يسميانه ملهى الغاردنز بعد أن تستقر بهما الأحوال. ابتعد أكثر ما يمكنك الابتعاد عن شارع الغاردنز، وإياك أن تطأ رصيفيه قدماك. سيجرفه البحر يوم يجرف البحر كل شيء، وتتلاطم على ضفتيه أمواج الموت."
الفصل السابع عشر
لم يذكر محمد خيري كلمة واحدة بخصوص مفتاح عالمه الذي تركه لي، لكني فهمت أنه يترك بالفعل كل شيء يربطه بالماضي، مطلقته رقية وأولاده وشارع الغاردنز وكل عالمه. نظرت إلى رقية، وقلت لها: - لا أستطيع أن أقبل المفتاح، المفتاح مسئولية لا أستطيع عليها، وهو لم يأت على ذكره في الرسالة. ارتبكت رقية، وخفضت رأسها، ثم راحت ساكنة سكون شجرة منشورة. تخيلتها كالسحاب الوحيد العابر في سماء عمان، وتأملت ثوبها البني، وركنت إلى السكون أنا الآخر. كانت قد ربطت عدم قبولي المفتاح بعدم زواجي منها، فالأمر لها كان واضحا كعين الشمس، وهي لذلك بدت تنتظر مني توضيحًا. بهدوء، وبدبلوماسية قصوى، قلت: - إنني متزوج، زوجتي في باريس، ولي ثلاث بنات منها. رفعت رأسها، وقالت بصوت أقرب إلى الهمس: - إذا لم تتزوج مني مت قتلا! احترت، وقلت: - أتظنين أن الدنيا فالتة إلى هذه الدرجة؟ لكنها أكدت: - سيقتلونني، وسيذهب دمي هدرا! نهضتُ، وذهبتُ، وأنا أفتح فمي على سعته دون أن أقدر على قول شيء. بعد الجامعة، في المساء، بقيت بصحبة أيمن السيوف أخي الأصغر. كنت مكتئبًا، فأتت ابنته نور العيون، ولطفت قليلاً من الجو. قلت لنفسي: لنور العيون عيون عيساية، ضممتها إلى صدري بقوة، وقبلتها من خدها. جلسَتْ في حضن أبيها، وغرقت في النوم. أخبرني أيمن السيوف أن امرأة خالي قد دعتنا إلى الغداء في اليوم الذي أحدده، وقضينا السهرة مع زوجته ذات الوجه البشوش أمام التلفزيون نشاهد فيلمًا سخيفًا. من فترة لفترة كانت الكنّة تنهض لتمسح الغبار، وهي تردد: هذه الظاهرة أبدا لم تحصل في التاريخ، حتى في الليل هناك غبار! قال أيمن السيوف: سيستمر الأمر عدة سنوات طالما استمر البناء في عمان! كنا نتنفس الغبار ليلًا نهارًا، ولكن ذلك كان أهون بكثير من مشاهدة برامج الشاشة الصغيرة! في اليوم التالي، ذهبت مباشرة بعد محاضرات الصباح إلى مكتب مصطفى شريف، أكدت له أن محمد خيري في عمان، وأنني قضيت ليلة أول أمس معه. ضحك مني مصطفى شريف، وقال لا بد أن كل ذلك جرى في الحلم، فمحمد خيري لم يزل قابعًا في السجون العراقية، ولا أحد يعرف شيئًا عنه. رن جرس الهاتف، فرفعه مصطفى شريف، وبعد قليل، لاحظت التبدل الجسيم الذي طرأ على سحنته. وضع السماعة، وهو يحك أنفه، ويغمض بقوة عينيه، ثم رمى: - لقد مات محمد خيري! ارتعبت: - ماذا؟! ماذا تقول؟! - سلم العراقيون جثته إلى حرس الحدود، وهؤلاء أودعوها المستشفى للتشريح. طبيب المشرحة هو الذي كان على الهاتف، وبصفتي محامي العائلة، طلب مني الحضور للتحقق من هويته. تركتني كلماته جامدًا في مكاني، أيكون محمد خيري قد فعلها، ومات؟ وموعده الذي أخذه معي في الكمرون؟ ألم يكن جادًا؟ أم أن كل هذا كان جزءًا من لَعِبِهِ؟ فكرت: كان لديه متسع من الوقت منذ صباح البارحة كي يذهب إلى آخر الدنيا، فهل عاد إلى العراقيين، وجعلهم يقتلونه؟ فكرت في رقية، مطلقته، وفي أولاده، وقلت لنفسي: هم في عنقي الآن! كان مصطفى شريف قد اتصل خلال ذلك بمحمد باهر ومجد الدين الطاهر لنذهب إلى المشرحة كلنا معًا، فقال محمد باهر إنه سيذهب من مكتبه إلى المستشفى مباشرة بينما جاء مجد الدين الطاهر من مكتبه المجاور لمكتب مصطفى شريف في شارع الغاردنز، وقد جحظت عيناه، وثقلت شفتاه. انهار على كرسي، وانفجر يبكي بصوت مختنق. طلب منا مصطفى شريف أن نقوم، فقمنا، ولم ينبس أحدنا ببنت شفة طوال الطريق. التقينا بمحمد باهر على عتبة المستشفى، لم نكلمه، ولم يكلمنا. أخذنا طريقنا إلى المشرحة، والحزن يدمرنا، وعندما كشف لنا الطبيب عن وجه محمد خيري المشوه من أثر التعذيب، انفجر مجد الدين الطاهر يبكي بصوت مرتفع، بينما سالت دمعة صامتة على خد محمد باهر. أكد مصطفى شريف أنه محمد خيري، وأكد محمد باهر ومجد الدين الطاهر ما أكده مصطفى شريف، لكني فاجأتهم جميعًا عندما قلت إنه ليس هو. كدنا نتقاتل فوق رأسه لولا أن الطبيب قد وضع حدًا لذلك عندما اعتبر شهادة ثلاثتهم كافية. اقترح مصطفى شريف أن نتغدى معًا، فنحكي عن مآثر المرحوم وحسناته، لكن محمد باهر اعتذر، وقال إنه شديد التأثر بما جري، وهو يفضل أن يخلو بنفسه. ركب سيارته، وذهب تاركنا. ونحن نطلع شارع الغاردنز، لاحظنا أن رجال الشرطة يخلونه من السيارات، وقد منعوا مصطفى شريف من الصف كما هي عادته أمام عمارته. قالوا لنا إن ملك النرويج سيعبر الشارع، وهم لهذا يفرغونه من كل السيارات. انفجر مجد الدين الطاهر يبكي من جديد، وأخذ يخاطب محمد خيري بصوت مرتفع: اهنأ في قبرك يا محمد خيري، فشارعك قد غدا طريقًا للملوك والرؤساء! وأنت بثقلك تساوي الآن ذهبًا! قال مصطفى شريف إننا لم ندفنه بعد كي يهنأ في قبره، قبل أن يضيف أن لا فائدة من مثل هذا الكلام بما أنه مات، وترك كل شيء من ورائه. رد مجد الدين الطاهر أن ملايين الناس يموتون، وتمحي أسماؤهم من ذاكرتنا بعد موتهم، لكن بعض المتميزين الذين كان منهم محمد خيري لا يموتون أبدًا لأنهم ذاكرتنا الحية، لقد تركوا من ورائهم ما يجعلهم خالدين، وكأنهم ما زالوا أحياء بيننا. وصار على وشك البكاء، وشفته السفلى أخذت ترتعش. تمالك، وهمس: ومع ذلك، سأشتاق إليك يا محمد خيري، سأحتاج دوما إليك! أراد مصطفى شريف أن نتحدث عن المرحوم في المطعم، لكن مجد الدين الطاهر ركب سيارته التي كان رجال الشرطة على وشك أن يحملوها، وذهب بسرعة. وفي النهاية، ذهبت من ناحيتي.
الفصل الثامن عشر
لم أكن أعرف إلى أين سأذهب، قلت لسائق سيارة الأجرة: فقط اطلع، فطلع، ثم ما لبث أن توقف بأمر الإشارة الضوئية الحمراء. أخذ السائق يشتم: يعملون الإشارات لتعويق حركة السير! شارع الغاردنز هذا كان ما أحلاه، نعبره صعودًا أو هبوطًا بلمح البصر دون أدنى حادث، أما الآن مع تعقيدهم المرور فيه صارت الحوادث لا تعد ولا تحصى، لقد فاقت شهرته شهرة شارع الموت! أتعرف شارع الموت؟ قلت: أعرفه، شارع الجامعة. أمس قُتلت فيه إحدى الطالبات. صاح: وانظر كم ننتظر الضوء الأخضر! أرأيت في العالم إشارات كهذه؟ لدى كل البشر الإشارات غالبًا ما تكون اثنتين عند كل تقاطع، وهنا أربع أو ست أو حتى عشر إشارات، من فوق، ومن تحت، ومن الجانب الأيمن، ومن الجانب الأيسر، ومن الكفل الأيمن، ومن الكفل الأيسر، ومن القفا الأيمن، ومن القفا الأيسر! سار عدة أمتار، فمنعته نصف مصفحة، وأجبره جندي على تغيير اتجاهه. لم يكظم غيظه: كل هذا من أجل أحد الزوار! واحد يمر في بلده دون أن يأبه به أحد، وهنا يقيمون الدنيا ويقعدونها لأجله! ستطول طريقك! قلت: لا بأس في ذلك، لست على عجلة من أمري. ضحك: يا ليت الكل مثلك، فالناس هنا دومًا على عجلة من أمرهم، ومع ذلك هم لا يأخذون تاكسي هذه الأيام! ضاقت بهم الأحوال، فراحوا يمشون على قدميهم، أو يأخذون البُوَيْص، البُوَيْص أرخص! فكرت فجأة في الذهاب عند بركات جمجوم، قلت سأراه، وسأحكي له عن الجثة التي يزعمون أنها جثة محمد خيري، فربما كشف لي من سرها شيئًا. طلبت من السائق أن يذهب بي إلى جبل الحسين، والسائق لا يكل عن تَرداد أنهم أطالوا الطريق إلى أن انتهى به الأمر بإنزالي على رصيف باب عمارة الفيروزة. أخذت المصعد إلى المشغل، فاستقبلني بركات جمجوم بكلماته البركانية: انتحار! انتحار! هل أحرقت السفن؟ ماذا تنتظر؟ أما زالوا يترددون بخصوصك في الجامعة؟ قلت: يعد مدير القسم بمنصب ثابت عما قريب، منصب شاغر سيعلنون عنه في الجرائد. عصفت تعابير وجهه العريض، وبدا كالطفل الغاضب: - أنت بحاجة إلى جرائد وغير جرائد؟ ألا يعرفون من أنت؟ ستكسبهم أنت أم هم؟ أجبت، وأنا آخذ مجلسا غير بعيد عن النافذة المفتوحة: - بدأ صدري يضيق من الممرات المعتمة وجثث بعض الأساتذة المترهلة، فما بالك وأفكارهم التي تنهش القسم نهشًا؟ طبطب على كتفي: - سيتغير كل شيء! ستغير أنت كل شيء! ستشعل الضوء في عتمة الممرات والأفكار والأساليب! ابتسمت لطيبته، لحبه: - جئتك من أجل شيء آخر. لم يسمعني، فطلبت إليه، وأنا أرفع صوتي: - اسمعني جيدا يا بركات، لي صديق اسمه محمد خيري سبق لنا وتحدثنا عنه، أتذكر؟ كنت معه منذ يومين، واليوم قيل لي إن جثته في المشرحة. أعتقد أنها ليست جثته، وأنت، ماذا تعتقد؟ حكيت له الحكاية بشيء من التفصيل، كانت إحدى بنات المشغل المحجبات قد غلت لنا قهوة خلال ذلك، وقدمتها لنا. رشف بركات جمجوم من فنجانه رشفة، وقال: - محمد خيري لم يمت، كذب عليك بخصوص إطلاق سراحه. الحكاية وما فيها أنهم أطلقوا سراحه مقابل أن يتوزعوا الذهب فيما بينهم، ويلفلفوا المسألة! الدولة في أمس الحاجة إلى المعدن الأصفر، لكن وقت المنفعة جيوبهم أهم من الدولة وربها! قالوا له اذهب شرط أن تخرس، فذهب، وادعى أنه قدم للبلد خدمة. أما هم، فقد التقطوا أي واحد من الطريق، وقالوا عنه محمد خيري. عذبوه، وقتلوه عمدًا لتزداد المسألة غموضًا، ويصبح أمر الذهب ثانويًا. أتظن أنهم سيقلقون من أجل واحد يأخذ هوية واحد آخر في هذا الدغل كي يصلوا إلى غرضهم؟ رسم بسمة الطفل في وجهه الأعرض، وأكد: - محمد خيري لم يمت، محمد خيري لن يموت بسهولة، وإذا مات بالفعل، فسيبقى حيا في ذاكرتنا ما بقي شارع الغاردنز. أخذ يحكي عن أحلامه، كان يريد أن يبيع بضاعته التي تملأ الكراتين، وقام للصلاة في ظلال تماثيل النساء شبه العارية، وأنا لم أزل حائرًا. في الواقع، كل شيء كان يبدو لبركات جمجوم بسيطًا وصافيًا، وكانت استقامته الكبرى تبدو حتى من خلال ما يصنعه من حرائر وأردان شفافة. دفعتني تلك النزاهة العميقة إلى التفكير في اللغز الغامض المحيط بحياة محمد خيري: لم يكن الغريب عن نفسِ كلِ واحدٍ منا وفي الوقت ذاته كان غريبًا، ولم يكن القريب إلى قلب كل واحد منا وفي الوقت ذاته كان قريبًا. كان غريبًا وقريبًا، وكان غريبًا وغرائبيًا. كان لكل الذين عرفوه أعظم صديق اختفى قبل الأوان، ومع ذلك، حمل هذا الشخص الفريد كل أسراره السبعة معه، مما جعل منه بشكل مفارق الغريب بلا نزاع وإلى الأبد. فكرت في الإيجابي الذي فيه، وقلت ليس هو الإيجابي الذي نعرف. وفكرت في السلبي الذي فيه، وقلت ليس هو السلبي الذي نعرف. لم يكن إيجابيًا، ولم يكن سلبيًا. كان ذاتًا حرة، كان ذاته. كما وُلِدَ كان، وكما وُلِدَ ظَلَّ، وظلت معه ظلاله المسحوبة من بطن أمه والتاريخ الذي يصنعه لا كبطل من أبطاله وإنما كعابر في شارعه الطويل، كعابر لا يشبه أحدًا من عابريه العاديين هذا صحيح، ولكنه يعود دومًا إلى العادي بعد ذهابه اللاعادي في عالم الاستثناء، ليرفعنا إليه أو يسقطنا، هذا لا يهم... أطلتُ التأمل كثيرًا على ما يبدو، كان بركات جمجوم قد أنهى صلاته، وجاء يقف كالمسحور أمامي. فتح فمًا مرتعشًا، وقال لاهثًا: لقد رأيت محمد خيري أثناء صلاتي، رأيته كالنور، ثم انطفأ فجأة.
الفصل التاسع عشر
ترددت في الذهاب إلى مطلقة محمد خيري، لأني كنت أعرف أن محمد خيري لم ينطفئ، ولأني كنت أخشى أن تفسر اهتمامي بها بعزمي على الزواج منها. كان ليل عمان بنجومه وأنسامه أجمل ليل في العالم، وقد اشتقت فجأة إلى عالم محمد خيري السحري الذي تركه لي. جسست المفتاح القابع في جيبي، وأخذت سيارة أجرة إلى الصويفية. وأنا أدخل من الباب الخلفي، انطفأ الضوء في مكتب محمد خيري، ورأيت خيالًا لرجل أو امرأة يخرج من الباب الداخلي، ويغلقه بسرعة. أشعلت الضوء، فوجدت كل شيء على حاله تمامًا كما كان خلال ليلتي التي قضيتها هنا. تمثال روبيكا كلايتون لم يتحرك من مكانه، والراقصات في الملهى، وتمثال صديقي، والتلفريك المعلق بين جبلي عيبال وجرزيم. خففت إلى فتح الباب الداخلي، وصعدت الدرج الداخلي لأجدني وجها لوجه مع رقية في ثوب الحداد. سألتها إذا ما رأت أحدًا يخرج من حجرة محمد خيري، فنفت، وقالت لا يوجد للغرفة إلا مفتاح واحد هو معي. سالت دمعة على خدها، فأمسكتها من ذراعها، وأجلستها على أريكة. جلستُ قربها، وقلت لها محمد خيري لم يمت، فأكدت أنه مات بعد أن رأت جثته. قلت لها هذه ليست جثته، وإنما جثة واحد يشبهه. لم تشأ الاستماع إليّ، وانفجرت تبكي على صدري. أبعدتها عني برفق، وأنا أنظر إلى وجهها الحزين بإجلال: - ماذا أفعل كي تصدقي؟ قالت بعد تردد، وهي تخفض رأسها: - أريدك أن تتزوج بي، لقد كانت إرادة المرحوم، وأنا أحس بالخطر. في الليلة الماضية سمعت حركة في الحديقة، فأيقظت يعقوبيّ، لكنه كان أشد خوفا مني. طمأنتها، قلت لها إنني لن أتخلى عنها، لن أتخلى عن الأولاد. رفعت رأسها، ونظرت في عينيّ مباشرة هذه المرة. رمت في عينيّ نظرة جريئة متواصلة، وسألت لماذا لا أريد الزواج منها؟ ماذا ينقصها؟ ماذا لا يعجبني فيها؟ ابتسمتُ: - لا ينقصك شيء. كل شيء يعجبني فيك. ابتسمت هي الأخرى، وبدت جميلة جدًا وهي تبتسم في ثوب الحداد. أضفتُ: - لقد قلت لك، إنني متزوج، وزوجتي في باريس. طلبَتْ: - احضر زوجتك لتسكن معي. كانت مستعدة لكل شيء في سبيل أن أتزوج بها، وكانت تكلمني بجرأة فتاة في العشرين لم تعرف غيري رجلاً. قلت: - زوجتي لن تقبل... ثم، أنا لم أعتد على ذلك، أنا لن أعتاد على ذلك! - في باريس يتزوجون دون زواج، الرجال يبدلون في الغالب نساءهم، فما الفرق؟ - أنا شيء آخر، أنا لم أعتد على ذلك. - لم تعتد على ذلك كيف؟ ألم تعش سنين طويلة بينهم؟ - تأثرت ببعض طباعهم. وعلى أي حال، بناتهم لا يحبلن من أي واحد. أنا لم أعش سوى مع امرأة واحدة. أخذت تعصر منديلًا بين أصابعها، وترجو: - ابق هنا الليلة لتسمع بأذنك ما يجري في الحديقة، فتصدقني. - أصدقك دون أن أسمع بأذني أو أرى بعيني، أنت امرأة تحظى من طرفي بكل الاحترام. أعجبها أن تسمع مني ذلك: - إذن سنتعشى معًا، فتتعرف على يعقوبيّ.
الفصل العشرون
دعتنا زوجة أخي ذات الوجه البشوش، في الليلة التالية، إلى مطعم في شارع الغاردنز. كنت تعبًا، وليست لي رغبة في الأكل، لكني وافقت تحت سحر كلمة "الغاردنز". توقعت أن أجد محمد خيري هناك، أو، على الأقل، أن أشعر بوجوده. كانوا قد أقاموا على الشارع سيركًا روسيًا إلى جانب سيرك الأقزام. كانت الموسيقى تأتي من الخيمة، وتصعد إلى السموات، وكانت سيارات فخمة كثيرة تحمل بعضها لوحات تسجيل سعودية تقف على مقربة. علق أيمن السيوف: الناس هنا يحبون الذهاب إلى السيرك! سخرت: في السيرك مهرجون يضحكونهم! لاحظت يافطات انتخابية كثيرة علقها أصحابها تعليق المشانق على أعمدة الشارع، لكن الظلام لم يسمح لي بقراءتها. كانت اليافطات تجعل من شارع الغاردنز غابة متوحشة، وفي مطعم "إن آند آوت"، كانت موسيقى السيرك تصلنا بعيدة. أجلست نور العيون إلى جانبي، وأنا أناديها باسم عيساية تارة، وتارة باسم إحدى بناتي. سجل النادل طلباتنا، وبعد أن ذهب، سألني أيمن السيوف: - من هي عيساية؟ - إنها ابنة محمد خيري، مفضلته، ومفضلتي أنا كذلك مع أني لا أعرف بنتًا واحدة من بناته، عيساية أيضًا لا أعرفها، لكنه ما أن حكى لي عنها حتى أحببتها. سألت زوجة أخي: - ولماذا يفضل صديقك عيساية؟ - قال لي إنها وقعت في قلبه وفي عميق روحه فورًا. - وأولاده الآخرون؟ - حتما يحبهم، ولكن ليس كعيساية. - لأنها بريئة؟ - لأنها عيساية. - دون أي سبب؟ - بلى. ربما لأنها من امرأة لم يتزوج بها. وبينما كان النادل يضع ما طلبناه من شراب على الطاولة صاحت: - عيساية طفلة لاشرعية؟ طلب منها زوجها أن تكون هادئة، وأنا أبتسم: - عيساية في عينيه أجمل طفلة لاشرعية في الوجود. مضت عشر دقائق، ربما خمس عشرة قبل أن يعود النادل بأطباقنا. عيساية... تساءل أيمن السيوف، وهو يتناول طعامه: - أين الشرعي إذن من اللاشرعي في عصرنا؟ وصلتُ السؤال بالسؤال: - أين اللاشرعي إذن من الشرعي في عصرنا؟ نِعْمَ القول! كل حكاية محمد خيري يختصرها هذا السؤال. بدا عليه عدم الفهم وعلى زوجته أيضًا التي فضلت طبقها على كلامي. تابعت: - لِكُلٍ حقيقتُهُ: شرعية للواحد ولاشرعية للآخر. قال أخي: - أنا من ناحيتي أبقى ما أنا، ونظرة الآخر شيء آخر تمامًا. - نعم، كل واحد يسعى من وراء حقيقة تتشكل باستقلال عن إرادته. الواقع هو ليس من أنا، ولكن كيف أنا. كانت زوجة أخي قد غرقت تمامًا في طبقها، ولم تعد تتابع ما أقول. سأل أيمن السيوف: - هل هناك علاقة بين كلامك وبين محمد خيري؟ - إنه لكل هذا الجوهر نفسه، إنه حقيقة كل الحقائق –صادقة أم كاذبة- وكل واحد يعرف نفسه فيما يفعله محمد خيري. أنظر إليك أنت، أنت لا تعرفه، ومع هذا ما أن حدثتك عنه حتى وجدت فيه المنقذ لكلينا. أشار لي بالأكل، فتناولت لقمة، وأنا أواصل حفر فكرتي: - تدفعك أفعاله إلى التفكير في وجودك، إلى التفكير في الوجود بكل بساطة، فتراه سلسلة من الأفعال التي ترمز إلى حقائق صادقة أو كاذبة. - إذن، أعود إلى ما سبق لي وقلته: أنا نفسي فيما أفعل. - نعم، ولكن يجسد كل فعل كل الحقائق مهما كانت. علق أيمن السيوف: - تعني أن الحياة مصنوعة من أفعال نفعلها وأخرى لا نفعلها في آن؟ - تماما. لهذا السبب تجدني قلقًا من أجل محمد خيري، ها هو يفقد حياته، وها نحن نعتبر أفعاله ملكًا لنا، نصنعها على هوانا، ونلعب الدور الذي نريده. وأحيانًا، ونحن يجرفنا الهوس، نخترع أفعالًا فقط من أجل إرضاء حقيقتنا الخالصة والوصول إلى ثالثة. إنها أخطر الحقائق، ولكنها الأكثر إمتاعًا والأكثر إيهامًا. بعدما قيلت هذه الكلمات سقطنا في صمت مفاجئ، وأخذنا نأكل دون أن نفوه بكلمة واحدة، حتى أن نور العيون صمتت على عكس ما اعتادت. وعندما أنهينا العشاء، سأل أخي مبتسمًا: - لماذا تقول إن محمد خيري لم يعد حيًا؟ ألست متأكدًا من وجوده في مكان ما ربما كان الأقرب منا؟ أعادت كلمات أخي الأمل إليّ، الأمل في لقائه من جديد. ابتسمت أنا أيضًا: - لم تكن تلك سوى طريقة في الكلام... لقد تفلسفت كثيرًا هذه الليلة، فاعذرني! الفصل الواحد والعشرون
عندما خرجنا من المطعم وجدنا اليافطات ممزقة، قلت هذا محمد خيري، جاء وهدم الغابة المتوحشة. ابتسمت لليل عمان الجميل، وتنسمت هواء شارع الغاردنز العليل. ذكرني أيمن السيوف بالغداء غدًا عند زوجة خالنا وكأنني كنت ناسيًا إياه، وتركته وزوجته وابنته يأخذون سيارة أجرة إلى تلاع العلي. أخذت أخرى إلى الصويفية، أردت أن أفاجئ محمد خيري في عالمه الذي أعطاني مفتاحه. لم أجد أحدًا رغم أني كنت واثقًا من حضوره، فصدمتني ثقتي بوجود شخص ما هو سوى شبح من الأشباح. أيكون قد مات بالفعل، وما جرى في شارع الغاردنز دافعه التنافس بين المرشحين؟ اقتربت من تمثال روبيكا كلايتون، ورفعت عن عينيها نظارتها، فسحرتني عيناها الجميلتان. أردت أن آخذها بين ذراعيّ، وأحتضنها كعاشق من عشاقها الكثيرين. تعثرت بقدمها، وكدت أسقط في المسبح. ذهبت إلى مكتب محمد خيري، وأخرجت من الخزانة المزججة كأسًا وزجاجة ويسكي. تمددت على الأريكة، وبدأت أشرب، وأتأمل المعبد. ضغطت على أحد أزرار جهاز التحريك، فإذا بالموسيقى تنطلق، وإذا بالراقصات يرقصن. قفز قلبي في صدري من شدة السعادة، فقمت، ووقفت بين الراقصات، وأنا أرفع كأسي نخب أجمل ملهى في العالم: - بصحة أحب الحرام إلى الناس! بصحة أحلى مكان في عمان! قهقهت قهقهة المجنون، وشارع الغاردنز خرّ كله على قدميّ. أخذتني لوثة العظمة والجنون، فرحت أحطم ماكيتات العمارات بقدمي، وأكسر المرايا الخادعة. وجدتني أصرخ دون أن أدري إذا ما كان صراخي لحزن أو لسعادة، وأخذت أشتم "الفقيد"، وأنا ألهث بين يدي تمثاله، لأنه أوقعني في ورطة شارع ليس له في الدنيا مثيل، شارع كله مرايا محطمة وعمارات منهارة، شارع يقع في مركز شوارع العالم، بينما هو في حقيقته طريق مسدود. وصلتني طرقات مفاجئة على الباب، فأوقفت الموسيقى، وجعلت أنفاسي تنطلق هادئة قبل أن أفتح. كانت رقية. قالت لي إنني أخفتها، ظنتني أحد الذين يريدون قتلها. طمأنتها، ولم أطلب منها الدخول. رأيتها تقف بالروب دو شامبر على بعد وجيز مني مرتبكة، في الضوء الخافت، كانت خجولة كمراهقة في الثامنة عشرة. أمام صمتي المتواصل، سألَتْ إذا كنت سأنام هنا الليلة، فنفيت: - عليّ أن أذهب إلى الجامعة غدًا. قالت لي بلغة عينيها: وما الذي سيمنعك من الذهاب إلى الجامعة إذا نمت هنا؟ أوضحت: - أخي يسكن قريبًا من الجامعة، فأذهب إليها في الصباح الباكر مشيًا على قدميّ، أمشي من أجل ظهري، لأني لا أطيق عمل أي تمرين رياضي، وأمشي لكي أتأمل. حذرتني من شارع الموت، فأموت موت محمد خيري السهل. قلت: - محمد خيري لم يمت. محمد خيري لم يزل حيًا. ابتسمت، لأنها كانت تظن أنني أضحك منها، أقول ذلك فقط للتخفيف عنها. - بماذا أحلف لك؟ لقد مزق يافطات المرشحين في شارع الغاردنز هذا المساء، لهذا تجدينني هنا، جئت في عَقِبِهِ. وسعت ابتسامتها: - إنه الهواء، لا شيء غيره. الهواء هو الذي مزقها، وهواء عمان في ليالي الخريف يمكن أن يكون قويًا. حذرتني من شارع الموت مرة أخرى، ثم أعطتني ظهرها، وعادت تصعد الدرج. سارعتُ إلى القول: - إذا مت يومًا، فبتخطيط معد يجعل للموت قيمة. استدارت مطلقةُ خيري، وابتسمَتْ من جديد ابتسامة واسعة، لأنها كانت تظن دومًا أنني أضحك منها. قالت لي إن يعقوبيّ يريد أن يتزوج من بنت نابلسية تعرفت عليها أخته في السجن. تقدمتُ خطوة، وسألتُ إذا كانت البنت هنا في عمان. قالت البنت ليست هنا في عمان، ويعقوبيّ ينتظر موافقتي كي يذهب لإحضارها. - إذا كان يريدها، فليتزوج منها. - يريدها، ويريد أن يتزوج منها اليوم قبل الغد. - فليذهب إذن لإحضارها. - سيكون يوم زواجه وختانه. تريثت مفكرًا ثم سألت: - أمن الضروري الختان لمن هم في مثل سنه؟ - كانت رغبة أبيه أن يجري زواجه وختانه في يوم واحد ليكون الفرح فرحين. قلت: فليكن! تمنت لي ليلة سعيدة، واختفت في أعلى الدرج. بعد قليل، عدت أغرق في عالم "الفقيد"، أسدلت الستائر، وأطفأت الأضواء. وبينما كنت أتأهب للخروج، أتاني صوت نسائي ينادي عليّ. لم يكن صوت رقية، كان صوت امرأة أخرى. دق قلبي بقوة. إذن من كان هنا في المرة الماضية لم يكن محمد خيري! أشعلت الأضواء من جديد، وأخذت أبحث عن المرأة المختبئة في ذلك العالم الغريب دون أن أجدها. لاحظت أن تمثال روبيكا كلايتون قد اختفى من مكانه، فافترضت وجود طابق تحت الأرض، لكني لم أعثر على أي منفذ له. عدت إلى تمثال روبيكا كلايتون كي أتأكد من اختفائه، فوجدته كما كان في مكانه. أمسكت رأسي بكلتا يديّ من شدة الصداع، وخرجت.
الفصل الثاني والعشرون
أخذت سيارة أجرة من الجامعة إلى تلاع العلي، وأنا أحث السائق على أكثر ما يمكنه الإسراع لئلا أتأخر عن غداء امرأة خالي، لكني تفاجأت بأيمن السيوف يخبرني أنها قد ألغته ادعاء منها بمرض مباغت. تأثرت، وضحكت بحزن: - وأنا في باريس كنت أقرب إلى الناس هنا مما أنا عليه الآن وأنا بينهم! نهضت، فسألني أخي: إلى أين؟ قلت: إلى محمد باهر. قال: إلى جبل الحسين؟ قلت: نعم. قال: سآتي معك لأرى فداء. ألم يزل يوجعك ظهرك؟ قلت: لم يزل. قال: سأطلب من ابن خالنا أن يقودك إلى حمامات ماعين. اقترح أن نأخذ البويص، فهبطنا تلاع العلي بسرعة من ناحية شارع الجامعة، والتلاع واقفة في الفراغ كالخط المستقيم. كانت الحرارة شديدة بعد أن هجمت موجة الحر على عمان من القصيم. مسحت عرقي، وأنا أنظر من حولي، ورأيت بعض الورود الجافة. تذكرت وردة السراة وظبية نجران والجارية عدنة. ودون أن أتوقع من أيمن السيوف ذلك، طلب إليّ: - ولماذا لا تتقدم إلى الانتخابات؟ في الجامعة لم يزالوا يعدونك بمنصب، وبالطبع يبيعونك كلامًا فارغًا، أليس كذلك؟ قلت: هو كذلك. - وفي الجريدة يعظمونك في وجهك، وفي ظهرك يمنعون مقالاتك، أليس كذلك؟ قلت: هو كذلك. - إذن لماذا لا تتقدم إلى الانتخابات؟ أنا واثق من فوزك. ستختار دائرة شعبية، فأنت تعرف كيف تكلم الناس. قلت: الانتخابات تحتاج إلى أموال، أموال كثيرة. - فكر في الأمر، وبعد ذلك فكر في الأموال. وعلى أي حال، لست بحاجة إلى شراء صوت واحد. على عكس أبناء العشائر والعائلات، وسيكون فوزك. سكت فجأة، وهو لا يستطيع كبح جماح العرق المتفجر من جبهته. كان السفح واقفًا كالمسطرة، ونحن لا نستطيع التحكم بخطواتنا. ركضنا لئلا نفوّت البويص الذي وصل لتوه، وأخذ معاون السائق يعدّ الصاعدين. ترك أيمن السيوف يصعد، وأنا، أراد أن يغلق الباب في وجهي. صحنا أنا وأخي معًا، فأصعدني على مضض منه، وهو يكشر، فتبين أسنانه المسوسة. حذرنا من رجال الشرطة، وطلب إلى الواقفين أن يتدبروا أمرهم، ويجلسوا كيفما اتفق. بعضهم جلس بطرف إليته على طرف مقعد، وبعضهم على "حدبة" المحرك إلى جانب السائق، بينما وقف أيمن السيوف بطوله قرب الباب إلى جانب المعاون، وأنا في الممر الضيق أثني ظهري بسبب سقف البويص المنخفض. كان الهواء الساخن يهب من النوافذ المفتوحة، ويرمي إلى انتحارنا بالاختناق، وكان السائق يسمع أغنية بائخة لوردة الجزائرية، وهو ينظر عبر المرآة إلى إحدى المحجبات. التفت أيمن السيوف إليّ، فأشفق عليّ. اقترح أن آخذ مكانه، فرفضت. كان رأسي على وشك السقوط، لكني كنت أشده على كتفيّ، وكان كتفاي على وشك الانخلاع، لكني كنت ألصقهما على ظهري، وكان ظهري على وشك الرقص في جهنم مع خاصرتيّ، لكني كنت أقول لنفسي لم يبق الكثير من المحطات، لم يبق سوى عشرين أو ثلاثين، وندمت أشد الندم على عدم أخذي سيارة أجرة. نظر أيمن السيوف إليّ، وضحك، لأنه قرأ ما يجول في خاطري، والمعاون لم يتوقف عن سؤال إذا كان أحد سينزل في المحطة القادمة، ولا أحد ينزل، والمعاون لم يتوقف عن إصعاد الركاب، وهو يعيد على الجميع ويكرر: تدبروا أمر جلوسكم نصف جلوس أو وقوفكم نصف وقوف أو ربع وقوف أو انبطاحكم في الممر حسب الأصول! كيلا يراهم الشرطي، ويرقعه مخالفة. لقد فعل بهم خيرًا، وذلك بإنقاذهم من الانتظار في جحيم الخريف، وهم عليهم أن يتفهموا وضعه. أنزلنا البويص قرب سيرفيس البلد في جبل الحسين، كنت على وشك الاختناق، وعلى شكلي المتخوزق انفجر أخي يضحك. قلت له من أجل هذه "السفرة" سأغادر عمان، ولن أعود إليها إلى الأبد. ركضت ونَفَسي يكاد ينقطع بحثًا عن شجرة أقف في ظلها دون أن أجد واحدة ولا حتى عرقًا يابسًا. ضحك أيمن السيوف مرة أخرى عليّ، وقال: آه لو كان الشجر يُحمل لحملت لك شجرات محمد خيري! قلت: تجدها احترقت من شدة الحر! ودعني أخي الأصغر على باب عمارة الجقة، ولم أستطع صعود بعض الدرجات إلى مكتب محمد باهر على قدميّ لفقدي كل طاقاتي. أخذت مصعدًا تكسر زجاجه، وكاد يقص لي أصابعي. ارتميت على مقعد قرب المروحة، فأتى محمد باهر، وجلس إلى جانبي بوجه يخفق احمرارًا، وهو يضحك مني. صحت: مثل هذا الحر لم أر من قبل! رمى: ابن باريس من الطبيعي أن يقول هذا الكلام! وقهقه، ثم وافقني: - إنه حر شديد بالفعل! سألني عن أخباري، فقلت لا جديد، الأخبار القديمة التي تعرفها. قال لي قم، فقمت. أخذني بسيارته إلى بار مكيف الهواء في فندق الجراند بالاس. لاحظت احترام النادل الأسود الكبير له. رافقنا إلى زاوية منعزلة بعض الشيء جلسنا فيها، وأمامنا امرأة ورجل كانا على وشك المغادرة. سجل النادل طلباتنا، وهو يبتسم، وينحني لمحمد باهر. أسعدني المكان، وأسعد صديقي أن المكان أسعدني. باح لي بمجيئه هنا من وقت إلى آخر، وكل هذا الاحترام ليس لكل الزبائن! لم يتأخر النادل عن إحضار كأسين كبيرتين من البيرة المثلجة، ومعهما عدد لا بأس به من صحون المَزَّة. علق محمد باهر: وهذه أيضًا لا يقدمونها لكل الزبائن! جرعت البيرة المثلجة، فاستعدت كل الطاقات التي فقدتها، بل استعدت حياتي. كانت ألذ بيرة شربتها في عمان، وكان صديقي ينظر سعيدًا إليّ مرتاحًا بعينين تومضان. ودون لف أو دوران سألته: - ما رأيك لو نزلت الانتخابات النيابية؟ بقي صامتا مفكرًا. أضفت: - إنها فكرة أخي أيمن السيوف، كان الحر يأكل دماغه، فاقترح عليّ أن أخوض المعركة الانتخابية، وإني في رأيه حتمًا لمن الفائزين! أخذ محمد باهر جرعة من كأسه، وخفق وجهه احمرارًا قبل أن يفضي: - الفوز الأكيد فقط لمن يولد وفي فمه ملعقة من ذهب! كنت أعرف ما يلمح إليه من أصوات تشترى بثمن غال، بعد الغش، كي تكون نائبًا، وهذه طريقة يعرفها الأردن "الديمقراطي"، كما يقولون، منذ قيامه، لهذا دومًا ما كانت النتائج معروفة سلفًا. ثم ذهب محمد باهر في حديث طويل عن آلية الانتخابات: في هذا البلد لا توجد أحزاب تتصارع لتكون النتيجة أغلبية تحكم وأقلية تعارض مثلما هو عندكم في الغرب. هنا أشخاص يرفعون شعارات فضفاضة دون برامج، وينفقون الكثير الكثير من النقود. أضف إلى ذلك أن الانتخابات تفترض التغيير، والتغيير كلمة لا تعرفها أبدًا هذه المنطقة من العالم. قلت: لو أُعطي واحد مثل محمد خيري زمام الحكم لغير أشياء كثيرة، وحال دون الوصول إلى هذا الوضع. أطلق محمد باهر آهة: - آه محمد خيري! دلق كأس البيرة في جوفه قبل أن يضيف: - محمد خيري لو بقي حيًا لجعل من شوارع عمان الإسفنجية أكبر خزان ماء في العالم، لبدل، لغير، محمد خيري كان التغيير بعينه! محمد خيري كان الوطني الأخير! لو بقي محمد خيري حيًا لنزلت الانتخابات معك، ولصنعنا العجائب. محمد خيري لأنه أراد التغيير مات. - لم يمت، أقسم لك. - وجثته التي رأيناها معا؟ - جثة أي واحد لأجل إخفاء الحقيقة. استمع إليّ بانتباه، وحدق في عينيّ بعمق: - أنت متأكد؟ - كل التأكد. لقد مزق اليافطات الانتخابية في شارع الغاردنز. انبسطت أساريره، وابتسم: - لو أن الأمر كما تقول لكان أروع خبر سمعته في حياتي. راح يفكر في محمد خيري وعيناه تومضان بالثقة والفخار. قلت: سيتزوج ابنه من نابلسية يحبها. - متى؟ متى سيكون الزواج؟ - سأقول لك متى عندما يحضرها. نهض على حين غرة، وهو يشير إلى النادل، ويبحث في جيبه عن النقود ليدفع ويغادر المكان بأقصى سرعة: - ذكرتني بشجراته، في هذا الحر الشديد لا بد أنها تموت الآن من العطش! تعال نذهب لنسقيها! عاد إلى ذاكرتي الصوت النسائي الذي نادى عليّ في عالم محمد خيري، فعزمت على الذهاب إلى هناك مباشرة بعد شارع الغاردنز.
الفصل الثالث والعشرون
طلبت من محمد باهر أن ينزلني عند مطلقة محمد خيري، فهو يسكن في الصويفية غير بعيد عنها. قلت بسبب عرس يعقوبيّ، فلم نحدد بعد متى سيكون، وإرادة أبيه أن يُختن في يوم زواجه. خفق وجه صديقي احمرارًا، وابتسم: كأنك تحكي لي قَصَصًا قديمًا! دخلت عالم محمد خيري من بابه الخلفي، فوجدت كل شيء تماما كما كان عليه بالأمس، شارع الغاردنز الذي حطمت عماراته ومراياه، وتمثال روبيكا كلايتون الذي لم يتحرك من مكانه. فكرت حياة محمد خيري الماء، والماء سر حياته، فأخذت أبحث في المسبح عن منفذ إلى الطابق التحتي حتى خاب سعيي. خطر لي أن الصوت النسائي مصدره آلة الكترونية أملى عليها محمد خيري أوامره قبل اختفائه، فأخذت أبحث في مكتبه عنها دون أن أجد لها أثرًا. فكرت في رقية، وقلت لنفسي لديها حتمًا مفتاح ثان. ودون توقع، لم أجد تمثال محمد خيري في مكانه على عتبة ملهى الغاردنز. ضرب قلبي بعنف، واتجهت بقدم مصممة نحو الباب الداخلي، ومنه صعدت الدرج إلى الممر الطويل الذي وجدت نفسي عند نهايته أدخل قاعة كبيرة جلست في أقصاها رقية بانتظاري. صحت دون أن أتماسك: أنا متأكد الآن أن لديك مفتاحًا آخر، أعطينيه حالًا، وكُفّي عن كل هذه اللعبات! أقسمت لي بهدوء ناسكة أنه لا يوجد هناك سوى المفتاح الذي في حوزتي. قلت لها: - لقد اختفى تمثال محمد خيري، فكيف اختفى؟ سقط شالها الأسود للمفاجأة عن رأسها، ورفعت نحوي عينين سقيمتين: - لا يمكن ذلك! نَهَضَت بهدوء أزعجني كثيرًا، وسارت أمامي ببطء كاد يقتلني، وأنا أتبعها في الممر الطويل، وأنزل الدرج وراءها، وأدخل عالم محمد خيري بعدها، فأرى، وهي تشير إلى التمثال بإصبع كسولة، تمثاله الذي كان في مكانه قبل أن تسألني عمن حطم المرايا؟ رميت بنفسي على الأريكة، وقلت لاهثًا: - هناك سر أريد أن أعرفه. جلست رقية أمامي، وصمتت صمت حقل من العشب الأسود. - أرجوكِ، لا تخفي عني شيئًا. همهمَتْ: - أنا لا أخفي عنك شيئًا. وأمام حيرتي وترددي رجت: - أرح نفسك، فما كان ذلك إلا وهمًا! - لن أريح نفسي إلا عندما أعرف كل شيء. - إنه ضميرك الذي لن يرتاح، لأنك لم تستجب لمطلب محمد خيريّ، إنني امرأة معذبة إذا كنت لا تعلم! جلست قربها، وأمسكت يدها: - لا أستطيع الزواج منك، حاولي أن تفهمي. - وضعك أكثر تعقيدًا مما تسعى إلى إظهاره، فليس هذا لأن لك امرأة ترفض الزواج بي، وليس هذا لأنك دون عمل. تركت يدها، وأنا أطلق آهة متسائلة: - ما هذا الذي تقولين؟ علا صوتها، واجتاح عينيها وميض شديد: - الناس الذين هم مثلك لا ينتظرون، إنهم يفرضون أنفسهم على الجميع! أنت لست بالرجل الذي يبدأ الحياة من الصفر، أنت لست بالصغير! أنت كبير خبر الحياة، وملأها علمًا، وهم بحاجة إليك، وليس أنت، فلماذا يسعون إلى إقصائك؟ ما هو السر؟ أنت هو صاحب السر! هناك سر أريد أن أعرفه! قله لي لأفهم السبب الحقيقي الذي يدفعك إلى عدم الزواج مني، قل لي سرك! قل لي من أنت! أداخني كلامها، فذهبت غائبًا بعض الشيء مع أفكاري قبل أن أهمهم: - أنا ساحر عمون! وأخذت أحكي... الفصل الرابع والعشرون
- ذهبت إلى لوتيسيا في بلاد الغول يوم كنت شابًا أعشق السحر، وأرجو أن أكون عالمًا فيه. كانت بلاد عمون في ذلك الزمن البعيد لا تعرف عن مستقبلها السياسي شيئًا بعد أن سقطت بلاد جيريكو في أيدي المحتلين، وكنت لا أريد أن أدرس السحر لأعرف هذا المستقبل، ولكن لأن الماء قد بدأ يندر، وقد أردت أن أفجر بعصاي الينابيع الكامنة في بطن الأرض لأنقذ الناس، وأجنبهم أعظم جفاف. في لوتيسيا وسعت معارفي، واكتشفت آفاقًا جديدة. اكتسبت شهرة كونية أثارت الحسد في قلوب سحرتهم وسحرتنا، إلا أني لم آبه بهم. كان همي الوحيد أن أفجر الينابيع في كل مكان أنقذ الناس فيه، وأحفظ لهم حضارتهم، وأول مكان كان بلاد عمون التي أعددت لها مشاريع كثيرة، علها تقوى أكثر وأكثر، وتقوم في وجه الأعداء، فتستعيد بلاد جيريكو. لما علمت ربة جيريكو بقدراتي وإمكانياتي، سبقت ربة عمون، شقيقتها، واتصلت بي. كانت تأمل في العودة إلى بلادها، وبلادها تعيش أزمة الجفاف والعطش منذ قيامها. فماذا فعل السحرة من الحساد غير الإلحاح على تفاقم العلاقات بيني وبين ربة جيريكو وإقصائي عنها؟ وعلى أي حال لم تكن ربة جيريكو هذه صادقة في تحرير أقدم بلاد كانت تمتد في ذلك العصر من البحر إلى النهر. تمت القطيعة بيني وبين ربة جيريكو، فقالت لي ربة عمون إن بلادها بلادي، وبلادي تحتاج إليّ، إن عليّ واجب العودة إليها لأحقق فيها كل غاياتي. وبالفعل، عدت إليها لأكون ساحرًا عظيمًا من أجل شيء عظيم! فماذا فعل السحرة من الحساد غير منعي من لقاء ربة عمون وإقصائي عنها؟ وفوق ذلك، كان قد سبقني إليها ساحر أعجمي من طرف ربة الربات، كان يعمل من أجل نفاد الماء، فلا تكون بلاد عمون أحسن من بلاد جيريكو، وتقبل ربة جيريكو بالعودة إلى جيريكو مساحتها لا تتجاوز عدة كيلومترات خاضعة لإرادتها. حذرت من الجفاف العام الذي كان سيجتاح المنطقة، وكشفت للناس عن كارثة قادمة هي في حقيقتها ثلاث: كارثة الزلزال وكارثة الطوفان وكارثة الجراد! لم أستقر في مكان وقتذاك، وأنا أذهب عند الناس هنا وهناك، وأقول لهم إلى أن وصل كلامي آذان "برنس زمانه"، شقيق ربة عمون، فأقام الدنيا وأقعدها بحثًا عني حتى وجدني. أخبرني رسوله برغبة برنس زمانه في لقائي، وأضاف هو اليوم مع ناسه في الجنوب، يرعاهم، ويسأل عن أحوالهم، وحين عودته سيكون لنا اتصال. سألني إذا ما كان هناك ما أفعله في المساء، فقلت أنا مشغول دومًا بالسحر، فاقترح أن أمارس سحري في حفل عشاء يقيمه شيخ جليل من الجليل يعتبره هو وكل المدعوين والدهم. كان العشاء في بستانٍ كل أنواع الثمر فيه، وكان موقع البستان في قلب بلاد عمون، وفي القلب دومًا يتفجر نبع لا يجف يوم تجف كل الينابيع. أخذني الشيخ الجليل بين ذراعيه، فقلت له: من عندك ستنهض البلاد وتكون النهضة الكبرى! قبلني، وقبلته، وأنا أحس بين ذراعيّ بربى الجليل. كان في الحفل الوزراء والأمراء والنواب والأعيان والتجار والوكلاء ومن بسطاء الناس بعضهم، حدثتهم عن مستقبل بلاد عمون، وحذرتهم من الجفاف القادم. أشار بعضهم إلى الجنة التي كنا نجلس فيها، وقالوا لن يكون جفاف هنا، وأشار بعضهم باتجاه جيريكو، باتجاه طريق اسمه طريق الحديقة يربط بين جيريكو وعمورة، وقالوا سيأتي الجفاف من هناك. أخذهم الشك تارة، والضحك تارة، لكنهم أجمعوا كلهم على أن بإمكاني أن أفعل شيئَا عظيمَا، أن أدرأ عن البلاد الخطر. تساءلوا عن مدى السحر الذي يمارسه على الناس سحرة منهم لهم في طرائقهم غير طرائق الساحر الأعجمي، وفي أهدافهم غير أهدافه، فقلت الأهداف واحدة، وإن اختلفت الطرائق. أما عني، فلي طرائقي، وأهدافي، وكل شيء بيد ربة عمون وأخيها برنس زمانه. في آخر الليل، تواعدنا أن نلتقي، فلم نلتق، ولم يتصل بي برنس زمانه مع أنه لم يلغ كل اتصال، وأنا بدوري أرسلت له البرهان على ما أخاف من قادمِ نكبةٍ أختٍ لأخرى من أعظم النكبات، وبرهاني كان حجرًا من الصحراء أكثر كلامًا من ورقة بابيروس كتبها القُدامى. كان الحجر البرهان من غير شك على أن زلزالًا لم يسبق له مثيل قد دمر تلك الأرض بضع قرون من قبل، حجر دارت به دوائر طوفان، وعششت فيه أُمَّات جراد.
الفصل الخامس والعشرون
عندما أنهيتُ حكايتي، قهقهتُ، ورقية تنظر إليّ بعين الحذر. طلبت إليها ألا تصدق ما قلته، فتلك مهنتي، وأنا أحبك من القصص ما أشاء حتى تلك الأكثر غرابة. بدا عليها أنها لا تسمعني: - حكايتك ذكرتني بضرتي في نابلس. كانت ألقة وقوية ومن زوجها كان لها أبناء كثيرون مما جعلني أكرهها وأتمنى موتها. أردت أن تفقد كل جمالها وقوتها لأستعيد محمد خيري، وليدرك أنني أجمل منها بكثير. سكتت بضع لحظات، ثم: - إذا ما فهمت في السياق الذي ذكرته عن رب الأرباب الآمر الناهي مخضع الكل لإرادته، محمد خيري هو رب الأرباب هذا. لم تكن لديه مصلحة في أن تقوى إحدانا على الأخرى، أنا وزوجته النابلسية، لهذا أذلني، وجعل من روبيكا كلايتون زوجته بعد أن طلقني. سكتت بضع لحظات من جديد، وبدت مترددة، فدفعتها بنظرة مشجعة إلى المتابعة: - إذا كانت روبيكا كلايتون ترغب في هذا الزواج بأي ثمن، فلأنها كانت الأم البيولوجية للصغيرة كيم. أذهلني بوحها: - محمد خيري أبو كيم منها؟! - كنت أظن أنه أخبرك بكل شيء. - أخبرني بأشياء كثيرة، لكنه لم يقل لي إنه أبو كيم من روبيكا كلايتون. - في ذلك الوقت كان همه الأساسي الزواج من الأميرة نود التي توله بها، وليثبت لها حبه هجر الأميركية عن عمد وهي حامل. - والجارية عدنة؟ بدت مترددة من جديد، لكنها قررت في الأخير أن تقول لي كل شيء: - بالجارية عدنة أراد أن يثير غيرة الأميرة نود لكنه أثار ثائرتها، فقتلت الجارية عدنة، ورمته في السجن. تأوهتُ: - لم يقل لي هذا! - ماذا قال لك؟ - قال لي إن الجارية عدنة هي أم كيم، وإن روبيكا كلايتون ربتها بعد وفاة أمها في اليوم الذي ولدتها فيه. ابتسمت رقية، وظلت صامتة. سألتها بعد أن نجحت في زرع الشك في نفسي: - وزوجته ظبية نجران؟ - هو من قتلها! لم يدخل عليها ليلة زواجه منها، وتركها طوال الوقت عذراء، لأنها كانت في ظنه سبب موت وردة السراة. أحب وردة السراة حبًا جنونيًا، وأحضر لها الأطباء من كل عواصم العالم، ولم يستطع إنقاذها، ولغيظه أراد الانتقام من أختها ظبية نجران. لم يستمع إلى توسلاتها، ولم يأبه بآهاتها طوال الليل، أراد أن يعذبها حتى الموت كي ترتاح وردة السراة في قبرها. وبالفعل، هذا ما حصل. عذبها نفسيا عذابًا كريهًا إلى أقصى حد قبل أن يزرع فيها أخيرًا سكينه ليتخلص منها. اضطربت لما باحت به اضطرابًا هائلًا، فرمت ساخرة: - ما كل براق ذهبًا، مع الأسف! ثم أضافت: - عندما قبل بالزواج من روبيكا كلايتون لم يكن هدفه أن تحمل كيم اسمه، فهو قد سماها عيساية على أي حال، وإنما أن يدفع روبيكا كلايتون إلى الارتماء في أحضان غريميه بشير آل بشير وقيس آل قيس، فتؤثر فيهما، ويبيعان له كل الأراضي التي لهما في عمان، ليشق ليس شارع غاردنز واحدًا بل عشرات. كان ملهى الغاردنز فكرته إذا أردت أن تعرف، ليجذب أسماك القرش إليه، أما روبيكا كلايتون، فقد كانت الشِّباك الذي رماهم فيه. هجست وأنا في كامل اضطرابي: - لم أكن أعلم أن بإمكان محمد خيري أن يفعل كل هذا. قالت بكل بساطة: - لو كانت روبيكا كلايتون هنا لأخبرتك بما عانته بنفسها. - ألم تمت؟ - بعد أن فشلت خطته المخادعة، عمل على إذلالها إذلالاً لم تذقه واحدة من نسائه وعلى تشويه سمعتها في أعين الناس. ستقول لي وحب محمد خيري وحنانه أين ذهبا؟ كانت تلجأ إليّ من وقت إلى آخر، وكلها يأس، فأقرأ على وجهها رعب بوم في ليل دموي هو حب محمد خيري، وأرى على جسدها جراحًا لمخالب ذئاب متصارعة هي حنان محمد خيري... نعم، من يحب كثيرًا يعاقب كثيرًا! وفي الأخير، أعادها إلى بلادها بعد أن أرسل ابنتها عند زوجته المحتضرة وحرمها منها. - روبيكا كلايتون لم تعد إلى بلادها، إنها مختبئة في مكان ما هنا. لم تعلق على كلامي، قامت، ووقفت بين يدي تمثال "الفقيد" الشامخ عظمة وصلافة: - بعد أن فشلت خطته في التأثير في غريميه بواسطة أميركيته، أرغمني على الزواج من بشير آل بشير الذي مات مثلما تعلم، فانتقم منه، وتصرف بالإرث الذي تركه لي، ثم أرغمني على الزواج من قيس آل قيس الذي كان له نفس المصير، فانتقم منه هو الآخر، وتصرف بما تركه لي من إرث؟ وفي الأخير، أرغمني على الزواج من سعد السلطي الذي لعشيرته نصف السلط، واليوم بعد مماته أنتظر إرثًا كبيرًا هو لك إذا ما تزوجت بي كما أراد محمد خيري. - أنا لا أطمع فيك. - ولكنك أنت شيء آخر. - لن يرغمك أحد على الزواج مني. أنت تعرفين رأيي. بدت خائبة الظن: - أعرف، لهذا السبب يزداد تعلقي بك، فأنت لست كالآخرين. عادت إلى مكانها، وسددت نظرها إليّ: - أما ما فعله بضرتي التي في الضفة فشيء آخر. أراد أن يزوجها من بِشر آل بِشر الإسرائيلي، فرفضت، ثم من قوس آل قوس الإسرائيلي، فأصرت على رفضها. كان يريد أن يملك سماء نابلس بعونهما، فيبني التلفريك الذي يحلم به، ويشق في السحاب شارع غاردنز ليس مثله أي شارع في العالم. عندما رَفَضَت، وأَسْقَطَت مشروعه الجنوني، منع عنها كل شيء، الماء والمال... وتركها في فراشها شبه ميتة. قلت بصرامة: - ضرتك لم تزل تحتضر! عقدت بين حاجبيها: - بالأمس كنت أكرهها، واليوم أعطف عليها، وأتمنى لها الموت. - حتى الموت لن ينقذها مما هي فيه. - أنا أرى الخلاص في الموت، إنه وسيلتي للابتعاد عنك، فمن سيبقى لي بعدك ليخفف عني عذابي؟ - لقد أخبرتك بسري، سر ساحر عمون. - أنت لن يمكنك البقاء، لناس هنا سحرك لا قيمة له. - أريد أن أترك في هذا البلد شيئًا من ورائي، أريد أن أزوج يعقوبيّ. - يعقوبيّ ذهب لإحضار عروسه من نابلس. أراحني أن أسمع منها ذلك، واقترحت أن يكون العرس في الأسبوع القادم. أقرت اقتراحي، وهي تبكي. - لماذا تبكين؟ - أبكي لأني أعرف ما سيكون مصيري. رجوتها أن تجفف دمعها، ووعدتها بحمايتي لها. رأيت في وجهها الحزين اليائس كل يأسي، وارتعبت على فكرة أن تكون رقية ضحية هذا اليأس. سألتها مرة أخيرة إذا ما كان ختان ابنها ضروريًا. سددت نظرها إلى تمثال محمد خيري قبل أن تقول: - كانت أغلى رغبة لديه، ورغباته كانت ولم تزل أوامر عليّ!
الفصل السادس والعشرون
لم تخلع رقية ثيابها السوداء في يوم عرس ولدها وختانه، كانت تجلس مع العروس، والعروس في ثياب العرس البيضاء تبتسم بأسنان كلها من الرصاص، وتسلم بيد مقطوعة أخذت بقاياها شكل رأس الحية. في الحجرة المجاورة، كنت برفقة يعقوبيّ، وهو يقف وسط الرجال بثوبه الحريري الأحمر: كان يشبه بتعابيره الناعمة وقامته النحيلة فتاة خجلى. كان كل الأصدقاء هنا: بركات جمجوم، ومصطفى شريف، ومحمد باهر، ووصفي حبيب، ومجد الدين الطاهر، وأيمن السيوف. لم يتوقف بركات جمجوم عن ترداد: انتحار! انتحار! وابتسامة الطفل لا يمكنها إخفاء الحزن في وجهه الذي هرم كثيرًا. وبالفعل، كانت الدنيا تنتحر وتتفجر لشدة الحرارة، فقد ذهبت موجة الحرارة الشديدة السابقة منذ عدة أيام، وأتت أخرى أشد وأقوى. كنا كلنا صامتين، ننتظر قدوم العطار من أجل الختان، وكأننا في مأتم. نفخ مصطفى شريف، وأتاني يسأل من سندفن؟ قلت سنضع الأغاني بعد أن ننتهي من المراسم. عاد إلى مكانه، وهو يحك أنفه، ويغمض بقوة عينيه، ويعود ويحك أنفه، ويغمض بقوة عينيه، ويعود ويحك أنفه، ويغمض بقوة عينيه، فظننت أنه يريد أن يغمضهما وألا يفتحهما إلى الأبد، وما لبث أن رماني بنظرة رجاء وحزن. في الأخير، أخذ يتراشق هو ومجد الدين الطاهر ببعض الكلام الساخر، فبذلنا ابتسامات طفيفة، وعدنا ننتظر العطار الذي جاء في النهاية، وهو يقطر عرقًا، ويعتذر لتأخره بسبب صعوبة السير. ذهب بيعقوبيّ إلى زاوية، وجعله يعطينا ظهره، فرأينا وجه العطار المتوتر، وشاهدناه، وهو ينقل بيدين مرتعشتين أدوات الختان. فجأة، صرخ يعقوبيّ كعقابٍ ذبيح، ورأينا الدم يرشق وجه العطار، ويعقوبيّ يسقط على كرسي نصف غائب عن الوعي. عندما أنهى العطار تضميده، أشار إليّ، فأشرت بدوري إلى مصطفى شريف، وأتينا نرفعه كل واحد من طرف لنذهب به إلى غرفة النوم. كانت طبلات النساء قد ملأت السموات بالتام تام، وكان مصطفى شريف قد سارع إلى وضع شريط للشاب خالد، وقد انطلقت الزغاريد، وأخذ إخوة يعقوبيّ يوزعون السكر والحليب على الحاضرين. وشيئًا فشيئًا زالت الحواجز بين النساء والرجال، فاختلط الحابل بالنابل، وأخذوا يرقصون معًا، ويغنون. ومصطفى شريف لم يرتح دقيقة واحدة، ولم يرح أحدًا له زوجة، إذ كلما أراد زوجٌ من الناس أن يأخذ بعض أنفاسه، جذبه، وأعاده إلى الرقص من جديد. أما أنا، وغيري من "العازبين"، فقد تركنا نمضغ وحدتنا على مهل. لكن رقية أجلستني بينها وبين العروس، وهي ترميني بنظرات والهة. ولتجنب نظراتها تلك، انتهى بي الأمر إلى النهوض، والاختلاء في معبد صديقي. ذهبت مباشرة إلى تمثالي محمد خيري وروبيكا كلايتون، فتأكدت من أنهما في مكانهما، ووجدت شارع الغاردنز على عهده بعد أن بدل أحدهم مراياه المحطمة، وأعاد الماكيتات إلى وضعها السابق. أخذت أخاطب محمد خيري بصوت غاضب، وأطلب إليه الظهور. قلت له: أعرف أنك هنا، فتعال نحتفل بزواج ولدك وختانه! أليس أنت من أراد ذلك؟ فجأة، ارتفع حزام المسبح، وانقلبت أرضيته، فتجمع الماء في نصف الحوض، وفي النصف الآخر ظهر درج ينتهي بباب تحت الأرض. انفتح الباب، وصعدت روبيكا كلايتون، وبيدها جهاز آلي. سمعتها تقول، وأنا أفغر فمي على سعته: - لا، لم أمت، ولم أعد إلى بلدي. أشارت بإصبعها إلى الدرج: - أعيش في هذا السبْيوس. دار رأسي، وهمهمتُ: - كنت أعلم، كنت أقول لنفسي إذا لم يكن محمد خيري، فلن يمكن أن يكون أحد آخر إلا أنت. اتجهتْ إلى تمثاله: - ترددت أكثر من مرة قبل أن أكشف لك سري، لأني كنت أخشى نتائج فعلي الوخيمة. صديقك إنسان دمويّ، لم تكذب عليك رقية بخصوصه. إنه لا يتوقف عن تهديدي، وإذا لم أستجب لما يوجب قتلني. - ولماذا تخاطرين بحياتك؟ - لأنقذ حياة رقية. - ماذا تقولين؟ لتنقذي حياة رقية! - سيقتلها خلال العرس، فهي تعرف عنه أشياء كثيرة. وفوق هذا، رقية تحبك في حال ما إذا كنت تجهل ذلك. وهي تراني في غاية الاضطراب، طلبت مني الجلوس معها هناك حيث كنت أجلس مع محمد خيري: - صديقك طاغية مستبد فعلاً! لا شيء يوقفه عندما يتعلق الأمر ببلوغ أهدافه. تنهدت تنهدة عميقة، وراحت تحكي...
الفصل السابع والعشرون
- عرفت محمد خيري في النادي الأميركي في السعودية. كان يأتي من وقت إلى آخر للصيد، صيد النساء طبعًا. نحن الأميركيات، كنا نجد لديه شيئًا سحريًا. لم يكن أديمه البرنزي ولا ابتسامته اللؤلؤية، لم يكن الذكاء المومض في نظرته ولا عيناه الكاسرتان، ربما كانت طريقته الغريبة في الظفر بنا. كان لدينا إحساس بالعيش معه أكبر متعة في أقل وقت. في المرة الأولى التي كلمني فيها، كنت آخذ كأس ماء معدني مع خطيبي رولاند، لم يعبأ بوجوده أو يهتم. فاجأني، عرف أنني مهندسة زراعية، وبما أنه كان يحفر آبار الماء قدم لي خدماته. شكرته. لم يكن يكفي أن يكون لديك جهاز لاستكشاف الينابيع كي تأمل في الوقوع على ماء في تلك الصحراء المترامية، وتحويلها إلى جنان النعيم. كان من اللازم تطبيق خطة للتخصيب، وأنا كنت قد التزمت بالعمل من أجل ذلك. ألح، طلب مني أن أرافقه إلى الورشة كي ألقي نظرة: ومنذ تلك اللحظة ضعت دون أن أعلم. لم أعلم إلا فيما بعد أنه أرغم خطيبي على الاستقالة والعودة إلى أميركا، ما كان بإمكاني حتى تصور ذلك. كنت أحب محمد خيري، وكنت أريد الزواج منه، فرفض تحت حجة أني كنت أميركية. كانت صدمتي الأولى: كنت أعتقد أن زواجنا سيسعده ويسمح له بمواجهة عادات ذلك البلد. احتد، وشتمني، وسخر بي. كشف لي عن وجهه الحقيقي، وقال لعلاقاته معي هدف واحد: أن يصل عن طريقي إلى الأميرة نود. رفضت أن ألعب هذا الدور، فكان جوابه ضربي. لكن الأميرة نود كانت تبحث عن المتعة تمامًا مثله، فأخذته مني دون أن تشك مع ذلك فيما أحس. في ذلك الوقت، كنت أحبه بجنون. كانت أمي دائمًا ما تريدني أن أكون راهبة خاضعة للرب، وحصل ما كان متوقعًا: خضعت لمحمد خيري كما لو كان ربي. نذرت نفسي له، لكنه كان يهزأ بي. كان يقول لي: إن جسد الأميرة نود يساوي كل أميركا، فجعلني أغير منها، وغيرتي جعلتني امرأة شنيعة. ثم كان يأخذني بين ذراعيه، ويمزقني عناقًا. ومن ناحية ثانية، حاول أن يؤجج غيرة نود التي رفضت الزواج منه لأنه لم يكن أميرًا، وذلك بإغواء عدنة، إحدى جارياتها، وكانت النتيجة ما عزمت عليه نود من قتل الاثنين، لكني رجوتها ألا تفعل، فرمت محمد خيري في السجن، وطردت عدنة التي جاءت في ذلك اليوم تطلب عندي ملجأً. أثناء وجوده في السجن، فكرة أن يغدو أميرًا كانت تكبر فيه، وما أن أطلق أبو فيصل النجداوي سراحه حتى طلب منه يد وردة السراة ابنته الكبرى، فقبل أبو فيصل مطلبه دون تردد. كان يقدّر محمد خيري كثيرًا، ويعتبره مثل ابنه، هو من كانت له ابنتان: وردة السراة وظبية نجران التي وقعت في غرامه من أول نظرة في اليوم الأول من زواج أختها. كان الكل سعيدًا ما عداها، والغيرة تنهبها نهبًا. وابتداء من تلك اللحظة، وُضعت خطتان في حيز التنفيذ: خطة محمد خيري الذي كان يسعى إلى كنية أمير، وخطة ظبية نجران التي كانت تريد اختطاف محمد خيري من أختها. نَزَعَت الحجاب في حضرته معتبرة إياه كأخ لها، وكان جمالها يغطي عشرة أضعاف جمال وردة السراة. ومع ذلك، لم يعرها رجلنا أي اهتمام. كان لا يفكر إلا في الإمارة. ادعى أنه حفيد من أحفاد الرسول، فرفعته القبائل إلى الأعالي. راح الجميع ينظر إليه كواحد من العظماء، وارتقى به الجميع إلى منزلة الأشراف التي كان يحظى بها أبو فيصل. في أحد الأيام، وجد زوجته وردة السراة مريضة، وإلى جانبها أختها ظبية نجران تبكي. كان على وشك أن ينفق روحه خوفًا عليها. قال الأطباء إنها حبلى، فجعله الخبر سعيدًا، وتظاهرت ظبية نجران بالفرح. لكن حالة وردة السراة قد أخذت بالتدهور يوما عن يوم، وفي الوقت ذاته اجتاح البلد محل لا مثيل له. كانت للطموح فرصة الفرص: فَتَحَ آبار الماء للقبائل، فتجاوز بهيبته هيبة النجداوي. اقترح بعض الرؤساء أن يجعلوا منه سيدًا لكل قبائل القصيم، مما زاد التنافس بين الرجلين محمد خيري وأبي فيصل النجداوي وبين المرأتين وردة السراة وظبية نجران. سممت الظبية الوردة ليتزوجها العظيم، فأتى هذا بالأطباء لزوجته من الهند والباكستان وإنجلترا. قالوا كلهم إنها على وشك الموت، وإنهم لا يمكنهم إنقاذ طفلها. عندما ماتت بكاها زوجها، وأحزنه غيابها، وكانت اللحظة المناسبة لأبي فيصل النجداوي كي يتخلص من منافسه. عند ذلك، عرضت ظبية نجران نفسها عليه، فرفض العرض في البداية. كان لم يمض وقت طويل على فقدانه لزوجته، وكان على وشك أن يصبح أميرًا دون عون ظبية نجران، وانتهى به الأمر بعد ذلك إلى الخضوع لجمالها، وهو يتخيل كل جزيرة العرب تحت إمرته. بزواجه من ظبية نجران سيبلغ مرامه. أخيرًا، وعلى الرغم من إنكار الأب، تزوجها محمد خيري، ولكنه سريعًا ما أدرك أنه لم يزل على حب وردة السراة، وأنه لا يحتمل سيطرة زوجته الجديدة عليه بهواها. هجرها، حتى أنه تخلى عن فكرة أن يصبح أميرًا. وهن عزمه، وسقط مشروعه في الماء. عَزُفت روحه، وليعزي نفسه شق شارعًا في قلب الصحراء سماه شارع الغاردنز، كان ساكنه الوحيد. كانت أشجار ذلك الشارع ميتة، وأرصفته مغطاة بالرمال. أقام مكبرات للصوت على الأسطحة، ومن وقت إلى آخر، كان بموسيقاه يقرع أبواب السماء، ويعوي عُواء حادًا مدمرًا يخرج من أعمق نقطة في أحشائه، فتأتيه الذئاب من أبعد مكان في القصيم من أجل قضاء سهرة هوس وجنون تمتد طوال الليل.
الفصل الثامن والعشرون
سقطت روبيكا كلايتون في الصمت، ولم نعد نسمع غير قرع الطبول وصيحات الفرح: كان العرس فوق قد بلغ أوجه. نظرت إلى محدثتي، وأنا بين مصدق ومكذب، فنَهَضَتْ، وهي تؤكد عودتها عاجلًا. هَبَطَت الدرج، وما لَبِثْتُ أن سمعتها تكلم أحدهم دون أن يمكنني الوقوف على ما تقول. أردت اللحاق بها إلى طابق ما تحت الأرض، لكنها عادت بسرعة. - هل هي ابنتك كيم التي معك تحت؟ - لا. - سمعت مع ذلك... - كان التلفزيون الذي أطفأته. لم يقنعني جوابها، فهي التي كانت تتكلم. - هل أنت متأكدة؟ قالت لتزيل شكوكي، وهي تشير إلى الدرج: - لو أنه لا يمنعني لجعلتك تقوم بزيارة. هدأت الطبول فجأة، وهدأ الناس، فاستنتجت أن وجبة الأكل قد حان وقتها. دعوت الأميركية إلى متابعة قصتها، فنظرت إلى الساعة قلقة، ثم نظرت إليّ: - هَجْرُ محمد خيري لبيته كان في صالحي، أعادني إليه كمن يعيد الشمس الباحثة عن عناق الرمل بعد كسوفٍ طال. دمرني بحنانه. فتكت الشهوة بي، ففجر فيّ كل الينابيع التي أردتها لإخصاب جزيرة العرب. أخذني إلى شارعه المهجور هناك حيث كنت أعوي وأرقص معه. كان يقول لي: لا يوجد ملهى في هذا الشارع، كل الشارع ملهاك! كانت سعادتي هائلة، ولم أكن أريد لها الانتهاء. كنت خائفة من استسلامه لجمال ظبية نجران الخيالي. كانت نوعًا من النبيات الكاذبات اللواتي لهن غير الفضيلة مسلك، ومن وجهة النظر هذه كان يشبهها. في ذلك الوقت سَقَطْتُ حبلى منه، فأشبعني ضربًا، وأوجب إجهاضي، لكني رفضت. عند ذلك، ذهب مع عدنة إلى بيته. كان يجامعها على مرأى ومسمع ظبية نجران. كان يعامل ظبية نجران معاملة الكلاب كي يدفعها إلى الانتحار. وذات صباح، نهضنا على خبر موتها، فهل انتحرت بالفعل أم أنه قتلها؟ ابتداء منذ ذلك اليوم، أخذ أبو فيصل النجداوي يشك في محمد خيري. أطاح به في ممالك القبائل التي فاز بثقتها بفضل آبار الماء، لكن صديقك لم يتأخر عن الفعل: استدرج أبا فيصل النجداوي إلى الصيد حتى أقاصي القصيم، ولم يعد أبو فيصل النجداوي بعد ذلك أبدًا. وهكذا حقق محمد خيري هدفه: رفعته كل القبائل إلى مرتبة الأمراء. ظن أن بقدرته، والأمر كذلك، الزواج من الأميرة نود، ومع ذلك، رفضته الأميرة لأسباب أجهلها. لتحقيق أهدافه وللتخلص مني ذهب به الحال إلى إن يطلب مني إخفاء كونه أبا طفلتي، وعندما ولدت كيم أجبرني على إرسالها إلى أميركا عند أمي. ذات يوم، بعد أن أسدل الستائر، وأغلق الباب، أتاني يهمس في أذني أنه يفكر في ترك جزيرة العرب مع أكبر مبلغ ممكن من النقود ليذهب إلى الأردن. عند ذلك، ظننت أنه تخلى عن نود، وأنه سيتزوج بي، فرأيتنا أنا وهو وكيم نغرق في بحور السعادة، إلا أنه أذهلني عندما طلب إليّ الذهاب إلى أميركا وحيرني، ليس لإحضار كيم، وإنما كان مني يريد فرقًا للرقص والغناء لملهى يرمي إلى بنائه في عمان تكون لي منه نصف إيراداته. ولم تكن آخر مفاجآته عندما فتح باب إحدى الغرف، وأدخل شخصًا عجيبًا لا يصدق كان لِيمه: - روبيكا، ها هو أخي. سيأخذ مكاني هنا من الآن فصاعدًا.
الفصل التاسع والعشرون
تذكرت، عند ذلك، أن لصديقي عدة إخوة يشبهونه تمام الشبه. قلت لروبيكا: - صحيح، محمد خيري وإخوته يتشابهون حتى ليلتبس الأمر ما بينهم، ولهم نفس العمر تقريبًا. أضفت: - إذن، كان أبعد ما يكون عن اليأس كما اعتقدت، لكنه كان يريد الزواج من الأميرة نود. اتَّفَقَ معها على أن يحل أخوه محله الوقت الذي ينفصل فيه عن رقية، وبانتظار ذلك، سيدير أخوه أعماله كما لو كان هو، دون أن يعلم أحد بالأمر ما عداكما أنت والأميرة نود. - هل أقول لك شيئًا؟ كانت الأميرة نود تجهل كل شيء، وكنت الوحيدة التي تقاسمه سره. تركتني أروح مع أفكاري: - ولماذا في رأيك أخفى عنها الحقيقة؟ كان السؤال الذي تنتظره: - لأنه كان يخفي سرًا آخر غير سر أخيه. - ما هو؟ - لم يكن يريد ترك رقية ولكن قتلها. - ولكن لماذا؟ - سبق وقلت لك. لأنها كانت تعرف أشياء كثيرة عنه. كان يمكنها أن ترميه في السجن ليقضي فيه باقي أيامه. وليس هذا فقط، كان يمكنها أن تشنقه. - كيف هذا؟ صمتت قليلا، ثم أخذت تكشف لي السر قليلًا قليلًا، سر تلك الرغبة الملحة في قتل رقية: - أرسلتُ له من أميركا فرقةً للرقص، وقليلاً فيما بعد، وصلت إلى عمان مع كيم كي أضغط عليه، فيتزوجني، وكيلا نغادر أبداً الأردن. الحقيقة أني لم أكن أصدق حبه للأميرة نود، لم أكن أعتقد أنه كان مستعدًا للتضحية بكل شيء من أجلها. في رأيي، السبب الوحيد الذي كان يشده إليها جنون العظمة، وكنت أعرف أن بإمكاني إرضاء هذا الجنون بشكل أو بآخر. كنت مستعدة لقبول كل شيء من أجل الاحتفاظ به، وكنت أنا من تحبه، وأنا وحدي. في ذلك الوقت، كان يقدمني للناس زوجة له، وكان ذلك يسعدني. كنت أحثه على الطلاق في أسرع وقت ممكن ليصبح أسعد رجل في العالم تحيطه ابنته كيم وأنا، مما كان يجعله يضحك. في أحد الأيام، طلب مني أن أشرب كأسًا مع قيس آل قيس وبشير آل بشير اللذين كانا يمتلكان كل الأراضي المحيطة بالملهى. كان عليّ أن أدفعهما إلى بيع هذه الأراضي له، وبالمقابل سيفكر في أمر زواجنا. لم تكن المهمة صعبة مع الرجلين، فالشقراء الأميركية التي كنتها كانت تؤثر عليهما تأثير عصا سحرية. باعا لزوجي الذي لم يكن زوجي كل قطع الأرض المرغوب فيها بثمن بسمة أو لمسة. من ناحية، بقيت وفية لمحمد خيري لأني كنت أحبه، ومن ناحية ثانية، لأنه قدمني للناس كزوجة. كان قيس وبشير يبديان دهشتهما: في رأيهما، الشرف في أميركا يشرى ويباع ككل شيء. في الواقع، ما باعاه من أرض لم يكن شيئًا كبيرًا، عمان كلها كانت لهما. وكانا يجهلان في ذلك الوقت كما كنت أجهل مشاريع محمد خيري بما فيها الشارع المشابه لشارعه، والذي تركه بعيدًا، بعيدًا جدًا في الصحراء. أخيرًا طلق محمد، وفاجأني بطلب الزواج مني. كانت أسعد لحظة في حياتي وحياة كيم التي تعلقت أكثر فأكثر بأبيها. رأيت أحلامي كل أحلامي تتحقق، ولم أعد أفكر في هدفه الثاني: قتل رقية. ما كان بإمكاني أن أعرف. كنت أريد فقط أن أعطيه كل ما فقده في الماضي، وأن أصبح حبه المجنون. كنت أريد أن أكون له شمسًا وجليدًا في آن واحد. كنت أريد أن أرمز إلى كل ما هو لا منطقي ولا معقول في الحب. كنت أريد أن أحتفظ به إلى الأبد. كنا سعداء. شق زوجي شارعه، شارعه الغريب الإسفنجي مع تواطؤ سعد السلطي، وفاجأ الجميع. لكن طمعه لم يقف عند ذلك الحد، كان يريد كل عمان، كل الأردن، كل المنطقة، كل الكون. زوّج زوجته السابقة رقية من قيس آل قيس الذي مات، وبعد ذلك، من بشير آل بشير الذي مات بدوره. كان غالبًا ما يتغيب: في الضفة، في العقبة، في دمشق، في بغداد. فوض إليّ أمر الملهى، لكني لم أكن أستطيع حمل كل ذلك العبء. غادره الزبائن، إضافة إلى الشائعات التي كانت تدور حول موت زوجَيْ المرأة الشابة والفضيحة التي كانت على وشك الانفجار. عندما رأى كيف الملهى يفلت من بين يديه، والملهى كل حياته، رماني في قفص، وهو يصرخ كمن أصابه مس من جنون: هذه المرة، سأذيقكِ الأمرّين، سأحرمكِ من كيم ابنتك! رجوته: أقبل بدفع الثمن القفص الذئاب السباب ما عدا فراق ابنتي! أرْسَلَهَا، رغم ذلك، لتعيش عند زوجته المحتضرة في نابلس، وعاد إلى ضربي. لجأتُ إلى رقية، وبكيت بين ذراعيها، فهدَّدَتْهُ بالكشف عن كل شيء، وبرميه في السجن.
الفصل الثلاثون
عاد الهّرْجُ والمَرْجُ في الطابق العلوي أكثر مما يجب: طبلات وأغان وموسيقى وصيحات فرح على موجات. اتجهت روبيكا كلايتون إلى الثلاجة، وتناولت زجاجة ماء معدنيّ. أحضرت كأسين قدمت لي إحداها. قلت: - الظمأ الذي سببته لي قصتك لن ترويه كل بحار العالم. نظرت إلى ساعتها، وأشارت إلى السقف: - اللحظة الحاسمة تقترب. قلت لها بحميّا: - تابعي قصتك. وضعت كأسها الفارغة على الطاولة قبل أن تعود إلى المتابعة: - في نابلس، حاول أخو خيري أن يسرق البنك حيث كان يعمل زوجي على اعتبار انه هو، لكنه أخفق. عاقبوه عشرين سنة حبسًا. في ذلك الوقت اختفى رجلنا كليًا. ثارت الشائعات: هناك من أكد وجوده في الكمرون أو في السنغال، وهناك من جزم بزواجه من أميرة سوداء تملك مناجم الذهب والماس. لم يعد إلا في اليوم الذي خرج فيه أخوه من المعتقل ليقتله، ويخفي جسده. وبعد ذلك، عاد إلى حياته بشكل عادي. هذا هو سره: لقد قتل أخاه ابن أمه وأبيه. رقية وحدها من يعرف هذا. كشفت لي عنه قلبًا وقالبًا. لهذا السبب يريد التخلص منها. - وأخوه الذي أخذ مكانه في السعودية؟ - لم أحك عنه لرقية أبدًا بدافع الحذر. همهمت: - ربما كان أخًا آخر، من الآن فصاعدا كل شيء ممكن. - تقول رقية كل إخوته ماتوا في الحرب أو في المقاومة. - غريب أمره! شيء ما يفلت منه. - رقية تحت رحمته، ولن يتردد عن قتلها كما قتل أخاه وظبية نجران. قتل هذه المسكينة بسكين أنهى حياتها وعذرتها في ضربة واحدة. لقد اعترف بكل شيء بما في ذلك سمه لأزواجها الثلاثة. وبعد ذلك، أقحم إخوة زوجها الثالث الذين كانوا على استعداد للانتقام. هكذا يبقيها عبدة له، وعندما يتم له قتلها سيتهم إخوة السلطي. وفوق هذا، لعب لعبة المهرب: أخو السعودية هو من ذهب إلى العراق ومحمد خيري نفسه هو من باعه للضباط العراقيين، ليجعل الجميع يظنون أنه ميت، فيتصرف كما يحلو له. وانطلاقًا من هذا الأمر، سأشرح لك لماذا أرادك محمد خيري أنت أن تحل قرب رقية محله. - أنا! لماذا؟ - كان محمد خيري يعرف جيدًا أنك لن تقبل بالزواج منها، فتعود له نقود زوجها الثالث حتمًا. كان ذلك فقط لتهدئة رقية قبل قتلها هذه الليلة. لقد هددني بالموت أنا أيضا إذا كشفت خطته لأيٍ كان، لكني لم أعد أستطيع السكوت. أعرف أنك قادر على إبطال مراميه المهلكة، وعلى حمايتنا أنا وهي. ولهذا السبب قلت لك كل شيء. نظرَتْ إلى ساعتها، ثم يسارًا، فيمينًا: - سيصل بين لحظة وأخرى. عجل، واعمل شيئًا قبل فوات الأوان. نهضَتْ تريد العودة إلى الاختباء تحت الأرض، فأمسكتها من يدها: - لم تقولي لي دوما لماذا تختبئين ومع من؟ - أنا مضطرة إلى الاختباء لئلا يراني أحد، فهو يخفيني كيلا أكون لأحد غيره، لأنه يحبني. في الوقت الحاضر، هو يحبني أكبر حب، أكبر من حبي له. لقد نعم قلبه، وتوله بي. هذا القلب الذي بقي صلدًا كالصخر نحو رقية. حررت يدها: - ستقول لي القلب الذي من حجر لا ينعم حتى ولو حاولنا سحقه بالمطرقة. كن على حذر! إنه لا يحبك، وهو يمسك بك لغرض ما، وقد ترك لك الحياة ليستخدمك، فقط ليستخدمك. أخذَتْ ترتعش على سماع خطوات تقترب: - أنا ذاهبة. لا تحكِ عني لأحد. الوداع! لكنها وهي تنزل الدرج باتجاه مخبئها، دفع محمد خيري الباب الأرضي، وقطع عليها الطريق.
الفصل الواحد والثلاثون
كان محمد خيري ثملاً. كان يبدو عليه أنه شرب بحرًا من الكحول. جذب روبيكا كلايتون من شعرها، وهددها بحرق كل شيء بما أنها كشفت سر مخبئها. أمرها بالعودة إلى تحت الأرض، وأعاد المسبح إلى وضعه بينما الماء يتراقص على إيقاع طبل لا يَكِلّ. كَبّ الماء المعدني في الحوض، وأحضر زجاجة ويسكي وكأسين، فرفضتُ الشرب معه. سألني: - ماذا قالت لك تلك المجنونة؟ - قالت لي إنك عازم كل العزم على قتل مطلقتك. جرع كأسه دفعة واحدة، وراح يضحك: - وماذا أيضًا؟ - قالت لي أشياء كثيرة. أنت المذنب. لماذا يا محمد؟ لماذا؟ ماذا جرى لك؟ لماذا كذبت عليّ؟ - صحيح، لقد كذبت عليك. لكن هذه الأميركية لعينة، لا تصدقها؟ - ولماذا تخشى رقية على نفسها؟ - ليس أنا، أقسم لك. - من إذن؟ - إخوة زوجها الأخير. - لا، ليس صحيحًا. - أنت تشك فيّ؟ أنت تشك في صداقتي؟ - نعم. أخرج الآن، وخاصة لا تعد. صب لنفسه كأسًا أخرى، وجرعها دفعة واحدة: - اسمع أولًا واحكم ثانيًا. نهضت: - لا وقت لديّ. زواج ابنك يجري فوق، ومن واجبي الحضور. سحبته من ذراعه: - تعال معي. لماذا لا تأتي معي؟ انه ابنك يعقوبيّ، لماذا لا تأتي معي لتفاجئ الجميع؟ - لأني ميت في عيون الكل، ولأني لا أريد أن أسبب له الألم ليلة زفافه. - على العكس، سيسعده هذا منك، وسيسعد رقية. إذا صعدت معي سأتزوج بها كما طلبت، لكنك لم تكن صادقًا، كنت تسعى فقط إلى أن ألعب دورًا في خططك الجهنمية بانتظار أن ترتكب جريمتك. اسمع، صعدتَ أم لم تصعد سأتزوج رقية. إنها الوسيلة الوحيدة لمنعك من تصفيتها. - أقسم لك أني أقول الصدق. اجلس قليلًا كي أحكي لك. لن أطيل عليك، سأقول لك كل شيء هذه المرة. بعد ذلك يمكنك اللحاق بيعقوبيّ ورقية وكل الذين هم فوق لتأخذ مكاني قربهم. سأذهب بعد قليل، وعيناي مليئتان بالدموع، ولن أعود إلى الظهور ثانية. دفعني أمامه، وجعلني أجلس، وهو يقدم لي كأسًا قبلتها هذه المرة. صب لنفسه كأسًا ثالثة، وجرعها دفعة واحدة. حك عينيه الحمراوين، ثم نظر إلى الضوء المتلألئ في ماء المسبح. كان يصطاد الماضي فيه، وبدت له أولى الصور: كان يرى نفسه في سجن نابلس. - أذكرُ زنزانة الجليد، قضبانها المتجمدة، يطاردني البرد أينما ذهبت بما في ذلك الصحراء الكبرى لجزيرة العرب! قضيت عشرين عامًا بين جدران الموت، كل شبابي! نجحت ضربتي في سرقة البنك الذي كنت أعمل فيه، ولكن، وأنا في طريقي إلى ألمانيا، أوقفني رجال الشرطة في المطار. تأخر السفر، وكل حياتي معه. اللحظات القصيرة التي يدور خلالها ما هو غير متوقع تشكل حياتنا. كانت في حقيبتي مئات آلاف الدينارات، وكنت على وشك فتح العالم، وفي لحظة واحدة، لحظة القبض عليّ، أضعت عشرين عامًا من عمري. لم يكن السجانون لطيفين معي لأني لم أتعاون معهم. رفضت التجسس، ولم أسئ للمساجين. لم أكن من ذلك النوع، ومن كانوا أحذية في أقدام الجلادين هاجموني. عوقبت: قُرِعْتُ بالعصا، عُزِلْتُ أو عُلِّقْتُ. كانوا يفرغون على جسدي كل جهنم حقدهم، ويملأونني في الوقت نفسه بحقد كل المعذبين. أولئك الذئاب جعلوا مني أكبر ذئب، ذلك الذي سيُخضع الصحراء ويجعل من نفسه سيدًا للذئاب وللرجال على حد سواء. قبل اعتقالي، تزوجت ابنة عمي، كانت إرادة والدينا علينا. لم أكن أحبها، ولم أقم بضربتي بسببها، ولكن بالأحرى بسبب حلم. حلمت بالزواج من ثلاث نساء قبل أن أقتلهن، وأتزوج من أخواتهن. وفعلًا كانت لامرأتي أخت تصغرها أكثر منها جمالًا، ولو خيرت لتزوجتها هي. لأهرب من قدري سرقت البنك، وأردت الذهاب إلى أبعدِ بلدٍ، بلدٍ حلميّ. لنا نحن الشباب كانت ألمانيا ببناتها الشقراوات البيضاوات العملاقات وفرص العمل فيها اللا تحصى. ولكن كما يقول القدامى: تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن! عندما حكموا عليّ بالسجن عشرين عامًا، ارتحت ارتياحًا كبيرًا، فمقتل زوجتي قد تأجل سنواتٍ طوالًا. لم أكن أعلم أنني أدفع ثمن جريمتي مقدمًا. رضيت بقدري عن إخلاص وبراءة. لم يكونوا قد صنعوا مني بعد الذئب الذي أصبحته، لم أُعنى به بعد كما ينبغي من أجل أن يكون الأكثر قسوة والأكثر خشية بين كل الذئاب. وأنا في السجن، أحضروا لي زوجتي: كانوا يريدون أن تعطيني أطفالًا أرميهم في الشوارع دون أبٍ لتكون لعينةً ذريتي. أوهموا امرأتي أن شراءهم ممكن، وممكن أيضا هربي. باعت زوجتي جواهرها، وأعطتهم نقودًا كثيرة. ونحن خارج القضبان، أوقفونا، واعتقلونا هذه المرة نحن الاثنين. لم تكن زنزانة امرأتي بعيدة عن زنزانتي: كنت أسمع ابتهالاتها إليّ والجلادون يغتصبونها كي آتي إلى نجدتها. وفي كل ليلة، كنت أكبر، كنت أتحول. أصبحت الذئب الأكثر شراسة ممكنة في الوجود. حطمت بمخالبي القضبان قبل أن أعدو لنجدتها. ولكن كيف العراك؟ كانوا عديدين. تمنيت لو أحول العالم إلى مستنقعٍ للدم كبير، بينما هم استمروا في اغتصاب زوجتي، وبينما هي تصرخ دون توقف. عندما كانوا يأتون بها إلى زنزانتي لم أشأ قتلها ليس لأعارض قدري وإنما لئلا أفرغ حقدي. في السجن، أتت امرأتي بالعديد من الأطفال الذين لا أعرف بينهم من لم أكن أباهم. عَنَتْ أختها بهم حتى خروجها. غادَرَتْ زنزانتها مريضة، شبه ميتة، بينما كانت أمامي سنون طويلة أقضيها بين القضبان. كان عليّ أن أحفر آبار الماء مع مجموعة من المعتقلين، وهكذا علمت أن في بطن الضفة بحورًا مجهولة. لم أكن أعلم أننا نعوم على سطح الماء قاربًا كبيرًا. تسجلت بالمراسلة في إحدى الجامعات، وبعد عدة سنوات أصبحت مهندسًا جيولوجيًا. وابتداء من ذلك اليوم، أنا من كان يدير أعمال الحفر. كان الماء يتفجر من كل مكان. علمت أن سلطات الاحتلال تضع عدادًا في الآبار أو تسحب الماء في أنابيب إلى حيفا، يافا، عكا... مما جعلني أوقف البحث. قلت لهم أن يأخذوا أحدًا غيري، ولم يعد يرهبني القرع بالعصا ولا التعذيب. هددوني هذه المرة بالاعتداء على أطفالي، ولكن لا شيء كان ينفع معي. لم أخضع! كنت أستعد للّحظة التي أخرج فيها من السجن. كنت أنظر إلى العصافير من خارج القضبان، فأرى أن لها مخالب الكواسر ومناقير الدم. كنت أرى الذئاب تطير، وهي تناديني، وتستعجل لحاقي بها. عند خروجي من السجن، نظرت إلى السماء، وتابعت انتقال الطيور بين قمتي جرزيم وعيبال. كان اهتمامي بماء الأرض لا شيء أمام ماء السماء، حركة السحاب، مطر الشتاء. عند ذلك، ولدت فيّ فكرة الشوارع الإسفنجية. خبأتها جيدًا في صدري لما بعد، بعد انتهاء الاحتلال. كان تحقيقها يحتاج إلى الكثير من المال، وقوس آل قوس وبِشر آل بِشر الإسرائيليان وحدهما من يملكانه. أرسلت امرأتي لتراهما. أضف إلى ذلك تلك الفكرة الأخرى التي لم تتوقف عن التسلط عليّ منذ طفولتي: كنت أريد ربط الجبلين بتلفريك. كنت آمل أن يمول قوس وبِشر المشروع، وبالمقابل نقتسم الأرباح. كان جوابهما اغتصاب زوجتي، وكان عليّ أن أختار بين إسقاطهما أو قتلهما. كان الذئب الذي فيّ قد فضل ألا يرى حلمه البعيد يتحقق. لهذا، في ليلة سوداء، قتلت الاثنين، وهربت إلى عمان.
الفصل الثاني والثلاثون
صمت محمد خيري قليلاً، وهو يعير سمعه، فوصلته قرعات التام تام قبل أن يتابع: - في عمان، استقبلني أصدقاء الطفولة بحرارةِ استقبالهم لك، وكلهم شجعوني على البقاءِ تشجيعهم لك. لم يكن ذلك سوى فارغ الكلام! كتبت للوزارة ولكل الشركات الخاصة دون الظفر بأقل عمل. اتصلت بقيس آل قيس وبشير آل بشير الأردنيين اللذين لهما كل عمان من أجل شق شوارع إسفنجية تحفظ العاصمة من الظمأ وتأتيهم بالأرباح الطائلة، فرفضا المشروع تحت حجة أن أصلي كان من نابلس، وبكلام آخر أنني كنت فلسطينيًا. هل هكذا سيكون استسلام الذئب الذي فيّ ورفضه لسفك الدم؟ قررت الانتقام من خصميّ في اللحظة المناسبة. جاء مصطفى شريف ليراني عندما كنت في أشد يأسي، وعندما كان المستقبل بالنسبة لي كالنفق المسدود تمامًا، فقد وجد الحل لكل مشاكلي: أن أتزوج من فتاة أمها ترفل بالنعمة. سألته في الحال إذا ما كانت لها أخت، فسخر بي: "تريد تلك التي أقترحها عليك أم أختها؟ لا يا سيدي، إنها ابنة وحيدة لا أخ لها ولا أخت وأبوها ميت". لم يكن يمكنه فهم معنى سؤالي، كان يجهل قدري. تزوجت رقية، وبفضل أموال أمها أسست شركة للإصلاح الزراعي، غير أن خصومي كانوا ذوي نفوذ، وفوق ذلك لم أحصل على أي عقد: أنفقت كل ثروة حماتي بسرعة، فاقترحت عليّ أن أذهب إلى السعودية حيث كانت نجية إحدى الملكات العجائز. أخبرتها الملكة أن ابنتها الأميرة نود تبحث عن أحدٍ يُعنى بأراضيها، فقلت لنفسي: ها هي لحظة من لحظات العمر، يا محمد خيري، غير قصيرة، وغير واقفة. إنها البداية لما عزمت على القيام به، لحظة طويلة أشبه بلحظات سقوط الحضارة. كنت أريد أن أنهب العالم وأدمر كل شيء، أن أنتقم لسنواتي في المعتقل ولنداءات نجدة زوجتي التي لم أستطع تلبيتها، كنت أريد سلطة النقود من أجل السيطرة على كل شيء، من أجل السيادة على الذئاب، السيادة على الأسياد. استقبلتني الأميرة نود بكل ترحاب، وقدمت لي روبيكا كلايتون. كانت لها مهمة: تنمية الصحراء، بينما مهمتي كانت حفر آبار الماء التي تحتاجها. أحببت الأميركية من أول نظرة، كانت الشقراء، البيضاء، الطويلة الفارعة التي أشتهي. قرأت الأميرة هذه الشهوة في عينيّ. ابتسمت، ودعتنا نحن الاثنين إلى العشاء للاحتفال بعملنا الجديد المشترك. على الساعة التاسعة مساء، كنا في قصرها. كانت في القصر وحدها، وهي تجلس عند نهاية طاولة طويلة ملأى ما يكفي مدينه بأكملها بالطعام والشراب. عندما شبعنا أنا وروبيكا، اقترحت علينا أن نجامع بعضنا تحت بصرها. احتجّت "زميلتي" بدافع تربيتها الطُهرية، وبدأت بالنحيب، ورأسها بين يديها. قلت لها إن ذراعيّ يحويان كل الفضائل، وإننا سنشرّع جسدينا للمتعة الخالدة، وللحرية الكاملة. ذقت معصية الشفتين. لم تكن تتوقف عن النحيب، وأنا ألعق دمعها المُحَلّى. فَجَّرَتْ في جسدي أكوام الغضب والبرد والمرارة: كنت أضطرم وإياها. ألقيتها تحتي، وأنا أزرع مخالبي في ظهرها بلَمَمِ الأعاصير. التقطت نهديها، وقلت لها: "كوني قدري!" تركتني أخترقها، وغدت كل الأقدار. بفضلها لم أكن الحُمَيْلَ الخاضعَ للذئبة التي كانتها الأميرة نود.
الفصل الثالث والثلاثين
طرقات على الباب تبعها صوت رقية المضطرب: - أين أنت؟ لماذا تنزوي؟ ماذا تفعل وحدك هنا بينما الكل يطلبك؟ قلت لها من وراء الباب: - لا تقلقي. سآتي خلال لحظة. - لا تتأخر. تخيلتها ترهف سمعها، لكني ما لبثت أن سمعت خطواتها تبتعد. خلال ذلك، صب محمد خيري لنفسه كأس ويسكي، وأخذ جرعة. قال: - لم تتبدل رقية. لن تتطور أبدًا. هي دوما هكذا محتارة، مترددة، متبلبلة. لكنها امرأة نادرة! هل تظن أني مجنون بما فيه الكفاية كي أضحي بها وأقتلها؟ أنهيت كأسي: - تابع قصتك. ملأ كأسي، ونظر إلى ماء المسبح الشاف. قال: - كان علينا أن نقوم بفعل العشق كل ليلة أمام الأميرة نود، ولم نعد نحتمل ذلك. في أحد الأيام، قررنا العمل عند خصمها الوحيد في القصيم أبي فيصل النجداوي. بينما كنت أبحث عن آبار الماء التي طُمّت، كانت تخصب الصحراء، وتشجّرها. رفض أبو فيصل فكرة الشوارع الإسفنجية التي تسمح الاحتفاظ بقليل الماء المتساقط في الشتاء. كانت الآبار في رأيه تكفي. ومع ذلك لم أجد إلا النفط. كانت سعادتي عظيمة بقدر تعاسة أبي فيصل. شققت شارع الحديقة لي وحدي. كنت أحس بنفسي ملكًا بين الملوك. وأنا أصعد على سطح أعلى عمارة فيه كنت أقترب من الآلهة. كنت أريد الصعود إلى أعلى ما يكون، بينما لأبي فيصل النجداوي الانحدار إلى أدنى ما يكون. دعوت رؤساء القبائل إلى شارعي، وقمنا فيه بالمواكب. ذبحنا على أرصفته القرابين، وعلى أسطحته في المساء أقمنا الحفلات. كانت مكبرات الصوت تغني طوال الليل، وهي تغطي غناء الكثبان، إلى أن تتعب النجوم من السهر معنا، وتزول في فجر الصحراء الملتمع. كانت الذئاب لا تجرؤ في البداية على المجيء عندي لما يذهب الكل من عندي، وأبقى وحدي. كانت تخاف مني. وأنا أطلع للصيد، لم أكن أقتل ظبيًا واحدًا أو ظبية، كنت أهاجم الذئاب، وكنت أُجهز عليها، وإرادتي أن أكون الذئب الأوحد. كنت أستعد للتخلص من أبي فيصل. اصطحبناه أنا ورؤساء القبائل إلى الصيد معنا عدة مرات، بانتظار اللحظة التي أذهب فيها وحدي وإياه، وأرميه في إحدى الآبار. ولكن ذات يوم تفاجأت بفارس غريب معه قدمه لي: هذه ابنتي الوحيدة ظبية نجران. سبق لك وعرفت اسمها. قتلتني بجمال عينيها. كان ليل العالم يضيء فيهما. ضَرَبَتْ مطيتها، وتحدتني: "لنر من منا سيجهز على أكبر عدد من الذئاب أنا أم أنت!" واعتلت الكثبان. ابتعدنا عمن كانوا معنا، وأخذ الذئب الذي فيّ يعوي. تناولَتْ بندقيتها، وأطلقت النار عليّ. جننها عوائي، وجعلتني إرادة الرجل التي لها معتوهًا. كانت تختلف عن كل النساء اللواتي عرفت: امرأةٌ الصحراءُ لها صُنِعَت. رقتها وقسوتها كانتا بركانيتين. أثرتها بالعواء أكثر فأكثر، وقذفت بنفسي عليها. سقطت تحت جسدي، ناعمة كالرمل، طرية كالحرير. مزقت نقابها، وقبلتها غصبًا عنها. عضتني عضة الدم، فصرختُ صرخة الموت، وراحت تجري في الموت والدم، فلحقتها على تل من الرمل، وأمسكت بها، ونحن نهوي، وهي بين ذراعيّ، في الرمل والموت والدم المتفجر. جرحتها بدوري من شفتيها، وكان اختلاط دمي ودمها، وكان اختلاط روحي وروحها، وكان عناق الواحد للآخر وكأننا بعد ألف عام من العزلة في الصحراء التقينا. كانت لحظة غير محتملة الحدوث ولكنها قاطعة، حارقة، ألغت كل الماضي، ووجهت قلوع ما تبقى من حياتي إلى الريح. أقلعتُ بالطبع عن التخلص من أبي فيصل النجداوي، وتفاءلت خيرًا بما جرى بيني وبين ظبية نجران، فلن يرتاب الناس فيّ إذا ما نفذت ذلك فيما بعد، وأنا زوج ابنته. في الغد، طلبت يدها، فقبل أبوها، وحددنا تاريخ الزواج. كان الكل فرحًا ما عدا روبيكا كلايتون، راحت تطلب من الأميرة نود أن تمنع هذا الزواج، لكنها لم تقدر على فعل شيء: أعادت روبيكا كلايتون إلى العمل عندها كمهندسة زراعية كي تبعدها عني، وتخفف شيئًا من عذابها. كانت الأميركية تحبني، وكنا نتبادل ذات الهوى، لكني كنت أحب ظبية نجران بقدر حبي لها. ستقول لي إنني تزوجت ظبية نجران لأن أختًا لم تكن لها، ولأنها بالتالي لم يكن يهددها شيء كما تقول نبوءتي العبثية. وأنا سأقول لك نعم، لهذا السبب تزوجتها. وبالمقابل، كانت دهشتي ليلة العرس عظمى بشكل لا يصدق. لم تكن اللحظة غير المنتظرة، كانت لحظة اللعنة. كشفتُ عن وجه زوجتي، وأنا أخلع نقابها، لأجد نفسي أمام امرأة أخرى تشبهها: كانت أختها الكبرى. صُعِقْتُ، ولم أصدق عينيّ. لماذا يطاردني قدري بكل هذه الشراسة؟ ماذا فعلت في حياتي كي أتعرض لسخريته؟ ستقول لي إنه قدر كل شخص استثنائي، ولكني أنا، كنت أحب ظبية نجران، وكنت أريد الموت على وَرِكَها. لم يكن باستطاعتي أن أفعل شيئًا. قالت وردة السراة تلك كانت عاداتهم: على الأخت البكر أن تتزوج قبل الأصغر منها حتى ولو اختار الزوج هذه. امتنعت عن لمسها، ليس لأنها كانت أقل جمالًا من ظبية نجران، ولكن لأني كنت أريد الأخرى. في اليوم التالي، سألت أباها لماذا سلك هذا المسلك. أعاد للتقليد المتبع، وذلك كان حظي ونصيبي. بدافع حربي التعبة، افتككت بكارتها كجندي منهزم، جبان، وبدافع اليأس، تركت كل شيء، العمل، والناس، والصحراء. كنت أُمضي معظم وقتي في شارعي المهجور بصحبةِ بعضِ ذئابٍ لم أصرعها. كانت تضع رؤوسها بين يديّ، وتقول لي بعينيها: "أطلبنا ما تشاء، نحن تحت تصرفك!" سكت محمد خيري، وبدا يائسًا. لم يكن هو من أرى، كانت ظبية نجران، الصحراء. أصحيح هذا؟ أكان باستطاعته هجر الصحراء، ذلك المكان الذي يلتصق بجلده؟ تذكرت ذلك الكاتب الذي كان المستقبل عنده يجري في الليل، لأن كان له الهوس بألا يرى الأشياء الفانية إلا في الظلام، كما كان يقول. لهذا لم تكن الصحراءُ، والمرأةُ، والفاجعةُ، الغيابَ، لا عنده، ولا عند محمد خيري، ولم تكن، ولن تكون أبدًا الماضي. إنها الحال السابقة للحاضر، قبل أن يتوقف المغامرون فيها، ويذهبون ثانية، الحالة السابقة لعبور رجال البادية. تسمح الصحراء بالانذهال دون أن نتساءل كيف نحيا فيها أو نموت، دون أن نطرح على أنفسنا السؤال لنعلم كيف ننعم بالوقت، ونتحاشى ضياعه. رأيت في عينيْ صديقي بريق أمل آخر: العبور من مكان إلى آخر، من الصحراء إلى البحر. رأيت في عينيه ظبية نجران مجسِّدَةً البحرَ فجأة، المغامرة دون عدم الاستمرار، عدم اليقين دون انقطاع. سمعت محمد خيري يضحك: - في أحد الأيام، فتحت ظبية نجران الباب عليّ في شارع الغاردنز... صمت، تردد قليلا، لم يكن راغبًا في الذهاب أبعد في ذكرياته، وكما يبدو، كان يسبب له ذلك العذاب الأليم. سمعته يهمس: "ظبية نجران...". أخذ جرعة كحول، وقرر في الأخير أن يتابع قصته: - رمت نفسها بين ذراعيّ، وفعلنا العشق تحت نظرات الذئاب. كنا نريد أن نترك القصيم، أن نركب البحر، ونهرب إلى الهند أو الباكستان. لم يكن ذلك عملًا عاقلًا، سيلحق بنا أبوها، وسيذبحنا. ستبحث كل القبائل عن الثأر لشرفها. عند ذلك، قررت ظبية نجران أن أحذف أختها. كان عليّ أن أقتلها. أداخني مطلبها. لم يكن لدي الخيار، كنت أحبها. لهذا كنت أصب في طعام وردة السراة جرعاتٍ من السُّمِّ ضئيلة، مما جعلها تلزم الفراش، تضعف، تنحف. نزفت، وهي حبلى، وأسقطت. كانت ظبية نجران تريدها أن تموت بأسرع وقت تحت حجة أن الأمر في صالحنا نحن الاثنين. ذات صباح، وجدناها ميتة. أطلقت ظبية نجران زغرودة، فأقفلت فمها بيدي خوفًا من الفضيحة. كان يمكننا أن نُشنق. عضتني من يدي قرب أختها المتوفاة، وأسالت منها دمًا لعقته، فاستحوذت عليها الشهوة. رمتني على السرير الذي تضّجع فيه وردة السراة، وقمنا بفعل العشق بشوق وحمية دون أن ننتبه إلى سقوطها على الأرض. تزوجتُ ظبية نجران قبل انتهاء حداد الأربعين يومًا على أختها. كانت تخضعني بحبها، كانت تسيطر عليّ برقتها. لأخفف ولو القليل من ثقل ذلك العبء العاطفي، عدت إلى استسبار آبار الماء، إلى الانعزال في شارع الغاردنز، شارعي الصحراوي المهجور، إلى الطلوع إلى صيد الغزلان والظباء من أجل إطعام ذئابي الباسلة. أرسَلَتْ روبيكا كلايتون في طلبي، كانت تريدني أن أبني لها مسبحًا. تحت هذه الذريعة عادت علاقاتنا أقوى من السابق، فأثر ذلك عميقًا في ظبية نجران. ضعفت، ونحفت كأختها. كانت تمضي وقتها في الصلاة، في الخضوع لله، وفي عبادته. قضيت كل وقتي في فعل الحب مع الأميركية، وفي التحضير لثأري من أبي فيصل بانتزاع كل سلطة له على القصيم. كان ذلك ما ترمي إليه الأميرة نود أيضا التي قالت لي: "خلصني من النجداوي أهبك جسدي!" كانت تبحث عن أن تصبح هي السيدة المطلقة للمنطقة. لم أقل لها كلمة واحدة عما يعتمل في صدري، عن الأسباب الحقيقية من وراء مجيئي إلى جزيرة العرب، عن الذئب الذي فيّ، عمن قتل زوجته، وتزوج أختها، كما أعلنت النبوءة. لم أكشف لها أبدًا طموحي في افتكاك كل مال النفط كي أشتري كل عمان، وأمتلك نابلس والقدس والخليل والحي العجمي في يافا، وليس هذا إلا بدافع حبي لكل ما هو غير عربي، حتى ولو تعلق الأمر بالاسم، حتى ولو تعلق الأمر بأزقة قذرة وبيوت على وشك الانهيار. رجتني ألا أقول شيئًا لروبيكا، ولكي تخفي ما نوت عليه، طلبت مني أن أبني لها مسبحًا كمسبحها. لم تكن تسمح لي أبدًا خلال وجودي في القصر أن ألمسها. كانت تتركني في حجرة مجاورة لحجرة الملوك، وهكذا كان يمكنني أن أراها، وهي تخلع ثيابها عبر المرآة، وهي تقوم بحركات شبقة وشهوانية إلى حد الهوس، إلى حد السعار والجنون.
الفصل الرابع والثلاثون
عصر محمد خيري زجاجة الويسكي بيديه، كانت فارغة. رماها في المسبح، واتجه صوب البوفيه. أحضر أخرى، وفتحها. صب لنفسه كأسًا، واقترح منه قليلاً عليّ، فرفضت. جرع كأسه دفعة واحدة، وانفجرت عيناه جمرًا. انحنى، وهو يغلقهما، وبعد قليل فتحهما متابعًا: - لن أطيل كثيرًا. رقية والحاضرون يطلبونك. باختصار، ذهبت مع أبي فيصل النجداوي إلى أبعد مكان في الصحراء هناك حيث لا تجرؤ الذئاب على المغامرة. أكدتُ له أن المنطقة عذراء، تظهر فيها الغزالات للصائد على شكل الحوريات، فحذار من أن تخدعك، وإلا، فهي النهاية. قلت له أن يقتلها الواحدة بعد الأخرى حتى تلك التي بجمال القمر. طبعًا لم تكن هناك لا حوريات ولا غزالات، وإنما بئر حفرتها بيديّ هاتين من أجل اليوم الذي أرميه فيها. وهذا ما فعلت. انقطع صدى صرخاته لما وقع في القعر. وضعت حجرًا على فم البئر، وعدت لأرى شيوخ القبائل منبئًا بضياعه: "اختفى في أرض الشيطان هناك حيث تبدأ جهنم ولا أحد يعرف أين تنتهي". رفعني الكل سيدًا في مكانه: انتصبت أذناي باستقامة، نبتت مخالبي المعقوفة، امتد خطمي الذلق، وسال لعابي كما لم يسل من أنيابي النامية. سقط الكل على قدميّ: أصبحت سوطًا للجَلْدِ وسيفًا للاعتداء. كانت الأميرة نود ستهبني جسدها شرط أن أتزوجها وأن أطلّق امرأتي. ظننت أنها تقصد ظبية نجران التي لم تعد تعني لي شيئًا بعد أن كرست نفسها للعبادة. لكنها كانت تفكر في رقية، حتى أنها كانت تريدني أن أقتلها. كنت أشتهيها، فأخذتها بوحشية بين ذراعيّ، وقبلتها: نادت على عبيدها السود، فخلصوها مني، وتركوني أنظر إليها عارية عبر المرآة، وهي تتلوى كالأفعى بينما أنا كالعصفور المختنق. مضت الأيام دون أن تعطيني نفسها، لممت كل ما أقدر عليه من نقود، وغادرت جزيرة العرب إلى عمان. كانت روبيكا وابنتي في أميركا، ومن أميركا كنت أنتظر فرقة الرقص للملهى. - ابنتك من عدنة أم من روبيكا. - من عدنة. كنت قد أرسلت ابنتي من الأميركية عند أمها منذ ولادتها لتتربى على عادات وتقاليد بلدها. كنت أريد حمايتها من الأميرة نود لئلا تتخلص منها. ثم عدت إلى عمان، وبنيت الملهى، وسريعًا ما لحقت بي عيساية وروبيكا. أنت تعرف كل هذا، وتعرف أيضًا أنني تزوجت الأميركية دون أن أخشى حلمي المشؤوم في شيء، بما أنها لم تكن لها أخت ولا أخ. فرضَتْ روبيكا عليّ الانفصال عن رقية، فعملت بما فرضت كي أوقع قيس آل قيس وبشير أل بشير في حبائلها. كنت أسعى إلى أخذ كل الأراضي التي كانا يمتلكانها، كل النقود، كل الشركات، من أجل أن أحطمهما تمامًا، وأُشبع رغبة الذئب في السيطرة على العالم. كنت ورقية على اتفاق للتخلص منهما بالطريقة نفسها التي تخلصت فيها من وردة السراة: بالسم حال زواجهما منها. وبالمقابل، وعدتها بالعودة إليها. كانت تحبني، وكانت لا تريد أحدًا آخر غيري. كانت على استعداد لتفعل أي شيء من أجلي. أضف إلى ذلك، كانت لجمالها القدرة على إخضاع أكبر رأس في البلد. تزوجَتْ إذن قيس أولًا الذي سممناه، ثم بشير الذي كان له نفس المصير. لكني لم أف بوعدي، فتزوجَتْ سعد السلطي أقرب الناس لي من أجل إهاجتي، إلا أنه مات هو أيضا. بعد ذلك، جئتَ أنت بعد غياب طويل في الغرب. كنتَ كبيرًا، بيد أن الكل عاملك كما لو كنت صغيرًا جدًا. هزني ذلك، وأغضبني، فاقترحت عليك الزواج من رقية لتهوّن عليها شيئًا من ألمها، لأنها من طبيعة هشة، ولتخفف عنك شيئًا من وحدتك، لأنك كاتب منعزل، مثقف جدًا، لكن في أيامنا هذه، هذا لا يعني شيئًا. أنت دون نقود، ورقية سترث من زوجها الأخير ثروة كبيرة. - والذهب؟ ما هي قصته؟ - اشتريت كثيرًا من الذهب لصالح العراق، لأني أحب هذا البلد كما أحب بلدي، كي أضفي قيمة جديدة إلى احتياطه النقدي بعد توقف تصدير النفط وسقوط عملته. لا أدري إذا ما حصل كان صدفة أم نميمة. وقعتُ في أيدي ضباط الحدود، أدعياء أخذوا الذهب ورموني في المعتقل. تهكمت: - والجالس أمامي هذا، هل هو خيالك؟ - كما سبق وقلت لك، قدمت للعراق خدمة كبيرة، الشوارع الإسفنجية، هل تذكر؟ فأطلقوا سراحي. - وجثة من تلك التي رأيناها في المشرحة؟ - جثة أي شخص كان، جثة كلب ربما، لإخفاء الأمر نهائيًا. جرع آخر كأس دفعة واحدة، ونهض على نداء رقية: - اذهب لتراها. سأتركك هذه المرة، ولن أعود أبدًا. لا تنس موعدنا في الكمرون. وهو على عتبة الباب المؤدي إلى الحديقة، التفت: - قَبِّل يعقوبيّ، ولا تقل له إن القبلة من طرفي. فتح الباب، لكني سألته، وأنا أشير إلى قعر المسبح: - والتي تختبئ تحت؟ - تعرف ما عليها صنعه. لا تقلق من أجلها. ستتدبر أمرها. وفي الحال بعدما ختم، أغلق الباب من روائه. سارعت إلى فتح الباب الداخلي: دخلت رقية حائرة. سألت إذا كان معي أحد، فأجبت بالنفي. دارت في الفضاء العجيب دون أن تجد أحدًا، ورمت بنفسها على الكرسي الذي كان محمد خيري جالسًا عليه. وقعت على كأسه، فتناولتها بذهول، وشمتها، ثم انفجرت باكية: - لم يمت إذن! ماذا كان يريد؟ لماذا يختبئ؟ لماذا لا يحضر عرس يعقوبيّ؟ لم أفه بكلمة واحدة. تركتها وحدها مع تساؤلاتها، وصعدت الدرج المؤدي إلى العرس. فجأة، انطلقت الموسيقى من ورائي، وأخذت تماثيل الشمع ترقص. أعادتني الموسيقى إلى أمسيات ملهى الغاردنز الشهيرة: تخيلت كل المدعوين إلى حفل زواج يعقوبيّ في القاعة، ومصطفى شريف يجبر الأزواج على الرقص، ولازدحام الملهى بالمدعوين، خرجوا، واجتاحوا الشارع. اكتسح عمان الصخب، وأخذ الناس يرقصون حتى في جبل عمان وجبل الحسين وجبل اللويبدة، ونقل النسيم الموسيقى إلى جرش والكرك والسلط، ومن السلط سُمِعَت في القدس القديمة. وفي اللحظة التي ننتظر فيها أقل ما نشاء، دوت صرخة أسكتت كل شيء. رحت أجري لأجد رقية قتيلة بين ذراعي تمثال روبيكا كلايتون التي سقطت نظارتها، وصعقتني بنظراتها. حملت المرأة القتيلة تحت أعين المدعوين الذاهلة، ومددتها إلى جانب ولدها يعقوبيّ دون أن يمكنه الجلوس بسبب آلامه. حدق في أمه لحظةً قبل أن يرمي بنفسه على صدرها، ويبكي. كان حريق قد دب في أركان عالم محمد خيري الأربعة، وكان المدعوون قد صاحوا، وهربوا. هاتف مصطفى شريف رجال المطافئ، وأنا والأصدقاء نسارع إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن كل شيء كان متأخرًا. عثر رجال المطافئ على جثة محترقة تمامًا في الطابق التحتي، مما جعلني أفكر: ماتت روبيكا كلايتون بالفعل هذه المرة!
الفصل الخامس والثلاثون
مضت ليالٍ عدة دون أن يأتيني النوم، أعدت التفكير في كل الذي جرى، وقلت لنفسي كل ذلك بسببي. لو تزوجت برقية لما حصل ما حصل، ولما ماتت روبيكا كلايتون. استعدت صورة جثتها المحترقة، وجهها المتفحم الذي كان يبتسم، فتضاعف تأنيب ضميري لي. دقت النار، أول ما دقت، في ستائر عالم محمد خيري المسدلة، ثم امتدت ألسنتها إلى مكتبه الأسود. جعلت منه بركانًا أحمر قبل أن تمتطي الأيِّل المحنط، وتصل إلى ثريا الكريستال، لتنفجر، في الأخير، ألفَ قوس وقوس، وتحوّلَ كل راقصة إلى سهم من لهب. عزفت الفرقة الموسيقية لحنها الأخير، ولما تزل تصل أذناي انتفاضات الموسيقى الأخيرة. اجتاح الحريق ملهى الغاردنز قبل أن ينطلق منه إلى الشارع، ويدمر في طريقه كل شيء، وكأنه نار جمر من جهنم. انهارت أعمدة الشارع، حتى أن الرمل لم يفلت من ذات المصير، فاحترق الرمل بغزلانه. جففت النار ماء المسبح، وهجمت على روبيكا كلايتون في مخبئها. انقضت عليها، وعانقتها بشهوة أقوى من كل الشهوات. تحول التلفريك إلى رماد، وتجاوز اللهب قمتي عيبال وجرزيم، لف العالم قبل أن يعود إلى تمثال صديقي الشمعي، ويذيبه بين أصابعه. ذات ليلة، عدت إلى مكان الحريق. أنقاض: الأسود حل محل الأبيض، رائحة الفحم طغت على كل رائحة. أحزنني أن أرى ظهر مقعد هنا، وذراع راقصة هناك. أخذتُ في البحث عن بقايا تمثالي محمد خيري وروبيكا كلايتون دون أن أجد منهما شيئًا. نظرت إلى السلم المحترق قبل أن أقفز في المسبح الجاف، ولكني ترددت أمام باب طابق تحت الأرض المهدم. دخلت بحذر، وَجُبت المكان. نظرت في المرايا المحطمة، ونقلت بيدي الفساتين المحترقة. وجدت بين ركام من الأشياء أنصاف أقنعة من المخمل الأسود، أخذت منها واحدًا، تأملته، ووضعته على وجهي. تحرك الحائط، مما أذهلني، وظهر رجل قصير القامة، أبيض الشعر، كبير الأنف. اتجه صوبي، وأنا جامد في مكاني جمود الحجر، ولم أعد إلى نفسي إلا في اللحظة التي مد فيها يده، وخلع قناعي: - لنتكلم دون أقنعة، أحسن لنا جميعا في هذا المصاب. - من أنت؟ أشرتُ إلى الحائط: - كيف حزرت؟ - أنا أبو فيصل النجداوي. - أنت أبو فيصل النجداوي؟ - نعم! وهذا الحائط لم أكن أعرفه قبل ليلة الحريق. كنت قد تبعت محمد خيري إلى الحديقة عندما رأيته يضغط على زر ينفتح بفضله الجدار. لم يكن باستطاعتي تصديق أن يكون النجداوي: - أحقا هذا؟ أبو فيصل النجداوي أنت؟ - نعم، أنا. أبحث عن محمد خيري منذ أن أخرجتني قافلة حجاج من البئر التي رماني فيها. حدقت في سيد العرب: - لم أكن أتخيلك هكذا. - كانت مصيبتي كبيرة. همهمت: - أعرف كل الحكاية. - وقعت في فخ نصبه لي هستيري قتل ابنتي وحاول التخلص مني. أخذ مكاني على رأس كل قبائل القصيم، ونهب ثروتي. عندما خرجت من البئر لم أكشف عن هويتي الحقيقية. أقسمت أن أبحث عنه بنفسي أينما كان، وأن أجده كي آخذ بثأري منه. ضربت في بلدان العرب كلها، حتى أنني مخرت البحار كالذئاب الشيخة حتى ضفاف نيس الغربية دون أن أجده. غرقت في اليأس، وقررت العودة إلى القصيم عندما لمحته في شارع الغاردنز، قرب شجراته الثلاث، وهو يسقيها. تبعته حتى الصويفية، ورأيته يدخل هذه الفيلا. كان جاره على الرصيف المقابل يبحث عن جنائنيّ، فقبلني، مما سمح لي بمراقبته من بعيد بانتظار اللحظة المناسبة التي أصفي فيها حسابي معه. ولم تأت هذه اللحظة أبدًا! لم تكن له ساعة معينة للذهاب ولا للإياب. أحيانًا كان يأتي وحده، ويذهب وبصحبته امرأة شابة اسمها روبيكا كلايتون، شريكته في كل شيء، والمتواطئة معه. هي من أشعلت النار، وخرجت من هذا الجدار لتلحق بمحمد خيري بعد أن قتل زوجته رقية، وهربا معًا. - ماذا تقول يا رجل؟ ماتت روبيكا كلايتون محترقة، وأخرجنا جثتها المتفحمة. لم يسمعني، وهو يستعيد برعب ما حصل: - ما أن امتدت النار وانتشرت، سارعتُ إلى فتح الحائط، وسمعت صيحات امرأة تطلب النجدة. تصارعت مع جهنم، وقفزت في هذه الحجرة، فمن رأيت؟ عدنة، عبدة الأميرة نود التي أعرفها تمام المعرفة. كانت مربوطة بالحبال، وكانت النار قد هاجمت ثوبها، وبدأت تذيب أصابعها. منعني الحريق من التقدم منها، وكاد يبتلعني، فتركتها على الرغم مني، وأنا أسمعها تصرخ صراخ الهالكين. عدت أدراجي لأنقذ روحي. لو كنت قد استطعت الانتقام من محمد خيري لما فكرت أبدًا في إنقاذ روحي. كان عليّ أن أحقق أولًا هدف حياتي أو موتي، وبعد ذلك، وجودي لا أهمية له. - هل أنت متأكد؟ عدنة التي احترقت؟ - كما أقول لك، عدنة، أم عيساية، رقيقة الأميرة نود. قتلا الاثنتين، رقية وعدنة، وتخلصا منهما إلى الأبد. - لماذا؟ لا بد أنك تعرف لماذا. ألم تكن ملاك محمد خيري الحارس؟ قل لي لماذا؟ - لأن عدنة كانت تريد أن تستعيد ابنتها، ولأن رقية تعرف أشياء كثيرة وخطيرة عن محمد خيري: كان يمكنها أن ترميه في السجن باقي حياته، خاصة بعد رفضك الزواج منها... وعلى أي حال تبقى هي الخاسرة، لقد خسرت حياتها معه. - لتستَعِدْ عدنة عيساية، فهي تبقى ابنتها على أي حال. أما فيما يخصني، فقد كنت أريد الزواج من رقية قليلًا قبل مصرعها، لأعوضها عن مصابها، وصديقي كان يعرف هذا تمامًا. - صديقك لا يعرف سوى خططه الجهنمية. لم تكن سوى الطعم من أجل تعبيد الطريق إلى مقتل رقية، هذا كل ما هنالك. أما عيساية ابنة عدنة، فقد كانت كل شيء في عيني روبيكا التي فقدت ابنتها كيم في حادث سيارة. للأمريكية، عيساية أخذت مكان كيم. سمتها كيم، وأعطتها اسمها. من الآن فصاعدًا لا خطر يأتي من عدنة أو رقية ليهدد روبيكا كلايتون. - ولكن لماذا رقية؟ لماذا هي؟ لماذا؟ رددت بحزن وأسى، ففقد أبو فيصل صبره: - لماذا لا تريد أن تفهم؟ الخنجر الذي قتل رقية هو ذاته الذي كان عليه قتل قيصر! محمد خيري وروبيكا كلايتون تجدهما الآن ينعمان بحريتهما المطلقة. ارتكب كل منهما جريمته دونما أدنى قلق. الأول يُعتبر ميتًا على يد العراقيين، والثانية ميتة بالإيدز. كلاهما لا يوجد. في عين القانون، المشكوك فيهم الوحيدون هم إخوة سعد السلطي، زوج رقية الأخير. نجح الشريكان في الجرم أن يجعلا من نفسيهما شبحين يعملان في الخفاء، ويصلان إلى تحقيق أهدافهما بكل اطمئنان. هكذا كانا متفقين على كل شيء أثناء إقامتهما في أرض الحجاز: قتلا ابنتي وردة السراة، أخضعا الأمير نود، وأخذا كل ما لي من أملاك. بلبلني، ومع ذلك، لم يزل غموضٌ هناك غيرُ جليّ: - عدوك مسكون بحلم يهرب منه. هذا الحلم ينبئ بزواجه من أخوات زوجاته الثلاث بعد أن يقتلهن. كل شيء واضح وحال ابنتيك وردة السراة وظبية نجران وضوح ماء النبع، وكل شيء واضح وحال امرأته المحتضرة في الضفة، لم تقتل، وأختها لم تزل عزباء، ولكن مع حال رقية، يبقى الأمر شديد الغموض. لماذا التخلص منها، وهي لا أخت لها ولا أخ ولا أب أو غيره؟ - لا تريد أن تفهم أم ماذا؟ كان باستطاعة رقية أن ترميه في الحبس حتى آخر أيامه، وأن تجعل من ذراعي روبيكا باردتين برد الجليد. أليس هذا كافيًا لقتلها؟ - لا، ليس كافيًا!
الفصل السادس والثلاثون
قبض أبو فيصل النجداوي عليّ من ذراعي، ودفعني أمامه: - تعال! تريد أن ترى بأم عينك أية حرية ينعمان بها الآن؟ - هل تعرف أينهما؟ فحص ساعته: - بعد قليل سيكونان في شارع الغاردنز. - في شارع الغاردنز! - بعد لحظات سيصبح الشارع مملكة للظلام. لنخرج من هذا الجحر! وإن شئت من هذا الوكر أو هذا الوجار! ونحن على أطراف شارع الغاردنز، وصل إلى مسامعنا عواء طويل، فارتعش أبو فيصل النجداوي من الخوف: - حذار! عيدهم الجهنمي يبدأ! خشيت أن يرميني في فم الذئب، ويعرضني لخطرٍ مُدَاهِمٍ بلا تروٍّ، فها هو يكمن من ورائي، ويبدو عليه الخوف الشديد. أخذنا نهبط الشارع. ونحن في وسطه، ظهرت ذئبة بيضاء فجأة بين قطيع من الذئاب الجائعة الخارجة من طريق مسدود جانبي. كانت أعينها الصفراء تلمع في الظلام، وتحت مصباح على عمود، كان رئيسها بشعره الأصهب وذيله المتدلي وهيئته الشرسة ينتظرها إلى جانب فريسة مزقها بمخالبه. انقض على الذئبة البيضاء، وانقضت الذئبة البيضاء عليه، وطرقت أنيابها بأنيابه. أكلا أشهى قطعة من اللحم، ثم رميا بالفريسة للقطيع، والقطيع يمزقها بضربات نابه، ويأكل بشره. كنت على وشك رميها بالحجارة وطردها عندما أمسكني أبو فيصل النجداوي من ذراعي: - لو أحسوا بوجودنا قطعونا إربًا إربًا. - أين محمد خيري؟ أين روبيكا كلايتون؟ - هما هذان الذئبان العاشقان الأصهب والأبيض هناك. صعدا على درجة عالية، وأخذا بالعواء، وكل الذئاب التي كانت هناك تعوي معهما، وتنادي، وأكثر من قطيع في العالم يجيب. أفعمت سماء الغاردنز بالعواء القادم من أقاصي القصيم وسيناء ونيفادا، وغدا العالم صحراء ضخمة هما سيداها المطلقان. وعلى حين غرة، احتدم العواء والصراخ، ومن كل جهات الشارع، خرجت قطعان لا تعد ولا تحصى من الكلاب وبنات آوى والثعالب، استطعت أن أميز ما بينها ذلك الذئب الأميركي الصغير المسمى قّيّوط. بدا أبو فيصل النجداوي خائفًا في أقصى خوفه، تركني وحدي، وولى على عَقِبَيْه دون أن يبالي بنداءاتي. حملت من حوض للزرع في وسط الشارع بعض الحجارة، وبدأت الهجوم. كنت أصرخ بها في الوقت الذي أرجمها فيه، فهربت من أمامي، واختفت كلها هنا وهناك في الطرقات الفرعية التي جاءت منها. ركضت من وراء الذئب الأصهب وصاحبته الذئبة البيضاء، ولمحت الزوجين الشيطانيين، وهما يدخلان في عمارة "العقاد". أخذا المصعد الذي توقف في الطابق الخامس، فتبعتهما.
الفصل السابع والثلاثين
في الطابق الخامس، تنقلت بين بداية الممر ونهايته دون أن أعرف في أية شقة اختبآ. كان الممر طويلًا، والأبواب كثيرة، أرهفت سمعي وراء كل باب منها دون أن أسمع شيئًا. كان الناس نيامًا، والساعة توغل في الليل. أخذت الدرج الصاعد إلى الطابق السادس والأخير، وأول ما وضعت قدمي في الممر انغلق باب في آخره. عجلت الذهاب باتجاهه، وحاولت أن أجد مفتاح اللغز. ألصقت أذني بالباب، وفجأة، ثلاثة من الرجال السود، السيف باليد، أحاطوا بي. فتحوا الباب، ودفعوني إلى الداخل: وإذا بي وجها لوجه مع رقية. ذُهِلْتُ، وبقيت فاغرَ الفمِ جاحظَ العينين غيرَ مصدقٍ ما أرى. قالت: - نحن أشبه من الماء بالماء. - أنت لست رقية التي أعرف؟ - أنا الأميرة نود. جلسَتْ، وطلبت مني الجلوس، فجلست، والذهول دوما قميصي وردائي. - أنا ورقية أختان نعود في شبهنا إلى أبينا. - هي أختك! أتراني في حلم! - كانت أمها نجية أمي، عندما ولدت رقية، أعطاها أبي مالاً كثيرًا، وأعادها إلى عمان. حائرًا ومضطربًا ورأسي بين يديّ، رحت أهمهم: - كل شيء واضح الآن! - ما هو الواضح؟ - اللعنة التي تطارد محمد خيري: قتل زوجاته ليتزوج أخواتهن. قالت لتخفف بعض الشيء عني: - لن أتزوج به، فأنا متزوجة. - قدره قوي، أقوى من قدرك، وأقوى من قدرنا، لا يمكنك معه شيئًا، مع الأسف! - لقد كَمُلَ قدره. صحت: - ماذا؟ مات؟ - انتحر. ومن جديد، ضغطت رأسي بين يديّ دون أن أصدق ما يجري. - عندما عاد الزوجان القاتلان، فاجأتهما بوجودي في شقتهما. كانا يجهلان أني أمتلك واحدة فوقهما تمامًا، وأني جئت من جزيرة العرب في إثرهما لئلا يقوما بفعل شائن، لكنهما كانا على استعداد لكل شيء من أجل تحقيق مآربهما. اتفقنا على أن يترك محمد خيري أختي لا أن يقتلها، ومع ذلك قتلها، وروبيكا بدورها أنهت على عدنة مثلما قتلا من قبل وردة السراة. أمسكهما رجالي، فطلبت منهما أن يختارا بين الموت بحد السيف أو الانتحار، ففضلا الحل الثاني. قاما بفعل الحب للمرة الأخيرة، ثم جرعا السم من نفس الكأس. نهضَتْ، فتبعتها، وقدماي لا تتوقفان عن الارتعاش. فتحَتْ أرضية مزججة، وأنزل رجالها منها سلمًا مزدوجًا سمح لنا بالولوج في صالون كبير. تركنا الأرقاء ندخل وحدنا أنا والأميرة نود إلى حجرة للنوم، وأغلقوا الباب من ورائنا. فماذا رأيت في المّضْجَع؟ أروع لوحة: محمد خيري وروبيكا كلايتون عاريان، وقد جمدا كالشمع، أحدهما بين ذراعي الآخر. كانا يبتسمان للموت ابتسامة الجزل والحبور. أشارت الأميرة نود إليهما، وهمهمت: - هذه اللحظة، لحظة الحياة الأخيرة، هي لحظة السعادة الأولى! غدوت بدوري شمعًا، وأنا أواصل النظر إليهما ذاهلًا حائرًا غير مصدق. كانت تعصف فيّ رغبة الحديث إليهما، كنت أود تقبيلهما، لمس نهد روبيكا، جبهة محمد، ولم أستطع القيام بأدنى حركة. انفتح الباب، وسمعت حركة من ورائي، خطوات صامتة كانت تتقدم. التفت، ومن رأيت؟ محمد خيري عينه! صعقتني رؤيته. نظر إليّ مبتسمًا، وأنا أنظر إلى الميت تارة وإلى الحي تارة، ويا لحظي أن الأميرة نود أخذت الكلام، كنت سأسقط على الأرض والذهول يصعقني: - أقدم لك زوجي محمد خيري... الحقيقي! ولكي يمحو هذا المحمد الخيري الشك في نفسي أخذني بين ذراعيه، وضمني بحرارة، وهو يهمس في أذني: - ثلاثون سنة مضت، آه، لو تعلم! ثلاثون سنة، ثلاثون حياة، ألف حياة وحياة وألف موت! هدأتُ لحظة ثم عاد الطنين إلى رأسي. عدت أنظر إلى اللوحة التي لا يمكن فنانٌ رسمها، وما لبث صديقي أن همهم أسفًا وألمًا: - إنه أخي. يشبهني أخي كما لو كان توأمي. الحياة رواية مدهشة، وما جرى ليس مدهشًا فقط، لا، ما جرى خارق بالفعل وعجيب!
الفصل الثامن والثلاثون
ونحن نصعد شارع الغاردنز، كان محمد خيري يتأمل النجوم التي لا تتوقف عن التلألؤ في سماء عمان، ويقول: - أبحث عن نجمتي، نجمتي لا تظهر إلا قليلاً قبل نهاية الليل. رفع إصبعًا وأشار إليها قبل أن يقول فَرِحًا: - ها هي! أنظر! إنها الأكثر صُهْبَة؟ رأيتها أجمل النجوم! ومع ذلك، أشياء كثيرة كانت تشغلني بخصوصه، وتدفعني إلى سؤاله: - أين كنت خلال كل تلك السنوات؟ - في السعودية. أصبحت هناك أميرًا لزواجي من أميرة. أما أخي، فمنذ نعومة أظافره، وهو يتنافس معي. بعد تركي لنابلس، تصرف على اعتبار أنه أنا، سرق البنك حيث كنت أعمل، وتزوج ابنة عمي التي تحتضر دوما هناك. حسب القانون هي زوجتي وكذلك رقية ووردة السراة وظبية نجران: كل هذه النساء هي نسائي مع حقي الكامل، وكل ما فعله باسمي يمسني. لقد كان شخصًا مخادعًا وانتهازيًا ووصوليًا، ويستحق المصير الذي آل إليه بجدارة. توقفنا تحت شجرات الشارع الثلاث، داعب جذوعها واحدة واحدة، ثم تأمل حَزَّةَ أصغرها قبل أن يقول مطمئنًا: - يلتئم جرحها شيئًا فشيئًا. نظر إليّ، حزر حيرتي، فسحبني من كتفي، وابتسم لي برقة: - والله زمان! - نعم، دهور! - وأنت، احك لي. - أنا! إخوتي ليسوا توائم لي، لا أحد منا يشبه إلا نفسه، ولا أحد في العائلة يمكنه أن يحل محل الآخر. انفجر محمد خيري ضاحكًا. - لماذا تضحك؟ - لماذا؟ لأن كل واحد من أبناء آدم مشابه ومغاير في آن واحد، ولسنا بحاجة إلى إخوة يشبهوننا لنتصرف كما تصرف أخي. نحن لا نعرف في الحياة أبدًا ما هو حقيقي أو لا. سقطنا في الصمت، فرنت خطواتنا على الرصيف. حدق مرة أخرى في نجمته، فتركته يفعل، وأنا أفكر منتظرًا متابعته. بدا لي قلقًا فجأة، فتساءل: - كيم وعيساية، عيساية وكيم، ليس لهذا أية أهمية. كلا الاثنتين جزء من كل يتداخل فيه الحقيقي والمزيف، البشع والجميل. - في حلم واحد. - الحلم الذي سيصبح ملحمة. - ليس كل حلم قدرًا. - تصبح الأحلام حقيقية في اللحظة التي نهرب فيها منها. يجب مواجهة كل شيء في الحياة، خاصة الأحلام، حتى لا تتحول إلى كوابيس. - آه! ومع ذلك، حياة الإنسان ما هي سوى تراجيديا. - الحلم أجمل حياة، أجمل تراجيديا. سكت قليلا قبل أن يكشف: - هل تعرف أن رقية هي الأميرة ونود هي الطفلة اللا شرعية؟ - ما الذي تقوله هنا؟ - قبل أن تغادر أم رقية السعودية، تركت بُنَيّتَها في سرير نود التي كان لها عمر رقية، وأخذت معها الأميرة الحقيقية كي تُكَرّس ابنتها على اعتبار أنها نود. نود، الأميرة الحالية، وإن شئت، رقية الحقيقية، تجهل الحقيقة: لن أكشفها لها، لتبقى أميرة. إنه الحلم الجميل الحاضن للفاجعة، هذا صحيح، ولكن لِمَ إلغاؤه؟ ليس من الضرورة أن تكون التراجيديا دوما تراجيدية، يمكن أن تحل الكوميديا محلها أحيانًا. إذن من المحتمل أن يكون صحيحًا أنّ تعاسة الواحد تعمل على سعادة الآخر! رقية، الأميرة الحقيقية، قُتلت، ونود، المزيفة، ستبقى أميرة مع المال والسلطة والعزة إلى آخر أيام حياتها. كانت أضواء مطعم ريم البوادي الوحيد الذي تبقى أبوابه مفتوحة حتى الفجر تخترق العتمة. نظرت إلى صديقي. كان يتأمل نجمته الصهباء المرافقة له. عند ذلك، سمعتُني أقول: - محمد خيري، الآخر، قتل اثنتين من زوجاته، الثانية والثالثة. تزوج من أخت الأولى، وأنت من أخت الثانية... ولكن ماذا سيحدث لزوجته الأولى؟ ابتسم: - ستُقتل قتل من يشكو مرضًا عضالًا، "بالأوتانازيا"، وسيكون موتها الرحيم هذا خلاصًا حقيقيًا لها بقدر ما تتعذب. أرسلت اليوم بالذات فاكس إلى الأطباء أوافق لهم على هذا الفعل الذي تتمناه. - وأختها؟ هل ستتزوج أختها؟ - الواقع أننا تزوجنا اليوم بالذات، وأتممنا عقد الزواج بفضل انترنت. ضممته، وأنا أضحك، وهو يضحك أيضًا. - وللاحتفال بهذا الحدث السعيد، اسمح لي بدعوتك إلى هذا المطعم. دخلنا، فاختار طاولة عالية قرب النافورة. طلب لنا جبنًا أبيض وزيتونًا أخضر وزيتًا حرًا وزعترًا أخضر مسحوقًا وممزوجًا بالسمسم والملح والسماق. لم أذق كل هذا منذ ثلاثين عامًا. قطعنا خبز القمح الأشقر الساخن، وغمسناه في هذا الصحن أو ذاك، وأكلنا. غطّ محمد خيري يده في ماء النافورة دون توقف، ولم يبد عليه الظمأ، وأنا، رغبت في كأس بيرة، فنبهني: - لا أشرب ولا أقدم إلا الماء! عدنا إلى الحديث... أخذته أفكاره بعيدًا، بعيدًا جدًا. راح يهمهم كلمات غامضة، مبهمة، غير مفهومة. هلوس، نادى أمه، ثم، تحت حجة من الحجج، نهض، ولم يعد ثانية. نزلت شارع الغاردنز، فلم أجد إي أثر له! وصلني عواء من أعماقِ ليلٍ راح يبيضّ. أذاب الفجر كل النجمات، ولم تبق سوى واحدة، صهباء. كانت نجمة محمد خيري. أخذ الكوكب شكل وجهه الذي ابتسم لي، ومد لي لسانه. عند ذلك، سمعت قهقهة عظمى.
الفصل التاسع والثلاثون
بدأ الفصل الدراسي الجديد دون أدنى أمل بخصوص عملي في الجامعة. سافر مدير القسم إلى أمريكا، وهو لهذا السبب كان يعد ويعد. أضف إلى ذلك، كانت سمعتي سيئة لدى زملائي. لم يكن الأساتذة المتعاظمون يحتملون كتبي، ولم يحتملوا نجاحي في معركة البنيوية. ادعى المنحطون أني أرفع العلامات مقابل دعوة إلى العشاء. بدا كل شيء واضحًا، وأصبحت "شخصا غير مرغوب فيه" في عمان. أُلغيت كل العقود في الجامعات الأهلية واحدة بعد الأخرى، فقررت مغادرة العاصمة الهاشمية نهائيًا. أضف إلى ذلك أن عمان بطلعاتها ونزلاتها أخذت تضغط على صدري، أحسست بالاختناق أينما حللت، وخاصة في شارع الغاردنز الذي بدا أضيق شارع في العالم. ولكي أتنفس بحرية، بأقصى حرية ممكنة، عزمت على الذهاب إلى شارع الشانزلزيه أول يوم أصل فيه إلى باريس. عندما عرف أصدقائي برحيلي تأثروا كثيرًا، ردد بركات جمجوم "انتحار، انتحار..."، وقال لي بشيء من الحزن: "حسنًا فعلت أنك لم تحرق السفن!" زاد محمد باهر على قوله بقول: "اذهب إلى باريس مدينة الحب والموسيقى والشعر! اذهب إلى أناس يفهمون معنى التقدير!" تابع مصطفى شريف بأمل: "لا تقطع الصلة بنا، وحاول أن تعود!" جُنّ مجد الدين الطاهر من الحَنَق: "ستكون في الغرب غريبًا أقل مني في عقر داري!" اجتاح الحزن وجه الصغيرة نور العيون، وأشار أيمن السيوف إلى بيته المتواضع: "هذه خيمتك، عد إليها متى تشاء! هناك ما يكفي من مكان يسعنا جميعًا أنت وأنا وكل أفراد أسرتك وأسرتي!" بَغْتَةً، أخذ الناس يتحدثون عن نيازك مدمرة لم ترها سماء عمان منذ قرون، أكد بعضهم أنها ستنقض على الجبال، وتحرق الأخضر واليابس. وأكد بعضهم الآخر أنها سترقص في سماء عمان الفالس، وتجعلها من الجمال بحيث لن يتكرر ذلك ثانية. لكنهم اتفقوا جميعا على تأثيرها في إشاراتهم الفلكية، وعزموا على الصعود إلى أسطحة بيوتهم لاستقبالها، بينما أنا عزمت على السفر قبل قدومها. ليلة السفر، تسلطت عليّ الصور المزعجة: حلمت بالمنتجات تغزو دكاكين شارع الغاردنز، بضائع من كل نوع لم تتسع لها الدكاكين، فامتلأت بها أرصفة الشارع، وانتشرت حتى خنقت كل عمان. بعد ذلك، عصفت بالضفة أجنحة الجراد، جراد من كل حجم، كبير ومتوسط وصغير، جراد من كل لون، أخضر وأحمر وبنيّ، التهم كل شيء في شارع الغاردنز، بما في ذلك شجرات محمد خيري الثلاث التي أصبحت أثرًا بعد عين. انتهى بي الأمر إلى النهوض مذعورًا، لكني لم أتأخر عن العودة إلى حلمي: فاض نهر الأردن باتجاه شارع الغاردنز، وجرف كل شيء فيه، بضائعه وناسه وطرقه المسدودة المتفرعة عنه. تجاوز الماء أسطحة البنايات الأكثر علوًا، حتى أن أمواجه غمرت قمم تلاع العلي، واكتسحت سريري. صحوت هذه المرة، وأنا أصرخ من الرعب. هدّأت روعي بقتل كتيبة من الناموس. ومن جديد، عدت إلى النوم، فحلمت بزلزال يبدأ في بحر يافا، وينتهي في شارع الغاردنز، وهو يدكه دكًا جاعلاً من عماراته ركامًا على ركام، ومن الركام، خرجت رقية مطعونة في كل جزء من جسدها، وهي تشير إليّ بإصبع متهمة، وتقهقه بهستيرية. في الصباح الباكر، ذهبت إلى شارع الغاردنز، فوجدته على حاله مثل كل مرة أذهب فيها إليه. كان الأقزام يغسلون سيركهم، وكانت السيارات تمضي مسرعة كما هي عادتها. قدم لي بناءون مصريون حجرًا قالوا أصله من أحد الزلازل، التصق به بيض جراد، ودارت به دوائر ماء خلفها طوفان.
يوم وصولي إلى باريس، صعدت شارع الشانزلزيه، وأنا أفكر في كل ما جرى معي في الأردن. لم تكن ذكرياتي قد بدأت بعد. كنت لم أزل أحمل كل تلك الصور، وكل تلك القصص. كل تلك الأحاجي. كنت لم أزل أعيشها. كان الشارع مليئًا بالأقدام، والدكاكين لا تفرغ من الناس. مما جعلني أغرق في الشارع الأخ الآخر، شارع عمان. شارع النفوس الضائعة. كانت الشمس على وشك المغيب، ومن تحت الغيوم، كانت تتسلل إليّ أشعةٌ حمراء، فلولُ جيشٍ منهزم، كما تتسلل أنصاف الصور من المرايا المحطمة. رشقت اللطخات العالم، واجتاحت عالم شارع الغاردنز على الخصوص الذي تخيلت نفسي أتمشى فيه، في نفس اللحظة التي يضيع فيها ظلي في شارع الشانزلزيه. وأنا أريد قطع الشارع إلى الرصيف المقابل قرب "الدرغستور"، ناداني أحدهم، فالتفت، و، كالبرق الخاطف، ككرة النار، شيء ما كالخطم، عبر بسرعة من أمامي ليذوب في أعالي أجمل شارع في العالم.
باريس يوم الأربعاء الموافق 11 / 5 / 1994. هذه الرواية مطابقة للنص الفرنسي المنشور لدى دار لارماطان في شهر مايو 2003.
أعمال أفنان القاسم
المجموعات القصصية
1) الأعشاش المهدومة 1969 2) الذئاب والزيتون 1974 3) الاغتراب 1976 4) حلمحقيقي 1981 5) كتب وأسفار 1988 6) الخيول حزينة دومًا 1995
الأعمال الروائية
7) الكناري 1967 8) القمر الهاتك 1969 9) اسكندر الجفناوي 1970 10) العجوز 1971 11) النقيض 1972 12) الباشا 1973 13) الشوارع 1974 14) المسار 1975 15) العصافير لا تموت من الجليد 1978 16) مدام حرب 1979 17) تراجيديات 1987 18) موسى وجولييت 1990 19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991 20) لؤلؤة الاسكندرية 1993 21) شارع الغاردنز 1994 22) باريس 1994 23) مدام ميرابيل 1995 24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995 25) أبو بكر الآشي 1996 26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999 27) بيروت تل أبيب 2000 28) بستان الشلالات 2001 29) فندق شارون 2003 30) عساكر 2003 31) وصول غودو 2010 32) الشيخ والحاسوب 2011
الأعمال المسرحية النثرية
33) مأساة الثريا 1976 34) سقوط جوبتر 1977 35) ابنة روما 1978
الأعمال الشعرية
36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966 37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967 38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968 39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001 40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002 41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009 42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010 43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010
الدراسات
44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975 45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983 46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984 47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984 48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995 49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004 50) خطتي للسلام 2004
[email protected]
شارع الغاردنز أو رواية محمد خيري، سجين العراق، هذا المغامر المليء بالأسرار، الجموح، لهو في الوقت ذاته ألوف كما هو شامخ إلى حد الغرابة. أرض ميلاد، أرض استقبال، فلسطين، أردن، فرنسا، عربية سعودية، حديقة أو منتزه، شارع، شارع الغاردنز الشهير الذي أخذ اسمه عن كباريه لمحمد خيري، فهو قد صنع ثروة في بلاد الحجاز، وفتح كباريه في عمان محققًا ما يريده رجل حر يتحدى الزمن بإخضاعه لرغباته. عناد، احتداد، إصرار: صورته التي يعارضها بالاستسلام كمرادف للانعدام. وتشهد حياته التي تخللتها فصول من هواه الجامح للنساء – علاقته بأميرة سعودية، زواجه من أمريكية، زواجه من فلسطينية في نزاعها الأخير، زواجه من أردنية، زواجه من أختين سعوديتين – على رفضه للوجود الجامد. يعبّر محمد خيري عن هوس الحياة، ولكن أيضا عن تحدي منفيّ تدفعه برودة عالم يسوده الحقد إلى الفعل، وهو في أقصى الحالات يختار التدله بحضور يملأ عليه حياته أو بصداقة تغمره بالدفء. عَبر هذه الشخصية التي تمتزج فيها الجرأة بالمثابرة، ولكن أيضا الرخاصة بالوهم، يقدم المؤلف شهادة عن الحياة، وعما يمكن أن تكونَ أحيانًا صنيعةَ المرارة. ويعبُرُ تاريخ هذه الشخصية المجازية شارع التاريخ، ببعدها الميثي لحلم طويل مستمر: من إسحق، نبي الخصب والماء، تستمد بعدها مجسدة انتصار الخيالي على الرغم من مصيرها المأسوي، كما ويعبُرُ تاريخ هذه الشخصية الإشكالية شارع تاريخ العلاقة غرب-شرق، وليس "شرق-غرب" كما جاء في "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وقد قلبها أفنان القاسم لتقف على قدميها كما فعل من قبله ماركس بفلسفة هيغل المثالية، فأمدها ببعدها الأقرب إلى الصواب ربما، وجعلها تمتد ببعدها القديم-الجديد. محمد خيري أو الغريب الأبدي عابر غير عادي: منفى، سجن، أهواء، خيانات، حيل… حلم؟ حقيقة؟ لكلٍ حقيقتُهُ…
* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله وخاصة رواية شارع الغاردنز في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لؤلؤة الاسكندرية
-
باريس
-
بيكاسو
-
قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
-
القدس
-
الشعراء
-
البرابرة
-
الأخرق
-
الباشا رواية النكبة الأولى
-
تراجيديات
-
تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
-
فلسطين الشر
-
المواطئ المحرمة
-
العاصيات
-
غرب
-
العودة
-
وظائف الكلام في قصة الزكام لنبيل عودة
-
الحجر
-
نابلس
-
شمس مراكش تحرق الأصابع
المزيد.....
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|