John BERGER
بما ان عدد الضحايا من المدنيين الابرياء الذين
سقطوا في اصابات "جانبية" من جراء القصف الاميركي على افغانستان بات يساوي عدد
ضحايا الاعتداء على مركز التجارة العالمي، صار من المتاح ربما اعادة وضع الاحداث
ضمن منظور اكثر اتساعا ولكن ليس اقل مأسوية على الاطلاق. فنطرح على انفسنا سؤالا
جديدا: هل القتل عمدا اقل شرا من القتل العشوائي المنهجي واخف ادانة؟ (اقول
"المنهجي" لان الولايات المتحدة بدأت بتطبيق هذه الاستراتيجيا ابتداء من حرب
الخليج). لا اعرف جوابا عن هذا السؤال. ربما لا يجوز اجراء ايّ مقارنة اخلاقية من
هذا القبيل، على الارض، وسط القنابل العنقودية التي تلقيها طائرات ب ـ 52 والغبار
الخانق المنبعث من شارع تشورش في منهاتن.
عندما رأيت الاشرطة يوم 11 ايلول/سبتمبر 2001 على شاشة التلفزيون سرعان ما
ذكّرتني بالسادس من أب/اغسطس 1945، فمساء ذلك اليوم علمنا نحن الاوروبيين بقصف
هيروشيما.
هناك تراسل تلقائي بين الحدثين، ومن ذلك كرة النار المنهمرة بلا انذار من
سماء صافية، وتوقيت الهجومين مع خروج سكان المدينتين المستهدفتين الى اعمالهم في
الصباح عند فتح المتاجر ووصول الطلاب الى مدارسهم حيث ينكبون على تحضير دروسهم.
تحوّل كل شيء الى رماد وتشظي الاجسام المقذوفة في الفراغ. امر لا يصدَّق هنا وهناك
وفوضى مماثلة يتسبب بها سلاح تدميري جديد يستخدم للمرة الاولى، القنبلة الذرية قبل
60 عاماً وطائرة ركاب في الخريف الماضي. وفي كل مكان، عند نقطة الانفجار، كفن سميك
من الغبار يغطي كل شيء.
كبيرة جدا بالطبع الفروقات في الاحجام والاطار، ففي مانهاتن لم يكن الغبار مشعا، وفي 1945 كانت
الولايات المتحدة تخوض حربا حقيقية ضد اليابان منذ ثلاثة اعوام. هذا
لا يمنع ان الهجومين كانا بمثابة انذار. وفي النظر الى هذا وذاك، ادركنا ان العالم
لن يعود كما كان عليه قبلذاك، فالأخطار التي تحفّ بالحياة اصابها التحول في فجر يوم جديد، سماؤه
صافية.
كانت القنابل التي القيت على هيروشيما وناكازاكي بمثابة اعلان عن التفوق
العسكري الاميركي المطلق في العالم، ثم جاءت اعتداءات 11 ايلول/سبتمبر كإعلان بأن
هذه القوة لم تعد في منأى عن الحصانة المضمونة حتى فوق اراضيها. فهذان الحدثان
يمثلان بداية حقبة تاريخية محددة ونهايتها.
بادر مواطنون من الولايات المتحدة نفسها الى التعبير وصوع التعليقات
والتحليلات الاكثر صوابا والاكثر قلقا ايضا حول رد الرئيس جورج والكر بوش على 11
ايلول/سبتمبر، اي ما سمّاه "الحرب على الارهاب" ثم "عدالة بلا حدود" وماأطلق عليها
في الاخير اسم "الحرية الثابتة" . ان تهمة العداء لاميركا الموجهة الى
الذين يعارضون بحزم أصحاب القرار في واشنطن، هي تهمة قصيرة النظر، على صورة السياسة
التي ننتقدها. فهناك اذاً عدد لا يحصى من الاميركيين المعادين لاميركا ونحن
متضامنون معهم.
كا
ان هناك العديد من الاميركيين يساندون سياسة الرئيس بوش بمن فيهم هؤلاء المثقفون
الستون الذين وقّعوا أخيرا اعلاناً يعرّف بماهية الحرب "العادلة" في شكل عام ويقول
لماذا يمكن تبرير عملية "الحرية الثابتة" في افغانستان والحرب ضد
الارهاب.
الحجة الرئيسية لهولاء مفادها ان الحرب "العادلة" او المبررة اخلاقيا هي
تلك التي تهدف الى الدفاع عن الابرياء في وجه الشر، ويستشهدون بالقديس اغوسطينوس
ويضيفون ان على حرب كهذه أن تحترم، قدرالإمكان، حصانة غير المقاتلين.
ان القراءة البريئة
لاعلانهم (وهو بالطبع لم يكتب لا في صورة عفوية ولا بريئة) قد تدعو الى
تخيل اجتماع للخبراء الصبورين والعلامة الذين يتحدثون بصوت خافت وفي متناولهم مكتبة
غنية (وحوض للسباحة ربما بين جلسات العمل) والوقت الكافي
للاكل الهادىء ولمناقشة الاعتراضات توصلا الى اتفاق يشكل خلاصة موقفهم من
المسألة.
وتنبعث من الإعلان ايضا الفكرة بأن اجتماع الخبراء هذا حدث في مكان ما داخل
نوع من الفندق الاسطوري ذي ست نجوم (لا يمكن الوصول اليه الا بالطوافة) يقع
ضمن حديقة فسيحة لكن مسورة ايضا بجدران عالية وحراس ونقاط تفتيش للشرطة. مكان لا
يمكن ان يحصل فيه ادنى اتصال بين هؤلاء المفكرين والسكان المحليين، مكان لا مجال
فيه للقاءات غير المعدة سلفا. الخلاصة ان ما حدث فعلا في التاريخ وما يحدث اليوم
خلف جدران الفندق لا يعتبر معطى شرعيا ولا يؤخذ تالياً في الحسبان. اخلاقيات لسياح
اثرياء محميين من العالم الخارجي.
فلنعد الى صيف 1945. كانت 46 من كبريات المدن اليابانية قد
احرقت عبر القصف بالنابالم. في طوكيو تشرد مليون مدني وسقط
100 الف قتيل. وقد "احرقت وسلقت وشويت حتى الموت"، بحسب تعبير الجنرال كورتيس ليماي
المسؤول عن عمليات القصف الحارق هذه. كما كان نجل الرئيس فرانكلين روزفلت والمؤتمن
على اسراره قد اعلن انه يجب الاستمرار في عمليات القصف "حتى ندمر تقريبا نصف السكان
المدنيين اليابانيين". في 18 تموز/يوليو ابرق امبراطور اليابان الى الرئيس ترومان
الذي خلف روزفلت، ليطلب منه السلام مرة جديدة، فتم تجاهل الرسالة.
قبل ايام على قصف هيروشيما، تبجح الاميرال المساعد
رادفورد بالقول:”سينتهي الامر باليابان الى ان تصبح بلداً بدون مدن، شعباً من
الرحّل”.
اودت القنبلة التي القيت فوق احد المستشفيات وسط المدينة بحياة 100 الف شخص
دفعة واحدة، من بينهم 95 في المئة من المدنيين كما توفي 100 الف آخرين في صورة
بطيئة نتيجة الاشعاعات النووية.
اعلن الرئيس ترومان: ”منذ 16 ساعة، القت احدى الطائرات الاميركية قنبلة على
هيروشيما، القاعدة العسكرية اليابانية المهمة”
بعد شهر تحدث اول تحقيق غير خاضع للرقابة قام به الصحافي
الاوسترالي الشجاع ويلفريد بورشيت، عن العذابات التي لا توصف والتي شهدها خلال
زيارته لاحد المستشفيات المرتجلة في تلك المدينة.
سارع الجنرال غروفز، مدير مشروع مانهاتن لتصميم القنبلة
وانتاجها، الى طمأنة اعضاء الكونغرس بالقول ان الاشعاعات لا تتسبب "بأي عذابات
مفرطة" وانها "في الواقع، كما يقال، طريقة عذبة للموت” .
عام
1946، جاءت نتيجة التحقيقات حول القصف الاستراتيجي الذي قامت به الولايات المتحدة
لتقول "ان اليابان كانت ستستسلم حتى لو لم تُلق عليها القنابل الذرية” .
ان
وصف تتابع الاحداث بالسرعة التي اعتمدتها، يتضمن بالطبع اختزالاً مفرطاً. كان مشروع
مانهاتن قد اطلق في العام 1942 عندما كان هتلر في اوج انتصاره وكان يخشى اقدام
علماء المان على انتاج اول الاسلحة النووية. اما القرار الاميركي بإلقاء قنبلتين
على اليابان بعد زوال هذا الخطر فيجب ادراجه في سياق الفظاعات التي ارتكبتها القوات
اليابانية في جنوب شرق آسيا والهجوم المفاجىء على بيرل هاربور في كانون
الاول/ديسمبر من العام ١194 وقد بذل بعض القادة الاميركيين والعلماء في مشروع
مانهاتن قصارى جهدهم لاقناع ترومان بالعدول عن قراره الخطير او على الاقل
تأجيله.
مع
ذلك وبالرغم من كل ما قيل وحدث، لم يكن ممكنا الاحتفال باستسلام اليابان دون قيد او
شرط في 14 آب/أغسطس، على انه انتصار طال انتظاره، فهو لم يكن انتصارا اذ ساده القلق
والعمى.
تبرهن هذه الرواية الى
اي مدى يغترب المفكرون الاميركيون الستون في فندقهم الخرافي ذي النجوم الست حتى عن
واقع تاريخهم الوطني الخاص. كما تهدف الى التذكير بأن مرحلة التفوق العسكري
الاميركي التي انطلقت عام 1945 بدأت ببرهان اعمى على القدرة البعيدة المدى، الغاشمة
والعديمة الشفقة والموجهة الى كل من لم يكونوا يدورون في فلك الولايات المتحدة.
عندما يسأل الرئيس بوش: ”لماذا يكرهوننا؟"، عليه التأمل في هذه الوقائع. لكن من اين
له هذا التأمل؟ فهو احد مديري فندق النجوم الست ولا يغادره ابدا.
http://www.mondiploar.com/
جميع الحقوق
محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و
مفهوم |