|
قصة قصيرة ... أنا وغولدا مائير تحت المطر
شوقية عروق منصور
الحوار المتمدن-العدد: 3615 - 2012 / 1 / 22 - 17:46
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة شوقية عروق منصور
أنا وغولدا مائير تحت المطر
داخل الإطار الأسود ، رأيت ملامحه البعيدة ، لم أر ضحكته اللزجة التي تسيل من بين شفتيه وتبعث إلى الهروب ، داخل الإطار الذي يحيط بصورته ترتكب الكلمات خطيئة الوداع ، وتحاول جر الدموع إلى منافذ وهم البقاء . ضبطت نفسي على رصيف الشفقة ، لقد رحل معلم الكشاف ...! تنهدت . سنوات غرقت في الذاكرة ، لكن موته أنقذ صورته التي ورطتني يوماً في مشهد بائس ما زال يتأرجح فوق عمري . دخل الصف الرابع ، أشار بيده وقال بسرعة : - طلاب الكشاف عليهم الخروج من الصف والتواجد في قاعة الرياضة لأمر ضروري ..!! في القاعة كان المدير مع معلم الكشاف في حالة ذعر خفي ، يحاولان لملمة الذعر ونثره فوق رؤوسنا الصغيرة التي تنتظر الأوامر . بعض الحروف تسللت الينا حين أخذ المدير يتكلم مع الرجل الغريب ، فانتبهنا له . - هس .... ولا كلمة ...! صمتنا ... قال المدير : يوم الخميس القادم ستقوم رئيسة الحكومة " غولدا مائير " بزيارة مدينة الناصرة وستقوم جميع الفرق الكشفية المدرسية باستقبالها ، وقد تم اختيار فرقة كشاف مدرستنا للعزف أمامها وتقديم باقة الزهور لها ... الصمت خيم على القاعة .. تقدم الرجل الغريب .. أخذ يتكلم باللغة العبرية ، لم نفهم ولم يحاول أحد الترجمة .. المدير يهز رأسه مستمعاً ومستمتعاً ، ومعلم الكشاف يتأمل وجوهنا التي ظهر عليها الزهق من هذا الضيف ثقيل الظل ..! أنهى الرجل الغريب كلمته ، سلم على المدير ومعلم الكشاف ، ثم ترك القاعة . تنفسنا الصعداء ... شعرنا أن حملاً ثقيلاً قد انزاح عن صدورنا ، لكن معلم الكشاف قفز أمامنا بسرعة وقال : - انتبهوا ... بقصف عمركم إذا ما بتتمرنوا منيح ...! اليوم ما ترَوحوا بعد انتهاء دوام المدرسة .. أنت ... أشار اليْ ... تمرنتي على ضرب الطبل ... !!! - نعم ... ! قلتها وأنا أعرف أنه سيمسك كذبتي بعد قليل ، هل أعترف و أقول له اني نسيت ...!! بعد انتهاء دوام المدرسة اجتمعنا في قاعة الرياضة مرة أخرى ، حيث كانت الأدوات الكشفية من الصاجات والطبول وغيرها مكومة في منتصف القاعة . - كل واحد يوخد الأداة اللي تعلم عليها ...!! تناولت الطبل ... أخذت أضرب عليه ... صرخ المعلم بأعلى صوته وقال : - هيك راح تخزقي طبلة دان غولدا مائير ... !! أخذت أضرب بصوت منخفض ... صرخ مرة أخرى .... أعلى شوي .... أعلى ... في اليوم الموعود لزيارة " غولدا مائير " حاول أبي منعي من الذهاب بسبب الأمطار الغزيرة التي لم تتوقف عن الهطول - وكمان شوفة غولدا مائير مش محرزي - لكن تهديد معلم الكشاف الذي انهالت تهديداته فوق رؤوسنا كالحجارة ، حولتنا إلى قطع من الشطرنج أصيبت بمرض الزحف نحو الاستسلام الطفولي أمام طوفان من الخوف . - ها ... ارفعوا اسم المدرسة ... ! ها ... إذا كنتم أحسن الفرق راح آخدكوا رحلة على جبل الشيخ ...! دخل المدير غرفته ، معلم الكشاف يرتعد خوفاً أو برداً لا أدري ... لقد رأيته يشد أكمام سترته وينفخ بين كفيه ، جاء الباص ، كل واحد منا يحمل أداته ... أمام فندق " أم واصف " في مدخل المدينة أنزلنا الباص ، لا مكان لنا .. المئات يحتلون الأرصفة والشارع المقابل للفندق.. رجال دين ورؤساء مجالس و بلديات ، ووجوه رجالية ترسم الابتسامات المسروقة من لمسات دفء عابرة ، وكاميرا تلفزيون يحاول حاملها نقل الوجوه المشرقة ..! معلم الكشاف يحشرنا بين الجميع ، يشير إليّ ، أحاول تركيز ووضع الطبل على وسطي ، لا أستطيع فأنا بين قامات أطول مني بكثير ، وتحاشر هذه القامات أيضاً باحثة عن موضع قدم ، معلم الكشاف يشير إليّ بغيظ .. ثم يتقدم نحوي ، يساعدني بربط الطبل جيداً ، ويطلب مني الوقوف مع باقي الفرقة التي جهزت نفسها ووقفت تنتظر وصول الرئيسة " غولدا " على الدرج المؤدي إلى باب الفندق الرئيسي . طال الإنتظار والرئيسة " غولدا " لم تظهر ، المعلم يستعرض وقوفنا جيداً ، يطالبنا بالالتزام ، الدرج الرخامي امتلأ بالماء ، فالمزراب المربوط بسقف الفندق يصب على الدرج ، شعرت بالماء يتسرب إلى حذائي ، لم أتكلم ، وبقيت أتحمل المياه وهي تخب في حذائي .!! الوجوه مشرئبة ، منتظرة ، متحملة الأمطار الغزيرة ، ولم تعد المظلات تكفي حين تخاذلت وبدأت تتطاير أو بدأت قطرات المطر تصنع القنوات المائية فوق القماش لتنزل بسرعة على البدلات الرسمية . شددت الطبل محاولة نزعه ، فحمله بدأ يضايق خصري الدقيق ، الصغير ، عين المعلم رصدت محاولة النزع فجاء مهرولاً : - امسكي الطبل منيح ... وقفي منيح .. !! عدت ووقفت منتصبة ، المياه ما زالت تتسرب داخل حذائي ، وزاد عليها المياه التي تنقط من الجدار الذي أقف إلى جانبه ، حيث تكبر بقع الماء وتنتشر فوق قميصي الكشفي - الكاكي – شعرت بالبرودة تشق صدري ، وتتكوم في قلبي الذي يرتجف ويتصاعد ارتجافه كلما ازدادت بقع الماء فوق القميص ، وندمت لأنني رميت السترة الصوفية التي ناولتني إياها أمي . فجأة تحركت الأجساد التي كانت متصلبة ، جامدة ، هرع بعضها نحو السيارة القادمة، وانطوت مظلات البعض استعداداً للإستقبال : " أجت الرئيسة ..أجت الرئيسة" بقينا نحن أعضاء الفرقة الكشفية واقفين على الدرج في حالة تجمد ، لكن المعلم صرخ فينا بقسوة ، ثم شتمنا : يلا ... يلا .... ابدأوا بالعزف ، أخذت أضرب على الطبل ، لكن أصابعي هربت مني .. لا أشعر بها .. إنها مجرد قضبان صغيرة مملوءة بالثلج ..! لكن الأستاذ هجم علينا مرة أخرى بصورة متوحشة ، صارمة : اعزفوا ...!! نزلت " سيدة غولدا" من السيارة السوداء الفارهة ، من شدة البرودة أخذت أبكي ، في ذات الوقت ممسكة بالعصي وأدق جلدة الطبل ، وكلما قمت بالدق كان صداها يدخل مساماتي المغمورة بالبرد والماء ، فترتخي وتنسل منها قوة اللحظة الخائفة من المعلم ..! اقتربت " السيدة غولدا " من مطلع الدرج الذي نقف عليه ، أصوات عزف الفرق الكشفية الأخرى مع فرقتنا تشكل موسيقى فوضوية غير متناسقة ، وكنت انا جزءاً من هذه الموسيقى التي بدأت تتلاشى ويحل محلها كلمات المجاملة والترحيب . مرت " الرئيسة غولدا " أمامنا لم تلتفت لأحد منا ، حتى ابتسامتها كانت مقتضبة ، دخلت من باب الفندق هي ومجموعة من رجال المدينة ، بقينا نحن على حالنا ، لم نستطع التحرك خوفاً من المعلم الذي هددنا ، وبقي المزراب ينزف مطراً ويصب في حذائي . أخذنا نفتش عن المعلم الذي اختفى و ذاب بين الوجوه ولم نجده ، حمل كل واحد منا أداته ورجعنا إلى بيوتنا ركضاً ، وزخات المطر تطاردنا ، والرياح تلفح وجوهنا ، أما أقدامنا فكانت تحت رحمة الحفر والسيارات التي تمر وتقوم برشقنا . جنت أمي عندما رأت ملابسي منقوعة بالماء ، وأخذت تشتم المعلم وغولدا مائير وجميع المنافقين الذين استغلوا براءتنا...! في الليل كانت درجة حرارتي فوق الأربعين ، انتظر أبي حتى الصباح حيث أخذني عند الطبيب الذي حولني بسرعة إلى المستشفى لأنني مصابة بالتهاب حاد في الرئتين ، ورقدت في المستشفى أسبوعاً . بعد أسبوع رجعت إلى المدرسة ، لم يسأل عني المدير ولا معلم الكشاف لأنهم غضبوا من الفرقة الكشفية ، لأنها لم تلفت نظر واهتمام رئيسة الحكومة "غولدا مائير " وفشلنا في الحصول على الجائزة . وفي اجتماع الآباء بعد أسبوع أجبر مدير المدرسة أبي على دفع ثمن الطبل لأن جلدة الطبل قد تمزقت ، وهناك خدوش كثيرة على الجوانب ...!
#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزر الفلسطيني والسرير المباركي
-
رجل العام -بوعزيزي- بدون نار ولا عربة خضار .
-
شاليط في رام الله
-
انزع رأسك أيها العربي
-
قصة قصيرة .. فوق البيعة .. شوقية عروق منصور
-
علياء والوليد بن طلال
-
الزوجة تتحدث من مالطة ...
-
بقايا نشارة خشب ..
-
الجد نوبل والأم توكل والابن الضائع ستيف
-
قصة قصيرة .. التصريح والأفعى ..
-
ليلة ابو عبد الله الكبير
-
بحثت عن طارق فوجدت قبيلة من القرود
-
قصة قصيرة ..امرأة من تمر هندي ..
-
قصة قصيرة .. سوار تحمل حزاماً ناسفاً .. شوقية عروق منصور
-
الفاجومي يدخل الحكاية
-
سرير يوسف هيكل
-
تجبير قدم التاريخ المكسورة ..!
-
من راشيل الى اريغوني المجرم واحد
-
لك يوم يا ظالم
-
من طباخ الريس الى صراخ النملة
المزيد.....
-
ما الذي كشف عنه التشريح الأولي لجثة ليام باين؟
-
زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
-
مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور)
...
-
إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر
...
-
روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال
...
-
زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
-
-الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ
...
-
عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع
...
-
تهديد الفنانة هالة صدقي بفيديوهات غير لائقة.. والنيابة تصدر
...
-
المغني الروسي شامان بصدد تسجيل العلامة التجارية -أنا روسي-
المزيد.....
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|