عادل صالح الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 3610 - 2012 / 1 / 17 - 20:01
المحور:
الادب والفن
تقديم: تحاول الدراسة الحالية إثبات الدور الحاسم والكبير الذي لعبه العلم الحديث في بلورة حركة الحداثة الأدبية والفنية التي بدأت بالتشكل خلال العقود الأولى من القرن العشرين، وبالأخص الحداثة الشعرية الأنكلوأميركية التي تبلورت على أيدي روادها الأوائل مثل عزرا باوند وت. س. أليوت، من خلال النظر إليها في سياق العلم والنظريات العلمية التي بدأت تظهر وتهيمن على المشهد الفكري والثقافي منذ منتصف القرن التاسع عشر وما رافقها من مخترعات ومكتشفات، وما لهذه من مضامين ومدلولات كان لها الأثر البالغ على أفكار ورؤى الشعراء والحساسية الشعرية والفنية عموما.
لا تقتصر أهمية النظرية التطورية بالنسبة لحركة الحداثة على علاقتها بأزمة المعتقد، بل إن الأهم من ذلك هو إن الفكر العلمي في القرن التاسع عشر، والذي تشكل النظرية التطورية الشق الأكثر تأثيرا منه، أنتج الاتجاهين الأدبيين الرئيسين اللذين شكلا جذور الحركات الأدبية والفنية في مطلع القرن العشرين. هذان الاتجاهان هما الحركة الطبيعية من جهة، ومن جهة أخرى المدرستان اللتان ينظر إليهما عادة كمدرستين متجانستين ومتشابهتين، الجمالية والرمزية.
في دراسته عن أدب الحداثة خلال فترة 1870-1930 بعنوان ((قلعة أكسل))(1931)، يصف الناقد ادموند ولسن الحداثة بأنها من حيث الجوهر "تطور عن الرمزية وعن اندماجها أو صراعها مع الطبيعية." يعبر ولسن بذلك عن وجهة نظر هي جزء من أطروحة كتابه التي تفيد بأن الحداثة هي حركة رومانتيكية في جوهرها وذلك لأنه يعتقد بأن الرمزية هي موجة ثانية للرومانتيكية والحداثة موجة ثانية للرمزية. وقد تناول دارسون كثيرون آخرون هذه العلاقة كفرانك كرمود ونورثروب فراي وغيرهما، إلا أن ما يهمنا هنا هو أن الحداثة عموما والحداثة الشعرية على وجه الخصوص تطورت إلى حد كبير تحت تأثير الرمزية الفرنسية التي طغت على المشهد الثقافي والأدبي خلال فترة بواكير ظهور الحداثة.
ولغرض تتبع أصول وبواكير ظهور حركة الحداثة في سياق علاقتها بالعلم الحديث، ينبغي العودة إلى بواكير ظهور المذهب الطبيعي وكذلك الحركتين اللتين شكلتا ردة فعل ضده وهما الجمالية الانكليزية والرمزية الفرنسية.
على الرغم من أن الطبيعية بوصفها مرحلة متأخرة من مراحل الواقعية وشكلا متطرفا لها كانت بالأساس مذهبا في النثر الروائي والقصصي وفي المسرح بدرجة أقل، إلا أن أهميتها تكمن في أسسها ومنطلقاتها الفلسفية والجمالية كنظرية في الفن وعلاقته بالواقع. وهي بذلك ذات أهمية بالنسبة لدراستنا الحالية للأسباب الثلاثة الآتية: أولا، صلتها الوثيقة بالعلم الحديث وتطوراته؛ ثانيا، ردة فعل الحركتين الجمالية والرمزية ضدها؛ وثالثا، علاقتها بما ظهر فيما بعد من نظريات وحركات ومدارس خلال القرن العشرين، سواء تلك التي توافقت أو التي تعارضت معها بشكل أو بآخر.
يظهر أثر علوم القرن التاسع عشر على أوضحه في الحركة الطبيعية، ففيها يتضح انتصار المادة والميكانيكا بوصفهما تعبيرا عن النظرة المادية الميكانيكية ما بعد الداروينية عن الحياة والكون والإنسان، وهي نظرة ترى في الإنسان ليس أكثر من حيوان خاضع كليا لقوى الطبيعة الحتمية كالوراثة والبيئة. تستقي الطبيعية معاييرها من تجريبية العلوم الطبيعية، أما تعاملها مع التفاصيل فمبني هو الآخر على منهج الملاحظة العلمية. في مقدمته لرواية ((تيريز راكان)) (1868) يدعو الروائي الفرنسي أميل زولا(1840-1902) نفسه بـ"الطبيعي" ويعرض وجهة نظره عن دور الروائي بوصفه أخصائيا بعلم الأمراض يقوم بتشريح الحياة، ويصف الرواية بأنها نوع من أنواع التجارب العلمية. إن نظرة المذهب الطبيعي إلى العالم تتميز بكونها نظرة سوداوية ولا روحية، نظرة تؤكد على مأساوية الوجود الإنساني وعبثيته وكذلك لا معنى وعبثية جميع تطلعات وآمال الإنسان المادية والروحية. "ان هيمنة الفن الطبيعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،" يقول آرنولد هاوزر، "ليس إلا سمة من سمات انتصار النظرة العلمية والفكر التكنولوجي على روح المثالية والتقليدية." ويشير هاوزر أيضا إلى أهمية هذه الحركة في تطور نظريات الفن اللاحقة ويصفها بأنها جاءت نتيجة "منهج علمي لم يعرف له مثيل في الفن من قبل."
استمر تأثير الطبيعية بشكل واضح في الأدب ونظريات الفن حتى أوائل القرن العشرين وكان ظاهرا حتى في موقف الحداثيين المناهضين لها عند بداية ظهور الحداثة كردة فعل تجاه المذهب الطبيعي. ويمكن فهم ردة الفعل هذه بشكل أفضل إذا ما عدنا إلى بداياتها، أي إلى التيار العام الذي شكل ردة فعل عامة ضد الطبيعية وبالتالي ضد النظرة العلمية التي هيمنت على العصر، وهذا التيار العام هو حركة "الفن من أجل الفن" الذي مثلته الحركة الجمالية في انكلترا والحركة الرمزية في فرنسا.
كانت هاتان الحركتان تشتركان في سعيهما من أجل فن قادر على أن يخلق واقعا مغايرا للواقع المأساوي الذي كانوا يعيشون في خضمه، واقعا "ثانيا" مختلفا يقع فوق أو فيما وراء الواقع الحقيقي. وقد اتخذ هذا الواقع المغاير أشكالا فنية عديدة ابتداء بما قبل الروفائيلية في بحثها عن الفن القروسطي ومرورا بحركات ومذاهب مثل مذهب اللذة والعدمية والبوهيمية والغندورية وانتهاء بالحركات التي كانت تبحث عن بدائل للدين مثل دين الفن أو دين الجمال.
حوالي عام 1870 بدأت تظهر أولى ردود الفعل المناهضة للطبيعية في فرنسا وانكلترا تصاحبها ردود فعل مناهضة للعلم الوضعي والعقلانية والمادية ثم تفاقمت ردود الفعل هذه لتشكل ما عرف فيما بعد بـ"أزمة الطبيعية" حوالي 1885 . أخذت ردة الفعل الكبرى شكل هجوم حاد وشديد على فكرة التقدم العلمي فظهرت عبارات مثل "إفلاس العلم" و"نهاية الطبيعية" و"مكننة الثقافة،" وهيمن على المشهد الأدبي الهجوم على أميل زولا وعلى الطبيعية يهدف إلى حلها وتجريدها من صفتها القيادية المهيمنة على المشهد الثقافي والفكري لتلك الفترة. بدأ بعد ذلك ظهور حركات وعقائد فنية غير الطبيعية واكتشاف مواهب أدبية مختلفة عن زولا ومريدي مذهبه الطبيعي.
أكدت حركة "الفن من أجل الفن" في انكلترا –- وهي حركة استقت مبادئها ومنطلقاتها الفكرية والجمالية من أصول انكليزية وأوربية— على قيمة من قيم الفن العليا وهي كونه مكتفيا بذاته. وعد المبدأ الجمالي الفن انجازا بشريا ساميا ينبغي عدم إخضاعه لأية أغراض أخلاقية أو سياسية أو تعليمية أو نفعية. فهدفه هو أن يوجد من أجل جماله وينبغي أن لا يحكم عليه إلا وفق معايير جمالية صرف. خير ممثل للحركة الجمالية في انكلترا هو وولتر بَيــْتر(1839-1894) كما يصفها في "الخلاصة" الشهيرة لكتابه ((دراسات في تاريخ النهضة))(1873) التي تتضمن كامل برنامج الحركة. بالنسبة لبـَيـْتر فان أسمى غايات الفن، وكذلك الحياة، إنما هي تهذيب اللذة والنهل من ينبوع الجمال الطبيعي أو المصطنع. وكان يدعو إلى مذهب اللذة الذي يقضي بشحذ وتكثيف التجربة الجمالية؛ فطالما ان "كل شيء متغير" وفق المفهوم الهيراقليطي، وان الحياة تمر من أمامنا بسرعة خارقة، فان الحقيقة الوحيدة التي أمامنا وفي متناولنا ما هي إلا اللحظة المعاشة التي ينبغي أن نستخلص منها أقصى ما نستطيع من اللذة والمتعة والبهجة.
ما يهمنا أكثر في الحركة الجمالية بوصفها إحدى الحركات الممهدة لظهور الحداثة هو أحد أهم مبادئها الفلسفية، وهو مبدأ يرتبط ارتباطا وثيقا بالعلم والنظرة العلمية ويوضح بالتالي موقف الحركة منهما. هذا المبدأ يوضحه بـَيـْتر في مقال مبكر كتبه عن الشاعر كولرج عام 1866 يقول فيه:
الفكر الحديث يتميز عن القديم بتشذيبه "الروح النسبية" بدلا من "المطلقة"...
علوم الملاحظة هذه تكشــف أنواعا من الحـياة تتلاشـى داخل بعضـها البعض
بعملية تغيير دقيقة يصــعب وصــفها... ان القدرة على الوصول إلى الحقيقـة
تعرف بوصــفها القدرة على تمييز وتحديد تفاصــيل دقيقة وعرضة للزوال.
يؤكد بـَيـْتر هنا على فكرة أن الزمن والتغيير هما الحقيقتان الواقعتان الأساسيتان، وهذه الفكرة، وهي الفكرة التي تكمن وراء ردة الفعل المناهضة للطبيعية، تكشف في الواقع عن قبول بمبدأ "التواصل" الذي أدى إلى التخلي عن المطلقات الروحية وتطوير "الروح النسبية" وهي الروح التي ستصبح طابعا عاما للفكر الفلسفي خلال مطلع القرن العشرين، وبالأخص فكر الفيلسوف المثالي الفرنسي المناهض للفكر الوضعي، هنري بيرغسون(1859-1941). أكد بيرغسون على أهمية الخبرة المباشرة على الضد من الخبرة المتخثرة، أي تجنب الأفكار التجريدية والقبول بجريان الزمن وبالتغيير المتواصل. ولكن بالرغم من التأثير الكبير لفكر بيرغسون على رواد الحداثة مثل تي. اي. هيوم وعزرا باوند وتي. أس أليوت، إلا أن هؤلاء عارضوا مفهوم "التواصل الزمني" مؤسسين اعتراضهم على سعي الفنان الحداثي من أجل تحقيق الشكل "الفضائي" (بمعنى المكان أو الحيز) كما في التكعيبية والصورية وغيرهما. وقد عبر الناقد مايكل بَل عن ذلك في معرض تعليقه على فقرة شيقة أخرى من كتاب ((النهضة)) لبـَيـْتر قائلا: " إن قيام أنصار الفن المطلق المتحمسين بصياغة موقفهم الفلسفي على الأنموذج الذي يقدمه العلم لهو مفتاح العلاقة بين العلم وبين وارثي الحركة الجمالية من الحداثيين."
-------
الهوامش:
In a footnote, Eliot adds: “An important modern theory of discontinuity, suggested partly by Pascal, is sketched . . . by T. E. Hulme.” Quoted in Spears, Dionysus and the City, p. 24.
Edmund Wilson, Axel’s Castle (New York: Charles Seribner’s Sons, 1931), p. 25.
Hauser, The Social History of Art, p. 775.
4 Ibid., p. 794.
#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟