|
الحياة والموت
نايف حسين الحلبي
الحوار المتمدن-العدد: 3609 - 2012 / 1 / 16 - 12:15
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
في وقت لم يكن بالحسبان وبغفلة من الزمن، راح صديقي يندب حظه عندما قرر الأطباء انه سوف يخضع لعملية جراحية خطيرة في الرأس، بسبب انحسار بصره وضيق مساحة الرؤية ، وذلك نتيجة لضغط كتلة شحميه على الغدة النخامية مما أدى إلى تلف بالعصب البصري ، فراح يزبد ويرعد ويتحسب ألف حساب بسبب خطورة العملية التي يمكن أن تقضي على حياته، وبدت الحياة لديه قاتمة، ومعاملته مع أسرته بدأت تتغير، وبدا عليه الإرباك، وصار يعد العدة لمفارقة الحياة، وتوديع أسرته وأصحابه وذكرياته وما جناه طيلة السنوات الستين من عمره، من عقارات ومنقولات ، وبدأ يوزعها على أل بيته في وصية أراد كتابتها لتبيان توزيع أملاكه، لان الحياة لا يؤمن جانبها ألان....
وكنت أنا من بين الحضور مع قريب من جهة زوجته استدعاه وعهد إليه كتابة وصيته لكون الأخير يعمل بسلك المحاماة، وقام بتوزيع الحصص على أولاده بما يراه مناسباً، وبحسب خبرته، وصديقي المحامي يستفسر عن أرقام العقارات ومواقعهم ويقوم بتسجيلها، وعندما جاء على ذكر زوجته وبناته، راح يذهب مذاهب أخرى لأن نصيب الزوجة عنده حسب الموروث الاجتماعي الذي عاش فيه، لا يحق لها بأن تأخذ أي شيء أو تمتلك أي شيء، أو أن ُيسَجل باسمها في السجل العقاري أي شيء، فقط حقها بالانتفاع بالمسكن البسط الذي "لا يشفي الغل" كما ’يقال، لان الِورثة بكاملها تذهب للأبناء الذكور فقط والإناث خارج اللعبة ولا يمكن ألاستفادة من ورثة الأب إلا في حالة الطلاق والفراق عن زوجها والعودة لبيت أبيها.........
فقط ما يلحظه هو تأمين مسكن تنتفع به وقال متفاخرا وكأنه يقدم لهمن شيء عظيم، إن لهن حق السكن في أي بيت من بيوته، ولهن الأفضلية بذلك، ولكن ما لم يعرفه أن بعد موته تتلاشى كل هذه الحقوق بشربة ماء، لا حق تملكانه لا هي ولا البنات ، لتبقى تحت رحمة الأولاد، والأخوات تحت رحمة إخوتهم وزوجاتهم ليصرفوا عليهم ويقتاتوا من خلالهم ، ويبقوا تحت رحمتهم.....
لم يكن اشتمامه لرائحة الموت تغير من قناعاته بشيء، وبرغم تدخلي، وإبداء وجهة نظري الخجولة، بسبب صعوبة الموقف، وبسبب خصوصيته، ولكنني أردت على الأقل تبيان وجهة نظري، وإبداء رأيي، وأيدني بذلك صديقي المحامي وأخذ يلمز بكلمات خجولة مثلي، فهو مرهف الإحساس، ومؤدب لدرجة لا يريد معها إلا كتابة ما يريده الموصي ، وما يتلى على مسامعه، ولا يريد بموقف كهذا أن يظهر بموقف الضاغط، أو يشعره بتدخلاته بما يقوم بكتابته ، وهو يدرك جيدا ما يقوم به، ولم يتجاوز حدوده، وهو من أنصار المرأة إلا إنني شعرت بان ثمة سبب إضافي لموقفه وهو انه قريب للزوجة ولا يريد أن يظهر بمظهر الحرص على حقوقها أكثر من الزوج ومع ذلك شق حاجب الصمت وقال إن ذلك إجحاف بحق الزوجة أولا، بغض النظر عن بناته وكان رأيه بان يخصها بشيء تملكه يعيلها على مواجهة الحياة، ويقيها الحاجة وعدم مد يدها للأولاد...
هذه الزوجة المسكينة التي لازمته قرابة الثلاثين أو أربعين سنة، كانت تلتزم الصمت كأن الحديث لا يعنيها، ولكن ماذا تقول في موقف كهذا وعقلها منصرف لوضع زوجها الصحي وتفكر ماذا ستعمل كي تخفف عنه ألامه وخاصة النفسية منها ؟ وتساءلت ما هو المصير الذي ينتظر هذه الزوجة وعمرها ألان يناهز الستين؟؟ ولن يبقي لها الزمن غير الشيخوخة والمرض وأمل تحيى عليه... أما الزوج وبالرغم من حبه وتضحياته الجسام أمام أسرته وتألفه مع كل فرد من أفرادها لم يثنه كل هذا عن قراره، وكما أن الحياة الهادئة التي عاشها والوعي الذي امتلكه وربى أولاده عليه، لم يزده إلا إصرارا على موقفه...
انه شخص" عركته " الحياة، نعم، " وعركته "الأيام، كما يقال، جاب الكثير من البلدان عبر ترحاله، في سبيل لقمة العيش وتحسين وضعه المادي، ولكن عند الأمر الفاصل، تراه يترك كل شيء خلفه، الموروث الاجتماعي يشده، ويراه حقيقة، ووعيه وثقافته لم تكن قد تأصلت لمستوى العقل المنفتح والمنطقي الذي تظهر تجلياته بالواقع...
إن له قناعاته الخاصة ومعتقداته التي لم تخرج عن فكرة الموروث الاجتماعي السائد، وليس حالة فريدة من نوعها نعيشها، فهذا حال الكثير منا الذين يفرقون بين المولود الذكر والمولود الأنثى استنادا وتأثرا بالمرجعيات الدينية والاجتماعية وهناك حديث يبين ذلك بأن يذبح شاتان للمولود الذكر وشاة واحدة للمولود الأنثى..
إذا هناك ارث ديني، يفرق بين الأنثى والذكر ولم ينصفها، ومرجعية أخرى للذكر مثل حظ الأنثيين وان لم يكن المنطق العقلي يؤيدها ، ولكننا هنا حتى لم نعطها النصف ولا حتى العشر أو الثمن من حصتها... بالطبع هذا لم يكن شيء يعيبه بنفسه، أو لوحده، انه موروث متأصل بكل واحد منا، لأننا لم نرجع إلى لغة العقل، ولم نحتكم للمنطق العقلي، فرحنا نأخذ الأسهل لنا، وان التغيير يتطلب منا جهدا وقدرة، نحن قد لا نملكها ألان ما دامت هي راضية ومقتنعة ،ولكن أي رضاء هذا الذي نعتقده ؟
وكيف تجرأنا على القول بإبقاء الحال على حاله؟ وبسبب غياب صوت المرأة القوي والجريء، وبسبب عدم وجود جمعيات المجتمع المدني، التي تطالب بحقوق المرأة، علينا ألا نتوقع شيئا أكثر من ذلك وخاصة في ظل مقولة هكذا ألفينا أبائنا
وهذا ليس من جهالة علم مدرسي أو جامعي لأنه حال مجتمع بكل طبقاته وإنما هو حال جهل فكري ومعرفي وحضاري نبت في حقل الموروث الاجتماعي ولكن للأسف لا يريد احد أن يعترف بذلك بالرغم من إدراك شريحة واسعة من المجتمع لأهمية هذه المشكلة وتفاقماتها. ولا نستطيع أن نغفل رأيا قويا يرى إن الجذر الحقيقي لهذه المشكلة يكمن في بذور المجتمع ألذكوري الذي يرى خوفا من تسلط المرأة،أو عدم أهلية لآن تعطى امتيازات أكثر مما لديها ومن الطبيعي أن يغيبوا أصحاب هذا الرأي مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة لتبقى سياسة القمع والاستبداد هي الطابع المميز لهذه المرحلة0 وقد اقتنع البعض بما كان سائدا في الماضي التليد و لظرف من الظروف وجد إن من الأفضل بقاء الحال على ما كان عليه، والبعض لم يناقش معتقداته الخاطئة بالرغم من إقراره بخطئها لكنه ليس مستعدا أن يقوم بإصلاحها. وكثير ما كنت أسأل نفسي متى نرتقي لمصاف المجتمعات الإنسانية والمتحضرة؟
وتقوى لدينا الملاحظة في اكتشاف حقائق الكون وما هو حال المجتمعات بالعالم وكيف طورت نفسها خلال زمن قياسي وبشكل مذهل من خلال تلمسها لنقاط الخلل بها وإصلاحها.؟..
وبعد أن حمي وطيس الحديث كأن صدمة كهربائية قد أصابت الزوجة لتخرجها من حالة صمتها وتنبهها إلى جدية المشكلة وراحت دموعها تعبر عن عمق الألم الذي أصابها وأحست أنها أمام مفترق طرق خطر، ومهددة بفقدان زوجها ومعيلها بين الفينة والأخرى، وبين أصابع النار التي تكوي جسدها وعيشتها في بلاد الاغتراب، التي رافقته بها في الحل والترحال طوال سنوات عمرها.. وأمام هذه الحالة راحت تقول: أنا لم اطلب شيئا غير سلامتك ورجوعك إلينا سالما ومعافى..... ولكني كنت الحظ حالة الانكسار بادية على وجهها، والألم يعتصرها، ماذا تستطيع أن تقول؟؟؟ وبماذا تتكلم في موقف كهذا؟ أخذت أحلامها تتلاشى، وبريق الأمل لديها يضمحل رويدا رويدا، إنها ستفقد الحياة بفقدانه، وستفقد معها أشياء كثيرة لم تكن بالحسبان، أفكارها تأخذها يمنة وشمالا، ولا تعرف كيف تتصرف!!! وخيم شيء من الرعب لم تستطع الخروج منه، عيونها لم تجف، وفكرها لم يهدأ، والأفكار السوداوية تخيم على المكان، وراحت تقول وهي تقدم الضيافة تفضلوا، أخذنا الحديث " لا توا خذونا "، وأخذت تقطع السكينة ذهابا وإيابا...
ولكن كلماتي وكلمات صديقي المحامي " دبت " الحياة في عروقها، وكأنها أرادت أن تقول أنا لا أقوى على الكلام ، و الموقف حساس ويستدعي الرحمة والصمت، وعدم الخوض في تفاصيل تربكه أكثر، وتشعل النار المتقدة بداخله، وراحت تقول بحشرجة ودموعها تنهمر، أنا لا أريد من هذه الدنيا شيئا!!!!
لازمت السكوت وكان عندها الصمت ابلغ من أي كلام، و شعرت بأن طموحاتها وأحلامها بدأت تتلاشى، ولكنها لا تستطيع فعل أي شيء فهي مكسورة الجناح، وتعيش في كنف زوجها الذي لازمته لسنوات طويلة، وربت أطفاله وأعانته على مرارة الأيام وقساوتها، ولم تحسب للزمان حساب، ولم تكن تفكر أن توضع بمواضع مقلقة مثل هذه، ولم تعلق على الموضوع، لان ما تعاني منه ليس حالة فريدة من نوعها، وليست حالة خاصة بها فقط، وهي تدرك ذلك جيدا، فهذا حال كل النساء من حولها، وفي محيطها، وفي مجتمعها الذي تربت به..
المرأة هنا لم تنصف في الحقوق، فهي لم يكن لديها عمل ولا عائل يعيلها غير زوجها، والمجتمع ينظر إليها كإنسانة فاقدة الأهلية، ومردها وعصبتها تعود لأهلها، وعيبها يعيب أهلها لا زوجها، هكذا تربت المرأة في كنف العادات والتقاليد المعمول بها .. برغم خدمتها وتربيتها للأولاد طيلة هذه السنوات الطويلة، لا تعتبر من العصب وتعامل على أنها غريبة في الإرث، حتى لو أعالة زوجها لثلاثين سنة أخرى..... أو كانت أما لأولاده ففي الميراث كل شيء مختلف والحسابات مختلفة وان طالبت بذلك تعتبر قليلة أصل ومتمردة وغير محترمة وينبذها أهل بيتها ومجتمعها.. قطع الصمت لبرهة، عندما راح الجميع يتساءل عن القرار الأخير في إجراء العملية في بلد المنشأ (سورية)، أو تجرى في دولة الكويت، حيث إقامتهم، وارتباطات أفراد أسرته، كل منهم بعمله، فكان الإجماع أن تجرى في (الكويت) لكن شبح الموت لم يثنيه عن فكرته المستلبة للمجتمع والتي أسسها بأن الذكر هو عصب العائلة، والبنت لا ميراث لها، لأنها سوف تتزوج وتأخذ حصتها وارثها لبيت زوجها، وهذا يضيع ميراثه الذي سوف ينتقل إلى ملك رجل غريب...
لذا فضل أن تبقى زوجته وبناته تحت مطرقة أولاده وسندان زوجاتهم أفضل من تبديد ثروته في أياد غريبة 0 ولكن صديقي بدت عليه علامات الخوف الواضحة المعالم، من فقدان الحياة، وشرع في كتابة الوصية وفقاً لإرادة الموصي ،الذي كان همه الاطمئنان على ما جناه ، بتوزيع الثروة والحصص على الأولاد" وبدا "المستخبي يظهر" كما يقول المثل المصري، وارثه لم يكن بالشيء القليل ما شاء الله، اللهم لا حسد، وفعلا فقد جمعه بالجد والكد والمكابدة، فهو لم يعرف الهدوء والسكينة في حياته على الإطلاق، و الحياة عنده لا تساوي أكثر من عمل وتحصيل، ومادة، مثل الكثيرين غيره...
ولكنه ألان لم يعد" يملي عينه شيء"، وبدأت ساعة الصفر تقترب، وبدأ الأطباء يضغطون عليه بسبب خطورة وضعه الصحي الذي قد يعرض حياته للخطر، وان التأخير في الوقت، قد يسبب له مضاعفات كبيرة، يصعب السيطرة عليها، وستكون النهاية مفجعة، وبين الفينة والأخرى يأخذه الشرود وتبعده أفكاره عن الجلسة، ويغوص بعمق ولكنه لم يظهر ذلك، إلا من خلال لحظات صمته فهو رجل شديد وعزت نفسه تجعله لا يبدي لك ما يختلج بداخله من أفكار سوداوية..
وأن تعطشه لنفس من الحياة التي راحت تبدو له شيئاً مختلفاً عما سبقه، وثم ترك الخيار له في إجراء العملية من عدمها... ولكن ماذا يستطيع أن يقول: فهو لم يعد أمامه سوى خيار واحد وهو أجراء العملية وجاء الوقت الحاسم والفاصل، وأصبح بينه وبين الحياة والموت لحظات تفصله، اجتمع المقربين لتوديعه، والشد من عزيمته واخذ الأطباء يعدون العدة لاختزال الورم، ولكن صديقي بدت عليه علامات فارقة، واخذ نبضه يزداد، وكأنه يشحذ قليلا من الحياة، ويتمنى لو انه يعيش لبعض الوقت فقط لأنه أحس انه سوف لن يرى هذه الوجوه ثانية، وانه لن تعد إليه الحياة ثانية، وهذا متوقع بمثل وضعه، وبدأ ضغطه يرتفع ومرت لحظات لم يحسها في مشوار حياته الستين، ولم يكن يدرك قيمة انه على قيد الحياة ولو لمرة واحدة باستثناء هذه المرة ، حيث لم يكن هناك أي تغيرات مفاجئة في حياته السابقة التي غالبا ما كانت تمر بشكل روتيني...
وفجأة أصبح للحياة معنى مختلف وأصبحت لا تقدر بثمن.. فقط هي اللحظات البسيطة التي تفصله عن الموت، أو تعيده للحياة، وأمره مرهون بيد الجراح الذي يقوم بأجراء العملية، وراحت الفكرة تسيطر عليه وراح الموت يخيم على جسده بالكامل، وصدره يتهدج، وعيناه تجحظان، وأوردته تتوسع، لحظات قليلة وقد يكون خبرا منسيا، وهو لا يريد ذلك، والحياة لا شيء يعادلها، انه لم يتمتع بما جناه بعد، وهناك أشياء كثيرة لم ينتهِ اليها ، ومشاريع لم تنجز ولكن ذلك خارج سيطرته وإرادته، وما عليه سوى الاستسلام....
اخذ يواري دمعته عن مودعيه لتغور في عينيه، متحسرا لعدم تمكنه من الاستمتاع مع عائلته وأولاده بما جناه طيلة سنوات الستين من عمره... لقد كان يجمع ثروته بدافع الخوف من المستقبل الذي كان يطارده دائما والبحث عن الأمان الذي كان يجد فيه مطلبا وطموحا.... ولم يدرك " أن لذة الصيد في المطاردة، " وانه لا يوجد وقت للعيش بسعادة أفضل من ألان، وان "بكرى " لا يؤمن جانبه!!!
وطاقة الحياة ليست ملكاً نملكه نحن، ونتصرف به كما نشاء، ولم نستطع معها التحكم بأنفسنا وبحياتنا إلا بقدر معلوم، ومثل كل الناس ، لم تكن هذه الأوقات في ميزان حساباته....
راح الوقت يقترب لساعة الحسم وراح ضغط الدم لديه يرتفع أكثر وهذا يؤخر إجراء العملية بحسب رأي الأطباء..... من حوله يشدون من أزره، فيرد عليهم باللهجة العامية " ذيبك " ، ولكنه بالحقيقة ليس إلا حملا وديعا، غارة الدمعة في عينيه مرات عدة، وابتلع ريقه مرات ومرات، واخذ يتمتم بكلمات لم يعد يقوى معها للسيطرة، ويبتهل لله ويشحذ همته، وراح من حوله يبتعدون عنه، عندما حان الموعد المحدد لدخوله غرفة العمليات، وقام الممرض المسؤول بسحب سريره....
إن أخر شيء قد تسمر في مخيلته بغرفة العمليات هو الإضاءة والسقف الزائف، كل شيء له معنى ألان، حتى النفس الواحد الذي يتنفسه، وراح بغيبوبة، لم يصحو منها إلا بعد ساعات طويلة، ليجد نفسه مثقلاً، ويداه موثقة في سريره، وأسلاك كثيرة موصولة في رأسه ووجه ويداه لمتابعة حالته الصحية ونبضات قلبه، وكأن هذه الأشرطة هي التي توصله بالحياة، ولكن الإضاءة التي رآها في أخر مرة قبل إجراء العملية هي نفسها الآن، وبلاطات السقف الزائف هي نفسها التي يراها بعد الانتهاء من حالة التخدير.....
تم سؤاله من قبل طبيب العيون، عن ما يراه فقال: إنني أرى إضاءة وبلاطات السقف الزائف، طمأنة الطبيب إن الأمور تجري بخير وسلام، إذا كان يرى الإضاءة أو أي شيء من البياض أو الضوء، ولكن ما كان لا يعرفه الطبيب هو إن ما يراه ليس الصورة الحقيقية، بل الصورة المطبوعة بذاكرته قبل إجراء العملية ليس إلا، وراحت الأيام تسير مسرعة، وراحت تتكشف الحقيقة التي قد يفقد معها بصره....
وراحت أحواله تزداد سوءا، واخذ قلقه يتزايد، وأخذت تصدر منه بعد أيام عدة، بعض من فلتات اللسان، التي قالها باللهجة العامية " شو صرت أنا معاق " ومن هذا القبيل، وهذا ينم عن وجع داخلي كبير لديه، ويرمز لحالة التشتت التي يعيشها والأفكار التي يفكر بها، ويستشيط غضبا ويريد أن يقطع كل الأسلاك الموصلة بجسده وبدأ بشتم القائمين على إدارة المشفى والأطباء ويقول إن هؤلاء نصابين ومحتالين ويصفهم بأوصاف شنيعة ..... وهو من المعروف عنه الاعتداد بالنفس وقوة الإرادة وصلافته أمام المواقف الصعبة وانه لم يركعه شيء...
تم إخضاعه لصورة الرنين المغناطيسي للتعرف على السبب وراء فقدانه البصر، أحس الأطباء من خلالها بخطر ما على حياته، وقرروا كمحاولة أخيرة لإنقاذ حياته وبصره، إعادة إخضاعه للعمل الجراحي ثانية، برغم الخطورة المحدقة به، وهذه المرة قاموا بفتح الجمجمة دون إعلامه بالعملية، خوفا من ارتفاع ضغط الدم لديه الذي يربكهم، ولم يصحو إلا ورأسه حلقة ومضمدة وجمجمته قد تم فتحها، ولكنه لتاريخه لم يدرك ما حصل له، و ولم يعرف ما يجري، لان جسده موثق بالسرير ويداه مربوطتان، والألم بدا بثقله كالجبال فوق رأسه بعد ذهاب مفعول التخدير..
ولكن لا حول له ولا قوة، فقط هي إرادة الله أن ترجعه للحياة ثانية، وبفضل التطور المذهل للطب في القرن الواحد والعشرين وبفضل الناس المجتهدين الذين طوروا هذه العلوم وهذه التكنولوجيا لخير الإنسانية جمعاء، والذين راح يرميهم بحجارته وهو بحالة لا يدرك معها ما يقول...
انه ألان بحالة جيدة يستطيع أن يتكلم وان يجلس ويذهب لقضاء حاجته ولكن ما لم يتيقن منه بعد هو عودة البصر إليه، ويحسب له ألف حساب، وأحس بأن فقدان البصر بالنسبة له يعني الموت وراح يكرر الكلمات قائلا: إذا لم أرى ما فائدة الحياة بالنسبة لي؟ انه لم يكن يدرك خطورة العملية وخطورة أن تكون حياته في خبر كان أو انه يدرك ذلك جيدا ولا يريد أن يصدقه. الحياة أصبحت متاحة له الآن ولا يريد شيئاً أخر غير أن يرى في عينيه، لا يريد أن يحمل عكازا ليلتمس طريقه، أو إلى من يعينه على عبور الشارع، أوالى من يوصله لبيته ....
انه الآن لم يستطيع قيادة سيارته، ولا الاستمتاع بمناظر الطبيعة، ولا بمراقبة حركة الليل والنهار، ولا يستطيع أن يقرأ البسمة على الوجوه والفرح، أو حالة الاكتئاب الذي يعيشها الأخر، أو تعابير الوجوه، ولم يعد يرى بسمة حفيده الصغير الذي يحبه كما يحب عيونه...
الحياة ألان لا معنى لها، وبدأت تنتابه نزاعات عدة، ويقلب أفكاره يمنة وشمالا، لم يستطع أن يشاهد التلفاز، ولم يعد لديه القدرة على تغيير المحطات الفضائية، ولا الرد على تلفونه النقال إن كان بعيدا عن متناول يده، ولا الاستمتاع بمناظر الطبيعة، ولا بالرحلات السياحية، منذ هذه اللحظة سيبدأ بحياة جديدة مختلفة عما قبلها، بل هذا فصل، وعليه أن يتعلم كيف يتعايش مع هذه المرحلة، والى من يعيله،ويأخذ بيده، الأيام صارت حالكة السواد، لم يعد يرى جمال الألوان، ولا الشمس تعني له شيء، ولا القمر، ولا النجوم، كل شيء مثل كل الأشياء حالك السواد....
أن ترى لون واحد في عيونك هو السواد شيء لا يحتمل معه البقاء، ويتطلب جهدا مضاعفاً للتأقلم، والتآلف مع الحياة، ومع ما يدور حولك... إننا نمتلك حاسة عظيمة مثل حاسة النظر، لا نعرف قيمتها الحقيقية، ولا ندرك كنهها، وأنها نفائس عظيمة، وكنز، إلا عندما نفتقدها....
قف وقفة مع ذاتك، تذكر ما تملكه من نعم في نفسك، واستمتع بها، ولا تنظر للأشياء التي لا تستطيع الوصول إليها، وتقرنها بحياتك لتكدرك، استمتع ألان بما تملكه، وانظر إلى السماء واشكرها على ما قدمته لك واطلب البركة.... الترحال واختلاف الأماكن لم تعد تعني له شيء، كلها قاتمة السواد، ولم يعد هناك ألوان، كلها اختزلت بلون واحد لديه....
علينا تقبل كل شيء برضا والنظر بتفاؤل لكل ما يطورنا، لا أن نستسلم ونقنع أنفسنا بأن حدث بحجم هذا سيدمرنا، ولا تفكر بأن حل أي خيط من الخيوط سوف ينحل كل النسيج.... إن أفضل طريقة هي معالجة الكسور وليس الاستعانة بعكاز، علينا أن تأخذنا الحكمة والصبر على نائبات الأيام ومتغيراتها، والعمل على تحسينها، لا التباكي عليها، لان ذلك لم يطورنا بشيء، ما يطورنا أن نجعل حياتنا سعيدة وسليمة، برغم كل المعوقات التي تعترض طريقنا، وخارجة عن إرادتنا، وان نقتنع إن الألم جاء ليعلمنا شيء عظيما لم نكن لنتعلم بدونه...
عود نفسك على أن تكون ممتنا على الدوام، وسوف تسير الأيام بسلام وبسلاسة، أما تعنيفها، فيزيد من غضب الطبيعة عليك، وترتد عليك أفعالك فتهلكك.... عاد لحياته الطبيعية برغم إرادته، الحياة لا تتوقف هنا، وعليه حضور فرح ابنته الصغيرة التي يحبها كثيرا والتي لم تسعه الدنيا من شدة الفرح فكم كان ينتظر مثل هذا اليوم الذي لم يخطر بحسبانه أن يستقبله وبدون أن يبصره....
لم تكن لتسعه فرحته وبدأت الحياة تدب في عروقه من جديد، والأمل يحدو به انه سيرى نور الطريق بعد أن طمأنه الطبيب في المرة الأخيرة بأن عصبه السمعي سليم، وان المسألة هي مسألة وقت ليس إلا...
ارتد عليه لونه وبدت عليه ضحكته التي اشتممت رائحتها عندما اخبرني باتصال هاتفي وبدأ يكلمني بحالة من الفرح كالمحارب الذي يشتم رائحة النصر.... إن فقدت بصرك عش مع صمت الطبيعة وقل إن الله اختار لي ذلك لأكتفي شر مشاهدة الأشياء السيئة، وهنالك أشياء جميلة استطيع أن أحيا بها أعيشها مع نفسي مع ذاتي وأعطي وقت كافي لها. إن فهم قانون الحياة لا يعني الاستسلام بل هي حالة الرضي والاطمئنان والسلام...
الحكاية لم تنتهِ هنا بل بدأ صديقي يتألف مع حياته الجديدة بسبب ملازمة الأصدقاء والمقربين له وسماعه الكثير من القصص والحكايات التي تجعل من قصته شيئاً بسيطاً أمامها وبدأت الحياة تسري بعروقه بدفق رائع...
ولكن ما لم يكن متوقعا قد حصل وبينما كان يتحدث لوالدته وزوجته أحس بإرهاق وتعب شديد واستأذنهم لأخذ قسط من الراحة.. سارعت زوجته لتطمئن عليه ولكنه لم يرد عليها وراحت تستنجد بمن حولها وبمقربيه ولكنه راح في غيبوبة لا يعلم بها إلى الله استقر به الأمر في المشفى وبعد اخذ رأي كبير الأطباء والمستشارين الذين يتابعون حالته كان توقعهم بان يكون هناك تعطيل في الغدة النخامية من جراء العملية فتم اخذ خزعة من النخاع ألشوكي لمعرفة أسباب الغيبوبة وهذا الأمر أصعب وأمر من فقدان البصر وهنا بدأ حالة ما تهدد حياته...
ولو كان عارفا بما سيحصل له لكان مطمئن البال على فقدان بصره ويحمد الله على بقائه حيا ولكننا لم نستكن ببساطة وهذا حال كل بني البشر وليس هو حالة نادرة أتكلم عنها بل هي قصة كل الناس وكل الأفراد قصتي وقصتكم ....
#نايف_حسين_الحلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجدل
-
ملاك الخير
-
امس وصل العتب ورحلة لم تكتمل
-
الشمعة والليل
-
حلم كنانة
-
الكتابة - وجهتي الاولى بيروت
-
اخاف ان تخضعني لتجربتك
-
لحظة ملل
-
جلسة على شاطئ بنيدر
المزيد.....
-
جريمة تزويج القاصرات.. هل ترعاها الدولة المصرية؟
-
رابط التسجيل في منحة المرأة الماكثة في المنزل 2024 الجزائر …
...
-
دارين الأحمر قصة العنف الأبوي الذي يطارد النازحات في لبنان
-
السيد الصدر: أمريكا أثبتت مدى تعطشها لدماء الاطفال والنساء و
...
-
دراسة: الضغط النفسي للأم أثناء الحمل يزيد احتمالية إصابة أطف
...
-
كــم مبلغ منحة المرأة الماكثة في البيت 2024.. الوكالة الوطني
...
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
-
تتصرف ازاي لو مارست ج-نس غير محمي؟
-
-مخدر الاغتصاب- في مصر.. معلومات مبسطة ونصيحة
-
اعترف باغتصاب زوجته.. المرافعات متواصلة في قضية جيزيل بيليكو
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|