|
نظرية المعرفة
عامر عبد زيد
الحوار المتمدن-العدد: 3609 - 2012 / 1 / 16 - 00:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تحرير وكتابة
المقدمة
من حيث اللغة : أن لفظ النظرية في اللغة العربية مشتق من فعل النظر بالعين المجردة. بمعنى المجازاة لأعرف لك ما صنعت) أي لأجازيك به و بمعنى عال مكرم طيب : إذ يقال للقوم إذا تلثموا غطو معارفهم وعرف الله الجنة (بتشديد الراء) :أي طيبها و إعرورف البحر : أي إرتفعت أمواجه ( ) وفي القران الكريم المعنى العام : الظهور والتجلي وما حمل عليه .( ) عرف: أدرك الأمر بحواسه ، ميز ، محمد 47/30 عرف : أعلم ، التحريم 66/3. تعارف : عرض بعضهم بعضا ، الحجرات 49/13. العراف : المعرف خلاف المنكر ، الأعراف 7/199، شعر عنق الفرس ، المرسلات 77/1. معروف :إحسان : البقرة 2/178. أعراف : الحاجز بين الجنة والنار ، الأعراف 7/ 46. عرفها الجرجاني ( أنها إدراك الشيء على ما هو عليه وهى مسبوقة بجهل بخلاف العلم) لذلك سمى الله بالعالم دون العارف( ) عرفها الغزالي (أنها العلم الذي لا يقبل الشك,إذا كان المعلوم ذات الله تعالى( ( عرفها الرازي (أنها عبارة عن حصول العلم بعد الالتباس) والمعرفة تستدعى سبق الجهل( ) و في الفرنسية ترجع في أصلها إلى النظر و الملاحظة و التأمل. و إذا عدنا إلى المعاجم المختصة "فهي مجموعة من الأفكار و المفاهيم المنظمة قليلا أو كثيرا و المطبقة على ميدان مخصوص أو محدد من حيث المفهوم : نظرية المعرفة (Epistemology) كلمة مؤلفة من جمع كلمتين يونانيتين : episteme بمعنى علم و logos بمعنى : حديث ، علم ، نقد ، دراسة فهي اذا دراسة العلوم النقدية . إن النظرية في آخر المطاف عبارة عن "جهاز متمـاسك من المسلمـات و المفـاهيم و القوانين و التوجيهات العامة تستعمل لتحليل أو تفسير أو وصف جوانب معينة من الواقع أو ما قد يحدث من ظواهر و وقائع (التنبؤ)".من خلال ما سبق يمكن القول إن النظرية تتقابل مع الممارسة و مع المعرفة اليقينية، لأنها رأي لعالم أو فيلسوف حول قضية متنازع بشأنها. كما تتقابل مع التفاصيل و الجزئيات العلمية لأنها تركيب ينطبق على مجموعة كبيرة من الوقائع.وهذا يجعل المعرفة بوصفها نظرية تعددت تعريفاتها بمفهومها العام في مصادر العلوم الطبيعية ، وحتى يتضح لنا مفهوم النظرية ومصداق هذا التعدد الذي يقترن بالممارسة لدى العلماء تتعدد بتعدد الاختصاصات لهذا ممكن ان نرصد هذا التنوع في التعارف : يعرفها لالاند : بأنها فلسفة العلوم ، وهي تختلف بهذا عن علم مناهج العلوم ( ميثودولوجيا ) لأن الايبستمولوجيا تدرس بشكل نقدي مبادئ كافة أنواع العلوم و فروضها و نتائجها لتحديد أصلها المنطقي و بيان قيمتها العلم دائم التطور ، وكم من نظريات علمية سادت أزمانا باتت الآن في يدل لفظ النظرية على رأي أو حكم يتم التعبير عنه بالكلام. وهو هنا يقارن بين وعي أهل العلم وحتى عامة الناس وبين وعي الفلاسفة إما الوعي الأول ( وعي العلماء ): الذي متمثله هنا النظرية العلمية التي تتصف بكونها معرفة " بعدية "أي أنها مسبوقة بالتجربة او المعرفة القائمة في مقام التحقق ، وأوصاف هذه المعرفة أنها "بعدية " أن موضوعها هو فروع العلوم المختلفة والمتنوعة فلعلم في مقام التحقق الخارجي هو مجموعة من التصورات والتصديقات من مفاهيم وفرضيات وظنيات وقطعيات والصادق والكاذب من خلال ان فعلها يقوم على وضع النظرية في مقابل الفعل أو العمل لدى عامة الناس. إنهم ينظرون إليها من الزاوية النفعية، فكلما ارتبطت النظرية بالممارسة كانت أجدى نفعا و أكثر فائدة و أهمية فالنظرية في التمثل العام تكتسي طابعا نفعيا.وعلل هذا يظهر في التعريفات النظرية المعرفية من زاوية علمية معاصرة تأخذ البعد الوضعي نرصدها في التعريفات التالية : يُعرِّف ( كابلان Kablan )النظرية بأنها : منطق أعيد بناؤه ليبدو كأداة لتفسير ونقد وتوجيه القوانين الراسخة وتطويعها لتتناسب مع البيانات غير المتوقعة في تكوينها ، ثم توجيه السعي نحو اكتشاف تعميمات جديدة " ويذهب ( كيرلنجر) Kerlinger ) إلى أن النظرية(مجموعة من ا لمفاهيم و التعريفات والافتراضات المترابطة التي تقدم نظرة نظامية إلى الظواهر، يتم فيها تحديد المتغيرات التي تؤثر في كل منها والعلاقات بين هذه المتغيرات بهدف وصف الظواهر وشرحها والتنبؤ بها ) ويلخِّص ( سنو Snow ) مفهومه للنظرية بقوله ): تعتبر النظرية في أبسط صورها بناء رمزيا ،صمم ليحوِّل الحقائق المعممة أو القوانين إلى ارتباط منظم وهي تتكون من مجموعة من الوحدات ( حقائق ، مفاهيم ، متغيرات).وهي ايضا نظام من العلاقات بين الوحدات. أ.فالمعرفة البعدية قائمه اذا على التحقق من أحوال العلم وإحكامه :يبدو هذا التناول العلمي يرتكز على النظر إلى النظرية بوصفها محاولة يقوم بها المختصون من العلماء في حقل علمي ما في صياغة لمجموعة من العلاقات الظاهرة ، وقد تمّ التحقق من صحتها جزئيا على الأقل هذه الصياغة وما تبعها من تحقق يقوم على التشكل عبر مجموعة مترابطة من الفروض التي يقصد منها شرح وتفسير ظاهرة معينة وكيفية وقوعها وشروط حدوثها والظروف الملائمة لذلك مع بيان النتائج المترتبة عليها أي الملاحظة ثم الفرض ثم التحقق من الصحة لتغد هناك قوانين تفسر وتترابط فيما بينها في نظرية هي بالنتيجة عن صياغة كمية أو كيفية موجزة ومحكمة ,تعمل بمثابة دليل أو موجه للبحث العلمي في مجالها ،هذا بالإضافة إلى إمكانية التنبؤ من خلالها بمعطيات معرفية، ويمكن إخضاع النظرية للاختبار إضافة إلى قبولها للدحض. ب. فان وجود المعرفة البعدية مسبوق بوجود فروع العلم المختلفة وهي أيضا تنظر في مسيرة العالم الخارجي وتستعلم عن كيفية ولادتها ونموها لان تاريخ العلم يشغل أهمية كبيرة في نظرية المعرفة ، ثم أنها وكما استعرضنا أعلاه تهتم بمجتمع العلماء وكيفية عملهم كما تهتم بالهوية الجمعية والمتحركة للعلم عبر مباحث العلماء ونزاعاتهم من اجل الاستفادة من التاريخ ،والمنطق ، وعلم المناهج ، والمعرفة القبلية والمعرفة بشكلها العام ، كما أنها تعمل عر هذا البحث والإحصاء النقدي إلى أغناء المعرفة بكل تفاصيلها ، من خلال إيجاد صياغة نظرية محكمة لمجموعة علاقات تقوم بين أجزاء ظاهرة ما أو ظواهر عدة بهدف وصف هذه العلاقات (ويهدف إلى تقديم تعريف دقيق للمصطلحات المستخدمة في النظرية .)أو شرحها(يقصد به شرح الشيء من خلال التوصل إلى علاقات بينه وبين المعارف .المتوفرة لدينا من أجل إزالة الغموض الذي يكتنفه )أو التنبؤ وهو يشير إلى ميل بعض النظريات إلى التنبؤ بأمور مستقبلية ، ويرى بعض الباحثين أن المعيار الحقيقي للحكم على صدق النظرية يتمثل العلمية . في قدرتها التنبؤية. والنظريات العلمية رغم صدقها النسبي إلا أنها لا تتصف بالثبات لأن عالم النسيان تعتبر نظرية المعرفة البعدية أحد فروع الفلسفة الذي تدرس طبيعة و منظور المعرفة ، المصطلح بحد ذاته معرفة، إلا أن المعرفة البعدية تبقى معرفة من الدرجة الثانية تنظر في المعارف السابقة عليها وتحاول الاستفادة منها . إما الوعي أي وعي الفلاسفة ( هي المعرفة القبلية) : فهي معرفة من الدرجة الاولى لا تعتمد على معارف سابقة بل تعتمد على ذاتها فهي تعد من المقولات الميتافيزيقية والفلسفة الاولى تعتبر مجردة من المنفعة منزهة عن الغاية. معظم الجدل و النقاش في هذا الفرع الفلسفي يدور حول تحليل طبيعة المعرفة و ارتباطها بالترميزات و المصطلحات مثل الحقيقة ، الاعتقاد ، و التعليل (التبرير. من اهم صفات هذه المعرفة القبلية أنها تسبق التجربة تعنى بالقضايا الخالية من المضمون التجريبي من خلال عنايتها بالوجود الذهني للمدركات والقوالب لا تعنى بصفات العلوم وإحكامها بوصفها موجودات عينية مستقلة متحققة في العيان تنحصر المعرفة القبلية في علم الأفكار وعلم الإدراك وهي عند كانت واغلب الفلاسفة القدماء الذين اهتموا بالوجود الذهني للعلوم تنظر في الأسئلة الآتية العلم مجرد أم مادي
الفصل الاول إنكار المعرفة
تصدير مدخل: السؤال عن إمكان المعرفة هو سؤال عن جوهر المعرفة ومضمونها، وهو الحقيقة - أي هل يمكننا أن ندرك الحقيقة؟ - ولو عدنا إلى جذور الجدل الفلسفي لوجدنا تساؤلات أبعد وأعمق من مدى إمكانية المعرفة، كوجود الحقيقة وإمكان إدراكها، ولكنها مغالطات السفسطائيين التي تساقطت مع إحكام أدوات المنطق، والقياس، وتطور أسلوب الجدل والحوار على أيدي سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، ومن تلاهم. وأصبح السؤال عن إمكان المعرفة هو سؤال عن المعرفة التي توصل إلى جوهر الوجود الحسي، وغير الحسي وحقائقه، فالحقيقة إذن هي الهدف لكل باحث في مجال نظرية المعرفة. ومن ثمّ يكون الخوض في نظرية المعرفة من حيث طبيعتها، وأدواتها، ومصادرها مبنياً على تثبيت فرض إمكانية المعرفة. والفلاسفة الذين يأخذون بهذا الفرض هم الاعتقاديون في مقابل الشكّاك الذين ينكرون المعرفة جملة، وينكرون موضوعها أيضاً وهو الحقيقة المنشودة، ورغم ذلك تقارب المذهبان كثيراً فلم يعد ثمّة شك مذهبي كما لم يعد ثمّة اعتقاد مذهبي يتميّز أنصاره عن الشكاك، وإنما هو تدرج وتداخل يجعل من المذهب شكيّاً يقينياً في الوقت نفسه، فهو يقيني ضد الشك المطلق، وشكي ضد اليقين المطلق. وعلى ذلك سيكون درسنا في إمكان المعرفة من خلال دراسة مذاهب الشك بنوعيه (معرفي أو "مطلق"، ومنهجي) ثم دراسة مذاهب التيقن، وموقف الفكر الإسلامي من الشك المطلق، والشك المنهجي في أربعة مطالب. إنكار المعرفة أمر قديم قدم المعرفة ذاتها إلا انه اخذ إبعاده من خلال اتجاهات محدده يمكن أن نرصدها في الدراسات التي تناولت هذا الأمر في اتجاهين الأمر الأول الشك المطلق ، والثاني الشك المنهجي
المبحث الأول
المطلب الأول : الشك المطلق (Scepticism):
مدخل إن من عورض الفعل المعرفي الذي ندرسه يظهر الشك المعرفي بوصفه رد فعل معاكس له في الاتجاه لان الشك المعرفي يقوم أصلا على الشك في أصل المعرفة وموضوعها وهو مايد فعنا الى نسبية المعرفة لهذا يتميز الشك المعرفي بوصفه نظرية في المعرفة ، هو دعوة إلى عدم إصدار أي حكم بحسبان (أن القضايا كافة، تقبل السلب والإيجاب بالقدر نفسه، مع الاعتقاد بأن أدوات المعرفة (الحواس والعقل) لا تكفل بلوغ اليقين.)( ) وقد يجعلنا هذا أن الاستدلال على المعرفة قد يوصلنا إلى إدراك المعرفة او لا يوصلنا إلى هذا التميز بين الخطأ والضلال الأول منهما في تأكيد حقيقة ليست حقيقية ، اما الضلال فيعني الفشل في الوسائل المتبعة للمعرفة ( ) إلا إن البحث عن المعرفة تعرض إلى أمر أساس قد يكون تشظيت لوجودها من خلال البحث في إمكانيتها من الأصل لهذا ظهر لنا اتجاهين في مجال البحث في ممكنات المعرفة هما الشك المطلق والشك المنهجي في الذي يلغي إمكانية المعرفة الأول يحاول الثاني إقامتها على أسس متينة من الرصانة المعرفية المبرهن عليها أ) المدرسة السفسطائية: بالرغم من أن الشك في أصله هو التردد في إصدار حكم بغرض الإمعان والتفحص، وهو ما يطابق معنى اللفظ اليوناني.( ) إلا أن الشك القديم لم يكن يحمل هذا المعنى كما أنه اتخذ معنى جديداً في وقت لاحق. فقد كان السفسطائيون أول من نادى بالشك , وكانوا يسخرون من سقراط( ) وأرسطو( ) وأفلاطون ( ). وكذا الحال بالنسبة للفلاسفة القطعيين الذين لا يرون من الحقائق , إلا ما يرونها هم . ولعل جورجياس( ). وان كانت موجودة بالفعل فلا سبيل إلى معرفتها . وفي مطلع القرن الثالث قبل الميلاد . صاحب هذا الإتجاه هو جرجياس، أحد قادة المدرسة السوفسطائية التي تأسست حوالي منتصف القرن الخامس قبل الميلاد. ويرى السوفسطائيون أن طريق إدراك حقائق الأشياء إنما هو العقل وليس الحواس لكونها خادعة ومتباينة.إلا أن جرجياس انتهى أخيراً عن طريق سفسطته العقلية إلى القول ببطلان المعرفة العقلية وقرر القضايا الثلاث التالية: أ- ليس هناك شيء موجود ب- لو كان شيء موجوداً فإننا لا نستطيع معرفته ج- لو فرض أن هناك شيئاً موجوداً وأمكن معرفته، فإننا لا نستطيع أن ننقله إلى الآخرين إما بروتاغوراس( ) اوضح من تقدم بمنهجية الشك , نزعة ذهنية إذ قال: إننا نشك في وجود الأشياء وقد برز هذا الشك في (إنكار الواقع الخارجي) فرغم انه هذا الموقف منسوب إلى للسفسطائية القدماء (القرن الخامس ق م)والمثالين ، مثل جورج باركلي( ) فقد أنكر هؤلاء حقائق الأشياء ، ووجودها الخارجي. ب. المدرسة البيرونية: وهذه المدرسة تنكر إمكان معرفة طبيعة الأشياء، وترى أن المعرفة الحسية والعقلية ليس لها قدرة تعريفنا بالحقيقة وإيصالنا إليها، فنحن لا ندرك من الأشياء إلا ما (يبدو) لنا. وكأن الأشياء خارج الذات المدركة محض مظهر، أما إدراك طبيعة ذوات الأشياء فلا سبيل إليه.( ) ذلك لأن المعرفة - في رأي هذه المدرسة - تتأسس على الإدراك الحسي، والحواس خادعة لا تقود إلى معرفة يقينية؛ وحتى النظر العقلي - عند الفيرونيين - يتأسس على الحس فمعرفته حسية غير مباشرة ومن ثمّ يكون أولى أن ينطبق عليه ما ينطبق على الحس من حيث عدم يقينية المعرفة. وخلاصة ما يمكن أن يصل إليه الفيلسوف أو المفكر برأي هذه المدرسة هو أن كل ما يحصّله من معارف إنما هو ظني غير يقيني، وإذا كانت غاية الفلسفة في جميع مذاهبها هي الوصول إلى حقيقة يقينية تطمئن إليها النفس؛ ولما كان هذا اليقين غير متحقق عند الفيرونيين؛ لذا فهم يرون أن على الإنسان أن يتوقف عن إصدار أي حكم ومن ثمّ يصوم عن الكلام مطلقاً، ولما كان هذا الوضع مستحيلاً على الإنسان العاقل ؛ فيتنازل الفيرونيون قليلاً ويؤمنون بأن الأفعال الضرورية لا تحتاج إلى معرفة يقينية بل يستطيع الإنسان للضرورة العملية أن يلجأ إلى هذه المعارف الظنية.( ) الأول :رد على افتراضهم :أن الإيمان بوجود واقع خارجي قضية بديهية مسلم بها لا يختلف فيها اثنان ، ولو في حدود ال((أنا)) المدركة ، إذ لو لم تكن ال((إنا)) موجودة فكيف أنكر المنكر أو اشك المشكك بوجود الواقع الخارجي.ومن الواضح أن ما سوى ((أنا)) المدركة والمدركات المرتبطة بها غير معلوم لنا بالعلم الحضوري ، بل هو بحاجة إلى منبه على وجوده ، والعقل هو الحاكم بوجودها انطلاقا من تأثير تلك الموجودات الخارجية فينا وتأثيرنا فيها ، فنحن ندرك بالوجدان أن هناك واقعا خارجيا نفعل فيه وننفعل عنه ، وهذا كاف في ثبوته . الاتجاه الثاني (التشكيك في أدوات المعرفة) التشكيك في إدارة المعرفة المسؤولية عن إدراك الواقع . من حيث عدم قدرتها على التعرف عليه وكشفه رغم أنهم يسلمون بوجود الواقع الخارجي ، وهم التيار ألتشكيكي ، أو ما يسمون ب((الشكاك))، كما أطلق عليهم في التراث ب((اللادريين) وعلى رأسهم بيرون. فقد كان (بيرون) ( ) Pyrrhoوتلميذه يبشران بمنهجية الشك ويدعوان إلى الالتزام بها .وعلى مدار القرنين الثالث والأول قبل الميلاد , تصدرت الأكاديمية الوسطى والجديدة , نزعة الشك هذه , وراح فلاسفة هذه الأكاديمية , يبشرون بهذا التوجه من الشك ويبررون أسانيده الفكرية . وفي القرن الأول قبل الميلاد , كانت (البيرونية الجديدة) تتصدر هذه المنهجية , وكان من ابرز فلاسفتها انيسيديموس واجريبا . ثم جاء الى هذا الوسط كارنيادس القويني (214 ـ 126 ق. م ) ويعد أوثق من قال بالشك في الأشياء منهجا , فقد رفض قول الرواقيين : إن الانطباعات الحسية , أمر يلزمنا , بل وسخر من لاهوتهم المشبه , وأكد ضرورة الفعل الأخلاقي ورفض الرجم بالغيب والعناية الإلهية والقول بالقضاء والقدر . الثاني :رد على افتراضهم : الشك في أصله تردد بين النقيضين ، من دون ترجيح لأحدهما على الأخر ، وهو يقطع طريق تحصيل العلم بالأشياء دوافع الشكاكين : 1. قصور الأدوات عن الوصول للواقع :حيث ادعوا أن أدوات المعرفة حس أو عقل قاصرة عن إيصالنا إلى إدراك الواقع الخارجي ، وقد تذرعوا في ذلك بأخطاء الحس وتناقضاته في الأحوال المختلفة ، فقالوا : إن الحواس متعارضة إزاء الشيء الواحد ،فالبصر يدرك بروزا في الصور ، واللمس يدرك تسطحا فيها ، والرائحة الطيبة يلتذ بها الشم ، ويتأذى منها الذوق ، وهذا يؤدي إلى تباين في الادراكات الحسية .كما تختلف الادراكات الحسية تبعا لاختلاف الظروف والأحوال من صحة ومرض ونوم ويقظة ،واختلاف الأمكنة والأوضاع والمسافات ،فما تراه عن قرب يبدو لك كبيرا ، وإذا رأيته عن بعد تراه صغيرا ، وقد تنظر إلى شيء إذا نظرت إليه من وضع آخر قد تراه دائريا ، والشئ إذا تحرك بسرعة كبيرة تراه على غير ما كنت تراه ساكنا شكلا ولونا ... وهكذا .كما أنهم شككوا في إحكام العقل وجملة طعونهم في الإحكام العقلية هي: أ.أن البديهيات ليس يقينية ، فلا تصلح أن تكون أساسا للمعرفة ،، فمثلا الشيء إما أن يكون أو لا يكون ؛ إذ النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ؛ وهذه من أجلى البديهيات عند العقل ، ومع ذلك فهي غير يقينية عندهم ؛ لان الشيء الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد ، وهذا يعني أن الشيء يصدق عليه أنه معدوم وموجود معا، ومن ثم فقد اجتمع النقيضان ، وهذا مخالف للبديهية نفسها . ب.إن جزمنا بالبديهيات كجزمنا بالعادات ولا فرق بينهما ، فكما إننا لا نعتمد على العادات أصلا في المعرفة فكذلك لا اعتماد على البديهيات . ج.ادعوا أن الأمزجة والعادات لها تأثير على اعتقادات القلب ، فلا تكون البديهية يقينية ، كما أنها لا تكون عامة ومطلقة ؛ إذ تختلف باختلاف الأمزجة والمؤثرات ، وان مزاولة العلوم العقلية قد دلت على انه قد يتعارض دليلان قطعيان بحسب الظاهر ، بحيث نعجز عن القدح فيهما ، وذلك يعني إننا نجزم بمقدماتهما مع أن إحدى هذه المقدمات خاطئة بالتأكيد ...هذا مع كوننا قد نجزم بصحة دليل ما زمانا ، ولا نعود نجزم بصحته بل نجزم ببطلانه في زمن آخر . كل هذا يؤدي إلى تناقض الأفكار الإنسانية ، ومن ثم فكيف تقوم المعرفة وكيف تكون ممكنة مع وجود هذا التناقض ؟ 2. اختلاف العلماء فيما بينهم : اعتبر المشككون اختلاف علماء كل صناعة أو فن مرده إلى فساد موازينهم ؛ لان هذه الموازين إذا كانت تتصف بشيء من الواقعية فالمفترض أنها تحافظ على وحدة وانسجام السير الفكري لمتبنياتها ، الأمر الذي لا نجده في طيات بحوثهم ، وهذا مما يعكس زيف الموازين التي يعتمدون عليها . 3. التباين بين النظرية والتطبيق :وهو الدافع الثالث لإنكارهم المعرفة ، وهو يبتني على مقولة عدم عمل العلماء بعلمهم ، فلا تجدهم يطبقون نظرياتهم على أرض الواقع العملي ، مما يكشف عن كونها غير صادقة ، ولو كانت كذلك لكانوا هم أولى بإتباعها .
المطلب الثاني : الــــرد على الشكاك: تفاوت الرد على الشكّاك، والموقف منهم بين فلاسفة الإسلام و مفكريه، إذ كانت هناك ثلاث مواقف هي الآتية : الموقف الأول : فمنهم من ردّ على الشكّاك بالمنطق نفسه الذي استخدمه أفلاطون وأرسطو من قبـل، وهو منطق عقلي قياسي: والذين أخذوا برد أفلاطون عليهم ركزوا أولاً على نفي ادعائهم بأن المحسوسات هي مصدر المعرفة الوحيد، ومن ثم فإن الخطأ والتوهم الناجم عن الحواس يمكن تصحيحه إما بالعقل، والبرهان، والتجربة، أو بتصحيح الحواس لبعضها البعض حيث أن معرفة الحواس جزئية وكل حاسة تعطي جانباً من حقيقة المحسوس وهذه الصورة تكملها الحواس الأخرى أو العقل.( ) أما إنكارهم للبديهيات بحجة اختلاف الآراء والبيئات وغيرها فإن كل ذلك جائز ولكنه لا ينفي وجود بديهيات يلتقي الناس حولها ويتفقون عليها كالحقائق الأخلاقية والقواعد الرياضية. وأما رفضهم للبديهيات العقلية بحجة امتناع البرهان التام، فقد ردّ بأن للعقل قضايا كلية لا يمكن الاختلاف فيها أو المغالطة فيها كبديهية (الكل أكبر من الجزء والجزء أصغر من الكل).
الموقف الثاني :ومنهم من رد عليهم من منطلق الأساس العقدي برفض حججهم المنافية للفطرة، والمنافية للمحكم من نصوص الشرع: بدأ الشك بوصفه منهجاً معرفياً مع ظهور المذاهب العقلية في الإسلام أي المدارس الكلامية، وعلى رأسها المعتزلة، وهذا يعني أن فقهاء الصحابة والتابعين لم يتعرضوا للحكم على الشك والشكّاك. وأما كون هذا المنهج بدأ في وقت مبكر مع أوائل أهل الاعتزال، فيؤكده ما نقله الجاحظ( ) عن النظّام( ) - أحد شيوخ الاعتزال قوله: (لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك)( ). ويشير الجاحظ إلى أن الشك طبقات - درجات - بإجماع الأئمة، خلاف اليقين الذي لم يجمعوا على أنه طبقات. وما أشار إليه الجاحظ سليم، فإن علماء المسلمين لم يجمعوا على أن اليقين طبقات كالشك، فهناك من ذهب إلى أن اليقين لا مجال فيه للتفاوت، والزيادة، والنقصان، وإلى هذا الرأي ذهب ابن حزم( ) حيث يقول "اليقين لا يتفاضل"( ) وهذا أيضاً معنى قول ابن عطية( ) "فاليقين لا يتبعض".( )
وقد أورد الجرجاني( ) في التعريفات إيضاحاً لهذا: "فعلم كل عاقل الموت: علم اليقين، فإذا عاين الملائكة: فهو عين اليقين. فإذا ذاق الموت: فهو حق اليقين".( ) وقيل: علم اليقين: ما يحصل عن الفكر والنظر، كعلمنا بوجود الماء في البحر، وعين اليقين: ما يحصل عن مشاهدة وعيان، كمن مشى ووقف على ساحل البحر وعاينه، وحق اليقين: ما يحصل عن العلم والمشاهدة معاً، كمن خاض في البحر واغتسل بمائه".( ) ولعله من الضروري التنبيه على أن اليقين سواء عند من يرى بأنه لا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص أو عند من يرى أنه طبقات، هو خلاف الشك وضده، فكل ما ليس يقيناً فهو شك، وإن كان الشك في بعض الأحيان يقصد به الظن، وأحياناً يقصد به التردد بين احتمالين متساويين يقول ابن القيم( ): "حيث أطلق الفقهاء لفظ الشك فمرادهم به: التردد بين وجود الشئ وعدمه، سواء تساوى الاحتمالان أو رجح أحدهما".( ) ولكن الذي يعنينا هو الشك المنهجي المؤدي إلى الحق واليقين والذي أسهم المعتزلة في تأسيسه كما مرّ بنا قريباً، حيث جعل الجبائيان( ) الشك جزءاً واجباً من النظر العقلي. ووصفه أبو هاشم الجبائي بأنه أول الواجبات. ولكن هذا الشك لم يظهر بوصفه منهجاً معرفياً متكاملاً إلا على يـد الإمام الغزالي الذي حدد مهمتـه، وأكد وجوبيته في مقولته الشهيرة (فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة).( ) والغزالي كان من أكبر الدعاة إلى استخدام العقل ورأينا رفضه لمن يأخذون الدين (الاعتقاد) تقليداً، وهذا هو موقف الأشاعرة عموماً في عدم تجويز الاعتقاد بالتقليد حتى أن الإمام الأشعري( ) كان قد قضى بتكفير المقلد( )، واشتهرت من أقوالهم مقولة (ليس مؤمناً من لم يستدل).( ) الموقف الثالث : ردت عليهم من داخل منطقهم بإبراز تناقضه مع نفسه وأنه محض مغالطة. ولكن الغزالي يرد حجة الشكّاك بعدم الاعتراف بقبول النظر العقلي بأن قبولهم بمناظرة الغير هو نفسه اعترافاً ضمنياً بقبول النظر العقلي، يقول: (فالسفسطائي كيف يناظر؟ ومناظرته في نفسها اعتراف بطريق النظر).( ) أما الإمام الإيجي فقد رجح منع العلماء لمناظرتهم إذ يقول (والمناظرة معهم منعها المحققون؛ لأنها لإفادة المجهول بالمعلوم، والخصم لا يعترف بمعلوم حتى يثبت به مجهول).( ) وكذلك رتب المتأخرون هذه الحجج في ثلاث نقاط:( ) أولاً: الشاك عاجز عن إثبات مذهبه، لأنه إن قدم حججاً في النفي والإثبات، فقد أقر بالعلم اليقيني، وإن اكتفى بإثباتها جزافاً ردت عليه جزافاً بغير برهان. ثانياً: الشاك في مذهبه إما أنه متيقن من صحة شكه (فذلك من اليقين)، وإما أنه راجح لديه، فالترجيح يحتاج إلى مرجح ودليل، وإما أنه غير متيقن ولا مرجح، وحينها لا يصح وصفه بالمذهبية إذ هو عاجز مقر بعجزه عن إثبات مذهبه. ثالثاً: الشك نفسه بوصفه مذهباً يحمل ثلاث بديهيات وهي: وجود الذات المفكرة (وهي تلك التي أثبتها ديكارت في شكه). والثانية هي عدم جواز التناقض، والثالثة كفاية العقل لمعرفة الحقيقة، إذ إن إعلان الشك نفسه إنما هو صورة من نقد العقل للعقل.
المبحث الثاني الشك المنهجي وأغراضه المطلب الأول مدخل: خلافاً لأصحاب الشك المطلق الذين يقعون في الحيرة فيمتنعون عن إصدار الأحكام، فإن أصحاب الشك المنهجي قد اتخذوا من الشك سبيلاً إلى اليقين، وهو عملية اختيارية هدفها إفراغ العقل مما فيه من معلومات سابقة قد تكون عرضة للمغالطة وعدم التأكيد، وذلك لتهيئة العقل لدراسة الأمور دراسة موضوعية غير متأثرة بالمفاهيم الشائعة والأخطاء المألوفة.( ) والشك المنهجي قديم في جذوره، إذ نجد له أساساً عند سقراط في أسلوب جدله مع السفسطائيين من خلال التهكم والاستفهام من موقع ادعاء الجهل وذلك بغرض تحرير العقل وتهيئته للحقائق الموضوعية. ونجد كذلك عند أرسطو حثّاً على الشك بالقدر الذي يحفز على تلمس سبيل اليقين، حيث يقول في ذلك: (إن الذين يقومون ببحث علمي من غير أن يسبقوه بشك يزاولونه، يشبهون الذين يسيرون على غير هدى فلا يعرفون الاتجاه الذي ينبغي أن يسلكوه).( ) ومع عودة الدراسات الفلسفية إلى الازدهار في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت بذور مذهب الشك المنهجي ولكن لم يتأطر هذا الشك بوصفه نظريةً وأسلوباً علمياً مقنّناً للبناء المعرفي إلا على يد ديكارت( ) الذي يصفه بأنه (وسيلة للحصول على معرفة الحقيقة معرفة أكثر وضوحاً).( ) وهو الشك نفسه الذي يقول عنه الإمام الغزالي( ): (الشكوك هي الموصلة إلى الحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال).( ) ب) القيمة العلمية للشك المنهجي: بعد أن تلاشى الشك بوصفه نظرية في المعرفة توطدت أركان الشك بوصفه منهجاً للبحث والتدقيق في المعرفة، وتمدد بأدواته من الشك المعرفي (الشك الإبستمولوجي)، بوصفه موضوعاً فلسفياً إلى شك منهجي يحفز الإنسان للبحث، والنظر، والتدقيق؛ ليشمل العلوم النظرية والتجريبية كافة، سواء تلك التي تولدت عن الفلسفة، واستقلت عنها، أو تلك التي نشأت مستقلة بذاتها. ثالثاً: مجــالات الشــك: بمدارسة نوعي الشك (مطلق - منهجي) تبين لنا أن الشك المطلق هو شك في أصل المعرفة وإمكانيتها لذا يُسمى (بالمعرفي) لإنكاره إمكان المعرفة أو (الفلسفي والمذهبي) لكونه مذهباً فلسفياً يعتقد صاحبه بانتفاء موضوع المعرفة، واستحالة إدراكها، وفي مقابله نشأ الشك المنهجي بوصفه منهجاً للبحث عن الحقيقة لذا سُمي أيضاً (بالعلمي) وهو لا ينتقص من يقينية أصحابه بوجود حقيقة يمكن معرفتها، ومن هذه العلاقة الجدلية بين الإطلاق والنسبية يثور التساؤل حول المجالات التي يمكن أن يتطرق إليها الشك، بل التي طرقها بالفعل. ومجالات الشك تختلف في دائرة الشك المطلق عنها في دائرة الشك النسبي. 1- مجالات الشك المطلق: أ- الشك في الحقيقة التي هي موضوع المعرفة، وهو شك في وجودها. ب-الشك في إمكان معرفة الحقيقة (إن وجدت). ج- الشك في إمكان إبلاغ المعرفة أو تداولها.
2- مجالات الشك النسبي: بعد التسليم بوجود حقيقة وإمكان إدراكنا لها، يظل الباب مفتوحاً لألوان من الشك النسبي أو الجزئي ومن ذلك: أ) الشك في طبيعة المعرفة: ومصدره تباين المذاهب في تكييف طبيعة المعرفة مما يوقف الفلاسفة موقف الشك تجاه هذا التباين. ب) الشك في مصادر المعرفة: فإنكار كل مذهب ومدرسة فلسفية لمصدر أو أكثر من مصادر المعرفة هو شك في جدوى هذا المصدر، ومدى يقينية المعرفة المتأسسة عليه، فمن أصحاب المذاهب من يصب شكه على الحواس، ومنهم من يشك في العقل، ومنهم من يشك فيما سوى الحدس والإشراق، وكل ذلك من صور الشك. ج) الشك طريق إلى اليقين: وهو شك في المعلومات والآراء المسبقة، وهدفه إفراغ العقل توطئة لإعماره بحقائق يقينية تتأسس على بديهيات أولية، وهذا هو الشك الذي عاشه الغزالي، إذ ظل مؤمناً بالحقيقة الإلهية، كما آمن بالنبوة، واليوم الآخر، وجاء شكه شك باحث عن الحقيقة، مؤمن بوجودها.( ) وحالة إفراغ الذهن أيضاً مرّ بها ديكارت حتى استقر على نقطة من اليقين في حقيقة تفكيره التي أسّس عليها حقيقة وجوده (أنا أفكر إذن أنا موجود).( )
المطلب الثاني :موقف الفكر الإسلامي من الشك المنهجي الشك بوصفه وسيلة لنفي المعارف الظنية وإبدالها بمعارف يقينية بعد إعمال النظر أمر لا خلاف عليه بين مفكري الإسلام، وإنما ثار خلافهم حول: متى يجوز للمسلم أن يشك؟، ومتى يتوجب عليه هذا الشك؟، وأيضاً متى يمتنع عليه اتخاذ موقف الشك؟. جذور الشك المنهجي في الإسلام: بدأ الشك بوصفه منهجاً معرفياً مع ظهور المذاهب العقلية في الإسلام أي المدارس الكلامية، وعلى رأسها المعتزلة، وهذا يعني أن فقهاء الصحابة والتابعين لم يتعرضوا للحكم على الشك والشكّاك. وأما كون هذا المنهج بدأ في وقت مبكر مع أوائل أهل الاعتزال، فيؤكده ما نقله الجاحظ( ) عن النظّام( ) - أحد شيوخ الاعتزال قوله: (لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك)( ). ويشير الجاحظ إلى أن الشك طبقات - درجات - بإجماع الأئمة، خلاف اليقين الذي لم يجمعوا على أنه طبقات. وما أشار إليه الجاحظ سليم، فإن علماء المسلمين لم يجمعوا على أن اليقين طبقات كالشك، فهناك من ذهب إلى أن اليقين لا مجال فيه للتفاوت، والزيادة، والنقصان، وإلى هذا الرأي ذهب ابن حزم( ) حيث يقول "اليقين لا يتفاضل"( ) وهذا أيضاً معنى قول ابن عطية( ) "فاليقين لا يتبعض".( ) الشك عند الغزالي: عرف الغزالي بالشك لدى الفلاسفة والمفكرين من المسلمين وغيرهم، ولكن الذي اختلفوا فيه أمران: الأول: هو مدى ارتباط الغزالي بالفلاسفة، ومن ثمّ مدى إمكان عدِّ أقواله وآرائه نظريات فلسفية، أو هي اجتهادات فقيه مسلم في نطاق صفته بوصفه فقيهاً مسلماً وسنّياً متصوّفاً، ومرد ذلك أنه رغم مناهضته للفلاسفة جملة، ورفضه كثيراً من القضايا التي شكّلت موضوعاً للمعرفة، أو طُرُقِ الخوض فيها، وأحياناً ينصب رفضه للنتائج التي يتوصل إليها الفلاسفة، فالمهم أنه في كل ذلك كان يستخدم كثيراً من أدوات الفلسفة، وأساليب الفلاسفة، بل عَدَّ المنطق والقياس من الأدوات اللازمة للفقيه المسلم. ولعل براعته في استيعاب الأساليب الفلسفية واستخدامها هو الذي جعله يصنف في عداد الفلاسفة لاسيما حديثه وموقفه من الشك، واليقين، وتجربته العملية الشخصية. والأمر الآخر الذي أثار حوله الجدل هو موقفه من الشك فهل كان هذا الشك مطلقاً أم منهجياً؟ فالذين ينسبونه إلى الشك المطلق يتحدثون عن فترة عابرة في حياته شك فيها في كل شيء وكاد يقنط من تلمس طريق اليقين، وهو يقر بأنه تجاوز ذلك بنور قذفه الله في قلبه. وأما الذين يضعونه في خانة الشك المنهجي، فيأخذون من أقواله أدلتهم إذ يدعو إلى النظر والشك الموصل إلى اليقين وتأسيس المعرفة على البديهيات الأولية بعد التثبت منها.( ) والرأي عندي أن الشك عند الغزالي لم يبلغ أبداً درجة الشك المطلق الذي يعصف بجميع البديهيات لأننا إن وصفناه بذلك فكأننا نظن أنه مرّ بمرحلة من الإنكار والإلحاد أو الشك في وجود الخالق، ولكن الواقع أن الغزالي وهو في أوج شكه، وقد اعتزل الناس والتدريس، كان مهموماً بأمر الحقيقة، وإن حار في السبيل إليها، فقد شك في مصادر المعرفة، ثم بلغ اليقين بنور قذفه الله في قلبه كما ذكر في كتابه "المنقذ من الضلال". ومعلوم أن الحدس والإشراق هو مصدر للمعرفة يعترف به العديد من الفلاسفة اليونان والأوربيين، وعلى ذلك يمكن تشبيه فترة الشك عند الغزالي بفترة الاعتزال وإفراغ العقل التي مرّ بها ديكارت من بعد، رغم أن مصدر المعرفة الذي اعتمده ديكارت هو العقل في المقام الأول.
#عامر_عبد_زيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكالية الخطاب الإعلامي والتحول الديمقراطي العربي
-
من اجل إحياء العقلانية العراقية الغائبة
-
آراء أهل المدينة الفاضلة
-
رهانات الحداثة الإسلامية
-
التأويل والريبة عند ماركس
-
مفهوم الهوية وقبول الأخر
-
مقاربة في رواية -الحنين إلى ينابيع الحب -
-
تحولات -بروتيوس-(*)
-
مجلة قراطيس
-
رهان الهوية واليات التعايش في العراق الجديد
-
جدلية المثقف والسلطة في الخطاب السياسي عند فلاسفة الإسلام
-
مقاربه في المنهج
-
إمام الصمت والاستقطاب الطائفي ماذا يحدث في اليمن ؟
-
قراءة في مشروع بول ريكور التاويلي
-
اطياف الديمقراطية في تمثلات الذات العربية
-
اللغة واليات انتاج المعنى
-
مقاربه في المجتمع المدني
-
الحجة للقيام بإعمالهم العدوانية .مختارات من اعمال المفكر الع
...
-
التعويضات بحق العراق ونظام الخلافة الدولية / مختارات من اعما
...
-
رهانات التحديث والديمقراطية و الواقع العربي
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|