أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - مازال المسيح مصلوبا 11















المزيد.....


مازال المسيح مصلوبا 11


حبيب هنا

الحوار المتمدن-العدد: 1067 - 2005 / 1 / 3 - 09:06
المحور: الادب والفن
    


- 11 -
آه ! يا للشقاء !
الآن يدخل إلى مدار الطيوف الدامية والذكريات المؤلمة . يقف عند بوابة الموت والجندي القابض على زناد المدفع الرشاش، تمر من أمام عينيه سميحة وثريا وبقايا الأطراف الآدمية التي كانت قبل أن تقصف الطائرات مستشفى العيون تنبض بالحياة . فيما كان الجندي يقطر نشوة وغروراً ويصدر أوامره بعربية ركيكة ما تلبث أن تتحول إلى عيون متوهجة بعد عدم الانصياع الكامل إليه فتبدأ تنفث حقداً وكراهية .
تلك هي حال المعابر بين ضفتي النهر . ذل مختزن وغطرسة طافحة وأحلام بحب صافٍ نقي من الخوف والأحزان وهواجس الذاكرة .
ولكن صالة الانتظار التي تخيم عليها الكآبة تعج بالمفارقات والناس من مختلف الأعمار . تباغته امرأة قابضة على يد طفلة بعد أن تمل النظر إليه ، تقترب منه إلى حدود التلامس ، وتقاطع خطوط الحياة بالموت ، وتسأل بما يشبه الإجابة :
- أنت تعرف عبد العاطي ؟!
ينظر في الاتجاهات المختلفة فلا يرى إلاّ فلك مشدودة إليه بانتظار نزف الإجابة :
- مَنْ عبد العاطي هذا يا سيدة ؟
- أنا زهرة . ألم تعرفني ؟
- ولم أسمع بك من قبل .
- ولكني أعرفك . انظر إلى هذه الطفلة إنها ابنته .
- ابنة مَنْ ؟
- عبد العاطي .
- اتركيني وحدي أيتها السيدة فأنا لا أعرف شخصاً بهذا الاسم .
- ولكنك شقيقه التوأم . لقد حدثني عن هذا قبل أن يقتلوه! ويقيناً أرسل إليك يقول : تزوجت من زهرة الفتاة التي أحبتني وأحببتها!
أدرك عبد الله وفلك أن ثمة تشابهاً في الملامح بينه وبين عبد العاطي ، مما دفع المرأة للاعتقاد أنه شقيقه التوأم .
اقتربت فلك من أذن عبد الله وهمست :
- لا بأس إن استمعنا إلى قصتها حتى يحين موعد المغادرة .
- ولكن أخاف أن تذرف الدموع فينتبه الجنود إليها وتكون سبباً في بقائنا حتى وقت متأخر من الليل .
- تبدو أصلب مما تتصور . ملامحها قوية وشديدة .
- افعلي ما تشائين فلست مسؤولاً عما يحدث !
نظرت إلى زهرة كمن تسبر غورها ، ثم قالت :
- اسمعي أيتها السيدة : نحن على استعداد لسماع قصتك مهما كان فيها من الشقاء والتعاسة شرط أن تبقي متماسكة حتى لا نلفت انتباه الآخرين .
لفتها الأحزان وهي تنظر إلى فلك فبانت أكثر شقاءً مما هي عليه . مظهرها الخارجي الناعم لا يعكس شراستها الداخلية على الرغم من أنوثتها المكتملة الجذابة . ومع ذلك، المآسي التي صبغت الوجنتين أضفت عليها جمالاً ريفياً وحشياً يصل إلى شرايين الروح المغلولة بالوقت والانتظار والسماح بالمغادرة وفقاً لمشيئة المجندات اللاتي يجلسن خلف مكاتبهن وينظرن من كوة تتوسط الأسلاك المعدنية .
ثم جاء صوتها ، فجأة ، من خلف أمواج الذكريات وتناسخ الأحلام ، ملولباً كأنه خارج من فوهة رشاش :
- أنا يا سيدتي ، قبل سبعة أعوام تقريباً ، التقيت عبد العاطي عندما شارف الليل على الفجر . كان يبحث عن مكان آمن يطل منه على المستقبل . وكانت أقدار الرجال الذين يقودهم ، أمانة في عنقه ، فحرص عليها حرصه على استمرار مقاومة الاحتلال . زرع جبال الضفة الغربية بالخلايا المسلحة السرية وعند خطوط التماس .
قدمت له وجبة الإفطار ونشرت ضفائري كي يستظل تحتها من وهج الشمس . تزوجنا سراً وأنجبت منه هذه الطفلة بعد أن وصل إليه القتلة . لم يعترف أحد بشرعية الابنة ولا أعرف عنه سوى الاسم وشقيقه التوأم . أين أهله؟ كيف أصل إليهم ؟ لماذا يتجاهلون موته ؟ أمور لا أقوى على الاستمرار بالتفكير بها .
قتلتني الحيرة ونمو الطفلة سريعاً . أسئلتها تكبر كل يوم وليس هناك إجابة .
صمتت . التمعت عيناها بوميض خاطف للقلب وغريب كأن ذكاءها ينصهر في أفران المآسي ويخطو فوق أمواج الغبار وبقايا الأزمنة :
- من أية مدينة أنت ؟
- من قرى رام الله .
- طفلتك جميلة وتشبهك كثيراً .
أصاب عينيها البلل لكنها تمالكت :
- هي أمي وأبي . وأختي وأخي . ابنتي وزوجي الذي أحب . كل شيء لي في هذه الدنيا !
- حافظي عليها من الضياع في زحمة الوقت .
- لا أملك سواها ولا يشغلني عنها سوى لقمة العيش .
- أتخافين عليها ؟
- بكل تأكيد . وأرغب أن أعيش حياة مديدة حتى أتمكن من تربيتها على أحسن وجه .
تدخلت فلك بما يشبه الهمس :
- احذر من جرح مشاعرها !
ردت زهرة بعد أن تضرجت وجنتاها بالحمرة :
- زوجتك طيبة ورائعة تستحق كل الاحترام والمحبة .
- وزوجي أيضاً طيب ورائع ويحب مساعدة الآخرين .
كتب عبد الله العنوان ورقم الهاتف وقدمه إليها :
- عندما تحتاجين أية مساعدة اتصلي بي وستجدينني إلى جوارك!
من مكبر الصوت جاء الاسم يعلن عن انتهاء مدة الانتظار . ودّعاها بنظرة حنان صافية مثل صباحات المدينة الساكنة وغادرا الصالة متوجِهَيْنِ نحو أقرب سيارة تاكسي تتقدمهما عربات حقائب السفر .
صعدا السيارة . قالت فلك :
غالباً يرتاح المرء عندما يشرك الآخرين في أحزانه وآلامه !
رد عبد الله :
ليتنا كنا نملك الوقت والسعادة كي نقدم بعضاً منهما لتلك الزهرة الذابلة . ولكن لا بأس سنزورها في بيتها يوماً عندما نحصل على العنوان .
بحزن المرأة ومنافستها قالت فلك : إذا كان لدينا متسع من الوقت!
* * * *

قبل أن تمضي السيارة كانت زهرة قد خرجت من الداخل على كتفها حقيبة وفي يدها الطفلة الوحيدة . ركبت إلى جوارهم دون أن تنطق بحرف . وكان عبد الله قد رآها وهي خارجة من البوابة رأسها شامخ وخطواتها الرزينة تعكس عزة نفس ليست على سواها . تعتلي وجهها مسحة حزن جميلة أضفت عليها مزيداً من الوقار . قال في سره : هذه المرأة من حقها علينا أن نبني لها نصباً تذكارياً في وجداننا !
لم يمض وقت طويل حتى امتلأت السيارة وانطلقت . جميع الركاب كانوا من غزة باستثناء زهرة وطفلتها . طلب عبد الله من السائق التوجه إلى مكان سكناها حتى يرى القرية التي خرجت من بين ضلوعها وشقوق صخورها زهرة التي ملأت سهولها بالرائحة الطيبة .
وعند مدخل القرية ، شاهد الأطفال السيارة فتحلقوا حولها. انتشر الخبر سريعاً : العمة زهرة وصلت .
أمام صخرتين ناتئتين طلبت زهرة من السائق التوقف. نزل عبد الله من السيارة وأخذت عيناه تمسحان المكان . سار بضع خطوات إلى أن وصل الصخرتين واتكأ على واحدة منهما . لحقت به فلك ولما صارت جواره قالت :
- مكان جميل وشاعري !!
من البيت القابع عند نهاية الدهاليز المظللة بالعنب والتين جاءت عجوز طاعنة في السن تتوكأ على عصا يسبقها الصوت :
أين أنت يا ابنتي ؟
ركضت الطفلة نحو جدتها . ركض عبد الله خلفها ومن خلفه زهرة تدق الأرض بثبات فيما كانت فلك ما تزال بالقرب من المدخل تتابع المشهد .
عانقت زهرة أُمها . سألت الأم :
من يكون هذا يا ابنتي ؟
- صديق سفر .
احتضن عبد الله الطفلة وأشبعها لثماً . وضع في جيب بنطالها بضعة دنانير ثم نظر إلى زهرة بعينين متماسكتين ، سدودها تحبس قنوات الدموع .
نظرت إليه وهمت أن تقول شيئاً تراجعت عنه في اللحظات الأخيرة خشية الانهيار المباغت . ترك الطفلة ثم قال :
سنأتي لزيارتكم يوماً !
وصل الصخرتين . كانت فلك ما تزال تنظر في البعيد . هزها بلمسة حنان :
- السائق ينتظرنا .
انطلقت السيارة نحو غزة صعوداً وهبوطاً تبعاً للطريق، فيما كان عبد الله قد وصل إليها عند أول منعطف . أغمض عينيه وبدأ يرسم ملامح ابنه كما ل على الصورة التي من الممكن أن يكون عليها بعد هذا الغياب .
وفجأة احتلت صورة أبيه مركز التفكير والذكريات . لقد عانى كثيراً من أجل أن يراهم رجالاً. وعندما أضحوا كذلك كان قد فقد بصره . يتذكر الآن بوضوح قصة الجيش الإسرائيلي الذي احتل مستشفى الشفاء ثالث أيام الحرب . يهمس في أذن فلك :
- يداهمني الآن طيف أبي . ولا أعرف كيف فاتني السؤال عنه؟!
- هو بخير ولا تقلق عليه .
- صورته ماثلة أمامي كأنني أراه للتو رغم مضي سبعة أعوام تقريباً على تلك القصة .
- عن أية قصة تتحدث ؟
- بعد مضي يوم فقط على محاصرة جنود الاحتلال لمستشفى دار الشفاء آثر أبي الاطمئنان عليّ رغم حظر التجوال بعد أن علم بقصف الطائرات للمستشفى . ولما صار قبالة المستشفى (في شارع عمر المختار) رآه جندي من أصل يمني قادماً صوبنا وقد كنا آنذاك عند البوابة الخارجية . صرخ عليه بأعلى صوته حتى يعود إلى المكان الذي جاء منه ، ولكنه لم يعبأ . طلب الجندي مني لحظتئذ أن أصرخ عليه لأجل هذا الغرض ، وعندما نظرت صوبه عرفت أنه أبي . قلت للجندي إنه أبي رجل طاعن في السن لا يسمع ما يقال حتى لو كنت بجواره .
رد الجندي بما يشبه الأمر :
- إذن لوح له بيدك حتى يعود قبل أن يطلق بعض الجنود عليه النار .
- لا يراك حتى لو كنت على بعد خطوة منه .
عندئذ نظر الجندي إليّ وفي عينيه ومضة إنسانية : ما دام لا يرى ولا يسمع لماذا إذن خرج من البيت في هذا الوقت ؟ لماذا الإصرار على الموت ؟
دك الأرض بقدمه دكاً : أقسم بديني ، بأمي وأبي وبأطفالي الصغار ، أنني لم أقتل إنساناً يوماً، وأكثر ما أخشاه الآن أن يقتل على مرأى مني .
-افعل شيئاً إن كنت تخشى عليه .
أخذ يركض فجأة فتحولت أنظار الجنود إليه . لم يعبأوا بالقادم ولم يصوبوا بنادقهم إلى صدره . وصل إليه , قاده من يده حتى أضحيا أمام البوابة على مقربة من الجنود الذين احتشدوا لمعرفة الأسباب . قال :
هذا هو ابنك اطمئن عليه .
لم يسمعه .
تقدم عبد الله منه , اتكأ برأسه على كتفه . أخذ الأب يتحسس بيديه على تمهل النتوء البارز خلف أذنه ، بكى عبد الله الطبيب . صرخ الأب العجوز :
ولدي !
انهالت دموعه مدرارة . مشهد مؤثر حرك يباس القلوب. نظر الجندي اليمني وعيناه متماسكتان بصعوبة، صَوْبَ الضابط الذي راقب الأمر عن كثب . قال :
أرجو من سيادتك السماح للطبيب باصطحاب أبيه إلى البيت بعد إبلاغ الجنود حتى لا يعترضوهم أو يعرضوا حياتهم للخطر .
نظر الضابط إلى الجندي نظرة بلهاء لا تحمل أي معنى . قال:
اصطحبهما إلى البيت .
وعندما أوشكوا على الوصول إلى البيت مرت سيارة عسكرية محملة بالطعام الخاص بالجنود. توقف الجندي السائق يسأل :
إلى أين تصطحبهما ؟
- إلى البيت !
- هل تريد شيئاً ؟
- قليلاً من علب البسكويت .
- أطلب من الجنود الجالسين في مؤخرة السيارة .
انهالت عليهم علب البسكويت والشوكولاتا . تناولوها بتؤدة فيما واصلت السيارة طريقها .
وعند الباب الخارجي للبيت كانت امرأة عجوز تنظر صوب القادمين نحوها دون تحديد ملامحهم . ولما اقتربوا منها عرفت عبد الله من فورها . ركضت نحوه . وضعته بين أحضانها في الوقت الذي بدأت فيه الدموع بالانسكاب :
-عبد الله يا ولدي !
* * * *

أغمضت فلك جفنيها بعد أن أسندت رأسها إلى الخلف وهي تستمع للقصة فأخذها النوم إلى مداراته . فيما كانت السيارة ما تزال تطوي الإسفلت كبساط بعد أن تجاوزت مناطق الصعود والهبوط وأمسى الطريق ممتداً بلا نهاية .
صمت عبد الله بعد سماعه انتظام أنفاسها ، وكان معظم ركاب السيارة يغمضون العيون . نظرت إليه في اللحظة التي توقف فيها عن الحديث وكأن توقيت نومها مضبوطاً بحبال الصوت .
قالت :
أكمل . لماذا توقفت ؟
- كنت أحسبك نائمة .
- هو كذلك ولكنني سمعت حديثك كاملاً .
- أقول الحق ، لا زلت متفاجئاً بتصرف الجندي اليمني . لم أكن أتصور أن جندياً إسرائيلياً يمكن أن يسلك مثل هذا السلوك . وكنت دائماً كلما تذكرت هذه المسألة أحلتها إلى المناخ البيئي الذي عاش فيه قبل قدومه إلى إسرائيل . غير أن الكثير غيره عاش مناخات مماثلة في البلدان العربية ولم يتصرفوا بطريقته . بل أبعد من ذلك، البعض منهم مارس هواية القتل .
قاطعته فلك على غير توقع :
- لا تنسَ أن المشاعر الإنسانية ليس لها علاقة بالدين أو القومية أو الموطن . إنها سلوك تجعل الناس الأسوياء أكثر قدرة على التسامح والعفو !
- معك حق .
اقتربت السيارة من الحاجز المتموضع شمالي قطاع غزة . طلب السائق من الركاب إبراز الهويات الشخصية وتصاريح السفر . أشار الجندي إلى السيارة بالمرور دون النظر إلى التصاريح . قال السائق:
- حمداً لله على سلامتكم .
اشتد حنين عبد الله إلى ابنه . قبل فلك من وجهها القريب إليه فالتصق كتفها في صدره . قال هامساً :
- الآن أشعر بالطمأنينة يا أم كما ل !
-12-

من المستشفى إلى العيادة الخاصة ، ومنهما إلى البيت. أيام متكررة يطويها الروتين والملل . هذه هي حياة عبد الله بعد الاستقرار والانغلاق . يشوبها أحياناً السفر بضع أيام للمشاركة في مؤتمر علمي يبحث آخر الاكتشافات في حقل التخفيف من معاناة الإنسان . تتجدد الروح وتختلف زاوية النظر لمختلف القضايا بعد كل مشاركة في مؤتمر . تتعدد الاهتمامات أياماً معدودة ثم ما تلبث أن تعود إلى وضعها السالف .
وذات مساء ، خلد لنفسه ، فإذا بها واحة لاستظلال الضمير . أجرى كشفاً سريعاً لحصاد السنين ومرت طيوف الذكريات مثل ومضة :
قصف الطائرات . سميحة وثريا . الخالة أم رائد . اجتياز النهر والدليل البدوي . الضابط نابغ سليم وأوراق السفر المزورة. مضيفة الطائرة البريطانية وزهرة . نعم زهرة .
لقد وعدها بالزيارة يوماً . لكن فلك ليست موجودة الآن . ذهبت لزيارة كما ل الابن البكر الذي يدرس الطب في أمريكا . مضى عليها أسبوعان متصلان دون أن تكلف نفسها عناء الاتصال والسؤال . ومن غير الجائز زيارة زهرة بعد مضى هذه السنوات دون مرافقة فلك . ماذا عساها أن تقول ؟
دارت الطيوف في رأسه دورتها الجنونية . أعادت إليه أجمل سنوات العمر الأكثر عطاءً وفتوة : في المستشفى الحكومي يسمع مرضاه دون أي تذمر ، ويجري الفحوصات الدقيقة من أجل تشخيص المرض وتحديد نوع العلاج . وفي العيادة الخاصة كان يطلب من الممرض إعادة أجرة الكشف لبعض الحالات المعوزة . يتعاطف معهم وجدانياً ، ويصرف لهم العلاج المجاني الذي يكون قد حصل عليه كنوع من الدعاية لصالح شركة المستودعات الطبية، في حين كان الكثير من الأطباء يبيعونه بيعاً .
شهرته في مجال التخصص سبقته بين البسطاء ، وشفاء الحالات المرضية التي تعرض عليه منحته مزيداً من الثقة والزبائن . كان هاجسه التخفيف عن المرضى ، فاتصل عمله حتى موعد متأخر من الليل.
الأمراض الجديدة التي لم يسبق التعرف عليها كانت تستحوذ على جل اهتمامه ويتابعها بقلق . وعندما تَبْرَأ يتنفس الصعداء ويقول في سره : اليوم أضفت منجزاً إلى حقل الاختصاص !
ولكن لماذا تداهمه زهرة الآن بهذا الإلحاح ؟ ربما تحتاج لمد يد المساعدة . لعل طفلتها تاهت في زحمة الحياة ! وفجأة تذكر أن الطفلة التي كانت قبل عقدين من الزمن باتت اليوم امرأة في ريعان الشباب . .
آه ! كم هي غريبة هذه الدنيا ! هل ما زالت تذكر الشقيق التوأم ؟ كيف وهي التي لم تره بعد ذلك اللقاء مرة واحدة رغم وعده بالزيارة يوماً ؟!
ولكن هي أيضاً لم تتصل به قط في وقت ما تزال فيه المضيفة على اتصال دائم كلما تباعدت الأيام . بل لقد زارها مراراً في بيتها عندما كان يشارك في المؤتمرات التي يكون مقرها العاصمة البريطانية .
صحيح أن الاختلاف واضح بين الاثنتين حسب البيئة والمنشأ. غير أن زهرة لم تره سوى مرة واحدة لا تكفي لحضوره في وجدانها في حين المضيفة عاش معها ثلاثة أعوام متصلة .
هكذا استمرت المقارنة دون تجانس بضع ليال متصلة فكان حضورها طاغياً على التفكير بمقدار سنوات الغياب .
وذات صباح ، قرر الذهاب والسؤال عنها مهما كانت النتائج.
عند تخوم القرية كان الرجال يتسامرون . المدخل المؤدي إليها لم يعد هو ذاته .العمران أصابه في القلب فحوله إلى مدينة تقف على مشارف القرن الحادي والعشرين. التطور طال مختلف مناحي الحياة باستثناء الصخرتين اللتين بقيتا علامة فارقة ترمز إلى الماضي .
تقدم بضع خطوات في الدهليز المظلل بأشجار التين والعنب ، ثم توقف . قال في سره : لا يجوز التغلغل أكثر من ذلك دون الحصول على الإذن ! ضرب كفاً بكف فكان صوت التصفيق ميلاد ضيف عزيز على القلب !
جاء صوت زهرة من بين الأشجار :
إنه الشقيق التوأم .
نظر تجاه الصوت ؛ كانت زهرة جالسة وبجوارها صبية . كل شيء فيها يوغلك في الأيام فيرسم ملامح الأم قبل أن تصيب وجهها تجاعيد الكبر .
تقدمت نحوه بخطوات واثقة كما لو أنها ما زالت في الصبا . وعندما وقفت قبالته واحتضنت يدها يده ، قالت :
لقد تأخرت كثيراً !
نظر إليها وفي الأعماق نزف لا يقف . لم يكن غريباً عليه هذا الإحساس شعر به عند اللقاء الأول لكنه الآن يتجدد !
سألت الصبية :
من يكون هذا يا أمي ؟
بتجاهل تام واصلت حديثها :
إنها الطفلة التي كانت آنذاك .
- كنت في مثل عمرها الآن عندما التقينا . زرعت فيها المحبة فحصدت منك الجمال .
- من يكون هذا يا أمي ؟
واصلت تجاهلها :
لم تقل لي أين فلك ؟ لماذا لم تحضر معك ؟!
- شدها الحنين إلى الابن البكر فذهبت إليه في أمريكا .
انسحبت الصبية بصمت في غياب الإجابة . لحقت زهرة طفلتها وهي تقول :
إنه الشقيق التوأم !
أوشكت عيناها على الاغتسال عندما ارتد إليها صدى صوت السؤال :
ولكن أين كان غائباً ؟
في المساء حلقت الذكريات في فضاءات حزينة . كان للإجابة معنى يقطع الشك باليقين ويستحضر البدايات : كيف تم اللقاء الأول مع عبد العاطي ؟ أين كان يختبئ ؟ ولماذا أوصلوه إلى النهاية التي كان يتوقعها ؟
البذور التي زرعها أعطت حصاداً : صبية في مقتبل العمر تقف عند المفترق . أم حافظت على الإرث من الضياع وانتظرت الأفراح وأكاليل الورد .
وعندما نشرت الشمس شعاعها كان الحديث ما يزال في أوج تدفقه : بحثت عن صلة قرابة لعبد العاطي فلم أعثر على أحد ! كل الذين سألتهم يعرفون الاسم ، ولكن لا أحد يعرف كيف انبثق فأعطى حضوره ، كأن ظهوره المباغت يشفع للذين لم يسألوا عنه.
وفجأة ضرب عبد الله كفاً بكف وقال :
لقد تأخرت . يجب أن أذهب .
- ليس قبل تناول الإفطار .
جاءت الصبية تحمل بين يديها وجبة إفطار قروية . نظرت زهرة إلى ابنتها وتذكرت نفسها في ذلك الصباح الذي طل منه عبد العاطي فأعطى للمكان اسمه ووسمه بالطابع الخاص الذي يفرض شروطه على آفاق المرحلة ويرفض مسببات الهزيمة ولا يركن إليها.
تناول ثلاثتهم الإفطار بود وحذر ، وعلى هامش الحديث عن المعيشة والأوضاع الاقتصادية الصعبة باغتهما عبد الله بالسؤال :
كيف عرفت عندما قدمت إلى هنا وضربت كفاً بكف أنني الشقيق التوأم المفترض ؟
- كان عبد العاطي يفعل الشيء ذاته عندما يأتي !
- إلى هذا الحد التشابه بيننا .
- بل أكثر من ذلك لو أردنا البحث في التفاصيل .
- ولكن لست شقيق عبد العاطي .
- حتى لو لم تكن كذلك ستبقى في نظري شقيقه التوأم .
ودعهما وذهب ، وعند مدخل الصخرتين نظر إلى الخلف وسأل :
ما اسم الطفلة الصبية ؟
- سيرا !
* * * *

من سيرا إلى غزة ، تعددت المحاور عبر فضاءات مديدة من الاحتمالات : فلك في أقصى الطرف الشمالي لأمريكا فيما سيرا ترابط غرب مدينة رام الله ؛ بينهما فارق زمني لا يرقى لمستوى الاجتهاد . فلك تضفر ما تبقى من شعرها الليلي بينما سيرا تنشر جدائلها في وجه الريح كي تتغلغل إليه .
ماذا عساها أن تقول إن علمت بهذه الزيارة ؟
سؤال احتل حيزاً أخذ في الاتساع كلما قطعت السيارة شوطاً إضافياً في طريق العودة ، ومنه تشعبت بؤر التفكير فضربت حالة الاتزان مختلف الخيارات . قد تستحسن هذا التصرف النبيل حيال واحدة تستحق منا المزيد من الاهتمام. ولكن قد ينتصب في وجهها السؤال : لماذا في هذا التوقيت بالذات ؟ لماذا يستغل غيابي في إقامة صلات ينبغي أن أكون العنصر الفاعل فيها؟
ولما وصل البيت وترجل من السيارة كان قراره النهائي : يجب إخفاء أمر هذه الزيارة عن فلك بغض النظر عن الأسباب .
وهكذا نشأت في السر علاقة يكتنفها الشك والغموض . يرصد عبد الله الأحداث والمستجدات ثم يباغت فلك بالمغيب عنها يومين متذرعاً بمختلف الذرائع يمضيهما عند زهرة وسيرا . يطول حديثهم مختلف المناحي فتتكشف الأسرار وتزداد الثقة تباعاً.
في البدء كان الاستلطاف والحذر سيدي الموقف ، ثم لاحقاً تغير الأمر . باحت زهرة بكل أسرارها. وكانت سيرا تستمع بشغف :
- مر من بين هاتين الصخرتين رجال لا حصر لهم . بعضهم مهربون من مختلف الأصناف وبعضهم يتاجرون بالوطن والدم . بعضهم يأتي بالقليل من المال بغية توفير الاحتياجات الضرورية وبعضهم نذر نفسه لمقاومة الاحتلال فصار مطلوباً إليه. وجميعهم كانوا يجدون في هذا المكان المأمن الضروري لإخفاء أسرارهم ، وكنت أميز بدقة بين مختلف الأصناف : هذا ينتزع احترامك انتزاعاً ، وذاك ينبغي عدم السماح إليه مرة أخرى بالمرور من هنا .
مررت بظروف عصيبة وروضت نفسي على معايشة الواقع، وكان الأمل في داخلي يزيدني قوة وصلابة كلما أوشكت على الانهيار جراء عدم الإجابة على السؤال الذي حيرني كثيراً : أين أهل عبد العاطي ولماذا لم يسألوا عن الأسباب والكيفية التي أوصلته إلى هذه النهاية ؟
وكانت سيرا تنمو أمام عيني ، كل يوم ، بما يكفل مقاومة صعوبة الحياة والتغلب على هاجس السؤال الذي ما فتئ يداهمها بإلحاح : لماذا أهل أبي لم يسألوا عن ملابسات استشهاده ؟
غير أن شيوع خبر استشهاد عبد العاطي بعد زواجه مني بأشهر سلحني بالسطوة على الجميع. جعل معظم الناس ينظرون إليّ بغير ا لنظرة التي درج الرجال عليها حيال امرأة فقدت زوجها في أوج التوهج ، خاصة وأنه الإنسان الأول الذي زرع جبال الضفة الغربية وسهولها بالرجال والبنادق .
صارت كلماتي نافذة كأنه هو الذي يصدرها . وصرت شفيعهم في كثير من القضايا الخلافية . المشكلات العائلية التي تنبت بين فترة وأخرى سرعان ما تجد طريقها للحل عندما يعلن الطرف المغلوب على أمره عن نيته الاستجارة بي . وكنت أراقب هذه التطورات وأنا أردد في سري : جعلوا مني أسطورة مسلحة بقوة الحسم !
ألبسوني قدرة عبد العاطي على التصرف وكنت عند حسن ظنهم فتضاعفت ثقتهم بي . سمعت البعض منهم يقول في مناسبات عديدة : باسم عبد العاطي وفي غيابه حكمت رجال القرية ونساءها !
وكانت سيرا ترى فيّ مثلها الأعلى فتحاكيني .



#حبيب_هنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مازال المسيح مصلوبا
- ما زال المسيح مصلوبا
- ما زال المسيح مصلوباً
- شهادة ابداعية


المزيد.....




- Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي ...
- واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با ...
- “بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا ...
- المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
- رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل ...
- -هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ ...
- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - مازال المسيح مصلوبا 11