|
رياح التغيير
نارت اسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 3603 - 2012 / 1 / 10 - 08:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول جدوى الثورات العربية وخاصة بسبب وصول التيارات الإسلامية للسلطة بعد زوال الأنظمة القمعية. كيفما قلّبت الأمر فإنني دائمآ ما أصل إلى نفس النتيجة وهي أن الوضع سيكون للأفضل على المدى البعيد، حتى مع وصول الإسلاميين للحكم. برأيي لو زالت الأنظمة القمعية، وتركت المجتمعات العربية تخضع للتطور التاريخي الطبيعي، فإنها ستتجه تدريجيآ للنهوض والتقدم، وسترمي شيئآ فشيئآ بأحمالها القديمة المهترئة بما في ذلك حمولتها من الدين والغيبيات المعيقة لتطور المجتمع، وأنا هنا لا أتحدث عن بضعة سنوات بل عن 20-30 سنة. الدور الذي لعبه الحكام الفاسدون هو أنهم كانوا يشكلون حجرعثرة في المسار الطبيعي الحتمي لمجتمعاتهم، فمثلما استولوا على كل مقدرات البلد، فإنهم أيضآ حرفوا المسار التاريخي والنمو الطبيعي للمجتمع. الفترة التي حكموا فيها البلاد كانت زمنآ ضائعآ وكأنهم أوقفوا الزمن، بل بالعكس فإنهم بإفسادهم لضمائر الناس وأفسادهم لمؤسسات البلد، أعادوا البلاد سنين للوراء، والآن وبعد زوال حكمهم، عاد المجتمع إلى السكة التي كان قد خرج عنها لكي يستأنف المسير متأخرآ اشواطآ كثيرة عن الدول المتقدمة. ومع كل ذلك فالمستقبل واعد برأيي، المجتمعات الغربية الحديثة كانت أسوأ حالآ من حالنا في العصور الوسطى ومع ذلك استطاعت النهوض، ونحنا لسنا أقل منهم، وأنا أمتعض كثيرآ من كل إنسان يقول أن مجتمعاتنا غير قابلة للاصلاح، وأن الخلل موجود في ال DNA وما إلى ذلك من التعابير العنصرية غير الأخلاقية والتي لا تستند إلى أي أساس علمي. من جهة أخرى فإن التيارات الإسلامية راجعت هي الأخرى مناهجها وسياساتها بسبب الظروف المستجدة وخاصة بسبب انتقال هذه الجماعات من النشاط السرّي إلى النشاط العلني، فهذا الأمر وضعها بموضع المسؤولية وصارت لأول مرة جزءآ من الحياة السياسية في بعض الدول العربية، بل حتى وصلت للسلطة. عندما كان الإسلام السياسي يمارس نشاطه بشكل سرّي فإنه لم يكن بوضع المسؤولية وكان يلجأ للعنف وللوسائل المتطرفة والتحريض الديني للوصول للسلطة، بينما خروج هذه التنظيمات للعلن ووصولها للسلطة جعلها في بقعة الضوء وجعل أنظار مجتمعاتها وكذلك أنظار العالم كله مسلطة عليها. صار لزامآ عليها أن تضع سياسات واقعية قابلة للنجاح، قادرة على النهوض بالمجتمع، وصار لزامآ عليها أن تثبت مصداقيتها أمام العالم، كما أن هذه التنظيمات تعرف أن من صنع الثورات هم أناس عاديون لا ينتمون إلى تنظيم محدّد وليس هم الإسلاميون، لذلك صارت مضطرة لتغيير مناهجها لتتوافق مع الواقع الجديد، أي مع قوة الجماهير التي صارت مسلحة بوسائل عصرية وصارت قادرة على إيصال صوتها إلى آخر بقعة في الكرة الأرضية، فهي تدرك أن الجماهير التي استطاعت الإطاحة بأعتى النظم الاستبدادية الأمنية، تستطيع أيضآ الإطاحة بأي استبداد آخر. سبب آخر جعل هذه التنظيمات الإسلامية تراجع مناهجها هو فشل نماذج إسلامية سابقة مثل السودان وطالبان وإيران. صرنا نرى كيف أن هذه الأحزاب لم تعد تعترض على ترشح المرأة لرئاسة البلد، وفي تونس فإن حزب النهضة الإسلامي لم يعد يدعو لتغيير المادة في الدستور التي تمنع تعدد الزوجات، هذه الأحزاب صارت تقبل الالتزام بقواعد الديموقراطية والانتخابات واللجوء لصوت الشعب، كل هذه المسائل كانت وإلى وقت قريب بدعآ من بدع الغرب الكافر، وكل بدعة في النار حسب تعاليمهم. حتى تنظيم القبيسيات في سوريا وصلت إليه رياح التغيير العاتية، تلك الجماعة الكئيبة الغارقة في بحر من الظلمات والتي كانت عضواتها متمحورات حول "الآنسة" وهو اللقب الذي يطلق على رئيسة التنظيم، فقد رأينا منذ مدة قصيرة انشقاق مجموعة من السيدات القبيسيات وصرحن بأن أسباب ذلك الانشقاق تعود إلى الفكر السلبي عند الجماعة، وتخاذلها، وعدم وقوفها مع الثورة ضد الظلم، واعتبار الثورة فتنة والتشكيك باعتبار من قتلهم النظام بمرتبة شهداء، والمغالاة بإعتقادات صوفية والإيمان بالخرافات، وكذلك التبعية المطلقة ل"الآنسة" واعتبار تعليماتها غير قابلة للنقاش، وأخيرآ تكريس فكر القطيع.
الإسلاميون وبعد وصولهم للسلطة فإنهم سيصطدمون إن عاجلآ أو آجلآ بصعوبات هائلة في إدارة شؤون البلاد، فالتحديات كبيرة والتركة ثقيلة بينما جعبتهم شبه فارغة من الحلول والوسائل العملية الناجحة، سيفشلون ببناء دولة حديثة وسيفقدون قيمتهم الرمزية عند الجماهير التي أوصلتهم للحكم، سيكون عليهم عندها تقديم تنازلات هائلة في برامجهم تصل إلى الصميم، تمامآ كما فعل "حسن المخلّص" الحفيد الرابع ل"حسن الصباح" مؤسس تنظيم الحشاشين المشؤوم في قلعة ألموت في آسيا الوسطى قبل حوالي ألف سنة، هذا المخلّص وبعد أن زاد التململ بين أتباعه، جمعهم في يوم من الأيام و((أعلن أن الله قد رضي عنهم وأنه أسقط عنهم التزاماتهم الدينية، وأن ما كان محرّما صار محللآ، وأن الخمرة التي هي شراب أهل الجنة صارت حلالآ، هذه الفرقة الإسماعيلية صارت فيما بعد طائفة يضرب فيها المثل بتسامحها الديني)) مقتبس من رواية سمرقند لأمين معلوف. كل ما سبق لا يعني أن على الليبراليين والعلمانيين التخاذل عن أداء دورهم وواجبهم وانتظار "حسن مخلّص" جديد قد يأتي وقد لا يأتي، أو أن يقدموا تنازلات للتيار الإسلامي، ولكن المقصود أن الصراع في المستقبل يجب أن يكون مختلفآ، ووسائله مختلفة، فالمنافسة بين الإسلاميين والعلمانيين يجب أن تكون منافسة حضارية فكرية سلمية ديموقراطية وليس مواجهة اقصائية عنيفة مشبعة بالحقد والازدراء والسخرية. على هذه الأحزاب العلمانية الاصرار على إنشاء محطات فضائية علمانية، تقدم مواد إعلامية وثقافية وفنية راقية، بعيدة عن الهياج والصراخ والتحريض السوقي المبتذل، وكذلك بناء مدارس خاصة علمانية لا تدرّس مادة الدين، وتكون هذه المدارس متطورة حديثة ذات مناهج تعليمية فعّالة لتكون منارة يتطلع إليها الناس ويتسابقون لتسجيل أولادهم فيها، عليهم الإصرار على إنشاء دور نشرهم وطباعة كتبهم بحرية، عليهم عدم التخاذل عن حقهم بإيصال أفكارهم وممارسة دورهم الفكري التثقيفي. أعتقد أنه من الأفضل أن لا تتحالف الأحزاب الليبرالية والعلمانية مع الأحزاب الإسلامية في هذا الوقت، بل الأفضل تركهم يمارسون الحكم لوحدهم في المرحلة التالية لسقوط الأنظمة القمعية وذلك لكي نرى هذا الإسلام الذي يروجون له، والذي يدّعون أنه صالح لكل زمان ومكان!! وإدعائهم أن المشكلة ليست في الإسلام وإنما في التفسيرّ!! إن ذلك يشبه إدعاءهم أن حبة البركة والحجامة تشفي كل الأمراض، وأن الكحل الذي فيه مادة الرصاص السامة يشفي كل أمراض العيون! نريد أن نرى كيف سيحكمون بلدآ متعدد الأعراق والمذاهب في القرن الواحد والعشرين ، وفي عصر العولمة والفيسبوك والفضائيات. وأخيرآ فإن رياح الليبرالية سوف تصل إن آجلآ أو عاجلآ إلى السعودية، وستقتلع تلك النبتة الوهابية السرطانية والتي هي أصل الشرور، ربما عندها سوف يتحدث الناس عن الإسلام باعتباره أطلالآ وذكرى، ستجد الشابات والشباب ممسكين بأيدي بعضهم البعض يدخلون إلى المساجد القديمة الكبيرة ويتجولون فيها وهم مبهورين بحجارتها وفسيفسائها، ثم ليسارعوا بالخروج منها عندما يرفع الأذان. باختصار الإسلام الجهادي يشارف على الاحتضار، ليحل محله إسلام مرتبك يقضم أظافره ويتلفت هنا وهناك قبل السقوط النهائي بالضربة الحضارية القاضية.
#نارت_اسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السيد وليد مهدي ونظريته الكونية الجديدة
-
رد على مقال الأستاذ وليد مهدي: سورية قاعدة للجهاد الأمريكي ا
...
-
حزب سوريا الجديدة
-
المعطوبون من الناس
-
استبداد الحكام واستبداد السماء
-
رسالة وداع
-
هذا ما جنيناه من الحكم الوراثي
-
أراغون ومحور الشر
-
مزّقي ياابنة الشام الحجابا
-
نريد سورية حديقة أزهار
-
الجمهورية السورية
-
قلق ما بعد الثورة
-
كيف يكره إنسان شعبه؟
-
شكرآ لكم أيها الحكام المجرمون
-
مغالطات الدكتورة وفاء سلطان
-
غرسة الوطن
-
الطيبات للطيبين في زمن الثورة السورية
-
أضواء على خطاب الرئيس السوري
-
دكتور أم دكتاتور؟
-
فرقة البرلمان السوري للفنون الاستعراضية
المزيد.....
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
-
تسليم رهينتين في خان يونس.. ونشر فيديو ليهود وموزيس
-
بالفيديو.. تسليم أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يونس
-
الصليب الأحمر يتسلم المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وجادي
...
-
القناة 13 العبرية: وصول الاسيرين يهود وموسيس الى نقطة التسلي
...
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
-
وصول المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وغادي موزيس إلى خان ي
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|