|
في وداع التجاني الطيب وسودانه: واقعية طلب المستحيل
مجدي الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 3601 - 2012 / 1 / 8 - 01:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
(1) ودع الشيوعيون السودانيون أواخر العام الماضي رفيقهم التجاني الطيب بابكر بذكر مآثره والتشديد على صلابة عوده النضالي، وحق لهم، فالتجاني سخر عمره الراشد كله للعمل في صفوف الحزب الشيوعي بل تكاد سيرة حياته تطابق تاريخ الحزب منذ نشأته في أربعينات القرن الماضي وحتى اليوم، حتى قالت عنه الأستاذة مديحة عبد الله ترثيه في جريدة الميدان الناطقة باسم الحزب أنه "مولود شيوعي".لم أجد أبلغ من عبارة مديحة لبيان التطابق الملح بين سيرة الرجل وحزبه. أبرز ذلك أن التجاني قضى أغلب هذا العمر إما في سجون الأنظمة الحاكمة لبلادنا أو في ستر عنها أو بعيدا عن نطاق سيطرتها متنقلا بين المنافي. عاش التجاني حتى شهد انقسام البلاد التي عرف شطرين باعلان استقلال أقاليمها الجنوبية وتشكيلها دولة مستقلة ذات سيادة في يوليو 2011 وفقما قرر استفتاء عام على تقرير المصير جرى بحسب اتفاقية السلام الشامل (2005) الموقعة بين الحكومة المركزية والحركة الشعبية لتحرير السودان. بانفصال جنوب السودان خاب حزب التجاني في المهمة الأولى التي بها ألزم نفسه في مؤتمره العام الخامس (2009)، أي العمل من أجل بقاء السودان بلدا موحدا. (2) في الحدثين، انشطار بلادنا بلدين، وموت أحد أجل المناضلين من أجل وحدتها على هدى ديموقراطي، ما يشي بضرورة النظر مجددا إلى طريقين، أو طريقتين إن شئت، اتصل أولهم وكاد الثاني أن ينقطع، طريق نخبة الخريجين التي ورثت حكم البلاد عن الاستعمار البريطاني عند تحقق الاستقلال في العام 1956، وطريق التجاني وصحبه ممن طلبوا للاستقلال حصادا يرثه غمار الناس، لا يكون دولة لصفوتهم تتنازع على قسمتها بالباطل قبل الحق. في هذا الخصوص علقت كاتبة سودانيز أون لاين بلهو جاد تقول أن موت التجاني يعني موت الحزب الشيوعي، أو في صياغة أقرب إلى المعروف تدهور الطريق الذي ساهم في حفر معالمه إلى درس يقف على حوافه الناعون. في شأن هذا الطريق البديل قال التجاني ضمن كلمة له في الاحتفال بالعيد الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي أن ابكار الشيوعيين "اقتحموا مجهولا بالنسبة لهم وبالنسبة للمجتمع السوداني" إذ "أسسوا حزبا من نوع جديد دون تجربة سابقة". مناط هذه الجدة أن الرابطة بين أعضاء الحزب لا تقوم على طائفة أو دين أو قبيلة أو إثنية أو لغة أو جهة، وما إلى ذلك من دواعي التمييز، بل على الاختيار والنضال المشترك. ولقد جهد الحزب أول عهده أن يعضد هذه الرابطة في صفوف الطبقة العاملة وحلفائها، مستودعه ومحل عزائمه، فأصاب نجاحا معتبرا هدد أركان البناء السياسي الموروث عن الاستعمار حتى خرج الناس عليه جملة في أكتوبر 1964. يجدر بنا اليوم، وقد عجز النادي السياسي بمختلف مكوناته، مدنية و مسلحة، عن إخراج ما يجمع غمار الناس في طلب التحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحياة الكريمة، أن نبعث مواثيق حزبنا هذه، أو كما قال لينين، "أن نبدأ مرة أخرى من البداية". (3) كتب لينين في فبراير 1922 نصا قصيرا بعنوان "ملاحظات ناشر" يشرح فيه ضرورة التراجع التكتيكي عن أهداف البلاشفة الاشتراكية إلى إتاحة براح واسع لاقتصاد السوق والملكية الخاصة. اجترح لينين هذه "السياسة الاقتصادية الجديدة" وقد انتصر البلاشفة لتوهم، بشق الأنفس، على قوى النظام القيصرى البائد في حرب أهلية طاحنة. ما يهمنا في نص لينين هذا شرحه لماهية التراجع الثوري وكيفية إحسانه دون التنصل الانتهازي عن الأهداف الكبرى، وقد ضرب لذلك مثلا بمتسلق جبال يلزمه التراجع عن محاولته الأولى الوصول إلى قمة شاهقه. "دعونا نتصور رجلا يحاول تسلق جبل شديد الانحدار لم يسبق لأحد أن اختبر وعره. فلنتصور أنه تغلب على مصاعب وأهوال لا مثيل لها ونجح في الوصول إلى علو تفوق به على جميع سابقيه لكن لم يصل بعد إلى القمة ووجد نفسه في موقع لا يكون التقدم في الطريق الذي اختاره فقط صعبا وخطرا بل في الواقع مستحيلا". تحت هذه الظروف، في قول لينين، "لا بد أن يتراجع، أن يهبط قليلا، ويبحث عن طريق آخر، ربما أطول، لكن يصل به إلى القمة. الهبوط إلى الأسفل من هذا الارتفاع غير المسبوق قد يكون بالنسبة إلى هذا المتسلق أشد خطورة من الصعود. قد ينزلق، فليس من السهل أن يجد موقع قدم ثابت. ولا يشعر المرء بذات النشوة التي تصاحب الصعود مباشرة نحو الهدف" (ف. إ. لينين، الأعمال الكاملة، م 33، موسكو 1966، ص 204-205). بطبيعة الحال، لا يغني ضرب الأمثال عن حق الواقع الملموس شيئا، ولينين عضد فرضيته بشرح الوقائع والحيثيات التي تفرض على البلاشفة التراجع قصد تحقيق التقدم في معراج الثورة على طريقة سامويل بكيت "حاول مرة أخرى، افشل مرة أخرى، لكن افشل بصورة أفضل". (4) توسل الحزب الشيوعي أول عهده طريق التنظيم المستقل للطبقة العاملة للتحرر من الاستعمار وتحقيق السيادة الوطنية، فنأى بنفسه عن أزقة النادي السياسي معلومة الكساد، الأمر الذي شرحه عبد الخالق محجوب في مقالته ذائعة الصيت "كيف أصبحت شيوعيا". كتب عبد الخالق في معرض الحديث عن خبال زعماء الأحزاب المترددين على مصر "بمجهودي المتواضع وحسب حدودي الفكرية اتضح لي أن هؤلاء الزعماء لا يحملون بين ضلوعهم نظرية سياسية لمحاربة الاستعمار وإنهم ما أن دخلوا غمار مجتمع متقدم معقد كمصر حتى صرعتهم النظريات السياسية المتقلبة فأصبحوا يتقلبون كما تشاء مصالحهم وعرفت أن الاستعمار له نظريته السياسية التي يحارب بها الشعوب الضعيفة...وإذا كان على شعبنا المغلوب على أمره أن يتحرر فلا بد أن يسير على هدى نظرية تسلط أضوائها على كل زعيم أو متزعم ولا تترك له فرصة لجني ثمار جهاد الشعب لنفسه." وجد عبد الخالق ضالته في النظرية الماركسية "التي نشأت خلال تطور العلم والتي تقوم على أساس اعتبار السياسة والنضال من أجل الأهداف السياسية علما يخضع للتحليل". يضيف عبد الخالق "عرفت أن جميع الزعامات السياسية التي لم تهتد إلى هذا التحليل العلمي للاستعمار واكتفت بإثارة العواطف ضد الأجانب لم تصل إلى أهدافها ولم يجن الشعب المؤيد لها ما كان يصبو إليه، أسماء كثيرة تحضرني – سعد زغلول وغاندي ومصطفى كمال أتاتورك وغيرهم. واقتنعت بأن زعمائنا يسيرون في نفس الطريق وأننا لن نجني من ورائهم أكثر مما جنت الشعوب الأخرى التي سارت وراء تلك الأسماء". طريق عبد الخالق البديل لم يكن بدعة في محيط السودان فقد اهتدت إلى ذات الطريق جموع العمال في أنحاء افريقيا طلبا للتحرر من الاستعمار. شهدت الفترة بين 1935 و 1950 سلسلة من الإضرابات شلت البنى التحتية لاقتصاد الاستغلال الامبريالي في القارة، المؤاني والقطارات والمناجم والمراكز التجارية، أبرزها ربما إضرابات روديسيا الشمالية (1925)، ممبسا ودار السلام (1939)، ساحل الذهب (1937-1939)، ثم حزام النحاس مرة أخرى (1940)، لتتجدد موجات الاحتجاج والإضراب بعد الحرب العالمية الثانية في كل من كينيا ونيجيريا وساحل الذهب وروديسيا الشمالية والجنوبية وجنوب افريقيا (ف. كوبر، افريقيا منذ 1940: ماضي الحاضر، كمبردج 2002، ص 30-31). في بلادنا، شهد العام 1946 نشوء أول هيئة نقابية بين عمال السكة حديد في عطبرة باسم هيئة شئون العمال. انتزعت هيئة شئون العمال اعترافا مرتبكا بشرعيتها من الإدارة الاستعمارية في العام التالي ثم اختبرت الرابطة الجديدة، التي احتفى بها التجاني الطيب في معرض التذكير بمنشأ الحزب، في إضراب مارس-أبريل 1948 الأسطوري - إضراب الثلاثة وثلاثين يوما - بعد يأسها من استجابة إدارة السكة حديد لمطالبها. (5) تبلور أول تنظيم شيوعي في ظروف النهوض العمالي هذه، حيث برزت الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) إلى الوجود كفصيل مستقل عن الحاضنة المصرية في ذات العام الذي نشأت فيه هيئة شئون العمال، 1946، وساهمت طلائعها في "بلشفة" تشكيلات عطبرة النقابية إذا جاز التعبير (أنظر مذكرات الدكتور مصطفى السيد "مشاوير في دروب الحياة"، الخرطوم 2007). ألزمت حستو الناشئة نفسها تحت قيادة عبد الوهاب زين العابدين بأربعة مهام رئيسة: الكفاح من أجل حق السودان في تقرير المصير؛ الوصول بالجماهير إلى مستوى الوعي الذي شحذه مؤتمر الخريجين؛ تشكيل منظمة سياسية تضم جميع الطبقات الاجتماعية مع التشديد على الدور المركزي للعمال والمزارعين في الحركة الوطنية؛ التحضير لثورة اشتراكية كهدف بعيد المنال. بهذه الخطة لم تتميز حستو كثيرا عن النادي السياسي، فقد ارتضت أول أمرها أن تجابه مهام التحرر من الاستعمار ومن ثم البناء الوطني عبر تكتيكات إصلاحية ونأت بنفسها عن مناهج الثورة، هدفها أن تحمل الجماهير على سنة مؤتمر الخريجين في التدرج. في هذا الخصوص أراد عبد الوهاب تأجيل الصراع الطبقي حتى تحقيق الاستقلال عبر حركة وطنية تأتلف فيها كافة الطبقات الاجتماعية، أي طريق نخبة الخرجين آنف الذكر (أنظر محمد نوري الأمين، الحركة الشيوعية السودانية: الخمس سنوات الأولى - الجزء الثاني، مجلة دراسات الشرق الأوسط، م 32، 1996، ص 251 – 263). انقلبت حستو على قائدها في صيف 1947 بدفع من زمر العمال الواردين إليها والطلاب العائدين من مصر، تحول وصفه عبد الخالق محجوب بالثوري إذ أزاح "العناصر الانتهازية" من اللجنة التنفيذية فحلت محلها عناصر ثورية بدأت في تبني خط ثوري في النشاط بين الجماهير وبناء الحزب. تولى عوض عبد الرازق قيادة حستو خلفا لعبد الوهاب زين العابدين في 1947 ثم ما لبث الجناح الذي قاده عبد الخالق محجوب في المؤتمر التداولي المنعقد في 1949 أن أدان عوض عبد الرازق بتهمة الخضوع لسياسات الأحزاب البرجوازية، وتذويب حستو في منظمات الشباب التابعة للأحزاب البرجوازية، والعزوف عن مواجهة المسؤوليات التنظيمية اليومية. شهد مؤتمر الحزب الثاني في 1951، والشهير بمؤتمر "الوحدة"، حسم الصراع الداخلي لصالح الخطة الثورية حيث تولى عبد الخالق محجوب زمام الأمور بدلا عن عوض عبد الرازق (راجع عبد الخالق محجوب، لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، الخرطوم 1965). (6) لتمييز طريق عبد الخالق، المؤزر بالرابطة الجديدة التي ذكر التجاني وهو يحدث عن أبكار الشيوعيين والمجهول الذي اقتحموا، عن طريق الخريجين الذي ارتضى عبد الوهاب، يجدر بنا هنا مراجعة أبرز الانتقادات التي وجهها أصحاب الخط الجديد لعبد الوهاب وشيعته. اتهم الثوريون عبد الوهاب بتهميش دور الطبقة العاملة في حستو وتمكين عناصر الرأسمالية الوطنية من قيادتها؛ إتاحة منابر حستو لدعاية الأشقاء والقوى الاتحادية الأخرى وتدريب بعض كوادرهم؛ ترديد شعارات الاتحاديين بدلا عن شعارات حستو؛ ثم الانشغال بتلقين مجردات الماركسية بدلا عن السعي إلى تطبيق المفاهيم الماركسية على واقع السودان وظروفه الملموسة؛ وأخيرا طرازه القيادي القائم على العلاقات الشخصية بدلا عن الاشتراطات الموضوعية والمؤسسية. بالتضاد مع خطة عبد الوهاب في التدرج دشنت القيادة الجديدة مرحلة "قتالية" في نشاط حستو، إذ تخلت الحركة عن مهادنة النادي السياسي، حزب الأمة والأحزاب الاتحادية، وشنت عليه هجوما شرسا. كتب عضو حستو حسب الرسول أحمد عرابي (حسبو) في جريدة الرائد لصاحبها مكي عباس بتاريخ 19 سبتمبر 1949 إن الصراع الحالي بين الأحزاب في السودان ما هو إلا صراع بين مصالح طبقية متباينة يتخفى خلف ستار من الاختلافات الزائفة. لذا ندعو نحن (في حستو) إلى تحويل الصراع إلى مجاله الأصلي، ونبشر بسلاح الأممية البروليتارية ضد العدو المشترك. كما دمغت حستو حزب الأمة بالتبعية لبريطانيا كذلك اتهمت الأحزاب الاتحادية بأنها ليست سوى أذيال للبرجوازية المصرية. وهي تشق طريقها المستقل ضاعفت حستو من جهودها لتوطين نفسها في أوساط العمال والمزارعين، وقد برز ذلك جليا في نجاح إضراب عمال السكة حديد في مارس-أبريل 1948. عزز الشيوعيون في مؤتمر "الوحدة" عام 1951 من تحولهم الثوري وأقروا خطا سياسيا يؤكد على هذا التحول أبرز ملامحه: اقتراح تشكيل لجان وطنية للعمال في مجالي العمل والسكن تتيح للشيوعيين منابر مستقلة لمخاطبة العمال بجانب المنابر النقابية ذات الصبغة المطلبية؛ التشديد على أهمية العمل في أوساط مزارعي الجزيرة باعتبارهم الأكثر تقدما بين قطاعات المزارعين؛ وتقوية أواصر التعاون مع المنظمات الشيوعية والعمالية حول العالم (محمد نوري الأمين، الحركة الشيوعية السودانية: الخمس سنوات الأولى - الجزء الثالث، مجلة دراسات الشرق الأوسط، م 33، 1997، ص 128 – 151). أثمر هذا الخط الجديد من ضمن ما أثمر نشوء الجبهة المعادية للاستعمار في العام 1953 كواجهة لنشاط الشيوعيين وسط القوى الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير الاجتماعي والاقتصادي بالتضاد مع قوى النادي السياسي. زكى عبد الخالق محجوب الجبهة كونها طهرت الشيوعيين من أمراض العمل السري وقربت أقساما نائية من السكان إلى مواقع الحزب الشيوعي، بما في ذلك مزارعي جبال النوبة (راجع عطا البطحاني، جبال النوبة: الإثنية السياسية والحركة الفلاحية 1924 – 1969، الخرطوم 2009) وعمال أنزارا (راجع مذكرات مصطفى السيد، مصدر سابق). (7) استقرت خطة عبد الخالق منهجا لعمل الحزب في العهد الوطني حتى ظهر نفعها في التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي فتحت لها ثورة أكتوبر 1964 الطريق، ومن بينها المكاسب التحررية التي تحققت للمرأة السودانية عبر نضال صبور قاده الاتحاد النسائي والاختراقات المعتبرة التي تحققت في مناطق النفوذ الطائفي والإدارة الأهلية لصالح رابطة النضال المشترك التي زكى التجاني الطيب. هددت العلاقات الجديدة التي بشر بها الحزب الشيوعي قوى النادي السياسي أيما تهديد فتكالبت عليه تريد وأده، وتحقق لها جانب مما أرادت بقرار حل الحزب وطرد نوابه من البرلمان في العام 1965. مدفوعا بالرغبة في استعادة زمام المبادرة من قوى النادي السياسي المتربصة به تورط الحزب بقيادة عبد الخالق في أشد أزماته طحنا إذ انشقت صفوفه بإزاء الموقف من انقلاب مايو 1969 عندما انتزع ثلة من الضباط "التقدميين" السلطة من قوى النادي السياسي. ما تلى ذلك جملة من الملابسات انتهت بالنزاع الدامي بين الحزب وسلطة مايو في 1971 بما في ذلك إعدام عبد الخالق محجوب ورفاقه (راجع تقرير سكرتارية اللجنة المركزية بصدد تقييم انقلاب 19 يوليو 1971 الصادر في 1996). (8) ظل الحزب الشيوعي الخارج من محنة يوليو 1971 غريبا على النادي السياسي فلم يكن طرفا في تحالف الأحزاب المناوئ لسلطة النميري، حلف الأمة والحركة الاسلامية والاتحاديين بقيادة الشريف حسين الهندي، فهو عندها سبب في بلوغ نميري السلطة أول الأمر لا تشفع له دماء قادته التي سالت على مشانق نميري وفي دروات جنده. طلبا لفض هذه الغربة واستعادة مكانه في الخارطة السياسية اجترح الحزب بقيادة محمد ابراهيم نقد في العام 1977 خطا جديدا شدد فيه على التناقض بين الديكتاتورية والديموقراطية، وجعل من استعادة الديموقراطية الليبرالية الهدف المقدم لنشاطه. اقترح الحزب في هذا الإطار اصطفاف قوى المعارضة، دون تمييز، في "جبهة عريضة للديموقراطية وإنقاذ الوطن" بناء على تحليل يقول أن أزمة البلاد هي بالدرجة الأولى أزمة نظام سياسي أهم أسبابها الطبيعة الديكتاتورية للسلطة القائمة. حافز الحزب الأساس لهذا التحول كان إعلان "المصالحة الوطنية" بين نميري وأحزاب النادي السياسي في ذات العام حيث أكد بيانه في هذا الخصوص أن الشيوعيين لا ينادون بدوام الشقاق بدلا عن المصالحة وإنما بسقوط الديكتاتورية واستعادة الديموقراطية (الديموقراطية مفتاح الحل للأزمة السياسية: جبهة للديموقراطية وإنقاذ الوطن، دورة اللجنة المركزية أغسطس 1977). بهذا اتخذ التناقض بين الديموقراطية الليبرالية والدكتاتورية موقع القلب في فكر الحزب وعمله، وسيلته إلى ذلك الجبهة الواسعة في شراكة مع الأحزاب السياسية غض النظر عن طبيعتها، وتأجلت في منظوره موجبات التحولات القاعدية في تركيب المجتمع وعزائم الصراع الطبقي إلا ما صب منها في باب النضال ضد الديكتاتورية. تمكن الحزب على هذا النحو من استعادة مؤهلاته الديموقراطية وضمن لنفسه القبول في النادي السياسي مرة أخرى لكنه ارتد في هذا السبيل إلى ما كان قد أستنكر في 1947 و1951، أي عاد القهقري إلى عقيدة عبد الوهاب زين العابدين السابق ذكرها في الفصل التعسفي بين شكل الحكم ومحتواه. إن كان الهدف المقدم لحستو بقيادة عبد الوهاب هو تحقيق السيادة الوطنية ووسيلته إلى ذلك الحلف مع جميع القوى الوطنية غض النظر عن اختلاف مصالحها وقواعدها الاجتماعية فإن هدف الحزب الأول منذ 1977 أصبح استعادة الديموقراطية الليبرالية عن طريق جبهة عريضة تضم جميع القوى السياسية الراغبة دون اعتبار لتناقض مصالحها وتباين قواعدها الاجتماعية. (9) تحققت للحزب محجة الديموقراطية البيضاء بانتفاضة أبريل 1985 لكن سرعان ما تكدرت بنوازع الصراع الطبقي معقد الإحداثيات التي غابت عنه أو ظن سكونها فتسنمت الجبهة الإسلامية القومية قيادة قسم مقدر من القوى الاجتماعية ذات المصلحة في زعزعة سلطان النادي السياسي بحزبيه الطائفيين، الأمة والاتحادي الديموقراطي، وهي ذات القوى "الحديثة" المدعوة لحلف الشيوعيين في "الجبهة الوطنية الديموقراطية"، حتى انتزعت السلطة وقبرت الديموقراطية المرتجاة في انقلاب يونيو 1989. من ثم، وجد الحزب نفسه مواجها مرة أخرى بغلوتية الديموقراطية والديكتاتورية ولما ينفذ إلى قرارها، فأعاد دعوته لتشكيل أوسع جبهة ممكنة لهزيمة الديكتاتورية واستعادة النظام الديموقراطي. بخلاف عزلته عن حلف الأحزاب المناوئة لسلطة نميري تصدر الحزب الشيوعي جبهة الأحزاب المعارضة لنظام الإنقاذ الوطني، التجمع الوطني الديموقراطي. في نقده الدارج لها تكرر وصم الحزب لسلطة الجبهة القومية الإسلامية بالفاشية لكن غاب عنه أن كل انتصار لليمين الفاشي ما هو سوى عرض لعجز اليسار الثوري عن اهتبال سانحة للثورة الاجتماعية، أو في صياغة فالتر بنجامين، شاهد على ثورة فاشلة (س. جيجيك، الحياة في آخر العصور، دار فيرسو، لندن 2011، ص 152). وفق هذا المنظور يمكن الدفع بحجة أن صعود الجبهة الإسلامية إلى السلطة يمثل عرضا لتأخر الحزب عن انجاز مهام الانتفاضة الشعبية عام 1985. في هذا الخصوص قرر بيان الحزب الصادر في يوليو 1989 أن انقلاب الإنقاذ أجهض الصراع السياسي الذي كان يسير في وجهة محاصرة القوى المعادية لتوسيع قاعدة الحكم الديموقراطي (بيان اللجنة المركزية، 2 يوليو 1989). بدفع من التناقضات الداخلية في التجمع انسلت الأحزاب منه الواحد تلو الآخر تاركة الحزب الشيوعي حارسا على أبوابه. عقد الصادق المهدي اتفاقا مع الرئيس البشير في أعقاب الشقاق بينه والترابي في العام 1999، ثم وقع محمد عثمان الميرغني هدنة مع نائب الرئيس على عثمان محمد طه عام 2003 أثناء سير المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، وآخر الأمر اختارت الحركة الشعبية لتحرير السودان أن توقع اتفاق السلام من الحكومة عام 2005 بمعزل عن حلفاء الأمس أهل "السودان القديم". جرت تطورات الأحداث منذها بما في ذلك اشتعال الحرب الأهلية في دارفور بدءا من العام 2003، ثم انفصال جنوب السودان منتصف العام المنصرم واندلاع المواجهات المسلحة بين الحكومة المركزية وقوات الحركة الشعبية في جبال النوبة والنيل الأزرق، والحزب مصر على خطة جبهة عريضة لكل من رغب. كما تفرق التجمع الوطني الديموقراطي كل لمراده كذلك "قوى الاجماع الوطني"، حيث اختار قطاع الشمال في الحركة الشعبية المواجهة المسلحة مع النظام وانسل الصادق المهدي يبشر المؤتمر الوطني بأجندته الوطنية وأخيرا آثر الاتحادي الديموقراطي الائتلاف مع المؤتمر الوطني في الحكم على انتظار "أصبح الصبح". بذلك لم يتبق على عهد الإجماع الوطني سوى الحزب الشيوعي والمؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي، وقد تاب عن "فاشيته" وثبت عنده الإيمان بالديموقراطية وسلامة طريقها. (10) الناظر إلى "عمايل" النادي السياسي اليوم، في الحكومة والمعارضة "الرسمية"، لا يسعفه سوى تصوير عبد الخالق محجوب لزعماء الأحزاب السياسية في مقالته "كيف أصبحت شيوعيا". من جهة أخرى، نشأت فئات عمالية وفلاحية لا محل لها في كراسة الحزب الشيوعي المقروءة، وبرزت تشكيلات مدنية وسياسية لا موقع لها في النادي السياسي معلوم العضوية. بالنظر إلى الحيثيات التي سبقت هذه دعوة لحزبنا أن يتبع نصيحة لينين ويبدأ مجددا من البداية، فخطته التي هو عليها صامد لن تصل به إلى القمة التي يريد. حزبنا اليوم مطالب أن يتقصى "المجهول" الذي جاء على ذكره التجاني الطيب، أو كما كتب لينين في شأن متسلق الجبال "عليه أن يضبط خطاه بسرعة الحلزون ويتحرك إلى الأسفل، بعيدا عن القمة، فمن يعلم أين سينتهي هذا الهبوط شديد الخطورة والألم، أو إن كان هنالك انعطاف آمن يمكنه من الصعود بثقة وعلى وجه السرعة والمباشرة نحو القمة" (لينين، مصدر سابق).
#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هامش على متن: مبادئ الشيوعية لفردريك انجلز (2)
-
هامش على متن: مبادئ الشيوعية لفردريك انجلز (1)
-
نحو مناقشة -شيوعية- لقضية اسم الحزب
-
المحكمة الجنائية الدولية: هل من خيار وطني؟
-
دارفور: والعسكر واقف طابور
-
11 سبتمبر: الإسلام السياسي في لجة الحداثة
-
الفيتو الصيني: قرار من لا يملك لمن لا يستحق
-
كَمْ وكَمْ كَلْمَه.. أفلا تعقلون!؟
-
وما الوطنية: البشير وموغابي
-
وَه... وليامسون!
-
أها يا كيزان: الحركة الإسلامية..إلى أين؟
-
الاقتصاد السياسي للتحول الرأسمالي في الصين: مقدمة
-
بوش في افريقيا: الضيف أم رب المنزل؟!
-
تسعون عاماً على نوفمبر 1917م: ألحقنا يا إليتش!!
-
مباحث ماركسية: حول تنوير ماركس
-
وما الحياة: صراع البقاء في دارفور وأخواتها -2
-
وما الحياة: صراع البقاء في دارفور وأخواتها - 1
-
حال النسابة: ما بين الحكومة السودانية والغرب
-
تنمية بالبندقية
-
مباحث ماركسية: تقديم
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|