نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1065 - 2005 / 1 / 1 - 07:37
المحور:
الادب والفن
صدر مؤخراً في تل أبيب ديوان للشاعر الإسرائيلي المناهض للصهيونية يتسحاك لائور بعنوان (مدينة الحوت). صدر الكتب عن دار نشر هاكيبوتس هامئوحاد. كانت قصائد من الديوان قد نشرت في صحيفة هاآرتس التي يعمل بها الكاتب.
كتبت قصائد الديوان في الأعوام من 2000 إلى 2004, و هي فترة اندلاع انتفاضة الأقصى, وهو ما له دلالة وافرة في الديوان, و الذي جاء تتويجاً لسنوات طويلة من جهد الشاعر الإسرائيلي في النضال ضد السياسات الإسرائيلية و العسكرية الإسرائيلية و ضد الصهيونية بشكل عام. فالشاعر كان أول رافض للخدمة العسكرية علني في إسرائيل في عام 72, و قد رفض إسحق شامير منحه جائزة إسرائيل بوصفه "عدواً لإسرائيل" و تم منعه من الكتابة السياسية في صحيفة هاآرتس اليسارية التي يكتب فيها في النقد الأدبي حالياً. انشغل لائور في مقالاته الصحفية وقصائده بمراقبة دولة إسرائيل, كيف تمارس عنصريتها وكيف تقوم بأكثر الأعمال همجية تحت ستار من المدنية و الديمقراطية الزائفتين. كتب كثيراً ضد ممارسات الجيش الإسرائيلي, و ضد حركات السلام الإسرائيلية المعتدلة التي تعطي الفلسطينيين باليمين ما تسرقه منهم بالشمال. هاجم اتفاقية أوسلو على ضوء نفاق من قاموا بها و كان من الأدباء الإسرائيليين القلائل الذين وقعوا على عريضة الكتاب العالميين لأجل السلام أثناء مذبحة جنين.
يعد ديوانه الجديد وثيقة إدانة مباشرة للممارسات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة, و للعقلية و للتاريخ الصهيونيين بشكل عام, فهو يعي جيداً كون إسرائيل هي ابنة للاستعمار الأوروبي, إذ استغل الاستعمار أزمة اليهود ليقيم دولة إسرائيل بهدف أن تكون شرطيه في الشرق الأوسط. و هو يقول في قصيدة له بعنوان "جئنا":
("اذهبوا من هنا إلى هناك, و ابنوا لنا/ حصناً, بهذا تكونون جزءاً منا": لماذا هناك؟ لماذا ليس عندكم؟ هل هذه/ هي مستوطنة العقاب؟ "ألم ترغبوا في جتو,/ فلتأخذوا ضاحية حصينة و نائية, قد يكون جسدكم بعيداً/ غير أن روحكم دوماً معنا "/ هكذا جئنا)
يعي لائور جيداً الجوهر الاستعماري لدولة إسرائيل, فهو يتأمل في حوار له منشور في مجلة الكرمل الفلسطينية, أجراه معه الشاعرالفلسطيني محمد حمزة غنايم, يتأمل تاريخ صيد السمك في إسرائيل, إذ لاحظ اختفاء السمك الطازج على الساحل برغم كون هذه البلاد تعتمد على الصيد أساساً, و ذلك لأنه قد تم طرد جميع قرى الصيادين التي انتشرت على امتداد شواطئ البلاد, بل و كان هناك منع صريح من العودة, إذن من أين أتى السمك الذي كان يأكله اليهود في هذه المنطقة؟ يرد الشاعر على نفسه بأن اليهود كانوا يشترون السمك المجمد في السوبر ماركت, مستورداً من أوروبا, فهذا السلخ للمنطقة عن ثقافتها و استيراد ثقافة أخرى من منطقة أخرى بعيدة, يعده لائور مع القليل جداً من اليساريين الإسرائيليين الآخرين, عملاً استعمارياً دالاً على طبيعة دولة إسرائيل.
ينشغل لائور في ديوانه الجديد بمحاكمة العسكرية الصهيونية, و هو يلجأ إلى المحاكاة الساخرة للخطاب العنصري الصهيوني, و هو دائماً خطاب يقوم بالتبرير. فهو يخاطب الجندي الإسرائيلي في ديوانه قائلا في سخرية:
"كن قوياً, ليس سهلاً أن يمر المرؤ بما/ تمر به, بالتأكيد ليس سهلاً إن كان المرء يتحلى بقيمك الإنسانية, فقط لا تخجل/ (الفرنسيون في الجزائر لم يكونوا أفضل) حافظ على نفسك, انس/ أفعالك, انس النسيان, انس نسيان النسيان"
هذه الحجج من نوعية (الفرنسيون في الجزائر لم يكونوا أفضل) تتردد كثيراً في الديوان, و هي غالباً ما تحاكي بشكل ساخر خطاباً صهيونياً يعمد دوماً إلى التقليل من شأن كل الفظائع التي ترتكبها إسرائيل فقط لكي يتم إثبات دعوى إسرائيل الديمقراطية. في قصيدة أخرى يلجأ لائور إلى تمازج الصولو بالكورال في ما يشبه مسرحية غنائية قصيرة, و هو يحاكي هنا المسرحي الإسرائيلي حانوخ لفاين الذي امتاز بحدته الشديدة (التي رآها الإسرائييون آنذاك غير محتملة) في انتقاد كل حروب إسرائيل و قياداتها و عسكريتها العنصرية إبان حرب 67. يتناول لائور في قصيدته (كخ) أربعة شخصيات, هم الطفلة و الطفل و المرأة و الرجل ثم الكورال, فيلقي على لسان كل منهما مقطعاً حول ممارسات الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة و مستوى المعارضة التي يتلقاها من الإسرائيليين في أفعاله هذا, مستخدماً المفردة الطفولية (كخ), و التي تقولها الأمهات للأطفال لنهيهم عن فعل شيء سيء, فبينما نجد وتيرة الأعمال العسكرية في الأراضي المحتلة تتصاعد, بدءاً من تعليم الشعب المحتل ماذا عليه أن يقرأ, إلى إماتة الشعب المحتل من الظمأ و من مهانة الجوع, مروراً بسرقة الأراضي و الاعتقال ثم تعذيب المعتقلين, بينما تتصاعد وتيرة هذه الأعمال تدريجياً على لسان الطفلة ثم الطفل ثم المرأة ثم الرجل ثم الكورال, نجد أن عدد من يقولون للجيش (كخ) في تناقص مستمر, بدءاً من الكثيرين جداً الذي قالوا (كخ), إلى الكثيرين بما يكفي, إلى الناس الآخرين, إلى البعض, إلى : " لم يكن هناك من قالوا كخ/ ربما كان هناك, غير أن صوتهم كان ضعيفاً/ فهم لم يكونوا مؤمنين من البداية إلا بما هو كخ", أي بما هو سيء. هذا بينما "يموت الشعب المحتل من الظمأ/ من مهانة الجوع, في المعسكرات, على الحواجز, / بدون أطباء في القرى, بدون أدوية في المدن".
يسخر لائور من العسكرية الإسرئيلية, ليس فقط في شكلها السياسي و إنما في شكلها الإنساني, فهو لا يكتفي بإدانة عمليات المحاصرة و الاجتياح و الاحتلال و التدمير, و إنما يصف كيف تشوهت الشخصية العسكرية الإسرائيلية من جراء ممارساتها الوحشية, فهذا الأب المجند يريد البكاء بشدة, "كأنما النفس/ مثانة منتفخة/ من داخلها, و لا يمكن/ تفجيرها إلا عن طريق البكاء/ الزاعق الكاسح, القبيح/ الماحي", و لكنه مع هذا نسي كيف يبكي, "لم يستطع/ البكاء/ نسي/ و على قدر ما حاول/ لم ينجح/ لم يتذكر/ و كيف أنهم لا ينسون طريقة قيادة الدراجة/ و لا ينسون اللغة الأم/ بل و ينجحون في التبول في المرحاض/ و لا ينجحون في البكاء".
يسخر لائور كثيراً من تدليل العسكري الإسرائيلي, هذا العسكري الذي يظهر على صفحات الديوان, في سخرية واضحة, باسم "عسكور" و "داود الصغير و الحبوب", هذا العسكري المهذب الرقيق الذي يقتل الأطفال و يدمر البيوت و هو يبكي. يقول لائور مستوحياً مشهد مقتل محمد الدرة: "فيلم الفيديو الملتقط من نشرة الأخبار و فيه محمد الدرة/ من غزة يتوسل حتى يبقوه حياً, قبل أن يطلقوا عليه النار و هو في حضن أبيه الذي يتوسل حتى يبقوا ابنه حياً/ و لا يستطيع الجنود تمالك أنفسهم, لأنه لا يجب عليهم في بيوتهم أن يقتلوا أطفالاً/ و هم بين أذرع أبائهم ".
تعد النبرة الغاضبة هي النبرة الأساسية في الديوان, هذا الغضب على دولة إسرائيل الذي بلغ مداه في السنوات الأربع الأخيرة, غير أن غضباً كهذا قد لا يكون مريحاً بالنسبة لإسرائيليين كثيرين, يقول عنهم شمعون زندبنك, الناقد الأدبي بجريدة هاآرتس:
"سيقول البعض أن هذه الأشعار غير متوازنة, و أن غضب لائور يتناسى الطرف الثاني. غير أن هذا الادعاء ليس في محله, فالإحساس الذي يقف وراء الغضب هو الخجل, و المرء يخجل من قذارته هو, لا من قذارة الآخرين, فهذا الكتاب لا يتنازل, لا عن الخجل, ولا عن القذارة".
بالإضافة إلى هذا فلائور, كما يسخر من الروح العنصرية التي تتجلى في الجيش, لا يعفي المجتمع الإسرائيلي نفسه من العنصرية, هذا المجتمع الذي يهوى دوماً الحديث عن الخطر الديموغرافي العربي, ليكون ذلك مسوغاً لطرد العرب كي لا يصبحوا أغلبية في إسرائيل, و للإتيان بمزيد من اليهود إلى إسرائيل. يقول لائور في قصيدته (أفاعي) محاكيا الصرخة اليهودية المتطرفة "العرب يتكاثرون كالأفاعي": "اذهب إلى مستشفى الولادة/ و احص المواليد, كم/ مولوداً عربياً أمام كل/ عشرة يهود و خد معك مولوداً/ يهودياً. ربه/ و ارسله إلى مستشفى الولادة لكي يحصي/ المواليد, كم مولوداً عربياً أمام كل عشرة/ يهود, و عندما يأتي برضيع/ فليربه و يذهب إلى مستشفى الولادة/ لكي يحصي كم مولوداً/ عربياً أمام كل عشرة/ يهود, و عندما يكبر الحفيد, عليه ألا ينسى/ الذهاب إلى/ مستشفى الولادة, لكي يعد/ المواليد, أجيال وراء أجيال ممن يحصون و من يحصين, المنشغلين بالأنصبة , بالأرقام في البطاقات, بمباني/ الجماجم, بجروح/ الهوية, بالتقيحات/ باختصار, بالشأن/ القومي, من يكون من, و من لا يكون من"
لم يكن غريباً إذن أن يتحول الديوان, و صاحبه يتسحاك لائور, إلى أبوين روحيين لحركة رافضي الخدمة العسكرية في إسرائيل, فهذا الجندي الاحتياطي سابقاً, و الرافض للخدمة العسكرية حالياً, دافيد زونشاين, يقول في تقديمه للكتاب بجريدة هاآرتس الإسرائيلية, بعد أن يحكي كيف شجعته كتب لائور السابقة على أن ينضم لحركة (شجاعة أن ترفض) و هي الحركة الرافضة للخدمة العسكرية في إسرائيل:
" يطلب الديوان من كل هؤلاء الذين ينكرون بقلوبهم الفظائع التي تدور باسمهم خارج الخط الأخضر و داخله, و من كل هؤلاء الذين يعارضون الفظائع و إنما يقومون بدور فيها لفترة معينة في السنة, من كل هؤلاء الذين يعرفون و إنما يفضلون أن يزيحوا آليات الفهم, يطلب الديوان من كل هؤلاء أن يطلقوا سراح هذا الذي تمت إزاحته, و أن يقربوا الذاتي من الجماهيري, الذاتي من السياسي."
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟