نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 3596 - 2012 / 1 / 3 - 14:15
المحور:
الادب والفن
سمير النقاش الروائي العراقي الحالم بالعودة
نبيل عبد الأمير الربيعي
((فقد استطاع أدب سمير نقاش إدخال شخصية اليهودي العراقي إلى الأدب كشخصية لها أبعادها الدرامية وصفاتها المتميزة)) البروفسور شموئيل سامي مورية
مازلت أكثر المتابعين لواقع اليهود العراقيين من الأدباء والشعراءولكتاب القصة من الشخصيات اليهودية العراقية الذين هاجروا وهجّروا قسراً من العراق وبقوا يكتبون باللغة العربية, وغادروا العراق لأكثر من خمس وخمسين عاماً , من ضمن هذه الشخصيات سمير نقاش والأديب شمعون بلاص والأديب الشاعر والكاتب سامي ميخائيل و الراحل إبراهيم عوبيديا ومراد العماري والبروفسور شموئيل سامي مورية وآخرين , والغرض من المقال لتسليط الضوء على المنجز الأدبي العراقي للمبدعين العراقيين من الطائفة اليهودية والعرب العراقيين باعتبار إن العراق بلد الجميع سواء كانوا يهود أو مسلمين أو مسيحيين أو كلدان أو تركمان أو أكراد أو فيليين أوعرب.
ولد الروائي اليهودي العراقي سمير نقاش عام 1938 في بغداد وعاش أغلب أيام طفولته في حي البتاوين ثم انتقل إلى بيتهم في بارك السعدون, ولقبت عائلتهُ بالنقاش لأن مهنة جده الصائغ وإتقانه النقش الفني , ويفتخر بأن تغليف منائر جامع الإمامين الكاظمين بمعدن الذهب هي من عمل جده,ولكن سياسة الحكومات العراقية المتعاقبة ومنها الحكومة الملكية ,وخاصة حكومة توفيق السويدي عام1950 طالبت بالدعوة إلى إسقاط الجنسية العراقية عن الطائفة اليهودية بمؤامرة بين حكومة نوري السعيد والقوى الاستعمارية والمنظمات الصهيونية لمن يرغب بتسقيط الجنسية العراقية ومصادرة أموالهم بقرار من حكومة توفيق السويدي في التاسع من آذار عام1950 وينص القرار:"على تخويل مجلس الوزراء بتجريد أي يهودي يرغب باختياره ورغبته بترك العراق من جنسيته العراقية" , كان هذا القرار بعد استخدام الضغوط على اليهود العراقيين وطردهم من أعمالهم ووظائفهم ومنعهم من أعمال الاستيراد والتصدير ,وكانت أعمال التفجيرات التي مارستها منظمة التنوعة ضد العراقيين اليهود في محلاتهم السكنية ودور العبادة والمدارس ,مما ساعد على أثر ذلك الهجرَة بين عامي 1950 وعام 1951 لأكثر من مائة ألف يهودي عراقي,ومن ضمنهم غادرت عائلة سمير النقاش العراق إلى إسرائيل عام 1951 وكان عمره لا يتجاوز الثالثة عشر. كان سمير رافضاً لواقع العيش في إسرائيل ويعتز بانتمائه العراقي البغدادي مما حاول أكثر من مرة مع ابن عمه مغادرة إسرائيل سيراً على الأقدام إلى لبنان , ولكن سوء حظه أوقعه في يد السلطات اللبنانية وأودع السجن لمدة ستة أشهر , وأعيد إلى إسرائيل وبدورها اعتقلته بتهمة التجسس وسجن لمدة خمسة أشهر,وقد كتب هذه المغامرة بروايتهِ الـ"رجس" , اضطر سمير النقاش العيش في بلدان المهجر تارة والترحال تارة أخرى ,من الهند ثم إيران ثم الاستقرار في بريطانيا . اهتم سميرالنقاش بالتراث العراقي ودعمها برواياته من بعض المعتقدات البغدادية والقصص الشعبية والغيبية والأسطورة , كما تطرق بمقالات عن الأكلات البغدادية والحلويات المنتشرة التي تشتهر بها بغداد , إذ يقول النقاش: "هل يمكن لأحد أن يخرج من جلدهِ؟ أنا كإنسان عراقي أصيل بكل جوارحي" ويكمل بمقال آخر : " ليس بمقدوري استحضار الكلمات مثلما أستحضرها من لغتي العربية الولادة".
سمير نقاش بقي غائباً عن الساحة العربية وكُتبهُ مفقودة في أسواقها إلا بعد رحيل النظام السابق, قد طبُعت بمطابع شركة الجمل في ألمانيا , والذي أتحفنا بهذه الروايات التي تتحدث عن بغداد مكان الولادة, فقد بقيت رواياتهُ لم تترجم إلى العبرية لتمسك الروائي باللغة العربية إذ يقول النقاش : " العربية هي لغتي ولا أعرف من اللغات سواها, وقد ذكرت.. كلمة قوقعتي , فأنا كنت في إسرائيل منذ أول لحظة داخل هذه القوقعة... المتاعب الحقيقية التي يعاني منها كاتب أو شاعر في إسرائيل هو اليهودي العراقي الذي يكتب بالعربية , إذ لا يعترف به أحد... ومن هنا حرمانه من كل المخصصات والجوائز ومساندة النشر حكومياً إلى غير ذلك من الحقوق".
يكتب الروائي العراقي سمير نقاش أغلب رواياته بأسلوب السًرديات واستخدام اللهجة البغدادية القريبة منها كمفردات للزمن والحَدَث ,ثم يعقب رواياته بقائمة لمعاني المفردات البغدادية لغير العراقيين في الهامش ويقول النقاش"أنا كإنسان عراقي أصيل بكل جوارحي, أحمل بجنّباتي تأريخاً شديد القدًم من العراقية , تكويني كلهُ عراقي, لُغتَي , عاداتي , الطعام الذي أحبهُ , الموسيقى التي أفضلها, الناس الذين أرتاح أليهم , كل ذلك عراقي بحتْ".
سمير النقاش روائياً:
تميزت روايات ومسرحيات الراحل سمير نقاش بمشاركة أكثر من شخصيتين في رواية الأحداث , كما يستخدم الأمثال البغدادية التي تمثل اللهجة القديمة لأهل بغداد , وهي قريبة من اللهجة الموصًلية,أما اللهجة الحالية في بغداد بعيدة عن اللهجة القديمة , فكان يبعث قصصهِ بهوامش لمعنى الأمثال , ويعلق الراحل سمير نقاش عن استخدام اللغة الفصحى في حوار مع الكاتبة إنعام كجة جي في صوت العراق الحر"الفصحى في مثل هذه الروايات هي تَصنًع وكذلك على القاريء"فقد استخدم كبار أدباء العربية العامية في رواياتهم أمثال الطيب صالح ويوسف إدريس.
فقد صدرت للروائي الراحل العديد من الروايات التي ساعدت في طباعة أغلبها " رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق)إصدارها منها : ( الرجس1978, طنطل , أنا وهؤلاء والفصام 1978, ليلة عرابا , قوة يا دم1975, عورة الملائكة 1991,المقررون1990, نَزولَه وخيط الشيطان 1986, عندما تسقط أضلاع المثلثات ,يوم حملت وأجهضت الدنيا , نبؤت رجل في مدينة ملعونة , حكاية كل زمان ومكان ,وأخيراً شالوم الكردي2004) أما مسرحياته فمنها( في غيابة والمقررون 1990, الممنوح والانسياب) , فقد اهتم بالتراث الشعبي العراقي بصورة عامة واليهودي بصورة خاصة.
من أفضل رواياته ( نزوله وخيط الشيطان) والذي يذكر بها إنه يقول (إني يهودي لكني لست خائناً..كيف أخون أرضاً ممتزجاً بثراها, مات آبائي وأجدادي؟!). فقد عاش حياة مضطربة بسبب حضور بغداد بذاكرته وحب والده للعودة إلى بغداد والامتناع من العيشة في إسرائيل لحين رحيله إلى العالم الآخر.
إن أغلب روايات سمير النقاش تدور حول أحداث ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي وتتضمن رواياته جميع الطوائف العراقية لتعكس واقع المجتمع العراقي في تلك الحقبة.لقد شكل خلال مسيرتهُ التراجيدية إدانة لكل الدول العربية للكيفية التي تعاملت بها مع الطائفة اليهودية , مع العلم على امتداد تأريخ الدول الإسلامية والثقافة العربية – الإسلامية , لم يضطهدوا كيهود ولم ترتكب بحقهم مجازر وجرائم مثل ما ارتكبت بحقهم في عام الفرهود 1941 أثناء فشل حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق.
لمجاميعهُ القصصية الأولى عام 1971 صدرت بعنوان ( الخطأ) ثم صدر اثنا عشرة كتاباً بين رواية ومسرحية وقصة قصيرة , وآخرها عن دار الجمل في ألمانيا( شلوموا الكردي وأنا والزمن) عن سيرة تاجر يهودي الذي أدخل أول مرة لبغداد تجارة الملابس المستعملة واستيرادها من الهند, كتب الرواية بأسلوب يقترن أحياناً من الروايات التراجيديا وبلغة لا تستبق كثيراً عن مفردات أهل بغداد وهي قصة حقيقية سمعها في ملاجيء المهجرين في إسرائيل من صاحبها الحقيقي شلوموا اليهودي الذي عاش في العمادية في منطقة صبلاخ , وقد ذكره الكاتب أمين يونس بمقاله في الحوار المتمدن يقول الكاتب: ( في مدينة العمادية في الأربعينيات من القرن الماضي ، كانتْ هنالك ثلاث محلات رئيسية ، الأولى للمسلمين والثانية لليهود والأخرى للمسيحيين . رغمَ كُل ما قيلَ عن التعايش والتسامح .. إن " بعض " الناس العاديين في المجتمع ، ونتيجة تراكُم ثقافة الاستعلاء والشعور الزائف بالتفوق .. كانوا يلجأون إلى هذا النوع من التعامل .. علماً إن المجتمع والإدارة كانا يتقبلان هذه التصرفات في كثيرٍ من الأحيان ، وكأنها أمرٌ مُسّلَمٌ بهِ !. لكن لا ينبغي تعميم ذلك على الجميع .. فكان في المدينة ، العديد من العقلاء المسلمين الذين يقفون بوجه هذه الأفعال المُستهجَنة . عموماً .. في أحد الأيام ، توّجهَ " م . ح " إلى حيث كان " شالومكى " متواجداً في روبار العمادية ، وأراد أن يفتعل مشكلة معه ، لكي يهينه ويضربه ... كان " م . ح " سييء الطبع مُشاكساً .. و" شالومكي " طويلاً وقوياً مفتول العضلات .. قبلَ أن ينجحَ " م .ح" في صفع "شالومكي" على خّدهِ ، نجحَ اليهودي في السيطرة على صاحبنا ، ثّبَتَهُ ثم ألقاه أرضاً وبدأ يضربه على راحتهِ ! ، ثم شرعَ شالومكي ، بالصراخ مُستنجداً : ألحقوني يا ناس ، إن " م .ح" يضربني ، ويعتدي عليّ ... اليهودي يضرب وصاحبنا المُسلم مُستسلمٌ لا حولَ ولا قُوّة ، واليهودي يصيح : النجدة يا عالم ، أنقذوني من " م .ح " !!... رغمَ الضرب المُبّرح الذي ناله " م .ح" ، إلا انه كان راضياً كُل الرضا ، عن صراخ وصياح شالومكي ... فالمُهم إن يسمع الجيران ، انه هو أي " م .ح" مَنْ يكيل الضربات ، والدليل هو استنجاد شالومكي ! .. أما الكدمات العديدة على أنحاء جسمه ، فتعليلها سهل فالجميع يعرفون ضخامة خصمه ! .. ثم مُتحدثاً مع نفسهِ ( لعنة الله على اليهود جميعاً .. لو كنتُ أعرف مدى قوة وشراسة هذا الشالومكي ، لِما وّرطتُ نفسي معه بهذا الشكل ).
البعض يعتقد إن القصة الأخيرة للنقاش ليس "شولوموا الكردي" وإنما " ليلة عربا" وهي من قصص السيرة الذاتية يقول النقاش في هذه روايتهُ أنا الشاهد والباقون هم الأقارب والأصدقاء وفيها وصف لعيد العرازيل الخاص بإخواننا اليهود , وهي المظلة على شبه غرفة يقيمها يهود بغداد بمكان مفتوح في بيوتهم تحيط بها "أقمشة التول" أو " الكِله" فيقيم فيها ثمان أيام حسب الفريضة , يأكل ويشرب وينام فيها , والبعض يسميها سقوط الإنسان ,ويمثل العم حسقيل عزرا إحدى الشخصيات في القصة بأرض الأجداد قبل التهجير إلى إسرائيل لكنهُ يصاب بالحزن والحالة النفسية بعد التهجيًر.
فقد كان الراحل سمير النقاش شديد الدقة في تصوير الاضطراب العاطفي للعراقيين , فالذي يقرأ أدبهُ يستغرب لهذا الحنين إلى العراق وبغداد , بمحبة مفرطة , ففي قصة "أنا وهؤلاء والفصام " فهي قصة واقعية حدثت ليهودي عراقي هُجِر وأُقلع من جذور موطنهُ الأصلي , فجسًد النقاش هذه الحقيقة والمعانات والحنين لبلدهم وبساتين ديالى الغَنَاء بهذه الرواية, كما يؤكد النقاش أيام التهجير عام1951 من بغداد إلى المجهول "ألمَمَ شتات الطفولة , وأحصر الأشياء , لأحظي بجزئيات السنين التي تصرًمت والكلام في الأحشاء مكبل", فقد حب العراق ونسيم دجلة العليل فعاطفتهُ تغلبت على جميع مشاعرهُ التواقة لزيارة بغداد , إلا أن ذلك لم يتحقق لهُ حتى الرحيل من الدنيا , فقد امتدت جذور العراقيين اليهود لأكثر من خمس وعشرون قرناً في بلاد الرافدين وبابل , فكان يردد كلماتهِ التي تعصر القلب لزملائه وأصدقائه وفي المقابلات الصحفية منها مع الكاتب خالد الشطري " كنتُ يهودياً عراقياً في بغداد , وأنا يهودي عراقي في إسرائيل " , كما هنالك فلم قد أخرجهً العراقي المقيم في النمسا( سمير جمال الدين) بعنوان "إنسى بغداد" كان لقاء مع أربعة من الكتاب العراقيين اليهود الذين عملوا في صفوف تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي وضحوا من أجلهِ أبان فترة الأربعينات قبل التهجيًر وهم زملاء لوالد المخرج , ومن الذين شاركوا في هذا الفلم الراحل سمير نقاش وسامي ميخائيل وشمعون بلاص وموسى حوري,فقد وصف سمير نقاش بعواطف جياشة فراقه لبغداد ودجلة وشاطئيها وهو ابن الثالثة عشر عاماً .
كان يعتبر سمير النقاش اللغة العربية هي الوحيدة التي يتمكن من التعبير بواسطتها عن مكنونات عواطفهِ وهواجسهُ ومشاعرهُ , وبقى مخلصاً لتراثه ولغتهُ العربية في الكتابة لاعتقادهُ إن أدبهُ ورواياته من الممكن أن تصل لكل مكان إذا كانت تكتب بهذه اللغة , فقد استطاع أكثر من طالب من نيل أطروحة الدكتوراه في أدب سمير النقاش منهم من إيطاليا وألمانيا, وهذا يزيدهُ فخر لاهتمام الآخرين بأدبه .
لقد عاش الروائي العراقي سمير النقاش حياة التائه , و عمل ضمن صحف المعارضة العراقية لمدة أربع سنوات ولكن بعد سقوط النظام عام 2003 ضاقت به السبل لفقدان حلم العودة إلى العراق, و من تكاليف المعيشة والعلاج فعاد إلى إسرائيل مضطراً , ومات بعد شهرين من وصوله أي في7 تموز عام2004, إذ كان يحلم بالعودة لأرض الوطن وتلك الحياة الحقيقية التي قضاها في العراق, ويعقب الكاتب والباحث رشيد الخيون بمقاله( سمير النقاش مؤرخ اللهجة البغدادية والحالم بالعودة إلى الفردوس المفقود): "إن ما يكتبه من مفردات هي لغة البغداديين العباسية , وإن يهود العراق ظلوا يتداولونها حتى في المهاجر والمنافى وهو الباحث المقتدر في تأريخ يهود العراق والحاذق في الكتابة حول عاداتهم وأساطيرهم ومعاشرتهم من عهد بابل إلى عهد الهجرة الجماعية".
رحل سمير النقاش وعينه لم تستمتع بمناظر العراق ونسيم دجلة والفرات, وأتمنى أن لا يرى بغداد الذبيحة من الوريد إلى الوريد , بغداد الذي أهملها حكامها السابقين واللاحقين من القوميين إلى الطائفيين, أصبحت مكب نفايات وتنتشر فيها الأمراض وشعب بائس مهمل ومغتصب لأبسط حقوقه الخدمية والاجتماعية والاقتصادية ,بغداد تفتقر لأبسط الخدمات وحقوق المواطنة.
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟