أخبار الشرق - 10 أيلول 2002 من غير المحتمل أن تتعرض سورية
لضربة أمريكية أو إسرائيلية في سياق الحملة الأمريكية المرجحة لإسقاط النظام
العراقي. فقد أظهرت سورية تعاوناً تاماً في ملف مكافحة الإرهاب التالي لـ 11 ايلول
والمرتبط به، وقد أثمر هذا التعاون عن إنقاذ حياة أمريكيين وفقا لما قاله مسئولون
أمريكيون، وأكده فاروق الشرع وزير الخارجية السوري، ثم أعادت توكيده بثينة شعبان
مسئولة الإعلام الخارجي في وزارة الخارجية السورية في مقالة نشرتها في صحيفة "وول
ستريت جورنال"، وكشفت فيها أن "التعاون الأمني السوري الأمريكي أحبط عمليات أرهابية
كانت تستهدف القوات الأمريكية في الخليج". هذا التعاون الأمني مؤشر على
استمرار المرونة المعتادة في العلاقات السورية الأمريكية التي تمر بمرحلة عدم
استقرار، حسبما وصفها وزير الخارجية السوري. ولا يغير من ذلك بقاء سورية على قائمة
الخارجية الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب، ولا بقاء الولايات المتحدة على "قائمة"
وزارة الإعلام السورية دولة تهدد "باستباحة الوطن العربي". من
ناحية أخرى من غير الوارد بالنسبة للإدارة الأمريكية أن تفتح أكثر من جبهة وتكثر
أعدائها بينما هي تلمس منذ الآن صعوبة ضبط المتغيرات التي قد تترتب على ضرب العراق
وتغيير نظامه. ولعل هذا السبب الأخير هو الدافع وراء محاولة إدارة جورج بوش، وبلسان
كل من كولن باول ودونالد رامسفيلد وأحد الناطقين باسم البيت الأبيض استرضاء
السعوديين بعد تسريب تقرير لوران مورافيك الشهير في الثلث الأول من شهر آب الفائت
(وصولا إلى الاستقبال الملوكي الذي خص به بوش نفسه وفي مزرعته الخاصة السفير
السعودي في أمريكا في أواخر الشهر نفسه). ورغم أن الإدارة اليمينية في البيت الأبيض
تتصرف مثل الفيل الهائج، ورغم أنها تتعامل دون لياقة مع كل الدول العربية الرئيسية
بما فيها أخلص حلفائها في السعودية ومصر؛ رغم ذلك فمن غير المرجح أن تخرج العلاقة
مع كل من السعودية ومصر، ومعهما سورية، في المستقبل القريب عن تمرين هذه الدول على
القبول بمعاملة أمريكية أكثر تشدداً حيالها؛ أي أن لها دوراً
ترويضياً. في الإطار العام ثمة دور متقارب لتقرير مورافيك بالنسبة
للسعودية، وقضية سعد الدين إبراهيم وما ترتب عليها من رفض البيت الأبيض منح مصر 130
مليون دولار إضافية طلبتها أسوة بمنح إدارة بوش 200 مليون دولار لإسرائيل، ثم قانون
"مساءلة سورية" الذي سيُعرض على الكونغرس الأمريكي للمصادقة عليه في الثاني عشر من
شهر أيلول الجاري. الاتجاه المبدئي الواضح تجاه
البلدان الثلاثة يمزج بين الضغوط الإعلامية والدبلوماسية والسياسية، ويبقى في إطار
مذهب الاحتواء وما دونه، على الأقل حتى الفراغ من المهمة العراقية. وسيكون الرد
الأكيد لهذه الدول ضمن المعتاد، أي التكيف و"الانحواء" ضمن الحاوية الأمريكية. في
وسعنا التأكيد بكل اطمئنان أن هذه الدول ستنحني للعاصفة كما في كل مرة سابقة، لا
لأن هذا هو الخيار العقلاني ولكن لأنها تبرمجت على الانحناء ولا تستطيع التفكير بأي
خيار آخر. هذا هو الفرق الذي ربما يجدر بمنظري سياسات هذه الدول حسني الظن أخذه
بالاعتبار، أعني أن انحناءها للعواصف ليس سياسة بقدر ما هو
طبيعة. لكن بصرف النظر عن استبعاد هجوم أمريكي على سورية في سياق
المواجهة المحتملة مع العراق، وبصرف النظر أيضاً عن احتمال صدور قانون "مساءلة
سورية" أو عدمه، فإن سورية معنية جداً، وبدرجة قد تفوق الدول العربية الأخرى، بما
يمكن أن يحدث على حدودها الشرقية، ولدولة تشاركها العروبة البعثية والأكراد والمياه
ونمطاً متقارباً من ممارسة السلطة، فضلاً عن عدد غير قليل من السمات
الأخرى. هناك أسباب كثيرة تبرر بحق عدم شعور سورية بالارتياح مما
تتأهب نذره للتفاعل في الشرق الأوسط: أولاً: الأرجح أنه إذا حزم
الأمريكيون أمرهم فسيشارك الأردن لوجستياً على الأقل، وكذا تركيا التي لها مطامع
أرضية في العراق ومخاوف تتصل بالشأن الكردي وذريعة تتعلق بتركمان العراق. وبهذ
المعنى ستجد سورية نفسها محاصرة من الشرق العراقي والجنوب الأردني والإسرائيلي
والشمال التركي الذي لا يؤمَن جانبه رغم اتفاق التعاون الذي وقعه رئيس الأركان
السوري مع الأتراك في 19 حزيران الفائت. ولا ننسَ أن هناك أطرافاً لبنانية لا تخفي
استعدادها للاستفادة مما تظنه تغيراً وشيكاً في خريطة الشرق الأوسط، وهو ما برهن
عليه مؤتمر لوس أنجليس في أواخر حزيران الماضي ومهرجان انطلياس في 7 آب الماضي
أيضاً؛ ومن هذه الأطراف اللبنانية ما له ضلع في قانون "مساءلة
سورية". لا يعني هذا الحصار بالطبع أن هؤلاء الجيران يتأهبون
للانقضاض على سورية بقدر ما يعني أن البلد سيفقد هوامش مناورته الضيقة ويخسر عمقه
الاستراتيجي العراقي (وإن كان عمقاً مهدوراً طوال معظم التاريخ الحديث للبلدين)،
ويفقد من قدرته على التأثير على الأحداث حوله، وخصوصاً في لبنان والأردن؛ كل هذا
دون أن يمكنه الركون جديا إلى الحليف الإيراني الذي سيكون محاصراً بدوره بدرجة قد
لا تقل عن سورية، إن لم تزيد. ثانياً: والأهم هو أن
الديناميكية والوقائع المستجدة التي سيولدها العدوان على العراق قد تخلق بحد ذاتها
خططاً لسحب سورية في العاصفة، وإن لم يكن ذلك بطرق حربية
بالضرورة. يمكن أن نفكر في مستويين لانعكاسات الهجوم على العراق على
سورية. مستوى تكتيكي يتمثل في ما قد تجره وقائع ميدان المعركة - المذبحة على البلد
الجار للعراق: سيل من اللاجئين العراقيين، ربما هرب أسلحة عراقية إلى سورية على
غرار لجوء الطيران العراقي إلى إيران في حرب "عاصفة الصحراء" وما يجره من مطالبة أو
تذرع أمريكيين بها، أيضاً هرب ولجوء مسئولين مدنيين أو عسكريين عراقيين إلى سورية،
قصف أمريكي عن طريق "الخطأ" لمواقع سورية في غمار المعركة، مشاركة محتملة لبعض
الأكراد السوريين إلى جانب إخوانهم العراقيين. كل من هذه الاحتمالات أو أي منها قد
يحرض بدوره سلسلة من الأفعال والمطالب وردود الأفعال التي يصعب التنبؤ بها أو
التحكم بمسارها اثناء المعركة. على هذا المستوى الأول،
التكتيكي، يجب ألا نهمل أيضاً البعد النفسي في توقع الخطوات الأمريكية وتوجيه
زخمها: فكما أن منظر الدم يستفز شراسة الوحش ويثير تعطشه لمزيد من الدماء فإن بدء
المعركة، وخصوصاً إذا تعرض الأمريكيون أو الإسرائيليون لبعض الخسائر المؤثرة،
سيدفعهما إلى مستويات مهولة من العنف وإلى عدم تحمل أي تردد - وكم بالحري معارضة -
لمخططاتهما. فالحرب أكثر من أي فعل آخر تشكل الفاعلين وتصوغ إدراكهم وسلوكهم وتردهم
إلى محض محاربين تتحكم بهم غرائز العدوان والحرب وحدها. وفي العقد الأخير أصبح
الرهان الحربي الأمريكي على الصعيد العالمي، والإسرائيلي على الصعيد الشرق أوسطي،
هو الحرب المطلقة التي تنتهي بهزيمة ساحقة للعدو، بما في ذلك "إعادته إلى العصر
الحجري" أو حتى "محوه من الخريطة"، على غرار ما يهدد الإسرائيليون اليوم العراق إن
تعرض لهم؛ وكل ذلك مقابل صفر خسائر للمنتصر. المستوى الثاني يخص الوقائع
المستجدة في مرحلة ما بعد المعركة التي ستكون بمثابة مختبر يجرب فيه الأمريكيون
هندسة المنطقة (بما في ذلك احتمال فك الدول القائمة وتركيب "الدول المؤقتة")
ويرصدون نتائج عملهم وردود الأفعال عليها. والاحتمال الأرجح لفك الدول هو تقليص
سيادتها والحد من سلطتها وصولاً في الحد الأقصى إلى تجزئتها الفعلية: دولة هاشمية
موسعة تضم العراق والأردن وتكون وطناً نهائياً للفلسطينيين، وما يتفرع عن هذا
السيناريو من احتمالات جزئية كثيرة؛ دولة بترولية شرق السعودية لا سلطة للسعوديين
عليها، ودولة تسيطر على الأماكن المقدسة الإسلامية في الجزيرة العربية إلخ (بما
يعنيه هذا الخيار الأخير من فك مركب الشرعية الدينية والثروة الريعية والعصبية
السعودية العنزية، أركان الحكم السعودي الثلاث). إذا سارت الأمور في هذا الاتجاه فإن الكيان السوري لن يقوى على تحمل
تغير من هذا المستوى للبيئة الإقليمية التي اعتاد نوعية مشكلاتها وأنماط حلولها.
ومن المنطقي أن يشجع تغير الكتل النسبية في المنطقة الميول النابذة ويضعف المراكز
الفرعية الإقليمية من شاكلة المركز الفرعي السوري. ووفقاً لمعظم التقديرات المعقولة
ستكون سورية كشعب ودولة ووطن في صف الخاسرين، ولا يبدو أن هناك فرصاً لأن تكون في
صف المنتصرين مهما فعلت، ولا حتى للتكيف المعقول على غرار ما فعلت عام 1990.
وللخسارة منطقها الذي جربناه أعوام 1948 و1967 و.. و1991، وهو يتلخص في المزيد من
الضعف وتدهور موازين القوى لغير مصلحة العرب، الأمر الذي يقود بدوره إلى تنازلات
جديدة وهبوط في سقف الممكن. وهو إلى ذلك منطق عدم الاستقرار والتفكك السياسي
والاجتماعي والإنساني. يمكن أن نسمي مجمل نتائج الخسارة على المستويين القومي
والمحلي بالفاعلية التعفينية للهزيمة. كما نلاحظ فإن الدينامية التي
من المرجح أن تنشأ عن العدوان الأمريكي أخطر من العدوان بحد ذاته، ومن هدفه المباشر
المتمثل بإسقاط حكم الرئيس العراقي صدام حسين. وسبب ذلك غير خافٍ، وهو تقاطع مناخ
ما بعد 11 أيلول مع وجود قيادة أمريكية مفرطة اليمينية ومتحررة من ضرورة مجاملة
"حلفائها" العرب، وهم الذين تمعن أحوالهم في الانحطاط والذين أثبتوا قابلية
استثنائية للانضغاط بكل ضغط (عدا الضغوط الداخلية بالطبع). هل
الموقعة العراقية محتومة؟ كيف يمكن منعها أو الرد عليها؟ وكيف يمكن حفز "فاعلية
ثورية" تحريرية تبعد العرب عن "تجديد البيعة" لزمن العفونة والتفسخ؟ أسئلة أخرى
تحتاج إلى كلام آخر. __________ * كاتب
سوري |