أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خليل كلفت - العقائد الدينية والمعتقدات السياسية















المزيد.....



العقائد الدينية والمعتقدات السياسية


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3593 - 2011 / 12 / 31 - 11:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


العقائد الدينية والمعتقدات السياسية
من محاضرات جامعة كل المعارف
ألقيت فى فرنسا فى عام 2000
Université de tous les savoirs
الجزء الأول: ما الثقافة؟
ترجمة: خليل كلفت
مراجعة: بشير السياعي
الطبعة العربية ضمن الجزء السادس
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومى للترجمة، القاهرة، 2005
 
 
1: العقائد الدينية، المعتقدات السياسية
2: تأملات حول اللاسياسة
3: هل نحن مسئولون عن معتقداتنا؟
4: الأشكال الجديدة للتدين
 
  
 
1
العقائد الدينية، العقائد السياسية [i]
 
مارسيل جوشيه Marcel GAUCHET
 
 
هناك طريقتان لتناول هذه المشكلة. طريقة "تحليلية"، تتمثل في التساؤل عن طبيعة العقيدة وعن مكانتها في عمل العقل البشري وفي التفكير بعد هذا فيما يحدد طابع العقيدة الدينية بين كل العقائد الممكنة، ثم فيما يجمع وما يميز بين العقيدة السياسية والعقيدة الدينية، مع البدء بما يجعل من السياسة موضوعا للاعتقاد. على أن هناك طريقة "تاريخية" لمعالجة هذه المسألة. وهذه هي الطريقة التي سأختارها.
والحقيقة أن هذا الزوج من المفاهيم، العقيدة الدينية، العقيدة السياسية، ينطوي في حد ذاته على الأساس الجوهري لحركة المجتمعات وحركة العقول منذ قرنين. وهو يشير إلى ما يبدو لي أنه لا مناص من اعتباره الفعل الخالق للمجتمعات المعاصرة، أعني عملية خروج (أو نهاية) الدين. كما يتطابق هذا الزوج من المفاهيم مع الانتقال من مجتمع خاضع لحكم قانون لم يضعه البشر hétéronome، ينظمه الدين، إلى مجتمع مستقل ذاتيا autonome، يمنح نفسه قانونه الخاص به ويضع نصب عينيه الحكم الذاتي autogouvernement كمثل أعلى. مجتمع يطور في سبيل تحقيق هذا  خطابا حول نفسه في قطيعة مع الخطاب الديني ومعتقدات بشأن نفسه ذات طابع مختلف عن العقيدة الدينية. وبوسعنا أن نطلق تسمية "ﺃيديولوچية" على هذا النمط الجديد من الخطاب ومن العقيدة.
وهذا الانتقال من الدين إلى الأيديولوچية، من العقيدة الدينية إلى العقيدة السياسية، هو ما سأعكف على وصفه في مرحلة أولى. وانطلاقا من هذا سأبذل قصارى جهدي، في مرحلة ثانية، لكي أرسم بصورة مماثلة مسارات العقيدة الدينية والعقيدة السياسية. وسيعني هذا، من جهة، أن نفكر في مسألة إلام يصير الدين في عالم لم يعد الدين يقوم بتنظيمه. وسيعني، من جهة أخرى، أن نبحث ما تستعيره الأيديولوچيات، في سياق تطورها، من الدين الذي تحلّ محله- وهي تستطيع عند الحاجة أن تعيره كثيرا، كما يثبت ما سُمِّيَ عن حق ﺒ"الأديان العلمانية". وسوف نرى، أخيرا، في نهاية هذا المسار، في مرحلة ثالثة وأخيرة، أننا نعيش الآن لحظة فريدة من هذا التاريخ الطويل: لحظة انفصال العقيدة الدينية والعقيدة السياسية بصورة عميقة. وهذا الانفصال يغيرهما كلتيهما.
وبعبارة أخرى فإنني سأحاول إبراز المعطيات التحليلية لمشكلة إعادة التشكل التاريخية  لمسيرة هذا الانفصال ولا يمكن أن نتناول هذه المسيرة بصورة صحيحة إلا في حركتها.
 
من العقيدة الدينية إلى العقيدة السياسية
 
 هذا الانتقال من الدين إلى الأيديولوچية، كما نراه يتحقق في أوروبا بين 1750 و 1850، قبل وبعد الثورة الفرنسية، يجد تعبيره المذهل للغاية في انقلاب اتجاه الزمن الاجتماعي المشروع من "الماضي" صوب "المستقبل". فالعقيدة الدينية إيمان بحجية الماضي، أما العقيدة السياسية التي تنشأ لصالح هذا الانقلاب فهي إيمان بحجية المستقبل. ويدور الانتقال من عالم الخضوع للدين إلى عالم الاستقلال الذاتي حول صعود الوعي التاريخي، أيْ وعي الطابع "المنتج" للمستقبل. وكل المجتمعات تاريخية، من حيث كونها خاضعة للتغيير. وهي لا تعزو بالضرورة لهذا السبب طابعا خالقا لهذا التغيير. بل إن الأمر على العكس. فهي تفكر في نفسها بوجه عام، عبر طول التاريخ، على أن قوى علوية قد قامت بتحديدها نهائيا من حيث طابعها الجوهري. وإنما في هذا على وجه الدقة يكمن وقوع الاختيار على الدين الذي كانت له السيادة على الجانب الأكبر من تاريخ البشر: في هذا الإنكار للقدرة على تحديد نفسها وتأسيس نفسها وفي عزو هذه القدرة إلى الغير، إلى كائنات ذات طابع غيبي، من أسلاف مؤسسين، أو آلهة منظمة، أو إله واحد خالق. وإزاء هذا، تكمن القطيعة المميِّزة للمجتمعات الحديثة في استعادة هذه القدرة على أن تصنع نفسها. وتمر هذه القطيعة بالنظر إلى التاريخ على أنه خلق الجماعة لنفسها عبر الزمن. ويمثل ظهور موضوعة "التقدم" في حوالي 1750 مرحلة أولى من مراحلها. وإنما في هذا سيتمثل الاستقلال الذاتي: ليس في الحكم المجرد للذات، بل في الإنتاج العيني للذات. كذلك فإن الوعي بالتاريخ لا يتلخص في وعي سلبي بالقوة الخلاقة للزمان؛ إنه يمتد إلى وعي فعال بضرورة العمل على تحقيق هذه التحولات المنتجة. والمجتمع الذي يخرج من الدين إنما هو مجتمع ينظم نفسه في سبيل التغير إلى الأفضل، مجتمع تتوجه فيه مجموع الأنشطة الفردية والجماعية نحو المستقبل، باعتباره الزمن الذي تراهن القدرة إزاءه على الذات. والحقيقة أن هذه الصيرورة التي أنتجت العالم الذي نعيش فيه تدعو إلى فك شفرة الماضي وتفسيره. وهي تفرض إجراء اختيارات في الحاضر ينبغي تبريرها. وهي تطالب بأن نتخيل المستقبل، بأن نقوم بتقديره سلفا، بأن نكتشف سره. وإنما عن مجموع هذه المطالب سوف تجيب الأيديولوجية، باعتبارها عقيدة سياسية.
ولنناقش بمزيد من التفصيل هذا الانتقال الحاسم. وللقيام بهذا فإنه لا غنى عن العودة إلى ما قبل ظهور الدين كعقيدة فردية كما نعرفه اليوم. وكان الدين في الأصل وإلى وقت قريب، أسلوب وجود، نمطا لتنظيم المجتمعات البشرية. وهذا هو ما يكثفه مفهوم "الخضوع لحكم الدين"  hétéronomie [من حيث كونه خضوعا لقانون لم يضعه البشر]. وفي هذا الإطار فإن العقيدة الدينية تقيد التنظيم الجماعي. إذ أنها إيمان بالآخر فوق الطبيعي الذي يعطيكم قانونكم المشترك من جهة أخرى ومن أعلى. على أن هذه التبعية إزاء "اللامرئي" هي في الوقت نفسه تبعية إزاء "الماضي". والنظام الخاضع للدين ماضوي بصورة جوهرية. والترابط غير واضح في التجريد، ومع ذلك فإنه رئيسي لفهم أشكال المجتمعات التي يحكمها الدين وطريقة أدائها لوظيفتها. وتنطوي "الخارجية" l’extériorité الميتافيزيقية الجذرية للأساس fondement على "الأسبقية" l’antériorité الزمنية للأساس. إننا لسنا موجودين عبثا داخل نظام العالم الذي نعيش فيه. فهو بصورة جوهرية "مُعْطى" لنا و"مفروض" علينا من كائن أعلى منا. ويتجلى تفوق مصدره في "أسبقيته" على الإرادة البشرية. ويسود نظام العالم على الإرادة البشرية إذ أنه ماثل دائما "قبلها". فنحن "نتلقى" النظام الذي يجمعنا في كل واحد، وعلينا أن نقوم بتوريثه مثلما تلقيناه. وإنما بهذا المعنى تكون تلك المجتمعات مجتمعات "تراث (أو تقاليد)" tradition، بمعنى أعمق كثيرا مما نضعه بصورة عفوية تحت هذه اللفظة.
 والمسألة لا تعدو أن تكون مسألة نسق من المعتقدات والتمثيلات. ويتجسد هذا التفوق وهذه الأسبقية للأساس في تنظيم للصلة الجمعية. وتتجسم هذه المعتقدات والتمثلات على هذا النحو في "شكل للسلطة" يشكل النظام الملكي مثالا نموذجيا له. مَلِك، هذا هو التجسيد في شخص لهذا الفرض لمبدأ النظام مسبقا ومن أعلى. وهي تتجسم في "شكل للصلة المجتمعية"، الشكل الهرمي، فتنشر غرابة الأساس داخل كامل نسيج العلاقات بين الكائنات،  في صورة التبعيات والارتباطات العضوية بين الأسمى والأدنى- والحقيقة أن أشكال اللامساواة في الطبيعة بين الكائنات هي التي تجمع بينها. وهي تتجسم في "شكل شامل للجماعات"، يمكن القول إنه "كلي" holiste، إذا استعدنا مفهوم لوي ديمون Louis Dumont، أيْ على أساس تقدم الكل على الأجزاء.
إن كل هذا النسق هو ما ينقلب بين 1750 و1850، مع انتقال الزمن الشرعي من الماضي إلى المستقبل، مع إعادة التوجه المستقبلية للخبرة الجمعية. وهو ينقلب كنسق للتمثيلات وكنسق للتنظيم، بما يتفق مع تقدم الوعي الذي ينتجه العالم البشري لنفسه آنذاك. والحقيقة أن الانتقال، وأنا ألحّ على هذا، "عملي" و"نظري" بصورة لا تنفصم. وقد تمخض عن تنظيم جديد للجماعة. والواقع أن المجتمع الذي يكتشف أنه ينتج نفسه آنذاك إنما هو مجتمع سوف يطمح إلى أن ينتج نفسه عن قصد، سوف ينظم نفسه بقصد إنتاج نفسه. ومن هنا انفجار إيقاع التغيير الذي يصاحب ظهور الوعي بالتغيير.
وتفضي إعادة الانتشار هذه تحت لافتة التغيير إلى الانقلاب سمة مقابل سمة لما قمنا بتعريفه على أنه التنظيم الديني. فهي تغير بصورة كاملة ترتيب الأولويات بين السلطة والجماعة. وبقدر ما كانت السلطة تتصدر وتسود في العصر الديني المتميز بخارجية وأسبقية الأساس، إذ أنها كانت واسطة الصلة بين الناس، وكذلك في عصر التاريخ (التاريخ كاتجاه للاستقلال الذاتي)، كان المجتمع هو الذي يتجه إلى التصدر. ومن جهة أخرى سوف تتمثل النتيجة الأولى لاكتشاف الطابع المنتج للصيرورة في الإتيان بتكوين وتطور هذا المفهوم للمجتمع باعتباره مصدر ومستقر هذه الدينامية الخلاقة. وفي العالم الديني تكون الأولوية للسلطة باعتبارها سلطة النظام. وفي العالم التاريخي، تنتقل السلطة إلى المجتمع باعتباره سلطة الحركة. وتتغير فيه فكرة الحكم الشرعي تغيرا كاملا. فهذا الحكم لا يمكن إلا أن ينبثق من المجتمع وأن تكون وظيفته تلبية حاجاته. وبكلمات أخرى فإن الانقلاب نحو المستقبل يأتي معه بإضفاء الشرعية على الحكم الليبرالي والتمثيلي- وهو تمثيلي لأنه يجب أن ينبثق بصورة صريحة من المجتمع وليبرالي لأنه يجب أن يحترم اختلاف المجتمع باعتباره سلطة جماعية لاختراع متميز عنه. إننا نشهد هنا ولادة "السياسة" بالمعني الدقيق للكلمة. فالسياسة تقيم الصلة بين المجتمع والحكم. وهي تتطابق مع مجال التفكير الجماعي بشأن اختيار ومرقابة الحكام، آخذة في الاعتبار التغيرات التي طرأت وتلك التي قد تنشأ في المجتمع. وإنما في هذا المجال للجدال السياسي سوف تنتشر التمثيلات والعقائد الأيديولوچية. وسوف تغدو الأيديولوچية خطاب المجتمع حول نفسه مكلفا في آن معا بتفسير التاريخ، وبتبرير الاختيارات التي يطرحها العمل السياسي لهذا المجتمع عليه، وتقديم تصور واضح عن المستقبل.
ونحن نرى إلام سوف يصير الطابع الأصلي لهذا الخطاب. وهو يرتبط بالسمة المختلطة لصيغته وبكثرة وظائفه. فالأيديولوچية تمزج بحكم طبيعتها ثلاثة مكونات. في المقام الأول، مجتمع يفهم نفسه تحت لافتة إعادة إنتاجه لنفسه وبحاجة مع الوقت إلى تفسير لحركة الصيرورة التي تجرفه- تفسير محايث، بالتعارض مع التبريرات المتعالية للدين. و يجب أن ترتكز الأيديولوچية على نظرية عن المجتمع تأخذ في اعتبارها عوامل وقوى تفسر هذه الديناميكا. وهذا هو الجانب العقلاني، والعقلاني بالضرورة للأيديولوچية. غير أن هذا المجتمع المتوجه نحو المستقبل هو، في المقام الثاني، مجتمع بحاجة بنفس القدر إلى أن يعرف إلى أين تقوده هذه الديناميكا التي تنبثق منه. وإنما هنا نلتقي بالعقيدة. فالمستقبل ليس أقل إلغازا من الآخرة. وهناك "لامرئي" أرضي يطلب النظر [التأمل] والإيمان مثل "اللامرئي" السماوي تماما- ويقوم بإعادة تدوير الرغبات المنصبة على الآخرة. وعلى هذا النحو يتوصل التفسير العقلاني للماضي والحاضر إلى تسوية مع الإيمان بالآتي، وبالتالي مع الإيمان والأمل في المستقبل. ويتمثل المكون الثالث، أخيرا، في أن هذه الفكرة عن الماضي وهذه الصورة عن المستقبل تنطبقان على الحاضر في شكل خيارات سياسية في الأجل القصير والمتوسط والطويل (برنامج، مشروع، نبُوءة). ويغدو الجدال السياسي جدالا بين التغيير الممكن والتغيير المأمول. وسوف تصير كل أيديولوچية مزيجا من هذه الأشياء الثلاثة، بنسب متغيرة. إن الأيديولوچية سوف تجمع بطريقة منسجمة ومتماسكة إلى هذا الحد أو ذاك عناصر من النظرية الاجتماعية، وتفضيلات سياسية، واقتناعات إزاء المستقبل. كما أنها سوف تقيم التعايش بين المقتضي العلمي، والواقعية السياسية، والطموح النبوئي. وسيكون من الممكن أن تتجاور فيها أكبر دقة عقلانية مع الأمل الأخروي الحارق. وينبغي أن نشدد، ضد الادعاء الطبيعي من جانب الأيديولوچيات للعلم، على أن دور العقيدة في سياسة المحدثين هو ما لا يمكن التهوين منه. وقد يصغر هذا الدور أو يكبر، ولكنه غير قابل للإزالة: إنه مُلازم للتوجه نحو المستقبل، الذي لا أحد يعرف ماذا سيكون، والذي لا نستطيع أن نفهمه إلا على سبيل الظن والتخمين، والاعتقاد الراسخ، وبكلمة واحدة إلا بصحوة العقيدة.
ويكفي هذا التشريح المختصر لتقديم فكرة عن إحدى الخصائص الجوهرية للأيديولوچية التي لا أستطيع للأسف التوسع فيها. وسأكتفي بالإشارة إليها. والخطاب والعقيدة الأيديولوچيان متنوعان ومتناقضان بطبعهما. وحيثما تعلق الأمر بالأيديولوچية فإننا نكون إزاء أيديولوچيات عديدة متنافسة. ويتزامن عهد الأيديولوچية مع نهاية اتحاد العقول. وكنت أود أن يكون بوسعي أن أبين هنا كيف استقرت في أوروبا، بين 1815 و1848، الأيديولوچيات الثلاث الكبرى التي سوف تنقسم فيما بينها العقول إلى يومنا هذا، المحافظة le conservatisme، والليبرالية le libéralisme ، والاشتراكية socialisme، فالأيديولوچيات هي اﻠ”ismes”.[ii] وهذه اللاحقة هي التي يتميز بها في اللغة  التوجه المستقبلي والطابع البرنامجي للأنساق الجديدة للتمثيلات والاقتناعات.
 
مصير الدين في عالم لم يعد ينظمه الدين
 
غير أنه لا مناص لي من أن أختار، وقد اخترت أن أعطي الأولوية لنظرة من أعلى للمسارات المتوازية للعقيدة الدينية والعقيدة السياسية منذ اللحظة التي تظهر فيها العقيدة السياسية في صورة الأيديولوچية.
ولا ينبغي أن نتصور إحلالا فوريا لنمط من العقيدة ونوع من الخطاب محل الآخر. ذلك أن الدين لا يتلاشى بين عشية وضحاها. إنه، ببساطة، يفقد وظيفته السياسية، وحجيته الشرعية العليا. والحقيقة أن الدين يجد نفسه في تنافس مع خطاب متناقض جذريا مع مقدماته، داخل عالم اجتماعي لم يعد يشمله الدين ولم يعد يحدد معاييره، مهما كان المؤمنون به كثيرين بل حتى أغلبية. إنهما موقف وخطاب سوف يقومان بالتدريج وببطء شديد باختراقه وتحويله.
وسوف يرتدي هذا التحول من جديد مظهرا مزدوجا.
من جهة، سوف يتحول الفكر المسيحي بصورة غير ملحوظة إلى الأيديولوچية، أو يصب في لغة الأيديولوچية. كما أن المثل الأعلى التقليدي للمجتمع المسيحي، الذي يعارض بصورة حادة "المجتمع بلا إله"، سوف يقوم بصياغة نفسه في لغة تاريخية وعلمانية. ويتم تحقيق الخطوة الأولى في هذا الاتجاه إبان الثورة الفرنسية على أيدي المفكرين المعادين للثورة- وهو ما سوف يفعله ، كما هو معروف تماما رواد الفكر السوسيولوچي. ذلك أنهم سيعملون في سبيل استعادة الحقيقة الاجتماعية والسياسية للدين المسيحي، ولكن في الحقيقة على أساس تحليل داخلي وطبيعي لضرورات الآلية الاجتماعية والسياسية. وهم يُدخلون عاملا للمحايثة داخل سياسة التعالي، لن يكف عن التقدم طوال القرن التاسع عشر.
ومن الجهة الأخرى فإن الدين كاقتناع سوف تجري إعادة تعريفه، ببطء وبصورة غير ملحوظة بالقدر نفسه، ولكن بصورة لا تقاوم، ﮐ"عقيدة فردية"، ﮐ"رأي ديني"، بين آراء أخرى ممكنة، داخل النطاق التعددي للمواجهة التي يطرحها الجدال العام والاقتراع السياسي.
وتبرز لحظتان في مسيرة التكيف هذه للعقيدة الدينية خلال قرنين: لحظة 1900، إذا اختصرنا قصة طويلة، واللحظة الحاضرة.
وأثناء السنوات الخصبة التي تمتد من 1880 إلى 1914، نشهد بالتالي تطورين هامين: اكتمال تحول الفكر الديني إلى أيديولوچية، ومن جهة أخرى اندماج جماهير المؤمنين في اللعبة السياسية للديمقراطية الليبرالية الآخذة في التشكل. وتصير الثورة المضادة ثورية إذ تصير وطنية. وتعطي تفسيرا عقلانيا وطبيعيا خالصا لشكل المجتمع الديني- الملكي، والهرمي، والعضوي، والجماعي- الذي تعتزم إعادة تأسيسه. وتفكر في الشكل الديني بلا دين. وهذا هو الرمز على أن الفكر الذي يريد أن يكون تقليديا قد لحق تماما، في الواقع الفعلي، بالمقدمات الفكرية للمجتمع التاريخي والليبرالي الذي يهدف إلى محاربته. ويدخل هذا مع الوقت أو أيضا بالإيمان في السياسة الديمقراطية، في صورة الأحزاب المسيحية التي تجعل من المؤمنين قوة داخل التعددية الجماعية، غير أن هذا إنما يكون بصفتهم ناخبين يبدون آراءهم بصورة فردية. ولا تعود الكنائس تمثل سوى عناصر مجتمع مدني حر في تنظيم نفسه على أساس الانتماءات الطوعية لأفراده.
ومنذ قرابة ثلاثين سنة، نشهد تطورا تكميليا واسع النطاق. أولا فقدت فكرة المجتمع الديني كل معنى تقريبا. وصار مظهر الخضوع للحكم الديني) بالنسبة لنا غير قابل للتفكير تقريبا وصار نداءه غير مسموع. ثم إن المؤمنين دخلوا في هذه المرحلة في فضاء التعددية والاستقلال الذاتي الديمقراطي، وصارت العقيدة في هذه المرحلة إيمانا فرديا تغير معناه. وتفككت الصلة بين العقيدة الدينية والنظام الاجتماعي. فالدين لا كلمة له، من حيث هو دين، في التنظيم الاجتماعي والسياسي. إن موضوعه له طابع مختلف. والآن دعونا نقدِّر محتوى هذا الحدث: إننا لسنا بسبيل أن نشهد نهاية العقيدة الدينية، بل نحن بسبيل أن نشهد نهاية الدين من حيث وظيفته السحيقة القدم في تحديد المجتمعات البشرية. وبهذا تدخل العقيدة الدينية في عصر جديد، قياسا إلى ما كان يمثل طبيعتها ووظيفتها منذ القدم.
 
تطور الأيديولوچية
 
ومثلما أن الدين لا يختفي فجأة فإن الأيديولوچية لا تولد مدججة بالسلاح. إنها تتشكل وتصاغ شيئا فشيئا في مختلف تنويعاتها. وهي تنتشر مع انتشار مجتمع التاريخ، والتغير، والإنتاج الذاتي، التي تستجيب لمقتضياته المعرفية؛ مجتمع تغلغل فيه الدين بصورة متزايدة دوما خلال زمن طويل، مشبع بعمق بالدين على مستوى أعمق من العقيدة المقررة. كما أن الأيديولوچية سوف يتم الإحساس بعمق بتأثيرها البالغ خلال زمن طويل. والحقيقة أن تاريخ العقيدة السياسية خلال قرنين سوف يكون تاريخ تحررها المعقد قياسا إلى هذا التراث الديني الذي يثقل عليها بوطأته ويتواصل بإلحاح فيها.
والحقيقة أن هذا التراث، بجانبه الأكبر، ليس له مظهر محتوى صريح، بل له مظهر شكل ضمني، مما يجعل من الصعب فهمه. وبعيدا عن الشكل الديني الصريح كما قمنا بتعريفه وكما رأيناه يقوم بوظيفته كمثل أعلى في الفكر المعادي للثورة- النظام الملكي، النظام الهرمي، جامعة الدين-، هناك في الحقيقة شكل ضمني أكثر عمقا، ليست هذه الهياكل الملكية أو الهرمية سوى وسائل له. ويمكن أن نسميه شكل اﻟ "واحد" l”un”- "واحد" السماء والأرض، "واحد" المرئي واللامرئي، بفضل السلطة الوسيطة على وجه التحديد، واحد الهيكل الجماعي والسلطة، واحد البشر فيما بينهم داخل الهيكل الجماعي. ومن المدهش أن هذا الشكل الضمني سوف يتكشف أنه قادر على البقاء بعد تدمير وسائله الصريحة ودحضها الصريح. وسوف يستحوذ هذا الشكل الضمني على العقول الأكثر معاداة للنظام الملكي، الأكثر مساواتية، الأكثر فردية، الأكثر معاداة للدين، طوال القرن التاسع عشر وما بعده. وسوف يقدم القالب الإجباري الذي سوف تنسبك فيه فكرةُ نقيضِهِ: فكرة تاريخ يصنعه البشر وموجه نحو المستقبل. وسوف يضطلع المستقبل بتحقيق وعد استعادة أو إقامة الوحدة الجماعية. وسوف تصير الأيديولوچيات بجانب ملحوظ منها خطابات حول شروط ووسائل هذه الوحدة المستقبلية.
كما أن هذا التوق الديني بصورة ضمنية إلى الوحدة الجماعية سوف يزداد اتساعا خلال القرن التاسع عشر لاسيما وأنه سوف يتكشف أن مجتمع التاريخ يغدو بصورة متزايدة، في الممارسة، مجتمعا يعمل على الفصل، على التمييز، على التقسيم. إنه يفصل المجتمع المدني عن الدولة، يفرق الأفراد، يقسِّم العمل، يواجه المصالح ببعضها، يضع الطبقات في مجابهة. وإزاء هذا فإن الأمل المعقود على مستقبل من المصالحة لا يمكن إلا أن يتعزز.
ومن جهة أخرى فإن انتشار مجتمع التغيير إنما تكون نتيجته، إنْ هو حطم الوحدة الجماعية، أن يفضي إلى تعميق الأيديولوچية في جانبها المحايث. وهو يؤكد فكرة أن مجتمع البشر يصنع نفسه بإصرار وينمو بكل جوانبه- ولا شيء بيننا لا ينشأ من إنتاج التاريخ. وهو عندما يقوم بهذا إنما يمنح المنظور لفعل يحقق عن طريقه نموه مسيطرا على نفسه بوعي  بكليته. فعل قطيعة ثورية يكون علامة على "نهاية التاريخ" وفي الوقت نفسه صعودا ﻠ"الوحدة الجماعية".
وهكذا فإنه في نفس هذه الفترة 1880- 1914 التي رأينا أهميتها لتاريخ العقيدة الدينية، يلتقي التعميق العلماني للأيديولوچية ، في لحظة من مساره، بالتراث الديني ﻟﻟ واحد ليعطي لهذه العقيدة السياسية الغريبة ما يمكن أن نسميه بحق "الدين العلماني". وهو علماني لأنه لا يؤمن إلا بعمل البشر وبقدرة مجتمعهم على صنع نفسه. إلا أنه دين مع ذلك، بحكم الطبيعة والشكل المعزوّين إلى هذه السلطة- المأمولة- للذات على نفسها. وضد الدين بصورة صريحة، حيث أن المطلوب إنما هو تحقيق الاستقلال الذاتي؛ ولكن وفقا لدروب ووسائل الدين، بصورة ضمنية، حيث أن تراث الخضوع للدين هو الذي يرشد المشروع في العمق. ونعلم ما الذي سوف ينتج عن هذا الاقتران الذي من شأنه التشويه والمسخ.
غير أن التاريخ لا يتوقف أبدا. ولن تكون الأديان العلمانية سوى لحظة في مسار الأيديولوچيات. وقد رأيناها تموت خلال هذه الأعوام الثلاثين الأخيرة، بالتوازي مع التحولات التي تحققت لإدخال العقيدة الدينية في عالم الاستقلال الذاتي الديمقراطي. ولا ينبغي أن نستنتج من هذا بصورة مندفعة "نهاية الأيديولوچية"، بل تحولها. وهذا الانعطاف لا ينطوي على سر. ولا ينبغي أن نتجه إلى البحث عن مصدره في مكان آخر سوى في تعميق جديد للوعي بالتاريخ وبآلية التغيير والإنتاج الذاتي لمجتمعاتنا. والحقيقة أن عمل التاريخ نفسه هو الذي جعل الدين الضمني للتاريخ ممكنا، في لحظة بعينها. وهو أيضا الذي دمره. كما أنه جعل مجاز نهاية التاريخ مستحيلا وغير معقول وقام في الوقت نفسه بتذويب أوهام وساوسه القهرية واﻟ واحد الجماعي.
وعلى هذا النحو نجد أنفسنا في لحظة رائعة من تاريخ العقيدة الدينية والعقيدة السياسية. إن العقيدة الدينية في طريقها إلى أن تكف عن أن تكون سياسية، مما يفتح أمامها مستقبلا آخر، والعقيدة السياسية في طريقها إلى أن تكف عن أن تكون دينية، وهذا ما يدخلنا في عصر جديد للسياسة، وبصورة أوسع للفعل التاريخي.     
 
 
2
تأملات حول اللاسياسة[iii]
 
روبرتو إيسپوزيتو Roberto ESPOSITO
                                    
 
ما هي اللاسياسة l’impolitique؟ وكيف نشأت هذه اللفظة التي أضعها في مركز تفكيرى منذ عدة سنوات؟ وإلى أين تقودنا؟ قبل أن أحاول الإجابة على هذه الأسئلة، أو ربما كان الأفضل أن أقول: قبل أن أصوغها بطريقة مختلفة- إذ أنه في الفلسفة لا توجد إجابة لا تكون بدورها سؤالا جديدا-، أود أن أنطلق من ملاحظة أعم. وليكن من الصعوبة المتزايدة في أن تعطي اللغة معنى للسياسة la politique، من جدار عدم الفهم الذي انتصب بين السياسة واللغة. إذ يبدو وكأن السياسة  أفلتت من اللغة أو كأن اللغة لم تعد تملك كلمات تسمي بها السياسة. وحتى في الثلاثينات، كتبت الفيلسوفة الفرنسية الكبيرة، سيمون ڤيل Simone Weil: "يمكن أن نأخذ تقريبا كل ألفاظ، وعبارات، قاموسنا السياسي، وأن نفتحها؛ وسوف نجد في قلبها الخواء". فلماذا- ومنذ ذلك الزمن- هذا الإحساس بالخواء؟ هذا الإفراغ الحقيقي للقاموس السياسي؟ انعقاد اللسان المتفاقم هذا الذي لا يُقهر على ما يبدو والذي يمسك بنا ويفقدنا الاتجاه بصورة متزايدة؟ وبطبيعة الحال، يمكن أن نستدعي التحولات المفاجئة التي قلبت أوضاع المشهد الدولي في هذه السنوات العشر الماضية، مما جعل المقولات السياسية السابقة غير صالحة للاستعمال.
غير أنني أعتقد أنه يوجد شيء ما، بالإضافة إلى هذا، وراء، وفي تضاعيف، هذه الأزمة التي تمر بها اللغة السياسية. إننا إزاء ديناميكا أقدم عهدا ترتبط، في التحليل الأخير، بكل الفلسفة السياسية الحديثة- بما يمكن أن نسميه طابعها الميتافيزيقي بصورة تكوينية. فماذا أقصد بهذا التعبير؟ ودون أن يكون بوسعي أن أقوم هنا بتعميق الخطاب جدا فإنني عندما أتكلم عن الطابع الميتافيزيقي للفلسفة السياسية إنما أشير إلى ميلها إلى مطابقة معنى الكلمات الكبرى للتراث مع دلالتها الظاهرة. إنه يبدو وكأن الفلسفة السياسية قد حصرت نفسها في تناول جَبْهيّ، مباشر، لمقولات السياسة. وكأنها كانت عاجزة عن مساءلتها بطريقة ملتوية، غير مباشرة، عن الإمساك بها من الخلف، عن الوصول إلى أعمق أعماقها- إلى نطاق غير المدرَك فيها. ويشتمل كل مفهوم سياسي على جانب موضَّح، ظاهر بصورة مباشرة، غير أنه يشتمل أيضا على منطقة إبهام، على ركن مظلم لا يتدفق منه هذا الضوء إلا بالتضاد. غير أنه يمكن القول إن التفكير السياسي المعاصر، مبهورا بهذا الضوء، تفوته منطقة الظل التي تحيط بالمفاهيم السياسية أو تعترضها، مكوِّنة بدقة أفق معناها، الذي لا يتطابق بالتالي مطلقا مع دلالتها الظاهرة. ويرجع هذا إلى أنه في حين أن الدلالة الظاهرة للمفاهيم السياسية هي دائما مشتركة وأحادية الخط ومحسومة في حد ذاتها، فإن معناها أكثر تعقيدا بكثير، ومتناقض في كثير من الأحيان، قادرا على احتضان عناصر متعارضة، يتناقض بعضها مع بعضها الآخر. وإذا فكرنا في هذا لحظة فإن الكلمات الكبرى لتراثنا السياسي- الديمقراطية، السلطة، السيادة- تنطوي في جوهرها، أو في أصلها، على هذا العنصر المتناقض، المعضِل، وتعاني كلها من هذا الصراع الداخلي فيما يتعلق بالتعريف الأخير لمعناها.
 
 
                                   ماهي اللاسياسة؟
 
هذا على وجه الدقة هو ما يحاول منظور اللاسياسة اكتسابه. بأيّ طريقة ولأيّ غاية؟ وإذا كان من الصعب- وحتى من المستحيل- تعريف اللاسياسة بالإيجاب، وإعطاءها تعريفا بالإثبات ينتهي بالضرورة إلى قلبها إلى عكسها، إلى مقولة من مقولات ما هو سياسي du politique، فإن ما يمكن قوله عنها في الحال إنما يتمثل فيما هو ليس سياسة. فاللاسياسة ليست أيديولوچية للسياسة، لأنها تفكك كل تعارضاتها التقليدية ذات الطابع المكاني والزماني- التي تبدأ بالتعارضات بين اليمين واليسار، المحافظة والتقدم، الرجعية والثورة. غير أن اللاسياسة ليست أيضا علما للسياسة يرغب في أن يكون محايدا، بقدر ما لا ترى في هذه الحيادية المزعومة سوى أيديولوچية أخرى وهمية تماما مثل الأيديولوچيات الأخرى. وأخيرا فإن اللاسياسة ليست فلسفة للسياسة، لأنها تنكر كل علاقة وظيفية، أداتية، بين الفلسفة والسياسة، سواء أكانت هذه العلاقة مفهومة على أنها تقييد الفلسفة بسياسة بعينها أو على أنها توجيه السياسة بفلسفة بعينها: إنها، أكثر من هذا، تتعرف في هذه الدائرة الأيديولوچية القصيرة المزدوجة على ذات منشأ الكوارث الكبرى لهذا القرن. والحقيقة أن وضع الأمل في انقلاب نوعي  palingénésie كلي للجنس البشري في صميم السياسة- ومن ثم النظر إلى هذا الانقلاب النوعي الكلي على أنه مشروع للخلاص الجماعي- كان خطأ مأساويا، خطأ طبع بطابعه كل التاريخ المعاصر وانتهى، بصورة خاصة في منتصف القرن العشرين، إلى كارثة مروعة. غير أنه إذا كانت اللاسياسة تتفادى أن تعهد إلى السياسة بمهمة خلاص ليس بوسعها أن تؤديها دون أن تفجر شكلا من العنف الرهيب، فإن اللاسياسة لا تختار أيضا الطريق المقابل- المخرج السهل لمناهضة السياسة l’antipolitique، لرفض السياسة باسم القيم التي تدمرها السياسة. ومن وجهة النظر هذه فإن المنظور اللاسياسي الذي أنطلق منه يقدم اختلافا واضحا جليا عن الاستعمال الذي نجده لهذه اللفظة في ملاحظات كاتب غير سياسي Betrachtungen eines Unpolitischen  هذا العمل الشهير لتوماس مان Thomas Mann- الذي قابل السياسة، على وجه التحديد، بقيم الثقافة الأوروبية العظمى التي تفسدها السياسة. وعلى العكس فإن اللاسياسة التي أتحدث عنها بعيدة تماما عن كل الخطابات غير السياسية apolitiques، أو المناهضة للسياسة antipolitiques، السائدة في الوقت الحالي في أوروبا والولايات المتحدة. وهذا أيضا لأننا عندما نقابل شيئا بآخر- حتى عندما يكون هذا حقا موقفا مناهضا للسياسة-، إنما ننتهي بصورة لا يمكن تفاديها إلى السقوط من جديد في اللغة المتعارضة للّوجوس [العقل] Logos السياسي- كما يسلِّم بهذا، من جهة أخرى ، توماس مان نفسه، عندما يكتب: "غير أن مناهضة السياسة تنتمي أيضا إلى السياسة، لأن السياسة قوة مرعبة. ويكفي إدراك وجودها لكي يتم اكتسابها بالفعل. لقد فقدنا براءتنا إلى الأبد [iv]". وهذا الوعي، الواقعي والنقدي في آن معا، هو الذي يحدد موقع اللاسياسي. فهو يعرف، على كل حال، أنه لا يخرج عن السياسة. وأنه لا وجود لواقع خارجي على صراع السلطة والمصلحة الذي يحكم عالم السياسة. غير أنه، في الوقت نفسه، لا يبررها، ولا يعزو إليها أيّ قيمة مطلقة، أيّ وظيفة لاهوتية، أيّ أفق خلاص. أكثر من هذا: إنه يفكك لغته ذاتها، بمعنى أنه لا يتعرف على نفسه في أيّ تعارضات زائفة أقامها التراث الفلسفي- السياسي الحديث لإخفاء خوائه الفكري. وهذا التراجع بهدف الانطلاق من منظور موضوعي، هذا التباعد للمعاني الكلية إزاء كل الأيديولوجيات السياسية- ولكن أيضا إزاء العلم السياسي الراهن- هو الذي يعطي وجهة نظر اللاسياسة القدرة على أفضل الإدراك لتناقضات المفاهيم الكبرى و، بالتالي، تناقضات الواقع السياسي ذاته. وبالرجوع إلى الأصل- الاشتقاقي والتاريخي والفلسفي في آن معا- لمعنى الكلمات الحاسمة في السياسة، تحرر النظرة اللاسياسية البُعْد الخفيّ لهذه الكلمات، وتسمح على هذا النحو بتفسير مختلف لعالمنا.
 
مثالان توضيحيان: "الجماعة" و"الحرية"
 
أود أن أوضح ما سبق قوله بمثالين يتناولان لفظتين ربما نلتقي بهما بصورة مستمرة في قلب الجدال الفلسفي والسياسي العالمي: أعني مثاليْ "الجماعة" و"الحرية". وأختار هاتين اللفظتين لأن لديّ انطباعا بأنهما كليهما خاضعان لتشويش- وحتى لقلب حقيقي- في التفسير لا يتعلق فقط بالنظرية، بل يتعلق أيضا، كما يحدث دائما في هذه الحالة، بالواقع السياسي الفعلي.
 
مفارقة الجماعة
 
لنبدأ أولا بفكرة- وممارسة- "الجماعة". وكما حاولت أن أثبت في كتاب مترجم الآن إلى الفرنسية، يقع مفهوم الجماعة فريسة مفارقة فريدة تتعلق بكل صياغاته الفلسفية تقريبا، من علم الاجتماع الألماني لنهاية القرن التاسع عشر إلى النزعة الجماعاتية الجديدة néo-communautarisme [مناهضة الليبرالية] الأمريكية وإلى كل أخلاق الاتصال العديدة. فما المسألة؟ ما هي هذه المفارقة التي تمحو المعنى الأصلي للمفهوم فتقلبه إلى عكسه؟ وأنا أتحدث عن الميل إلى تحريف فكرة "الجماعة" communauté و"المشترك" commun إلى لفظتيْ "خاصية" propriété و"خاص" propre. ومن وجهة النظر هذه- السائدة، أكرر، ليس فقط في مختلف النظريات، بل أيضا في الممارسات الجماعاتية الفعلية-، يجري فهم الجماعة على أنها خاصية يتقاسمها أفراد محدَّدون. وسواء أكانت هذه الخاصية مرتبطة بأرض أو ديانة أو إثنية، فإن الافتراض الذي يتم الانطلاق منه لا يتغير: يجري النظر على أنه مشترك إلى ما يخص مجموعة بعينها من الأشخاص وليس مجموعة أخرى. ويجري تفسير الجماعة – وممارستها- باعتبارها انتماءً، هوية، خاصية جماعية. غير أنه يكفي فتح أيّ معجم لإثبات أن مثل هذا الافتراض يقتضي قلب النسق المنطقي الذي لا يؤخذ في الاعتبار في كثير من الأحيان. ووفقا لمعاجم كل اللغات الحديثة، تعني لفظة commun (مشترك) على وجه الدقة عكس لفظة propre (خاص): المشترك هو ما ليس خاصا بشخص لأنه للكل أو على الأقل للعدد الأكبر من الأشخاص. وليس المشترك ما هو خاص privée أو شخصي particulier، بل ما هو عام public وشامل général، وحتى عالمي universel كنزوع- وبالتالي، ما لا علاقة له بالهوية، بل على العكس بالآخرية.
وإذا رجعنا في الحال إلى الأصل الاشتقاقي لكلمة communauté- أيْ إلى اللفظة اللاتينية communitas-، فإن الأمور تغدو أكثر وضوحا: لفظة communitas مشتقة بدورها من لفظة munus، التي تعني في اللاتينية في آن معا "هِبَة"، "التزاما"، "واجبا" ينبغي تقديمه لصالح آخر. ويعني هذا أن ما هو ماثل في أصل فكرة الجماعة communauté، ليس أبدا خاصية أو انتماءً مشتركا، بل هو، على العكس، شيء يُلزمنا إزاء الآخرين. إنه ليس، إذن، امتلاكا بل هو بالأحرى نزع ملكية. ليس ملكية، بل هو دَيْن. ليس هوية، بل هو تبدُّل. شيء يدفعنا ليس إلى حبس أنفسنا داخل أنفسنا، بل إلى التجاوز والخروج من مصلحتنا الخاصة، إلى فتح الحدود التي تقيد تجربتنا الشخصية أو الجماعية، إلى إصابتنا دون توقف بعدوى الاتصال بمن هو مختلف عنا. وباختصار فإن ما تكشفه لنا النظرة اللاسياسية- انطلاقا من قدرتها، بحق، على المضي إلى ما وراء الأصول المشتركة، التقاليد الراسخة، الدلالات المكتسبة-، إنما يتمثل في أن الجماعة لا يجب التفكير فيها على أنها جسد ضخم ينصهر فيه الأفراد في فرد واحد أضخم أو أقوى. على أن هذا هو ما فعلته وما تزال تفعله النزعات الجماعاتية، قديمة أو جديدة: وهذا حتى عندما تعتقد أنها تعارض الفردية، دون أن تتبين أنها تستخدم مقولة "الفرد" ذاتها- أيْ الذات "غير القابلة للتقسيم" indivis- مطبقة هذه المرة ليس بعد على الكائن المفرد، بل على المجموعة الاجتماعية، أو الإثنية، أو اللغوية، أو الدينية. غير أن الجماعة لا يجب بعد الآن فهمها- إذا أردنا أن نبقى متسقين مع معناها اللاسياسي الأصلي- على أنها اعتراف متبادل بين ذوات متماثلة يتطلع بعضها إلى بعضها الآخر بحثا عن هوية مشتركة أو انتماء مشترك. فأن نكون في المجتمع يجب أن يعني أن تكون لنا بصورة متواصلة علاقة ليس بمن يشبهنا أو ينتمي إلينا، بل بمن هو مختلف عنا. ليس بمن يمكن أن نتعرف عليه في الحال لأنه مألوف لنا بطريقة ما، بل بمن هو في الأصل خارجي عنا وغريب علينا. وبإيجاز فالجماعة إنما تكون جماعة حقا، من وجهة نظر لاسياسية، فقط إذا كانت جماعة من غير المتشابهين، إذا انطوت على إمكانية- وأيضا، بطبيعة الحال، مخاطرة- الاختلاف، التغير، الاتصال مع مَنْ ليس منا، مع مَنْ لا يشبهنا، مع مَنْ ليس بعد في عدادنا.
والواقع أنه على وجه التحديد ضد هذا الخطر الماثل في الاتصال- وبالتالي العدوى- بالمختلف، ضد هذا الخطر الماثل في تبدل وتحول هويتنا، استخدمت الفلسفة الحديثة- ولكن أيضا التاريخ الحديث، كما يجب أن نؤكد- آلية مناعية كبرى للدفاع. وإذا تذكرنا- كما يبين لنا علم الاشتقاق أيضا في هذه الحالة- أن المناعة هي، من وجهة نظر منطقية، نقيض الجماعة، وأنها هي التي تعفينا من "واجبنا" munus المشترك، من التزامنا المتبادل إزاء الآخر، فإننا عندئذ نقرر إلى أيّ مدى صيغت كل تجربتنا في سياق المعارضة الصريحة للسيمانطيقا الجماعية. ويشير الكاتب الألماني، إلياس كانيتي Elias Canetti، إلى كم أننا، جميعا، يفزعنا اتصال غير متوقع مع الآخرين: يكفي أن نفكر في الذعر الذي يصيبنا عندما يمسنا، عن طريق الخطأ، مسا خفيفا شخص لا نعرفه. وهذا يحدث لأننا في هذه اللحظة نحس بأنه تم بصورة خطيرة تجاوز الحدود التي تحمينا، التي تصون هويتنا الشخصية و، بالتالي، تُقَوِّي مناعتنا إزاء الآخرين. ولكي نكوِّن لأنفسنا فكرة الصعود التدريجي لهذا المقتضى للحماية، يكفي أن نفكر في الدور الذي أخذه على عاتقه علم المناعة- أيْ العلم المنوط به اكتشاف أو بناء جهاز مناعي- ليس فقط من وجهة النظر الطبية، بل أيضا من وجهة النظر الاجتماعية، القانونية، الأخلاقية. وباختصار، صار علم المناعة الجبهة، الرمزية والفعلية، التي تنتظم حولها كل المعركة الحديثة في سبيل صون الحياة وإطالتها. وإذا انتقلنا من ميدان الأمراض المعدية إلى ميدان الهجرة- الميدان المرتبط في المقام الأول بمجموع من العلاقات الصريحة والضمنية-، عندئذ تظهر، في الحال، النقطة الحاسمة: واقع أن تدفق الهجرة- منذ الحد من خطر القنبلة الذرية- الذي يُنظر إليه بصورة إجماعية على أنه يمثل الخطر الأكبر بالنسبة لمجتمعاتنا يؤكد كم أننا نأينا بأنفسنا عن الفكرة الأصلية للجماعة. وإذا كانت الجماعة تعني، بمعناها اللاسياسي، القطيعة مع الحواجز الحامية للهوية، فإن تقوية المناعة التي نخضع لها دوما إنما تمثل محاولة لإعادة بناء هذه الحواجز في شكل دفاعي وهجومي ضد كل عنصر خارجي من شأنه تعريضها للخطر.
 
تضييق مفهوم الحرية
الأطروحة التي أسعى إلى تطويرها منذ بعض الوقت هي أن عملية تقوية المناعة تغزو بالتدريج كل القطاعات، كل الأنساق، كل لغات المجتمع الحديث، بل حتى أنها تنتهي بأن تخضع لمنطقها حتى المقولات الكبرى للسياسة. وقد رأينا كيف يحدث هذا بالنسبة لفكرة الجماعة. ويحدث شيء مماثل لفكرة الحرية. بأيّ معنى؟ بأيّ معنى تخضع فكرة الحرية- وممارستها الحديثة- لنفس عملية التضييق، لنفس الإغلاق الذي أصاب من قبل مقولة الجماعة؟ للإجابة على هذا السؤال، ما يزال ينبغي أن نعود مرة أخرى إلى معنى أصلي ضمني للفظة liberté (الحرية). وينجم عن هذا أنه يوجد في أصل فكرة الحرية شيء ما يربطها على وجه التحديد بسيمانطيقا communauté (الجماعة). والحقيقة، كما أثبت العالم اللغوي الكبير إميل بينڤينيست Émile Benveniste، أن الجذر الهندوأوروبي leuth، أو leudh، الذي اشتقت منه اللفظة اليونانية eletheuria واللفظة اللاتينية libertas، تماما مثل الجذر السنسكريتي frya، الذي تأتي منه الكلمة الإنجليزية freedom والكلمة الألمانية Freiheit [حرية]، يحيلان كلاهما إلى شيء له علاقة بالنمو المشترك، بالتطور الجمعي. وهذا ما تدعمه فضلا عن هذا السلسلة السيمانطيقية المزدوجة المشتقة من هذه الجذور- مثلا “amour” من جهة(lieben, lief, love [حب] ولكن ربما أيضا libet وlibido [ليبيدو] ومن الجلي أنهما مرتبطتان ﺒ liber) و”amitié” [محبة، صداقة حميمة] من جهة أخرى (friend و Freund [صديق] ومن الجلي أنهما مرتبطتان ﺒ frei). وتشهد هاتان السلسلتان من الكلمات كلتاهما، دون أدنى شك، على المفهوم الجماعاتي أصلا للحرية. وقد أحالت الحرية، بمعناها الاشتقاقي، إلى قوة ربط، إلى اندماج، إلى تجميع: إلى جذر مشترك يتطور وينمو وفقا لقانونه الداخلي. وكانت مفهومة إذن على أنها شيء يضع في صلة، في علاقة: النقيض على وجه الدقة للاستقلال الذاتي الفردي والاكتفاء الذاتي اللذين نقوم باستيعابها فيهما. وباختصار فإن المعنى الأصلي للحرية ليس سلبيا على الإطلاق- ليس له علاقة بغياب بسيط للعقبة في طريق حرية الفرد. إنه، على العكس، معنى إيجابي بقوة، يحيل إلى توسع، إلى إزهار، إلى نمو مشترك وجامع.
وعلى كل حال فإن هذا الانفتاح الأصلي لفكرة الحرية- الذي يمكن أن تفهمه اليوم نظرة لاسياسية فقط- ينتهي بسرعة إلى الاضمحلال لصالح دلالة تزداد تضييقا دوما. وتمثل اﻟ libertas الرومانية بالفعل أول تقييد حقوقي سياسي لها: المواطن الروماني وحده حر بالمعنى الكامل للكلمة. غير أن التحول الحقيقي الذي يحدثه المفهوم في اتجاه تقوية المناعة يعود إلى العصر الوسيط، عندما اكتسبت الحرية، أو بالأحرى الحريات، معنى حق خاص، أو امتياز، أو بالضبط مناعة، يعفي الذوات الجمعية المحددة (الطوائف، المدن، الأديرة) من التزام مشترك إزاء كل الآخرين. وعندما سوف تبذل الفلسفة الحديثة قصارى جهدها بعد ذلك- انطلاقا من هوبز ونموذج الحق الطبيعي- لتوسيع فكرة الحرية لتمتد إلى جميع الأفراد، فإنها لن تكون قادرة على أن تفعل هذا إلا انطلاقا من هذا الأفق التخصيصي. وسوف تصير الحرية استقلال الفرد المفرد إزاء جميع الآخرين، وهذا هو ما ينقذه من اتصال خطر مع ما هو مشترك، مع جماعة البشر بأكملها. وانطلاقا من هذا- وفقا لكل البدائل الممكنة، من نمط ملكي،أو جمهوري، أو ليبرالي-، سوف تكون الحرية مفهومة دائما على أنها حق، أو منفعة، أو ميزة للفرد الذي يمتلكها: إما بفضل حماية القانون السيادي (هوبز)، وإما، على العكس، بحمايتها له من هذا القانون السيادي (لوك). ويبقى التيار الملكي (انطلاقا من مونتسكيو) والتيار الليبرالي (انطلاقا من بنچامان كونستان) كلاهما في قلب هذا السياق من تقوية مناعة الحرية. والحقيقة أن مطابقتها الأخيرة مع المِلْكية – ليس فقط من وجهة النظر الليبرالية، بل أيضا من وجهة النظر الاشتراكية "للملاك الأحرار"- سوف تشكل ببساطة المرحلة الأخيرة لتعارضها الحاسم مع عالم الجماعة: ابتداءً من هذه اللحظة، وإلى اليوم أيضا، يُعتبر حرا مَنْ يكون مالكا لما يحق له. ولن تبدو الحرية إلا كنتيجة، أو محصلة، للملكية- نقيض الجماعة: ويغدو حرا مَنْ يملك نفسه إلى حد أنه لا يكون عليه أن يعتمد في شيء على الآخرين. وحتى الصراع الظاهر بين الليبراليين liberals والجماعاتيين communitarians [مناهضي الليبرالية] الذي يسيطر على الجدال الأمريكي الراهن إنما يعبر عن نفسه في الواقع هو أيضا ضمن نفس التصور المحصَّن بالمناعة والتخصيصي، إذ يطبقه بعضهم على الأفراد وبعضهم الآخر على جماعات الانتماء الصغيرة. وبعد أن تم اجتثاثها من القوة الإيجابية لجذرها المشترك القديم، تبدو الحرية من الآن وكأنه محكوم عليها بأن لا يكون بالمستطاع ذكرها إلا بالنفي: باعتبارها غيابا للسيطرة، غيابا للإكراه، غيابا للجماعة. وبتقديمها انطلاقا مما يشكل عقبة في طريقها، تغدو الحرية مهددة بأن تبقى بلا صوت، بلا كلمات.
وإنما في هذا الصمت ومن هذا الصمت تتكلم اللاسياسة. وأيضا في حالة الحرية، كما في حالة الجماعة من قبل، لا يقصد منظور اللاسياسة اقتراح تعريف جديد. إنه ينطلق من التفكيك النقدي للتعريفات الموجودة في الوقت الحالي وفقا للمعنى الأصلي للكلمة. وكما سبق أن رأينا فإن اللاسياسة، أكثر من أن تكون نظرية جديدة في السياسة، تمثل نظرية مضادة- وكذلك تاريخا مضادا- للحداثة: ليس بمعنى دعوة مستحيلة إلى العودة إلى ما سبق الحداثة، بل بمعنى مساءلة جذرية لتطورها ولمآلها. وفي عهد صمت السياسة- أو تجريد اللغة من الطابع السياسي- يسعى منظور اللاسياسة إلى إعادة إعطاء الكلمة للمفاهيم السياسية الكبرى ومجابهتها مع أصلها ومصيرها. غير أن بوسعنا حقا أن نقول: مع أصلنا ومصيرنا.
ترجمتها عن الإيطالية إلى الفرنسية نادين لو ليرزان Nadine Le Lirzin
 
المراجع:
 
 
 
- Esposito (R.), Catégorie dell’impolitico (1988), Bologna, Il mulino, nuova éd., 1999.
- Esposito (R.), Nove pensieri sulla politica, Bologna, Il mulino, 1993.
- Esposito (R.), Communitas, origine et destin de la communauté, Paris, PUF, Les essais du collège international de philosophie, 2000.
 
 
 
 
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
3
   هل نحن مسئولون عن معتقداتنا؟[v]
ﭙﺎسكال آنچيل Pascal ENGEL
 
نعلم أن المفهوم التقليدي "للمعتقد" croyance ملتبس بصورة مفزعة. و تشير هذه اللفظة تارة إلى المحتوى المعتقد فيه (اعتقاد "أن بابا نويل موجود")، و تشير تارة أخرى إلى موقف مَنْ يعتقد أو الحالة السيكولوچية التي يكون عليها. وتارة يدل هذا الموقف على أن الذات ليست على يقين من حقيقة المعتقد (وفي هذه الحالة يقابل المعتقد المعرفة)، وتارة أخرى تدل عبارة "أعتقد أن" على إثبات شكل من الاقتناع أو اليقين. وعلى الطرف الآخر فإننا لا نتردد في أن نعزو المعتقدات على أساس السلوك وحده (على سبيل المثال إلى حيوانات) أو للإشارة إلى أحوال لا تعيها ذات بالضرورة. وتنشأ هذه الالتباسات، إلى حد كبير، من واقع أننا لا نعرف جيدا ما إذا كانت المعتقدات أحوالا سلبية أو إيجابية للعقل. والحقيقة أننا، من جهة، يستهوينا أن نقول إن لها بالأحرى أسبابا causes وليس مبررات raisons، وأنها بحاجة إلى التفسير أكثر منها إلى التبرير. وبهذا المعنى فإنه يبدو أن الاعتقاد ليس قابلا لأن يكون فعلا (حدثا) action، بأكثر من أن يحمرّ وجه المرء خجلا، أو أن يعطس، أو يتعب، ولا مجال لأن يُلامَ، أو يُسامَحَ، أو يُثْنَى عليه من أجل ذلك. ومن جهة أخرى فإننا نتوقع بطبيعة الحال ممن يقول لنا "أعتقد أن..." أن يقدم لنا مبررات لاعتقاده، يمكن أن تكون قوية أو ضعيفة إلى هذا الحد أو ذاك. وبهذا المعنى، هناك أشياء كان لا مناص من أن نعتقدها، وإذا كنا لا نلوم طفلا على اعتقاده في وجود بابا نويل فإننا يمكن أن نعاتب الكبير على أن لديه مثل هذه المعتقدات. ويبدو أن معجم لغتنا أيضا يصنف المعتقدات بين الأنشطة: نقول “donner son assentiment” (= يعطي موافقته)، أو “se faire une opinion” (=يُكوِّن رأيا)، أو “accepter” (= يوافق على) اقتراح، أو حتى “tenir quelque chose pour acquis” (= يسلِّم بصحة شيء) ، وتدل كل هذه التعبيرات حقا على مشاركة إيجابية للذات في تكوين معتقداتها، وهذا شيء يمكن اعتبار الذات  "مسئولة" عنه إلى حد كبير. ووفقا لتشديدنا على تصور إيجابي أو على تصور سلبي لتكوين المعتقدات، سنكون مدفوعين إلى اعتبار مَنْ يعتقدون فاعلين لاعقلانيين بالضرورة، أو فاعلين عقلانيين أو قابلين لأن يكونوا كذلك.
وتتجلى نتائج هذه المفاهيم المتعارضة في المجالات العديدة حيثما كانت المسألة تتعلق ﺒ"معتقدات" في العلوم الإنسانية. وعلى سبيل المثال، يعتبر كثير من علماء الاجتماع المعتقدات الجمعية خاضعة لمجموع كلي من المحدِّدات السببية: على سبيل المثال، أليست التحيزات العرقية أو الاجتماعية، والميثولوچيات، والأيديولوچيات، والشائعات، قبل كل شيء، تمثيلات جمعية تحث عليها تأثيرات المحاكاة وإعادة الإنتاج التي تفلت، إلى حد كبير، من سيطرة مَنْ ينقلونها ويقبلونها؟ ولكنْ هل كان لا مناص لمَنْ "لديه تحيزات عرقية"، على سبيل المثال، من أن يقبلها ويوافق عليها على نحو ما؟ وما دور قبوله الطوعي لهذه التحيزات قياسا إلى مجرد تلقيها السلبي؟ وفي عدد من الحالات، كيف يمكن أن تكون لديه مثل هذه المعتقدات "رغم واقع أنه يعتقد أنها هشة أو غير مبرَّرة"؟ وهناك مجال، تقليدي، لا تكف فيه هذه الأسئلة عن أن تطفو إلى السطح، هو مجال سيكولوچية المعتقد (الاعتقاد) الديني: هل  "المعتقِد= المؤمن"  le croyant شخص لديه معتقدات مدفوعا بمبررات قوية، أم هو شخص يعتقد "رغم" أن لديه مبررات مقنعة ، من نواحٍ أخرى، لأنْ لا يعتقد؟ وفي الفلسفة، تكون هذه الأسئلة ماثلة في صميم نظرية المعرفة، وبصورة خاصة عندما حددت لنفسها مهمة أن ترد على الشكية و، كما عند ديكارت، أن تضرب صفحا عن التحيزات والمعتقدات من أجل الوصول إلى اليقين. وقد ألقت نظرية المعرفة الحديثة، منذ ديكارت ولوك، على عاتقها غاية أن ترفض في آن معا كل المعتقدات التي لا تقوم، مثل تلك التي تأتي من الحواس أو الخيال، على مبررات مقنعة لا يمكن لذات متروية أن تكون في وضع يسمح لها بقبولها، وكل المعتقدات المرتكزة على سلطة، مثل سلطة التقاليد، لا تكون السلطة التي تقيمها هذه الذات نفسها وتكون مسئولة أمامها وحدها. ويُقال في بعض الأحيان إن هذا التصور للمعرفة ينطوي على نظرية ديونطولوﭽية déontologique [متعلقة بأخلاقيات الواجب] للتبرير تحدد الذات العارفة لنفسها وفقا لها واجباتها إزاء أحكامها وإن هذه النظرية تفضي إلى فكرة عن ذات حرة ومستقلة، قابلة للسيطرة على ما تعتقد أو ما لا تريد أن تعتقد. وكما لوحظ كثيرا فإن هذه الفكرة تضارع، خاصة عند لوك، كل التصور الحديث عن الذات الحرة عن آرائها، خاصة في الأمور الدينية، والسياسية، والقانونية. والحقيقة أن ديكارت كان يؤكد أن أحكامنا تقع دائما تحت تأثير الإرادة، التي تكون وحدها سبب الخطأ. بل ذهب ديكارت إلى حد القول إنه "يمكننا دائما أن نمتنع عن مواصلة خير معروف بكل وضوح أو عن قبول حقيقة بديهية، مادمنا نتصور أنه خير أن نؤكد بذلك حرية اختيارنا([vi])".
غير أن هذه الفكرة عن سيطرة غير محدودة لإرادتنا على معتقداتنا، وهو ما يبدو أنه يعني أن تلك المعتقدات خاضعة تماما لتلك الإرادة التي يمكن أن تمثلها أفعالنا الحرة، تبدو مدهشة. فكيف يمكن لنا أن نرفض أن نعتقد فيما يبدو لنا بديهيا، بل حتى أن نعتقد في البداهة؟ ألا تمثل هذه أفضل وصفة للوصول إلى اللاعقلانية؟ وقد علق ﭙﺎسكال على هذه النقطة بقوله:
"لا أحد يجهل أنه يوجد مدخلان يجري منهما استقبال آرائنا في النفس، وهما يتمثلان في مبدأيْه القويين، الإدراك والإرادة. والمدخل الأكثر طبيعية هو الإدراك، لأننا لا يجب أبدا أن نقبل إلا الحقائق التي جرى إثباتها؛ غير أن الأكثر شيوعا، وإنْ ضد الطبيعة، هو مدخل الإرادة. ذلك أن كل ما يخص البشر يستحوذ عليه الاعتقاد دائما تقريبا ليس بالدليل، بل بالقبول. وهذا المسلك حقير، ومعيب، وغريب؛ كما ينكره كل الناس. ويعتز كل إنسان بأنه لا يعتقد وحتى لا يحب إلا ما يعرف أنه جدير بذلك([vii])".
ويقوم ﭙﺎسكال أولا بإثبات حالة: إنها واقعة، تؤكدها التجربة دوما، نستطيع أن نعتقد فيها بواسطة الإرادة. وسنجد لها كثرة من التأكيدات، على سبيل المثال في علم النفس الاجتماعي:
"أظهرت دراسة على مليون من تلاميذ الصف النهائي في المدرسة الثانوية أن 70٪ من بينهم اعتقدوا أنهم فوق المتوسط فيما يتعلق بقدراتهم القيادية، وأن 2٪ فقط اعتقدوا أنهم تحت المتوسط. أما من حيث القدرات على التكيف الاجتماعي فقد اعتقد "كل" الطلبة أنهم تحت المتوسط. واعتقد60 ٪ أنهم ضمن مجموعة أفضل 10٪ واعتقد 25٪ أنهم ضمن أفضل 1٪. وأظهرت دراسة عن أساتذة الجامعة أن 94٪ من بينهم اعتقدوا أنهم أفضل في أعمالهم من متوسط زملائهم([viii])".
غير أن القول إن هناك "واقعة" تتمثل في كون معتقداتنا يمكن تكوينها نتيجة ﻟ"المسلك الحقير للقبول"  شيء، والقول إن هذه المعتقدات "يجب" تكوينها على هذا النحو شيء آخر. والواقع أن ﭙﺎسكال، تماما مثل ديكارت، لا يقول لنا شيئا من هذا القبيل. وهو يضيف أن كل الناس سيأخذون هذا في اعتبارهم بحيث لا يزعمون أنهم يعتقدون إلا لمبررات قوية. والمبررات القوية للاعتقاد هنا مبررات "معرفية" épistémiques، أيْ الأدلة، أوالمعطيات المتاحة للذوات، التي تخالف بوضوح تلك التي آثروا اعتقادها، إذ تخلط بين رغباتها وبين الحقائق، وهنا يكمن مثال نمطي للسلوك اللاعقلاني. ولكن ماذا يحدث إذا نحن فكرنا ليس في المبررات المعرفية لهذه الذوات بل في مبرراتها "العملية" لأن تكون لها معتقدات بعينها، خاصة منفعتها؟ وعلى كل حال فإنه قد يكون حسنا، وعقلانيا في ظروف بعينها، امتلاك الثقة بالنفس، رغم أو حتى ضد المعطيات التي في متناولنا. وكان هذا على وجه التحديد هو ما نصح به وليام چيمس William James عندما رفض، في مقال شهير، مبدأ "أخلاق المعتقد" للعالم الڤكتوري كليفورد Clifford، التي وفقا لها "يقع الناس، دائما وفي كل مكان، في خطأ الاعتقاد على أساس معطيات ناقصة([ix])". وقد عارضه  چيمس بأخلاق المعتقد الخاصة به، والتي يمكن أن ندعوها برجماتية، والتي يمكن، وفقا لها، على الأقل في بعض الحالات، أن تتغلب مبرراتنا العملية للاعتقاد على مبرراتنا المعرفية، عندما يكون المعتقد موجَّها بالمنفعة الحيوية، أو ﺒ"طبيعتنا العاطفية". ألم يقل ﭙﺎسكال نفسه، الذي يستشهد به چيمس بهذا الخصوص، شيئا مماثلا عندما أعلن أن "القلب له مبرراته التي لا يعرفها العقل"؟
ووفقا للتصور السائد عن المسئولية مطبقة على أفعالنا، يكون المرء مسئولا عن هذه الأفعال إذا كان حرا في القيام بها، وبالمقابل حرا بما يتناسب مع درجة السيطرة التي تمارسها الإرادة على هذه الأفعال. ويبدو بالتالي أننا إذا أردنا أن نطرح سؤالا مماثلا فيما يتعلق بمسئوليتنا إزاء معتقداتنا فإننا ينبغي أيضا أن نحلل مسألة في أيّ شيء يمكن أن تكون هذه المعتقدات تحت السيطرة. غير أننا رأينا للتو أنه ينبغي التمييز هنا بين أربعة أنواع من الفرضيات:
-    (1) وصفية أو سيكولوﭼية:
-                                      (1أ)  يمكن أن نعتقد بتأثير الإرادة.
-                                      (1ب) لا يمكن أن نعتقد بتأثير الإرادة.
-                                      (2)  معيارية:
-                                      (2أ) يجب أن تكون مبررات اعتقادنا (على الأقل جزئيا) مبررات لسلوكنا.
-                                      (2ب) يجب أن تكون مبررات اعتقادنا متميزة عن مبررات سلوكنا وأن لا ترتكز إلا على أدلة قاطعة.
والأطروحة (1أ) مستقلة عن الأطروحتين (2أ) و (2ب). إن ما يمكن، من الناحية الفعلية de facto، اعتقاده بتأثير الإرادة لا يعني، من الناحية القانونية de jure، وجود مبررات قوية لفعله، وبالمقابل تعني (1ب) زيف (2أ): إذا كان لا يمكن أن نعتقد بصورة اختيارية، فإنه ليس هناك مبرر لأن نوصي بالقيام بذلك. والتقاء (1أ) و(2أ) هو ما يُسَمَّى عادة " النزعة الإرادية" إزاء المعتقدات، ويبدو أن ما سميته التصور الديونطولوﭽﻲ للمعرفة وكذلك البرجماتية قد أوجدا هذه الأطروحة المزدوجة. والتقاء(1ب) و(2ب) هو ما يُسَمَّى "الدليلية" [أونزعة الأدلة] l’évidentialisme([x]). ويبدو أننا إزاء مسألة تنطوي على تناقض: إما أننا، إذا شئنا الإثبات، كما يفعل التصور الديونطولوﭽﻲ، يمكن أن نكون مسئولين عن معتقداتنا بنفس الطريقة التي نكون بها مسئولين عن أفعالنا، وهنا يجب التسليم بأنها يمكن أن تكون، جزئيا على الأقل، موضوعا لسيطرة إرادية، وإما أننا نرفض إمكانية مثل هذا السيطرة، غير أنه ينبغي عندئذ التخلي عن التصور الديونطولوﭽﻲ. وأود في الحقيقة أن أشير إلى أن هذا البديل ليس هو الأفضل، وإلى أن المرء يمكن أن يكون مسئولا عن معتقداته دون أن يعني هذا أنه يقبل النزعة الإرادية.
وتفترض الأطروحة الإرادية النزعة (1ب)، كما رأينا للتو، الأطروحة (1أ)، التي تكون معتقداتنا وفقا لها، في بعض الحالات على الأقل، إرادية ويكون الاعتقاد بهذا المعنى صورة من صور الفعل، بنفس الطريقة التي يتم بها الخروج للتنزه. غير أن هذه الأطروحة ليست بديهية. ومع أن الحس المشترك يسلِّم بأننا يمكن أن " نشكِّل" معتقداتنا بتأثير إرادتنا أو بتأثير رغباتنا، فإن هذا لا يستتبع أن المعتقدات "التي نعتقدها"، بتأثير سياق استخدمته الإرادة تكون هي ذاتها إرادية. ونحن لا يمكن أن نقرر أن نعتقد في الحال في أيّ شيء كان، على سبيل المثال في أن الدالاي لاما إله حي. ولنفترض مع هذا أننا يمكن أن نفعل هذا، بتأثير أقراص خاصة يكفي بلعها للاعتقاد في مثل هذا النوع من الأمور. فهل ستكون هذه حالة من السيطرة المباشرة للإرادة على المعتقد، بنفس الطريقة التي تتم بها السيطرة على فعل؟ لا، لسببين. من جهة ستكون هذه سيطرة مباشرة على فعل يتمثل "تأثيره" في إنتاج معتقد، غير أن هذه لن تكون سيطرة على المعتقد المناظر. ومن جهة أخرى فإن الرغبة التي يمكن أن تكون عندي في اعتقاد أن الدالاي لاما إله حي يمثل بالتأكيد مبررا "عمليا" لأن يكون لديَّ هذا المعتقد (إنه يسعدني، أو يفيدني)، غير أن هذا ليس مبررا "معرفيا" ، بالمعنى اﻠﭙﺎسكالي ﻠ"دليل"  preuve. والأمر مماثل هنا تماما لما في الحالات التي نحمل فيها أنفسنا على اعتقاد شيء ما عن طريق وسائل "غير مباشرة". وتماما كما أن من الممكن القيام بفعل ما، على سبيل المثال إعداد جاتوه، بواسطة إنجاز أفعال أخرى، مثل صنع الباتيه وضرب صفار البيض، فإن من الممكن تماما أن يصيب المرء نفسه، عن طريق مخدر،  أو نوم مغنطيسي، أو, بتقنية ما أخرى، بالاعتقاد في شيء ما. غير أنه حتى إذا نجحنا في هذا فإن ناتج هذا الفعل، المعتقد، لن يظل أقل قابلية للتبرير بمبررات متميزة عن تلك التي استطاعت أن تكون حافزا للفعل. ويصحّ هذا أيضا على المعتقدات التي تُسَمَّى "الذاتية التحقق" autoréalisées، التي جعلها مجرد واقع حمل النفس على اعتناقها حقيقية: إذا أردتُ أن أعتقد أنني شجاع، ونجحتُ في هذا، فإن واقع أن يكون لديّ هذا الاعتقاد سيكون قادرا، في بعض الحالات، على أن يُحْدِث بداخلي الشجاعة، ومن هنا صدْق اعتقادي. ولكن هل يتعلق الأمر لهذا بمعتقدات "إرادية"؟ والحقيقة أن هذه المعتقدات تنطوي على مفارقة، لأن من يعتقدها يكون في حالة متناقضة. إذ أنني إذا أردتُ أن أعتقد أنني شجاع، فهذا يعني "أنني لستُ شجاعا" (لأن المرء لا يمكن أن يريد أن يعتقد حالة قائمة بالفعل)؛ غير أنني إذا نجحتُ في اعتقاد "أنني شجاع"، فإن هذا الاعتقاد يجب أن يتعايش بداخلي مع نقيضه (أنني لستُ شجاعا). وبعبارة أخرى فإن مبرراتي المعرفية تقودني إلى اعتقاد "ليس ق non p" في حين أن مبرراتي العملية تقودني إلى اعتقاد "ق p". وهذا وكأنني أستطيع أن أقول: "أنا لستُ شجاعا، غير أنني أعتقد أنني شجاع([xi])". غير أنه إذا كانت النزعة الإرادية (1أ) صحيحة فإنه ينبغي أن يكون باستطاعتنا أن ننجز أفعال الاعتقاد لأسباب عملية فقط، بصورة مستقلة عن الأسباب المعرفية. غير أن من الجلي أن هذا ليس حقيقيا. ويُرَدّ على هذا بأن الحالات التي نتصور فيها رغباتنا وقائع، أو نَعْمَى فيها إراديا، كثيرة للغاية، وبأن كل ما يثبته النقاش الذي قمنا به للتو هو أن هناك تناقضا بين الاعتقاد "بصورة عقلانية" والاعتقاد بصورة إرادية، غير أن ما لا يثبته هو أنه لا يمكن أن تكون هناك تكوينات "لاعقلانية" للاعتقادات الإرادية. ولكنْ عندئذ، أحد شيئين. إما أن لتلك التكوينات اللاعقلانية للمعتقدات أسبابا سيكولوجية بعينها تفوت الفاعلين إلى حد كبير، ولكن عندئذ يكون من الصعب أن نقول إن الذات "مسئولة" عنها، بمعنى أنها تسيطر على هذه الأسباب. وإما أن الأمر يتعلق بتكوينات للمعقتدات تكون أفعالا لها لدى الفاعل أسباب عقلانية، ولكنْ عملية. غير أنه ينبغي عندئذ إثبات أن هذه الأسباب العملية للاعتقاد يجب أن تكون قادرة على التغلب على المبررات المعرفية أو النظرية للاعتقاد، تلك التي ترتبط بأدلة الاعتقاد.
وهذه الأطروحة الأخيرة هي التي سميتُها بالإرادية بالمعنى المعياري، التي تمثل شكلا من البرجماتية. فهي تفترض أن المعايير العملية للطابع  العقلاني لمعتقد يمكن أن تكون دائما مماثلة لمعاييرها النظرية أو المعرفية، وأن الأولى [العملية] يجب أن تقتفي أثر الأخرى [النظرية أو المعرفية]. وكانت هذه أطروحة چيمس James ضد كليفورد Clifford في إرادة الاعتقاد La Volonté de croire. وهذه أيضا، فيما يبدو، أطروحة  ﭙﺎسكال في حجته الشهيرة عن الرهان pari. وعند تقديمها في الشكل السائد "لقالب القرار"، يكون للحجة الشكل التالي (المبسَّط جدا):
حتى إذا كان احتمال الحصول على النتيجة (1)- إذا أدى المرء فعل الاعتقاد في وجود الله [الإيمان بالله] وإذا تحققت حالة أن الله موجود- ضعيفا جدا، بالمقارنة باحتمال النتيجة (2) إذا تحققت حالة أن الله ليس موجودا، فإن المنفعة (1) تكون دائما أكبر (لانهاية من السعادة)، بما في ذلك، بطبيعة
 
     أفعال            الحالة
الله موجود
الله غير موجود
الإيمان بالله
1 ـ حياة أبدية
2 ـ حياة فانية
عدم الإيمان بالله
3 ـ العالم الأرضى
4 ـ ما قبل الأمر الواقع الراهن
الحال، منفعة (4) وهي ضعيفة، ومنفعة (3) وهي معدومة. وبالتالي فإن قرار الإيمان بالله هو الفعل الذي له دائما الأمل الرياضي (المنفعة المأمولة) الأعلى، وبعبارة أخرى، بلغة نظرية المنفعة والقرار، فإنه فعل "يسود" دائما الأفعال الأخرى، فهو إذن، بهذا المعنى، "من العقلاني" إنجازه. وﭙﺎسكال يتخذ مكانه هنا في حالة اعتقاد نوعي، الإيمان بالله. على أننا إذا عممنا الحجة "البراجماتية"، فإنها ستعني أن:
(ق1 ) إزاء الاختيار بين اعتقاد ق واعتقاد ليس ق،  ينبغي دائما تَبَنِّي الاعتقاد الذي له أكبر منفعة عملية، عندما تكون القيمة المعرفية لاعتقاد ق متساوية مع القيمة المعرفية لاعتقاد ليس ق.
ولكنْ هل علينا أن نعتقد في المبدأ ق1؟ وإذا طبقناه على نفسه، ينبغي القول إن اعتقاد أن ق1  صحيح له دائما منفعة عملية أكبر من اعتقاد المبدأ المضاد (عندما تكون القيم المعرفية ﻟ ق1 وليس ق1 متساوية، يجب دائما اعتقاد ق1 إذا كانت له قيمة عملية أكبر من ليس ق1). فلنُسَمِّ هذا الاعتقاد ق2. غير أنه ينبغي في هذه الحالة أيضا إثبات أن ق2 له قيمة عملية أكبر من اعتقاد ليس ق2(ولنُسَمِّ هذا الاعتقاد ق3). وهكذا وهلمجرا، بانتقال من النتائج إلى المقدمات إلى ما لا نهاية. وبكلمات أخرى فإن التسليم بأننا يمكن أن نعتقد لمبررات عملية تتغلب على المبررات المعرفية يعني أننا يجب أن نحسب دائما هذه المبررات العملية، عن طريق سياق لامتناه. وإذا أردنا أن نتفادى الانتقال من النتائج إلى المقدمات إلى ما لا نهاية، ينبغي أن نسلِّم، ضد البرجماتية، بأنه ينبغي الاعتقاد لمبررات أخرى غير عملية، أيْ لمبررات معرفية أو أدلة. وحتى إذا لم نقبل هذه الحجة فإنه يبقى مع ذلك أنه إن لم يكن هناك، أو إن كان هناك قليل جدا، من أدلة تبرر معتقدا، فمن اللاعقلاني أن يكون لدينا مثل هذا المعتقد، مهما يكن مرغوبا فيه أو نافعا. وإذا كان فعل امتلاك هذا المعتقد مرغوبا جدا فيه، وبالتالي عقلانيا جدا على الأقل وفق معيار للعقلانية العملية (المنفعة)، فإن المعتقد ذاته، الذي سيكون ناتج هذا الفعل، لن يكون مع ذلك عقلانيا.
وإذا كانت النزعة الإرادية المعيارية زائفة، فهل يستتبع هذا أنه ينبغي التسليم بالأطروحة(2ب) التي سبق أن سَمَّيْتُها "الدليلية" (نزعة الأدلة)، التي تُعَدّ المبررات الصحيحة الوحيدة للاعتقاد وفقا لها مبررات معرفية، أو أدلة قاطعة؟ وتتمثل المشكلة في أننا لا يمكن أن نعتقد فقط وفقا للأدلة أو المعطيات التي في متناولنا. ذلك أن المرء لا يمنح ثقته إلا عندما تكون لديه أسباب "كافية" للاعتقاد. ولكنْ "متى" تكون هذه الأسباب كافية؟ وفقا لبعض الفلاسفة، مثل ديكارت، لا ينبغي الاعتقاد (الحكم) إلا عندما يكون لدى المرء وضوح كامل، أفكار واضحة وجلية. ووفقا لفلاسفة آخرين، مثل ليبنيتس، فإنه ينبغي أيضا التقيد بقواعد منطقية عادية. ووفقا لآخرين غيرهم، مثل التجريبيين  empiristes، يكفي أن تجعل المعطيات فرضية ما عالية الاحتمال. ولا يوجد إذن اتفاق إجماعي فيما يتعلق بكفاية الأسباب للاعتقاد. ومهما يكن ما يقوله ديكارت عن هذه النقطة فإننا لا نملك، بالنسبة لأغلب المعتقدات التجريبية، معطيات قاطعة بصورة مطلقة. والواقع أن مسألة معرفة متى تكون لدينا مثل هذه الأسباب ليست محددة سلفا على الإطلاق. وبالتالي فعندما يقول لنا معتنق لنزعة الأدلة مثل كليفورد أنه لا ينبغي أبدا الاعتقاد على أساس معطيات غير كافية فإنه يقدم بكل بساطة مصادرة على المطلوب.
وإذا كان علينا أن نرفض النزعة الإرادية رَفْضَنا للدليلية (نزعة الأدلة)، فهل ينبغي لهذا أن نستنتج من ذلك أنه لا مكان لأخلاق أصيلة للاعتقاد، ولا لفكرة أن المرء يمكن أن يكون مسئولا عما يعتقد؟ لا. إن ما ينبغي أن نستنتجه من ذلك، بالأحرى، هو أننا عندما نتكلم عن المسئولية والأخلاق في مجال المعتقدات والآراء، فإننا نميل أكثر مما ينبغي إلى التفكير في هذه المسئولية وفق نموذج المسئولية العملية بالنسبة للأفعال وإلى افتراض أن مفهوم المسئولية يعني السيطرة الإرادية. كما أننا نميل أكثر مما ينبغي إلى أن نفكر في نموذج امتثالٍ لمعايير للعقل النظري وفق نموذج معايير أو التزامات العقل العملي. ونحن نرتكب الخطأ الأول لأننا نتبع بصورة ضيقة أكثر مما ينبغي النموذج الديكارتي للحرية باعتبارها حرية الإرادة. ونرتكب الخطأ الثاني لأننا نتبع بصورة ضيقة أكثر مما ينبغي النموذج الكانطي للمسئولية باعتبارها الامتثال للواجب. وربما كان هذان النموذجان ملائمين في المجال العملي([xii])، غير أنهما ليسا ملائمين في المجال النظري لتكوين المعتقدات. وفي هذا المجال فإننا لسنا مسئولين عن معتقداتنا، لأنها تفرض نفسها علينا وهي صحيحة أو زائفة بصورة مستقلة عن سيطرتنا. كما أن المعيار النظري الوحيد الذي علينا أن نتبعه ليس معيارا وهبناه لأنفسنا، كقانون أخلاقي، بل هو معيار أساسي للمجال النظري، شئنا أم أبينا، وهو معيار الصدق. وهناك بهذا المعنى لاتماثل كبير بين المجال النظري والمعرفي من جهة والمجال العملي من جهة أخرى. ويمكن أن نرى هذا، بصورة خاصة، عندما نتأمل الإخفاقات التي نلقاها في هذا النمط أو ذاك من العقلانية. وعندما لا ينجح شخص في ممارسة القدرة المرتبطة عادة بحرية الاختيار في مجال الأفعال، تكون لديه وسائل التحقق مباشرة من أن هذا هو الحال: على سبيل المثال فإن مَنْ يتصرف على عكس ما يرى أن من الواجب أن يتصرف سوف يعاني من صراع. وبالمقابل فإنه لن يحدث شيء من هذا القبيل عند الإخفاق في ممارسة قدرة على التفكير الحر. وفي الحالة النظرية أو المعرفية فإنه لا يمكن أن تكون لدينا أية تجربة واعية تتمثل في تبني اعتقاد يتنافى مع ما لدينا من مبررات قوية. والحقيقة أن سيطرتنا على مبررات اعتقادنا لا يمكن، في أفضل الأحوال، إلا أن تكون غير مباشرة.
وهذا هو السبب في أننا ينبغي أن نفضل على التصور الديكارتي بشأن سيطرة مطلقة للإرادة على أحكامنا ومعتقداتنا تصور لوك الأقل راديكالية، الذي يقتصر دور الإرادة وفقا له على قدرتها على إرجاء حكمها عندما يفكر المرء في أنه لا يجب أن يحكم([xiii]). ووفقا لهذا التصور فإنه لا يمكن أن تكون للمرء سوى سيطرة غير مباشرة على معتقداته، بواسطة "التفكير". فإذا كنت أعتقد ق، يمكنني أن أفكر في المبررات التي تجعلني أعتقد ق. وهذا التفكير يعطيني دافعا لاعتقاد ق. غير أنني أستطيع إرجاء حكمي. ولستُ مسئولا عن معتقداتي، ولا عن المعايير التي تحكمها (وبصورة خاصة المعيار الذي وفقا له يجب أن يعتقد المرء بالتناسب مع المعطيات التي في متناوله، وبهذا المعنى فإن "الدليلية" أو نزعة الأدلة صحيحة). غير أنني مسئول عن الطرق التي أوفّق بها معتقداتي مع هذه المعايير. فما هي هذه الطرق؟ إنها، على وجه الدقة، الطرق التي بها نعير الاهتمام للمعطيات، أو نقيِّمها، أو نرفضها. وعلى هذا النحو يمكنني، في بعض الظروف، أن أقرر، من اللحظة التي أقوم فيها بتقييم امتلاكي معطيات كافية، أن أقبل ق، أو أن أعتبرها معرفة مكتسبة، أو فرضية للعمل. وفي حالات أخرى، يمكنني أن أرجئ تصديقي. فالنموذج الملائم لفعل للعقل فيما يتعلق بالمعتقدات ليس إذن نموذج الفعل الحر، ولا نموذج الالتزام، بقدر ما هو النموذج الحصيف للثقافة، عند ذلك الذي يكوِّن لنفسه الآراء، وبعض الفضائل، التي يجب تطوير حساسية ما نحوها. ومثلما توجد قيم أخلاقية، توجد قيم معرفية، مثل البحث عن الحقيقة وفضائل معرفية مثل الخيال، أو الذاكرة، أو صحة الحكم.  كما أنه توجد رذائل معرفية، مثل سرعة التصديق، أو البلاهة، أو الجمود العقائدي. وهذا، فيما يبدو لي، معنى الملاحظة العميقة لليشتنبرج Lichtenberg: "لا تحكموا على الناس بآرائهم، بل بما صنعت بهم آراؤهم". وكما في حالة الفضائل الأخلاقية فإن اكتساب هذه الفضائل يكمن في اكتساب ميول أو طبيعة ثانية، ويكمن اكتساب فضائل معرفية في غرس ميول بعينها. غير أن هذه الميول، شأنها شأن الميول الأخلاقية، ليست تحت تأثير السيطرة الإرادية المباشرة.  ولا يعني هذا أن الفضائل المعرفية المعنية مطابقة للفضائل الأخلاقية. ذلك أنها تنتج عن نسق مغاير، إذا كانت الحجة التي سبق أن قدمتُها بالنسبة للتمييز بين العقلانية المعرفية والعقلانية العملية صحيحة. غير أن من الخطأ في الوقت نفسه أن نقول إنه لا توجد أية علاقة بين الفضيلة المعرفية والفضيلة الأخلاقية، تمنع، في الحالة الأولى، استعمال فكرة أخلاق للاعتقاد.
ويبقى أن نطبِّق هذه الملاحظات على سيكولوچيا، أو سوسيولوچيا، أو أنثروﭙولوچيا المعتقدات، وسيكون عليَّ هنا أن أكتفي بإشارات.
إذا كان ما سبق صحيحا فإن من الخطأ نقول إننا مسئولون عن معتقداتنا بمقتضى سيطرة إرادية مباشرة، أو بمقتضى مبررات عملية تماما كما أن من الخطأ أن نقول إننا غير مسئولين مطلقا عن معتقداتنا لأنها لا تنتج إلا عن أسباب مستقلة عن سيطرتنا. إننا لسنا مسئولين لا عن شروط  تكوينها   (الإدراك، الاستنتاج، الشائعات)، وهي شروط طبيعية ينبغي أن تدرسها السيكولوچيا، ولا عن المعايير التي تحكمها. غير أننا مسئولون عن الطرق التي نطابق بها معتقداتنا على معايير. وينتج عن هذا، فيما يبدو لي، أن النماذج السببية الخالصة التي يتم تطويرها من المعتقدات الجمعية في السوسيولوچيا والأنثروﭙولوچيا المعاصرتين، اللتين تبحثان تكوين المعتقدات باعتبارها سياقات لاعقلانية irrationnels بالضرورة، بل حتى غير عقلانية a-rationnels، هي على الأقل متحيزة([xiv]). وأحد هذه النماذج الأكثر راديكالية، وله سَلَفُهُ في نظرية قوانين المحاكاة عند تارد Tarde([xv])، هو النموذج الذي اقترحه علماء بيولوچيا مثل داوكنس Dawkins([xvi])، عن انتقال المعتقدات الجمعية والثقافية في شكل "ميمات" mèmes. ووفقا لداوكنس فإنه، تماما كما أن هناك انتخابا طبيعيا للچينات بين سكان، هناك انتخاب طبيعي لبعض التصورات الواسعة الانتشار وسط جماهير سكانية، وهي "الميمات" الثقافية (قياسا على “gène”  [الچين] و”  “mimétique [الرغبة بالمحاكاة][xvii]): إذن العجلة، الكتابة، الدين، الإعلان، إلخ.، إنما هي "ميمات"، تتجاوب ذاتيا على طريقة اﻟچينات والڤيروسات. وعلى هذا النحو يمكن أن نقترح نماذج لتكوين المعتقدات الجمعية عن طريق عدوى التصورات، وفقا لسياقات سببية خالصة. غير أن "الميمات"، مفهومة على هذا النحو، لا يمكن في أفضل الأحوال إلا أن تكون تكرارات لتصورات، وليس معتقدات جمعية. ولكي يكون هناك معتقد، ينبغي بطبيعة الحال أن يتم نقل تصور أو محتوى. غير أنه إذا كان ما قلته صحيحا فإن "الموقف" الذي يتخذه المرء إزاء هذا المحتوى و القيمة المعرفية أو العملية، التي يضفيها عليه، هو على الأقل بنفس أهمية المحتوى ذاته. ولا يمكن أن يوجد معتقد إلا إذا كان يلبي معايير بعينها، وبشأن هذه النقطة يظل التصور السببي "للميمات" الثقافية صامتا. وعلى سبيل المثال فلكي توجد معتقدات معادية للسامية، لا يكفي أن تكون هناك تصورات معادية للسامية، بل ينبغي أن تكون هناك أيضا مواقف تجاه هذه التصورات. وإزاء نمط بذاته من التصورات، يمكن أن تكون هناك مواقف متباينة وسط السكان. وبقدر ما أن النظرية "الداروينية" للتصورات الثقافية لم تقل لنا شيئا عن انتخاب هذه المواقف المعيارية، أيْ عن المعتقدات التي تحتفظ بها الذوات بشأن معتقداتها ذاتها، ليس أمام هذه النظرية سوى قليل من الفرص لتكون كاملة. وهذا لا يمنع في شيء، في رأيي، إمكانية تفسير "طبيعي النزعة" وسببي للمعتقدات الجمعية. غير أن أية نظرية عن المعتقدات الجمعية، تماما كما هو الحال مع المعتقدات الفردية، لن تكون أمامها أية فرصة لتكون صحيحة إنْ لم تأخذ في اعتبارها البُعْد المعياري للمعتقدات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
4
الأشكال الجديدة للتدين[xviii]
 
دانييل إيرڤييه- ليچيه   Danièle HERVIEU-LÉGER
 
 
الحداثة والدين: بروز تراجع الدين
 
 
المجتمعات الحديثة مجتمعات لم يعد يحكمها قانون ديني من أيّ نوع. وهذه الفرضية ماثلة في قلب كل التحليلات التي أنتجتها العلوم الاجتماعية فيما يتعلق بالوقائع الدينية في الحداثة. وقد طور "الآباء المؤسسون" لعلم الاجتماع- من ماركس Marx أو ڤيبر Weber، دوركهايم Durkheim أو سيميل Simmel، عن الاجتماعي du social نظريات مختلفة جدا بل حتي متعادية، غير أنهم جميعا يتلاقون، بطريقة ما، للتشديد (كل بطريقته) على أنه يمكن كتابة تاريخ الحداثة، في أحد جوانبه، باعتباره تاريخ الانحسار الذي لا مفر منه لوجود الدين في المجتمعات المعنية: يُنظر إلى هذا التحرر الديني حتى على أنه الشرط الذي لا غنى عنه لكل سيرورة عينية للتحديث.
ويحيل هذا النموذج للتراجع الديني للمجتمعات الحديثة إلى "تعريف" للحداثة يشدد على ثلاث من سماته الرئيسية:
-  أولى هذه السمات هي إعطاء مكان الصدارة، في كل مجالات الفعل action، للعقلانية، أيْ ضرورة التكييف المتماسك للوسائل مع الغايات التي نسعى إلى تحقيقها. وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية، يعني هذا أن الأفراد لا يجب، من حيث المبدأ، أن يتبوأوا مكانتهم الاجتماعية إلا بفضل كفاءتهم وحدها، المكتسبة بالتعليم والتدريب، وليس بفضل ميراثهم أو بفضل صفاتهم الشخصية. وفي مجال تفسير العالم والظواهر الطبيعية، أو الاجتماعية، أو النفسية، تقتضي العقلانية الحديثة أن تستجيب كل الإيضاحات التفسيرية للمعايير الدقيقة للتفكير العلمي. ومن الجلي أن المجتمعات الحديثة بعيدة عن أن تحقق بالكامل هذا المثل الأعلى. وعلى هذا النحو فإن العلم الذي يُنتظر منه أن يبدد الجهالات التي تتولد منها المعتقدات والسلوكيات "اللاعقلانية"، يفضي في الوقت نفسه إلى ظهور أسئلة جديدة، قابلة دوما لتكوين بؤر جديدة للاعقلانية. وقد أدمج الاقتصاديون بصورة متدرجة في تحليلاتهم البُعْد "اللاعقلاني" بصورة غيرقابلة للاختزال لسلوكيات الفاعلين الاقتصاديين. ومن جهة أخرى، ظلت المجتمعات الحديثة ممزقة بصورة لا مفر منها بصراعات بين أنماط عديدة من العقلانية. ويبقى أن هذه المجتمعات جعلت من هذه العقلانية مع أنها إشكالية للغاية رمزها وأفقها: الفكرة التي وفقا لها يغدو تطور العلم والتقنية شرطا للتقدم والتنمية البشرية الشاملة تبقى عندئذ فكرة-قوة idée-force، حتى في ساعة نقد أوهام النزعة العلمية والوضعية. والحقيقة أن العقلانية ما تزال بعيدة عن أن تفرض نفسها بصورة متسقة في كل ميادين الحياة الاجتماعية وقد صرنا، من نواح كثيرة، أكثر وعيا بهذا من أيّ وقت مضى. ويبقى أنها المرجع المعبئ للمجتمعات الحديثة.
-  عبر هذا الحلم بعالم قام عمل البشر بعقلنته بصورة كاملة، يعبر عن نفسه نمط خاص من العلاقة بالعالم. ويتلخص هذا النمط في تأكيد أساسي: ذلك المتمثل في استقلال الفرد-الذات، القادر على أن "يصنع" العالم الذي يعيش فيه ويصوغ لنفسه دلالات تعطي معنى لوجوده هو نفسه. والواقع أن التعارض المفترض بين المجتمعات التقليدية التي تعيش في ظل سيادة المعتقدات "اللاعقلانية" والمجتمعات الحديثة العقلانية يكشف بسرعة عن عدم تماسكه، وعندئذ يجري بحث الواقع المعقد لهذه وتلك. وبالمقابل، لا يمكن أن نقلل من شأن التناقض الأساسي القائم بين مجتمع ينظمه التراث، تفرض فيه مجموعة شاملة من المعاني نفسها من الخارج على كل أولئك الذين يكونون أعضاء فيه، وبين مجتمع يعطي الإنسان نفسه سلطة صُنْع تاريخ وحقيقة وقانون ومعنى أفعاله. ومن الجلي أن هذا يتعلق بنموذجين "نقيين" وبالتالي خياليين للمجتمع. ذلك أن كل مجتمع عيني يجمع، بنسب متباينة، بين عناصر ترتبط بكل من هذين النموذجين. غير أن من المحتمل أننا، إذ نشدد على هذا التعارض، نضع إصبعنا على السمة الأكثر أساسية للحداثة، السمة التي تدل على وقفة مع عالم التراث: التأكيد الذي يكون الإنسان وفقا له هو المشرِّع لحياته، القادر أيضا، بالتعاون مع غيره داخل مجموع المواطنين، على تحديد التوجهات التي يريد أن يمنحها للعالم الذي يحيط به.
-  وتنطوي الحداثة، في المحل الثالث، على نمط خاص من التنظيم الاجتماعي، يتسم بتمايز المؤسسات. والواقع أن عملية العقلنة، مهما كانت نسبية ومتناقضة، تتجلى بصورة خاصة في تخصص مختلف مجالات النشاط الاجتماعي. وفي هذه المجتمعات، ينفصل ما هو سياسي عما هو اجتماعي؛ وينفصل ما هو اقتصادي وما هو منزلي؛ ويكف القانون والأخلاق عن الامتزاج؛ كما يشكل الفن والعلم والثقافة ميادين متميزة يمارس فيها البشر قدراتهم الخلاقة. ويؤدي كل مجال من مجالات النشاط هذه وظيفته وفقا لقاعدة للعبة خاصة به: لا يختلط منطق ما هو سياسي بمنطق الاقتصاد أو بمنطق العلم؛ ولا تنظم مجال الأخلاق نفس القواعد التي تنظم مجال الفن. وبطبيعة الحال فإن علاقات وتشابكات عديدة تقوم بعقد صلات بين هذه المجالات المختلفة، كما أن الاستقلال الذاتي لكل منها ليس إلا نسبيا. ونحن نعلم جيدا أن تطور العلم يتوقف في جانب منه على الاقتصاد، وأن توجهات الاقتصاد مرتبطة بما هو سياسي والعكس بالعكس. ومع ذلك فإن التمييز بين مختلف ميادين النشاط هذه يشكل أحد مبادئ قيام المجتمع ككل بوظائفه، وأحد معطيات حياة كل شخص. وفي تحققه التاريخي، يمثل هذا التمايز بين المؤسسات محصلة مسار طويل، مطبوع بطابع الصراعات والعودات إلى الوراء، تتباين مراحله ومظاهره وفقا للبلدان.غير أن هذا التمايز يبدو في كل مكان غير قابل للفصل عن السياق الذي تشكَّل من خلالها بالتدريج الاستقلال الذاتي للنظام الزمني محررا نفسه من وصاية التراث الديني.
ولوصف هذه السياق للتحرر، يجري الحديث عن "علمنة" المجتمعات الحديثة. والحقيقة أن القول بأن المجتمع بأكمله يَتَعَلْمَن يعني أن الحياة الاجتماعية لم تعد- أو لم تعد بصورة متزايدة- خاضعة لقواعد تمليها مؤسسة دينية. ويكف الدين عن أن يقدم للأفراد والجماعات مجموع المراجع، والمعايير، والقيم، والرموز، التي تسمح لهم بأن يمنحوا معنى لحياتهم وتجاربهم. وفي العصر الحديث، لم يَعُدْ التراث الديني يشكل مجموعة للمعاني تفرض نفسها على الجميع. ولا يعني هذا أن المجتمعات المسماة بالتقليدية عاشت في ظل السيادة المطلقة للدين. وأن المعايير الدينية فرضت نفسها عليها بصورة كاملة. ونحن نعلم أن المجتمعات التقليدية أو قبل الحديثة تقضى وقتها في عقد الحلول الوسط مع القانون الديني الذي يُفترض أنه ينظمها. إن ما هو "حديث" بصورة نوعية لا يتمثل في واقع أن الناس "يأخذون ويَدَعُون" فيما يتعلق بأمور الدين: بل يتمثل في أن مطالبة الدين بأن ينظم المجتمع بأكمله وبأن يحكم كل حياة كل فرد في هذا المجتمع صارت عديمة الشرعية، حتى في نظر المؤمنين الأكثر اقتناعا والأكثر صدقا. وفي المجتمعات الحديثة، صارت العقيدة الدينية والمشاركة الدينية "من الأمور الاختيارية": إنهما من الشئون الخاصة التي تتعلق بضمير الفرد والتي لا يجوز لأيِّ مؤسسة دينية أو سياسية أن تفرضها على أيّ شخص. وعلى العكس فإن الانتماء الديني لفرد ومعتقداته لا يجوز أن تشكل دافعا مقبولا لاستبعاده من الحياة الاجتماعية، أو المهنية، أو السياسية، مادامت لا تطرح للمناقشة قواعد القانون التي تنظم ممارسة هذه الأنشطة المختلفة. ويندرج هذا التمييز بين الميادين في إطار الفصل بين المجال السياسي والمجال الخاص، هذا الفصل الذي يمثل حجر الزاوية في التصور الحديث عما هو سياسي.
فهل يعني هذا المسار الطويل لإخماد سيادة الدين على الحياة الاجتماعية أن الدين والحداثة يستبعد كل منهما الآخر، وأنه لا شيء بالمعني الدقيق يجمع أحدهما بالآخر؟ الحقيقة أن الأمور أكثر تعقيدا بكثير. وتتمثل المفارقة الكبرى للمجتمعات الغربية في أنها استمدت تصوراتها عن العالم ومبادئ عملها في جانب منها من تُرْبتها الدينية الخاصة. وقد أسهمت اليهودية والمسيحية، اللتان قامتا بتشكيل نموذج المشهد الثقافي للمجتمعات الغربية، في ظهور تجربة وفكر الاستقلال الذاتي اللذين يميزان حداثتنا غير الدينية a-religieuse. فاليهودية، بوضعها مفهوم العهد Alliance (بريث Brith، في العبرية) في مركز علاقة الله بشعبه، تطرح مبدأ استقلال التاريخ البشري: الشعب، وفقا لما إذا كان يبدو أو لا يبدو مخلصا للعهد، يملك بين يديه اختيار مصيره. ولا يكون للعهد أيّ معنى إذا لم يجد كل شريك فيه أنه يتم الاعتراف له بأهلية فعلية لقبول شروطه، أيْ للالتزام في هذا الاتجاه أو ذاك. والأنبياء موجودون، طوال المسيرة، لتذكير الشعب الذي يغويه الكفر بنتائج اختياره، غير أن أوامرهم توضح على وجه الدقة أهليته لأن يقوم، بصورة مستقلة، بتوجيه تاريخه. وتنشر المسيحية نتائج هذه الإشكالية التي ينطوي عليها العهد وتوسِّعه ليشمل البشرية بأكملها فلا يعود مقتصرا على شعب واحد مختار: منذ ذلك الحين صار رهان الإخلاص أو الرفض خاضعا لضمير كل فرد. وحتي إذا كانت الكنيسة مفهومة على أنها المؤسسة الوسيطة بين الله والبشر، فإنما على هداية (اعتناق) كل فرد يتوقف خلاص مفتوح لكل فرد شخصيا. وقد دفعت البروتستانتية، خاصة في طبعتها الكالڤينية، منطق إضفاء الطابع العام والطابع الفردي على العهد إلى نهايته، مختصرة بصورة جذرية كل الوساطات (المؤسسات، الشعائر، القديسين، الشفعاء، إلخ.) التي تحجب رهان هذه المواجهة الحاسمة بين الإنسان المتمتع بأهلية مستقلة على الاختيار وإله ترك له حرية الاختيار لصالحه أو ضده. ويمثل هذا التصور الديني عن إيمان شخصي جانبا أساسيا من عالم التصورات الذي نشأت منه بالتدريج الصورة الحديثة للإنسان، الذات المستقلة التي تحكم حياتها. وفي المجرى العيني للتاريخ، عرف هذا الكسب للاستقلال الذاتي مراحل متباينة. والحقيقة أن دخول المجتمعات الغربية في الحداثة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسيكولوچية لم يتحقق في كل مكان بطريقة متجانسة ومتطابقة. وقد ارتدت "علمنة" هذه المجتمعات أشكالا متباينة. غير أن المسار العام هو حقا، كما يشدد مارسيل جوشيه، مسار "نهاية للدين" للمسيحية نصيبها فيها[xix].
 
مجتمعات غير دينية تنتشر فيها العقيدة
 
غير أن حقيقة أن العقيدة الدينية لا تستطيع أن تحدد نظام المجتمع لا تعني مطلقا أن المجتمعات الحديثة صارت بحكم حداثتها ذاتها مجتمعات غريبة على العقيدة بما هي كذلك. وإذا كان علماء اجتماع الأديان قد استسلموا أحيانا لهذا الخداع البصري، فذلك لأنه (بين أسباب أخرى) بدا لهم أن الواقعة المشفرة لتراجع ممارسة الفروض الإلزامية المقررة من جانب الكنائس يمكن أن تجلب نوعا من التأييد الهادئ للفرضية القائلة بفقدان للعقيدة يتلاءم مع نهاية السيادة الاجتماعية للمؤسسات الدينية. والحقيقة أنه ينبغي، في سبيل طرح مشكلة الدين في المجتمعات الحديثة بصورة صحيحة، أن نُبْقِي المفارقة التالية ماثلة في العقل:
 - من جهة، التفسيرات الدينية الكبرى للعالم التي وجد فيها الناس في الماضي معنى كليا صارت إلى حد كبير مجردة من أهليتها؛ وتواصل المؤسسات الدينية فقدان قدرتها الاجتماعية والثقافية على فرض وتنظيم المعتقدات والممارسات؛ ويتضاءل عدد المؤمنين بها، كما أن المؤمنين أنفسهم "يأخذون ويَدَعُون"، ليس فقط فيما يتعلق بالتعاليم الأخلاقية، بل أيضا فيما يتعلق بالمعتقدات الرسمية.
- من جهة أخرى، تقدم هذه الحداثة المُعَلْمَنة  sécularisée نفسها، لأنها خالقة في آن معا لليوتوبيا والإبهام، الشروط الأكثر مواتاة لانتشار المعتقدات. إننا نعيش في مجتمعات لا يبدو أنه يمكن أن يوضع فيها أيّ حد لطاقة البشر على أن يعرفوا علميا العالم الذي يعيشون فيه وعلى أن يسيطروا عليه تقنيا. ونحن نوضع بلا توقف أمام ممكنات جديدة تقوم بصورة متواصلة بإفساد نظام الدلالات التي نعطيها لتجربتنا في هذا العالم. ونحن نواجه هذا الموقف من عدم اليقين بإنتاج أشكال جديدة من المعتقدات التي نحاول من خلالها إبراز معنى هذا العالم الجديد دوما. وكلما اشتد ضغط التغيير، انتشرت هذه المعتقدات أكثر، فتتنوع وتنتشر إلى ما لانهاية. والحقيقة أن المجتمعات الحديثة الأكثر خضوعا للعلم والتقنية والاقتصاد، وعلى نقيض ما كان يُعتقد أنه يمكن أن يؤكده تصور قديم "للعلمنة"، ليست مجتمعات تتضاءل فيها ظاهرة العقيدة في نفس الوقت الذي ينتشر فيه، في كل الميادين، حكم عقلانية آلية متحررة من الأوهام. وهناك أيضا عوالم غير يقينية تتوالد فيها العقيدة.
غير أن ما يميز هذه الحداثة المؤمنة، يتمثل في المطالبة الضخمة من جانب الأفراد بحقهم في أن ينظموا بصورة شخصية الأنساق الصغيرة للدلالة التي تسمح لهم بأن يمنحوا معنى لوجودهم وبأن يختاروا بحرية، إن شاءوا (وليس في هذا شيء آلي)، الرجوع إلى التراث الذي يسمح لهم بالانضواء، كمؤمنين، في سلالة دينية بعينها. وأكثر مما نتحدث عن انفجار النزعة الفردية الدينية (التي تشكلت منذ وقت طويل عبر سياق الاستبطان الأخلاقي والصوفي للعقيدة)، يجب أن نتحدث هنا عن استيعاب النزعة الفردية الدينية داخل ثقافة حديثة للفرد، تقوم بتغليب الأصالة الشخصية للمؤمن على الامتثال المفروض إزاء حقائق لابد من الإيمان بها تضمنها مؤسسة مهما كان شأنها. وعلى هذا النحو تغدو العقيدة الدينية، في كل المجتمعات الحديثة، منظمة بوضوح متزايد- مثل كل المعتقدات- حول اهتمام المرء بنفسه. وتتمثل نتيجة (وتَجَلِّي) هذا التحول الثقافي للعقيدة في تكاثر "الترميقات" و"التهجينات" و"أشكال قص ولصق" اعتقادية أخرى ينتجها الأفراد مستمدين إياها (بصورة خاصة، ولكن ليس على وجه الحصر) من الذخائر التي صارت متاحة من التراثات الدينية الكبرى. ومن الآن يؤلف كل شخص حكايته الصغيرة من العقيدة وفقا لرغباته، ومصالحه، وأمانيه، وميوله الاجتماعية والثقافية. وهو يصوغ حكايته هذه عبر مسيرة التجارب بإشارة تضعف أكثر فأكثر (ويمكن أن تختفي تماما) إلى الأنساق الكبرى للعقيدة كما تحددها المؤسسات الدينية الكبرى. وهذه الديناميكا لإضفاء الطابع الذاتي على العقيدة غير قابلة للفصل عن الانهيار (وعلى الأقل التدهور الشديد) الذي أصاب النصوص المتوارثة التي قامت، من جيل إلى جيل، بتأمين إعادة إنتاج الهويات الدينية الطائفية، المضغوطة، الأساسية، المعلبة في هويات عائلية واجتماعية ومحلية مستقرة. وتتميز الحداثة الدينية بصورة خاصة بإضفاء الطابع الفردي (وإنْ بأقصى الاستقطاب) على مسارات تحديد الهوية التي تقوم (في نهاية المطاف) بدفع أفراد إلى أن يتحملوا- مستخلصين من هذا كل النتائج العملية والأخلاقية المتباينة للغاية- انتماءهم "المختار" إلى سلالة عقيدية محددة. ولهذا فإن للحداثة الدينية جانبا مرتبطا بإقامة نظام جديد للحقيقة الدينية، يقوم بالتدريج بتغليب الحقيقة الذاتية، التي يعتقدها الأفراد، على كل حقيقة موضوعية مقررة مؤسسيا. ولتصوير وضع المؤمن المعاصر، يمكن أن نستخدم مجازيْن للوصف: مجاز "الحاج" الذي يتنقل بإيقاعه الخاص على الدروب الروحية التي يحدد بنفسه مراحلها، ومجاز "المنتمي إلى عقيدة دينية" الذي يحدد بنفسه العائلة الدينية التي يقرر الانتماء إليها. مجازان للحركة، يفرضان نفسهما ضد المجاز الكلاسيكي (والذي يجري من الآن تحويله إلى حد كبير إلى أقلية) لممارس الواجبات الدينية، الذي يجسد على العكس استقرار الشعائر الجمعية والانتماءات الجماعية الموروثة[xx].
 
أشكال جديدة لتكوين الطوائف الدينية
 
هل يمكن أن نتصور أنه في هذا السياق من اختلال النظام المؤسسي وإضفاء الطابع الفردي على الاعتقاد، يمكن أن تنشأ أو تبقى بصورة دائمة أشكال لتكوين الطوائف الدينية؟ وهل ما يزال "المؤمنون المتنقلون" الذين ينسجون دافعهم العقيدي الشخصي يشعرون بحاجة من نوع ما إلى التلاقي ضمن طائفة، لممارسة عقيدة مشتركة وإقامة شعائرها؟ إن الرد على هذا السؤال غير يقيني، كما أن فرضية استنفاد الأشكال المعروفة للمشاركة الدينية (المسيحية، في المقام الأول) بعيدة عن أن تكون مجردة من المعقولية. والحقيقة أنه إذا كانت صيغة "لكل دينه" تفرض نفسها، فإنها تعني في الوقت نفسه نهاية الدين بوصفه عالم معنى مشترك وممارسة جمعية. وفي أفق هذا التحلل الممكن، تغدو التراثات الدينية الكبرى قابلة لأن تظل تقوم بوظيفتها كمستودعات للرموز والقيم، موضوعة تحت تصرف الأفراد في سوق سلع الخلاص التي صارت من الآن محررة. غير أنها تكف في الوقت نفسه عن الاندراج ضمن التعبير الجمعي للجماعات المطالبة علنا بهوية دينية.
على أن هذه النقطة لا تمثل الكلمة الأخيرة للتحليل. إذ أن هذا سيعني أن لا نأخذ في الاعتبار بصورة كافية مطالب إقرار الشرعية التي ترتبط بسرد دلالات يتم إنتاجها فرديا. وبطبيعة الحال فإن الفرد الذي يقوم بطريقة ذاتية تماما بصياغة نسقه الصغير الخاص من الاعتقاد يلجأ إلى موارد رمزية يخضع توافرها بصورة متزايدة لشروط الوصول وقواعد الاستخدام التي تحددها المؤسسات. غير أن المشكلة كلها تتمثل في معرفة ما إذا كان يكفي توافق عارض ودقيق بين المنطق الليبرالي للاستهلاك الرمزي ومنطق إضفاء الطابع الفردي على الاعتقاد لتلبية مطالبة هؤلاء الأفراد أنفسهم بأن يتألفوا، عبر امتلاكهم الشخصي لحقيقة"هم"، ﮐ"رعايا" مؤمنين مستقلين ذاتيا. ذلك أن مطلب إضفاء الطابع الذاتي لا يقتصر على الاستهلاك ذي الطابع الشخصي لمنتجات رمزية متاحة، يمكن أن تندرج في عدادها مجموعة من "المنتجات الدينية". إنه يميل، بصورة أكثر جوهرية، إلى "إضفاء معنى" على التجربة الشخصية. فهو يدعو إذن في هذا الإطار إلى "سرد" يفترض هو ذاته "قدرة على القول". وتقتضي هذه الأخيرة، مثل دافعها ذاته، المواجهة مع آخرية لا تكون أيّة لغة– ولا أيّة معرفة  بالتالي- ممكنة خارجها. والحقيقة أن رهان المعرفة هو الذي يسمح بأن يتأكد، في سياق التبادل، استقرار دلالات فردية والإضفاء الممكن للطابع الاجتماعي عليها. وبعبارة أخرى فإنه ليس هناك نسج ممكن لسرد للتجربة الروحية دون أن يلتقي الفرد، في لحظة ما، بفرد آخر من المحتمل أن يقول له: "ما له معنى بالنسبة لك له معنى بالنسبة لي".
وإذا كان هذا السرد يجري على النمط الديني فإنه يعني وجود نمط لإقرار شرعية  الاعتقاد يسمح بأن تنعقد الصلة الذاتية والموضوعية للفرد بسلالة عقيدية بعينها. ويمثل استدعاء استمرارية هذه السلالة، المتلقاة من الماضي والقادرة على توجيه المستقبل، المحور الأساسي لكل "هوية دينية". وإذا كانت مسارات تحديد الهوية الدينية تتخذ، في السياق المعاصر لتبدل العقيدة، مجرى غير متوقع من قبل وقابل لإعادة النظر بصورة مستمرة، فإنها تبدو مع ذلك دائما  وكأنها بناء لآلية للوضع الخيالي للفرد في چينيالوچيا (شجرة أنساب) رمزية. ويقوم هذا البناء بتأمين اندماج الخبرات المتعاقبة والمتفجرة للتجربة المعيشة الماثلة في زمن جرى إضفاء معنى عليه.
والآن، ماذا يحدث اليوم؟ وكما سبق القول فإن رفع القيود المؤسسية عن العقيدة يمر بأزمة رئيسية للنظام القديم لإقرار صحة العقيدة الذي كان يكفل من فوق وبطريقة شكلية على كل حال، التوفيق بين السرود الصغيرة العقيدية الفردية مع الإطار العام للحقائق التي ينظر إليها على أنها "راسخة"، التي تعلن المؤسسة نفسها أمينة عليها. وتدفع هذه الأزمة إلى ظهور نظامين بديلين لإقرار صحة العقيدة. الأول هو نظام "الإقرار المتبادل للعقيدة" الذي ينتشر بصورة هائلة عبر جماعات وشبكات منتسبة ومتبدلة ومتنقلة تطرح بين صفوفها من حيث المبدأ مسألة المساواة الروحية لكل الأفراد. وفي صفوف هذه الجماعات والشبكات التي يتجمع فيها المؤمنون ويختار بعضهم البعض، يكفل التواصل بين الأشخاص، والنقل المتبادل للخبرات والشهادات، لكل شخص، تأكيد المعنى. والحقيقة أن الطوائف المسماة بالجديدة والتي تتضاعف وسط الكنائس المسيحية الكبرى توضح بما فيه الكفاية هذا الاتجاه، على الأقل في شكلها الأصلي كجامعات عاطفية. غير أن تطورات الحياة الرعوية (نتيجة تقلص عدد المؤمنين الممارسين) وكذلك الاتجاه الذي تسير فيه حركات الكنيسة التي يتم تنظيمها بصورة متزايدة حول تحقيق مطالب الممارسة الروحية الشخصية توضح انتشار هذا النظام الناعم للحقيقة المتبادلة بحرية الذي يفرض نفسه على هذا النحو بالتدريج باعتباره الشكل الأكثر "طبيعية" (أيْ الأفضل ملاءمة لقيم وتقاليد المجتمعات الديمقراطية والليبرالية) لتكوين طوائف مسيحية.
وتكمن المشكلة في أن هذا الشكل للتبادل في شبكة من الدلالات الفردية، التي تكفل للجميع سردهم الممكن، يعني تعبئة كبيرة للموارد الاجتماعية والعلائقية، والثقافية. وهو يثقل بصورة خاصة على الأفراد بالقهر- الذي يمكن أن يصير منهكا- ضد "أن يكون المرء نفسه"، بما في ذلك (وبصورة خاصة) في ميدان التجربة الروحية والدينية. وعندما تكون هذه الموارد معدومة، عندما تنعدم الطاقة المادية الضرورية لمواجهة موقف بعينه، عندما يتم بلوغ النقطة القصوى التي يسميها أ. إهرنبرج "تعب أن يكون المرء نفسه"[xxi]  (هذا الذي لا يحلّ فقط، باختلافات كبيرة، بأفراد محرومين من المكاسب الاقتصادية والثقافية للحداثة)، تبرز الحاجة إلى اكتشاف أو استعادة "قواعد يقين"، في قلب الأماكن المغلقة التي يمكن فيها أن يؤلف بين الأفراد اقتسام واسع لحقيقة مشتركة، موضوعية، معلقة بوعد زعيم كاريزمي والحرارة العاطفية فيما بينهم. وعلى الطرف الآخر، يمكن أن يفضي منطق الطمأنة الطائفية هذا إلى انغلاق "طائفي" sectaire (بالمعنى الذي يعطيه الرأي العام اليوم لكلمة secte). وهذا المنطق يمكن أن يستقرئ الانكفاء على هويات المنافي التي صارت معزولة بقدر الإمكان عن الاتصال بالخارج. وفي شكل أقلّ تطرفا، وأكثر شيوعا بكثير، يمر "الإقرار الطائفي بصحة العقيدة" بالتشكل المحصور لمناطق حبيسة محمية، تقدم للأفراد إطارا للمعنى أقرب ما يكون إلى مشكلاتهم اليومية، في نفس الوقت الذي يتم فيه التنشيط العاطفي المنتظم بإحساسهم المشترك بتكوين "نحن".
ويتمثل أحد الأسئلة التي يجري طرحها في كثير من الأحيان في معرفة ما إذا كانت المجتمعات الحديثة مجتمعات تعددية قادرة على تأمين التعايش السلمي بين مختلف الطوائف بداخلها، أم هي مهددة بعودة اشتعال صراعات الهوية القابلة لتغذية حروب دينية جديدة. والحقيقة أن ملاحظة استقطاب المشهد الديني المعاصر، الذي ينشأ من الصعود   المتوازي (وغير القابل للانفصام) في قوة هذين النظامين- المتبادل والطائفي- لإقرار صحة العقيدة على أساس اختلال النظام المؤسسي للأنساق الكبرى للعقيدة، تحفز إلى الظن أن هاتين القضيتين propositions معقولتان على قدم المساواة وهما- معا- كذلك بالفعل.
 
 
إشارات


[i]  نص المحاضرة 335 من محاضرات جامعة كل المعارف وقد ألقيت في 30 نوڤمبر 2000.
[ii]  اللاحقة isme تعادلها في العربية لاحقة المصادر الصناعية الدالة على المذاهب والنظريات؛ إلخ. مثلا: "يَّة" في كلمة الليبرالية- المترجم.
[iii] نص المحاضرة 341 من جامعة كل المعارف وقد ألقيت في 6 ديسمبر 2000.
[iv]  Thomas Mann, Considerations d’un apolitique, trad. fr. Louise Servicen et Jeanne Nanjac, Paris, Grasset, 1975, p.347.
[v] نص المحاضرة 331 من محاضرات جامعة كل المعارف وقد ألقيت في نوڤمبر 2000.
[vi] ) “Lettre au Père Mesland du 9 février 1645”, AT, IV, 172, trad. fr., in Œuvres, Paris, Alquié, vol. 3, Garnier, 1970, p.552.
[vii] ) Pascal, De l’esprit géométrique et de l’art de persuader, Œuvres complètes, II, La Plèiade, éd. Le Guern, p.171.
[viii] )  Gilovitch (T.), How We Know What isn’t, New York, McMillan,1991, p.77.
[ix] ) James (W.), La Volonté de croire (1896), trad. Fr. Paris, Flammarion, 1920.
[x] ) المقصود بها تعبير إنجليزي، مكون انطلاقا من الكلمة الإنجليزية evidence، التي لا تعني بالضرورة ما تعنيه الكلمة الفرنسية évidence [وضوح، بداهة]، بل تدل على المبررات القوية، أو الأدلة، أو المعطيات القاطعة التي يقوم عليها الاعتقاد. وفي غياب اصطلاح أفضل، فإنه لامناص من أن نتجه إلى استعمال هذا التعبير.
 
[xi] )  يشكل هذا النوع من الأقوال ما يمكن أن نسميه " مفارقة مور Moore": " ق غير أنني أعتقد ليس ق"[ق (قضية) مقابل p (proposition) في المنطق- المترجم؛ انظر أيضا كتاب G. E. MOORE: Some Main Problems of Philosophy, 1953 - المراجع].
 
[xii]  أشكُّ في هذا، غير أن هذه مسألة أخرى.
[xiii] ) انظر  Locke, Essay on Human Understanding, Oxford, Nidditch, 1V, XX, 1975, p. 715, trad. fr., Coste, Paris, Vrin, 1970, p. 599.
[xiv] ) هذه نقطة ألحَّ عليها السوسيولوﭼﻲ ريمون بودون Raymond Boudon منذ وقت طويل، مقتفيا أثر ڤيبر Weber، انظر، على سبيل المثال، Le Juste et le Vrai, Paris,Fayard,1993.
[xv]  Tarde (G.), Les Lois de l’imitation, Paris, 1890, réimpression, Paris, Kimè, 1993.
, Paris, Odile Jacob, 1996. [xvi] Dawkins (R.), Le Gène égoïste انظر أيضا Sperber (D.), La Contagion des idées, Paris, Odile Jacob, 1997, et Dennett (D.), Darwin est-il dangereux?, Paris, Odile Jacob, 2000.     وكمقدمة عامة، Guillo (D.), Sciences sociales et sciences de la vie, Paris, PUF, 2000.
 
[xvii] وفقا لنظرية رونيه چيرار René GIRARD أستاذ الأدب المقارن؛ انطلاقا من تحليله لروائع روائية لكل من ثيربانتيس وستاندال وپروست ودوستويڤسكي (في كتابه Mensonge romantique, Vérité romanesque : الأكذوبة الرومانسية، الحقيقة الروائية: الصادر في 1961) حيث يتناول الرغبة كمحاكاة للآخر ضمن مثلث للرغبة يضيف إلى الإنسان الراغب والشيء (أو الإنسان) المرغوب فيه عنصرا ثالثا هو إنسان آخر يمتلك هذا الشيء أو يرغب فيه؛ ووفقا لهذه النظرية يصير هذا الآخر في مركز الصدارة كوسيط للرغبة وكنموذج (موديل) للراغب الذي عندما يرغب في هذا الشيء أو في امتلاكه إنما يريد أن يكون "هو" هذا الآخر- المترجم.  
[xviii] نص المحاضرة 332 من محاضرات جامعة كل  المعارف وقد ألقيت في 27 نوڤمبر 2000.
[xix] Gauchet (M.), Le Désenchantement du monde. Une histoire politique de la religion, Paris, Gallimard, 1985.
[xx] Hervieu-Léger (D.), Le Pèlerin et le converti. La religion en mouvement, Paris, Flammarion, 1999.
[xxi]  Ehrenberg (A.), La Fatigue d’être soi.Dépression et société, Paris, Odile Jacob,1998. “Poches Odile Jacob”, 2000.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى أين يقود علم الوراثة؟ - چان ڤايسينباخ
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول
- القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟
- الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطر ...
- الحوار بين الثورة والواقع
- مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة
- موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة
- مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر
- الاحتجاجات المسماة بالفئوية جزء لا يتجزأ من الثورة
- مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الث ...
- مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة
- مقدمة خليل كلفت لترجمته لكتاب: -كيف نفهم سياسات العالم الثال ...
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت
- كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى


المزيد.....




- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خليل كلفت - العقائد الدينية والمعتقدات السياسية