سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3592 - 2011 / 12 / 30 - 13:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لم يعد المشهد المصاحب للآذان على القنوات التلفزيونية يعتمد على صور لمساجد ومآذن بل بدأ يستعير مشاهد من الطبيعة الساحرة لتمنحنا بالفعل صور أكثر جمالاً وروعة .
فى ذات مرة شاهدت فيديو جميل مصاحب للآذان يصور مشهد لتساقط قطرة ماء على ورقة شجرة لتتناثر محتوياتها ويتبعها مشهد آخر لقطرة تسقط على سطح الماء فتصطدم به وتخلق دوائر صغيرة .. أعجبتنى هذه المشاهد الرائعة خاصة أنها جاءت بتصوير بطىء لتحقق متعة فى المشاهدة .
لعل مُخرج هذه المشاهد أراد أن يرسل صورة جمالية من صنيعة الله مما جعل رفيقى المشاهد لهذه الصور يُسبح ويُمجد , ولا أعرف ما علاقة سقوط قطرة بالتسبيح والتمجيد , فهكذا كان لسان حال شيطانى الذى يداعبنى منذ الطفولة كما كان يردد أبى دوما ً ليذهب بذهنى فى مناحى أخرى ويغوص فى تأمل هذه الصور محاولاً ربطها بفكرة الإله الخالق لقطرة الماء المتساقطة .. لقد ذهب عقلى فى مرمى آخر غير مرمى رفيقى المُسبح المُمتن ..وياله من شيطان رائع يداعبنى .!!
http://www.youtube.com/watch?v=3yJmenUnDKE&feature=related ( فيديو مقارب )
أقول - قطرة الماء التى تساقطت تلك لابد أن تكون فى العلم الإلهى كما يتم تسويق فكرة الإله .. أى أن الله يعلم حركة قطرة الماء هذه منذ بداية سقوطها وما سيخلفه تصادمها بورقة شجر أو أى سطح ترتطم به حسب فرضية العلم والمعرفة الإلهية الكلية , فهو يدرك كل ماصار ويصير وما سيصير قبل أن يصير دون ان تضل معلومة واحدة طريقها عن معرفته الكلية المطلقة .. فالله يعلم شكل وحركة ومصير كل قطرة ماء من مليارات التريليونات من قطرات الماء التى سقطت منذ أن تكون وجود مائى على سطح الأرض وما سيسقط منه لاحقا ً !! , فكل قطرة من مليارات التريليونات مُدونة لديه عالماً زمن سقوط كل واحدة منها والقوى المؤثرة عليها وكيف يكون شكل تبددها وملف الصور المصاحب لها .!!
هل يطيق أحد تصور هذه الفرضية التى تُلقى علينا هكذا ببساطة شديدة دون أن نعي حجم المبالغة التى تحملها .. فهذه الفرضية تصدر لنا أن المعرفة الإلهية غزيرة وبلا حدود تستوعب حجم هائل من المعلومات , والغريب أن كل صورة منها تفتقد لأى معنى أو فائدة أو قيمة .. فما معنى أن يتم تسجيل أرشيف بكل قطرة من قطرات الماء فى الوجود وتدوين رسم ومنحنى وبيانات وصور فى الذاكرة الإلهية بدون أن يكون لها أى أهمية تذكر فى إقتنائها وبلا أى مردود أو غاية .!
الإشكالية أنك لو أنكرت فكرة المعرفة الإلهية بكل صور سقوط تريليونات المليارات من قطرات الماء فى الحياة بحكم أن الله ليس مَعنى بهذا الأمر ولا تشغل باله فهناك الكثير من الأمور التى تأسر تفكيره أعظم شأناً , فأنت هنا إذا كنت قد نزهت فكرة الله بإنصرافها عن أى معرفة تافهة ليست بذات قيمة لكنك فى نفس الوقت ستنزع الألوهية عن الله .!!.. فالألوهية تتقوض وتتساقط بحكم عدم الإلمام ورصد كل الأشياء , والعجز عن تصريف كل الأمور دفعة واحدة , والإخفاق عن إدراك ما يحدث من مشاهد وجودية لتصبح المعرفة هنا مُحددة بأفق مُحدد تقع بالضرورة فى النسبية وتخاصم فكرة المطلق , فتحد الإله فى إطار نسبى وقدرات محددة ليصبح مفردة وجودية ذات قدرات معينة داخل الوجود وإن إرتفعت أسقف قدراته .
بالطبع لو أقررنا بمقولة المعرفة المطلقة التى يطلقها أصحاب الفكر اللاهوتى بلا تحفظ ولا تفكير فسنقع فى صعوبة تقبل وجود كيان معرفى بهذا الشكل وتزداد الأمور صعوبة وعبثية عندما نتلمس ماهية المعرفة ومغزاها , فالمعرفة هنا ليست بذات جدوى فى تحصيلها وجمعها وتخزينها وليس لها أى أى مردود إيجابى ... لتسأل ما أهمية المعرفة للإله إذا كانت لا تضيف إليه ولا تساهم فى تطويره .!
المبررون لن يجدوا شيئاً يفسر هذه العبثية فى تسجيل وتدوين مليارات التريليونات من قطرات الماء بلا معنى إلا فى إجترار عبارة " إنها حكمة الله البعيدة عن الإدراك " وهى عبارة يقصد بها الهروب وغلق منافذ العقل وتجرع دفعة إضافية من المخدر لتحمل فكرة غير منطقية ولا عقلية تلهث لتتتجاوز إشكالياتها .
لن نسأل عن الأغوار والأسرار والحكمة وكل هذا الهراء بل سنتناول المنهج ذاته , فإذا كانت المعرفة هى سبيل الإنسان للتقدم فبتراكمها يبنى الإنسان ويطور من ذاته ولكن إسقاط هذا التصور على الإله فمعناه أن الله يخضع للتطور بفعل المعرفة المُضافة إليه , وهذا يقوض وينسف الفكرة الألوهية وكمالها ويجعل المعرفة الإلهية لها هدف وغرض وغاية .!
نأتى لإشكالية أخرى أن المعرفة الإلهية بسقوط قطرة الماء لا تقتصر على مشهد متابعة الله لسقوطها وتدوينه لهذه المعلومة فى ذات اللحظة لتأخذ مكاناً فى ذاكرته بكل صورها كما فى الفيديو المرفق بل أن المعرفة الإلهية تسبق وجود قطرة الماء من الأساس ,أى أن الله يعلم بمصير تريليونات المليارات من قطرات الماء قبل أن يتكون الوجود المائى برمته .!! .ولنسأل مرة ثانية ما فائدة هذه المعرفة فهى بالرغم أنها تافهة وليست بذات جدوى إلا أن كونها معلومة قبل حدوثها فهى هنا لا تكون أكثر من عملية مراجعة من الله لسقوط قطرات الماء بمشاهدها مع الصور التى فى حوذته والمدونة فى أرشيفه.!!
http://www.youtube.com/watch?v=qdscJzAmDHQ&feature=related
توجد إشكالية أخرى وهى أن المعرفة المسبقة لا معنى لها طالما أن أمور ستتم وفقا لإرادته فهل هو يشك فى حدوثها ويترقب تحقيق معرفته بما سيحدث .. وهل يمكن لقطرة الماء أن تخيب معرفته المسبقة وتخالف تخطيطه لها .. فإذا كانت قطرة الماء البائسة ستنحو بسلوك مغاير لما هو معلوم لدى الله فقد نسفت هذه القطرة البائسة المعرفة الكلية المطلقة , فليس لها إلا أن تكون مُجبرة لتسير وفقا لما هو مَعلوم ومُدون لدى الله فهنا سنقول ما هذه العبثية وما معنى المعرفة وهذا السيناريو من الأحداث والمشاهد والصور فالمعرفة والعلم الإلهى صارم وليس هناك من مفر لنطرح سؤالنا مرة أخرى ما قيمة المعرفة وما معنى الوجود .!
نعلم أن قطرة الماء تخضع لقانون المادة ليتمكن الإنسان من رصد سقوط قطرة الماء وفقاً لمعادلة حركتها ولكننا لم نصل لعبثية أن نرصد سقوط كل قطرة ماء فى الطبيعة ونحسب القوى المادية التى تؤثر عليها لنسجل هذا الأمر فى سجلاتنا وملفاتنا .!!! فيكفينا معرفة القانون الفيزيائى الذى يتناول حركة قطرة ماء لنحسب سرعة سقوطها وكتلتها ومقدار الجاذبية المؤثرة عليها وسطح الإحتكاك لنرسم صورة كاملة لحركتها ومصيرها وما ستخلقه من دوائر عند تلامسها مع سطح مائى هذا إذا أردنا ولكننا لن نفعل بدون غاية .
بهذه المعرفة الرياضية التى توصلنا إليها تعادلت معرفتنا مع معرفة الإله بحيث يمكن أن نرصد بدقة مصير أى قطرة ماء ومسار حركتها .. ومن هنا تطابقت معرفتنا ومعرفته لنصبح نحن الإثنان أسرى لقانون ومعادلة المادة ولكن المؤمنين يعتقدون بأن الله خالق قانون المادة , ولا أعلم من أين جاءوا بهذا الإدعاء فكتبهم المقدسة لم تذكر هذا الأمر ولا تقر بوجود قانون للمادة فمن أين الإدعاء بخلق القانون فكل ما لديهم أن الخلق عملية تحويلية فحسب .. ولكن يبدو أن من يبدع قصة الخلق الطينية لن يصعب علي أحفاده أن يبدعوا أن القانون المادى من صنع الإله .
القانون المادى هو طبيعة المادة ذاتها وإذا كان القانون من صنع الإله وهو من صاغه فهل هو يخضع له أم لا وهل يستطيع أن يكسره .. فإذا كان يخضع له فهو ليس بإله فهو مثلنا تماماً خاضع للقانون المادى , وإذا كان غير خاضع له فما معنى أن تريليونات المليارات من قطرات الماء تخضع كل منها للقانون المادى بلا شذوذ .. ولو إجتمع مليارات البشر على صلاة واحدة متضرعة لله أن يوقف قطرة ماء عن ألا تتساقط وتظل معلقة فى الهواء فستتساقط رغم أنف الجميع وفقا لقانونها المادى وستضع هذه القطرة البائسة المؤمنين والله فى ورطة .
هناك إشكالية أخرى عن جدوى المعرفة .. فالإنسان بالعلم والمعرفة وإدراك قانون المادة إستطاع أن يعى الوجود ويفك ألغازه مما جعله يرى الحياة بعيون مفتوحة واعية مُدركة ليتجاوز جهله ويتطور ويتقدم .. فقطرة الماء وفقا لقانونها المادى تخضع لعلوم الهيدروليكا المائية لنستطيع معرفة معدل سقوط الأمطار وحركة المياة فى الأنهار فيفيدنا هذا فى تقدير كمية المياة المتوقعة للزراعة وإندفاعها وتأثيرها على الجسور ومن هنا نحسب حساباتنا لبناء السدود .
الإنسان يعرف فينتقل من حالة إلى حالة تطورية أخرى تسمح له أن يتقدم خطوة إلى الأمام ولكن معرفة الله تبدو معرفة أرشيفية لا تُقدم ولا تُأخر ولا تُضيف ..معرفة ميتة غير حية ..معرفة لا تُطور صاحبها بحكم أنه كيان غير متطور كما يزعمون وإلا فقد صفة الكمال وأشياء أخرى .. فالمعرفة لدى الله لا تقبل هذه الأمور , فالله جدلا لا يجهل ولا ينتظر العلم ولا يتطور , فالمعلومة لديه معلومة لا تفيد أو تؤثر عليه بالسلب أو الإيجاب فهو لن يتطور ويصل لحالة مغايرة بإضافة المعرفة إليه .. فكونه يتطور ويرتقى يعنى أنه يتبدل ويخضع للمادة فى إحداث تغيير وهذا يبدد ألوهيته .. لنسأل هنا ما معنى المعرفة والعلم الإلهى فهى لا تزيد هنا عن معرفة أرشيفية أوقرص c.d مصمت لا يمتلك من قراره شئ .!
هل هنا الإنسان تفوق على فكرة إلهه ... وأليس من الأفضل أن تكون إنسان من أن تتحول إلى أرشيف .
* الإنسان وقطرة الماء .
كل ماذكرته سابقاً عن قطرة الماء وعلاقتها مع فكرة الإله يمكن إسقاط نفس هذه الصور والمشاهد على الإنسان من حيث المعرفة الإلهية المُسبقة والمُحددة والمُقدرة لنجد أنفسنا حسب فكرة الإله لا نزيد عن قطرة ماء تتساقط مُحدد مصيرها وحركتها بصرامة.
يمكن أن ننظر للمشهد من جانب آخر لنجد تطابق مصير الإنسان مع نفس مصير أى قطرة الماء فلا نزيد عن نفس الصورة فى تساقط قطرة بسرعة لتتبدد وتتلاشى بدون أن يكون لوجودها معنى أو قيمة فنحن نسير فى مسار وجودى محكومين بمجمل ظروف مادية كقطرة ماء تسقط وتخلق دوائر ما تلبث ان تتبدد ... فأين مليارات قطرات الماء .. عفواً مليارات البشر الذين عاشوا من آلاف السنين وكان كل واحد منهم قطرة تسير وتتحرك وتخلق دوائرها ثم زالت وذابت فى محيط مائى فلا يصبح لها ملامح فقد دخلت فى وحدة وجودية أخرى .. يبدو أننا نرفض أن نكون قطرة ماء تتبدد وتذوب فى الوجود فنريد أن نسترجع نفس قطرتنا المائية مرة ثانية .!
نحن لا نزيد شئ عن مصير قطرة ماء من حيث وجودها كقطرة تسير فى مسارها ولكننا نختلف فى كوننا نرصد حركتنا حاملين فى قطرتنا مشاعرنا وأحاسيسنا تجاه الوجود من خلال الوعى الذى يدرك السقوط , ولكن تحت وطأة الأنا لا نريد أن نعترف بالإضمحلال والإندثار والذوبان .. نريد أن نخرج من الماء الذى سقطنا فيه لنسترد نفس قطرتنا ثانية بكل محتوياتها ولكن الوجود يقول لنا لا مجال لإسترداد نفس القطرة فهى تبددت وستنشأ قطرات ماء أخرى من قطرتنا المائية تختلف عنا ولكن من نفس محتوانا ... ولا عزاء لأى قطرة ماء فالكل سيتبدد ويتلاشى ويذوب فى الوجود لتتكون قطرات ماء اخرى تُمارس الوجود .
دمتم بخير .
- "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟