أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول















المزيد.....



ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3588 - 2011 / 12 / 26 - 10:02
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


 
ثورة 25 يناير 2011
طبيعتها وآفاقها
(مقالات)
الجزء الأول
 
 
 
المحتويات
الجزء الأول
تقديم للمؤلف ....................................................................
مقالات عن الثورة:
1: ثورة تونس: نحو الاستقلال الحقيقىّ والتنمية الحقيقية ..............................  
2: الشعب المصرى يريد إسقاط النظام ............................................                  
3: ماذا يعنى حل مجلسىْ الشعب والشورى؟ ......................................             
4: المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم           
(دستور 1971) والعلاقة الملتبسة بين الدين والدولة ..................................       
5: لا للتعديلات الدستورية فى مصر ...............................................                    
6: يا شعب مصر... إلى الأمام ولا تراجع... التراجع كارثة ............. .............
7: لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) ..................... ...................                   
8: الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى ..................................   
9: خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية ........................................             
10: الديمقراطية .. ذلك المجهول! ......................................................                       
11: الحزب الحاكم القادم فى مصر ....................................................                      
12: ثورة 25 يناير 2011: أمل مراوغ وأخطار كبرى ....................................     
13: الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها ........................................
 
الجزء الثانى
 
14: مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة ..........................
15: مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الثورة ...................
16: الاحتجاجات المسماة بالشعبية جزء لا يتجزأ من الثورة ...............................
17: مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر ......................
18: موجة ثورية جديدة (19 نوڤمبر 2011)  .........................................................
19: مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة ................................................
20: الحوار بين الثورة والواقع ..............................................................
21: الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطريق إلى الجحيم .........
ملاحق:
1: بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية:
مقدمة الترجمة العربية لكتاب: "النظام القديم والثورة الفرنسية" .............................
2: عرض لكتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية ............................................              
3: مقدمة الترجمة العربية لكتاب: "كيف نفهم سياسات العالم الثالث" .........................
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
تقديم
يستطيع القارئ أن يتابع هنا تغطيتى الشخصية ككاتب سياسى خلال الفترة بين أواخر يناير وأوائل ديسمبر 2011 من عمر الثورة المصرية بوجه خاص والثورات العربية بوجه عام. وتبدأ هذه المقالات بمقال عن الثورة التونسية التى ألهمت الثورات العربية جميعا فى سياق حالة نموذجية من حالات نظرية الدومينو بحكم الحالة العامة المتشابهة للشعوب العربية التى تعانى الفقر والقهر على أيدى أنظمة حاكمة استبدادية فاسدة، ملكية أو جمهورية-ملكية بحكم وباء التمديد والتوريث أكثر من أىّ منطقة أخرى فى العالم.
ولم يكن بمستطاعى بطبيعة الحال ولأسباب متنوعة أن أكتب عن كل الثورات العربية التى تطورت بالكامل كثورات مثل الثورة الكاملة الأوصاف فى بلدانها الخمسة ( تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا) التى يدور فيها جميعًا صراع كبير مفتوح بين الثورة والثورة المضادة، أو البلدان التى ظهرت فيها بدايات وإرهاصات للثورة، عاصفةً فى مكان ومعتدلةً فى آخر، متواصلةً فى مكان ومقهورةً أو مكتومةً أو متقطعةً أو مقطوعةً أو منقطعةً فى مكان آخر، كما رأينا بالفعل ونرى فى البحرين والمغرب والأردن والجزائر والعراق والسعودية وسلطنة عُمان وموريتانيا وحتى چيبوتى وحتى فلسطين! فلم أركِّز إلا على بعضها ولم أخصص مقالا كاملا إلا لكلٍّ من ثورة تونس والثورة والحرب الأهلية فى ليبيا مكتفيا بإشارات طويلة أحيانا وموجزة أحيانا أخرى إلى ثورات أو ثورات مضادة أخرى وكان تركيزى بطبيعة الحال على الثورة السياسية الشعبية الكبرى التى تدور صراعاتها الكبرى فى مصر، والتى خصصت لها مقالات متعددة يضمها هذا الكتاب بالإضافة إلى مقالىْ تونس وليبيا وكذلك بالإضافة إلى ملاحق تشمل مقدمتيْن لكتابيْن من ترجمتى قبل الثورة (كتاب أليكسى دو توكڤيل "النظام القديم والثورة الفرنسية"، وكتاب بى. سى. سميث "كيف نفهم سياسات العالم الثالث: نظريات التغيير السياسى والتنمية")، والمقدمتان مكتوبتان قبل الثورة غير أنهما قد تكونان مفيدتيْن فى مناقشة بعض الأسئلة التى تثيرها الثورات العربية الراهنة، كما تشمل عرْضا لأحد الكتابيْن (كتاب توكڤيل) وهو مكتوب بعد الثورة.
وما من شك فى أننى، مثل غيرى، كنا أمام ظاهرة جديدة لم نَعِشْ مثيلا لها من قبل. ولم يكن بمستطاع أحد أن يتنبأ بحدوث هذه الثورات فهذه طبيعة الثورات الشعبية فى كل مكان وزمان مهما كانت الأحوال منذرة أو بالأحرى مبشِّرة. وكانت طريقة التعامل معها هى المعضلة التى واجهتها كل القوى المتصارعة ذات الأهداف المتناقضة: القوى التى تريد أن تسحقها لاستعادة نفس النظام الاستغلالى الفاسد حتى بالتضحية بكباش فداء ثمينة من رؤساء وقادة تلك الأنظمة، والقوى التى تريد أن تطوِّرها لتحرير الشعوب من أنظمة الاستغلال والفساد والقهر والاستبداد سعيًا إلى تحقيق الحرية والعدالة والكرامة، والقوى السياسية التى تريد أن تستغل الثورة من أجل خلق أوضاع متغيرة تقفز فيها على السلطة السياسية فتنتزعها من الأيدى التى تمسك بها أو تكون شريكا قويا لها فيها. ومن هنا المواقف السياسية المتناقضة: الدفاع المستميت من جانب النظام عن نفسه مستخدما كل وسائل الدفاع والهجوم فلا تستبعد حتى شن حرب حقيقية على الشعب باستخدام الجيش بكامل قوته وعدته وعتاده (باستثناء تونس ومصر بسبب الانقلاب العسكرى المبكر على رئيسىْ الجمهورية) إلى جانب مختلف أجهزة الأمن والمخابرات؛ والنضال الباسل العنيد المستميت من جانب القوى الأكثر إخلاصا لثورة الشعب الذى رفض حياة العبودية مقدِّما ثمن الحرية بدماء الشهداء وبكل أنواع المعاناة؛ أما القوى الرجعية الانتهازية فى كل مكان فى مصر وفى العالم العربى فقد تجسَّدتْ عبقرية موقفها فى السعى المستميت إلى التحالف مع النظام والمعاداة المريرة للقوى الحقيقية التى تناضل فى سبيل تطوير الثورة، فى سبيل الحرية السياسية والثقافية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الصناعية العميقة والسريعة باعتبارها مفتاح الاستقلال الوطنى الحقيقى.
إنه لا أحد يتنبأ بالثورات غير أنه كان علينا أن نحاول فهمها عندما تفجَّرتْ وأن نحاول إذا استطعنا إرشادها وحمل الوعى إليها بقدر الإمكان بشأن طبيعتها وآفاقها والمخاطر التى تُحْدِق بها. وفى هذه المقالات محاولة لبلورة رؤية للثورة ومناقشة قضايا الثورة العربية فى ضوئها وتطوير هذه الرؤية ذاتها فى ضوء تطورات ونضالات ونجاحات وإخفاقات هذه الثورة. ذلك أن أىّ رؤية ذات منطلقات نظرية عن الثورات ينبغى أن تتعلم من الممارسة تماما كما تسترشد الممارسة بالنظرية. وتقدِّم بعض هذه المقالات وجهة نظر تقول بأن مصائر كل الثورات السياسية الشعبية أو أفضل الانقلابات العسكرية التى أيدتها شعوب فى مصر أو فى العالم الثالث، وهى مصائر غير ملهمة على الإطلاق بأغلبيتها الساحقة، وانكسار الأحلام التى تُطْلِقها فى حينها، لا ينبغى أن تردعنا عن حقنا فى أن نحلم، عن حقنا فى أن نحلم باحتمال أن يكون بمستطاع الثورة المصرية والثورات العربية أن تنضم إلى استثناءات قليلة على تلك المصائر منذ بداية حركة التحرر الوطنى إلى يومنا هذا.
وتتمثل وجهة النظر النظرية الأكثر أهمية فى خلفية أغلب هذه المقالات، وكموضوع مباشر لبعضها، فى أننا ينبغى أن نفكر فيما وراء أىّ ثورة سياسية عن السياق التاريخى للثورة السياسية، وفى أن التاريخ الحديث يقدِّم لنا سياقيْن تاريخيَّيْن مختلفيْن تماما هما سياق الثورة الاجتماعية وسياق التبعية الاستعمارية. والمقصود بالثورة الاجتماعية ليس الإصلاحات الاجتماعية التى يمكن أن تقوم بإجرائها أىّ ثورات سياسية وحتى الانقلابات العسكرية فى كثير من الأحيان بل التحول الاجتماعى الذى ينقل من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر، مثلا من الإقطاع إلى الرأسمالية فى العصر الحديث.
 وأمثلة السياق الأول هى الثورات السياسية التى حدثت فى سياق الثورة الاجتماعية فى البلدان الصناعية (الرأسمالية) المتقدمة الآن، وأمثلة السياق الثانى هى الثورات السياسية التى حدثت فى سياق التبعية الاستعمارية فى العالم الثالث أىْ فى بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة. وببساطة لأن كل "إناء ينضح بما فيه" ولأن "السماء لا تُمْطر ذهبا ولا فضة" فإن نتائج الثورات السياسية الناجحة تبنى المجتمع الجديد باستخدام أنقاض المجتمع الذى جرى هدمه؛ بمعنى أن ما يستمرّ بعد الثورات السياسية هو ما كان يسبقها، ويتوقف الطابع التقدمى تاريخيا للثورة السياسية فى طبيعة ما كان يسبقها.
وعلى هذا النحو نجد كمثال على ثورات البلدان الصناعية حاليا أن النظام القديم أىْ السابق للثورة الفرنسية الكبرى (1789) هو الذى استمرّ بعدها. فذلك النظام القديم أىْ فترة الملكية المطلقة التى استغرقت أكثر من قرن فى فرنسا لم يكن نظاما إقطاعيا بل كان نظاما انتقاليا على طريق التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية وذلك بفضل عمليات الثورة الاجتماعية الرأسمالية التراكمية التى تجسَّدتْ فى التطور الهائل للصناعة الحديثة والرأسمالية الزراعية والسوق طوال ذلك القرن. وعلى هذا كان ذلك النظام القديم السابق للثورة الفرنسية العظمى لا يمثل الماضى بل المستقبل، ولهذا استمرّ، أىْ استمرّ التحول الرأسمالى، قرنا آخر تقريبا بعد تلك الثورة التى لحقت بها ثورتان سياسيتان فى 1830 و 1848 اندلعتا فى فرنسا وأوروپا الغربية بوجه عام.
وكانت النتيجة الكبرى الأولى لهذه الثورة أو الثورات السياسية فى فرنسا هى الانتقال من النظام القديم إلى النظام الرأسمالى المستقر والحضارة الرأسمالية الراسخة.
 وهناك نتيجة كبرى ثانية لتلك الثورة فى سياق التحول الرأسمالى، أىْ فى سياق الثورة الاجتماعية، وهى بدورها استمرار لشيء سابق للثورة السياسية، فالبرچوازية الصاعدة قبل الثورة كانت تتجه تاريخيًّا ليس فقط إلى تخليص التحول الرأسمالى فى البلاد من النظام الملكى وبقايا الإقطاع والإقطاع الدينى (الأملاك الإقطاعية للكنيسة) ومن بقايا القرون الوسطى ومن الأريستقراطية التى كانت قد فقدت وظيفتها واحتفظت مع ذلك بامتيازاتها الواسعة، بل كانت تهدف أيضا بالضرورة إلى انتزاع السلطة السياسية وهذا ما تحقق لها من خلال الثورة السياسية.
 وتمثلت النتيجة الثالثة الكبرى فى تحوُّل الرفض العميق من جانب الشعب الفرنسى للنظام الملكى وبقايا الإقطاع واستغلال الرأسمالية التى كانت تتطور بسرعة هائلة فى سياق النظام القديم والعهد البائد إلى الديمقراطية من أسفل التى نشأت وتطورت وازدهرت فى فرنسا خلال القرن التاسع عشر على وجه الخصوص وطبعت بطابعها المجتمع الفرنسى منذ ذلك الحين.
أما أحلام وتطلعات الشعوب فى فترة الثورة السياسية فإنها تتبدد حيث جاءت الرأسمالية كنظام اقتصادى استغلالى، والديكتاتورية المسماة بالديمقراطية كنظام سياسى، وانقلبت المساواة إلى طبقات متصارعة من الأغنياء والفقراء، وانقلبت الحرية إلى الاستبداد وشكل من أشكال الديكتاتورية البرچوازية، فيما انقلب الإخاء إلى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وإلى حرب الكل ضد الكل.
وأعتقد أن هذه النتائج الثلاث الكبرى تنطبق بوجه عام وبتفاوتات وفوارق وخصوصيات لاسبيل إلى تفاديها على كل الثورات السياسية التى حدثت فى سياق الثورة الاجتماعية فى العصر الحديث، أىْ فى البلدان المتقدمة الحالية فى الغرب أو الشمال.
غير أن النظام القديم الذى يمثل المستقبل كما رأينا يقتصر على السياق التاريخى للثورة الاجتماعية فلا يمتدّ ليشمل سياق التبعية الاستعمارية. وقد فرضت الكولونيالية الإمپريالية الغربية هذه التبعية الاستعمارية منذ نشأة السوق العالمية منذ أكثر من خمسة قرون بوجه عام وبالأخص منذ احتلال بلدان ما يسمى الآن بالعالم الثالث فى أوقات مختلفة وتحويلها إلى مستعمرات وأشباه مستعمرات وفرْض معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية" عليها. وعلى هذا النحو لم يَعُدْ هناك مجال للثورة الاجتماعية بل قامت علاقة التبعية الاستعمارية الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والعسكرية (المباشرة وغير المباشرة)، وتواصلت، فتبلور السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية وأحاطت بكل الثورات السياسية الشعبية وبكل الانقلابات العسكرية فى بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات، وهى البلدان المتخلفة التابعة التى يجرى تدليلها فى العادة باسم البلدان النامية.
وكان من المنطقى نظريا، ومن التاريخى عمليا، أن يستمرّ هذا الماضى السلبى من كل النواحى، أىْ التبعية الاستعمارية، عبر كل ثوراتنا السياسية فى كل مكان فى العالم الثالث. فرغم ظاهر الاستقلال الدستورى الشكلى وفقا للقانون الدولى تواصلت التبعية الاستعمارية وتفاقمت واستفحلت مع الزمن مخترقة ثورة 1919 الشعبية وانقلاب 1952 العسكرى ومن المنطقى أن تتواصل بعد ثورة 25 يناير 2011 الراهنة كذلك، إذا كان للقاعدة العامة للعالم الثالث أن تنتصر فى نهاية الأمر.
وباستمرار التبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة عبر الثورات السياسية الشعبية والانقلابات العسكرية فى هذا السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية يكون الماضى الذى لا يمثل المستقبل، بل يمثل الماضى وحده، بل يمثل الماضى المتواصل التفاقم والتدهور، هو الذى يستمرّ، وهو لا يتفاقم بسبب الثورات بل يتفاقم نتيجة سياقه الأصلى حيث تتدهور أوضاع ومكانة العالم الثالث فى كل مكان ليس فى اتجاه التهميش المتواصل فحسب بل فى اتجاه الانهيار الشامل. ولا مناص من أن تتسلح الرأسمالية التابعة بالديكاتورية من أعلى، مع أن الرفض الشعبى العميق الثائر ضد النظام السابق يترجم نفسه إلى هذه الديمقراطية الناشئة من أسفل فى مصر وفى البلدان الأخرى للربيع العربى. وهكذا كانت التبعية الاستعمارية المتواصلة والديكتاتورية العسكرية أو الپوليسية من أعلى والديمقراطية من أسفل هى النتائج التى لم يستطع أحد تفاديها فى العالم الثالث إلا على سبيل الاستثناءات القليلة التى استطاعت فيها بعض البلدان أن تتحول إلى بلدان صناعية رأسمالية مثل النمور أو التنانين الآسيوية الأصلية (كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة) والصين، رغم مشكلات سياسية وثقافية كبرى فى هذه البلدان، لتلحق بالبلدان الرأسمالية بعد أن كان قد فاتها طوال تاريخها الحديث قطار اللحاق بالغرب.
وينبغى أن أوضِّح هنا أن هذه النظرة التى قلتُ إنها تشكل خلفية عامة لهذه المقالات كانت آخذة فى التبلور عندى قبل الثورة بوقت غير قصير، وبالتحديد منذ قرأت كتاب توكڤيل "النظام القديم والثورة" وتأثرت به بعمق وبالأخص منذ بدأتُ العمل فى ترجمته، حيث يميَّز توكڤيل بين ثورتين: ثورة سياسية عاصفة، وثورة "اجتماعية" سبقت الثورة السياسية، وقد حاولت أن أصقل فكرة توكڤيل العميقة فجعلتُ الثورة الاجتماعية أىْ الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية فى عصرنا الحديث تساوى التحول الرأسمالى قبل وبعد الثورة السياسية التى تجرى فى سياق الثورة الاجتماعية.
على أن الخطوة النظرية الأخرى التى تبلورت عندى بعد الثورة وبعد مقالاتى الأولى عنها هى فكرة السياقيْن التاريخيَّيْن المختلفيْن المتمثليْن فى سياق الثورة الاجتماعية للثورات السياسية فى البلدان الصناعية الرأسمالية فى الغرب أو الشمال فى الوقت الحالى، بالمقارنة مع سياق التبعية الاستعمارية للثورات السياسية فى المستعمرات وأشباه المستعمرات أىْ فى الشرق أو الجنوب أىْ فى عالمنا الثالث، وبالتالى فكرة النتائج الثلاث الكبرى المتباينة من حيث النظام الاجتماعى الذى يعقب الثورة السياسية لكلٍّ من هذين السياقيْن التاريخيَّيْن، وكذلك فكرة استمرار النظام السابق للثورة السياسية بعدها وإنْ كان هذا يحدث بطريقة جدلية بحيث يكون الاستمرار ليس مجرد تكرار للماضى أىْ النظام السابق للثورة السياسية الذى يمثل المستقبل فى أحد السياقيْن بل تسارع تطور الرأسمالية ويمثل استمرار التبعية الاستعمارية مع استمرار تدهورها المتواصل فى السياق الآخر.
ومن الواضح أننا لا يمكن أن نتحدث عن انتقال من نمط الإنتاج الإقطاعى إلى نمط الإنتاج الرأسمالى فى حالة حدوث ثورة اجتماعية فى بلد من بلدان العالم الثالث فالانتقال إلى البلد الصناعى فى الإطار التاريخى لنمط الإنتاج الرأسمالى إنما يحدث فى هذه الحالة انطلاقا من وضع الأفنية أو الحظائر أو الزرائب الخلفية للرأسمالية العالمية فى بلدان العالم الثالث وهى بلاد حولتها السيطرة الكولونيالية الإمپريالية فى أفضل النماذج إلى بلدان ورأسماليات تابعة مُلْحَقة بالرأسمالية العالمية الإمپريالية، بعيدا عن الإقطاع ولكنْ دون أن تسمح لها بالتحول إلى بلدان صناعية أىْ رأسمالية بالمعنى الحقيقى للكلمة.
ويمكن أن يجد القارئ فى مقدمتى لكتاب توكڤيل بداية بلورتى لنقطة انطلاق هذه الأفكار، غير أن القارئ قد يجد ما يصدمه وما قد يعتبره تشاؤما فى مقدمتى للكتاب الآخر "كيف نفهم سياسات العالم الثالث" حيث يمكنه أن يقرأ ما يلى: "وإذا كانت الثورة، قد بدت منذ لحظة بوصفها حلّ اللغز، فإنها تبدو الآن بوصفها اللغز الذى يحتاج إلى حلّ، لأن حالة العالم لا تُنْبئ بثورة فى المدى القريب والمتوسط، لا فى الغرب ولا فى الشرق، لا فى الشمال ولا فى الجنوب. ورغم أن الثورة ليست محالة إلى التقاعد الأبدىّ، فإنها ليست واردة على جدول العمل السياسىّ فى أىّ وقت قريب"، غير أننى أوضحتُ بعد ذلك على الفور وفى نفس الفقرة أننى: "لا أعنى النضال الثورىّ الوارد دائما بل أعنى الثورة الاجتماعية الشاملة التى تشترط الشروط الموضوعية والذاتية"، وكان المقصود كما هو واضح الثورة الاجتماعية التى تنقل من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر وليس الثورة السياسية على الإطلاق، ومن هنا استمرارى الحالى فى الحديث عن صعوبة تصور حدوث "ثورة اجتماعية" فى سياق الربيع العربى رغم الثورات السياسية التى نعيشها فى الوقت الراهن. غير أنه ينبغى الاعتراف بأن احتمال الثورة السياسية، وليس مجرد "النضال الثورى" غير وارد هنا، كما يتكرر نفس القصور من جانبى فى مقالى عن ثورة تونس عندما أشرتُ إلى "أن الزلزال التونسى ستكون له من الآن توابع عربية وعالمية بالغة الأهمية. ذلك أن الشعوب العربية تعيش فى أوضاع مماثلة بوجه عام ولكن مع اختلافات أحوال الاقتصاد وغير الاقتصاد فى مختلف البلدان"، ثم تحدثت بدرجات متفاوتة من التوفيق وعدم التوفيق عن احتمالات الثورة السياسية الوشيكة فى البلدان العربية وفقا لنقاط ضعف ونقاط قوة دولها، غير أن إشارتى إلى مصر لم تتجاوز ما يلى: "أما مصر الفقيرة كدولة الغنية كطبقة حاكمة والتى يعيش فيها الشعب نفس الفقر والفساد والقمع ويتحرك أيضا فإن لها حسابات بالغة التعقيد"، فيما كانت الثورة وشيكة فى مصر!
فهل تتحول بلدان الربيع العربى أو حتى مصر إلى استثناء، إلى بلد صناعى، وإنْ فى السياق التاريخى للرأسمالية، باعتبار أن من الشطط أن يتوقع أحد ثورة اشتراكية فى العالم كله وليس فى العالم الثالث أو مصر فقط فى أىّ مدًى مرئىّ بحال من الأحوال؟ ولا شك فى أن المستحيل تقريبا قد يترك مكانه لما هو ممكن وعملىّ على سبيل الاستثناء عندما تخلق أوضاع تاريخية خاصة هذا الاستثناء.
 وإذا كان هذا الاستثناء قد تحقق للنمور الآسيوية الأصلية بفضل جهود جبارة وتعاون تاريخى مع الغرب وبالأخص مع الولايات المتحدة فى سبيل خلق ڤتارين أو واجهات رأسمالية فى وجه المدّ السوڤييتى والصينى فى تلك المنطقة من العالم، بينما تحقق للصين انطلاقا من فترة تعاون الصين بكل حجمها السكانى والجغرافى ومواردها الهائلة مع الاتحاد السوڤييتى السابق، فإن غياب مثل هذين السياقين النادرين لا يترك لنا سبيلا للاستثناء سوى تطور هائل وجبار للديمقراطية من أسفل الناشئة فى مصر، عندما تصل هذه الديمقراطية من أسفل إلى ذروة استثنائية بحيث تكون قادرة على فرض إرادتها على دولة التبعية الاستعمارية المتواصلة، ولن يتحقق هذا الشرط بين عشية وضحاها بل يحتاج إلى استمرار عملية الثورة سنوات طويلة، وانتصارها الإستراتيچى على الثورة المضادة الحاكمة، ورغم الصعوبة الهائلة لمثل هذا التطور إلا أن من حقنا أن نحلم بتربيع الدائرة وتحقيق المستحيل، أو المستحيل "تقريبا". ولا جدال فيما أظن فى أنه لن ينقذ أىّ بلد من بلدان العالم الثالث ومنها مصر من مصير الانهيار الشامل الذى يتجه إليه العالم الثالث بسرعة مفزعة سوى تحقيق هذا الذى يبدو مستحيلا حقا.
لقد حدثت فى مصر ثورة لا سبيل إلى الشك فى أنها ثورة سياسية شعبية كاملة الأوصاف، وحدث فى الوقت نفسه انقلاب عسكرى، لا شك فى أنه انقلاب عسكرى كامل الأوصاف أيضا، قاده المجلس الأعلى للقوات المسلحة لحماية النظام مع التضحية ﺑ مبارك وأسرته والحلقة الضيقة من رجاله المقربين وليس لحماية الثورة أو الشعب اللذين لم يكونا بحاجة إلى حماية من أحد نظرا لأن كل الثورات السياسية الناجحة فى العالم الثالث انتصرت فيها شعوب عزلاء على جيوش مدججة بالسلاح تقمعها بكامل قوتها. ودخلت الثورة المضادة بكل أقسامها فى صراع مرير مع الثورة. ويدور الآن فى مصر (وكذلك بأشكال مختلفة فى مختلف بلدان الربيع العربى) صراع كبير مفتوح بين الثورة والثورة المضادة.
وتتشكل القوى الأكثر إخلاصا للثورة بكل أهدافها المتصاعدة من القوى المدنية واليسارية والعلمانية والليبرالية اليسارية التى استطاعت رغم ضعفها العددى النسبى أن تجذب عشرات الملايين من المصريِّين إلى الثورة. أما الثورة المضادة فتتمثل بصورة منطقية فى النظام القائم بقمم كل مؤسسات دولته ومن طبقته المالكة ومن حلفائه الطبيعيِّين المحتملين الذين يُعَدُّون ممثلين سياسيِّين لقطاعات من الطبقة الرأسمالية التابعة العليا كقوى الإسلام السياسى (البازار المصرى) والليبرالية اليمينية. وهناك تناقض جذرى بطبيعة الحال بين قوى الثورة ككل وقوى الثورة المضادة ككل. وهناك بالطبع تناقضات لا ينبغى الاستهانة بها بين مؤسسات الدولة وقوى الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية، وكذلك فى صفوف قوى الإسلام السياسى من إخوان وسلفيِّين وغيرهم فيما بينهم، وداخل كل قوة من هذه القوى. ولا شك فى أن هذه التناقضات تفعل فعلها منذ اندلاع الثورة وفى الوقت الحالى وستظل تفعل فعلها فى المستقبل.
وتملك الثورة المضادة بالطبع ميزة القوة العددية الضخمة والموارد المالية الطائلة غير أنها تخسر قلب الشعب لوقوفها ضد نضالات طبقات الشعب لتحقيق مطالبها الأكثر ضرورية كأصحاب عمل من جانب قطاعات من الثورة المضادة وككاسرة إضراب أيضا من جانب قطاعات أخرى منها. وتفتقر القوى المخلصة حقا للثورة إلى القوة العددية اللازمة للمبادرات الثورية والاستفتاءات والانتخابات كما تفتقر إلى الموارد، غير أنها تملك ميزة أنها هى التى فجرت الثورة واستمرت بها، وأنها تقف موقف التأييد بنشاط وحزم إزاء المبادرات النضالية والمطلبية للطبقات الشعبية.
وسوف تتوقف الترجمة النهائية لكل هذا فى مختلف التفاعلات السياسية القادمة، من مبادرات نضالية ومشروعات لمختلف قطاعات الثورة المضادة وانتخابات پرلمانية ورئاسية واستفتاءات وغير ذلك، على قدرة الثورة على الاحتفاظ بقوة دفعها، وعلى التسلح المتزايد بمزيد من الوعى بطبيعة الثورة وما يترتب على ذلك من مواقف وأهداف ومبادرات وأشكال نضال، كما أنها سوف تتوقف على الصراعات الكبيرة المحتملة فى صفوف مختلف قطاعات الثورة المضادة. وينبغى أن يبتعد الثوار عن التصورات الشعبوية عن الانسجام الكامل بين قوى الثورة المضادة؛ مثلا التصورات المتعلقة بتوافق بين أمريكا والسعودية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة على تولية الإخوان المسلمين كما يُشاع، رغم صعوبة ذلك.
والحقيقة أن نقطة ضعف خطيرة إلى جانب نقاط ضعف أخرى فى صفوف الثورة المضادة تتمثل فى التناقض فيما بينها وهو تناقض ينطوى ليس فقط على التوترات الحالية والخديعة المتبادلة الراهنة بل ينطوى على صراعات وصدامات طاحنة محتملة، على حين تتمثل ميزة كبيرة فى صفوف القوى الحقيقية للثورة فى أن تناقضاتها الداخلية لا تنطوى على صراعات طاحنة فيما بينها رغم تمزقها إلى منظمات وأحزاب وتيارات ومجموعات وحلقات واتحادات وتلاوين لا حصر لها.
وأعتقد أن شعار "الثورة أولا" الذى برز فى فترة من فترات الثورة فى مواجهة شعارات مثل "الدستور أولا" أو "الانتخابات أولا" قد انطلق من غريزة ثورية تعى جيدا أن القضية المطروحة ليست قضية انتخابية أو دستورية، انطلاقا من واقع أن الوضع الراهن يفتقر أصلا إلى أىّ شرعية دستورية بل يستند إلى المقتضيات العملية لانقلاب عسكرى يهدف إلى المحافظة على النظام بعد التضحية الاضطرارية برأسه، وليس من المتوقع أصلا أن يلتزم قادة الانقلاب بأىّ نزاهة انتخابية أو أىّ ضمانات حازمة ضد التزوير المباشر لأن مصالح النظام والطبقة المالكة هى التى ستحدد طبيعة سلوك الانقلابيِّين إزاء قوى تسعى إلى القفز على السلطة بما يمكن أن ينقلب فى نهاية المطاف على مصالح الانقلابيِّين والنظام الذى أتوا للدفاع عن استمراره مع أىّ أخذ محدود فى الاعتبار بطبيعة الحال للعبر والدروس المستفادة من سلوك حكم الشخص وأسرته ورجاله مدفوعين بشراهة لا تُشبعها أموال قارون ولا كنوز الأرض، ومن جبروت مفزع، بدلا من عقلانية كافية للالتزام بدرجة من التوازن والحساب والإدراك للمصير المحتوم للطمع المنفلت فى المال والسلطة.
ومن هنا أعتقد أنه ينبغى إعطاء الأولوية لتطوير الثورة بصورة متواصلة من خلال تطوير الديمقراطية من أسفل، ليس من خلال تكوين أحزاب أو نقابات أو غيرها فى غرف مغلقة يجرى تشكيل لجانها وهياكلها وإعداد برامجها بمواصلة خلق هذه الأشكال النضالية بل من خلال مواصلة المعارك العنيدة لتحقيق أهداف الثورة وخوض معاركها ضد الهجوم المتواصل من جانب مختلف قوى وقطاعات الثورة المضادة، وذلك بكل الوسائل التى تملكها الشرعية الثورية.
24 سپتمبر 2011
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
1
ثورة تونس:
نحو الاستقلال الحقيقىّ والتنمية الحقيقية
1: منذ أكثر من شهر تتواصل فى تونس انتفاضة شعبية عاصفة كبرى تزداد اتساعا وعمقا ووعيا كل يوم فى مسيرة عنيدة بدأت بالاحتجاجات الاجتماعية وانتهت إلى شعارات الثورة السياسية. وبنجاح هذه الانتفاضة فى الإطاحة بنظام زين العابدين بن على، حيث لم تعد الإطاحة ببقاياه سوى مسألة وقت، يمكن القول إن ثورة سياسية قد تحققت فى تونس.
2: تتمثل الثورة السياسية بوجه عام فى إحلال نظام سياسىّ محل نظام سياسىّ آخر مختلف. ويمكن أن يبقى النظام الجديد ضمن نفس النظام الاجتماعى السابق، ضمن نفس نمط الإنتاج، أىْ دون الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر، غير أنه يمكن أن يفتح الطريق أمام ثورة اجتماعية تنقل المجتمع من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر، مثلا من الإقطاع إلى الرأسمالية، أو من الرأسمالية إلى الاشتراكية. ويمكن أن تحدث الثورة السياسية من خلال تطورات تقودها انقلابات عسكرية من نوع أو آخر، ومنها الانقلاب العسكرى الذى يؤيده الشعب ومثاله البارز هو ثورة 23 يوليو 1952 السياسية فى مصر، كما يمكن أن تحدث من خلال تطورات ثورات شعبية تبرز داخلها إحدى قواها الأكثر تنظيميا وفاعلية وتكون قادرة على الانفراد بقيادة النظام الناشئ عنها وتفريغ الثورة الشعبية من محتواها والمثال البارز هو الثورة الإيرانية التى نشأ عنها النظام الثيوقراطى الخمينى. ويتمثل الخيار الأفضل أو الظرف الأفضل بالأحرى فى أن تكون الثورة السياسية شعبية وديمقراطية مهما يلعب فيها الجيش أو أى أجهزة أخرى دورا إيجابيا ما فى بعض مراحل تطورها فى اتجاه المساعدة على انتصار الثورة الشعبية. والثورة التونسية الحالية ثورة سياسية شعبية، فلم تكن ثورة شعبية اندلعت لتأييد انقلاب عسكرى، كما أنها ليست ثورة شعبية يمكن أن تركبها قوة سياسية مثل الخمينية حيث لا توجد داخل ثورة تونس قوة أكثر سيطرة ونفوذا من القوى السياسية الأخرى. وبالتالى فإن الأمل كبير فى تطورها فى الاتجاه الصحيح بحيث لن يكون من السهل على أحد القيام بسرقتها وتصفيتها، على الأقل فى المدى المنظور.
3: وهى ثورة سياسية لأنها أطاحت بنظام سياسى وتتجه إلى إحلال نظام سياسى مختلف محله، وذلك ضمن الإطار التاريخى العام للنظام الاجتماعى الذى تتجسد فيه حالة العالم الثالث. والنظام السياسى الذى تجرى الإطاحة به نظام سلطوى، وشمولى، وفاشى، وديكتاتورى، وپوليسى، ومطلق، وشخصى، وإدماجى (كورپوراتى: يدمج الدولة والحزب والنقابة وكل شيء فى كيان واحد يصادر الحياة السياسية والفكرية والنقابية والسياسية). وبمجرد نجاح الانتفاضة فى الإطاحة ببقايا النظام البائد بقيادة ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية، ولم يعد هذا النجاح على كل حال سوى مسألة ساعات أو أيام، سيحل محله نظام سياسى مختلف تماما يتمثل فى جمهورية ديمقراطية تعددية تقوم على دستور جديد يطلق حريات تكوين الأحزاب والحركات والجمعيات والنقابات ويطلق حرية التعبير والصحافة والإعلام، إلخ....، كما تقوم على التزام نابع من طبيعة الانتفاضة الشعبية وأهدافها بتغيير سريع يركز على القضاء على الفساد ورفع مستويات معيشة طبقات الشعب العاملة والكادحة التى عانت الإفقار المتواصل والبطالة والجوع بمستويات كارثية هى الوجه الآخر للفساد. ولا جدال فى أننا سنكون بذلك أمام ثورة سياسية شعبية حقيقية.
4: على أن الخطر المباشر الذى تواجهه الثورة التونسية منذ بدايتها الأولى يتمثل فى الثورة المضادة قبل وبعد الإطاحة بالطاغية. وتتمثل إستراتيچية الثورة المضادة فى محاولة إنقاذ النظام من خلال ما يسمى بالحكومة الوطنية تحت سيطرة رجال بن على مع تطعيمها وتزيينها بأحزاب متعاونة وإقصاء الأحزاب والقوى والحركات التى ظلت مستبعدة طوال العمر المديد لنظام بن على. غير أن الثورة الشعبية يتغلغل فيها الوعى بصورة متزايدة العمق بفضل قوة الانفجار الشعبى وعمق دواعيه وبفضل المزيد والمزيد من الاندماج بين الشعب التونسى والطليعة السياسية والنقابية والفكرية التونسية، ويمكن القول إذن إن الشعب التونسى يوشك على الإطاحة بهذه الثورة المضادة المتمثلة فى رجال العهد البائد الذين يحاولون خداع الشعب بالتنازلات والوعود المتوالية تحت الضغط الشعبى المتواصل، وكذلك بالقمع والترويع بكل قسوة.
5: والجمهورية الديمقراطية التعددية شعار سليم، وينبغى أن يحدد أسسها دستور جديد يطرحه على الشعب مجلس تأسيسى تحت أى اسم بعد أن تشرف على تكوينه حكومة إنقاذ تحت أى اسم تضم طليعة كل القوى الحية، بأحزابها وحركاتها ونقاباتها إلخ.، التى ظلت محظورة فى ظل نظام بن على، من خلال تعددية حقيقية. على أن ما يبدو غائبا أو باهتا فى الشعارات السياسية التونسية المتداولة الآن يتمثل فى شعارىْ الپرلمانية والعلمانية، رغم أهميتهما الحاسمة كضمانتين أساسيتين للديمقراطية التعددية للنظام الجديد.
6: وبدلا من الاندفاع نحو الترشح أو الترشيح لرئاسة الجمهورية، كما تفعل قيادات سياسية تونسية بارزة فى الوقت الحالى (منصف المرزوقى وراشد الغنوشى وغيرهما)، ينبغى التخلى عن مبدأ الجمهورية الرئاسية لصالح الجمهورية الپرلمانية، لتحل محورية الپرلمان المنتخب محل محورية رئيس الجمهورية، باعتبار الپرلمان المركز الحقيقى للسلطة التشريعية والرقابية للدولة، ويكون رئيس الوزراء (أو الوزير الأول)، القادم من خلال انتخابات نيابية، مع حكومته مسئولا أمامها. ولا شك الآن فى أفضلية الجمهورية الپرلمانية على الجمهورية الرئاسية، كما تشهد التجربة التاريخية لهذين النوعين من الجمهورية اللذين تحوَّل النوع الرئاسى منهما إلى نوع من النظام الهجين الجمهورى-الملكى الأوتوقراطى الذى يقوم على التمديد والتوريث؛ التمديد مدى الحياة للرؤساء والتوريث للأولاد أو الأقارب أو الأصهار، بحيث صار النظام الملكى هو السائد فى العالم الثالث بوجه عام، وفى المنطقة العربية بوجه خاص، ليس من خلال النظام الملكى الوراثى التقليدى القديم برئاسة ملك فقط، بل كذلك من خلال النظام الجمهور-ملكى الوراثى الجديد برئاسة رئيس جمهورية.
7: كذلك فإن العلمانية يمكن أن تكون الحصن الحصين أمام تديين السياسة وتسييس الدين اللذين يُحَوِّلان أغلب بلدان المنطقة إلى ساحة لصراعات وحروب صدام الثقافات، ويُرَسِّخان الطائفية على أنقاض المواطنة، ويفرضان نموذجا شموليا إقصائيا فى الحكم. والعلمانية ببساطة هى فصل الدين عن الدولة باعتبارهما مبدأين لا يلتقيان أصلا. فالدولة مجالها حماية الاستغلال والقهر لصالح الطبقة الحاكمة، والدين مجاله الفضائل الكبرى التى بلورتها خلال عشرات ومئات آلاف السنين تجربة طويلة لنوعنا البشرى وصانتها الوثنيات والأديان والفلسفات والقوانين الوضعية التى لا يمكن أن تقوم حياة بشرية صحيحة بدون وضعها فى مكانة عليا باعتبارها المُثُل العليا، مهما كانت أفعال البشر وأخلاقهم دون مقتضياتها، لخضوع حياة البشر قبل كل شيء لمبدأ آخر يتمثل فى الأحوال أو الأبنية الاجتماعية-الاقتصادية، وباختصار لقواعد حرب الكل ضد الكل. وإذا كانت الأصوليات الدينية، ومنها الأصولية الإسلامية، تشوِّه العلمانية على أنها إلحاد وكفر، نتجة سوء الفهم أو سوء النية، مع أنها ليست فى المحل الأول سوى الفصل بين الدين والدولة، فهى إنما تفعل ذلك لأن العلمانية عقبة حقيقية أمام استغلال الدين فى السياسة من خلال تقديس السياسة الاستغلالية الظالمة وتسييس المقدَّس لنفس الغاية. ولن يحمى مجتمعاتنا العربية، التى تمزقها الصراعات والفتن والحروب الطائفية والدينية إلى حد اضطهاد ومحاربة وتهجير المسيحيين، من السقوط فى هاوية نهائية، سوى العلمانية، التى تعنى فيما تعنى رفض قيام الدولة الدينية لطبقة حاكمة قائمة، أو فى طور التكوين من خلال حركة دينية سياسية تستغلّ الدين لتحقيق غاياتها التى تتمثل موضوعيا، أىْ من حيث النتائج الفعلية، ومهما كانت نوايا مثل هذه الحركة، فى الاستغلال الطبقى. أىْ أن العلمانية تعنى فيما تعنى تحرير الدين والإنسان المتدين وباقى المواطنين من الدولة الثيوقراطية الظالمة القائمة أو المستهدفة. وبطبيعة الحال فإن الأصوليات الدينية-السياسية تقوم على تصور فحواه أن تطبيق الفضائل الكبرى المشار إليها فى حياة البشر إنما هو فى سبيل تحقيق العدل والإنصاف والمساواة، غير أن التجربة التاريخية للحكم الثيوقراطى خلال آلاف السنين تُثْبِت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا التصور المتفائل ليس سوى وهم خادع ولم يكن طوال ذلك التاريخ سوى سلاح إضافى جبار للاستغلال والقهر، يتمثل فى دولة دينية ليست فى جوهرها الحقيقى سوى أداة أشد فتكا من أى دولة عادية أو مدنية فى أيدى طبقة حاكمة: عبودية، أو إقطاعية، أو رأسمالية.
8: ينبغى أن تكون هذه الثورة السياسية الشعبية التونسية ثورة ضد الاستقلال الوطنى كما تحقق فى تونس وغيرها فى المنطقة العربية والعالم الثالث. ومعنى هذا أنها ينبغى أن تكون ثورة ضد التبعية الاستعمارية المعروفة بالاسم الخادع: الاستقلال الوطنى. وبدلا من الاستقلال بمفهوم القانون الدولى، رغم بقاء التبعية الاستعمارية الاقتصادية والسياسية، تنطوى هذه الثورة السياسية على إمكانية الاستقلال الحقيقى الذى يقف على أسس متينة من الديمقراطية التعددية الشعبية. والحقيقة أن الاستقلالات الناشئة عن انقلابات عسكرية، وحتى عن انقلابات عسكرية أيدها الشعب، بل حتى أى ثورة شعبية مغدورة جرت سرقتها وتصفيتها على يد قوة سائدة من قواها، كانت استقلالات مفرغة من محتواها، وكانت تبعية تحت الاسم التنكرى للاستقلال، مما أدى إلى إخفاق الاستقلالات والتنميات التى اتضح أنها كانت تخفى التبعية الاستعمارية والتخلف والاستغلال الاقتصاديين والفساد الشامل والقهر السلطوى. ولم يكن زيف الاستقلال ناشئا بالضرورة عن فساد الانقلابيِّين، ذلك أنه كانت هناك أيضا انقلابات عسكرية لشباب مخلصين ثاروا من أجل أوطانهم بدوافع وطنية نبيلة، غير أن الانقلابيّين بكل أنواعهم الوطنية والعميلة كانوا يقومون بأدوارهم ضمن إطار تاريخى غير موات لأى تقدم جذرى، وهو إطار تمثَّل فى واقع اجتماعى-اقتصادى نشأ عن التحولات الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية-الثقافية التى جرت فى المستعمرات وأشباه المستعمرات منذ أواخر القرن التاسع عشر فى أغلب البلدان وقبل ذلك بكثير جدا خاصة فى الهند والجزائر (مع الوضع الخاص لأمريكا اللاتينية من حيث طبيعة المستعمِر الأصلى ومن حيث طبيعة تلك المستعمرات)، وذلك منذ استقرار ما بعد الكولونيالية؛ وليس المقصود بهذا عهد ما بعد الاستقلال بل العهد الذى يبدأ بالاحتلال الكولونيالى ويستمر فى عهد ما بعد الاستقلال، ذلك أن عهد ما بعد الاستقلال لا يمكن إلا أن ينطلق من حقائق البنية التى أقامها عهد الاستعمار الكولونيالى والذى كان قد قام بدوره على أنقاض النظام التقليدى الموروث عبر القرون فى كل بلد كان قد تخلف عن أن يكون جزءًا من التطور الرأسمالى الأوروپى العام. والمهم هنا أن النظام الاجتماعى الاقتصادى الذى نشأ عن الكولونيالية واستمر بعد تصفيتها المزعومة كان لم يَعُد النظام التقليدى الموروث، غير أنه لم يتحول إلى نظام رأسمالى بالمعنى الصحيح، كما أنه لم يكن نظاما انتقاليا فى اتجاه طريق التطور الرأسمالى الذى كان قد صار طريق مسدودا. وصارت تلك البلدان مجرد ساحة للاستغلال الاستعمارى الذى كان يقتضى بالضرورة إعادة خلقها على صورة الغرب أىْ كموضوع لاستغلاله المتواصل بعيدا عن الرأسماليات القومية التى لم تنشأ فى هذه البلدان لأنها لا تقوم إلا على أساس بناء صناعة حديثة شاملة مكتملة الحلقات، وبعيدا عن الاستقلالات الوطنية المزعومة والتنميات الاقتصادية-الاجتماعية التى انتهت إلى الإخفاق فى نهاية المطاف.
9: يتضح مما سبق أنه بدون تنمية اجتماعية-اقتصادية شاملة تقوم على صناعة حديثة متطورة، وتحديث شامل، ومساواة وعدالة اجتماعية، ورفع مستويات المعيشة، يظل بلد ما بعد كولونيالى، مثل تونس، عاجزا عن الاستقلال الوطنى، عاجزا عن الخروج من القفص الحديدى للتبعية الاستعمارية، عاجزا عن تفادى تكرار نفس الكابوس فى الأجل الطويل مع أنه يُزاح الآن دون شك. ويمكن القول إن هذا هو التحدى الكبير الذى يواجه هذا البلد الذى لا يعكس معدل نموه المرتفع نسبيا سوى حجم الخدمات بنسبة أكثر من ثلاثة أخماس (والسياحة بوجه خاص) الناتج المحلى الإجمالى، على حين أن هذا الاقتصاد الهش يقوم على نسبة الربع للصناعة التى لا تعدو أن تكون صناعة خفيفة تقوم على صناعة الملابس والأحذية والصناعة التركيبية للسيارات والصناعة الاستخراجية، مع نسبة العشر للزراعة. فكيف يستطيع هذا الاقتصاد امتصاص البطالة، ورفع مستويات المعيشة بصورة ملموسة ومستقرة، وتحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية، والقدرة الاقتصادية على استيعاب كل نتائج الحريات الحقيقية؟ ولا شك فى أن استعادة ومصادرة الأموال الطائلة التى سرقها بن على وأقاربه وأصهاره وأعوانه وطبقته يمكن أن تمول الكثير من الاستثمارات، كما أن القدرة الكامنة لتونس على اجتذاب كثير من الاستثمارات يمكن أن تصنع الكثير، غير أن كل شيء يتوقف على العقلية التى سوف يدار بها الاقتصاد: العقلية التى تركز على الاعتبارات الاقتصادية التقليدية من الحجم الكلى للإنتاج، إلى معدل النمو الاقتصادى، إلى التوظيف، إلى الاستثمار، إلى مجرد تنمية الصادرات أو إحلال الواردات، إلخ.، أم العقلية التى تنظر إلى التنمية الاقتصادية-الاجتماعية الشاملة وفى قلبها الصناعة والعدالة كأداة لا غنى عنها للقضاء على التبعية وتحقيق الاستقلال الحقيقى والانتقال إلى النظام الرأسمالى الحقيقى الذى لا يمكن أن تتجاوز حتى مثل هذه التنمية الشاملة نطاقه التاريخى، والذى يعنى الانتقال إليه الخروج من نمط الإنتاج التقليدى الموروث عبر القرون إلى نمط الإنتاج الرأسمالى الذى يشكل المقدمة الطبيعية فى مدى أبعد كثيرا للثورة الاشتراكية والنظام الاشتراكى بعيدا عن الشعارات الاشتراكية الثوروية التى أوضحت التجارب التاريخية العديدة والطويلة حقيقتها الديماجوچية الجوفاء. وهذا الانتقال من نمط الإنتاج القروسطى إلى نمط الإنتاج الرأسمالى عبر الطريق المتعرج المتمثل فى العهد ما بعد الكولونيالى بالمعنى الوارد أعلاه يعنى تحول الثورة السياسية الشعبية العاصفة إلى ثورة اجتماعية بالمعنى الحقيقى؛ فالثورة الاجتماعية لا تعنى قيام ثورة أو نظام بإصلاحات اجتماعية واسعة وعميقة بل تعنى الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج لاحق، مثلا من الإقطاع إلى الرأسمالية أو من هذه الأخيرة إلى الاشتراكية.
10: غير أن العقبة الكئود التى تسد طريق الاستقلال الحقيقى والقضاء على التبعية الاقتصادية وتحقيق التنمية الشاملة والثورة الاجتماعية إنما تتمثل فى قوة جبارة اسمها الإمپريالية العالمية بقيادة الإمپراطورية الأمريكية وهؤلاء الاستعماريون يحاربون كل تنمية مستقلة، كما تثبت التجربة فى كل أنحاء العالم الثالث. وإذا كنا توهمنا فى زمن ما أن الغرب يريد لنا أن نتحول إلى بلدان رأسمالية بدلا من التحول إلى بلدان اشتراكية فقد اتضح أن هذا مجرد وهم، على حين تتمثل السياسة الاستعمارية الحقيقية لبلداننا فى أن نبقى على ما نحن عليه كشرط ضرورى لسيطرة الإمپريالية والإمپراطورية على العالم. ومن هنا سيكون على الثورة التونسية أن تستغل كل التناقضات التى يحفل بها العالم لتحقيق تنميتها الاقتصادية-الاجتماعية الشاملة بعيدا عن الاعتماد على العلاقات الغربية الأكثر تركيزا على اعتراض سبيل التطور الصناعى فى العالم الثالث، رغم أوضاع فرضت عليها العكس فى بعض المناطق فى الماضى (النمور أو التنانين الآسيوية الأصلية).
11: لم تكن الثورة التونسية عاصفة فى سماء صافية، فقد عانى الشعب الفقر بمقاييس مفزعة، كما عانى الاستبداد بمقاييس مفزعة، واستمر كل هذا زمنا طويلا مثيرا للفزع، ليس فقط خلال أكثر من عشرين عاما من حكم بن على، وليس فقط منذ صار هذا الطاغية رجل تونس القوى فى عهد بورقيبة، بل منذ الاستقلال الاسمى ذاته. وتحت هذا الضغط الاستثنائى (الذى كان قد صار مثيرا بقوة لمخاوف الإمپراطورية الأمريكية ذاتها على مصالحها فى تونس والمنطقة) كانت قد تولَّدت إمكانية انفجار هائل إلى حد النجاح فى الإطاحة بمثل هذا النظام. وعندما انفجر الشاب التونسى فأحرق نفسه لم يكن هذا فقط بسبب فقره وبطالته بل ليأسه الكامل فى ظل هذا النظام من أى تحسين ممكن لأحواله هو وأسرته. وإذا كان هذا سببا "اجتماعيا" لمأساة انتحاره فقد كان أيضا سببا "سياسيا" بامتياز، فقد اتضح فى لحظات أن الشعب التونسى كله كان فى مثل حالته، مهيَّأً للانفجار والاحتراق وفتح الصدور للرصاص. وفى مسار سريع عاصف ومتزايد الوعى صار الانفجار الشعبى شاملا من جانب وسياسيا وثوريا من جانب آخر ونجح فى الإطاحة بنظام زين العابدين بن على.
12: وكما أن هذه الثورة لم تكن عاصفة فى سماء صافية كما يقال فإنها لن تهدأ بسرعة وسيكون عليها أن تواصل تأمين مسيرتها وأن تتقدم نحو تحقيق مهامها وأهدافها المباشرة والفورية لتنطلق مسيرتها الطويلة على طريق تحقيق الاستقلال الحقيقى والقضاء على التبعية الاستعمارية وإنجاز الثورة الاجتماعية. غير أن الزلزال التونسى ستكون له من الآن توابع عربية وعالمية بالغة الأهمية. ذلك أن الشعوب العربية تعيش فى أوضاع مماثلة بوجه عام ولكن مع اختلافات أحوال الاقتصاد وغير الاقتصاد فى مختلف البلدان. وإذا تركنا جانبا البلدان النفطية الغنية مع القلة النسبية للسكان (بلدان الخليج وليبيا)، وكذلك البلدان النفطية الغنية ولكنْ الكبيرة السكان (الجزائر والعراق) التى قد يجعلها دخلها الهائل قادرة على خلق توازنات داخلية جديدة وتقديم تنازلات لها وزنها رغم تطور اندلاع الاحتجاجات فى الجزائر والحرب فى العراق، فإن هناك بلدانا صغيرة ومتوسطة وكبيرة من حيث السكان ويمكن القول إنها جميعا فقيرة ولكل منها ظروف خاصة: المغرب والأردن بلدان ملكيان (التمديد والتوريث فيهما شرعيان رغم الفقر الشديد فيهما ورغم اتساع نطاق الحركة الشعبية فى الأردن ولكن مع وجود الجوار الإسرائيلى الجاهز للتدخل عند الضرورة)؛ والأوضاع مهدِّدة بالتفجر فى لبنان الممزق بالطائفية والمهدَّد بتجدد الحرب الأهلية أو العدوان الإسرائيلى أو الأمرين معا، وسوريا فقيرة غير أن أراضيها محتلة وهى مثل الأردن ولبنان والفلسطينيِّين مهدَّدة بإمكانية التدخل والحرب من جانب إسرائيل؛ ويشهد اليمن انفجارا هائلا للحركة الشعبية ولكنْ المتشابكة مع أبعاد أخرى مثل القبائل ودورها والقاعدة والحوثيِّين والحراك الجنوبى والتدخل الأمريكى؛ أما مصر الفقيرة كدولة الغنية كطبقة حاكمة والتى يعيش فيها الشعب نفس الفقر والفساد والقمع ويتحرك أيضا فإن لها حسابات بالغة التعقيد؛ وهناك موريتانيا الفقيرة والتى تتطور فيها حركة شعبية ضد النظام الانقلابى الذى تزين منذ فترة بالانتخابات؛ ويبقى السودان الذى يعيش مهددا ليس بالفقر والقمع والحرب فقط بل كذلك - وكنتيجة لفقر الشعب وقهره - بالتقسيم الأوسع نطاقا من انفصال الجنوب وهذا يعنى أن ثورة شعبية حقيقية فى السودان تبدو ممكنة كما تبدو قادرة على الخروج بالسودان سالما من هذا الوضع رغم العقبة الكبرى التى يمثلها الانقسام الطائفى والعرقى والأقاليمى والحروب الداخلية أمام توحيد الشعب ذاته. ويتضح من هذا أن الحركة الشعبية الاحتجاجية تشتعل أو تبدأ فى الاشتعال فى بلدان منها اليمن والأردن والسودان والجزائر، كما يمكن أن تنضم إليها شعوب بلدان فقيرة واستبدادية أخرى، غير أن ظروفها متنوعة فلا ينبغى التعميم، خاصة أن الطبقات الحاكمة فى هذه البلدان تختلف من حيث مدى التنازلات الاجتماعية والديمقراطية التى يمكن أن تقدمها لتفادى مصير شقيقتها: الطبقة الحاكمة التونسية، وكذلك ضغوط أمريكا والشمال على الأنظمة العربية الحاكمة حتى تتفادى خسارة أنظمة حليفة أو عميلة أخرى.
13: وأخيرا وكما قال أديب عالمى حكيم فإننا نقتل الوقت غير أن الوقت يدفننا. والمقصود أن العامل الزمنى مهم للغاية. وبالتالى يجب أن تتقدم الثورة التونسية نحو تأمين مصيرها ضد سرقة الثورة من الداخل والتدخل من الخارج من جانب دول عربية وغربية، بالإطاحة فورا بنظام رجال ومؤسسات بن على وبتأسيس جمهورية ديمقراطية پرلمانية (غير رئاسية) وعلمانية فى تونس.
القاهرة 23-1-2011
 
 
 
2
الشعب المصرى يريد إسقاط النظام
1: تتواصل الثورة المصرية الكبرى بادئة أسبوعها الثالث وهى تزداد انتشارا واتساعا وعمقا ونضجا وتهز مصر والعالم العربى والشرق الأوسط والعالم، تهز عروش الديكتاتورية المصرية وشقيقاتها الديكتاتوريات العربية وكل ديكتاتورية فى العالم الثالث، عروش الرؤساء والملوك والأمراء والسلاطين، وكذلك عروش الأسياد والأپاطرة الإمپرياليين.
2: وخلال الأسبوعين السابقين من الثورة تطورت الانتفاضة الشبابية السياسية إلى ثورة شعبية كاملة الأوصاف بحجمها العملاق الهائل حيث شملت الشعب المصرى فى كل أنحاء مصر بكل طبقاته الدنيا والصغيرة والمتوسطة وقواه السياسية بأحزابها التى تتعاون قياداتها مع النظام ضد إرادة قواعدها ومختلف الحركات والتجمعات والجمعيات والجبهات السياسية والمدنية وامتدت إلى الإخوان المسلمين الذين سرعان ما تخلوا عن موقفهم السلبى إزاء بلطجة النظام أثناء الانتخابات النيابية فانضموا إلى الثورة بكل قوتهم فعززوا قوة وصمود واندفاع وصلابة الثورة كما عززت الثورة قوتهم سياسيا وتنظيميا وجماهيريا. كما تأتى كل فئات الشعب على أرضية الثورة السياسية بمطالبها الاجتماعية والاقتصادية والفئوية والنقابية وتتجه إلى إضرابات واعتصامات العمال ومختلف فئات العاملين، وهى ثورة تتطلع إلى حياة كريمة ومستويات معيشة لائقة بدلا من حياة القهر والعشوائيات والقبور تحت خط الفقر.
3: وهى ثورة سياسية بامتياز حيث تركزت أهدافها الأساسية كما عبرت شعاراتها على إسقاط النظام مطالبة بالحرية والعدالة، وبرزت فى المقدمة الشعارات المطالبة بإسقاط الرئيس مبارك، والدستور، والپرلمان بمجلسيه، والحزب الوطنى الحاكم، وقانون الطوارئ، والفساد، بالإضافة إلى المطالبة بالعدالة بالمستويات المعيشية اللائقة، والحياة الكريمة، والأجور العادلة، والقضاء على البطالة الواسعة النطاق، والاستغلال الوحشى، والغلاء الفاحش، والتضخم الجامح، والأسعار المسعورة، وغير ذلك. وبكل هذا صارت مصر تشهد ثورة ربما كانت هى كبرى الثورات الشعبية (التى من نوعها) طوال العصر الحديث على ظهر الكوكب بأكمله. وعلى هذا النحو تحقق المكسب الكبير واليقينى الأول للثورة منذ اليوم الأول والأيام الأولى ألا وهو عودة الروح إلى الشعب الذى سيكون على كل نظام حاكم فى المستقبل أن يعمل له ألف حساب فى كل الأحوال، والذى سوف يبنى حياته الجديدة فيما نأمل وفقا لمقتضيات مصالحه الأساسية فى التغيير الجذرى لشكل الحكم من خلال جمهورية پرلمانية وليست رئاسية، وفى إقامة الديمقراطية الحقيقية من خلال التفاعل الفكرى والسياسى والثقافى الواسع النطاق والعميق والفاعلية الحرة من كل القيود للأحزاب والنقابات وكل أشكال وأنواع الاتحادات والروابط والجمعيات، وفى تحقيق الاستقلال الحقيقى والتنمية الاجتماعية-الاقتصادية الشاملة وصولا إلى إنجاز الثورة الاجتماعية. 
4: والشعار الأساسى لهذه الثورة هو: الشعب يريد إسقاط النظام. فماذا يعنى النظام؟ وماذا يعنى إسقاطه؟ ولعل من الملائم أن نقول إن النظام إنما يعنى فى هذا السياق عدة أمور أساسية منها شكل الحكم المتمثل حاليا فى نظام الحزب الواحد الذى ورث الاتحاد الاشتراكى القديم مهما سمح إلى جانبه بقيام أحزاب ديكورية هزيلة بحكم التضييق الپوليسى والإدارى والقانونى عليها مع ترسانة من القوانين والترتيبات التى تحظر التأسيس الحر للأحزاب وغيرها من أدوات النضال السياسى والاجتماعى والاقتصادى والنقابى والفكرى، مع ترسيخ هياكل وآليات شاملة لتزييف إرادة الشعب فى الانتخابات العامة والمحلية كل عدة أعوام عن طريق التزوير والبلطجة والترويع وشراء الذمم والقيود التشريعية والقانونية غير الدستورية، وفى ظل وكنف مثل هذا الشكل الديكتاتورى الپوليسى للحكم تنمو وتعشش كل أشكال وأنواع الفساد، هذا الفساد الذى أمسك بخناق المجتمع المصرى من رأسه إلى أصابع أقدامه، وهو فساد لا يقتصر على شكله الرئيسى المتمثل فى تكوين الثروات الطائلة التى تتكدس فى بنوك سويسرا وغيرها بفضل الاستغلال الفاحش واللصوصية والنهب على أوسع نطاق، وبالأخص من خلال الخصخصة التى تمت بأساليب لصوصية للقطاع العام وأملاك وأراضى الدولة، بل يمتد هذا الفساد إلى كل مناحى ومجالات الحياة العامة بصورة شاملة من خلال الرشاوى فى كل خطوة واستغلال النفوذ فى كل معاملة. والحقيقة أننا، كما سبق القول، إزاء ثورة سياسية لن يتحقق نجاحها إلا بإسقاط هذا النظام بشكل حكمه الديكتاتورى وبكل آليات فساده وبكل رجاله وبكل تراكم ثرواته من خلال التأميم والمصادرة واسترداد أموال الدولة التى هى أموال الشعب. ورغم الأهمية الحاسمة لشكل الحكم فإن إسقاط النظام يعنى ضمن ما يعنى هدمه وبناءه بالكامل ليس بشكل الحكم فحسب بل بكل نتائج عقود طويلة من تراكم الثمار المرة للفساد فى ظل كل الرئاسات السابقة والذى بلغ ذروته فى ظل رئاسات الرئيس محمد حسنى مبارك.  
5: ونتجة للحجم الهائل للثورة وسرعة انتشارها واستمرارها العنيد بصورة يومية وفشل المواجهات الأمنية الأولى، اضطر النظام إلى سلسلة من التنازلات تتواصل مع تواصل الثورة، بخطوة تنازل حقيقى أو شكلى مع خطوة أو خطوتين أو أكثر من التصعيد الثورى، على أمل وضع حد لها، بدأت بتعيين رجل المهام الصعبة، اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة، نائبا للرئيس بعد ثلاثين عاما من رفض أىّ حديث عن نائب له، بإقالة حكومة نظيف وتكليف الفريق أحمد شفيق، وزير الطيران المدنى، بتشكيل حكومة جديدة، جمعت بين عدد من وزراء حكومة نظيف وعدد آخر من الوزراء الجدد الذين انضموا إليها مدفوعين بمصالحهم أو بطموحاتهم الشخصية وعبوديتهم الذليلة إزاء النظام حتى فى مثل هذه اللحظة، ويجدر بالذكر أن سليمان و شفيق من أقرب المقربين من الرئيس وكانت الشائعات ترشحهما لخلافة مبارك للقيام بدور "المحلل" قبل التوريث، على طريقة پوتين و ميدڤيديڤ قبل "التمديد" بالعودة إلى الرئاسة الروسية. ولأن هاتين الخطوتين لم تكونا كافيتين أمام تواصل الثورة بمزيد من الاندفاع جاءت خطوة تعهُّد مبارك بعدم ترشيح نفسه، وتأكيد عمر سليمان أن جمال مبارك بدوره لن يرشح نفسه للرئاسة. والخطوة التى تمثل التنازل الحقيقى الوحيد بين هذه الخطوات هى التنازل عن الترشيح أىْ وضع حد لمخططات التمديد أو توريث الأبناء والإخوة والأصهار، أىْ وضع حد لمشاريع الجمهوريات الملكية، فى العالم العربى، والعالم الثالث، وقد صار هذا يقينيا بعد الثورة فى تونس ومصر. أما تعيين النائب وإقالة الحكومة فإنهما مثل كل الخطوات التالية مناورات خادعة يتمثل محتواها الحقيقى فى التسلح بأدوات ووسائل إضافية لتحقيق الهدف الكبير للنظام فى هذه الفترة وهو إنقاذ النظام بالتضحية ﺑ مبارك وأسرته وببعض كباش الفداء الأخرى من الوزراء ومسئولى الأمن والحزب الوطنى وبعدد من رجال الأعمال. وصار إنقاذ النظام يتمثل فى الاحتفاظ بدستوره ومؤسساته عن طريق "ترقيع" المؤسسات التى تطالب الثورة بإسقاطها وإلغائها وإبطالها: الاحتفاظ بالدستور عن طريق ترقيعه بدلا من إلغائه ليحل محله دستور جديد من إملاء الثورة الشعبية؛ الاحتفاظ بالپرلمان (بمجلسيه) عن طريق الترقيع من خلال قبول عدد لا يستهان به من الطعون المرفوعة على انتخابات مجلس الشعب بحيث يحتفظ النظام فى الپرلمان بأغلبية جاهزة للدفاع عن معظم القيود غير الدستورية فى الدستور المصرى؛ الاحتفاظ بالحزب الوطنى كأداة للحكم قبل وبعد مبارك بترقيعه ببعض العناصر التى قد تبدو إصلاحية مع تقديم كباش الفداء المتمثلة فى جمال مبارك و أحمد عز ومعيتهما؛ بالإضافة إلى الاحتفاظ بقانون الطوارئ إلى الآن لمواجهة احتمالات استمرار وتصاعد الثورة واحتمالات قمعها بقسوة وحشية عند الضرورة بالاستناد إلى هذا القانون مع أن الدستور القائم يقدم موادَّ كافية للقمع ومع أن القوانين القمعية بمختلف أنواعها جاهزة للعمل. ويعنى هذا أن النظام، الذى يقدم أيضا رشاوى أخرى كعلاوات هزيلة على الأجور الأساسية، أو كتطمينات على عدم ملاحقة المحتجين العائدين إلى منازلهم، وما إلى ذلك، لا يقدم أى تنازل حقيقى أبعد من التنازل عن مشروع الجمهورية الملكية التى تقوم على التمديد والتوريث، فلا تعدو تنازلاته عن أن تكون رشاوى هزيلة ووعودا خادعة ومناورات غبية يتصور النظام أنها قد تكون تكتيكات منقذة.
6: وبهذا الاستقطاب الحاد المتمثل، من جانب، فى إصرار الثورة على تحقيق حزمة مطالبها بالكامل، ومن جانب آخر فى رفض النظام للاستجابة لأىّ مطلب جوهرى منها وبالأخص وأولا وقبل كل شيء مطلب الرحيل الفورى للرئيس، وهو مختلف عن بقائه حتى نهاية مدة رئاسته، حتى مع تفويض نائبه بسلطات رئيس الجمهورية، تنفتح هوة عميقة بين النظام الذى يحارب من أجل استقراره والشعب الذى يناضل ويثور من أجل التغيير فى سبيل الحرية والعدالة. وينبغى أن نتوقف هنا قليلا لتحليل هذه العقدة المستعصية التى يعمل النظام وطرف ثالث يتمثل فى القوى والأحزاب السياسية على حلّها. (بعد أن كتبت ما سبق حدث تطوران جديدان مترابطان: التطور الأول هو تصاعد الثورة بمضاعفة ملايينه واتساع نطاق انتشاره فى العاصمة وفى كل أنحاء البلاد ومحاصرة كل المراكز والمقار الحساسة للنظام واتساع نطاق إضرابات العمال والعاملين والنضالات الاقتصادية والنقابية والمطلبية، والتطور الثانى هو اضطرار الرئيس تحت ضغط تصاعد الثورة إلى تفويض سلطاته إلى عمر سليمان، بالطبع مع احتفاظه فى الظل بمنصبه، ودخول الجيش على الخط ببيانه رقم 1، وكان رد الثورة على هذه الخطوة المزدوجة هو التصعيد الذى كان مقررا على كل حال فيما سمى بجمعة الرحيل). وإذا حاولنا استئناف تحليل هذه العقدة المستعصية فى ظل استقطاب حاد بين النظام والشعب (وبالطبع فإن الوسطاء لا يمتنعون) نلاحظ أن التراجع الكامل أو شبه الكامل خط أحمر فى نظر الطرفين، فالنظام يخسر فى تلك الحالة كل شيء: يخسر الرئيس فى حالة التنحِّى الذى تطالب به الثورة فيخسر بذلك رمز تماسكه خلال الأزمة، وكذلك غطاء الشرعية الدستورية المزعومة التى قد يحتاج إليها النظام خلال الفترة الباقية على مدة رئاسته لأن التفويض لا يشمل كل سلطات رئيس الجمهورية، كما يخسر الأدوات الدستورية والتشريعية والأغلبية الحزبية فى حالة إسقاط الدستور والپرلمان (بمجلسيه) والحزب الوطنى، وينفتح الباب بالتالى أمام الشرعية الثورية التى يمكن أن تحرم النظام من هدفه الأكبر وهو إنقاذ نفسه بدون رأسه كحد أقصى وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالح وأموال ورجال. كما يخسر الشعب ثورته ذاتها فى حالة التراجع، معرِّضا نفسه للانتقام والإذلال وعدم الوفاء بالوعود وربما إخضاعه للحكم العسكرى إلى أن تهدأ الثورة تماما ويتم إرجاع الشعب إلى الحظيرة، وذلك قبل البدء فى الاحتياط لعدم تكرار ما حدث عن طريق فتح الباب أمام جرعات أكبر من الحريات الديمقراطية، والتخفيف من وطأة بعض المشكلات المتفاقمة مثل تردى مستويات المعيشة وتفاقم البطالة والفقر وسكنى العشوائيات والقبور بتلك المقاييس المروعة، والحيلولة دون عودة الفساد بنفس المستويات المفزعة، وكذلك التخفيف من وطأة الضغط الپوليسى البالغ القسوة والتنكيل بالناس والتعذيب والتوسيع الشامل لنطاق الرشوة عند كل ناصية. وهنا يصير شعار النصر أو الموت قدر الطرفين. وهنا ينحصر المخرج فى خيارين أحدهما الصدام بالمعنى العسكرى، وثانيهما اللعب على الوقت، تفاديا للخيار الأول المفزع للطرفين. أما الخيار العسكرى أىْ استخدام الجيش، أىْ الحرب الأهلية بين الجيش والشعب، فإنه قد يصلح للتهويش غير أنه يكاد يكون مستحيلا من الناحية العملية. ويتحدث الجميع تقريبا عن تآخى الجيش والشعب وترجيح أو تأكيد رفض الجيش توجيه سلاحه إلى الشعب مهما كانت الأوامر، وكل هذا صحيح إلى حد كبير، غير أن استخدام الجيش فى الثورات الشعبية الكبرى يكاد يكون مستحيلا لسبب عسكرى يتمثل فى أن الشعب المجرد من السلاح يكون فى هذه الحالة أقوى "عسكريا" من أىّ جيش. ذلك أن انتشار قطع الجيش وجنوده بين جماهير شعبية غاضبة وكذلك محاصرة هذه الجماهير لمختلف المقار والقصور الحساسة للنظام يجعلان معدات الجيش ورجاله ومبانيه وقصوره رهينة فى أيدى الشعب بحيث يصير الجيش مشلولا تماما فلا يستطيع حتى أن يستخدم أسلحته بكل أنواعها. وأنا لا أفهم فى الشئون العسكرية غير أن قراءة المرء عن الثورات توضح هذه الاستحالة العسكرية بالإضافة إلى أن الجنود والضباط هم العمال والفلاحون وكل أبناء الشعب فى الزى العسكرى فكل فتنة بينهما فى الحالة المذكورة مستبعدة. وبطبيعة الحال فإن فتنة كهذه ستكون كارثة على مصر ولهذا ينبغى على الجيش والثورة تفادى مثل هذا السيناريو الكارثى. ورغم البيان رقم 2 الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة منذ قليل والذى يعنى أن الجيش قد تدخل مباشرة فى الحياة السياسية، وأنه ما يزال يقف إلى جانب الشرعية الدستورية لتحقيق تعهدات مبارك، وإنهاء حالة الطوارئ بعد انتهاء الوضع الراهن، فإن هناك احتمالا لا يمكن استبعاده إذا استحكم المأزق وهو تخلِّى القوات المسلحة عن مبارك وكبار رجاله وحتى عن الدستور والپرلمان والانضمام إلى الشعب والثورة ولن يكون هذا سوى طريق متعرج للغاية إلى إنقاذ النظام ذاته من خلال سيطرة الجيش إلى أقصى حد ممكن على تشريعات وتدابير وإجراءات الشرعية الثورية. وفيما يتعلق بعامل الوقت فإن النظام يعتمد على أن الوقت يضغط على الثورة ليس أقل مما يضغط عليه هو. فهناك ضرورات عودة الحياة الطبيعية بكل مجالاتها ومرافقها الإنتاجية والاقتصادية والخدمية والإدارية وهذه الضرورات تضغط بقوة على الثورة مما يعنى فى نظر أركان النظام انفضاض المظاهرات والإضرابات والاعتصامات وكل مظاهر الثورة بصورة تدريجية. والواقع أن هذه الضرورات قد فرضت نفسها إلى حد لا يستهان به، غير أن ماحدث إلى الآن وكذلك طبيعة الأشياء يؤديان إلى أن تعايش الثورة والحياة الطبيعية أمر ممكن تماما. وهنا يلعب الوقت لعبته حيث ينتصر صاحب النفس الأطول.
7: وسوف يأتى انتصار محتمل بتحديات هائلة أولها واقع أن قوى الثورة بغالبيتها الساحقة غير مسيَّسة، فالأحزاب والجمعيات والجبهات والروابط والاتحادات والائتلافات المعترف بها أو غير المعترف بها رسميا أضعف من أن تقوم بتأمين إدارة دولة وإقامة نظام ديمقراطى مفتوح على آفاق أوسع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. كذلك فإن القوة السياسية الكبرى فى صفوف هذه الثورة والتى كان لها دور كبير فى زخمها واندفاعها وصلابتها كما تضاعفت قوتها بالاستفادة من تجربة الثورة التى لم تكن بفضل مبادرة منها، وهى قوة الإخوان المسلمين، يتعارض أىّ دور كبير لها فى تحديد النظام الجديد مع بناء دولة ديمقراطية ومدنية وعلمانية تقوم على المواطنة بصورة مطلقة وعلى المساواة بين الرجل والمرأة، حيث يكون من حق كل مواطن أو مواطنة بصرف النظر عن أىّ معتقد دينى أو غير دينى النضال فى أىّ حزب سياسى وحتى الوصول إلى رئاسة الدولة من خلال عملية ديمقراطية سليمة، وتقوم على التحديث العلمى والثقافى والتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة وصولا إلى الثورة الاجتماعية. ولا جدال فى أن الوضع الثورى بيئة صالحة للنمو السريع لأحزاب قائمة وأحزاب جديدة علنية بدون قيود، ويمكن بالتالى ملء الفراغ القائم فى مجال تسييس ونضج قوى الثورة. وأعتقد أن من واجب كل قوى الثورة والقوى الديمقراطية والوطنية واليسارية والماركسية أن تشرع على الفور فى تأسيس وتطوير أحزاب سياسية علنية دون انتظار تغيير الدستور أو القوانين المعنية ودون إذن من أحد، والشروع فى ممارسة حرياتها وحقوقها الديمقراطية كافة على الفور، وخلق وتطوير صحافة مستقلة، وتحرير النقابات العمالية والمهنية من قياداتها الصفراء الحالية.
8: والتحدى الأكبر بطبيعة الحال هو تحدِّى إنجاز الثورة الاجتماعية باعتبارها ضرورة للبقاء نفسه. ففى حالة العالم الثالث التى تتمثل فى التدهور المتواصل وليس فى مجرد التهميش الأمر الذى يهدد مجرد بقاء شعوب العالم الثالث لم يعد هناك منقذ من الانهيار والانقراض الشاملين سوى الثورة الاجتماعية التى لا تعنى مجرد إصلاحات اجتماعية واسعة بل تعنى الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر. والحقيقة أن بلدان العالم الثالث بالمعنى الحقيقى (الذى لم يعد يشمل بلدانا انفكت من إساره) ليست سوى بلدان متخلفة تابعة للإمپريالية لم تنجز الثورة الرأسمالية ولا توجد فيها رأسمالية قومية وهى ساحة مفتوحة لاستثمارات واستغلال ونهب واضطهاد البلدان الإمپريالية وبالتالى فإن ما يسود فيها ليس النظام الإقطاعى وليس النظام الرأسمالى وليس عهدا انتقاليا بينهما بل هى مساحات وشعوب واقتصادات وهياكل اجتماعية خاضعة للسيطرة الإمپريالية، والمطلوب هو الانتقال من هذا "البزرميط" إلى رأسمالية حقيقة، تكون ثمرة التنمية الاقتصادية-الاجتماعية الشاملة بصناعتها الحقيقية المتكاملة الحلقات وبتحديثها العميق والسريع الذى يسابق الزمن. والعقبة الكبيرة أمام هذه التنمية الشاملة إنما تتمثل فى الإمپريالية العالمية التى تشترط سيطرتها على العالم بقاء العالم الثالث على حاله. ويتصل بهذا بصورة عميقة واقع أن بلادنا كغيرها من بلدان العالم الثالث بلدان تابعة اقتصاديا وبالتالى فإنها ليست مستقلة إلا بمفهوم الاستقلال فى القانون الدولى وبالتالى فإن على الثورة أن تنجز الاستقلال الحقيقى عن الإمپريالية. وفى سبيل تحقيق التنمية الحقيقية وثمرتها المتمثلة فى الاستقلال الحقيقى سيكون على الثورة ألا تعتمد على الجهات الدولية التى تعمل على تأبيد سيطرة حالة العالم الثالث عليها وأن تتحلى بالمرونة التى تسمح لها بالاستفادة بكل الفرص التى يمكن أن يقدمها عالم حافل بالمصالح المتصارعة وتوظيف كل ذلك للتنمية الشاملة المستقلة. وينبغى أن يكون واضحا أن الثورة السياسية، مثل ثورتنا الشعبية الكبرى الراهنة، ليست الثورة الاجتماعية التى نتحدث عنها هنا، مهما تنجز من إصلاحات اجتماعية واقتصادية. إنها كما سبق أن ذكرنا الإطاحة بالنظام الحالى من شكل الحكم الاستبدادى إلى الفساد الشامل إلى كل ما تحقق فى ظلهما من المصالح والثروات التى تقوم على اللصوصية. غير أن الثورة السياسية (وقد سبقتها فى مصر "ثورتان" سياسيتان هما ثورة 1919 وحركة 1952 اللتين لم تكونا ثورتين اجتماعيتين بحال من الأحوال) يمكن، فى أوضاع خاصة وضمن شروط بعينها، أن تفتح الباب أمام تطورات تؤدى عبر صيرورة تدريجية وليست عاصفة كالثورات السياسية إلى إنجاز الثورة الاجتماعية أىْ الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر فى نهاية المطاف.
9: وتتمثل المهام المباشرة لقوى الثورة فى مواصلتها والاستمرار بها بإدراك واضح لحقيقة أن التراجع سوف يمثل كارثة كبرى لا تستحقها أكبر ثورة سياسية شعبية من نوعها فى العصر الحديث فى العالم كله. ويقتضى إنجاز هذه الثورة السياسية من خلال إقامة الجمهورية الديمقراطية الپرلمانية المدنية العلمانية بكل مقتضياتها ومهامها التى سبقت الإشارة إليها. وسوف تمثل الحياة الحرة الكريمة بكل عناصرها واستعادة كل الأموال التى نهبتها طبقة قامت على ثروات اللصوصية والفساد بتأميمها ومصادرتها، وتوظيفها فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة المستقلة، للسير بثقة على درب الثورة الاجتماعية. فإلى الأمام! إلى الأمام! [مبروك للشعب فقد تخلى الرئيس عن منصبه منذ لحظات مجلَّلا بالعار وملطخا بالدم]!
11 فبراير 2011
 
 
 
 
   
 
 
 
 
 
3
ماذا يعنى حل مجلسىْ الشعب والشورى؟
1: كان حل هذين المجلسين من أبرز مطالب الثورة فى العديد من بياناتها، وبعد تنحِّى مبارك أو تنحيته من خلال ما سُمِّى بالاستقالة صار هذا المطلب ضمن مجموعة من المطالب الأساسية الأخرى شملت حل الحكومة، وإلغاء قانون الطوارئ، وإطلاق الحريات العامة، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتشكيل حكومة جديدة انتقالية من شخصيات تثق بها قوى الثورة، وتشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وغير ذلك. وتشكل هذه المطالب العناوين العريضة للمرحلة الثانية للثورة بعد المرحلة الأولى التى تمثلت ذروتها فى "الاستقالة" وما اقترن بها من تفويض صلاحيات رئيس الجمهورية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهى ذروة لأن أشكال الثورة انتقلت على الفور إلى الاحتفال بها وتنويع أشكال مراقبة تنفيذ باقى مطالبها مع بدء عودة الحياة الطبيعية بحكم ضروراتها القاهرة.
2: وبنفس الطريقة التى انتهجها مبارك راح المجلس العسكرى يتلكأ فى الموافقة على المطالب خطوة خطوة مع استمرار ضغوط الثورة. وكان بوسع المجلس أن يصدر على الفور بيانا واحدا بالموافقة على مطالب محددة لا تحتاج إلى دراسة أو تشاور مثل إلغاء الدستور وحل الپرلمان بمجلسيه وإلغاء قانون الطوارئ وإطلاق الحريات المعنية وحل الحكومة بدلا من محاولة تفاديها ثم الاضطرار إلى إقرار بعضها "بالقطَّارة". وذلك للانتقال إلى تشكيل حكومة جديدة لتصريف الأعمال على طريق تشكيل حكومة انتقالية من قيادات الثورة وتحظى بثقة الشعب بالإضافة إلى تشكيل لجنة الدستور الجديد. ويؤدى هذا إلى الازدواج والتناقض والصراع بين عودة الحياة الطبيعية والثورة بمظاهراتها وأنشطتها ومراقبتها لتطور الأحداث؛ وباختصار بين النظام الذى لم تَجْرِ الإطاحة به بعد من جانب والثورة من جانب آخر. ذلك أن الشعب يريد إسقاط النظام وليس مجرد إسقاط الرئيس وعدد من كباش الفداء من العائلة والمقربين والوزراء والمسئولين كما حدث إلى الآن.
3: هناك، بالطبع، مكسبان كبيران للثورة إلى الآن: المكسب الأول هو عودة الروح إلى الشعب المصرى وصعوده إلى مسرح التاريخ من خلال ثورة هى الكبرى من نوعها بين ثورات العصر الحديث على ظهر الكوكب. وهذا هو المكسب الأكبر والأهم والتاريخى، والذى لا رجعة فيه، والذى منحه الشعب لنفسه بنفسه. والمكسب الثانى هو الإطاحة فى وقت واحد بالرئيس مبارك ومشروع التمديد ومشروع التوريث وبالتالى الإطاحة بالمشروعين اللذين يسودان العالم العربى ومناطق أخرى من العالم الثالث، ألا وهما مشروع التمديد لرؤساء الجمهوريات ومشروع توريث الأبناء والإخوة والأصهار، ويشكل المشروعان معا مشروع الجمهوريات الملكية التى تشمل تقريبا كل جمهوريات العالم العربى. لقد قضت الثورتان التونسية والمصرية على مشروع النظام الجمهورى الملكى الذى ضاعف بدوره من مستويات الاستبداد والفساد فى دول تصور رؤساء الجمهوريات وعائلاتهم أنهم بُناتها وأولياء نعمتها وأنها لا تدول.
4: وباستقالة الرئيس أو إقالته تسقط أهمية ما اعتبره بعض الناس مكاسب مثل تعيين نائب لرئيس الجمهورية أو تأليف حكومة جديدة أو الوعد بعدم التمديد أو التوريث والاكتفاء بالبقاء كرئيس للجمهورية خلال المدة المتبقية من ولايته الخامسة. ولم تكن البيانات من الأول إلى الرابع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة سوى التمهيد الضرورى للإقالة والتعهد بتنفيذ تعهدات الرئيس المخلوع، وكان البيان الخامس هو الذى جاء بالبدء الفعلى فى اتخاذ مواقف محددة إزاء مطالب الثورة بالاستجابة لها أو الالتفاف حولها أو تجاهلها تماما.
5: وهنا نصل إلى الوضع الجديد المتمثل فى تفويض السلطات المدنية والعسكرية لرئيس الجمهورية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد دخول الجيش على الخط حتى قبل إقالته وتمهيدا لهذه الإقالة. ويمكن أن نبدأ مناقشة هذه النقطة، فى ضوء البيان الخامس للمجلس العسكرى، بمناقشة السؤال الذى يطرحه عنوان هذا المقال وهو: ماذا يعنى حل مجلسىْ الشعب والشورى؟ والحقيقة أن مطلب حلهما لا ينفصل عن المطالب الأخرى، ولا معنى له بدونها، وبالأخص فإن حلهما يهدف، من وجهة نظر الثورة، إلى انتخاب پرلمان جديد مختلف تماما (وينبغى وضع خطوط وخطوط تحت كلمة مختلف)، فهل سيختلف عن هذين المجلسين پرلمان يتم انتخابه فى ظل دستور معيب للغاية وبالأصح دستور غير دستورى لمجرد تعديل قليل من مواده؟ وفى ظل حالة الطوارئ التى قيل منذ البيان الثانى للمجلس العسكرى إنه سيتم إنهاؤها فور انتهاء الظروف الحالية؟ وفى ظل نفس الحكومة التى شكلها مبارك قبل إقالته؟ ومع جبال من القوانين المقيدة للحريات السياسية والمدنية؟ ومع فترة تمتد ستة شهور أو أكثر (فى حالة استغراق انتخاب مجلسى الشعب والشورى ورئيس الجمهورية فترة أطول من ذلك كما هو واضح فى البيان الخامس) جرى إعلان أنها هى المرحلة الانتقالية (وفقا للبند خامسا من البيان الخامس) وبقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى يتولى إصدار مراسيم بقوانين خلال الفترة الانتقالية؟ ليس هناك أدنى شك فى أن الپرلمان الجديد لن يكون مختلفا وفى هذه الحالة لا معنى أصلا لحلهما.
6: وإذا كان الالتفاف على مطلب حل مجلسى الشعب والشورى بالاكتفاء بالترقيع عن طريق قبول عدد مقبول من جانب النظام من الطعون يهدف قبل حلهما الآن الاحتفاظ بأغلبية كبيرة للحزب الوطنى فيه من أجل السيطرة على التطورات السياسية لصالح المصالح التى يمثلها الحزب الوطنى فإن الحزب الوطنى يغدو الآن بعد حل الپرلمان بمجلسيه بالغ الأهمية من حيث مصالحه ورجاله وعديم الأهمية من حيث وجوده كأغلبية داخل مجلسين منحلين وهذا يعنى أن المصالح التى كان يمثلها الحزب الوطنى الذى صار ملوثا بسمعة الاستبداد والفساد والبلطجة ستعمل على تكوين حزب جديد باسم جديد وبتعديلات برنامجية ضرورية بعيدا عن قياداته العليا السابقة مع إدانة ممارساتهم الشنيعة استعدادا لانتخابات پرلمانية ورئاسية قادمة. ولنلاحظ هنا أن المجلس العسكرى قد تجاهل حل المجالس النيابية المحلية بأغلبياتها الكاسحة للحزب الوطنى مع أنها ركيزة مهمة من ركائز النظام على مستوى المحليات.
7: والحكومة مستمرة وفقا للبيان الخامس فقد "أكد المجلس مجددا على تكليف حكومة الدكتور 
أحمد شفيق بالاستمرار فى عملها لحين تشكيل حكومة جديدة"، وفقا لنص البيان المذكور. ومن الجلى أن الثورة تطالب بحل هذه الحكومة فهى الحكومة التى عينها الرئيس مبارك قبل خلعه، ويترأسها أحد أقرب المقربين من مبارك، وتتكون من وزراء استوزروا فى حكومة نظام فى عنفوان قمعه للشعب على نطاق واسع حيث قتل المئات وجرح الآلاف، فصاروا بالتالى شركاء فى هذه الأعمال الإجرامية الشائنة، فى هذه الجرائم ضد الإنسانية. فما مغزى إصرار المجلس العسكرى على الاحتفاظ بهذه الحكومة؟ سيقال إن تشكيل حكومة جديدة يستغرق وقتا ولكنْ ألم يقم مبارك نفسه بحل حكومة نظيف فورا وتكليف أحمد شفيق فورا أيضا بتأليف حكومة جديدة فقام بتشكيلها فى غضون يومين أو ثلاثة، ولماذا لا يجرى تشكيل وزارة تصريف أعمال أخرى بأقصى سرعة تمهيدا لتشكيل حكومة انتقالية من شخصيات يثق بها الشعب بعد مشاورات ومفاوضات تستغرق وقتا بالضرورة؟ ومن ناحية أخرى تؤكد تصريحات أحمد شفيق على بقاء حكومته شهورا وليس أياما أو أسابيع!
8: أىْ أننا إزاء فترة انتقالية تتناقض تماما مع الفترة الانتقالية التى طالب بها الشعب. فالفترة الانتقالية من وجهة نظر الشعب فترة تتميز بإلغاء الدستور وليس ترقيعه، وتكليف جمعية تأسيسية بوضع دستور جديد ديمقراطى والإشراف على بناء نظام جديد على أساسه، وحل الحكومة وليس استمرارها وتشكيل حكومة تمثل قوى الثورة، وحل مجلسى الشعب والشورى والمجالس النيابية المحلية، وحل الحزب الوطنى وإلغاء قانون الطوارئ وكافة القوانين غير الدستورية وإطلاق الحريات السياسية والنقابية والتعاونية والمدنية بكافة أشكالها باعتبار هذه الأشياء وغيرها ضرورات لا غنى عنها وأدوات نضالية حاسمة للمرحلة الانتقالية ذاتها. ولا شك فى أن فترة انتقالية كهذه لن تؤدى إلى خلق نظام ديمقراطى بل ستؤدى بالضرورة إلى إحياء واستعادة وترسيخ نفس النظام المرفوض الذى خرج الشعب لإسقاطه. ومن الجلى أن الفترة الانتقالية التى يطرحها البيان الخامس فترة انتقالية تسيطر عليها مؤسسات نفس النظام وأنها تقود فى النهاية إلى شيء آخر مختلف عما يريده الشعب.
9: وهنا ينبغى أن نقف لمناقشة الإطار القانونى العام لهذه الفترة. وتنظم المواد 82 و 83 و 84 و 85 من الدستور مختلف أحوال "تفويض" اختصاصات منصب رئيس الجمهورية فى حالة وجود مانع مؤقت أو استقالته أو خلو منصبه. و "إذا قام مانع مؤقت" ... "أناب عنه نائب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه" (المادة 82)؛ وفى حالة خلو منصب الرئيس أو عجزه الدائم "يتولى الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا" (المادة 84)؛ وفى حالة اتهام الرئيس ووقفه عن عمله "يتولى الرئاسة مؤقتا نائب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه" (المادة 85). وفى كل هذه الأحوال يتم التقيد بالحظر المنصوص عليه فى المادة 82 وهو أنه "لا يجوز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية طلب تعديل الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة". كما تنص المادة 83 على أنه فى حالة الاستقالة يتم توجيه "كتاب الاستقالة إلى مجلس الشعب". غير أننا هنا إزاء تفويض سلطات رئيس الجمهورية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصورة لا علاقة لها بالدستور. ويصر المجلس المذكور على أن الدستور فى حالة "تعطيل" وعلى أنه سيتم تعديل بعض مواده ولن يتم إلغاؤه. وبالتالى يعتبر اختصاصاته "دستورية" رغم أن تفويض الرئيس سلطاته إليه غير دستورى أصلا. وكما رأينا فإن الدستور يحظر على من ينوب عن الرئيس أو يتولى الرئاسة مؤقتا حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى على حين أن المجلس العسكرى قد قام بالفعل بحل هذين المجلسين. ومعنى هذا الخروج الشامل على الدستور أن المجلس العسكرى يصدر عن اعتقاد مزدوج يجمع بين الشرعية الدستورية دون سند دستورى والشرعية الثورية بالنيابة عن قوى وقيادات وشخصيات الثورة التى تملك وحدها الشرعية الثورية والتى تؤكد المرة تلو المرة أن شرعية نظام مبارك قد سقطت برئيسه وقياداته ودستوره وقوانينه الأساسية ومجالسه النيابية وحكومته وحزبه الحاكم.
10: ولا يمكن تصحيح هذا الوضع المختل إلا بأن يتم تسليم الشرعية الثورية لأصحابها الحقيقيين الذين يتألفون ويتآلفون فى جمعية تأسيسية تشرف على المرحلة الانتقالية بكل هياكلها الجديدة وبالأخص بلجنة وضع الدستور الجديد والحكومة الانتقالية، مع قيام القوات المسلحة بحماية أمن البلاد خارجيا وداخليا مع ترك العملية الديمقراطية تتواصل دون تدخل فى إجراءاتها التى ستوكل إلى الجمعية التأسيسية بحكومتها ولجنتها لوضع الدستور الجديد ودون قمع المظاهرات والاحتجاجات التى يشكل استمرارها ضمانة لمسار الثورة وإجراءاتها ولا يتناقض مع عودة الحياة الطبيعية.
11: وعلى الحكومة الانتقالية التى ستحل على الفور محل حكومة أحمد شفيق التى شكلها مبارك قبل إقالته، والتى لا شرعية لها شأنها فى ذلك شأن المجلس العسكرى، إلغاء قانون الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات وإطلاق حريات الأحزاب والنقابات والإضرابات والمظاهرات، والاستجابة لكل الاحتجاجات المطلبية العادلة. كما سيكون على الجمعية التأسيسية والحكومة الانتقالية الشروع فورا فى مهمة إسقاط النظام بملاحقة الثروات التى تكونت فى ظل الاستبداد والفساد ومحاكمة أصحابها واستردادها من الخارج ومصادرتها من الداخل، مع فتح ملف خصخصة القطاع العام وأملاك الدولة بوسائل لصوصية بالمصادرة والتأميم وإعادة تقييم الصفقات المعقودة فى هذا المجال. وكاتب هذه السطور ليس من عَبَدَة القطاع العام وملكية الدولة ولا شك فى أن بيروقراطية القطاع العام فى مصر هى التى تشكل نواة "الطبقة" الحاكمة اللصوصية. غير أن أموال الشعب يجب استردادها وأعتقد أن هذا لن يفزع المستثمرين المحليين والأجانب لأن هذه الإجراءات لن تمتد من الثروات اللصوصية إلى غيرها من المشاريع الاقتصادية الأجنبية والمحلية التى عملت بطرق مشروعة. وعلى العكس فإن الأمول التى سيتم استردادها والاستثمارات التى سيكون بالإمكان جذبها ستكون ضرورة لا غنى عنها للشروع فى تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تحول مصر إلى بلد رأسمالى حقيقى لننقذ بذلك بلادنا من المصير الكارثى الذى يتهدد العالم الثالث.
12: وعلى جميع القوى التى شاركت فى الثورة أن تقدم للجنة الدستور تصوراتها ورؤاها وبرامجها. وأعتقد أن الخيار الأفضل من أجل مستقبل بلادنا إحلال النظام الپرلمانى محل النظام الرئاسى، مثل الكثير من البلدان ومنها الهند ذات التجربة الديمقراطية البالغة الأهمية. ولا شك فى أن الجمهورية الپرلمانية أكثر ديمقراطية من الجمهورية الرئاسية. ففى الجمهورية الپرلمانية يتولى السلطة التنفيذية رئيس وزراء يأتى من خلال الانتخابات النيابية فيحكم بأغلبية حزبه أو بالتحالف مع حزب آخر أو أحزاب أخرى، ويستطيع الپرلمان سحب الثقة منه، ويكون منصب رئيس الجمهورية فى هذه الحالة پروتوكوليا فى المحل الأول. وليت الجمعية التأسيسية تخلص بلادنا من مجلس الشورى هذا الاختراع الساداتى الذى لا معنى له فهو بلا سلطة حقيقية ومجرد ديكور باستثناء إسناد بعض السلطات القمعية إليه مثل منع تكوين الأحزاب غير المرغوب فيها وتعيين قيادات الصحف المسماة بالقومية بما تقتضيه مصالح النظام الاستبدادى. ولا بأس بالطبع فى نظام المجلسين كما فى كثير من بلدان العالم بشرط أن تكون لكل منهما اختصاصات وسلطات حقيقية.
13: والخيار الأفضل أن تكون هذه الجمهورية پرلمانية وبالتالى تعددية، وأن تنبذ نظام الحزب الواحد المباشر أو المموَّه بأحزاب متعاونة، وأن تكون مدنية لا عسكرية، وأن تكون علمانية، ولا تعنى العلمانية بحال من الأحوال الإلحاد أو معاداة الأديان بل تعنى على وجه الحصر فى مثل هذا التنظيم الدستورى العام لدولة الفصل بين الدين والدولة. ويوجد تناقض حقيقى بين المادة الأولى فى الدستور التى تنص على قيام الدولة "على أساس المواطنة" والمادة الثانية التى تنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" [ولا حظوا هذا الاضطراب فى الصياغة الذى يحشر اللغة بين عبارتين تخصان الإسلام!] والمادة الثالثة التى تنص على أن الشعب هو "مصدر السلطات". فكيف تتسق "المواطنة" مع جعل الإسلام "دين الدولة"؟ وكيف يتسق اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات مع اعتبار "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"؟ والحقيقة أن الحديث عن دين باعتباره دينًا للدولة لا يعنى إعلاءً لشأن الدين بل يعنى إدانة مباشرة له فالدين مجال للفضائل والمثل العليا والدولة أداة للطغيان والاستغلال طوال التاريخ. كذلك فإن صيغة "دولة الدين" بمعنى الدولة التى تطمح إلى أن تقوم وفقا لمقتضيات تلك الفضائل والمثل العليا لا تنقذ الجمع بين الدين والدولة من نفس التناقض الصارخ إذ لا تصلح الدولة أداة لفضائل الأديان أو الفلسفات، وكان كل طموح لإقامة دولة الدين فى جميع الثقافات طوال التاريخ توظيفا للدين ورجاله فى خدمة الدولة والطبقة الحاكمة والظلم والاستغلال.
14: ورغم أن المبادرة الشبابية غير الحزبية الوثيقة الصلة بتكنولوچيات المعلومات والإعلام الحديثة من ناحية وكذلك ببعض الحركات والمجموعات السياسية غير الحزبية هى التى مثلت الشرارة التى أشعلت الثورة فلا شك فى أن انضمام الشعب بكل طبقاته الكادحة والمتوسطة وقواه الحية إلى حركة الشباب هو الذى صنع الثورة الكبرى. وهنا لعبت قواعد وشباب مختلف الأحزاب دورا كبيرا رغم انتهازية قياداتها فى كثير من الأحيان. وبالتالى فإن الزعم بأن قوى الثورة تنحصر فى الحركة الشبابية الأولى التى أطلقت الشرارة ليس موقفا موضوعيا. وإذا كانت بقايا النظام المتجه إلى الانهيار والذى يحاول إنقاذ نفسه تتغنى ليل نهار بالشباب والشبان والشبيبة والشبابية وطهارتهم وروعتهم فإنها تركز على هذا للتغرير بهم ولاستبعاد قوى بعينها رغم دورها الذى لا ينكره إلا جاحد يفتقر إلى كل نزاهة أو إنصاف أو موضوعية وأعنى بلا مواربة قواعد الإخوان المسلمين رغم أننى ضد أيديولوچياهم السياسية وكذلك قواعد كثير من الأحزاب اليسارية من وفديين وناصريين وشيوعيين وغيرهم.
14 فبراير 2011
   
 
 
4
المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971)
والعلاقة الملتبسة بين الدين والدولة
 
1: يخلو دستور 1882 المصرى من ذكر "الإسلام"، وقد أورده دستور 1923 إذْ نصت المادة 149 على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"، وتكرر هذا النص ذاته فى مشروع دستور 1954 (المادة 195)، وأضاف الدستور الدائم (1971) إلى نفس النص ما جعله: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" (المادة 2)، وتكرر النص الجديد كما هو عند تعديل الدستور فى 2007 (المادة 2)؛ [ولا حظوا هذا الاضطراب فى الصياغة الذى يحشر "اللغة" بين عبارتين تخصان "الإسلام"، ومن الجلى أن واضعى الدستور الدائم (1971) وقعوا فى هذه الركاكة إذْ وجدوا فى دستور 1923 ومشروع دستور 1954 نصًّا على الإسلام واللغة فى نفس المادة الدستورية فأضافوا إليه نصا إسلاميا جديدا دون تقديم وتأخير كما كان ينبغى!]. كما جاء ذكر الإسلام فى سياق النص على عضوية "رجال الفقه الإسلامى" فى تشكيل "المحكمة العليا الدستورية" بالإضافة إلى انتخاب القضاء العالى العادى والإدارى و"الشرعى" لثلاثة من القضاة التسعة الذين تتألف منهم المحكمة المذكورة (المادة 187 من مشروع دستور 1954)، ولم يتكرر مثل هذا النص فى الدستور المصرى بعد ذلك. على أن المادة 11 من كل من الدستور الدائم (1971) وتعديله فى عام 2007 نص على ما يلى: "تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها فى المجتمع، ومساواتها بالرجل فى ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية".
2: كذلك تورد دساتير مصر ذكر "الدين" غير مقترن بالإسلام فينص دستور 1923 على ما يلى: "المصريون لدى القانون سواء. وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين" (المادة 3). وينص مشروع دستور 1954 على ما يلى: "المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الآراء السياسية أو الاجتماعية" (المادة 3)، مؤكدا مبدأ المساواة بمزيد من القوة. ويعود دستور 1971 وتعديله فى 2007 إلى صيغة دستور 1923 تقريبا فى هذا المعنى فينصان على ما يلى: "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" (المادة 40). ويرد "الدين" فى سياق اعتباره قوام الأسرة بصيغة: "الأسرة أساس المجتمع وقوامها الدين والأخلاق والوطنية" (المادة 48 من مشروع دستور 1954، والمادة 9 من كل من دستور 1971 وتعديله). وينفرد دستور 1971 وتعديله بالتأكيد على "مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية" (المادة 12 من كل منهما)، كما ينفردان بالتأكيد على أن "التربية الدينية مادة أساسية فى مناهج التعليم العام" (المادة 19 من كل منهما). كما أنهما ينصان على أنه "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية" (المادة 46 من كل منهما). وتنفرد المادة 5 من تعديل 2007 للدستور الدائم بالنص التالى: "ولا تجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أى مرجعية أو أساس دينى‏،‏ أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل" ( فى المادة 5 وهو مضاف إلى المادة 5 من الدستور الدائم).
3: وإذا كانت الجمهورية الديمقراطية هى الخيار الأفضل لمصر فإنها ينبغى أن تكون جمهورية پرلمانية وليست رئاسية. وتقوم الجمهورية الپرلمانية على دستور ديمقراطى حقا وعلى تعددية حقيقية. ولا يكفى لكى تكون الجمهورية پرلمانية أن يوجد پرلمان بلا أحزاب أو بأحزاب ديكورية، مثل مجالس الأمة والشعب والشورى ضمن نظام الحزب الواحد بمعنى الحزب الواحد الوحيد، أو الحزب الواحد المموَّه بأحزاب متعاونة، فى صورة الاتحاد القومى أو الاتحاد الاشتراكى أو الحزب الوطنى الديمقراطى، هذه الأحزاب التى تنتمى إلى نظام الحزب الواحد، ووإنْ كان الأخيران (الاتحاد الاشتراكى فى مرحلته الأخيرة والحزب الوطنى إلى الآن) قد تجمَّلا بمنابر أو أحزاب متعاونة، كما شهد تاريخنا القريب فى عهود عبد الناصر و السادات و مبارك. كما ينبغى أن تكون مثل هذه الجمهورية مدنية لا عسكرية، وكذلك أن تكون جمهورية علمانية وليس جمهورية دينية. ولا تعنى العلمانية بحال من الأحوال الزندقة أو الإلحاد أو معاداة الأديان بل تعنى على وجه الحصر فى إطار مثل هذا التنظيم الدستورى العام لدولة ما الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة. ويوجد تناقض حقيقى بين المادة الأولى فى الدستور التى تنص على قيام الدولة "على أساس المواطنة" والمادة الثانية التى تنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" والمادة الثالثة التى تنص على أن الشعب هو "مصدر السلطات". فكيف تتسق "المواطنة" مع جعل الإسلام "دين الدولة"؟ وكيف يتسق اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات مع اعتبار "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"؟ والحقيقة أن الحديث عن دين باعتباره دينًا للدولة لا يعنى إعلاءً لشأنه بل يعنى إدانة مباشرة له. فالدين فى جانب منه حامل للفضائل والمثل العليا على حين أن الدولة أداة للطغيان والاستغلال طوال التاريخ. كذلك فإن صيغة "دولة الدين" بمعنى الدولة التى تطمح إلى أن تقوم وفقا لمقتضيات تلك الفضائل والمثل العليا لا تنقذ الجمع بين الدين والدولة من نفس التناقض الصارخ إذْ لا تصلح الدولة أداة لفضائل الأديان أو الفلسفات أو الوثنيات. والحقيقة أن الصيغتين تعنيان معنى واحدا إذا فهمنا "دين الدولة" ليس بمعنى "دين السلطان" أو "دين الملوك" بل بمعنى الدين الذى تلتزم به الدولة. والواقع التاريخى هو أن كل طموح لإقامة دولة الدين فى جميع الثقافات طوال التاريخ تمخضت عن توظيف الدين ورجاله فى خدمة الدولة والطبقة الحاكمة والظلم والاستغلال. وينبغى أن يكون واضحا أن صيغة "دين الدولة" أو صيغة "دولة الدين" مرفوضة حتى فى بلد يعتنق "كل" مواطنيه دينا واحدا وليس فقط فى بلد توجد فيه ديانات متعددة. ذلك أن الحكم بالقانون الإلهى أو الشريعة الدينية، أىّ شريعة دينية، ينطوى على مغالطتين كبيرتين:  تتمثل المغالطة الأولى فى أن القانون الإلهى أو المقدَّس، سواء بتقديس السياسة أو تسييس المقدَّس، لا يضيفان سوى تعقيد - لا تفرضه أىّ ضرورة حقيقية - على ممارسة سياسية واقتصادية واجتماعية معيارها الحاسم أو الوحيد معيار اجتماعى-اقتصادى (إقطاعى أو رأسمالى أو اشتراكى؛ إلخ.) والمصالح المرتبطة به؛ بعيدا عن المعايير القانونية-الدينية. وتتمثل المغالطة الثانية فى أن البشر هم الذين يحكمون باسم القانون الإلهى أو المقدَّس أو الشريعة، محكومين بالمعيار الاجتماعى-الاقتصادى الذى لا فكاك منه ولكنْ مسلَّحين بالطابع المقدَّس الذى يضفونه على ممارساتهم وقراراتهم البشرية بصورة مطلقة وبهذا يضيفون إلى نظامهم جبروتا مستمَدًّا من المقدَّس لا يملكه أىّ حكم بشرىّ باسم البشر والإنسان. ولا يعنى هذا أن المعيار الاجتماعى-الاقتصادى "البشرى" مفصول بسور صينى عظيم عن كل ما ينتمى إلى الأخلاق أو الفضائل أو اليوتوپيات غير أنه يحتفظ لها بمكانة ثانوية أو خيرية محدودة إلا إذا كانت الدولة قد زالت فى مجتمع بلا طبقات صارت الفضائل فيه مندمجة تماما فى المبدأ أو المعيار الذى يقوم عليه المجتمع ذاته بحكم طبيعته ذاتها.
4: وتترتب على صيغة أن "الإسلام دين الدولة" صيغة "ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" (المادة 2 من دستور السادات وتعديلات مبارك)، والصيغتان كل لا يتجزأ، كما يقال. ومن الغريب أن معارضى صيغة "المصدر الرئيسى للتشريع" يتغاضون فى أكثر الأحيان عن صيغة "دين الدولة" التى تعنى فى هذا السياق أن الإسلام هو الدين الذى تعتنقه الدولة وتلتزم به فمن المنطقى تماما إذن أن تلتزم هذه الدولة بأن تكون مبادئ شريعة هذا الدين أىْ "مبادئ الشريعة الإسلامية" هى "المصدر الرئيسى للتشريع" (أو حتى المصدر الوحيد أو المطلق!). كما يترتب على هاتين الصيغتين المترابطتين موقف الدستور المصرى(المادة 11 من دستور السادات وتعديلات مبارك) من المرأة حيث "تكفل الدولة التوفيق بين" واجباتها نحو أسرتها وعملها فى المجتمع" وكذلك من حيث مساواتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالرجل "دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية". وبهذا تصير الشريعة الإسلامية المعيار الدينى للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والشخصية وغيرها بما فى ذلك دور المرأة فى البيت والمجتمع وكذلك "حدود" مساواتها بالرجل فى كل ميادين الحياة. وهكذا يجرى الزعم بأن تنظيم مختلف نواحى الحياة الخاصة والعامة سيكون على أساس معيار الدين أو الإسلام أو الشريعة، بعيدا عن المعيار الفعلى الوحيد الذى سوف يسود بحكم الضرورة الاجتماعية-الاقتصادية فى ظل مثل هذا الدستور مهما كانت الطبقة أو الفئة أو النخبة التى سوف تحكم على أساسه، فلا تضيف هذه المادة الدستورية بالتالى سوى إضفاء طابع سماوى على نظام أرضى يتجبر أكثر بهذا الطابع محمِّلا الدين أوزاره، تماما كما أثبت التاريخ فى كل مكان وكما أثبت الحكم على أساس هذه الدساتير وموادها الدينية أو الإسلامية أو المقدسة فى ظل العهود والأنظمة والحكومات التى تعاقبت على مصر منذ دستور 1923! أما نص دستور 1954 على عضوية "رجال الفقه الإسلامى" فى "المحكمة العليا الدستورية"، بالإضافة إلى مشاركة القضاء "الشرعى" فى انتخاب ثلاثة من القضاة التسعة الذين تتألف منهم المحكمة المذكورة (المادة 187)، فيكفى – وحمدًا لله - أن مثل هذا النص لم يتكرر فى الدستور المصرى بعد ذلك.
5: أما ذكر "الدين" غير مقترن بالإسلام فى الدساتير المصرية فيأتى فى سياق مساواتىّ إيجابى أحيانا: المساواة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس "الدين" و"العقيدة" بين أشياء أخرى مع تذبذات فى مجالات عدم التمييز حيث لم يذكر دستور 1923 "العقيدة" وانفرد مشروع دستور 1954 بإضافة "الآراء السياسية أو الاجتماعية" إلى هذه المجالات. على أن الممارسات الفعلية ومبادئ دعاة تطبيق الشريعة تتفق على استبعاد غير المسلم والمرأة من مناصب بعينها أهمها رئاسة الدولة، وهو ما يعنى إخراج المساواة وعدم التمييز من الباب وإعادتهما من الشباك (أو على الأصح من باب آخر أوسع كثيرا)! ويضاف إلى السياق الإيجابى أيضا أنْ "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية" (المادة 46 من كل من دستورىْ السادات و مبارك). غير أن الدين يأتى أيضا فى سياقات أخرى باعتباره ضمن أشياء أخرى "قوام" الأسرة (دساتير ما بعد حركة 1952)، وتأكيد دستور 1971 وتعديله على "مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية" (المادة 12 من كل منهما)، وكذلك على أن "التربية الدينية مادة أساسية فى مناهج التعليم العام" (المادة 19 من كل منهما)، وهما تأكيدان لا يتفقان مع مبدأ فصل الدين عن الدولة فالتربية الدينية ليست مهمة الدولة بل مهمة المؤسسات الدينية التى تقوم علاقاتها مع الدولة على الانفصال والاستقلال المتبادل، وينطبق نفس الشيء على دور التربية الدينية فى التعليم العام حيث ينبغى أن تقوم المؤسسات الدينية بهذا الدور بعيدا عن الدولة.
6: وتنفرد المادة 5 من تعديل 2007 للدستور الدائم (وهى مضافة إلى المادة 5 من ذلك الدستور) بمجموعة من القيود المتمايزة المرتبطة بالدين وأمور أخرى حيث تنص على أنه "لا تجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أى مرجعية أو أساس دينى‏،‏ أو بناءً على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل". ويعنى هذا أن الحظر هنا يشمل أىّ "نشاط سياسى" وأىّ "أحزاب سياسية" للنساء فقط أو للرجال فقط وهذا مبدأ فى غاية الغرابة ويعنى مثلا ضمن ما يعنى حظر تظاهر نسائى فقط أو رجالىّ فقط مثلا باعتباره نشاطا سياسيا يقوم "على التفرقة بسبب الجنس". ويشمل الحظر أن يكون ذلك بسبب الاختلاف فى الأصل (تُرَى ما المقصود بالأصل هنا، وهل هو الأصل العائلى أم العِرْقى أم الجغرافى؟!). ويأتى الحظر قبل كل شيء على أىّ نشاط سياسى أو حزب سياسى "على أى مرجعية أو أساس دينى"، (والمقصود بالطبع جماعة الإخوان المسلمين). وهذه مشكلة معقدة بالفعل، ولأسباب عديدة: أولا من حيث المبدأ حيث يناضل الحزب السياسى-الدينى فى سبيل إقامة "دين الدولة" أو "دولة الدين"، وثانيا لأن قيام أحزاب سياسية على أساس دينى أو مرجعية دينية بصورة صريحة أو مموَّهة، فى مجتمع ثنائى الدين، من شأنه تأجيج الطائفية على خلفية تنامى روح الطائفية والتمييز على أساس الدين بفعل فاعل يتمثل فى دستور تمييزى وممارسات اضطهادية وتخلف حضارى وثقافى مريع ومروِّع، وثالثا لأن غياب الحريات الديمقراطية فى العهود التالية لحركة 1952 خلق حالة تتميز بتحجر أىِّ حركة دينية أو أىُّ حزب سياسى على مجموعة من التصورات والتوجهات والأيديولوچيات السياسية الأصولية التى قد تتغنى بالديمقراطية فى فترة ما قبل الوصول إلى سلطة الدولة رغم الاستعداد المتواصل للعصف بها عند الاستيلاء عليها، ورابعا لأن جماعة الإخوان المسلمين كانت المستفيد شبه الوحيد من هامش الديمقراطية فى عهدىْ السادات و مبارك من خلال مناورات وصفقات بحكم تزايد قوتها، ولأن أىّ انتخابات نزيهة يمكن أن تأتى إلى السلطة بهذه الجماعة منفردة أو ضمن تحالف أو ائتلاف بقيادتها، مما يشكل خطرا على أىّ تطور ديمقراطى محتمل للبلاد. وقد أثبتت الجماعة قوتها السياسية أثناء ثورة 25 يناير 2011 بتقويتها للثورة وزيادة قوتها من خلال دورها فيها رغم ابتعادها عن المشاركة فيها فى أيامها الأولى، وهرولتها إلى التفاوض مع نظام مبارك بعد سقوط رأسه واستعدادها لعقد صفقات معه، لتعمل على ركوب موجتها وسرقتها بحكم قوتها الأصلية والمستجدة مع أنها وقفت عاجزة قبل الثورة إزاء تزوير الانتخابات وإزاء تعرُّضها للاعتقالات وحملات التشويه والافتراء وغير ذلك.
7: ولعلنا نستطرد هنا قليلا لنقف على بعض خصائص الأيديولوچيات الدينية السياسية. وللأصوليات ومنها الأصولية الإسلامية أوهامها الواسعة. وإذا كان الإسلام هو الحل، فإن هذه الأصولية تتطلع أيضا إلى الثورة التى هى أساس هذا الحل، لأنها الطريق إلى سلطة الدولة. ولكن هل تستطيع الأيديولوچيا السياسية الإسلامية أنْ تقفز فوق الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية فى سبيل إحداث ثورتها. وماذا عسى أنْ تكون الثورة الإسلامية؟ هل هى ثورة تغيِّر ضمير الإنسان المسلم بفضل الدعوة الدينية فتبقى فى الإطار الدينىّ الدعوىّ أم هى ثورة اجتماعية تتمثل أسلحتها المادية فى الحركة النضالية للطبقات العمالية والشعبية، متى  توفرت الشروط الموضوعية والذاتية الضرورية لاندلاعها وانتصارها؟ وإذا كانت الأيديولوچيا السياسية الإسلامية تصلح كنظرية مرشدة لثورة سياسية، كما كان الحال فى ثورة الإمام الخمينى فى إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود، فهل تصلح أيضا كنظرية مرشدة لثورة اجتماعية شاملة وليس لمجرد ثورة سياسية ضمن نفس النظام الاجتماعىّ الواحد فى نهاية المطاف (كما هو حال ثورة 25 يناير المصرية التى يصعب الآن أىّ تنبؤ بما إذا كانت ستقود إلى ثورة اجتماعية بالمعنى الصحيح)؟ وهنا يظهر تناقض كبير بين الدين والسياسة. فالأديان فى جانب مهم من جوانبها بطبيعة الحال حامل للفضائل المنشودة فى حياة البشر، وهى بطبيعة الحال الفضائل التى بلورتها التجربة البشرية فى مسيرتها الطويلة. ومن هنا فإنه لا يمكن إنكار وجود دور لها فى الحياة الأخلاقية للبشر مع الاعتراف بأن البشر يظلون دائما قاصرين عن تحقيق تلك الفضائل فى سلوكهم فى الحياة. ولكنْ لماذا لا يتطابق هؤلاء البشر مع الفضائل التى تنطوى عليها تجربتهم البشرية وأديانهم ووثنياتهم؟ لسبب بسيط: لأن الأخلاق الفعلية فى الحياة رغم تأثرها بالفضائل الدينية (وهى نفس الفضائل البشرية التى انتقلت إلى الوثنيات والأديان والقوانين الوضعية) تنبع من منابع أخرى للسلوك: تتناقض الأخلاق الفعلية دائما مع فضائل الأخلاق المثالية لأنها تنبع من حياة البشر، من الحياة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التى تنعكس فيها مستويات التقدم التقنى والاجتماعىّ والفكرى للبشر، وتنعكس فيها علاقات الاستعباد والاستغلال والقهر بين البشر، حيث يتوزع ضمير البشر بين القمع المادى والأيديولوچىّ والتمرد والمقاومة أو الاستكانة والخضوع. وقد أثبت تاريخ كل الأديان وكل الوثنيات وكل الحياة البشرية بكل الفضائل التى تدعو إليها أن الأخلاق الفعلية بخيرها وشرها لم تتطابق مطلقا مع المثل العليا لتلك الفضائل والأخلاق الدينية والوضعية، وكان الانتصار دائما للأخلاق الفعلية التى لا شك فى أنها تنطوى على مبادئ وفضائل لا تقوم بدونها حياة اجتماعية للبشر، وهذه المبادئ الأخلاقية البشرية ذاتها إنما هى بدورها مثل عليا لا يمكن أنْ تتطابق معها الأخلاق الفعلية للبشر. وإذا كانت الأديان (وكذلك الفلسفات والقوانين) تقدم لنا، فى جانب من جوانبها، فضائل كبرى فى السلوك فى كل مناحى حياتنا، فى معاملاتنا الحياتية الأخلاقية والاقتصادية، فإن السياسة شيء آخر. السياسة هى علاقات الاستغلال والقهر المتواصلة كما تسجلها حوليات التاريخ البشرى بمداد من الدم والحديد والنار. فكيف يمكن أنْ نتصور أىّ توافق بين هذين النقيضيْن: الدين من بعض جوانبه دعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق والسياسة كعلاقات استغلال وقهر بين الطبقات؟! وإذا كانت السياسة هى العلاقات بين الطبقات الاجتماعية فإن الدولة هى الأداة التى تدير بها طبقة من هذه الطبقات تلك العلاقات، وهذه الأداة بحكم طبيعتها تحمى مصالح الطبقة الحاكمة وهى بطبيعتها مصالح استغلالية وقمعية وبالتالى فإن الدولة تقوم على إدارة العلاقات بين الطبقات لحماية الاستغلال وتكون أداتها فى ذلك القمع المنهجىّ، من خلال الأجهزة الإدارية والقضائية والپوليسية والتمثيلية والأيديولوچية للدولة. والحقيقة أن استيلاء الأيديولوچيا السياسية الدينية على الدولة فى بلد من البلدان إنما يعنى أنْ تحلّ طبيعة الدولة محل طبيعة الدين، أىْ أنْ تسلك الأيديولوچيا الدينية كدولة فى يد الطبقة الحاكمة، تحمى مصالحها وتقمع معارضيها الذين تعتبرهم أعداءها. ذلك أن ما يستولى على الدولة ليس الدين فى سماواته بل البشر على الأرض، المنتمون إلى طبقات ومصالح، والطامحون لإدارة الدولة لتحقيق مصالح طبقية رغم المشاعر والرغبات والتصورات التى تملأ عقول وقلوب قواعد الحركات التى تتبنَّى هذه الأيديولوچيا الدينية السياسية والتى تتطلع إلى إقامة حياة عادلة على الأرض. والحقيقة، كما أثبت تاريخ الدولة الإسلامية فى أزهى عصورها، عصور الحضارة العربية الإسلامية، وكما يثبت تاريخ الخلافة العثمانية، وكذلك تاريخ إيران فى عالمنا المعاصر، هى أن الأيديولوچيا السياسية الإسلامية، السنية أو الشيعية، يحوّلها الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ إلى عامل من عوامله، أىْ إلى التعبير عن سيطرة وتسلط طبقة حاكمة على بقية الطبقات، وعلى البلدان المجاورة من خلال الفتوحات. ولم نر أىّ نتيجة أخرى تتمثل فى تحرير حياة الإنسان المسلم الذى تواصلت معاناته وتواصل شقاؤه فى سياق علاقات القهر والاستغلال.
8: وينبغى أن نستنتج مما سبق ضرورة تنقية الدستور عند كتابة دستور جديد ديمقراطى حقا، بعد إلغاء دستور 1971 الدائم، بكل تعديلاته السابقة والجارية الآن، من المواد التى تخلط بين الدين والإسلام من جانب والدولة والسياسة من جانب آخر. وعلى هذا الأساس ينبغى حذف النص على الدين وعلى الإسلام فى المادة الثانية فى الدستور الحالى، من كل دستور لاحق مع حذف كل تطبيقاتها المتمثلة فى مواد الدستور الأخرى، على أن تحل محل هذه المواد مواد دستورية أخرى تنص على حرية العقيدة الدينية وغير الدينية ضمن الحريات والحقوق الديمقراطية الأخرى، وكفالة ممارستها جميعا، مع إلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات.
23 فبراير 2011
 
 
 
 
 
 
 
5
لا للتعديلات الدستورية فى مصر
 
1: تتضمن التعديلات المسماة بالدستورية موادَّ "دستورية" تتعلق بأربع موضوعات: المواد 75 و 76 و 77 و 139 تتعلق برئيس الجمهورية ونائب أو نواب رئيس الجمهورية، والمادة 148 تتعلق بإعلان حالة الطوارئ، والمادة 189 ونفس المادة مكررا ومكررا 1 تتعلق من الناحية الأساسية بمشروع دستور جديد، وتتعلق المادتان 88 و 93 بإشراف القضاء على انتخابات مجلس الشعب واختصاصه بالفصل فى صحة عضوية هذا المجلس، بالإضافة إلى إلغاء المادة 179 المتعلقة بالإرهاب (الأهرام 27 فبراير 2011).
2: وكان الرئيس المخلوع مبارك قد قرر فى بيانه (مساء الخميس 10 فبراير 2011 أىْ فى اليوم السابق على إعلان استقالته أو إقالته) تعديل خمس مواد دستورية وإلغاء مادة سادسة. وذلك فى استجابة متأخرة جدا لمطالب مطروحة منذ وقت طويل كانت تتعلق أساسا بالمادتين 76 و 77 المتعلقتين بانتخاب رئيس الجمهورية ومدة ولايته، وبالإشراف القضائى، وبقانون الطوارئ. وفى حالة استمرار مبارك إلى نهاية ولايته كان من المفترض وفقا لمنطق المطالب الشعبية، ومنطق الاستجابة الرئاسية، أن تتم الانتخابات الرئاسية فى عهده على الأساس الدستورى لهذه التعديلات. غير أن استقالة أو إقالة الرئيس أوجدت وضعا جديدا يطرح فى المحل الأول شرعية هذه التعديلات والانتخابات التى سيتم إجراؤها على أساسها.
3: ويحيط غموض شديد بشأن موعد انتخاب رئيس الجمهورية وعلى أىّ أساس. هل سيكون على أساس الدستور الحالى بالتعديلات التى لا تمس سلطاته المطلقة على أن يلتزم بالدستور الجديد عند إصداره؟ ومتى سيجرى انتخابه فى هذه الحالة: قبل انتخاب مجلسى الشعب والشورى أم بعد انتخابهما أم فى موعدين متقاربين أو متزامنين؟ أم سيكون انتخابه على أساس الدستور الجديد الذى سيجرى إقراره بعد حوالى سنة من الآن؟ وفى هذه الحالة: هل سنبقى بدون رئيس جمهورية تحت سلطات الرئاسة المفوَّضة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟ وإذا جمح بنا الخيال وتصورنا جمهورية پرلمانية تقوم على الدستور الجديد، فهل سيعنى هذا الهبوط بمنصب الرئيس إلى مجرد مستوى پروتوكولى وهو ما لم يُنتخب له، مع تحويل السلطات الرئاسية الهائلة الآن بعد تقليصها إلى رئيس وزراء منتخب وپرلمان جدير بهذا الاسم؟ وقد يكون من البديهى فى هذه الحالة افتراض التزام كل هؤلاء المنتخبين (الرئيس وأعضاء المجلسين) بدستور لم يتم انتخابهم على أساسه مع صعوبات التوافق مع دستور قد لا يقبلون المبادئ التى يقوم عليها.
4: وكان الأولى بأعضاء لجنة الدستور برئاسة المستشار طارق البشرى ألا يقتصروا على مطالب التعديل القديمة وعلى طلب الرئيس المخلوع تعديل مواد دستورية بعينها، وأن يبحثوا أولا وقبل كل شيء مسألة ما هو الخيار الأفضل لبلادنا: الجمهورية الرئاسية أم الجمهورية الپرلمانية. وهنا يكون من الطبيعى أن نتوقع من أنصار الجمهورية الرئاسية أن يبحثوا بالتفصيل مسألة إعادة النظر فى سلطات رئيس الجمهورية لإعداد دستور جديد يفصل بين السلطات ويوازن بينها ولا يعيد خلق ديكتاتوارات جدد وآلهة أخرى من بشر. كما يكون من الطبيعى فى هذه الحالة أن نتوقع من أنصار الجمهورية الپرلمانية أن يقترحوا دستورا من نوع مختلف تماما. وما كان ينبغى أن ينساق هؤلاء الفقهاء الدستوريون وراء مواصفات جمهورية رئاسية وفقا للتعليمات التى تلقوها، وإذا كان هذا صادرا عن إيمانهم الحصرى بالجمهورية الرئاسية فقد كان ينبغى أن يبحثوا كل أبعاد وجوانب مثل هذه الجمهورية وبالأخص مسألة السلطات، فضلا عن أنه كان الأولى بهم وبغيرهم أن يعكفوا منذ الآن على الأبحاث والدراسات اللازمة لإعداد الدستور الجديد الذى سيحلّ محل هذا القائم أو المعطَّل وفقا لقرارات المجلس الأعلى، وفتح باب المناقشة الواسعة حول دستور جديد بدلا من التورط فى إعداد مثل هذه التعديلات التى تنصب على نواح أقل شأنا بالمقارنة بمسألة السلطات وفصلها وتوازنها.
5: وانطلاقا من نظرات وتصورات رئاسية تتسابق شخصيات كبيرة كثيرة فى حياتنا السياسية على الهرولة إلى الترشيحات الرئاسية وكأن كل واحد منهم يريد أن يضيف إلى سيرته الذاتية والعائلية أنه صار فى فترة ما أو فترتين رئيسا لجمهورية مصر، وهم فى هذا يشبهون الأساتذة المستوزرين الذين تسلحوا بأوهام أنهم سينقذون البلاد فقبل منهم مَنْ قبل أن يكون نائبا لرئيس الوزراء وقبل منهم ثانٍ وثالث ورابع، إلخ.، أن يكون وزيرا، رغم احتمال أن تكون فترة هذه الحكومة قصيرة لأن الحكومة، باعتبارها مركزا من مراكز الثورة المضادة، تتعرض بصورة متواصلة لضغط الثورة فى سبيل الإطاحة بها، وقد تنجح فى ذلك. وكان الأولى بهؤلاء "المسترئسين" (على غرار المستوزرين) أن ينتظروا ليروا ماذا سيقول الدستور الجديد بشأن الاختيار بين الجمهورية الپرلمانية والجمهورية الرئاسية، وأن يتقدموا للانتخابات الپرلمانية أو الرئاسية إذا كان الدستور الجديد يتفق مع مبادئهم، وفى كل الأحوال بعد أن يسألوا أنفسهم أسئلة صعبة بشأن ماذا قدموا فى الحقيقة فى مناصبهم المصرية أو العربية أو الدولية وأن يجيبوا على هذه الأسئلة بأجوبة موضوعية بقدر الإمكان.
6: وننتقل إلى استعراض بعض هذه التعديلات الدستورية المقترحة المتصلة برئاسة الجمهورية والإضافة الوحيدة إلى المادة 75 هى هذه العبارة "وألا يكون قد حمل أو أىّ من والديه جنسية دولة أخرى، وألا يكون متزوجا من غير مصرية"؟ ومن الجلى أن العبارة مضطربة: فما الرأى فيمن "حمل" ثم "تاب وأناب"، ولماذا لم يمتد الشرط إلى مَنْ تزوج فى الماضى أيضا؟ وما فائدة مثل هذه الاشتراطات التفصيلية بينما جاءت كل المصائب فى العالم العربى كله من حَمَلة الجنسية الوطنية وحدها ولم يتزوجوا "عربية" أو أجنبية؟ وتكتفى المادة 76 بتخفيف القيود الثقيلة السابقة. فلم يَعُدْ المطلوب "أن يؤيد المتقدم للترشيح مائتان وخمسون عضوا على الأقل من الأعضاء المنتخبين بمجلسى الشعب والشورى والمجالس الشعبية المحلية للمحافظات، على ألا يقل عدد المؤيدين عن خمسة وستين من أعضاء مجلس الشعب، وخمسة وعشرين من أعضاء مجلس الشورى، وعشرة أعضاء من كل مجلس شعبى محلى للمحافظة من أربع عشرة محافظة على الأقل"، مع زيادة هذه الأعداد كلما زادت أعداد هذه المجالس، ومع مراعاة أنه "لا يجوز أن يكون التأييد لأكثر من مرشح". وفى التعديلات الجديدة يكفى "ثلاثون عضوا على الأقل من الأعضاء المنتخبين بمجلسى الشعب والشورى، أو أن يحصل المرشح على تأييد ما لا يقل عن ثلاثين ألف مواطن ممن لهم حق الانتخاب فى خمس عشرة محافظة على الأقل، بحيث لا يقل عدد المؤيدين فى أى من تلك المحافظات عن ألف مؤيد"، كما يحق وفقا لهذه التعديلات لكل حزب فاز عضو فيه بمقعد فى أحد المجلسين "فى آخر انتخابات أن يرشح أحد أعضائه لرئاسة الجمهورية". ولا شك فى أنه يوجد تخفيف واضح هنا. ذلك أنه يمكن ترشيح أو ترشُّح شخص استوفى الشروط: أ: فى حالة تأييد 30 عضوا فقط من المجلسين (بدلا من 65 عضوا من مجلس الشعب و 25 عضوا من مجلس الشورى)؛ أو ب: فى حالة تأييد 30000 مواطن على الأقل، من 15 محافظة على الأقل، مع اشتراط 1000 مؤيد على الأقل، من كل محافظة منها (بدلا من عشرة أعضاء من كل مجلس شعبى محلى للمحافظة من أربع عشرة محافظة على الأقل)؛ أو ج: تأييد حزب له مقعد فى آخر انتخابات إلى أحد المجلسين لترشيح أحد أعضائه للرئاسة (بدلا من تأييد حزب قائم منذ خمسة أعوام متصلة وحاصل على 3% من مجموع مقاعد المجلسين أو ما يساوى ذلك فى أحدهما لترشيح أحد أعضاء هيئته العليا تكون عضويته قد اتصلت على مدى سنة كاملة). غير أن عندنا شخصيات بارزة لها طموحات سياسية غير أنها لا تتمتع بعضوية أىّ حزب، وهنا قد يكون بحث الواحد منهم عن 30 عضوا من المجلسين، أو عن 30000 مواطن مع تقييد هذا العدد بقيود أخرى، شرطين قاسيين بالنسبة لشخصيات لم تعمل بالسياسة فى الأعوام الأخيرة فى مصر مع أنهم أفضل بما لا يقاس معرفة ونزاهة ممن أفسدوا الحياة السياسية فى مصر عندما تولوا أمرها طوال العقود الطويلة السابقة بفضل قدرتهم الجاهزة على استيفاء كل الشروط. وذلك مع توسيع اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات الرئاسية. وهناك بالطبع تقييد رئاسة الجمهورية بمدتين على الأكثر وتقييد كل مدة بأربع سنوات (بدلا من المدد المفتوحة العدد بست سنوات لكل مدة منها). وقد يكون كل تخفيف حسنا ولكنْ يمكن أن تكون هناك خيارات أفضل إنْ لم يكن فى هذا التخفيف أو ذاك ففى الإطار العام الأوسع أىْ إلغاء دستور 1971 الدائم وتعديلاته وإصدار دستور جديد.
7: وتُلزم المادة 139 من التعديلات رئيس الجمهورية بأن "يُعيِّن" خلال ستين يوما، نائبا له أو أكثر، وللرئيس إعفاؤه وتعيين غيره. وقد يبدو هنا للوهلة الأولى أن هذه المادة تحقق مطلبا شعبيا يتعلق بوجود نائب للرئيس، ولكنْ كيف يكون هذا مكسبا إذا كان الرئيس المطلق السلطات هو الذى يُعيِّن ويُعفى؟ ولماذا لم تفكر اللجنة فى انتخاب نائب الرئيس فلا يُعيِّنه هذا أو يُعفيه؟ وليس هناك ما يبرر هذا التأليه لرئيس الجمهورية بتقديس سلطاته وعدم المساس بها.
8: وهناك أيضا قانون الطوارئ. فهل جاءت التعديلات بجديد له مغزاه؟ لا أظن. لماذا؟ عندما نقرأ هذا التعديل (المادة 148) نجد أن الذى يعلن حالة الطوارئ هو أيضا رئيس الجمهورية "الغائب" فى الحالة المصرية الراهنة، فهو إذن غير قابل للتطبيق فى الوقت الحالى. وتوجب المادة الجديدة على الرئيس عرض إعلان حالة الطوارئ على مجلس الشعب خلال السبعة أيام التالية (لإعلانه). فإذا كان المجلس فى غير دورة الانعقاد وجبت دعوته للانعقاد خلال الأسبوع المشترط. أما إذا كان منحلا فيجب انتظار أول اجتماع للمجلس الجديد (بالطبع بعد انتخابه الذى قد تطول فترة إجراءاته)، مع اشتراط موافقة أغلبية هذا المجلس، مع تقييد مدة حالة الطوارئ بستة أشهر، ويُستفتى الشعب بعد ذلك فى حالة الحاجة إلى مدها. فالجديد يقتصر إذن على: أ: 7 أيام بدلا من 15 يوما فى الدستور المعطل، و ب: دعوة المجلس للانعقاد إذا تم إعلان حالة الطوارئ فى غير دورة الانعقاد (وهذا نص جديد تماما، والحق يقال)، و ج: تقييد حالة الطوارئ بما لا يتجاوز ستة أشهر (بدلا من الاكتفاء بالحديث عن "مدة محددة")، ولا يجوز مدها بعد ذلك إلا بعد استفتاء الشعب (بدلا من المد بموافقة مجلس الشعب). والبند الأول "أفضل" فى حد ذاته، والبند الثانى لا يضيف شيئا كبيرا لأن المجلس فى هذه الحالة فى إجازة وغير منحل، ولكنْ لا بأس! أما البند الثالث والأخير فيأتى بمدة ستة أشهر وهى مدة غير قصيرة ويقيد مد حالة الطوارئ باستفتاء الشعب وليس بموافقة مجلس الشعب، وتجربتنا مع الاستفتاءات وكذلك مع مجالس الشعب غير سارة وربما كان مجلسُ شعبٍ أفضل قليلا من مجلس 2005 أفضل من الاستفتاء، فكأنهم يقولون: سنذهب بالديمقراطية المباشرة إلى الشعب ذاته من خلال الاستفتاء بدلا من مجلس "يمثل" الشعب ليس إلا! وهذا تلبيس للحق بالباطل. والمهم أن "الشارع" الجديد ممثلا فى هؤلاء الفقهاء الدستوريِّين يتنازل عن كل شيء لرئيس الجمهورية غير متصورين وضعا يكون فيه رئيس الحكومة فى جمهورية پرلمانية صاحب سلطة فرض حالة الطوارئ. والأهم أن كل هذا لا يعنى شيئا فى غياب رئيس للجمهورية فى مصر فى "الفترة الانتقالية". وفوق كل شيء وقبل كل شيء يكتفى هؤلاء الفقهاء الدستوريون بالحديث عن الإعلان مع التجاهل التام لقانون الطوارئ ذاته. ولا مناص بالطبع من وجود قانون للطوارئ فى كل بلد، وكذلك لا مناص فى أحوال بعينها من إعلان حالة الطوارئ، بالتطبيق المباشر لهذا القانون فى كل البلاد أو فى بعض مناطقها. غير أن المشكلة تكمن من الناحية الأساسية فى طبيعة قانون الطوارئ. وقانون الطوارئ المعمول به حاليا موروث عن عهد عبد الناصر كما تم إعلان حالة الطوارئ على أساسه فى أواخر ذلك العهد وظلت هذه الحالة معلنة إلى الآن باستثناء ثمانية عشر شهرا فى أواخر عهد السادات إلى أن تم إعلانها من جديد فى أعقاب اغتياله. وتنص المادة الأولى من هذا القانون السيئ السمعة على ما يلى: "يجوز إعلان حالة الطوارئ كلما تعرض الأمن أو النظام العام فى أراضى الجمهورية أو فى منطقة منها للخطر سواء كان ذلك بسبب وقوع حرب أو قيام حالة تهدد بوقوعها أو حدوث اضطرابات في الداخل أو كوارث عامة أو انتشار وباء..."، و "يكون إعلان حالة الطوارئ وانتهاؤها بقرار من رئيس الجمهورية" (المادة 2)، وعلى أساس هذه العبارات الفضفاضة يمنح هذا القانون رئيس الجمهورية سلطات هائلة كفيلة بالعصف بكل الحريات والحقوق وإخضاع البلاد للحكم المطلق للرئيس والجيش والشرطة، إذْ "تتولى قوات الأمن أو القوات المسلحة تنفيذ الأوامر الصادرة من رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه" (المادة 3). ولا مجال هنا لاستعراض هذا القانون الخطير الذى ينبغى إلغاؤه من جهة وإلغاء إعلان حالة الطوارئ فى كل الأحوال لأننا لسنا حاليا فى حالة طوارئ حتى بحكم العبارات الفضفاضة، إلا بالتسليم بأن يقرر رئيس الجمهورية معنى "حدوث اضطرابات فى الداخل"، على سبيل المثال، على هواه: فما هى الاضطرابات: مظاهرات، اعتصامات، إضرابات لعمال أو عاملين، حملة ديمقراطية ساخنة، ثورة؟ وقس على هذا! وسوف تكون قراءة سريعة لقانون الطوارئ كافية لإدراك مدى فظاعته. ومتجاهلة فظاعات قانون الطوارئ فى مصر والخطورة الماثلة فى إعلان حالة الطوارئ تعكف لجنة الدستور الموقرة على بحث إجراءات الإعلان والإقرار، فيا له من إنجاز ينبغى أن ينأى عنه رجل القانون والدستور! والاستنتاج البسيط هو: لا للقانون الحالى للطوارئ، لا لحالة الطوارئ فى الوقت الحالى.
9: أما إلغاء المادة 179 من الدستور وهى الخاصة ﺒ "مواجهة أخطار الإرهاب" والتى تجعل لرئيس الجمهورية "أن يحيل أية جريمة من جرائم الإرهاب إلى أية جهة قضاء"، مع قيود تتعلق بحريات وحقوق الإنسان وفقا للمواد 41 و 44 و 45 من الدستور، فإنه لا يضيف شيئا حقيقيا فى وجود قانون الطوارئ السيء السمعة وإعلان حالته. وجدير بالذكر أن هذه المادة لم تكن واردة فى دستور السادات، وإنما كانت من الإضافات المباركة لتعديلات عهد مبارك فى 2007.
10: ونظرا لغموض انتخاب رئيس للجمهورية من حيث موعده، قد يتجه تفكير القائمين بالأمر فينا، ظنا منهم أن لهم الآن سلطات رئيس الجمهورية فى غيابه، إلى ناحية خطيرة تتمثل فى الرغبة فى الاستناد إلى بعض المواد الدستورية الجديدة (مثل إعلان أو إنهاء حالة الطوارئ أو إلغاء القانون الحالى للطوارئ وإصدار قانون جديد) لممارسة هذه السلطات فيما يتعلق بها، وذلك دون سند دستورى حقيقى. ويضاف إلى هذه الناحية الخطيرة نص المادة 189 على أن "لكل من رئيس الجمهورية، وبعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، ولنصف أعضاء مجلسى الشعب والشورى طلب إصدار دستور جديد، إلخ،.."، أىْ أن لرئيس الجمهورية بموافقة مجلس الوزراء طلب إصدار دستور جديد، وإذا كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يرى أن له سلطات رئيس الجمهورية فى غيابه على أساس التفويض الرئاسى عند الإقالة أو الاستقالة فى 11 فبراير 2011 فإن لنا أن نخشى أنْ يتسع مجال استخدام بعض هذه التعديلات، خاصة وأن التفويض المذكور لا يستند إلى أىّ أساس دستورى، كما أوضحنا فى مقال سابق بمناسبة حل مجلسى الشعب والشورى، حيث لا يجوز حلهما لمن ينوب عن الرئيس أو يقوم بعمله وفقا للدستور الدائم.
11: وقبل أن نناقش التعديلات المتصلة بمجلسى الشعب والشورى وإصدار دستور جديد، نكتفى بتأكيد أن "إقرار" هذه التعديلات جميعا يمثل لغزا دستوريا حقيقيا: مجلس الشعب منحل فلا يمكن إذن قيامه بإقرارها، فلا يبقى إلا أن يمارس المجلس الأعلى للقوات المسلحة سلطة إقرار التعديلات الدستورية، متجاوزا حتى سلطات رئيس الجمهورية، حتى فى هذا الدستور المعيب. ولكن الاستفتاء هو الذى سيقوم بإقرارها ولكن ما السلطة التى ستطلب التعديلات فى غياب رئيس الجهورية ومجلس الشعب اللذين يحق لكل منهما ذلك (ثلث أعضاء مجلس الشعب فى حالة صدور طلب التعديل منه)؟ فإذا وافق على مبدأ التعديل ثلثا مجلس الشعب "عُرض على الشعب لاستفتائه فى شأنه". فلا يبقى إذن سوى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى لا مناص من أن يعتبر نفسه "مضطرا" إلى ممارسة سلطات تساوى أو تتجاوز سلطات الرئيس ومجلس الشعب فى غيابهما الذى قرره هو نفسه بالتنحية أو التنحى، الاستقالة أو الإقالة، أو حل المجلسين، تحت ضغط مطالب الثورة بطبيعة الحال.
12: وفيما يتعلق بانتخاب مجلس الشعب، تحل المادة 88 فى التعديلات المتصلة به محل المادة 88 فى الدستور الدائم وفقا لتعديلات 2007. والجديد هنا هو الإشراف القضائى الكامل على الانتخاب و"الاستفتاء" (بدلا من مجرد وجود "أعضاء من هيئات قضائية وفقا لتعديلات 2007" فى اللجنة العليا للانتخابات، وتشكيل "اللجان العامة من أعضاء هيئات قضائية"). كما تأتى المادة 93 باختصاص "المحكمة الدستورية العليا بالفصل فى صحة العضوية أعضاء مجلس الشعب"، بدلا من اختصاص "المجلس بالفصل فى صحة عضوية أعضائه"، بعد أنْ كان فى الدستور الدائم "سيد قراره" كما ظل يردد رئيس مجلس الشعب على مدى عقود. وكل هذا جميل بقدر ما يتعلق الأمر بمجلس الشعب القادم وإن كان قاصرا على إجراءات وشروط انتخاب مجلس الشعب بعيدا عن قضية السلطات الرئاسية والتشريعية والقضائية والتنفيذية والتوازن السليم بينها. غير أن السؤال المهم يظل متعلقا بمدى دستورية طلب الاستفتاء على هاتين المادتين بدلا من تضمينهما أو تضمين ما هو أفضل منهما فى نص قانونى توافقى يستند إلى الشرعية الثورية. وهنا نأتى إلى المادة 189 المتعلقة بإصدار دستور جديد، بدلا من المادة 189 المتعلقة بتعديل "مادة أو أكثر من مواد الدستور" والتى لم تكن تنص على أىّ دستور جديد من أىّ نوع، مقابل أن التعديل المقترح الآن يخلو من أىّ نص على أىّ تعديل وكأن الدستور الجديد لن يكون من الجائز إدخال أىّ تعديل عليه. ويعطى هذا التعديل، إلى جانب رئيس الجمهورية، "لنصف أعضاء مجلسى الشعب والشورى طلب إصدار دستور جديد، وتتولى جمعية تأسيسية من مائة عضو، ينتخبهم أغلبية أعضاء المجلسين من غير المعيَّنين [فى مجلس الشورى] فى اجتماع مشترك، إعداد مشروع الدستور فى موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها، ويعرض رئيس الجمهورية المشروع، خلال خمسة عشر يوما من إعداده، على الشعب لاستفتائه فى شأنه". ويقوم أعضاء مجلس الشورى المنتخبون دون المعيَّنين بالمشاركة فى هذه الأعمال، على أن يتم استكماله بالتعيين فيما بعد (وهنا يجرى الاحتفاظ بمجلس الشورى، هذا الاختراع الساداتى، الذى لا معنى له لأنه لا يتمتع فى الدستور بسلطات حقيقية تبرر وجوده ذاته، كما يجرى الاحتفاظ بمبدأ تعيين ثلث أعضائه). وبالطبع فإن طبيعة لجنة المائة سوف تنبع من طبيعة مجلس الشعب الذى سيجرى انتخابه بكل هذه "الكروتة" التى تهدف إلى الحيلولة دون أن يعكس المجلس نضجا سياسيا محتملا فى فترة أطول فى حالة عدم الهرولة. وبعد كل هذا يأتى دور رئيس الجمهورية إذْ "يتولى رئيس الجمهورية، فور انتخابه، استكمال تشكيل المجلس بتعيين ثلث أعضائه". فما هو موعد انتخاب رئيس الجمهورية، وفى غياب أىّ إشارة إلى هذا الموعد يتعين علينا أن نحاول التكهن. والإجراء المزمع بأقصى سرعة فيما يبدو هو الاستفتاء على هذه التعديلات، وفى حالة الموافقة عليها سيكون الباب مفتوحا أمام انتخاب الرئيس وانتخاب مجلسى الشعب والشورى. وإذا كان انتخاب الرئيس سوف يسبق انتخاب المجلسين، فلماذا لا يستكمل على الفور تشكيل مجلس الشورى عن طريق "تعيين" الثلث المكمل لأعضائه؟ وهل يعنى هذا أن الرئيس لن يُنتخب إلا بعد انتخاب مجلس الشعب وثلثى مجلس الشورى؟
13: غير أن من الضرورى على كل حال القيام بمجموعة من الإجراءات على أساس مجموعة من المبادئ فى سبيل إقامة جمهورية پرلمانية أو رئاسية. فكيف يكون ذلك؟ هناك إجابتان: إجابة إيجاد پرلمان يضع دستورا جديدا يتم على أساسه قيام هذا النوع أو ذاك من النظام الجمهورى ويكون هذا بالاستناد إلى الشرعية الدستورية فى شكل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وهو الذى سيطلب إقرار هذه التعديلات لانتخاب مجلسى الشعب والشورى. والإجابة الثانية هى الشرعية الثورية، وهى شرعية ثورية "توافقية" من المدنيِّين الذين يمثلون قوى الثورة، ومن حقها وحدها، بعيدا عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، قيادة الأمر الواقع للفترة الانتقالية الحالية، مستعينة بحكومة جديدة شكلا وموضوعا كما يقال، فى سبيل إقامة نظام ديمقراطى، پرلمانى أو رئاسى. ويمكن لهذه القيادة الثورية التوافقية إصدار نص قانونى مؤقت يركز فقط على انتخاب پرلمان يقوم بإجراءات إصدار دستور جديد، ويدير أوسع مناقشة شعبية حول الدستور الديمقراطى المنتظر قبل طرحه للإقرار بالطريقة التى يحددها النص المذكور، وإعادة تنظيم جمهوريتنا الپرلمانية أو الرئاسية العتيدة. ويبدو أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يريد إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى أسرع وقت (فى 19 مارس، إذا استقرت الأوضاع، كما نُسب إلى مصدر عسكرى أمس)، وكأن السرعة هنا إثبات لحسن النية والجدية، فى الوقت الذى تعنى السرعة فى الحقيقة "كروتة" حقيقية، حيث سيجرى الاستفتاء قبل أىّ مناقشة شعبية جدية للتعديلات، كما ستجرى الانتخابات النيابية قبل أن تتبلور وتنضج، حتى قليلا، أحزاب وحركات ومنظمات سياسية، فى بلد شهد مصادرة الحياة السياسية على مدى قرابة ستين سنة، وهذا لا يعنى سوى إجهاض الثورة وتفريغها من محتواها الحقيقى المتمثل فى إقامة نظام ديمقراطى وحياة كريمة تليق بالبشر.
14: والاستنتاج الطبيعى من كل ما سبق هو اعتبار كل التعديلات الدستورية المقترحة غير دستورية بالمعنى الصحيح فى مجملها، وبالتالى: التصويت بلا فى الاستفتاء المزمع إجراؤه، فى حالة عدم القدرة على إلغائه بكل إجراءاته.
2 مارس2011
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6
يا شعب مصر...
إلى الأمام ولا تراجع... التراجع كارثة
1: لا شك فى أن المصير النهائى لثورة الشعب المصرى، ثورة 25 يناير 2011، سوف يتوقف على المواقف التى تتخذها الثورة فى كل لحظة. ولاتخاذ مواقف صحيحة ينبغى أن تكون الرؤية واضحة، والمسار واضحا، والأهداف واضحة. ولا شك أيضا فى أن الهدف الكبير للثورة يتمثل بكل بساطة فى الإطاحة بالنظام الفاسد والاستبدادى والشمولى. وما تحقق إلى الآن كبير: الإطاحة برأس النظام، غير أن هذا النظام ككل يحاول إنقاذ نفسه بكل مصالحه ومؤسساته وأجهزته ووسائله القمعية والإدارية، مضحيا بعدد من كباش الفداء، مضطرا إلى كل خطوة حتى فى هذا المجال، و"بالقطارة"، تحت ضغط الثورة المتواصلة. وتبقى الأهداف الكبرى مرهونة باستمرار الثورة أو تراجعها ومن الجلى أن تراجعها سيكون كارثة على الشعب المصرى. ويعمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بذريعة ضرورات عودة الحياة الطبيعية، على إعادة الثوار إلى بيوتهم ويضغط بكل قوة، بمزيج من مناورة التسويف والوعود والجداول الزمنية من ناحية والعنف من ناحية أخرى، فى هذا الاتجاه. وبطبيعة الحال فإنه لا أحد ضد عودة الحياة الطبيعية وضروراتها القاهرة، غير أننا هنا أمام تفسير للحياة الطبيعية يجعلها تعنى حرمان الشعب من كل حرياته وحقوقه حتى بموجب دستورنا الحالى البائس، وبالأخص حريات التظاهر والاعتصام والإضراب والتعبير بكل الوسائل. ولكننا نعلم من تجربة البلدان الديمقراطية كلها أن الحياة الطبيعية بكل مجالاتها وأنشطتها لا تتناقض مع ممارسة الشعوب فى الوقت نفسه لحرياتها وحقوقها باعتبارها مكونات أساسية من الحياة الطبيعية وجزءا لا يتجزأ منها. ثم: مَنْ المتسبب فى وقف أو تعطيل الحياة الطبيعية: المطالب العادلة التى ترفعها الثورة بتيارها الرئيسى وبكل روافدها أم المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى لا يستجيب لهذه المطالب إلا عندما يصل الضغط الثورى إلى أقصاه؟! والاستنتاج المنطقى الذى لا تنجح كل الخدع والمناورات فى إخفائه هو أنه لا توجد ثورة بدون ثورة مضادة، وأن الثورة المضادة بكل مراكزها وركائزها ومؤسساتها تعمل على إنقاذ النظام كما كان من الناحية الجوهرية، لأن النظام يعنى حماية كل المصالح الكبرى، التى هى مصالح آلافٍ وعشرات آلافٍ من رجال النظام، والتى نشأت فى كنف الفساد والديكتاتورية، كما يعنى تأمين مستقبل النظام والمصالح التى تسيطر عليه والمؤسسات الاستبدادية التى تحرسه، ولا يتحقق هذا إلا بتراجع الثورة عن طريق قطع الوعود والعهود بجداولها الزمنية.
2: ولا ينبغى أن يتوهم أحد أن كل الأهداف الكبرى قد تحققت. والهدف الكبير الذى تحقق إلى الآن هو التخلص من رأس نظام يقوم على "حكم الشخص" الذى سعى بحكم طبيعته إلى تحويل مصر إلى جمهورية ملكية بالتمديد المتواصل ومشروع التوريث. وإلى جانب هذا تحقق ويتحقق كل يوم هذا الشيء العظيم: تعرية المدى الذى وصل إليه فساد ولصوصية حكامنا بلا استثناء، ومدى فساد مؤسسات الدولة بلا استثناء، ومدى فساد دستورنا، دستور 1971 الدائم الذى قام ترزية القانون الدستورى بتفصيله ﻟ السادات، ثم ﻟ مبارك بتعديلاته سيئة السمعة فى 2007 ، ثم الآن بأمر من مبارك فى بيانه فى اليوم السابق لاستقالته أو إقالته بهذه التعديلات المشينة التى اكتفت بترقيع ثانوى تماما لدستور استبدادى حقا، وكان هذا الدستور نفسه قد حل محل دستور فاسد دستوريا بدوره، هو مشروع دستور 1954 الصادر فى أعقاب حركة 1952 (إعلانات دستورية ومشاريع ودساتير مؤقتة فى 1953 و 1954 و 1956 و 1958 و 1964). ولا شك فى أن هذه التعرية التى تكشف عن مدى وحشية ولصوصية النظام ورجاله تجعل شعبنا أكثر وعيا بحقيقة مؤسساته التى تقف وراء استغلاله وظلمه وقهره. أما المكسب الأكبر الذى حققته الثورة دون أدنى شك فهو الشعب نفسه: عودة الروح إليه، قيامه كالعنقاء من تحت الرماد، تحوله إلى شعب على الجميع أن يحسبوا حسابه من الآن فصاعدا. فماذا تحقق غير هذا؟ لا شيء فى الحقيقة. فالتعديلات الدستورية الجديدة التى لا تقوم إلا بترقيع دستور الاستبداد ليست مكسبا بل هى خداع مكشوف لمن شاء أن يبصر، فى مواجهة مطالبة الثورة بإلغاء الدستور الدائم الحالى وإصدار دستور جديد. فهل كان تعيين نائب للرئيس المخلوع مكسبا؟ ولكن أين هذا النائب الآن؟ وما معنى المجيئ بالنائب الذى يعينه على هواه رئيس كان المطلوب هو رحيله هو ذاته؟ والأهم أن ترزية التعديلات الدستورية الجديدة (غير الدستورية بالأحرى شكلا وموضوعا) إنما يقومون بإجهاض المطالبة بدستور جديد، ديمقراطى حقا. فهل كانت استقالة حكومة نظيف، فى مواجهة مطالبة الثورة، مكسبا؟ ونعلم أن الحكومة التى حلت محلها هى حكومة أحمد شفيق (التى انضم إليها للأسف مستوزرون من المعارضة والمستقلين)، والتى تجددت المطالبة بإسقاطها واستقالت اليوم لتحل محله حكومة عصام شرف، ومهما كان الشخص أفضل كما يمكن أن تشير المعرفة القليلة بسيرته فإن حكومته ستأتى على أرضية نفس النظام ورجاله ودستوره الأعوج ومؤسساته الوحشية. فهل تُرَى يتمثل تحقيق هدف حقيقى فى حل مجلسى الشعب والشورى؟ غير أن المجلسين سيحل محلهما مجلسان يتم انتخابهما بسرعة بالغة أىْ "بكروتة" حقيقية تفاديا لتأثير نضج الثورة مع استمرار وتواصل الثورة على طليعتها وقياداتها، وبالتالى على طبيعة المجلسين القادمين، كما سيتم انتخابهما فى ظل نفس الدستور الاستبدادى الفاسد وغير الدستورى مع تعديلات لا تتجاوز الإشراف القضائى على إجراء الانتخابات وقيام القضاء بالفصل فى صحة العضوية فتضرب بذلك صفحا على مسألة العلاقة المتوازنة بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية باعتبارها سلطات يقوم الفصل بينها على أساس دستورى سليم، وضاربة صفحا عن سلطات الحكم المطلق التى يتمتع بها رئيس الجمهورية. والحقيقة أن من العبث أن نبحث عن أهداف تحققت للثورة سوى: عودة الروح للشعب المصرى، ورحيل رأس النظام، والتعرية الشاملة لحقيقة النظام. أما جهاز مباحث أمن الدولة فإنه باق رغم جرائمه فى حق الشعب، أما الحزب الوطنى الذى انكشفت الآن حقيقة قياداته فإنه باق، أما قانون الطوارئ، هذا القانون الاستبدادى القائم منذ الخمسينات فإنه باق، مع إعلان حالة الطوارئ (أىْ تطبيق هذا القانون الإجرامى) القائم منذ أواخر عهد عبد الناصر إلى الآن فهو إذن باق، بالإضافة إلى كل قوانين الحكم المطلق والاستبداد بقيودها الحديدية على الحركة السياسية والحزبية والنقابية والإضرابية والثقافية والفكرية فى البلاد والتى تقوم جميعا على الدستور الاستبدادى الباقى رغم خدعة التعديلات الدستورية الجديدة بأمر الرئيس المخلوع.
3: وتقوم مراكز ودعائم ومواقع الثورة المضادة وأعنى بذلك كل مؤسسات النظام بلا استثناء بالعمل على قدم وساق على تفريغ الثورة من محتواها الحقيقى وعلى خداع قياداتها بالمناورات والوعود والجداول الزمنية بدلا من الاستجابة الفورية لمطالب ليست جديدة، فقد طالبت القوى الحية فى مصر طوال سنوات ضد التمديد للرئيس وضد التوريث، وضد قانون الطوارئ وضد إعلان حالة الطوارئ، وضد استمرار مجلسى الشعب والشورى المنتخبين بالتزوير، وضد الفساد والاستبداد بكل صورهما. وتتمثل المشكلة الراهنة التى تحيط بالثورة فى أن رحيل مبارك فتح أمام كل أنواع الانتهازية السياسية بابا كان مغلقا بالضبة والمفتاح فى عهد مبارك. وهكذا تقاطرت قيادات الأحزاب المشروعة وغير المشروعة على المراكز الجديدة للسلطة أىْ الثورة المضادة للتفاوض والتعاقد وعقد الصفقات، فهناك مَنْ يريد أن يكون رئيسا للجمهورية حتى قبل أن يقرر الدستور الجديد العتيد هل ستكون جمهوريتنا الديمقراطية المنشودة پرلمانية أم رئاسية، وهناك مَنْ يريد أن يكون نائبا لرئيس حكومة يطالب الشعب برحيله ورحيلها معه، وهناك مَنْ يريد أن يكون وزيرا فى مثل هذه الحكومة التى أشرفت على قمع الثورة، وهناك من يريد نصيبا كبيرا فى عضوية مجلسى الشعب والشورى القادمين مقابل إبعاد شبابه وقواعده عن المشاركة فى الثورة لإضعافها إلى أقصى حد ممكن، وفى هذه الأجواء من الانتهازية السياسية تدخل قيادات شبابية للثورة بحكم قلة خبرتها السياسية على خط التفاوض والتعاون مع مراكز الثورة المضادة التى تطالبهم بالتعقل والنضج للتغرير بهم، بطريقة صارت تنذر بانقسامات بين القيادات الشبابية للثورة حول مطالب ومواقف وأنشطة وإجراءات الثورة. وبالتالى صار لدينا إلى جانب الثورة السياسية الشعبية، هذه الثورة المضادة التى تشنها مؤسسات الدولة جميعا وهذا منذ اليوم الأول للثورة، وقد حققت الثورة بعض أهدافها غير أن هدفها الجوهرى فى إقامة نظام ديمقراطى تتحقق فى ظله حياة كريمة ما يزال فى خطواته الأولى، أما الثورة المضادة فقد أصابت بعض النجاح من خلال التسويف واللعب على عامل الزمن والعنف فى سبيل تفادى تحقيق الأهداف الجوهرية للثورة وإنقاذ النظام واستنبات رأس جديد له وإحياء المؤسسات المنهارة بحيث لا تكون مختلفة كثيرا. وهذا هو الشكل الذى يدور به الصراع بين الثورة والثورة المضادة وكذلك خلق أرضية مشتركة بينهما فى سبيل تحقيق أهداف الثورة المضادة بإنقاذ النظام كحد أقصى أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه كحد أدنى اضطرارى.
4: ويصير من الضرورى بالتالى أن تعتمد الثورة على قواها الخاصة بعيدا عن كل مؤسسات الدولة بما فى ذلك مؤسسة القوات المسلحة التى يمثلها المجلس الأعلى. وبالطبع فإن على الجيش دورا كبيرا يتمثل فى حماية البلاد خاصة فى فترة غياب الشرطة التى ينبغى إعادة بنائها على أسس ديمقراطية. وبعيدا عن الجيش ينبغى تأسيس مجلس ثورى توافقى يشكل حكومة توافقية وتتمثل مهمته فى إنشاء جمعية تأسيسية واسعة، توافقية بدورها، تقوم بإصدار دستور جديد، وفيه فقط يتم حسم مسألة أن تكون مصر جمهورية پرلمانية أم رئاسية، وعلى أساسه فقط يتم إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية وفقا لطبيعة وضع الرئيس فى هذا النوع أو ذاك من الجمهورية. وتنتهى مهام المجلس الثورى التوافقى ومدته فور استكمال قيام المؤسسات الجديدة للدولة. وتشمل التوافقية كل قوى الثورة والقيادات التى تؤيدها الثورة بعيدا عن كل مؤسسات الدولة باستثناء وزراء الحكومة الجديدة الثورية التوافقية بطبيعة الحال، وباقى مؤسسات دولة الثورة فى مختلف المراحل.
5: يقوم المجلس الثورى التوافقى، بالتشاور والتوافق مع قوى الثورة، بما يلى:
أولا: إحالة كل من قمعوا ثورة 25 يناير إلى المحاكمة من القمة عند الرئيس المخلوع فنازلا إلى الحضيض دون استثناء.
ثانيا: الإلغاء الفورى لدستور 1971 الدائم مع كل تعديلاته القديمة والمقترحة، وتأسيس الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداد الدستور الجديد، تمهيدا للانتخابات النيابية والرئاسية، مع منح فترة كافية فى حدود سنة واحدة مثلا للمناقشة العامة الواسعة للدستور الجديد وإقراره وإجراء الانتخابات على أساسه، بهدف ترك مجال أوسع لنضج الحياة السياسية الناشئة بالأحزاب والحركات والمنظمات السياسية الجديدة وغيرها.
ثالثا: تأليف الحكومة الجديدة التى سيكون عليها الاتصال بكل الجهات التى تخضع دستوريا للحكومات واستلام كل الوزارات وما يتبعها.
رابعا: الإلغاء الفورى لكل من قانون الطوارئ الحالى الذى يعطى رئيس الجمهورية (مع تنفيذ قوات الأمن والقوات المسلحة) سلطات مطلقة فى تحديد الأوضاع التى تستدعى حالة الطوارئ حسب تقديره، وفى ممارسة إجراءات تؤدى إلى العصف الكلى بكل الحريات والحقوق (وفقا لمواد ذلك القانون الرهيب وسيتم بالطبع إصدار قانون طوارئ دستورى حقا محله) وكذلك الإلغاء الفورى لإعلان حالة الطوارئ أىْ التطبيق الحالى لذلك القانون السيء السمعة.
خامسا: الإلغاء الفورى لكل القوانين والقرارات المقيدة للحقوق والحريات السياسية والنقابية والإعلامية وغيرها.
سادسا: حل وإعادة بناء جهازى أمن الدولة والمخابرات العامة.
سابعا: الدعوة إلى الإطاحة بالقيادات النقابية والإعلامية، إلخ.، القديمة التى لم تعد ملائمة للعهد المنشود.
ثامنا: ملاحقة الفساد والفاسدين بلا هوادة وتضييق الخناق القانونى والإدارى عليهم، ومحاسبة ومحاكمة كل من أفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية فى البلاد، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم التى جاءت من هذا الطريق.
تاسعا: إقرار كافة حقوق العمال والفلاحين وكافة العاملين مع إقرار حد أدنى عادل للأجور وربط الأجور بالأسعار.
عاشرا: حل الحزب الوطنى وعدم السماح لرموزه بتكوين حزب أو أحزاب تحت أىّ أسماء جديدة، أو الانضمام إلى أحزاب أخرى.
حادى عشر: البدء الجاد والمخطط فى إعادة بناء الاقتصاد وإدارته على أساس تحقيق الاستقلال الحقيقى الذى لا سبيل إليه إلا عن طريق الثورة الاجتماعية التى تقوم على التصنيع الشامل والتحديث الشامل للاقتصاد والثقافة وعلى التنمية الاجتماعية الجذرية.
ولا تراجع! ثورة متواصلة! ثورة حتى النصر!
3 مارس 2011
 
 
 
 
 
7
لا للتعديلات الدستورية الجديدة
(بيان)
1: تنفيذا للقرارات التى أعلنها الرئيس المخلوع، فى بيانه فى اليوم السابق لاستقالته أو إقالته، والمتعلقة بتعديل عدد من المواد الدستورية التى تقتصر على الانتخابات الرئاسية والپرلمانية، وفى ظل التفويض غير الدستورى لسلطة رئيس الجمهورية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تشكلت بالتعيين لجنة ضيقة من رجال القانون الدستورى قامت بصفة أساسية بما طُلب منها مع تعديلات أخرى ثانوية. ووفقا لقاعدة السمع والطاعة لم يسأل هؤلاء الفقهاء الدستوريون أنفسهم لماذا يتورطون فى إعداد تعديلات لتكون فى خدمة دستور ديكتاتورى سيء السمعة. ذلك أن أىّ شروط أخف مع إشراف قضائى وغير ذلك ستأتى مهما كانت أفضل قليلا برئيس جمهورية يعمل بالدستور الدائم الديكتاتورى المعطل حاليا عن طريق تفعيله أو بدون دستور على الإطلاق، وهكذا ستكون فى يد الرئيس الجديد وسائل هائلة تتمثل فى هذه السلطات الدستورية المطلقة وكذلك فى مجلسى الشعب والشورى اللذين سيتم انتخابهما على أساس نفس هذا الدستور غير الدستورى وفى هذه الأوضاع التى تخلو بالفعل من أىّ شرعية دستورية فى مصر وفى غياب أىّ هيئة شعبية كان من الممكن لها وحدها أن تملك الشرعية الثورية. لقد فضل هؤلاء الفقهاء الدستوريون الأجلاء أن يطيعوا تعليمات الرئيس المخلوع التى تم توجيهها إليهم من خلال تفويض غير دستورى بدلا من أن يقولوا: لا وألف لا لهذه المهمة الديكتاتورية وغير القانونية، وبدلا من أن يتوجهوا إلى الشعب صانع هذه الثورة ليقولوا له: استميتوا فى المطالبة بدستور جديد ديمقراطى، تقوم بإعداده جمعية تأسيسية تتوافق على اختيارها قوى وقيادات الثورة بحكم الشرعية الثورية، مع التوافق أيضا على حكومة توافقية تقود العملية الثورية فتستلم كل مؤسسات الدولة وتقوم بإدارتها.
2: ولا يتسع المجال هنا للوقوف طويلا عند تفاصيل هذه التعديلات لتوضيح طبيعتها الإجرائية البحتة وابتعادها الكامل عن جوهر القضية المتمثلة فى ضرورة تدمير كل وسائل الاستبداد والديكتاتورية والقهر أى ببساطة التخلص من هذا الدستور والقوانين المنسجمة معه والحكام الآتين عن طريقه ونواب الشعب المزعومون الآتين عن طريقه وكذلك التخلص من السياسات والممارسات الاستغلالية والتسلطية الجارية على أساسه. وكما يعلم الجميع لا تتجاوز هذه التعديلات ما يلى: أ: التعديلات المتعلقة برئاسة الجمهورية تتلخص فى اشتراط الجنسية المصرية وعدم الزواج بغير مصرية (المادة 75)؛ بعد ذلك تأتى المادة 76 بتخفيف قيود "مسوغات الترشيح للرئاسة" وفى غياب مجلسى الشعب والشورى لا يبقى سوى الشرط الجديد المبالغ فيه جدا وهو شرط الحصول على تأييد ثلاثين ألف مواطن من خمس عشرة محافظة بألف مؤيد من كل محافظة منها بالإضافة إلى الإشراف القضائى؛ أما المادة 139 فتشترط قيام الرئيس بتعيين نائب أو أكثر بدلا من انتخاب النائب أو النواب. ب: التعديل الخاص بقانون الطوارئ (المادة 148): وبدلا من إلغاء هذا القانون السيء السمعة أو أى إشارة إلى عدم دستوريته بوضعه الحالى تقتصر تعديلات هذه المادة على أمور إجرائية ثانوية للغاية ولا تستحق الوقوف عندها هنا؛ ج: تعديل يتعلق بمجلسى الشعب والشورى يقتصر على زيادة الإشراف القضائى نسبيا (المادة 88) وباختصاص المحكمة الدستورية العليا بالفصل فى صحة العضوية فى المجلسين؛ د: يتعلق تعديل المادة 189 أساسا بإصدار دستور جديد ليس من حيث مبادئه بل فقط من حيث إجراءاته مع تجاهل النص على أى تعديل مستقبلا لذلك الدستور؛ هـ: إلغاء المادة 179 الخاصة بمواجهة أخطار الإرهاب لا يضيف شيئا فى وجود جبال من القوانين الكافية لهذه المواجهة. إذن لا تعدو التعديلات عن أن تكون مجرد تعديلات إجرائية لخدمة دستور يشكل الأساس القانونى لنظام استبدادى ولاستعادته بالكامل مستقبلا.
3: إذن كل الإجراءات التى تمت فى مصر إلى الآن غير دستورية. وهذه التعديلات التى يتم طبخها وفرضها بالاستفتاء وبدون نقاش عام حقيقى فى المجتمع لا يستند إلى شرعية دستورية ولا إلى شرعية ثورية سوف تنقلنا إلى رئيس يجعله الدستور حاكما مطلقا لن يجد جهة يؤدى القسم أمامها ومجلسين ليسا أفضل كثيرا وبالتالى من جمعية تأسيسية مشكوك فيها مسبقا. فما العمل؟ ولكننا نعلم أن الصراع على أشده الآن بين الثورة والثورة المضادة التى تكتفى بمجرد تقديم كباش فداء يتمثلون فى مبارك وبعض أعوانه. والوضع بكل جوانبه بالغ الغموض لأن الثورة المضادة تخفى نواياها المعادية للثورة والساعية إلى القضاء عليها، مع أن طريقة إدارتها لحكمها المغتصب واضحة للطليعة الواعية التى ينبغى أن تقوم بدورها التاريخى فى توعية الشعب.
4: وفى هذه اللحظة بالذات يجب أن تتركز مطالبنا على ما يلى:
-                                        رفض التعديلات الدستورية المقترحة والتصويت بلا فى الاستفتاء.
-                                        إلغاء دستور 1971 الدائم، دستور السادات و مبارك، لإصدار دستور جديد.
-              دعوة قوى الثورة إلى إنشاء جمعية تأسيسية توافقية بعيدا عن الدولة تنتخب حكومة انتقالية توافقية تستلم كل الوزارات وكل ما يتبعها، وتنتخب لجنة لإصدار دستور جديد ديمقراطى، مع اعتبار أن الخيار الأفضل هو الجمهورية الپرلمانية.
-                                        حل وإعادة بناء مباحث أمن الدولة والمخابرات العامة، وحل الحزب الوطنى.
-                                        الإلغاء الفورى لحالة الطوارئ وقانون الطوارئ.
-                                        الإطاحة بكل القيادات النقابية والإعلامية، إلخ.، وانتخاب قيادات جديدة.
-                                        ملاحقة ومحاسبة ومحاكمة الرئيس ورجاله وكل الفاسدين.
-                                        إقرار كافة حقوق العمال والفلاحين وكل العاملين وإقرار حد أدنى للأجور وربطها بالأسعار.
5: فى سياق هذا الوضع غير الدستورى من جميع النواحى، جاء تطور لا يخلو من أهمية هو مجيئ الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء الجديد إلى ميدان التحرير، وإعلانه أنه يستمد شرعيته من الثوار بالميدان، ثم تأليفه لوزارة يبدو أن فيها شخصيات تدعو إلى التفاؤل مع وزراء من عهد مبارك، ومن هنا نطالب رئيس الوزراء الجديد بأن يبدأ بتنفيذ تعهده للثورة مع البدء بالمطالب المذكورة أعلاه ومنها مطالب يمكن تنفيذها فورا مثل منع الاستفتاء وإلغاء الدستور وإلغاء قانون الطوارئ، مع استبعاد وزراء العهد البائد.
عاش الشعب المصرى .. عاشت الثورة ..
7 مارس 2011 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8
الحرب الأهلية فى ليبيا...
تحفر قبر نظام القذافى
1: صمد القذافى إلى الآن أمام الشعب الغاضب وقتا أطول من حسنى مبارك، ويوشك الآن على التفوق حتى على زين العابدين بن على، وربما استطاع أن يصمد وقتا أطول كثيرا استمرارا لنفس عوامل صموده إذا لم يكن الحظر الجوى المحتمل فعالا بما يكفى، والمهم أن هذا الخطر [خطر المزيد من صمود القذافى] بدأ يثير لدى أطراف متعددة متنوعة، مثل وكالة المخابرات المركزية من طرف وقوى الثورة العربية من طرف آخر، مخاوف من استعادة نظامه الديكتاتورى الدموى، الأمر الذى سيكون فى حالة حدوثه كارثة كبرى على الشعب الليبى، كما أنه سيمثل ضربة هائلة لتطلعات الشعوب العربية ولتواصُل وانتشار ثوراتها السياسية فى سبيل الحرية والعدالة والكرامة. وسأحاول فى هذا المقال أن أوضح أن أسوأ احتمالات مسار التطورات فى ليبيا، وأعنى احتمال نجاح القذافى فى إعادة "احتلال" ليبيا كلها، يشكل دون شك مستويات أكثر دموية من معاناة الشعب الليبى، غير أن ذلك لن يكون نهاية المطاف، فحتى فى هذه الحالة الكئيبة سوف تنتصر فى النهاية ثورة 17 فبراير الكبرى، لأن الوضع الجديد الناشئ فى حالة إعادة احتلال القذافى لليبيا سيكون من الناحية العسكرية البحتة فى صالح قوى الثورة وليس العكس، كما يصوِّر للقذافى وأبنائه وأعوانه جنونه وجنونهم.
2: ولا شك فى أن ليبيا، شأنها فى هذا شأن البلدان العربية النفطية الغنية والقليلة السكان، كان بمستطاعها أن تكون أنجح من البلدان العربية الأخرى فى التعامل مع الثورة، فهذه الشعوب التى لا تعانى شعوبها اتساع نطاق الجوع ولا الحياة تحت خط الفقر بنفس مستويات بلدان مثل مصر والسودان واليمن وغيرها، كانت فى وضع يسمح لها بتقديم تنازلات كبيرة فى مجال الحرية ومستويات المعيشة، وكان بوسعها أن تتحمل تبعات الديمقراطية مؤقتا، لو توفر لها قدر كاف من الحكمة والعقل، إدراكا منها لأرجحية أن يمتد الانفجار الثورى العربى الراهن ليشمل الجميع بلا استثناء، خاصة بعد أن شاهدت البلدان النفطية وغيرها السقوط المدوى لنظام بن على فى تونس، ثم لنظام مبارك فى مصر بلا إبطاء وبلا استراحة فاصلة بينهما، وبسرعة مفزعة. ولا شك فى أن انهيار هذين النظامين البشعين فى تونس ومصر كان يمثل بالنسبة لباقى الحكام العرب جميعا، ودون شك فى مناطق أخرى من العالم، كابوسا مخيفا لأنه كان قد أضحى المصير المحتمل بل المرجح للجميع منذ اللحظة الأولى. ولا شك فى أن كابوس الزلزال العربى بكل توابعه التى لا تقل عنفا كان يمثل إعصارا دماغيا لكل الحكام العرب ولكل حكام العالم، حيث صار حكام الغرب أو الشمال الإمپرياليون مهدَّدين بفقدان حلفاء أساسيين ومصالح كبرى، وحيث صار حكام العالم الثالث وحكام كل الديكتاتوريات ومنها الصين مهدَّدين مباشرة فى عقر دارهم.
3: غير أن الحكمة كانت مستعصية! وكان العقل مستعصيا! وكان خداع النفس يجعل كل إدراك مضللا لدى حكام البلدان العربية النفطية القليلة السكان، أىْ ليبيا وبلدان الخليج على وجه الحصر (لأن البلدين النفطيين الكثيفى السكان نسبيا، أىْ الجزائر والعراق، يختلفان بوضوح). وكانت الحسابات معقدة جدا لدى حكام تلك البلدان ومن عوامل الخطأ فى حساباتهم تصوُّرهم البائس أن الثورة فى تونس ومصر كانت ثورة جياع، كما كان متوقعا بسبب تأثير الأزمة المالية العالمية على بلدان العالم الثالث. ولهذا فإنهم لم يدركوا أن وجود عامل البطالة والفقر والجوع بلا جدال لا يستبعد أنها كانت بنفس القدر وربما بقدر أكبر ثورة فى سبيل الحرية والكرامة ضد ديكتاتوريات عاتية مثل كل الأنظمة العربية بلا استثناء تقريبا، لأنه لم يعد من الممكن استثناء ليبرالية لبنان، كما أنه لا يمكن استثناء الديمقراطية الأمريكية فى العراق. كان هناك إذن غرور مضلِّل لدى حكام النفط العربى أعماهم حتى عن إدراك أن الفقر نسبى عندما يؤخذ فى الاعتبار انعدام التوازن بين مستويات دخول مختلف طبقات مجتمعاتهم، وعن إدراك أنهم حكام أنظمة فاسدة حتى النخاع، وعن إدراك أن أنظمتهم تمثل أبشع صور الديكتاتورية والفساد والتخلف المطبوع بطابع القرون الوسطى. وهناك بالطبع عامل آخر عند هؤلاء الحكام، كما عند باقى الحكام العرب، كان وما يزال يحول دون تقديم تنازلات أمام شعوبهم لأن تقديراتهم التى لا تخلو من كثير من المنطق، رغم تناقض المبالغة فيها مع مصيرهم ذاته، تتمثل فى أن التنازلات ستبدو للشعوب ضعفا وأنها ستكون بالتالى عامل إشعال للثورة بدلا من أن تكون وسيلة فعالة لتفاديها أو القضاء عليها فى مهدها. وهناك أيضا تصوُّرهم جميعا أنهم محصَّنون باعتبارهم ملوكا وأمراء وسلاطين من الرفض الشعبى للتمديد والتوريث فى الجمهوريات العربية، لأن قاعدة حكمهم التى صارت مقدسة، رغم ندرتها فى عالم اليوم، هى قاعدة الحكم المقدس مدى الحياة والتوريث المقدس إلى أبد الآبدين. وهناك بالطبع يقينهم الذى يرسِّخه خداع النفس بأن الولايات المتحدة الأمريكية موجودة فى بلدانهم اقتصاديا وعسكريا وأنها سوف تنجح فى حمايتهم من شعوبهم فى حالة الثورة. وبالطبع فإن القذافى يختلف عن حكام مجلس التعاون الخليجى فى أشياء كثيرة، غير أنه، وقد رفع نفسه فوق أصحاب الفخامة والجلالة والسمو جميعا محلِّقا فى سماء القائد الذى لا يحكم فى جماهيرية يحكم فيها الشعب بصورة مباشرة، يتفوق فى أوهامه عن نفسه، وعن أبنائه، وعن نظامه، وعن شعبه، على الجميع. وهكذا نرى الحقيقة غائبة، والعقل مُوهِما، والإدراك مضلِّلا، كما نرى فى حالة القذافى الذى أصابه خروج الشعب على يقينه الوهمى الراسخ بمزيد من الجنون، وكما نرى فى حالة البحرين حيث تهرع السعودية، تحت راية مجلس التعاون الخليجى، إلى النجدة العسكرية المباشرة، دون خشية من دخول إيران على الخط لحماية الأغلبية الشيعية فى البحرين، وذلك اعتمادا على تطمينات وضمانات أمريكية لا مناص من افتراضها، وكما نرى كذلك فى التعامل السعودى والكويتى مع بعض الإرهاصات الاحتجاجية، ولا أعرف ما إذا كان قابوس عمان قادرا على مواصلة التعقل الحالى. وبطبيعة الحال فإن الأنظمة العربية الملكية تخشى أن تطيح بها ثورات تتطلع إلى النظام الجمهورى، وألا تكتفى بملكيات دستورية تعنى أيضا من الناحية الفعلية أنها فقدت السلطة الحقيقية بنفس القدر، خاصة مع مطلب الملكية الدستورية فى الأردن وإلى حد ما فى البحرين وخدعة الملكية الدستورية فى المغرب. وبطبيعة الحال فإن المملكة العربية السعودية تأخذ فى حساباتها أيضا حقيقة اتساع قاعدتها الطبقية التى يمثل آلاف الأمراء السعوديِّين نواتها الأساسية، الأمر الذى يُشعرها بأنها ستكون قادرة، بعون الله والولايات المتحدة، على تحطيم الثورة فى كل بلدان مجلس التعاون الخليجى. ولا أريد أن أنسى أن هناك عامل عبادة المال والسلطة باعتبارهما فى تكاملهما واندماجهما إله العصر بلا منازع فى السماء أو الأرض بكل تلك الشراهة المروِّعة التى ظهرت عندما جرت تعرية شاملة لكثير من الأنظمة العربية إلى الآن. ولا شك فى أن هذه الشراهة بالثروات الطائلة بأرقامها الفلكية وبالسلطة المطلقة بوسائلها الشيطانية والرغبة فى الحفاظ على هذا الإنجاز الكابوسى التراكمى وإنقاذه تمثل عوامل وأسبابا مهمة وراء السلوك اللصوصى والاستبدادى لهذه الأنظمة أثناء استقرارها قبل الثورة وأثناء الثورة المضادة الدموية المروعة عندما اندلعت الثورة. وقد يتساءل كثيرون عن مغزى كل هذا الحديث عن التصورات والأوهام والشهوات والشراهات وحتى عن الحقيقة والعقل والإدراك على حين أن الطبقات الحاكمة تضع سياساتها وتمارسها وفقا لمصالحها، والحقيقة أننا كنا نتعلم هذا فى الماضى، غير أن الطبقات الاجتماعية وإنْ كانت تحدد سياساتها وتمارسها مدفوعة بمصالحها فإنها تفعل ذلك فى الواقع وفقا لأفكارها وتصوراتها ونظرياتها وأوهامها عن مصالحها، وفى كثير من الأحيان تتوافق تصورات الطبقات عن مصالحها مع تلك المصالح غير أنها فى أحيان أخرى كثيرة لا تتوافق، فهل كان ما فعله هتلر وحلفاؤه فى الياپان وإيطاليا وغيرهما فى مصلحة الطبقة الإمپريالية الألمانية وطبقات تلك البلدان الإمپريالية الأخرى؟ وهل كان ما فعله صدام حسين فى مصلحة طبقته الحاكمة؟ وهل كانت الشراهة المفزعة للمال والسلطة لدى كل الحكام العرب فى مصلحة الأنظمة العربية لتكون نتيجتها هذه الثورة العربية العاصفة التى تهدف إلى الإطاحة بها جميعا؟ وهل كانت كل سياسات وممارسات حكام أمريكا أو الاتحاد السوڤييتى فى مصلحة الطبقتين الرأسماليتين الإمپرياليتين فى هاتين الدولتين؟
4: ونعود إلى القذافى، الذى ورطته أوهامه المشتركة مع بلدان مجلس التعاون الخليجى، وكذلك أوهامه الهائلة الخاصة، وورطه المزيد من الجنون نتيجة اصطدام كل أوهامه بالواقع الصلب للثورة. والآن، ما هى عوامل صموده إلى الآن، وصموده وحتى احتمال انتصاره المؤقت فى المستقبل خاصة إذا لم يكن الحظر الجوى المحتمل غير فعال بما يكفى؟ وما هى العوامل التى تؤكد أن القذافى قد انتهى مهما يفعل ومهما يكن مسار التطورات الراهنة؟ والحقيقة أنه كان هناك عامل لغير صالحه وبالتأكيد لصالح الثورة، ويتمثل هذا العامل فى ضيق قاعدته الطبقية الاجتماعية، فدولته خالية من أىّ مؤسسات ذات تاريخ، وينحصر نظامه فى شخصه وفى أولاده وأقرب المقربين منه، بالاستعانة برشوة بعض القوى وبتجنيد المرتزقة على نطاق واسع كمؤسسة يمكن الاعتماد عليها. وكان هذا العامل لصالح قوى الثورة التى صارت أكثر جذرية بالمقارنة مع تونس ومصر، حيث واجهت ديكتاتورا معزولا إلا من حاشيته المشار إليها وإلا من مرتزقته وإلا من خلفية قبلية غير حاسمة، الأمر الذى وحَّد الشعب الليبى، وجعل من الممكن أن يكون الجميع ضده وأن يشكلوا بالتالى مجلسا وطنيا انتقاليا "لكل ليبيا وعاصمتها طرابلس"، على النقيض من مصر بالذات، حيث القاعدة الطبقية الاستغلالية الفاسدة الواسعة، والمؤسسات البيروقراطية الضخمة، والمصالح الطبقية التى ما تزال تقف خلف المحاولات المسعورة لاستعادة نفس النظام مع التضحية برئيسه وبعدد من كباش الفداء من وزرائه والمقربين منه ومن مشاركيه فى الفساد مع ترك الجسم الضخم للفساد والاستبداد مختفيا مثل كتلة جبل الثلج. لقد اجتمعت إذن عوامل اتحاد الشعب الليبى، ومجلسه الانتقالى، وصلابته السياسية والعسكرية، والاستماتة البطولية فى سبيل النصر أو الموت، والانشقاق الواسع النطاق فى صفوف جيش كان قد جرى إضعافه لصالح قوى الأمن، تماما كما حدث فى تونس ومصر، وانشقاق العديد من المسئولين والقياديين والوزراء والدپلوماسيين، ... اجتمعت كل هذه العوامل وغيرها بفضل فظاعة الاستبداد القذافى والفساد القذافى، وبفضل الطابع الشخصى والعائلى لنظامه وحكمه.
5: أما الطبيعة الجغرافية لليبيا فقد لعبت دورا مزدوجا لصالح القذافى من جهة ولصالح الثورة من الجهة الأخرى. فهذه البلاد المترامية الأطراف صحراء تقطعها مدن ساحلية من الناحية الأساسية كما تقطعها واحات وقرى وكلها متفرقة متباعدة، ومن هنا فإن المناطق القاحلة أقامت بين المدن المأهولة بالسكان وحتى القليلة السكان للغاية مسافات كبيرة. وصار بوسع القذافى أن يلوذ بملاذ آمن مؤقتا فى معقل قوته بعيدا فى بيت العزيزية فى طرابلس منطلقا من هذا الحصن إلى إخضاع المدن الصغيرة نسبيا، القريبة من طرابلس والمعزولة عن باقى البلاد، ليقتطع لنفسه منطقة ربما كانت تحتوى على ثلاثة أرباع النفط الليبى، بحيث يكون قادرا على الصمود طويلا، واستجماع القوى واستعادة باقى البلاد إلى حظيرة الجماهيرية والكتاب الأخضر. واستبد به الجنون إلى حد استخدام كل أسلحة جيشه من طائرات وبوارج ودبابات ومدافع وصواريخ وغيرها بالإضافة إلى قوات أمنه ومرتزقته. وتكمن ميزة المرتزقة فى نظر القذافى فى أنهم سيضربون ويقتلون الشعب بلا رحمة، وأنهم لن ينشقوا لينضموا إلى الشعب، كما يفعل أفراد ومجموعات من الجيش. وقد تحقق للقذافى إلى الآن المزيد من النجاح فى الاحتفاظ بقلعته وغزو واحتلال المدن المحيطة بطرابلس، غير أن العيب الخطير فى هذا النجاح ذاته والذى يقلل من أهميته هو أن التدمير الدموى الجنونى للشعب ومقدراته يحفر بينه وبين الشعب هوة لا أمل فى عبورها ويجعله أكثر عزلة محليا وعربيا ودوليا. ومن المحتمل أنه يتجه الآن إلى بنغازى فيما يتجه مجلس الأمن إلى إقرار الحظر الجوى وإلا اضطر الغرب إلى فرض الحظر بدون مجلس الأمن والأمم المتحدة. وكانت هذه المدن والمناطق المتباعدة فى الجغرافيا عوامل مواتية للثورة التى كانت مدنها البعيدة عن معقل القذافى قادرة على إنضاج الثورة داخلها وحولها وفى المدن والمناطق القريبة منها وعلى تشجيع الانشقاق عن القذافى بتوفير ملاذات آمنة مؤقتة على أقل تقدير، بحيث تكون قادرة، كما فعلت بالفعل، على الزحف إلى المناطق القريبة من طرابلس المحتقنة والثائرة الصدور ولكنْ غير القادرة إلى الآن على الانفجار على نطاق واسع ومتواصل بحكم وجودها فى الجوار المباشر لمركز القمع الدموى المسعور. وهكذا كانت جغرافيا ليبيا مع القذافى وضده، ومع الثورة وضدها. على أن هذا الدور للجغرافيا يشمل مرحلة بعينها أو مراحل بعينها لأن تركيز قوات القذافى حاليا فى معقله وفى المدن والمناطق المجاورة بعيدا عن الانتشار الواسع أو الضرب الفورى لكل مكان، لن يظل قائما إلى النهاية، فهذا التركيز النسبى لوجود قواته يعطى فرصة فى نظره ونظر أشباله ومقربيه وخبرائه لبنغازى وغيرها للمزيد من التعبئة السياسية والعسكرية، وبالمزيد من نضج الثورة، ولا سبيل إلى هدف إخماد "الفتنة" فى مهدها، فى نظرهم، إلا بالانتشار شرقا بالذات، فى سباق محموم مع احتمالات الحظر الجوى. ولكنْ ما معنى الانتشار؟ إنه نفس التناقض بين التركيز والانتشار فى كل حرب وفى كل حرب أهلية كالتى تجرى فى ليبيا. فالانتشار سيؤدى بالضرورة إلى تفرُّق وتشتُّت قواته ومرتزقته ودباباته ومدرعاته وغير ذلك، وهذا ما يجعل الدبابة، على سبيل المثال، صيدا سهلا عند انتشارها بين الجموع، كما يجعل الأفراد أيضا صيدا سهلا، وهذا يعنى أن الثوار باستماتتهم وصلابتهم وعزيمتهم ومعنوياتهم المرتفعة سيحرقون الدبابات ومختلف المركبات ويقتلون أفراد قوات القذافى المنتشرين والمتفرقين الذين سيكونون قد فقدوا القوة التى كان يوفرها تركيزهم فى السابق. أما القذافى وأبناؤه وأسرته والمقربون منه فإنهم سيظلون مختبئين كالجرذان، كما هم الآن، فى بيت العزيزية خوفا من الاغتيال عند أىّ خروج أو ظهور، إلى أن تداهمهم الجماهير المنتصرة فى مخابئهم الحصينة. وربما كان أفضل خيار عسكرى للقذافى هو عدم الانتشار والاحتفاظ بتركيز قواته فى المدن الصغيرة والمناطق الأخرى المحيطة، تاركا استعادة باقى البلاد إلى زمن آخر. غير أن هذا الخيار وإنْ كان يمكن أن يطيل عمر نظامه، مع انكماشه فى طرابلس وما حولها، ينطوى على خطر لا يمكن استبعاده. فالمزيد من نضج الثورة فى الشرق سيتجه بها بالضرورة إلى الزحف إلى طرابلس الغرب، كما أن احتمال تزويد الثورة بالسلاح سيجعل هذا الزحف إلى الغرب احتمالا أكبر وفوق ذلك مدججا بالأسلحة الأكثر تطورا، على حين أن العالم أو الغرب لن يصبر على الاحتفاظ طويلا بحظر جوى ثقيل العبء وباهظ التكلفة، مما يجعل العالم أو الغرب ميالا إلى رفع كل تحفُّظ لديه الآن، أو كان لديه، على التسليح الفعال لقوى الثورة الليبية. وصحيح أن الغرب، خاصةً بعد تجربته فى العراق بالذات، يخشى من نظامٍ للإسلام السياسى فى ليبيا مع كل ما فى هذا الاعتقاد من مبالغة بعد أن تعرَّفنا من خلال الفضائيات لأول مرة على العشرات من النخبة الليبية المنفية، غير أن شعوب العالم لن تسمح لأمريكا بوضع أعصابها فى ثلاجة أمام المذبحة الدموية كما كان يمكنها أن تفعل بحكم عاداتها المقيتة.
6: ولا شك فى أن تدخلا مصريا (لا يؤثر بحدة على أوضاع القوات المسلحة المصرية من حيث قدراتها) وفى حدود فتح باب التطوع عبر الحدود المفتوحة بالإضافة إلى بطاريات دفاع جوى فعالة، كان من شأنه أن يحمى الثورة ويُغْنِيها عن سؤال اللئيم، كما كان من شأنه أن يؤدى إلى المزيد من تآخى الشعبين الشقيقين وضمان مستقبل أفضل للعلاقات بينهما، غير أن مصر الآن ليست فقط فى حالة ثورة، فهى أيضا، فيما يتعلق بحكام الأمر الواقع فيها، فى حالة ثورة مضادة عاتية، ولهذا فإنها تتردد حتى فى اتخاذ موقف إعلامى قوى، بل كانت مترددة حتى اللحظة الأخيرة فى الموافقة على مقترح الحظر الجوى الذى تفوقت به بلدان مجلس التعاون الخليجى، رغم فزعها من كابوس الثورة العربية، على مصر، وهو المقترح الغربى أصلا.
7: وليس بوسعنا أن نتجاهل هنا مخاوف كبيرة من الحظر الجوى الأوروپى الأمريكى على ليبيا فى العالم العربى، وفى مناطق أخرى كما فى موقف أردوغان تركيا بالإضافة إلى تحفظات روسيا والصين وغيرهما. وتتركز المخاوف على الخشية من أن يؤدى التدخل العسكرى إلى تحقيق الأطماع الأمريكية والأوروپية المتصلة بوضع أيدى أمريكا وأوروپا على النفط القريب والخفيف فى ليبيا. على أننا لسنا إزاء غزو شامل لليبيا، وليس هناك فى الغرب مجنون يمكن أن يفكر فى مثل هذا الغزو الذى سيكون إنْ حدث وبالا عليه، مفجرا المزيد من الثورة والغضب والعداء ضد أمريكا والغرب. إننا إزاء عملية لا تزيد عن حظر جوى نأمل فى أن يكون فعالا حتى ضد الطيران المنخفض بالمروحيات العسكرية. والغرب مضطر إلى اتخاذ هذا الموقف رغم أعبائه الثقيلة وتكلفته المالية الباهظة. فما الذى يدفعه؟ وبالطبع فإن ما يدفع أمريكا وأوروپا ليس حب الشعوب وليس الدفاع عنها ضد المذابح التى يرتكبها الطغاة ضد شعوبهم، فالجميع يعرفون التاريخ الدموى لأوروپا وأمريكا فى مجال القمع العسكرى الجنونى فى المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة فى العالم الثالث ثم بعد ذلك. إن ما يدفع الغرب يتمثل فى مصلحته الأكيدة فى علاقاته فى المستقبل مع ليبيا ما بعد القذافى ونفوذه المعنوى وغير المعنوى فيها بحكم المساعدة فى القضاء على حكم القذافى بكل جرائمه القديمة والجديدة، وذلك بالإضافة إلى أن قيام القذافى الآن بتدمير المنشآت النفطية وغيرها لا يهدد مصالح الشعب الليبى فقط بل يهدد مصالح أوسع فى منطقة البحر الأبيض المتوسط بالتلوث وانقطاع النفط الليبى عن أوروپا. وتجد أمريكا وأوروپا فى فرض الحظر الجوى فرصة مواتية لشيء من تحسين صورتهما فى العالم العربى والعالم، فوق البيعة، فوق بيعة حماية المصالح الغربية فى المنطقة.
8: ونستنتج مما سبق أن أىّ انتصار عسكرى جزئى أو شامل لقوات ومرتزقة القذافى سيكون مؤقتا، وأن الثورة هى التى سوف تنتصر فى نهاية المطاف فى هذه الحرب الأهلية التى تعصف بليبيا، والتى سيكون انتصار القذافى فيها عامل إحباط كبير للثورة العربية، فيما سيكون انتصار الثورة فيها عامل تعزيز وإلهام يقدمه شعب غزا السماء كما قيل عن كومونة پاريس، غير أنه سيكون قد نجح فى غزو السماء والأرض معا.
پيزا، إيطاليا، 16 مارس 2011 (والقسم 7 مضاف فى اليوم التالى)                  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9
خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
 
1: من الطبيعى أن أحمل معى مدينتى (القاهرة والعالم العربى) إلى مدينة أخرى (پيزا وإيطاليا). وكيف لى أن أفارق مدينتى بالروح وإنْ فارقتها بالجسد، خاصةً إلى هذه المدينة الأخرى (پيزا) التى منحتنى حياة جديدة منذ أربع سنوات أنتجتُ فيها الكثير تأليفا وترجمة وحياة حميمة مع الأسرة والأهل والأصدقاء وكل الناس الذين هم مدينتى الحقيقية فى مصر والعالم كله والذين أدين لهم بحياتى ذاتها من أمريكا وكندا غربا إلى الياپان شرقا حيث أحاطونى بكل أنواع العون المادى والمعنوى.
وكان عزيزا علىَّ بالطبع أن أترك القاهرة لهذه الزيارة القصيرة (15 يوما) إلى إيطاليا للمتابعة التزاما بمواعيد مسبقة مع المستشفى. وما كان لى أن أترك القاهرة والعالم العربى والثورة العربية لولا هذه الظروف القهرية، تاركا لهذه العوالم الواعدة قلبى ومركِّزا عليها عقلى. غادرتُ مصر التى تتصارع فيها قوتان كبريان هما الثورة والثورة المضادة، وغادرتُ العالم العربى الذى يشهد نفس هذا الصراع الكبير فى معظم بلدانه بين هاتين القوتين الكبيرتين. وكلها صراعات لم تُحسم بعد بصورة نهائية حتى فى تونس ومصر اللتين جرت فيهما الإطاحة برأس النظام وببعض رجاله مع اشتداد الثورة المضادة المسعورة بكل وسائلها المتنوعة، وفى ليبيا واليمن رغم اقتراب ساعة الخلاص من القذافى و على عبد الله صالح، لأن الثورة المضادة مرض خبيث ينشأ مع الثورة وربما قبلها بكثير، وعلينا أن نعمل حسابها حتى فى ليبيا التى استطاع شعبها أن يحقق ما لم يحققه شعب تونس وشعب مصر بفضل ضيق القاعدة الاجتماعية والسياسية لنظام القذافى وبفضل الجغرافيا أيضا، مما أدى إلى بروز قيادة موحَّدة واحدة للثورة فى ليبيا على النقيض من مصر وتونس اللتين تفتقر فيهما الثورتان العظيمتان إلى قيادة ناضجة موحدة، واللتين لم تشهدا حتى الاستقالات الواسعة النطاق والانشقاقات الكثيرة لرجال النظام وچنرالاته ودپلوماسيِّيه وحتى القبائل فى كل من ليبيا واليمن، ففى مصر وتونس لم تكن هناك استقالات أو انشقاقات بل كان هناك على النقيض استعداد مروِّع لحمل الحقائب الوزارية وشغل المناصب العليا حتى فى عهد مبارك و عمر سليمان و أحمد شفيق والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
كان عزيزا علىَّ أن أبتعد عن هذا الصراع الكبير المفتوح بين الثورة والثورة المضادة، ولهذا فأنا أتابع بقدر ما أستطيع من خلال الكمپيوتر غير المجهَّز للُّغة العربية، والذى يستخدمه غيرى أيضا فى المكان، فلا أستطيع أن أواصل كتابة المقالات على الكمپيوتر كما كنت أكتبها فى مصر عن الثورة وقضاياها فى تونس ثم فى مصر وغيرهما، ولا أستطيع كذلك البحث عن كل ما أريد، غير أن الإنترنت يجعلنى أتابع من خلال بريدى الإلكترونى وفيسبوك وتويتر وبى. بى. سى والجزيرة نت ومواقع وصحف مصرية وعربية وعالمية كثيرة وهذا فضل كبير من أفضال الحضارة الغربية مع كل ما فعلته وتفعله بنا. غير أن كل هذا لا يكفى، ففى مصر، حيث كنتُ، تلتقط الأُذُن وترى العين ويتواصل الحديث المباشر فى البيت والشارع وفى ميدان التحرير أحيانا أو عبر التليفون، ولكنْ: شيء خير من لا شيء، كما يقولون. وبالطبع فإن وجودى فى العالم العربى، عالم الثورة، من مكانى فى مصر، لم يكن يضيف شيئا له وزنه إلى الثورة، فأنا لم أكن طيلة حياتى ولا أثناء الثورة مناضلا جماهيريا، وإنْ كنت قد ذهبت مرات إلى ميدان التحرير لألمس الثورة وأسمعها وأراها وأشمها وأحسها بكل حواسِّى، وكل ما هناك أن كتاباتى المتواترة عن الثورة فى مصر بالذات، مهما كانت قيمتها محدودة ومهما كان تأثيرها ضئيلا، كانت مهمة بالنسبة إلىّ، أن أكتب وأنشر إليكترونيا من خلال موقع يخصنى ومن خلال الحوار المتمدن ومنه إلى فيسبوك وتويتر وإلى مواقع ميديا إليكترونية كثيرة لم أنتبه إليها من قبل، وكذلك من خلال الإرسال من بريدى الإليكترونى إلى مئات الأصدقاء. وبالطبع فإننى أكتب هنا أيضا عن الثورة. غير أن ما أكتبه هنا قليل جدا وقد كتبت بالتحديد مقالا بتاريخ 16 مارس - وهو اليوم التالى لوصولى إلى إيطاليا (روما) واليوم الأول لوصولى إلى پيزا الحبيبة التى هى بمثابة مسقط رأسى الثانى بعد أن كنت مُشْرفا على الموت منذ أربع سنوات - عن الثورة الليبية وعرَّجْتُ فيه قليلا إلى السعودية وبلدان مجلس التعاون الخليجى، بالإضافة إلى ما بدأتُ أكتبه الآن، أىْ هذه الخواطر التى أفكر فيها منذ أيام وأبدأ كتابتها الآن (مباشرة بعد أخذ عينة من كبدى الثانى فى هذه الحياة كما قالت لى الطبيبة التى أجرت أخذ العينة لطمأنتى وتنبيهى إلى ضرورة العناية به). والمشكلة أننى لم أستطع إلى الآن كتابة مقالى عن ليبيا على الكمپيوتر لأن ظروفى لم تسمح لى إلى الآن، ولن تسمح لى على الأرجح فى الأيام الباقية، بالذهاب إلى فلورنسا حيث يعيش الصديق البورسعيدى صلاح إبراهيم ولا أعرف هنا شخصا أجد عنده أو مكانا أجد فيه "الحاسوب العربى" المنشود. وسوف تلقى هذه الخواطر، بالتالى، نفس المصير. وعلى كل حال فإن مقالاتى ليست بالشيء البالغ الأهمية، رغم أن بعض مقالاتى وكذلك تلخيصات بعضها لاقت شيئا من الترحيب والقبول فى ميدان التحرير ذاته.
2: ومهما يكن من شيء فإن الثورة ضد الاستبداد والفساد والاستغلال وفى سبيل الحرية والعدالة والكرامة تنتشر لتمتد إلى كل البلدان العربية ولكنْ أيضا إلى بلدان أخرى مجاورة وحتى إلى بلدان بعيدة. والأرجح أنه لن يسلم منها نظام ديكتاتورى ظالم ولن ينكص عنها شعب حر مقهور (ونسمع عن احتجاجات كبيرة فى السنغال وعن إرهاصات ومخاوف حتى فى الصين وأعتقد أنه لن تنجو منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية). أما فى البلدان العربية فقد تحركت الشعوب فى كل مكان، وقطعت أشواطا من مشوار طويل فى تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين. ولكن البدايات والإرهاصات أوسع انتشارا بصورة ملحوظة وأحيانا كاحتقانات وغليانات مكتومة إلى الآن: بدايات واسعة النطاق فى الأردن، والمغرب، والجزائر، والعراق، بدايات واعدة مهما كان نطاقها محصورا إلى الآن فى سوريا، إرهاصات فى موريتانيا، والسعودية، وعُمان، وربما الكويت، وأنا لم أسمع شيئا عن الإمارات أو قطر، ولكننى سمعت عن چيبوتى العضو فى جامعتنا العربية، وهناك بالطبع غليان مكتوم فى السودان، حيث يذبح نظام البشير الشعب فى دارفور، وحيث يجبر بسياساته الجنوب على الانفصال والاستقلال، وحيث تهدد سياساته وممارساته البلاد بالانقسام إلى عدد من الدويلات البائسة اليائسة، وحيث رئيس البلاد وعدد من رجاله مطلوبون للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، ليس لاستبداد النظام وفساده بوجه عام، بل بوجه خاص بسبب أعماله فى دارفور التى ترقى (أو بالأحرى تنحط) إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وهناك فلسطين التى ترفع مظاهراتها شعار "الشعب يريد إسقاط الانقسام". أما لبنان فإن موجة الثورة لن تمرّ دون أن تقلب معادلاته رأسا على عقب وسرعان ما ستظهر بدايات الثورة ربما بالأخص بعد سوريا. هل نسيتُ أىّ بلد عربى؟ ربما الصومال الثائرة المثوَّرة التى دمر فيها الإسلام السياسى والقاعدة البلاد والعباد، وحيث تدور الثورة الإسلامية المظفرة فوق الخرائب والأطلال.
على أن خريطة الثورة والثورة المضادة بعيدة عن البساطة. والأهم أن نجاح الثورة المضادة فى البلدان الأربعة التى جرت فيها ثورات حقيقية كبرى: مصر وتونس وليبيا واليمن، سيكون عاملا حاسما ضد تطور الثورة فى البلدان العربية الأخرى، أما المزيد من نجاح هذه الثورات وفشل الثورة المضادة فسوف يشكلان معا عاملا حاسما من عوامل انتشار ونجاح الثورة فى البلدان العربية الأخرى، وفى مناطق أخرى من العالم.
3: الخريطة ليست بسيطة. ويبدو أن خادم الحرمين الشريفين قد عثر على حل سحرى لإطفاء نار الفتنة، أىْ لتفادى الثورة فى بلده الأمين، وضرْب الثورة فى محيطه العربى القريب والبعيد. فبعد عودته الميمونة من رحلة العلاج والنقاهة سارع إلى التدخل العسكرى المباشر فى البحرين، مستقويا بالطبع بأمريكا فى مواجهة إيران، وهناك أنباء متواترة عن إرساله أسلحة إلى النظام اليمنى، وهناك أنباء متواترة أيضا عن ضغطه على حكام الأمر الواقع فى مصر، أىْ المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته، لمنع أىّ محاكمة ﻟ مبارك وأسرته باعتبار ذلك إهانة لأصحاب الجلالة والفخامة والسمو، وخاصة عرفانا بدور مبارك فى حرب تحرير الكويت وبكل مواقفه الأخرى مع الخليج، مهدِّدا بطرد العاملين المصريين من الخليج وسحب الاستثمارات الخليجية من مصر! وهو مستعد بالطبع لأكثر من ذلك، غير أن سعيه المنطقى إلى تأمين الأطراف فى اليمن والبحرين وغيرهما عند الضرورة، رغم أهميته لأمن السعودية ذاتها، يمكن أن يشتت تركيز جيشه وأمنه على بلاده.
غير أن العاهل السعودى، باعتباره خادم الحرمين الشريفين، يعتمد فى تأمين بلده الأمين على حل سحرى كما تصوره عن طريق ثورته الكبرى من أعلى منذ عدة أيام. ولأنه يعلم أن المال هو إله العصر، ولأن عنده ما يكفى من المال حتى نهاية الأرض ومَنْ عليها، فقد اعتمد عليه فى الحال: مزيد من المال لزيادة الأجور، ورفع سقف القروض، ولتحسين الخدمات الصحية، ولكنْ أيضا لرفع مستوى دور الدين فى استتباب الاستقرار. ولأنه يعلم أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان فقد ركز على الدين، على المؤسسات الدينية، ورجال الدين، والبحث الدينى، والتعليم الدينى، وأغرق كل شيء دينى فى المال الوفير ليقوم الدين بمزيد من الكفاءة بدوره فى حماية مُلْكه، غير أن الدين يحتاج بدوره إلى حماية أمنية، والمال جاهز للمؤسستين العسكرية والأمنية بالترقيات والامتيازات والمرتبات. واعتمد على كل هذه "الرشَّات الجريئة" لحماية مُلْكه.
على أن خادم الحرمين الشريفين نسى شيئا بالغ الأهمية. ففى غمرة إحساسه بأن الجوع وحده هو الذى حرَّك تلك الشعوب الجائعة الثائرة فى بلدان عربية أخرى، ولأنه بماله وفَّر لشعبه أصلا وبإجراءاته الأخيرة مزيدا من الابتعاد عن الجوع إلى الخبز، وبأنه آمن مُلْكه من خوف بتعزيز الأمن والجيش، وبأنه بماله ضمن قيام المؤسسة الدينية بدورها فى تأمين إطاعة العباد جميعا لأولى الأمر منهم، ... فى غمرة إحساسه بكل هذا نسى الملك عبد الله أنه سمع مرة ومرات هنا وهناك عن أشياء اسمها الحرية والكرامة والديمقراطية ونسى أنه ما من شيء يمكن أن يمنع شعبه من التطلع إلى الحرية والخروج من الحظيرة السعودية التى تنتمى إلى القرون الوسطى. وهو ككل المستبدين لم ولن يفهم حاجة الناس إلى شيء اسمه الحرية، ولأنه يتصور أن الناس الذين يأكلون ويشربون ويتلقون العلاج الطبى وغير ذلك يتمتعون بحرية الأكل (نوع الطعام) وحرية الشرب (بعيدا عن المنكر) وحرية العلاج (اختيار كل طبقة لمستوى العلاج الذى يتماشى مع دخلها ما دام أن الله خلق الناس طبقات فوق بعض فى الرزق). غير أنه عندما ينتبه تحت ضغط التطورات إلى أنه نسى هذا الشيء، لن ينسى أن عنده المال أيضا للإنفاق على الخبراء لإعادة الحسابات. ولكنْ ماذا يمكنه أن يعطى إذا قال له الخبراء إن تطلعات الشعوب إلى الحرية والكرامة لا تُشترَى بمال، حتى بمال قارون؟ فماذا يمكنه إذن أن يقدم؟
وقد رفعت الشعوب العربية فى ثوراتها وفى إرهاصات ثوراتها شعارات متنوعة منها شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" (تونس ومصر وليبيا واليمن)، ومنها شعار "الشعب يريد إصلاح النظام" (العراق)، ومنها شعار "الشعب يريد إسقاط الحكومة" الذى سرعان ما انتهى إلى شعار "الشعب يريد إقامة الملكية الدستورية" (الأردن والبحرين والمغرب) بل ذهب ملك المغرب إلى حد إعلان إرادته السامية التى ارتضت "الملكية الدستورية" نظاما لشعبه. فهل يقدِّم خادم الحرمين الشريفين تنازلا من هذا النوع؟ وبالطبع فإنه لا يمكن استبعاد أىّ شيء وسط هذه العاصفة الثورية الهائلة، غير أن المهم هو أن "الملكية الدستورية" التى يقدِّمها ملك المغرب لا تعنى أكثر من سلطة الملك مع زيادةٍ شكلية ومحدودة فى سلطات رئيس الوزراء فى بلد عامر بالأحزاب والحركات والنقابات والحياة الپرلمانية والصحافة فى المغرب. أىْ أن جوهر خدعة ملك المغرب يتمثل فى تسمية الملكية المطلقة باسم الملكية الدستورية، ولا يعنى أبدا ملكية أو إمپراطورية دستورية يملك فيها الملك أو الإمپراطورية ولا يحكم، كما فى بريطانيا أو الياپان. وبهذا المعنى فقط وبه وحده يمكن أن يقدِّم ملك دولة عربية (السعودية، الأردن، المغرب، البحرين) أو أمير دولة عربية (قطر، الكويت، الإمارات) أو سلطان دولة عربية (قابوس عُمان) مثل هذه الخدعة فى أقصى حالات الاضطرار: خدعة ملكية مطلقة تُطْلق على نفسها اسم ملكية دستورية.
ولم لا؟ أليست الملكية الدستورية أهون الضررين، باعتبارها تُبْقى على النظام الملكى على كل حال؟ لا، بالطبع. فعندما تكون السلطة الحقيقية فى يد الحكومة والپرلمان فإن الملك لن يكون سوى رمز متحفى لنظام منقرض، وسوف تهبط مداخيل الملك والأسرة المالكة إلى مستوى منخفض جدا ولا وزن له حتى بدون القياس إلى الثروات الطائلة التى جلبتها السلطة المطلقة للملك وأسرته (وحتى لكل أفراد قبيلة ملكية حقيقية يشكلها أمراء الأسرة المالكة الممتدة الذين يُعَدُّون بالآلاف فى السعودية). فالملكية الدستورية تعنى تجريد الملك من السلطة المطلقة ومن ثروته الفلكية وتجريد الأمراء من أدوارهم ومناصبهم فى السلطة وكذلك من ثرواتهم الفلكية فى كثير من الأحيان. ويمكن أن تجردهم السلطة الجديدة من ثرواتهم التى تكونت باللصوصية والفساد ونهب الأموال المتفجرة من باطن الأرض مع قطع اليد اليمنى لصغار اللصوص. بل يمكن لشعب استطاع أن ينتزع السلطة من الملكية المطلقة وانتقل بها إلى پرلمان وحكومة الملكية الدستورية أن يفكر ثوريا فى التخلص من الملكية بأىّ شكل من أشكالها والانتقال إلى تأسيس الجمهورية بدلا من هذا النظام العتيق الذى يرمز إلى عهود تاريخية سابقة منذ القرون ومنذ الألفيات ولكنْ صار العالم العربى موبوءا به وبمحاكاته عن طريق المشاريع المستوحاة منه فى شكل الجمهوريات الملكية من خلال التمديد والتوريث، فى عصر لا تتجاوز فيه بلدان النظام الملكى فى العالم كله أعدادا قليلة جدا مع أن ملكيات منها تُعَدّ فى الحقيقة جمهوريات تتمتع بديكورات ملكية (بريطانيا) وإمپراطورية (الياپان) لأنها ملكيات دستورية بالمعنى الحقيقى وهى لا تقل ديمقراطية عن أىّ جمهورية رئاسية أو پرلمانية فى العالم المتقدم.
وعندما يأتى الأوان فإن الشعوب التى رفضت وأسقطت مشاريع الجمهوريات الملكية (ومنها بإذن واحد أحد المشروع الذى تحقق بالفعل فى سوريا) سوف ترفض النظام الملكى جملة وتفصيلا. فهل يدهشنا أن يكون خادم الحرمين الشريفين رأس حربة للثورة المضادة فى السعودية والخليج ومصر وكل العالم العربى وغير العربى؟
ومن ناحية أخرى فإنه لن يكون من السهل أن يبقى الشعب السعودى داخل الحظيرة السعودية القروسطية، وقد بقيت تلك الحظيرة قائمة رغم الانقلابات والتغيرات والثورات التى اجتاحت العالم العربى خلال العقود الطويلة السابقة منذ الخمسينات، غير أن هذه الحظيرة لم تبق كما هى، بالإضافة إلى الموجة الثورية الراهنة التى تؤثر فى السعودية كما فى غيرها. لم تبق هذه الحظيرة القروسطية على حالها لسبب مهم هو المال أيضا، أىْ الپترودولار، فرغم أن هذا المال كان عامل استقرار للمملكة فى مرحلة طويلة حيث جرى تفادى ثورات الشعوب الفقيرة أو انقلاباتها العسكرية التى كانت نوعا من الثورات السياسية المحدودة والتى أطاحت بملكيات عديدة فى مصر والعراق وليبيا واليمن، إلا أن هذا المال ذاته صار أيضا عامل تغيير، فى مرحلة تالية. ذلك أن انتشار التعليم محليا والتعليم الواسع النطاق خارج البلاد ونشوء "طبقة" من الكوادر فى مجالات كثيرة، أحدث تغيرا كبيرا فى نوعية الشعب من حيث وعيه وتطلعاته وإحساسه بكرامته. وكان هذا يصب من جانب فى المشاركة الواسعة من جانب الشباب السعودى فى حركات ومنظمات الإسلام السياسى وبالأخص الأكثر تطرفا منها وصاروا يقاتلون فى أفغانستان ومناطق أخرى من العالم. غير أنه كان وما يزال يصب أيضا فى ثورة التطلعات، فى الحياة العصرية الجديدة التى صارت منشودة.
ومن ناحية أخرى فإن هذه الحظيرة القروسطية تعيش داخل بيئة عالمية تتميز بالتكنولوچيات المعلوماتية الحديثة بكل تأثيراتها فى كل مكان، كما أنها تعيش الآن بالذات فى بيئة عربية تمثل محيطا ثوريا لم يسبق له مثيل حول هذه الحظيرة، والدلائل كافية على أن الشعب السعودى بدوره يعيش فى حالة احتقان، وليس فقط الشيعة كما تحركوا أو كما يريد خادم الحرمين الشريفين أن يصور الحركات الاحتجاجية فى البحرين أو السعودية أو العراق أو شمال اليمن أو لبنان على أنها احتجاجات شيعية طائفية توجهها إيران وتستقوى هى بإيران، بل تعيش فى حالة الاحتقان المكتوم كل القوى الحية فى المملكة.
والحقيقية أن الثورة والثورة المضادة حرب حياة أو موت بالنسبة للحكام كما بالنسبة للشعوب، ولهذا فليس من المدهش أن يمتشق خادم الحرمين الشريفين السلاح. وقد بدأ بالسلاح جهارا نهارا غير أنه بدأ أيضا بثورته المضادة الاستباقية من فوق بتعزيز الأمن والجيش، ورفع مستوى استعداد وجاهزية المؤسسة الدينية ورجالها ومعاهدها، ومحاولة رفع مستوى استكانة وخضوع الشعب متصورا أنه بالخبز وحده يحيا الإنسان.
ومن المؤكد أنه محق تماما من حيث مصلحة مُلْكه وأسرته ونظامه، وهو لم "يدِّيها الطرشا" (لم يُعْطها الطرشاء) كما فعل العديد من الحكام العرب فلم يتنازلوا إلا قليلا وإلا بعد فوات الآوان كما فى تونس ومصر وليبيا واليمن. وبالتالى فإن وعيه الأكثر عمقا بالمقارنة ﺑ مبارك و القذافى و زين عابدى الله بن على و على عبد الله صالح، وكذلك أمواله الطائلة (حتى بإخراج القذافى من هذا الجزء من المقارنة) ... كل هذا يجعله ممثلا أقوى وأخبث للثورة المضادة.
ويمكن أن نقول كلمة أو كلمتين بخصوص ثورته المضادة الاستباقية فى السعودية عن طريق الإجراءات الداخلية المذكورة آنفا. فكيف تكون هناك ثورة مضادة استباقية، أىْ ثورة مضادة بدون اندلاع ثورة؟ وصحيح أننا نتحدث عن الثورة المضادة بالمعنى الدقيق أو الضيق بمجرد أن يبدأ نشاطها فى مواجهة ثورة فعلية، غير أننا من ناحية أمام ثورة عربية تنتشر كالنار فى الهشيم من خلال عملية دومينو واسعة النطاق، ولهذا تحدث الثورة المضادة فى البلدان التى هاجمتها الثورة وكذلك فى البلدان المهدَّدة بها سواء أكانت عربية أو غير عربية، وبالتالى فإن الثورة المضادة هى مجموع الإستراتيچيات والسياسات والخطط والإجراءات والممارسات التى يقوم بها نظام طبقى وحلفاؤه المحليون والإقليميون والعالميون لتفادى الثورة عندما تظهر نُذُرها والتى تعمل حتى قبل اندلاع الثورة وتصل إلى أقصى مداها عندما تتحول إلى ثورة فعلية. ومن ناحية أخرى فإن النظام القائم محليا، وإقليميا، وعالميا، والحريص على استقراره على أساس الاستغلال والطغيان، والمعادى لكل تطلُّع إلى التغيير الشامل، يمثل بطبيعته معاداة للثورة أو ثورة مضادة، وهكذا تتواصل ممارساته وأيديولوچياته عبر العقود بصرف النظر عن انلاع ثورة فعلية، ولهذا يقدمون فى مصر كما فى غيرها مجموعة سياسية صغيرة تضم قلة من الأشخاص إلى محاكم أمن الدولة باعتبارهم تنظيما يعمل على قلب نظام الدولة بالقوة؟ لماذا؟ لأنهم يخشون دائما المحصلة النهائية التى تصب فيها حتى الحركات والأنشطة الصغيرة، محصلة الثورة. وباختصار فإن وجود النظام الطبقى ذاته ثورة مضادة استباقية فى مرحلة ومباشرة وفعلية فى أخرى.
4: كتبت مقالى (الذى لم يُنشر بعد) عن الثورة الليبية فى وقت كان فيه الحظر الجوى الأممى من حيث القرار، الغربى من الناحية العملية، العربى من حيث التحبيذ أو التأييد (مع دور لا ينكر لبلدان مجلس التعاون الخليجى فى مساعدة موضوعية للثورة فى ليبيا أملا فى علاقات متميزة مع ليبيا بعد القذافى وتصفية حساب سعودية مع هذا الأخير خاصة بعد أن تجاوز جنونه كل الحدود وربما كذلك على أساس بعض التقديرات لطبيعة النظام القادم فى ليبيا)، وعندئذ كان هذا الحظر الجوى وشيكا ولكن فى مرحلة تفاوضية بين الغرب من ناحية والصين وروسيا وبعض البلدان الغربية أيضا من ناحية أخرى. والآن مضت أيام على التدخل العسكرى الغربى ليس فى حدود الحظر الجوى فقط، وليس فى حدود ملاحقة الطيران المنخفض فقط، بل أيضا مع توسيع نطاق تطبيق قرار مجلس الأمن بقصف القوات القذافية البرية كلما اتجهت نحو المدنيين. وكما هو متوقع فقد تمكن التحالف العسكرى الغربى بقيادته الأمريكية إلى الآن خلال هذه الأيام القليلة الماضية من القضاء على أىّ فاعلية كبيرة للسلاح الجوى والدفاع الجوى بعد ضرب العديد من القواعد والمواقع العسكرية، بحيث صار الطيران الغربى حرا فوق الأجواء الليبية واستقر الحظر الجوى تماما، مع التخفيف المحتمل للدور الأمريكى. وهناك خلافات بين دول التحالف بشأن المدى الذى يمكن أن يذهب إليه التدخل: حماية المدنيين وفقا لقرار مجلس الأمن فى نظر البعض؛ أو تمهيد الطريق لإسقاط نظام القذافى توسيعا لذلك القرار فى نظر البعض الآخر. ومهما كانت طبيعة هذه الخلافات فإن الدول أطراف التحالف جميعا تقوم من الناحية العملية ومن الناحية الموضوعية بحماية كل من المدنيين وقوة الثورة وتقوم بالفعل بتمهيد الطريق إلى إسقاط النظام، ومن المفارقات أن الولايات المتحدة الأمريكية، وهى صاحبة الموقف المتحفظ فى الأقوال، هى التى قامت بالدور العسكرى الحاسم إلى الآن فى الأفعال، فى مجالىْ الحماية والإسقاط باعتبارهما شقين لعملية واحدة فى الحقيقة. ومن المفارقات الأهم بالطبع أن الغرب الذى لا يريد القذافى، أو لم يعد يريده، والذى يخشى احتمال أن تأتى الثورة بنظام إسلامى لا يأمن الغرب جانبه، وبالتالى لا يريد هذه الثورة، هو الذى تجبره ظروف قاهرة على التخلص من القذافى وفتح الطريق أمام نجاح الثورة الليبية، وقد تحدثتُ عن الحسابات المعقدة لمثل هذا الموقف فى مقالى غير المنشور عن ليبيا.
وكان الخيار الأفضل للقذافى، كما قلت فى ذلك المقال، أنْ يتخندق فى طرابلس وما حولها بثلاثة أرباع الپترول الليبى، فلا يزحف شرقا ولا غربا، لإعادة بناء قوته وللاستعادة التدريجية البطيئة فى المستقبل للمناطق التى تسيطر عليها قوى الثورة، وكذلك لتفادى التدخل العسكرى الغربى الذى لم تشتد الضغوط لبدئه إلا بمواصلة القذافى حربا لا هوادة فيها بالطائرات والبوارج والدبابات والصواريخ والمدافع ضد شعبه وضد مقداراته. غير أن خشيته من نضج الثورة فى الشرق وغيره، وتنظيم صفوفها، وتسليحها وتدريبها، وبالتالى زحفها إلى طرابلس الغرب فى مستقبل مواتٍ، واستباقا للتدخل الغربى الذى لم يكن ليحدث لولا مواصلته لحربه المجنونة، دفعت العقيد، أو الزعيم، أو القائد، أو ملك ملوك أفريقيا، إنْ شئت، إلى الضرب فى كل اتجاه فى سباق مجنون مع مصيره ومصير نظامه وجماهيريته، الأمر الذى جعل  التدخل أكثر من وارد ثم وشيكا ثم أمر واقعا، وجعل حتى معارضيه يمتنعون عن التصويت (الصين وألمانيا وروسيا) بدلا من استخدام الڤيتو.
والآن تبقى أمامه خيارات أبرزها الانتقال إلى ذلك الخيار الأفضل أى التخندق فى طرابلس ولكن فى أوضاع وشروط أسوأ بما لا يقاس لا تترك له إلا البقاء فترة تكفى لوصول قوى الثورة إليه وهذا ما يبدو الآن أنه يفعله، أو مواصلة نشاطه رغم إعلاناته المتكررة التى لا يلتزم بها عن موقف إطلاق النار من جانب واحد.
وهناك بالطبع عامل جديد مهم من العوامل التى جاء بها التدخل العسكرى الغربى والذى قد تنتقل قيادته إلى حلف الأطلنطى قريبا رغم بعض الخلافات بين بلدان الحلف حول ذلك. هذا العامل هو عامل الزمن الذى يلعب عليه الجميع ويفرض نفسه على الجميع. ولا شك فى أن البلدان الغربية لن تتحمل استمرار التدخل طويلا بسبب العبء المالى وسط الأزمة المالية الغربية العالمية وبسبب العبء السياسى وضغوطه الآتية من قوى عالمية ودول عربية ومن ذلك الموقف المنافق من جانب جامعة الدول العربية التى وافقت على الحظر الجوى ثم عاد وأعلن أمينها العام رفضه للتدخل لأن ما وافقت عليه الجامعة، الساذجة فيما يبدو، كان الحظر الجوى وليس التدخل مع أنه كان من المعلوم للكافة أن الحظر الجوى سوف يتطلب التمهيد بالضربات الجوية الواسعة النطاق، ومع أنه كان من الواضح أن قرار مجلس الأمن يتسع لتفسيرات متعددة. والمهم أن الغرب لا يمكن أن يتحمل الاستمرار طويلا فى هذا الحفظ الجوى للأمن فى ليبيا، كما أنه لا يمكن أن يسحب هذا الحظر الجوى فاتحا الطريق مرة أخرى أمام انقضاض جديد للقذافى واستئناف للحرب الأهلية الليبية بكل ضرواتها ووحشيتها والاضطرار إلى تدخل عسكرى جديد باعتبار أن من مصالح الغرب أيضا ألا تتحول ليبيا بپترولها الخفيف والقريب إلى صومال جديدة، فلا مناص من العمل على وجود نظام جديد مستقر فى ليبيا.
والمهم أن الغرب يمكن أن يتجه، تحت ضغط عامل الزمن بشقيه المالى والسياسى، إلى اعتماد تفسير أكثر مرونة من كل ما رأيناه إلى الآن لقرار مجلس الأمن، بحيث يتسع نطاق التدخل العسكرى ليشمل كل الأسلحة الفتاكة للقذافى وتسليح الثورة على نطاق واسع، مع العمل بكل قواه، مستفيدا بمكانته الجديدة بفضل دعمه الحاسم للثورة، على قيام نظام غير معادٍ لأمريكا والغرب، وليس هذا بالأمر البعيد المنال.
ومهما تعددت الحسابات فقد انتهى نظام القذافى، وبعد أنْ كان القذافى يرى أنه قائد بلا شعب فى ليبيا بالمقارنة مع شعب بلا قيادة (فى مصر السادات) فقد آن الآوان لمجيئ الشعب الليبى، الذى عانى وتشرد الكثير من أبنائه فى المنافى طوال أكثر من أربعة عقود، إلى الصدارة، وليكنْ بلا قيادة من هذا النوع بالذات، ليترك مكانه لمئات وآلاف من القيادات الحقيقية، كما نحلم فى مصر أيضا وفى كل العالم العربى وفى كل العالم.
وبالطبع فإننى لن أقف طويلا عند الموقف من التدخل الغربى. ولا شك فى أن الغرب يتدخل مدفوعا بمصالحه، وبمصالح سيطرته على العالم، غير أن هذا ليس كل شيء، فهو ليس تدخلا لاحتلال طويل الأمد لليبيا واستعمارها كولونياليا فى زمان غير زمان الاستعمار الكولونيالى، بل هو تدخل طالبت به الثورة الليبية ذاتها بالإضافة إلى أنه صار مطلبا ملحا على مستوى شعوب كثيرة ودول كثيرة فى العالم العربى وباقى العالم، لأنه عندما يحارب رئيس دولة شعبه بالطائرات والبوارج والدبابات والمدافع والصواريخ مع احتمالات الحرب الكيماوية فإنه لا أحد فى هذه المنطقة من العالم يمكنه وقف مثل هذا الجنون عند حده، والمساعدة على إسقاطه، غير الغرب، مادامت مصر متقاعسة رغم أنها قادرة ومادامت روسيا والصين أنانيتين ولامسئولتين إلى هذا الحد كما أشرت فى مقالى المذكور عن ليبيا. وذات مرة، فى السبعينات، كان الشيوعى المزعوم پول پوت يدفن الشعب الكمپودى لتنفيذ عقيدة المزارع الجماعية، ويبيده كشعب، ربما بالملايين، وتدخلت ڤييتنام، عندما كانت ما تزال تستحق اسم ڤييتنام، عسكريا فى كمپوديا لوقف المجزرة، وتدخلت الصين عسكريا فى ڤييتنام لإنقاذ حليفتها كمپوديا، وإذا كان ذلك التدخل الصينى جريمة لا تغتفر، فإن تدخل ڤييتنام كان متفقا مع قواعد وضوابط ما صار يسمى بحق التدخل، كما حدث أيضا فى البلقان، وفى دارفور، مع التسليم الكامل بأن الغرب يكيل بمكيالين دائما، وفى هذه اللحظة أيضا، عندما تؤيد أمريكا التدخل السعودى الخليجى فى البحرين لإنقاذ النظام المرفوض، الطائفى، الذى يتهم الأغلبية الشيعية بالطائفية وبالولاء لإيران.
5: ومع أن اليمن السعيد بجنوبه المشتعل منذ وقت طويل وشماله الذى دخل فى حرب مع النظام اليمنى مرشح بحكم الاستجابة المبكرة لكل شعبه للثورة ومواصلة نضاله رغم عنف القمع وبحكم الانشقاقات الواسعة ضده من جانب مسئوليه ودبلوماسيِّيه ومن جانب عسكريِّيه وحتى انقلاب العديد من قبائل اليمن ضده، للِّحاق بالثورات التى قطعت أشواطا فى طريق النجاح، مثل ثورتى مصر وتونس، جنبا إلى جنبا أو مباشرةً قبل أو بعد ليبيا، فإننى لن أتحدث هنا عن هذه الدولة الفاشلة فى اليمن ولا عن هذا النظام الوحشى، ولا عن هذا الرئيس المتعطش للدماء، وسأكتفى بتأكيد أن الثورة لن تتراجع هناك مهما كانت مخاوف الحرب الأهلية فى هذا البلد المسلّح حتى أسنانه نظاما وشعبا، ومهما كان مصير المناورات المتتابعة للرئيس اليمنى. بل سأذهب مباشرة إلى سوريا التى تشهد بدايات الثورة من درعا فى الجنوب، لأشير إلى الموقف المعقد للغاية فى سوريا. وسوريا هى بلد المشروع الناجح للتوريث قبل أن تضع الثورة العربية حدا لهذه المشاريع فى مصر وتونس وبالتأكيد فى اليمن وليبيا وربما فى الجزائر والسودان أىْ فى بقية بلدان الجمهوريات-الملكية، وكان نجاح هذه المشاريع سيعنى أن هذه البلدان مع البلدان الملكية والأميرية والسلطانية (السعودية والبحرين والأردن والمغرب وقطر والكويت والإمارات وعُمان) صارت (باستثناءات ضئيلة القوة العددية السكانية بالنسبة إلى المجموع السكانى العربى: العراق ولبنان وموريتانيا وفلسطين إلخ.) عالما ارتد إلى النظام الملكى فى عصر يتميز بجمهوريات حقيقية فى الشمال أو الغرب وجمهوريات شبه حقيقية نادرة كما فى الهند بديمقراطيتها وبؤسها وجمهوريات زائفة فى أكثر البلدان مع قليل من الأنظمة الملكية الدستورية أو المطلقة. والحقيقة أن مشاريع التمديد والتوريث مرض خبيث أصاب أغلب بلدان العالم الثالث، لأسباب تتعلق بأننا إزاء نظم مستبدة فاسدة يرتبط فيها الثراء الخيالى بالسلطة المطلقة ولا سبيل فيها إلى حماية الإمپراطوريات المالية الواسعة والثروات الفاحشة المتولدة عن طريق اللصوصية والفساد وزواج السلطة والمال إلا بشيء واحد هو التمديد والتوريث، هو البقاء فى السلطة بشخص الرئيس عقودا ثم توريث الأبناء والإخوة والأصهار، وينطبق هذا حتى على البلدان التى تدعى الاشتراكية والشيوعية والثورية مثل كوبا التى تورِّث الأخ، وكوريا الشمالية التى تورِّث الابن ثم تورِّث من خلاله الحفيد (وذلك منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن).
ومع الثورة ضد التمديد والتوريث التى مهدت لها نضالات وحركات مصرية خلال أعوام سابقة ضد نظام حسنى مبارك و جمال مبارك، لا مناص من أن يشعر الشعب السورى بأن رئيسه فاقد للشرعية الحقيقية منذ يومه الأول. والأهم أن سوريا التى فقدت هضبة الجولان فى حرب 1967 عجزت عن تحرير الأرض وهذا منطقى ولكنها عجزت أيضا عن التوصل مثل مصر إلى سلام تصوِّر الدعاية أنه تحرير للأرض بفضل حرب 1973، مع إخفاء أن المعاهدة كانت تسوية على أساس فاتورة هزيمة 1967 لأن حرب 1973، حرب اللانصر واللاهزيمة كما كانت تسميها الصحافة شبه الرسمية ذاتها فى عهد السادات ذاته، لم ترق إلى مستوى تغيير معادلة الهزيمة التى ساقنا إليها نظام عبد الناصر، جارًّا وراءه سوريا والأردن وفلسطين الضفة الغربية وغزة. ومن المنطقى أن هذا العجز الطويل الأمد (لأن 2011 - 1967 = 44 سنة إلا شهرين وأياما قليلة) يجبر النظام على شن حروب الدعاية الصاخبة ضد العدو الصهيونى من ناحية ويصيب الشعب باحتقان متواصل ضد نظام "أسد علىّ وفى الحروب نعامة" حيث لا يُسكته سوى القمع المنهجى الوحشى المعروف عن هذا النظام، واحتضان بعض المنظمات الفلسطينية وحزب الله وامتلاك أوراق ضغط من خلالها ومن خلال توثيق العلاقات مع إيران.
على أن الفقر والبطالة وتردى مستويات المعيشة ومستوى الخدمات الصحية والقمع المتواصل ضد كل تحرك نحو الحرية أو العدالة، عوامل مشتركة بين شعب سوريا والشعوب العربية التى تثور الآن وتلك المرشحة للثورة.
ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بمتى يمكن أن تتحول بدايات درعا إلى ثورة شعبية سورية شاملة، غير أن اندلاع ونجاح ثورة كهذه سوف يقلبان المعادلات حول سوريا، فيما بين القوى السياسية فى لبنان، وفيما بين الفصائل الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالى فى طبيعة صراع الفصائل الفلسطينية فيما بينها وفيما بينها وبين إسرائيل بعد فقدان بعضها للاحتضان السورى، وفقدان حزب الله للتحالف مع سوريا، وهذا بالطبع فى حالة انكفاء سوريا على صراعها الداخلى زمنا غير قصير، وفى حالة أن تعتمد محصلة الثورة المحتملة فى سوريا على معادلات مختلفة فى فلسطين ولبنان. وتفاديا لكل هذا فإن من المتوقع أن تقف إيران بمالها إلى جانب سوريا.
وهناك بالطبع إسرائيل التى تراقب الأوضاع بقلق عن كثب، وهناك مخاوف إسرائيلية من أن يلعب النظام السورى اللعبة الوطنية القومية على الجبهة السورية مع إسرائيل لامتصاص الثورة وتفاديها مع ميل أوساط إسرائيلية إلى التقليل من هذا الاحتمال، وهناك مخاوف إسرائيلية جدية من أن يلجأ النظام السورى إلى تسخين جبهة إسرائيل مع حزب الله أو مع غزة، وهناك بالطبع مخاوف إسرائيلية أكثر جدية من أن تؤدى ثورة تطيح بنظام الأسد الابن والبعث إلى نشوء نظام إخوانى أو يلعب فيه الإخوان دورا كبيرا، فيكون معاديا لإسرائيل وقد يكون مستعدا للدخول فى حرب مع إسرائيل، لأن سوريا تتميز أيضا بأن أراضيها محتلة بصورة صريحة مباشرة تختلف عن الاحتلال المموه عن طريق معاهدات السلام، ولأن ثورتها يمكن لذلك أن تختلف عن الثورة العربية فى مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين حيث كانت الثورة بعيدة عن طرح أىّ موقف من إسرائيل وحيث اتخذت الثورة فى مصر موقف احترام كل الاتفاقيات والمعاهدات والالتزامات الدولية. وذلك لإحساس سياسى غريزى بأن أىّ إعادة نظر فى أمور بعينها ستكون مهمة ثورة مظفرة بصورة نهائية.
فكيف سيكون سلوك النظام السورى إزاء إسرائيل فى سياق محاولة تفادى الثورة التى يُحتمل أنها تطرق الأبواب؟ وكيف سيكون سلوك نظام جديد تقيمه الثورة إزاء هضبة الجولان المحتلة وإسرائيل تعبيرا عن خصوصية الثورة فى بلد محتل منذ قرابة 44 سنة؟ أما موقف إسرائيل فمعروف ومعلن دائما: الاستعداد للحرب حتى على أكثر من جبهة فى وقت واحد، وهى حرب كانت واردة على كل حال فى جدول الأعمال حتى قبل الثورة، حتى بدون ثورة، وكان الاستعداد لها على قدم وساق.
6: منذ أربعة أيام (الأحد 20 مارس) زارنى فى غرفتى هنا صديق ألبانى عرفته منذ أربع سنوات عندما جئت إلى هنا لأول مرة لزراعة الكبد ومعى زوجتى، وكان الألبانى بدوره مرافقا لابنته التى كانت تحتاج إلى زراعة الكبد أيضا، ولكنْ قبلى بعامين فيما أذكر، وكان يزور فى غرفة مجاورة أسرة ألبانية جاءت بدورها للزراعة (ولكنْ لزراعة الكلى) لابنها، وقد تأكد لى مع الوقت أنه أقرب إلى عادات منطقتنا، وفى كثير من الأشياء، وتصادقنا، تصادقنا بدون لغة مشتركة فلا أنا ولا زوجتى نعرف الإيطالية التى يعرفها هو بما يكفى للتفاهم على الأقل فى تلك الفترة، وكان يعرف بالطبع لغته الألبانية بالإضافة إلى لغات أخرى لبلدان عاش فيها فترات ومنها الروسية والتركية وربما اليونانية، وكنا أنا وزوجتى لا نعرف هذه اللغات أيضا رغم دراسة زوجتى لشيء من التركية مع الفارسية. ويجب أن أعترف بأن هذه الصداقة ما كانت لتبدأ وتستمر فى الأشهر الأولى إلا بفضل صديقتنا المغربية نجية أحمد الفقهاوى التى تعرف الفرنسية والإيطالية كأهلهما إلى جانب لغتها العربية، وقد كانت نجية هدية من السماء ومن الدكتور ماورو لاتسرى مدير منظمة التعاون الصحى الدولية، فرع پيزا، التى تولت دعوتى وعلاجى على حسابها، منذ أوائل أيام وجودنا فى پيزا، وصارت هى مرشدتنا فى كل خطوة وفى كل شيء طيلة الأشهر الستة الأولى هنا وفى بعض الزيارات اللاحقة التى قمت بها وحدى إلى پيزا للمتابعة. وهكذا عرفنا هذا الصديق الألبانى وزرناه فى مسكنه وعرفنا ابنته وبعض أولاده وأقاربه. وصار صديقا يزور ويُزار ويعرض العون ويقدمه بكل محبة. وكعادته كلما علم أننى هنا زارنى هذه المرة فور علمه. وكان حسنى پاروى، وهذا اسمه، يتندر بأن اسمه حسنى أيضا مثل اسم رئيسنا السابق حسنى، وكان لا يدرك تماما مدى حبنا لرئيسنا السابق غير أنه هو كان يحبه حقا، على الأقل لتشابه الأسماء. وأنا أستدعى الآن السنيور حسنى پاروى لأن زيارته غير الطويلة لى يوم الأحد ملأتها مناقشة بدون لغة، أىْ بالإيطالية المتزايدة الإتقان من جانبه ونُتَف متناثرة من الإيطالية من جانبى. غير أن المناقشة كانت ناجحة إلى حد ما، وعلى الأقل عرفت رأيه وعرف رأيى، وسأكتفى بالإشارة إلى قصة قصيرة يتصادق فيها شخصان صداقة حميمة دون لغة مشتركة بينهما للكاتب المجرى العبقرى ديزو كوستولانى بترجمة صديقى الشاعر الكبير محمد سيف عن الفرنسية. والمهم فى سياق هذه الخواطر هو موضوع المناقشة ورأيه ورأيى. فبمجرد أن أشرتُ أنا إلى الثورة فى منطقتنا انفعل غاضبا ليؤكد أن أمريكا تريد السيطرة على پترول العالم العربى، وتتدخل مباشرة فى ليبيا الآن لنفس الهدف، وكان معنى حديثه بأكمله يوضح أن أمريكا هى القوة المحركة للثورات العربية، وأوضحت له بدون لغة أن أمريكا لا يمكن أن تكون وراء ثورات هائلة كهذه للشعوب العربية لأنها لا تستطيع ولا تريد، وهى لا تستطيع لأسباب جلية، وهى لا تريد لأنها إنْ فعلت فسوف تفقد حلفاءها وتأتى إلى الثورة بقوى غير مضمونة وبالأخص معادية لأمريكا ولهذا تخشى أمريكا الثورة بسبب مخاوفها من سيطرة الإسلام السياسى على السلطة فى العالم العربى ولهذا تدعم الثورة المضادة، ولا تدعم الثورة موضوعيا، فى حالة ليبيا بالذات، إلا مضطرة ومرغمة. السنيور حسنى پاروى من ناحيته فند آرائى ودحضها موضحا بلغة لا أفهمها أننى لا ينبغى أن أتوقع أن تظهر لى الأيدى الخفية وراء الأحداث، وقمعته بدورى مؤكدا أننى أعرف ما أقول، واستسلم الرجل فى النهاية نظرا لأننى من المنطقة، وأكبر منه سنا، ولأننى كاتب سياسى أيضا، كما يعرف أصلا. على أن سذاجة السنيور حسنى من بعيد خدعت كثيرا من الناس عن قُرْب وكانت وسيلة من وسائل تضليل الشعوب فى سياق ثورة مضادة مسعورة لكى تنفضَّ عن الثورة، كما جاء فى إشارة السنيور صفوت الشريف فى آخر كلمة له كمسئول فى قمة الثقة المفتعلة إلى أن ما يحدث ليس سوى "الفوضى الخلاقة"، ملمحا إلى العبارة التى استخدمتها إدارة بوش ذات يوم. وكان من شأن التدخل الأمريكى والغربى فى ليبيا أن يشحذ هذا السلاح، فهذا التدخل هو فى نهاية المطاف إضعاف للقذافى الذى لم يعد يريده الغرب، وتقوية للثورة قد تعنى أن الغرب يريدها، مع أنه لم يكن يريدها لا فى ليبيا ولا فى غيرها. وما تصريحات الغرب وتحذيراته للأنظمة سوى نصائح مفيدة لتفادى الثورة ولم يكن الغرب يكف عنها من قبل على كل حال، حتى لا يأتى اليوم غير المرغوب فيه غربيا: يوم انفجار الثورة، كما حدث بالفعل. وعندما تسقط مثل هذه الأنظمة فإنها لا تخسر وحدها بل يخسر معها الغرب بشدة حلفاءه على هذا النحو: حسنى مبارك خسر سلطته وماله وربما نفسه وأسرته ولكنْ خسرته أمريكا وإسرائيل والغرب، وكذلك زين عابدى الله بن على وكذلك على عبد الله صالح، وحتى القذافى الذى خسر خسره الغرب أيضا لأن التلاعب الغربى به ومعه سينتهى إلى صعود سلطة لم يعرف أحد إلى الآن طبيعتها ومواقفها.
7: وبمناسبة الأصدقاء: تصادقت هنا هذه الأيام مع يونانى مسلم يعرف الإنجليزية ولهذا قالوا له قبل يوم واحد من سفره إلى إيطاليا إنه سيسافر لمعرفته الإنجليزية مع ابنة عمه التى "ستزرع الكبد" أيضا ومع أمها لأن زوج ابنة العم لا يعرف الإنجليزية وعليه أن يبقى مع الأولاد، وكان لا مناص من أن يأتى إلى هنا تاركا زوجته وأطفاله هناك. وهو متخصص فى تعليم اللغات ويعرف الإنجليزية والألمانية والتركية إلى جانب لغته اليونانية وظل يبحث عن شخص يتحدث معه بالإنجليزية أو بأىّ لغة مشتركة وكان سعيدا بأن وجد ضالته فى شخصى بفضل اللغة المشتركة ولكونى مسلما مثله فوق البيعة. وهو شاب ممتاز يحلم بنوع من تضامن إسلامى بين كل المسلمين، ولكنه لا ينتمى إلى الإسلام السياسىّ كما أكد لى بوضوح تام. وتناقشنا أيضا عن الثورة العربية التى هو سعيد بها، وعن القضية الكردية وبالذات فى المنطقة التركية من كردستان، واختلفنا تماما، لأننى مؤيد لحق الشعب الكردى فى العراق وسوريا وتركيا وإيران وأرمينيا فى تقرير مصيره، أما هو فيفضل حصر حديثه عن أكراد تركيا لأنه يعرف تركيا فقد تعلم هناك وعاش هناك وهو ويرى أن الانفصال مستحيل بسبب التوزيع الجغرافى المتباعد لأكراد تركيا. ومن المهم فى سياق هذه الخواطر المتفرقة حول موضوع واحد أنه تحدث طويلا عن أقلية يونانية مسلمة ينتمى إليها وقد لا يتجاوز عدد أفرادها مائتى ألف: الپوماكPomaks  وتتنازع على أراضيها ثلاث دول: اليونان حيث هى الآن وتركيا وبلغاريا اللتين لهما حدود مشتركة مع إقليمها. وإذا سمعتَ منه كيف يجرى اضطهاد هؤلاء المسلمين فى اليونان وحرمانهم والحط من شأنهم والدوس على كرامتهم وحصارهم داخل منطقتهم وعدم السماح لهم بالتحرك إلا بإذن داخل منطقتهم وإلى خارجها (كما تفعل إسرائيل فى الضفة الغربية)، فلن يفوتك أن تلاحظ أن اليونان التى يستشهد بها إسلاميونا السياسيون فى دفاعهم عن المادة الثانية من دستور 1971 الدائم فيما يتعلق بالدين، بأصلها الذى يعود إلى دستور 1923 وبالإضافة السادتية فى تعديل 1980، باعتبار أن اليونان تنص على الديانة المسيحية فى دستورها، هى اليونان التى يجرى فيها اضطهاد أقلية مسلمة مكروسكوپية الحجم على أساس مادة دستورية مشابهة. ويعنى هذا أن هذه المادة الثانية فى دستور 1971 وتعديلها فى 1980 لا تبررهما مواد شبيهة بها فى بعض الدساتير الأوروپية فمثل هذه النصوص لم تُوضع عبثا وإنما كوسائل لغايات سياسية!
ومن المدهش أن يهلل بعض الأشخاص المسيحيين المصريين ويؤيدهم فى ذلك مسلمون مصريون للدكتور يحيى الجمل لتلميحه إلى حذف الألف واللام مرتين من نص تلك المادة على "المصدر الرئيسى" ولإضافة حق الأقليات الدينية فى ممارسة شعائرها، أو شيء من هذا القبيل. وهذه المادة الثانية، بالإضافة إلى مواد أخرى فى الدستور أشرت إليها فى مقالى عن هذه المادة، تبدأ بتقسيم الشعب المصرى بعد التوحيد المنافق له بالمواطنة فى نفس هذا الدستور الساقط، ويستطيع كل مَنْ له عقل أن يتصور إلام ينتهى بنا دستور ساقط أو دستور جديد يستوحيه عندما يبدأ بتقسيم الشعب، ويضع سلاحا فى يد استبداد الأيديولوچيا السياسية الدينية التى لا تعرف الرحمة وناهيك بالديمقراطية. وهل يعرف هؤلاء الفقهاء الدستوريون الكبار والمستوزرون فى الوقت ذاته (فى حكومة أحمد شفيق الساقطة بالذات) أنهم يهينون شعبهم ويتنصلون من كل قيم ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة كلما فتحوا أفواههم للحديث الدستورى، تماما كما فعلت لجنة المستشار طارق البشرى لإعداد التعديلات الدستورية، التى جرى فى الاستفتاء عليها تزييف إرادة الشعب، بالمال والتضليل والافتراء وبكل الوسائل الخبيثة التى تدل بوضوح على الطبيعة الحقيقية لهذه التعديلات ولكل ما ينبنى عليها من انتخابات پرلمانية أو رئاسية، مع أن الدستور ذاته سقط، بدليل أنه لا يوجد أىّ أساس دستورى من أىّ نوع لحكم الأمر الواقع المتمثل فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته وكل المراكز الأخرى الخفية للثورة المضادة التى تلقى الحماية والرعاية باعتبار أن "كلّ الناس اللى فوق" فى مركب واحد مهدَّد بالغرق وعليه أن يشق طريقه عبر العاصفة عائدا إلى المرافئ القديمة.
8: يصدمنى قانون يمنع الاحتجاج أو الاعتصام أو التظاهر المؤدى إلى تعطيل الإنتاج، كما صدم الكثيرين، لأنه جاء من حكومة عصام شرف الذى انعقدت عليها آمال الكثيرين، لأنه جاء بطلب من ثوار ميدان التحرير ولأنه ذهب إليهم قبل أن يبدأ القيام بمهام منصبه قائلا إنه يستمد الشرعية منهم، فى تطور نادر من نوعه. فمَنْ الذى يعطل الإنتاج ويمثل خطرا على الإنتاج؟ ومَنْ الذى ينبغى أن يُعاقَب ومَنْ الذى ينبغى أن يُعاقِب على تعطيل الإنتاج؟ وبطبيعة الحال فإن الإنتاج (وليس بالمقاييس الهزيلة كما ونوعا لعهد مبارك وسابقيه) هدف حاسم للثورة وقواها وفى حالة انهيار الإنتاج لا مناص من انهيار الثورة والشعب كله. وعندما "تُصْدر" الحكومة قانونا كهذا فلا بد أنه يأتى من منطلق أن العمال هم الذين يعتصمون فيوقفون الإنتاج، وينطلق أيضا من فكرة أن هؤلاء العمال السُّذَّج تتلاعب بهم قوى الثورة المضادة وتدفعهم إلى تعطيل الإنتاج للوصول بالبلاد إلى حالة من الفوضى العامة الشاملة مما يسمح بالقمع على نطاق شامل وعودة النظام كما كان و"كأنك يا بو زيد ما غزيت". ويتضمن مثل هذا الفهم من جانب الحكومة أن "المطالب العمالية والفئوية" شيء جديد حرضت عليه قوى الثورة المضادة وكأنها لم تكن الأساس لمعارك مشهودة مع نظام مبارك خلال أعوام سابقة، ويتضمن كذلك أن العمال لا يثورون مطلقا مهما ارتفعت مستويات الاستغلال ومهما تردت مستويات المعيشة ومهما استفحل الجهل والجوع والمرض، أو يتضمن على العكس أن الطبقات الشعبية فى مصر تعيش حياة "أحلى من عيشة الفلاح" كما تنص أغنية شهيرة، وبالتالى فلا شيء يدعوها إلى الثورة إلا تحريض المغرضين. أو تعنى أن الشعب المصرى حضارى إلى حدَّ أن يصبر على جوعه عاما أو عامين أو عقدا أو عقدين فى مثل هذه الظروف حتى لا ينهار الاقتصاد والإنتاج وكل شيء، إلا أنه ساذج بحيث تُغَرِّر به قوى الثورة المضادة لأغراض خبيثة فى نفسها وتدفعه إلى الخروج عن سجيته الحضارية مطالبا بحقوقه الملحة بدلا من الصبر الجميل.
ومن ناحية أخرى فإن الحكومة تعتقد أنها عاجزة ماليا عن تحقيق هذه المطالب فى الأجل القصير، فلا سبيل بالتالى سوى المزيد من الإنتاج لتحقيق المطالب الخاصة بأجور عادلة مرتبطة بالأسعار لأنه بحسبة بسيطة: كيف تعطى الحكومة شيئا لا تملكه إلا بمزيد من الإنتاج يجعلها تملكه، كما كان فحوى الحديث المتكرر ﻟ أحمد شفيق رئيس الحكومة السابقة التى رفضها الشعب. الإنتاج يأتى بالمال والمال يسمح بتلبية المطالب، وتعطيل الإنتاج يعنى بالتالى العجز حتى فى المستقبل عن تلبية المطالب ويعنى بالتالى انهيار كل شيء، وهذا ما تريده قوى الثورة المضادة.
وبحسبة بسيطة يتضح تماما أن ما ينقصنا ونحتاج إليه هو المال. فمن أين نأتى بالمال؟ هذا هو اللغز الكبير فى نظر حكومتنا الرشيدة. [أسمع الآن فى بى بى سى أن سوريا قررت ضمن ما قررت كخطوات استباقية لتفادى الثورة رفع الأجور فى الدولة بنسبة ثلاثين فى المائة وعلى الفور، ولا أعرف من أين جاءوا بالمال، ربما من إيران؟ وقد يقال إن سوريا لم يتوقف فيها الإنتاج بعد فتوفر المال واستطاعت رفع الأجور بينما توقف الإنتاج فى مصر فى سياق الثورة فتعذر المال، ولكنْ مَنْ نصح مصر بألا ترفع مستويات المعيشة مبكرا عند أول إنذار]. المال، المال إذن، تلك هى المعضلة؟ المال فى بلد تصل ثروات الكثيرين جدا فيه إلى عشرات المليارات، ويُعَدّ فيه أصحاب الملايين بمئات الآلاف، و يصل فيه الدخل الحكومى الشهرى لكثيرين جدا فيه إلى مئات الآلاف وما يفوق المليونين؟!
وفى الوقت الذى تطالب فيه الدولة الجوعى بالصبر على الجوع استمرارا لصبرهم السابق الطويل، بدلا من تطبيق إجراءات فورية على الحكومة والقطاع العام وتكون ملزمة للقطاع الخاص لزيادةٍ للأجور المرتبطة بالأسعار بضوابط "لا تخرّ الماء"، وتدبير المال اللازم لذلك بوضع حدّ أعلى فورىّ لدخول عشرات الآلاف من "الناس اللى فوق" الذين يكفى دخل الواحد منهم لتحسين دخول أعداد كبيرة من "الناس اللى تحت"، بدلا من مثل هذه الإجراءات، وبدلا من وضع يد الدولة فورا على كل مال راكمته السرقات فى أيدى اللصوص، وبدلا من ملاحقة أشخاص لا حصر لهم يجسِّدون الفساد وتحل ثرواتهم كل المشكلة المالية، تطالب حكومتنا الرشيدة الشعب، بالصبر على إحياء دستور سقط مع مبارك، بالصبر على فرمانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة التى تتعجل ترميم النظام بانتخابات پرلمانية ورئاسية متكررة (مجلس الشعب مرتين ومجلس الشورى، هذا الاختراع الساداتى الذى لا لزوم له، مرتين ورئيس الجمهورية مرتين والمجالس الشعبية المحلية مرتين) وبالتالى على ترميق وترقيع دستور جديد، بالصبر على قانون الطوارئ، بالصبر على كل المكاره بما فيها تردى مستويات المعيشة والخدمات الصحية وكل شيء.
المسئول عن تعطيل الإنتاج ليس العمال أو غيرهم من فئات الشعب بل بشكل مباشر الامتناع عن تحقيق مطالب الثورة، ثورة الحليم إذا غضب، والتباطؤ المتواصل، والتسويف المتواصل، حتى فى أمور لم تكن تحتاج أصلا إلى مال. ومن كل هذا يتضح أن مَنْ عطل ويعطل الإنتاج هم الدكاترة فى العناد الذين لا يستجيبون لمطالب الشعب، وإذا كانت هناك قوى بذاتها من قوى الثورة المضادة هى التى تحرض على تعطيل الإنتاج وبث الفوضى ونشر الترويع فلماذا لا يتم اعتقالهم؟ أليست القائمة الكاملة لكل الأجهزة الأمنية الغادرة وكل شبكات اتصالاتهم فى الداخل والخارج فى حوزة حكام الأمر الواقع فى المجلس والحكومة؟ ثم لماذا "الدكترة" فى العناد بحرمان الشعب من حقوقه وتسهيل مهمة قوى ثورة مضادة لا يمكن لتحريضها أن ينجح إلا فى ظل الحرمان من الحقوق المادية والسياسية؟ وهنا يبرز السؤال الحقيقى المتعلق بما هى على وجه التحديد قوى الثورة المضادة، أليست كل أطرافها ومراكزها معروفة لأن النظام هو الثورة المضادة ولأن قواه تحكمنا بصورة مباشرة وغير مباشرة ثم نتحدث مع ذلك عن ثورة مضادة ممنهجة غامضة ملغزة مع أنها معروفة ومطلقة السراح بفعل فاعل وتجلس على العرش؟
وهنا تبرز مشكلة حقيقية ربما جاز أن نسميها رومانسية رئيس الوزراء وقلة خبرته السياسية مما يعطى لقوى النظام أو الثورة المضادة فرصة التلاعب بحكومته، لإفقاده  شخصيا كل مصداقية وكل ثقة لدى الشعب بفضل قوانينه القمعية التى يتم إجباره عليها بهذه الطريقة أو تلك، ولاستخدامه وسيلة لتحقيق غايات مشئومة لا تتفق مع نواياه وتمنياته، على طريق العثور على الشخص الملائم لكل أهداف الثورة المضادة وإزاحته فى تلك اللحظة، لماذا؟ لأنه جاء بطلب من ثوار ميدان التحرير ولأنه قال إنه يستمد شرعيته منهم، وكان مُحِقا لأنه لم تكن توجد ولا توجد الآن شرعية أخرى غير شرعية الثوار والثورة.
9: الإخوان المسلمون والحزب الوطنى فى خندق واحد معا فى صفوف الثورة المضادة: لزم الإخوان السلمون الصمت والصبر والتَّقِيَّة، مكتفين بالكلام الصارخ، طوال حكم مبارك، مركِّزين إلى جانب أنشطتهم الخاصة الدعوية والدعائية والبازارية وغير ذلك على النشاط النقابى العمالى والمهنى وبالأخص على النشاط الپرلمانى. وكانوا يتجنبون كل صدام مع النظام إلا بصورة ثانوية حتى عند التنكيل بهم، ويتجلى هذا بوضوح فى الانتخابات الپرلمانية التى قام فيها النظام بالتنكيل بالإخوان بكل عنف ووحشية كما نكلت بكثيرين غيرهم، فقد لزم الإخوان الصبر رغم التزوير الشامل المنهجى ورغم الاعتقالات ورغم حملات التشويه ضدهم. وكان هذا قبل ثورة 25 يناير 2011 بأسابيع. وكان منطقيا بالتالى أن ينأى قيادات الإخوان بأنفسهم عن هذه الثورة فى أيامها الأولى، خوفا من استهداف الإخوان بالذات والبطش بهم فى سياق انتفاضة مجهولة المصير، ومع المزيد من نجاح الثورة ووقوفها على أرض صلبة شارك الإخوان بكل قوة فيها فى كل مكان فى البلاد، والحقيقة التى لا جدال فيها هى أنهم قاموا بتقوية الثورة بمشاركتهم كما قاموا بتقوية أنفسهم بالثورة. غير أن قيادات الإخوان سرعان ما بدأوا يستثمرون المكانة الجديدة التى اكتسبوها عبر الثورة فى سبيل اقتناص الشرعية وجنى الثمار فى حركة تفاوضية واسعة النطاق دخلت فيها جنبا إلى جنب مع المعارضة الحزبية مع عمر سليمان ومَنْ تبعه بإحسان بعد اختفائه الغامض المكشوف، وكان هذا يعنى أيضا انفضاض الإخوان عن الثورة وتركيزهم على التفاوض، بانتهازية الرغبة فى الدخول فى نوع من تقاسم السلطة مع حكام الأمر الواقع، وجاءت تطورات كثيرة لتصب فى مصلحتهم: لجنة التعديلات الدستورية برئاسة المستشار طارق البشرى، رغبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى التعجيل بتلفيق تعديلات غير دستورية لدستور ساقط وبالاستفتاء عليها بسرعة قبل أن يفهمها أحد، وبالاتجاه مباشرة إلى انتخاب الپرلمان بمجلسيه ورئيس الجمهورية بأقصى سرعة ممكنة حتى لا يؤثر نضج محتمل للثورة وبرامجها وصحافتها وأحزابها الجديدة ونضالاتها الثورية على أىّ انتخابات قادمة وعلى الدستور القادم باستفتائه أيضا وعلى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية التى ستعقبه. وكان التوافق المتفاوض عليه أو غير المتفاوض عليه بين حكام الأمر الواقع والإخوان والمعارضة الحزبية مثاليا للغاية لأن إستراتيچية المجلس الأعلى كانت ملائمة بصورة نموذجية لكل هؤلاء الذين هرولوا لجنى ثمار ثورة اندلعت بدونهم واستمرت بعد انفضاضهم عنها بدونهم أيضا. ذلك أن الإخوان الذين كانوا يمثلون المستفيد الأوحد أو شبه الأوحد من "ديمقراطية" السادات و مبارك قَدَّرُوا أنهم سيكونون أول المستفيدين على الأقل من التطورات الجديدة التى كان ينبغى استخدامها واستغلالها وانتهاز الفرصة التى فتحتها. ويبدو أنهم محقون فى تصوراتهم الأنانية إنْ لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، باعتبار أن لاعبىْ الشطرنج اللذين يلعبان بقطعه على الرقعة لا يجب أن يُنْسيانا مَنْ يلعب بالقطع والرقعة واللاعبيْن جميعا، كما تعلِّمنا قصيدة ﻟ بورخس فى سياق مختلف. ولا شك فى أن ثوار التحرير الشباب شاركوا فى اللعبة التفاوضية غير أنهم كانوا مستعدين دوما للنزول إلى الشارع ولمواصلة الثورة فى الجامعات وغيرها وبكل الوسائل المتاحة بما فى ذلك تكوين أحزاب سياسية، والأهم أنهم لم يكونوا يسعون إلى تحقيق مصالح خاصة.
وإذا كان ما سبق يدل على أن الإخوان شاركوا فى الثورة، بكل قوتهم العددية المعروفة وبكل قدراتهم التنظيمية المتميزة، فى مرحلة مهمة من مراحلها تحت رايات وشعارات لم تكن من صنعهم، وإذا كان قد اتضح بسرعة أن الإخوان، ونتحدث بالأخص عن قياداتهم، عملوا بعد تلك المرحلة على استخدام الثورة لمصلحتهم الأنانية، فإنه يتضح أيضا أن مقاربتهم لهذه للثورة كانت تمثل فى حد ذاتها نقطة التقاء من الناحية الموضوعية مع كل ثورة مضادة. وعلى كل حال فإن هدف الدولة الدينية التى ترتدى رداء الدولة المدنية يشكل فى حد ذاته شعارا معاديا للثورة التى طالبت بالثورة المدنية ضد العسكرة وبالعلمانية ضد الدولة الدينية. وإذا كانت لفظة العلمانية لم تبرز بقوة فإن شعارات رفض الدولة الدينية كانت بليغة فى التعبير عنها، أىْ عن فصل الدين عن الدولة.
والإخوان رغم قوتهم قد لا يستطيعون ضمان الفوز بالأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة منفردين، ولا يتناقض مع مصلحتهم الالتقاء موضوعيا أو التنسيق مباشرة مع الحزب الوطنى، الذى لا ينبغى الاستهانة بقوته رغم عزل رئيسه وعدد من قياداته وإحراق كثير جدا من مقاره وبالتالى إضعاف قدرته الانتخابية وإضعافه عموما. والحزب الوطنى أكثر احتياجا إلى هذا الائتلاف الصامت، لضمان أغلبية من الحزب الإخوانى والحزب الوطنى فى المجلسين يضمن السيطرة من خلالها على إعداد الدستور الجديد القادم وعلى التطورات الكبيرة التالية: الانتخابات الپرلمانية والرئاسية على أساس الدستور الجديد.
ولا شك، على الأقل موضوعيا، فى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ما يزال يسهِّل لهما تطور الأمور فى هذا الاتجاه، برفض حلّ الحزب الوطنى وملاحقة قياداته من ناحية، وبتشكيل لجنة التعديلات الدستورية بصورة ملائمة لأهداف الإخوان من ناحية أخرى، وتسريع العمليات الاستفتائية والانتخابية إلى الحد الأقصى بما يتلاءم مع أهداف الوطنى والإخوان والمجلس ذاته وقوى أخرى كثيرة وهى تتمثل فى ضرورة إعادة تنظيم البلاد بأقصى سرعة قبل أن تملك قوى الثورة أىّ فرصة للتطور والنضج والفاعلية الواعية.
ولكنْ ما هى حسابات المجلس الأعلى والحزب الوطنى وأجهزة الأمن؟ هل هى الحسابات التى تبدو على السطح أم هى الحسابات الخفية التى تستخدم الإخوان إلى حين ومن بعيد دون إدخالهم فى مطابخ السلطة الحقيقية، قبل الإلقاء بهم خارج معادلة استعادة النظام مع التحسينات والتجميلات والديكورات اللازمة؟ وبالطبع فإن علم ذلك عند ربى، وقد يتضح فى نهاية المطاف أن الإخوان الذين يحاولون استغلال الثورة إنما تستغلهم قوة خفية تستمد قوتها من غموضها رغم أنها ظاهرة وتتربع على العرش، ولا أقصد أننا مقبلون بالضرورة على حكم عسكرى طويل، فقد صارت الأنظمة العسكرية مرفوضة فى عالم اليوم، بل أقصد إحياء النظام فى ثوب قشيب حتى مع عودة الجيش إلى ثكناته. والمخططات التى يتم تداول أنبائها بالتفصيل مروِّعة أكثر من كل ما شهدنا من النظام إلى الآن، ونتمنى أن تخيب فلا تصيب. أما الإخوان فإن رفض منهجهم فى الحكم قضية مبدأ وليس أبدا لأن "نقبهم قد يجيئ على شونة".
:10 دور الجزيرة والفضائيات الأخرى فى الثورة العربية: قال حسنين هيكل ذات مرة ما مؤداه أنه لو عاش لينين فى عصرنا هذا وأراد أن يقوم بثورة فإنه كان سينشئ قناة تليڤزيونية بدلا من تنظيم حزب. والحقيقة أن هذه طبيعة العصر، فمع أن الحزب والتليڤزيون لا يتناقضان فالثانى يمكن أن يكون وسيلة فعالة من وسائل الأول، إلا أن المعنى الرمزى واضح وصحيح، واليوم أكثر كثيرا من الوقت الذى قال فيه هيكل ذلك. والحقيقة أن ثورة تكنولوچيات المعلومات والميديا صارت تلعب دورا محوريا فى حياتنا ككل وفى حياتنا السياسية والأيديولوچية والثقافية. وهى ليست أداة للثورة فحسب بل هى أيضا أداة للثورة المضادة، هى أداة للاستقرار على الاستغلال والفساد والاستبداد، وهى أداة للتغيير إلى الأفضل كثورة وإلى الأسوأ كثورة مضادة. ومن الجلى أن كل الأنظمة السياسية فى عالمنا تعتمد على هذه التكنولوچيات المتواصلة التطور. وكان هذا أيضا حال مصر والعالم العربى حيث اعتمدت الأنظمة العربية كافة، مثل كل الأنظمة الأخرى فى العالم، على الصحافة التليڤزيونية والإذاعية والورقية والإلكترونية إلى جانب كافة وسائل صناعة الثقافة المسماة بالجماهيرية والتى ظلت تدمر كل ثقافة.
وكانت شرارة ثورة 25 يناير 2011 فى مصر تتمثل فى ثورة الفيسبوك فكانت الثورة السياسية بواسطة التكنولوچيا بامتياز، وهى الشرارة التى أحرقت السهل كله إذا استشهدنا بعنوان مقال للمغفور له ماو تسى تونج والإحراق هنا بالطبع تعبير مجازى ولا نقصد العنف أو الإرهاب. ولا غرابة فى أن النظام المصرى اعتمد على إغلاق خدمة الهواتف الخلوية المحمولة والإنترنت وبث الجزيرة لحرمان الثورة من عدد من وسائلها المهمة التى ظلت تواصل العمل حتى بعد إطلاق الشرارة.
ولا شك فى أن هذه الشرارة لم تكن عاصفة فى سماء صافية، بل كانت توجهات هؤلاء الشباب محصلة تراكمية لنضالات طويلة فى البلاد، خلقت الوعى ومهدت الطريق. وعلى سبيل المثال فإننا لا يمكن أن ننكر تأثير نضالات عقود طويلة فى عهد السادات وفى عهد مبارك ضد السلام مع إسرائيل وضد الاستبداد والاستغلال فى الداخل، أو تأثير عقود من الصحافة والكتابات اليسارية والديمقراطية والوطنية، ولا تأثير الإضرابات والاعتصامات والكتابات العمالية فى النصف الثانى من السبعينات، والتى تواصلت بعد ذلك، ولا تأثير نضالات أحدث لعمال المحلة وغيرهم ولحركات مهمة مثل كفاية ومثل 6 أپريل وغيرهما ولا المظاهرات التى جابت منذ أعوام ميدان التحرير والشوارع المجاورة رافعة شعارات "يسقط يسقط حسنى مبارك"، وضد التمديد والتوريث، وضد الفساد والاستبداد والاستغلال، بل لا يمكن التقليل من تأثير هامش حرية الصحافة المستقلة والحزبية التى قامت بتعرية واسعة النطاق لمفاسد النظام مع مراعاة الخطوط الحمراء مثل ثروة مبارك وأسرته، ولا يمكن أن ننسى أن الدكتور حلمى مراد هو الرجل الذى تحدى لأول مرة منصب  رئيس الجمهورية وحاسب السادات حساب الملكين على صفحات جريدة الشعب وأن مبادرة الجرأة على مقام رئيس الجمهورية جاءت من ذلك الرجل مهما كان اتفاقنا أو اختلافنا معه سياسيا وفكريا. ولا شك فى أن التعرية الشاملة للنظام ومفاسد زعمائه ورجاله ومؤسساته وأجهزته الشريرة، والتى جاءت بها ثورة 25 يناير، وتعتبر نجاحا كبيرا من نجاحاتها، تمثل مرحلة أعلى وأشمل من كل ما سبق غير أنها لم تكن مقطوعة الصلة بكل التعرية السابقة للنظام خلال عقوده الثلاثة. ولا يجب أن ننسى بالطبع الدور الكبير للظهور المفاجئ للدكتور محمد البرادعى ودعوته للتغيير فى مصر، أما العامل المباشر فكان بلا أدنى شك محمد بو عزيز وثورة تونس وتأثير الدومينو على مصر وغيرها.
وبطبيعة الحال فقد لعبت الفضائيات العربية والغربية التى دخلت كل البلاد العربية "شبرا شبرا، وبيتا بيتا، ودارا دارا، وشارعا شارعا، وزنقة زنقة، وفردا فردا" وفقا للأشعار الدموية لقائد الجماهيرية فى أواخر عهده الكابوسى، دورا هائلا فى رفع مستوى وعى كل شعب وطلائعه بحقيقة وطبيعة وتفاصيل ما يجرى فى البلاد، ولهذا اكتسبت هذه الفضائيات شعبية واسعة فى مصر مع شعبية واسعة خاصة لقناة الجزيرة بفضل قدراتها التى لا تقاس بها الفضائيات الأخرى، إذا تركنا جانبا التناقض بين ما هو مهنى وما هو أيديولوچى فى نظرية وممارسة هذه الشبكة. وبالتالى فإن هذه الفضائيات أحدثت لدى معظم الشعوب العربية أو كلها تقريبا وعيا جديدا بحقيقة الحياة التى تعيشها، وقامت بالتالى بدور كبير فى تراكم الوعى والسخط والاحتقان والطريق إلى الانفجار. وبالطبع فإن الأساس الحقيقى للانفجار "داخلى" (مع الارتباط المعقد بين الداخلى والخارجى) فى كل بلد عربى بلا استثناء: غياب الحرية والديمقراطية والدوس على الكرامة الإنسانية والإفقار المتواصل للشعوب والهبوط بها إلى ما تحت خط الفقر و"حَيْوَنة" الشعوب وفرض حياة السائمة عليها، غير أننا نتحدث هنا عن دور الفضائيات والإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة وهامش الصحافة وحتى النضالات الجماهيرية باعتبارها روافع للوعى والإدراك بصورة تدفع إلى الحركة.
وكان لقناة الجزيرة دور بارز فى كل هذا، فى كل البلدان العربية تقريبا (أىْ باستثناء بعض الجيوب الصغيرة مثل قطر بالذات أىْ الدولة التى تجاوزت حدود حجمها بالمال والذكاء فى استخدامه إلى حد كبير وبقناة الجزيرة بالإضافة إلى عدد من الحركات والجهات الصديقة لقطر والجزيرة). ومن هنا التناقض بين ما هو مهنى وما هو فكرى فى دور الجزيرة فى كل مكان فى العالم العربى بالذات ولكنْ أيضا خارجه.
ولا شك فى الدور المهم للغاية الذى لعبته قناة الجزيرة فى تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وغيرها، وهو دور لا يلغى دور الفضائيات الأخرى غير أنه يتفوق عليها جميعا. وكان هذا الدور عاملا مساعدا ولكن محوريا فى تطور هذه الثورات بعد اندلاعها.
غير أن مشكلة دور الجزيرة فى الثورات الراهنة، كما فى دورها العام فى الأعوام السابقة، تتمثل فى أنه دور مزدوج يساعد على وجه الخصوص قوى بعينها فى هذه الثورات، هى القوى التى تمثل صداقاتها الفكرية والسياسية، وأعنى بالذات موقفها الإستراتيچى الذى يقوم على مناصرة ودعم وتلميع وتشجيع الإسلام السياسى وبالأخص الإخوان المسلمين ليس فى مصر وحدها بل فى كل مكان فى العالم العربى وفى العالم كله. صحيح أن الجزيرة تلعب هذا الدور بالكثير من الذكاء والمهنية حيث تتصل وتتواصل مع كل القوى والحركات والمفكرين والمحللين السياسيين، غير أن هذا لا يخفى مطلقا حقيقة دورها المزدوج.
والدور المزدوج للجزيرة بصفة عامة، ولكنْ بصورة خاصة خلال الثورة أو الثورات، يتطابق مع الدور المزدوج للقوى التى تقف الجزيرة فى صفها. فالإخوان المسلمون فى مصر (وأعتقد أن هذه هى ذات قصتهم خلال هذه الثورات العربية جميعا) وقفوا بعد ترددهم فى الأيام الأولى وقبل انسحابهم فى الأيام الأخيرة إن جاز القول إلى جانب الثورة، غير أنهم سرعان ما أظهروا حقيقة دورهم المزدوج عندما شرعوا مباشرة فى استغلال الشرعية التى أضفتها عليهم مشاركتهم فى الثورة للتفاوض مع نظام مبارك قبل وبعد إسقاطه وللعمل على جنى ثمار الثورة، ووجدناهم فى نهاية المطاف فى خندق واحد مع الحزب الوطنى (بتنسيق أو بدون تنسيق). ويكشف سلوكهم على مدى أكثر من شهرين عن هذا الدور المزدوج أىْ الجمع بين الثورة والثورة المضادة فى صميم موقفهم، لأن سلطتهم المنفردة أو الائتلافية مع حلفائهم "الموضوعيِّين" الجدد لن تكون سوى ثورة مضادة، ليحل محل قيصر يرحل قيصر جديد وليحل استبداد يتسربل بسربال ربانى محل استبداد مبارك، وليكون الطريق مفتوحا على اتساعه إلى الفساد الذى يتباهون بأنهم لا يمارسونه بل يحاربونه، وإلى قيامهم بالدور التاريخى للإسلام السياسى (ولكل دين سياسى فى الحقيقة) والذى يتمثل فى خدمة الطبقة الحاكمة المستغلة الفاسدة المستبدة، مع استعادتها من خلال دورب متعرجة لنظامها الذى دمر مصر كما دمر العالم العربى والذى يهدد فى نهاية المطاف بالانهيار الشامل والغرق فى الرمال المتحركة لنهاية العالم الثالث.
وقد يدهش البعض هذا الحديث عن الدور المزدوج الذى يجمع بين الثورة والثورة المضادة عند حزب أو قناة تليڤزيونية، غير أن الواقع الاجتماعى والسياسى لا يقدم لنا اتجاهات نقية خالصة تُخْلِص بعقائدية بالغة لمبادئ بعينها فتكون سوداء حالكة أو بيضاء لاشية فيها. وعلى العكس فإن حديثا أكثر تفصيلية من المتاح هنا عن الثورة المضادة من شأنه أن يكشف عن تنوع قواها السياسية، وحتى عن الأفكار والسياسات والمواقف التى تتبناها قوى الثورة وحتى القوى الثورية والتى من شأنها أن تخدم الثورة المضادة إنما هى موضوعيا من أدوات ووسائل الثورة المضادة ويمكن الإشارة فى هذا السياق إلى أن ثوار 25 يناير والأسابيع التالية هم الذين صوتوا بعد ذلك بقليل بنعم فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية الموضوعية لإجهاض الثورة، أىْ أن الجماهير الشعبية الثائرة ذاتها يمكن تضليلها لتكون وقودا ووسائل للثورة المضادة، ولا شك فى أن الإخوان والوطنى ضمن النظام ككل كان لهما دور كبير فى تضليل الناخبين فى الاستفتاء ودفعهم فى هذا الاتجاه الضار بالثورة والمفيد بصورة حاسمة لهما وللنظام والثورة المضادة. والحقيقة أن مختلف القوى تشارك فى الثورة لأهداف متعددة وحتى متضاربة عندما يظهر هدف مشترك يجمعها ثم تنفض الزفة بعد ذلك: مثلا الإجماع على رحيل مبارك، ثم الاختلاف الكامل بعد ذلك فى استثمار هذا الرحيل وفقا للأهداف الأصلية المختلفة لمختلف قوى الثورة من وراء الثورة. وعلى كل حال فإن الإسلام السياسى بوجه عام مطبوع دائما وفى نهاية المطاف بطابع الثورة المضادة بحكم التعريف، وهو يحارب قوى الثورة والقوى الثورية فى كل مراحل وجوده المنظم سرًّا أو علنا. غير أن هذا كله حديث عن برامج وأيديولوچيات أحزاب الإسلام السياسى وقادتها وكوادرها العليا، ولا ينطبق بالطبع على الجمهور الواسع لحركات أو أحزاب الإسلام السياسىّ وهو جمهور أقرب إلى الثورة وأبعد عن الثورة المضادة، ويمكن أن يندمج فى صفوف القوى الديمقراطية حقا، والمناضلة حقا فى سبيل الحرية والعدالة، وليس ما نراه من مواقف لشباب الإخوان قبل وأثناء المراحل السابقة من الثورة إزاء قيادات الإخوان بالأمر الغريب.
11: إبداع جديد فى مجال التوريث: كنا نتحدث قبل الآن عن توريث الأبناء وهو الأكثر (كيم چونج إيل وفى الطريق ابنه أىْ الحفيد بالنسبة للزعيم الخالد كيم إيل سونج)، و بشار الأسد فى العالم العربى، وحالات أخرى فى أفريقيا مثل على بونجو فى الجابون و چوزيف كابيلا فى الكونغو، ومشاريع توريث الأبناء فى العالم العربى مثل أنجال مبارك و القذافى و البشير و على عبد الله صالح، ومشاريع توريث الإخوة مثل الجزائر كما حدث فى كوبا أيضا، ومشروع توريث الأصهار فى تونس، وقد سقطت مشاريع التوريث فى العالم العربى، كلها فيما يبدو، ولم يبق إلا المشروع الذى تحقق بالفعل منذ أعوام وهومشروع الرئيس بشار الأسد الذى تنتشر ثورة شعبه الآن، هذه الثورة التى بدأت من درعا وانتشرت إلى مدن وبلدات وقرى عديدة فى البلاد وصار لها الآن عشرات الشهداء فى مختلف أنحاء سوريا (ربما مائة شهيد إلى الآن وفقا لبعض الأنباء). ويمكن أن نتحدث الآن عن توريث من نوع جديد من إبدعات أمريكا اللاتينية المبدعة دوما، حيث يأتى الآن من هنا، من جواتيمالا، نوع من التوريث هو التوريث بالطلاق، فقد أعلنت السيدة الأولى زوجة رئيس الجمهورية الحالى فى جواتيمالا أنها تعتزم الطلاق من زوجها ليكون بوسعها الترشيح لرئاسة الجمهورية تفاديا لحظر دستورى لترشيح الأقارب إذا ظلت زوجته، ولن تكون هناك شبهة توريث عندما تكون طليقته. والحقيقة أننى لا أعرف تفاصيل المشروع أو الصفقة بين الزوجيْن الرئاسيَّيْن، غير أن هذا يجعلنا نتطلع فى عالمنا العربى إلى مشاريع توريث عن طريق الطلاق أو الخُلْع. ولن ينسينا هذا المشروع للتوريث عن طريق الطلاق، ذلك المشروع الروسى الذى كثر الحديث عنه عند توريث پوتين رئاسته للجمهورية لصديقه مدڤيديڤ، وهو مشروع التمديد عن طريق "المحلِّل" أىْ بحيث تكون عودة پوتين ليحل محل صديقه الرئيس الحالى متفقة تماما مع الدستور الروسى. ولا يخفى أن التمديد عن طريق "المحلِّل" ربما كان أكثر ملاءمة لنا نحن العرب وسائر المسلمين، بدلا من أن يستفيد بابتكاراتنا الأصيلة غير المسلمين وحدهم!
12: بدأ الحديث عن مبادرات أحدث للرئيس اليمنى عن رحيله بشكل "مشرِّف"، ويبدو على كل حال أن على عبد الله صالح "مُشْرِف" على النهاية. الله! الله! هذه الثورة تذكرنا ﺒ هرقل وهو يكنس إسطبلات أوچياس، فإلى مزبلة التاريخ، وعقبال جميع الباقين إلى الآن، ولا أقصد القذافى فهو فى طريق السقوط السريع بمشيئة واحد أحد، لتنتهى المذبحة.
13: طبيعى ألا يكون شعار "ثورة" الاحتجاجات الشبابية الفلسطينية فى مظاهراتها واعتصاماتها الحالية "الشعب يريد إسقاط النظام"، بل "الشعب يريد إسقاط الانقسام" ومؤداه أن "الشعب يريد خلق النظام"، أىْ الوصول إلى إنهاء للانقسام بين فتح وحماس وحول هذه الحركة أو تلك، وخلق "نظام" بدلا من الحرب الدعائية التى تنقلب كثيرا إلى القمع المتبادل والاعتقالات المتبادلة وحتى الاقتتال الفلسطينى-الفلسطينى، فالمطلوب شبابيا إذن هو الوحدة، والحكومة الوطنية، والسلطة الموحدة. وبالطبع فإن هذا يمكن أن يقود إلى اتفاق، وإلى إجراءات وتدابير، تحت الضغط الشعبى المحلى الذى ينضم الآن إلى الضغط الرسمى والشعبى الإقليمى أىْ العرب وبعض القوى الإقليمية. غير أن هناك حسابات أخرى تجعل كل اتفاق مؤقتا للغاية وكل تقارب قابلا للتبخر السريع. ففيم يفيد الاتفاق: الواقع أن جميع المراقبين متفقون على أن الصف الفلسطينى الواحد ينزع من إسرائيل وأمريكا ذريعة أن إسرائيل لا تجد طرفا فلسطينيا موحدا تتفاوض معه، ولكن إسرائيل لا تريد حماس وتريد (على سبيل مضيعة الوقت أساسا) الطرف التفاوضى المتمثل فى السلطة. ولكنْ لنفترض موافقة إسرائيل وأمريكا على حماس كشريك فى السلطة والمفاوضات بعد إجبارها على إعلان قبولها للتفاوض مع إسرائيل على دولة فى حدود 1967، وهى الدولة التى تضعها حماس دائما تحت الطاولة فلا تركِّز عليها ولا تعلنها إلا قليلا. ولنفترضْ أن كل الأطراف توافقت وتراضت على التفاوض فهل تقبل سلطة الرئيس محمود عباس ما رفضته فى المفاوضات مع إسرائيل وأمريكا لأن حماس انضمت إليها؟ أىْ هل سيكون الاتفاق المأمول بين فتح والسلطة وحماس على المزيد من التنازلات لتكون المفاوضات قابلة للنجاح خاصة ونحن نعرف ماذا تريد إسرائيل؟ وهذا يعنى أنه حتى إنهاء الانقسام إذا أتى بمزيد من المرونة والتنازلات بدلا من المزيد من التشدد فى المفاوضات مع إسرائيل مباشرة أو من خلال أمريكا وباقى الوسطاء لن يحل العقدة المستعصية بين إسرائيل والشعب الفلسطينى، لكنْ لنفترضْ على العكس أن حماس نجحت فى جعل إنهاء الانقسام على أساس إستراتيچيتها أىْ المقاومة بدلا من المفاوضات. فى هذه الحالة سنسمع من الجميع فى الضفة والقطاع أن المقاومة قد تعنى هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. لماذا؟ لسبب حقيقى هو ميزان القوى بين الشعب الفلسطينى وإسرائيل.
ويعيدنا هذا إلى الواقع الحالى: حماس تقاوم بالهدنة تحت نيران حرب دعائية كثيفة ضد السلطة الفلسطينية والعدو الصهيونى، والسلطة تقوم بإدارة مفاوضات متقطعة (غير متواصلة) لأنها لا تستطيع قبول ما تطرحه إسرائيل. أىْ أننا إزاء مفاوضات عبثية ومقاومة كلامية مدججة بسلاح الهدنة! والهدنة بالطبع موقف اضطرارى لا مناص منه إلا فى حالات الهجوم الإسرائيلى، فالناس لا يذهبون إلى الحرب طلبا للهزيمة وتلقِّى المزيد من الضربات. والموقف المؤدى إلى الانقسام هو أن السلطة وحماس كلاهما فى هدنة مع إسرائيل، ولكن السلطة تتفاوض وحماس تهاجم هذا التفاوض رغم أنها تراقبه عن كثب لجنى الثمار إذا سمحت إسرائيل بدويلة فلسطينية مجردة من كل المقومات الحقيقية لدولة، فوق أنها مقطعة الأوصال، ومحاطة بإسرائيل بصورة مباشرة أو غير مباشرة (عن طريق التزامات المعاهدتين مع كل من مصر والأردن) من كل جانب. وإذا كنا نتحدث الآن عن حصار غزة فالواجب أن نتذكر أن حصار الضفة الغربية أفدح، فهى ليست محاصرة من كل الجهات فحسب، بل هى مقطعة الأوصال، والأهم أن أراضيها تتحول بسرعة مذهلة إلى مستوطنات إسرائيلية ستتحول فى نهاية المطاف إلى جزء لا يتجزأ من إسرائيل. وعندما يأتى أوان الترانسفير فإن أىّ دويلة فلسطينية قد تسمح بها إسرائيل للفلسطينيين ستكون الهدف المباشر للتفريغ من السكان الفلسطينيين: سكان الضفة إلى الأردن، وسكان غزة إلى سيناء، وربما تم ترحيلهم جميعا إلى البرازيل أو القمر. فماذا تعطى الدويلة أكثر مما تعطى هدنة طويلة الأمد دون مفاوضات إلا الإجبارية منها فى إطار الترتيبات التى لا سبيل إلى تفاديها مع قوة احتلال؟ غير أن المشكلة تتمثل فى أن إسرائيل ليست مجرد قوة احتلال، ككل قوة احتلال، بل هى استعمار استيطانى يريد الأرض ولا يريد البشر الذين يعيشون عليها، والأرض عنصر ثابت والبشر عنصر متحرك، كما كان يقول التحالف الحاكم تاريخيا أىْ المعراخ بزعامة حزب العمل. وهذا يعنى أن الدولة الفلسطينية والهدنة كإستراتيچية بدون مفاوضات هما شيء واحد فلا يوجد فرق حقيقىّ بينهما.
وتأتى الانتفاضة الشبابية الحالية للضغط على فتح وحماس وما حولهما لتوحيد الصفوف فى سياق ثورة سياسية شعبية عاصفة من المحيط إلى الخليج. ومن المنطقى أن تخلق هذه الثورة السياسية ثورة تطلعات هائلة لدى الشعوب العربية وكذلك وربما بالأخص للشعب الفلسطينى. ثورة تطلعات هائلة تشمل انقلابا فى ميزان القوة بين الشعب الفلسطينى وإسرائيل بفضل انقلاب منشود فى موازين القوة بين البلدان العربية من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى. غير أن ثورة التطلعات إزاء الثورات السياسية الشعبية العربية يمكن أن تؤدى بسرعة إلى نكسة إحباط ويأس وتشاؤم لدى الفلسطينيين بالذات. لأن الثورة السياسية لا تعنى القفز إلى انقلاب فى موازين القوى، ولأن الثورة السياسية لن تمنع من إجبار مصر على تشديد الإجراءات بصورة أشد من كل ما سبق مع قطاع غزة بذريعة أن الإخوان قد يحكمون هنا فى مصر كما يحكمون هناك فى غزة وبذريعة خطورة التواصل الجغرافى بين إخوان مصر وإخوان حماس، ولأن الثورة السياسية لن تعنى إلغاء مصر للمعاهدة مع إسرائيل، حيث يرى البعض أن إلغاء المعاهدة قد يقود إلى صراع مسلح مع إسرائيل رغم أن ميزان القوة لصالح هذه الأخيرة فيما يرى البعض الآخر أنه فى حالة إلغاء المعاهدة الآن بعد كل هذه العقود لن تجرؤ إسرائيل رغم أن ميزان القوة لصالحها على الدخول فى حرب مع مصر، فقد جرت مياه كثيرة فى أوضاع مصر وأوضاع المنطقة العربية وأوضاع العالم كله، رغم أن المعاهدة تقدم الأساس القانونى لإعادة احتلال سيناء.
كذلك فإن ثورة التطلعات لدى العرب وبالأخص الفلسطينيين وبالأخص التطلع إلى عودة مصر كقوة وطنية وعروبية ومعادية للصهيونية وإسرائيل والإمپريالية تتجاهل الصراع الكبير بكل الوسائل فى مصر والعالم العربى بين الثورة المضادة الحاكمة بالفعل والثورة السياسية الشعبية التى حققت بالطبع أهدافا مهمة غير أنها ما تزال فى أول الطريق، ذلك أن مصر رغم الثورة الشعبية "يحكمها" العسكريون والثورة المضادة.
والنتيجة أنه إذا كان من المفارقات أن تحالفا غربيا أطلنطيا بالقيادة الفعلية لأمريكا (هو تحالف يمثل مركزا من أهم مراكز الثورة المضادة العالمية ضد الثورات العربية) هو الذى يحمى الثورة الليبية، رغم خشية الغرب من عواقبها، ويدخل فى حرب فعلية ضد القذافى، وبالطبع مدفوعا بمصالحه، وبمشاركة أنظمة عربية، غير أن الشعب الفلسطينى لن يجد فى الظروف الراهنة نجدة من العرب أو العجم أو الفرنجة. والحقيقة التى ينبغى أن نضعها نصب أعيننا هى أن القضية الفلسطينية لن تُحَلّ إلا بالقضاء على دولة إسرائيل لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية يعيش فيها العرب واليهود معا، وهو شعار يعود من الماضى، ولكنْ فى وضع عالمى أسوأ بما لا يقاس، فى انتظار مستقبل قد تنجح الشعوب العربية فى خلقه على مدى أطول مما تتصور ثورة التطلعات الحالية.
وينبغى أن يكون واضحا أنه ما لم تمهد الثورات السياسية العربية الحالية الطريق أمام ثورات اجتماعية أى انتقال البلدان العربية باقتصاداتها البائسة رغم الثروات الفلكية ذات الطبيعة الاستخراجية والريعية بمعظمها إلى بلدان صناعية حديثة من خلال السباق مع الزمن فى عملية شاملة من التصنيع والتحديث واكتساب كل منجزات الحضارة الرأسمالية الراهنة فى الشمال أو الغرب، رغم أن الثورة المضادة العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تشكل عقبة كأداة فى طريق الثورة الاجتماعية العربية فى سبيل التحول إلى بلدان صناعية متقدمة، كما تقف الآن ضد الثورات السياسية الشعبية وتعمل على إجهاضها وتصفيتها والقضاء عليها.
ﭙيزا، إيطاليا، 23-26 مارس 2011 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10
الديمقراطية .. ذلك المجهول!
مثل كثرة من المفاهيم السياسية ينطوى مفهوم الديمقراطية على التباسات وحتى إشكاليات عديدة. فلكل تعبير سياسى، رغم بساطته الظاهرة، تعريفات متعددة قد تكون متعارضة ومتناقضة. ويتضح جانب مهم من هذا الطابع الإشكالى فى مفهوم سياسى عند تقييمه على أساس معيار طابعه الحقيقى من عدمه، معيار مدى تطابق الاسم على المسمَّى أو التباعد بينهما. وعلى سبيل المثال: ما هو الحزب؟ أو ما هى التعددية؟ أو ما هى الديمقراطية؟ أو ما هو الشعب ذاته؟ ولكى تكون التعددية السياسية حقيقية أو حقيقة واقعة فإنه لا يكفى أن توجد فى بلد ما مجموعة وحتى مجموعة كبيرة من الأحزاب المعبرة عن طبقات أو أجنحة من طبقات، ولكى تكون التعددية القومية أو الإثنية أو الدينية أو الثقافية حقيقية فى بلد ما فإنه لا يكفى مجرد وجود جماعات قومية أو إثنية أو دينية أو ثقافية فيه.
ذلك أن التعددية السياسية أو الحزبية قد تكون زائفة وليست حقيقية، سطحية وليست عميقة، شكلية وليست جوهرية، إذا كنا إزاء مجرد وجود أحزاب صغيرة أو ضعيفة ولا تستحق هذا الاسم، أو غير مستقلة بحيث تكون تابعة إلى هذا الحد أو ذاك للحزب المسيطر ضمن نظام للحزب الواحد يصطنع لنفسه تعددية حزبية زائفة بالسماح بأن توجد حوله أحزاب يعمل دوما على إضعافها وضمان تبعيتها. وينطبق الشيء نفسه على الشعب الذى يقدمه مفهومٌ عند البعض على أنه يتطابق مع مفهوم السكان، أىْ كل سكان بلد من البلدان، على حين أنه يقتصر فى مفهومٍ عند البعض الآخر على الطبقات أو الجماهير الشعبية التى تقع ضحية للاستغلال والقهر فى مجتمع طبقى.
وهنا يأتى مفهوم الديمقراطية الوثيق الصلة بمفهوم الشعب ليرث كل التعارضات التى تنطوى عليها المفاهيم المذكورة وباقى المفاهيم السياسية. فإذا كانت الديمقراطية تعنى حكم الشعب، فما هو الشعب؟ وما هو الحكم؟ وإذا كانت التعددية بكل أبعادها، وفى المحل الأول التعددية السياسية الحزبية، والمساواة بين المواطنين، من حيث هم مواطنون، فى الحقوق والواجبات، من شروط الديمقراطية فما مدى الطابع الحقيقى للتعددية؟ وهل نحن إزاء مجرد وجود أحزاب وإثنيات وجماعات بشرية متعددة الديانات أو اللغات أو الثقافات أو القوميات؟ وهل تعنى الديمقراطية مجرد وجود هذه الهيئات والكيانات والجماعات البشرية المتنوعة أم تعنى حالة بذاتها تسودها ودرجة من التفاعل والتطور والنضج بلغتْها بصورة تراكمية فى بيئة سياسية مواتية أو فى مجرى النضال ضد بيئة سياسية غير مواتية؟
وإذا كان قد قيل: كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيتها الحرية!، فإن الالتباس الذى تنطوى عليه الديمقراطية لا يقل خطورة عن الالتباس الذى تنطوى عليه أنواع من الحرية أو مفاهيم للحرية، رغم بساطة وشفافية ورِقَّة هذه الكلمة الساحرة: الحرية.
ولأن البشر – كمجموعات اجتماعية – لا يمكن أن يتفقوا على معنى واحد لأىّ مفهوم اجتماعى مهما بدا بديهيا لأنه مع كل مفهوم اجتماعى تأتى مختلف المجموعات الاجتماعية لتتصارع كل مجموعة منها دفاعا عن التفسير الذى يخدم مصالحها فإنه لا أحد يملك إلا أن يضع لنفسه معيارا ملائما لفهم المفهوم أو تفسيره أو استيعابه فى سياق مصلحته الخاصة. ومن خلال هذا الصراع الفكرى يجرى تعزيز تصورات ودحض تصورات فى سياق تطوُّر علم السياسة مع تطوُّر السياسة ذاتها، أىْ العلاقات بين الطبقات، ومع تطوُّر المجتمع ذاته، والتاريخ كله.
ولأن كلمات كثيرة تمثل تعابير سياسية وتحيط نفسها بغلاف أسطورى ولا تكشف عن حقيقتها إلا من خلال الممارسة العملية فإنه ينبغى مع كلمة مثل الديمقراطية التى تمثل عنوانا كبيرا من عناوين الصراع الفكرى والعملى بين الاستقرار والتغيير، أو بين الثورة والثورة المضادة، أن نقف عندها بكثير من التأنى وإنعام النظر، محاولين أن ننزع عنها غلافها الأسطورى فى سبيل كشف حقيقتها باعتبارها وهما أو اكتشاف حقيقة يمكن أن تكون مختبئة خلف أسطورتها، كما يمكن أن تنطوى على مبدأ مرشد عظيم، أو على يوتوپيا قابلة مع ذلك للتحقيق على الأرض، بدلا من إلباس أوضاع تاريخية لباس الأسطورة وظن أنها تجسيد لهذا المفهوم المراوغ.
وتقول الأسطورة السياسية إن الديمقراطية هى حُكْم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه ليس باعتبارها يوتوپيا يحلم البشر عبر القرون والألفيات بتحقيقها على الأرض، بل كوصف لواقع تاريخى فى الحكم تحقق فى أثينا القديمة وما حولها (أتيكا) فى عصر پيريكليس بعد انتفاضة شعبية قبل ميلاد المسيح بخمسة قرون باعتبارها النقيض المباشر لحكم الأوليجارشية (الأقلية). وعلى هذا فإن الدول الديمقراطية أو الديمقراطيات كما تسمى نفسها فى الغرب أو الشمال تروِّج لفكرة أن هذا النحت اللغوى اليونانى الأثينى القديم ينطبق على نظم الحكم فيها لأن شعوبها تحكم نفسها بنفسها ولنفسها عن طريق پرلمان تشكله هذه الشعوب كل فى بلده عن طريق انتخابات حرة نزيهة من ممثليها أىْ الپرلمان الذى يجسِّد سيادة الشعب ويضمن لكل شعب منها اتخاذ القرارات التى تؤمِّن له تقرير مصيره وتنظيم حياته وفقا لإرادته الحرة، كما تتجسَّد فى الديمقراطية المباشرة (كما فى الاستفتاءات) وفى الديمقراطية التمثيلية (بانتخاب عدد أضيق من ممثلى الشعب عبر وساطة الناخبين).
وتُرَوِّج تلك الديمقراطيات لفكرة أنها، فى سياق رسالتها الحضارية عبر العالم، تعمل على تحويل العالم الثالث بعيدا عن الديكتاتوريات الفاسدة المتخلفة التى تسيطر عليه إلى ديمقراطيات قادرة على السير به إلى الأمام على طريق التقدم بدلا من التخلف، وعلى طريق النزاهة والشفافية بعيدا عن سراديب الفساد.
ومن المؤكد أنه نشأت من داخل شبكة العلاقات السياسية والاقتصادية للديمقراطيات الغربية فى بعض بلدانها أنظمة لا يمكن وصفها بالتعددية الحزبية حيث الحزب الواحد الصريح أو المموَّه هو الحزب الحاكم كما لا يمكن وصفها بالتعددية الثقافية أو الإثنية أو القومية أو اللغوية أو الدينية حيث تسيطر العنصرية والعرقية فى أشكالهما القصوى للشعب السيد؛ على سبيل المثال فى ألمانيا النازية وشقيقاتها الفاشية فى أوروپا والياپان قبل الحرب العالمية الثانية. وفيما عدا النازية والفاشية، كثيرا ما كانت تنمو فى بلدان الغرب اتجاهات بعيدة عن هذا المفهوم الغربى للديمقراطية حيث شهدت بلدان مختلفة منها فى أوقات مختلفة أنظمة ديكتاتورية وحتى عسكرية مثلت إطارها القانونى انتخابات نزيهة وپرلمانات ديمقراطية.
وفى العالم الثالث يسود انعدام الديمقراطية بهذا المفهوم الغربى فى ملكيات أو جمهوريات أو جمهوريات-ملكية عديدة، وتظهر فى كثير من الأحيان كل الشكليات المظهرية للديمقراطية من أحزاب وغيرها فى هذه البلدان، وتُرْبِك التحليل تماما أحيانا تجارب عميقة رغم قلتها لأشكال وتجليات ديمقراطية كما فى الهند منذ الاستقلال أو البرازيل فى بعض الفترات، ونرى انتخابات لا يفوز فيها رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية الذى ينظم تلك الانتخابات (الهند، البرازيل، پاكستان)، فى بعض البلدان من خلال انتخابات نزيهة نسبيا، وفى بلدان أخرى، كما فى أفريقيا، نتيجة توازنات قبلية حيث تقف كل قبيلة للأخرى بالمرصاد فى حرب مختلف مراحل العملية الانتخابية، وفى سياق مقدمات حرب أهلية قد يحول دون استفحالها تقاسُمٌ للسلطة (كينيا، زيمبابوى)، أو فى سياق حرب أهلية كهذه التى توشك على الإطاحة برئيس كوت ديڤوار (ساحل العاج).
وإذا أخذنا ما يسود الغرب أو الشمال وما يسود الشرق أو الجنوب، بعيدا عن الأوضاع القليلة أو الاستثنائية أو قصيرة العمر فيهما، فإن الشمال والجنوب سيبدوان عالميْن متعارضيْن من حيث الديمقراطية، أىْ من حيث حكم شعوب هذه البلدان نفسها بنفسها لنفسها وفقا للأسطورة من خلال آليات الديمقراطية أو الپرلمانية الديمقراطية فى جمهورية پرلمانية أو جمهورية رئاسية أو ملكية دستورية. وتتمثل حجة الغرب هنا فى أن بلدانه تتمتع بالديمقراطية التى تظل بلدان الشرق محرومة منها لأن قاعدة الشرق هى الحكم المطلق الجمهورى أو الملكى من خلال پرلمان يسيطر عليه الحزب الحاكم الواحد الصريح أو المموَّه أو حتى بدون پرلمان وبدون أحزاب على الإطلاق.
والحقيقة أن الطابع الأسطورى أو الزائف لديمقراطية الغرب (ومن باب أولى لحالة العالم الثالث من حيث الديمقراطية) قابل للإثبات ببساطة بمعيار تقييم نتائج هذه الديمقراطية التى لا تدل على أننا إزاء شعوب مارست إرادتها الحرة فاختارت ممثلين حقيقيين لها أدخلوا عبر الپرلمانات تشريعات تحقق مصالحها وحقوقها وحرياتها ومساواتها وقاموا بمراقبة تنفيذ الحكومات المسئولة أمام هذه الپرلمانات للتشريعات المعنية. إن ما نراه فى الغرب الرأسمالى، وطوال تاريخ المجتمعات الطبقية فى الحقيقة، هو أن الشعب لم يحكم، ولم يحكم بنفسه، بل حكمه آخرون، أىْ الطبقة أو الطبقات المالكة والحاكمة التى تستغله وتقهره، ولم تحكمه لمصلحته، بل لمصلحة الطبقة أو الطبقات الاستغلالية وحدها. وكان الشعب دائما محكوما يستغله ويضطهده الحكام. وبقدر ما نسلِّم بمقولة أن مفهوم الشعب يساوى مفهوم السكان فإن الأمر سوف يستقيم إلى حد ما لأن طبقات الشعب أو السكان - فلا فرق فى هذه الحالة - طبقات متناقضة المصالح، ويمثلها بالضرورة پرلمانيون متناقضو المصالح. ورغم أن "الناس اللى فوق" أقلية عددية ضئيلة على حين أن "الناس اللى تحت" أكثرية عددية كاسحة، فإن التشريعات والسياسات والحكومة التى تنفذها تكون "لأمر ما" لصالح تلك الأقلية الضئيلة، ولهذا تسود علاقات الاستغلال التى تقود "الناس اللى تحت" دوما إلى تنظيم أحزاب ونقابات وجمعيات وإضرابات ونضالات متواصلة لتحسين شروط حياتها وعملها. ويكمن السر كله فى هذا "الأمر ما"، الذى يجعل الأقلية أغلبية بحيث تحكم أقليةٌ من السكان أغلبيتهم فتستغلها اقتصاديا وتسيطر على مفاتيح وجودها ومستقبلها وشقائها المسمَّى بالرفاهية.
ويمكن التوصل إلى الطابع الأسطورى الزائف للديمقراطية فى الشمال أو الغرب من خلال تحليل تعريفٍ للديمقراطية. فالديمقراطية المنحوتة من كلمتين يونانيتين تعنى حُكْم الشعب حيث تعنى إحداهما الشعب وتعنى الأخرى القوة أو السلطة أو الحكم أو القيادة أو الصدارة. فما هى آلية حكم الشعب؟ هناك ممثلون للشعب، فى مستوى أدنى من تمثيله، وهم أيضا كيان الديمقراطية المباشرة، لأنهم لا يأتون عن طريق الانتخابات، وهم الذين ينتخبون مستوى أعلى من تمثيل الشعب، أىْ ممثلى الشعب من خلال تمثيلهم لممثلى الشعب فى المستوى الأدنى، أىْ نواب الشعب فى الپرلمان، وإذا كان هؤلاء النواب منتخبين فإن ممثلى الشعب فى المستوى الأدنى، أىْ الناخبين، أىْ أولئك الذين يجسِّدون الديمقراطية المباشرة، يأتون من طريق آخر. إنهم يأتون بصورة آلية ولكنْ وفقا للدستور أو القانون الذى يحدد الأعمار التى تؤهل قسما من السكان لتمثيل الشعب كناخبين، ويختلف العمر المؤهِّل للناخب فيمكن أن يكون سن الحادية والعشرين فى بلد أو الثامنة عشرة فى بلد آخر أو الخامسة عشرة فى بلد ثالث (إيران قبل 2007)، وهكذا.
وإذا سميناهم ناخبين ونوابا فإنه يمكن القول إن ما يجعل منهم ممثلين حقيقيين أو غير حقيقيين كديمقراطية مباشرة (الناخبون) أو كديمقراطية تمثيلية (النواب)، إذا لم ندخل فى حسابنا الآن المغزى الديمقراطى أو اللاديمقراطى للعمر المؤهِّل للناخب ومشكلة أفضل معايير تحديد هذا العمر، يكمن فى كل من حلقتىْ الناخب والنائب. ذلك أن تحليل الناخبين سيوضح انتماءاتهم الطبقية وميولهم السياسية والأيديولوچية التى لا تتطابق بالضرورة مع انتماءاتهم الطبقية المحدَّدة لأن هذه الميول تحددها حالة المجتمع ككل ولا تحددها الانتماءات الطبقية الموضوعية بصورة آلية خاصة عندما تكون الطبقات العاملة والشعبية طبقات فى ذاتها أىْ غير واعية بمصالحها. فما الذى يصنع تلك الانتماءات والميول السياسية والأيديولوچية للطبقات العاملة بما يختلف أو حتى يتناقض مع انتماءاتها الطبقية الموضوعية؟ وبعبارة أخرى: ما الذى يصنع فكر وأيديولوچيا وميول المجتمع بصورة توحِّد بين الطبقات العليا والدنيا، بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، بين الحكام والمحكومين، بصورة تبدو فيها المصالح المتناقضة بين فوق وتحت كأنها مصلحة واحدة قد تمثلها بصورة زائفة كلمات مثل الوطن، الأمة، الشعب، القومية، الوحدة الوطنية، المستقبل الواحد، منجزات الزعامة التاريخية، الفوهرر، وغير ذلك.
وتعمل كافة المؤسسات التى تخدم أيديولوچيا الطبقة العليا وتنشرها وترسِّخها وسط كل طبقات المجتمع على قدم وساق: النظام التعليمى ومؤسساته، المؤسسات الدينية من معاهد تعليمية ومنها التعليم الأزهرى بكافة مستوياته، دور عبادة وإعلام دينى، مؤسسات الإعلام بكل أنواعها، السوق ودعايتها، الثقافة الجماهيرية باعتبارها صناعة الثقافة، المثقفون التقليديون الآتون من كل الطبقات ولكنْ يرتبطون باستقرار الطبقة الاستغلالية، وبالطبع كل أجهزة القمع المباشر الپوليسى والمخابراتى. على أن نشاط بعض هذه المؤسسات يصل إلى الذروة فى فترات الثورة المضادة ولكنْ أيضا فى فترات الحملات الانتخابية أو مذابح الديمقراطية المباشرة المسماة بالاستفتاءات على الدساتير أو تعديلاتها أو القوانين أو على رئيس الجمهورية قبل إدخال الانتخابات الرئاسية منذ زمن قريب فى مصر. إننا باختصار إزاء غسيل مخ متواصل من المهد إلى اللحد فلا غرابة فى أن تقوم هذه الهوة العميقة بين الانتماء الطبقى الموضوعى والانتماء الفكرى والأيديولوچى لصالح الطبقة المسيطرة فكريا.
وعلى هذا النحو نجد الملايين أو عشرات الملايين من الناخبين الذين تتشكل غالبيتهم الساحقة من أبناء الشعب، من ضحايا الاستغلال والاستبداد والفساد والاضطهاد وغسيل المخ فى المجتمع الطبقى، ينتخبون مع ذلك مئات من النواب الذين يحتكرون اسم ممثلى الشعب وتكون غالبيتهم أكثر انتماءً طبقيا وفكريا إلى الطبقات العليا وأقل انتماءً إلى الطبقات الشعبية، وبالتالى أكثر تمثيلا للمصالح الطبقية السائدة فى المجتمع، وبالتالى مؤهَّلين للتشريع ومنح الثقة للحكومة والرقابة على تنفيذ السلطة التنفيذية وفقا لمصلحة الطبقة الرأسمالية الاستغلالية وضد الشعب.
وإذا أخذنا بتعريف الديمقراطية باعتبارها شكل الحكم الديمقراطى القائم على التعدديات المختلفة، وعلى المساواة بين المواطنين، وعلى الكلمة التى يملكها كل مواطن فى قرارات الپرلمان الذى يقوم بالتشريع ومراقبة تنفيذ حكومته المسئولة أمامه، فإننا لا نجد أىّ ضمان يتمتع به هذا الشكل للحكم لتحقيق الديمقراطية واتخاذ القرارات وفقا لمصلحة الشعب وحاجاته ورفاهيته.
وهنا نقطة سأركز على بلورتها فى هذا المقال وهى أن الديمقراطية بمعنى حكم الشعب لا تتحقق إلا فى سياق النظام الاشتراكى البالغ النضج، وأن أىّ ديمقراطية فى ظل النظام الرأسمالى تعنى حالة يبلغها الشعب من تحت، أىْ حالة مؤسساته ونضالاته وإبداعاته من أسفل، ولا يتحقق هذا بالضرورة فى ظل شكل "ديمقراطى" للحكم الملكى أو الجمهورى (الرئاسى أو الپرلمانى) القائم فى كل الأحوال على پرلمان وحريات وحقوق معتمدة رسميا، غير أن هذا الشكل للحكم يخدم الديمقراطية التى يصنعها الشعب من تحت أفضل من الملكية أو الجمهورية الأوتوقراطية. فالمسألة الحاسمة هى الوجود الفعلى للديمقراطية ومؤسساتها ومساواتها وتعددياتها من تحت وليس شكل الحكم الپرلمانى فى حد ذاته، وهذا الوجود الفعلى للديمقراطية من تحت هو وحده القادر على فرض شكل الحكم الملائم وعلى حمايته وتطويره.
وهناك افتراضان يمكن من خلالهما إجراء المزيد من اختبار وتحليل أسطورة الديمقراطية بوصفها حكما يمارسه الشعب نفسه، بنفسه، ولنفسه.
ويتمثل الافتراض الأول فى أن يتمتع الناخبون بأغلبيتهم الانتخابية، الشعبية بطبيعة الحال، بالوعى الكامل بمصالحهم الحقيقية، وبالتحرر الكامل من أىّ سيطرة أيديولوچية مفروضة عليهم ومن أىّ تزييف مباشر أو غير مباشر لإرادتهم. فى هذه الحالة سنكون أمام شعب يحكم نفسه بنفسه ولنفسه، وما يفترض نزاهة الانتخابات هنا هو أن هؤلاء الناخبين الممثلين للشعب بصورة صادقة هم الذين ينظمون هذه الانتخابات، ويعنى هذا أنه لا يوجد أصلا حكام لا يمثلون الشعب، كما يعنى أن مَنْ لا يمثلون الشعب لا يسيطرون على السلطة ولا على الاقتصاد، ويعنى هذا أخيرا أن مثل هذا الحديث لا ينطبق إلا على الاشتراكية ليس كما زعمت أساطير القرن العشرين أنها تحققت فى الواقع متجسدة فى النموذج السوڤييتى البائد فى روسيا ومستعمراتها الداخلية السابقة وغيرها، والذى ما يزال حيا يُرزق حاليا فى الصين التى يقوم نظامها فى الحقيقة على رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة والرأسمالية المتعددة الجنسيات بقيادة الحزب الشيوعى الصينى.
ويتمثل الافتراض الثانى فى أن يخوض هؤلاء الناخبون المؤهلون بحكم الأعمار انتخابات ينظمها حكام منفصلون طبقيا عن غالبيتهم، أىْ عن الشعب. وما دام هؤلاء الحكام منفصلين عن الشعب فإننا نتحدث إذن فى عالم اليوم عن الرأسمالية العالمية التى لا تمثل بلدان العالم الثالث سوى أفنيتها الخلفية المفتوحة كساحات للاستغلال الإمپريالى دون أن تكون هى ذاتها رأسمالية، أىْ دون أن تكون بلدانا صناعية حديثة. وما دمنا نتحدث عن حكام رأسماليين ونظام رأسمالىّ ورأسمالية عالمية ذات أفنية خلفية فإننا نفترض مسبقا أننا إزاء طبقات مستغِلة (بكسر الغين) وأخرى مستغَلة (بفتح الغين) وطبقات مضطهِدة (بكسر الهاء) وأخرى مضطهَدة (بفتح الهاء). وهنا سنجد العالم منقسما إلى عالميْن: عالم أول (الغرب أو الشمال) وعالم ثالث. أما العالم الثانى سابقا، أىْ عالم الاشتراكية كما تحققت فى الواقع، كما يقال، فقد انشق إلى عالم متقدم ينتمى إلى العالم الأول، وعالم متخلف ينتمى إلى العالم الثالث.
وإذا عُدْنا إلى الناخبين وفقا للأعمار كممثلين للشعب فى المستوى الأدنى، وباعتبارهم مَنْ يأتون بأصواتهم فى الانتخابات بممثلى الشعب فى المستوى الأعلى أىْ الپرلمان (باعتبارهم ممثلين للشعب من خلال تمثيلهم لممثلى الشعب من المستوى الأدنى، كما سبق القول)، فإن الانتخابات تغدو حجر الزاوية. وما دام هؤلاء الناخبون ينتمون إلى طبقات متعددة فإن مصالحهم الحقيقية "كممثلين لطبقات مختلفة" إنما هى مصالح متعارضة وحتى متعادية بالنسبة لطبقات بعينها. ولأن أغلبهم ينتمون إلى طبقات عاملة وشعبية وفقيرة ومهمشة بالضرورة باعتبارها الأغلبية السكانية فإنهم سوف يكتسحون فى أىّ انتخابات نزيهة ويصلون بممثلى الشعب الحقيقيين إلى السلطة لتنظيم وإعادة تنظيم الدولة وفقا لمقتضيات مصالح الشعب.
وهنا يبدو أن الانتخابات النزيهة وحدها هى الضمان لتحقيق مصالح الشعب. غير أنه بالنظر إلى الوضع الفعلى فى العالم كله اليوم بحكم طبيعة أنظمته القائمة على الاستغلال الطبقى فإن السؤال الذى يطرح نفسه، كما يقال، يدور حول طبيعة الانتخابات التى جاءت بكل الأنظمة الحاكمة الآن فى العالم (إذا تركنا جانبا البلدان التى لا تعرف أصلا انتخابات پرلمانية أو غير پرلمانية). والإجابة الطبيعية هى أنها ليست انتخابات نزيهة لأنها لم تأت بممثلين حقيقيين للشعب ومصالحه بحكم الأغلبية الشعبية الكاسحة للناخبين، بل جاءت بأمثال مبارك، و زين العابدين بن على، و على عبد الله صالح، و ساركوزى، و بوش، و هتلر، وحزب المحافظين البريطانى.
وهناك مزاعم بأن الانتخابات فى بلدان الشمال أو الغرب نزيهة على حين أن انتخابات كل أو معظم بلدان العالم الثالث انتخابات غير نزيهة بل مزوَّرة بصورة مباشرة (وبكل وسائل التزوير).
ومشكلة انتخابات العالم الثالث أكثر وضوحا وبساطة. فهنا تزوير مباشر يبدأ بجداول الناخبين، ويمر بالعملية الانتخابية، وينتهى إلى إعلان النتائج التى تكون محدَّدة سلفا فى كثير جدا من الأحيان. وتقلل من هذا التزوير بعض الأوضاع الخاصة (قوة أحزاب الطبقات الشعبية أو التوازنات القبلية على سبيل المثال). ويعتمد هذا التزوير بوجه عام على الأجهزة الإدارية والپوليسية والقضائية غير المستقلة التى تنظم وتباشر إجراء مختلف مراحل الانتخابات أو الاستفتاءات، ومن أدوات التزوير بالطبع جهل قطاعات واسعة من الناخبين وأميتهم ويأسهم من أىّ دور حقيقى لأصواتهم وعدم تسييسهم وبالأخص عدم تسييسهم بروح مصالحهم الحقيقية بقيادة أحزاب قوية، ومن هذه الأدوات السيطرة الأيديولوچية والإعلامية الواسعة النطاق التى تقوم بإجراء غسيل المخ المتواصل للشعب. وهناك استخدام الأموال الطائلة لتفعيل كل هذه الأدوات، وللقيام مباشرة بشراء الأصوات، بالإضافة إلى الشحن الإدارى فى اللوريات للناخبين من المؤسسات والإدارات والمصالح الحكومية والشركات للتصويت لأشخاص محدَّدين، والاعتماد على أن هذا كله وغيره يأتى على أرضية جاهزة تشمل هزال الأحزاب والنقابات والاتحادات والروابط العمالية والفلاحية والمهنية، فوق الأرضية الأوسع لصرف الشعب عن السياسة بوسائل لا حصر لها، وتسييس أعداد كبيرة منه تسييسا معاديا لمصالح الشعب الحقيقية، كما يتضح من القوة العددية الكبيرة لأحزاب معادية لمصالح الشعب، وبالأخص أحزاب المغانم التى تأتى بها عضويتها كما حدث فى العديد من التجارب وليس فقط فى العالم الثالث (فقد كان هذا ملمحا رئيسيا فى الاتحاد السوڤييتى السابق حتى منذ ثورة أكتوبر وفى مختلف البلدان التى تبنت نموذجه وكذلك فى البلدان الفاشية وبصورة عامة فى الأحزاب البرچوازية الكبيرة فى الغرب أو الشمال).
ومن الواضح على هذا النحو أن البلدان المتخلفة المسماة بالنامية، والتى لا تعدو أن تكون أفنية خلفية للرأسمالية العالمية الإمپريالية، لا وجود فيها للانتخابات النزيهة ولا للديمقراطية حسب التعريف المشهور. وبالطبع فإن هذا لا يقلل بل يضاعف من أهمية الديمقراطية بالمعنى الصحيح فى العالم الثالث بالنسبة لشعوبه كما سنرى لاحقا فى سياق هذا النقاش.
ومن ناحية أخرى فإن الطابع القمعى الوحشى المباشر فى البلدان المتخلفة (وبالطبع فى بلدان رأسمالية أو سائرة بقوة فى طريق الرأسمالية عندما تدخل فى سباق محموم مع الغرب المتقدم لردم الهوة الواسعة وبهدف التفوق كما حدث فى التجربة الفاشية والتجربة السوڤييتية) ينبع مباشرة من التخلف ذاته. ذلك أن الحقوق والحريات التى تعتبر ضرورات لا مناص منها فى البلدان الرأسمالية المتقدمة كالتظاهر والإضراب وحرية تكوين الأحزاب والنقابات وحرية الصحافة والتعبير وغير ذلك تغدو كابوسا مفزعا لهذه الاقتصادات الهشة التى لا تملك الآليات الضرورية لاستيعاب هذه الحريات والحقوق التى نشأت فى الغرب بصورة تاريخية وتراكمية وتدريجية، وقفزت فى وجه البلدان المتخلفة كمطالب ملحة عندما أخذ الغرب يعيد خلقها على صورته أىْ كمستعمرات وأشباه مستعمرات وكأوضاع ما بعد كولونيالية أىْ أنها تشكلت واستمرت تحت السيطرة العامة للإمپريالية العالمية.
وهناك تجارب تبدو استثناءات على القاعدة. والتجربة الأهم هى ديمقراطية الهند، بانتخاباتها التى يمكن أن تأتى إلى الحكم بحزب آخر غير الحزب الحاكم الذى ينظم الانتخابات، وبحريات الأحزاب والصحافة وغير ذلك فيها. غير أن هذا الاستثناء لبلد كبير فى العالم الثالث على قاعدته المعروفة جيدا لا يعنى أننا إزاء بلد ديمقراطى، فالحكم هناك للرأسمالية ولخدمة مصالحها، وباستثناء الابتعاد عن التزوير المباشر نتيجة لقوة الأحزاب ويقظة الأقليات الكثيرة المتنوعة فى مواجهة بعضها البعض هناك كافة الوسائل التى تزيِّف إرادة الشعب والتى تمثلها السلطة وأيديولوچياها ويمثلها المال وتمثلها كافة الوسائل الموجودة فى متناول الطبقات العليا المتنوعة والزعامات الإقليمية والمحلية المتنوعة، على قاعدة مفزعة من البؤس الهندى المعروف بالفقر والجهل والمرض وكافة الآفات المعادية للديمقراطية. وتؤدى بنا كل هذه الأشياء إلى فهم أن الطابع البراق للديمقراطية الهندية إنما هو ديكور للتزييف المتواصل لإرادة الشعب الهندى الذى يتأرجح بندوله الانتخابى بين چاناتا والمؤتمر. وإذا كانت هناك قطاعات متقدمة فى قمة الاقتصاد الهندى وتدعو البعض إلى اعتبار الهند بلدا رأسماليا فإن هذا يعنى فى الحقيقة تجاهل أن جزيرة رأسمالية داخل بحر من التخلف لا يمكن أن تجعل من البلد ككل بلدا رأسماليا. والحقيقة أن الهند لم تخرج فى يوم من الأيام من دائرة التخلف بسماتها المميِّزة المعروفة فى حالة العالم الثالث.
وإذا كان ذلك كذلك وإذا اتضح أن هذا هو أيضا حال الديمقراطية فى البلدان الرأسمالية المتقدمة التى سأنتقل إليها الآن، فإننا نجد أن "الديمقراطية" مهدَّدة بأن تكون مجرد أسطورة وأكذوبة، إلا إذا عرفنا ما هى الديمقراطية بالمعنى الحقيقى وبالأخص فى عالم اليوم سواء فى بلدان الرأسمالية المتقدمة أىْ الغرب أو الشمال، أو البلدان المتخلفة أىْ الجنوب الذى يمثل حظائر أو أفنية خلفية للرأسمالية الإمپريالية، كما سبق القول.
فماذا عن الانتخابات النزيهة فى الغرب كأساس للديمقراطية فيه؟ والحقيقة أن افتراض أن الانتخابات تكون نزيهة لمجرد أنه لا يحدث فيها تزوير مباشر افتراض خاطئ ولا معنى له فى الحقيقة. فكما رأينا فيما يتعلق بالعالم الثالث هناك وسائل وأدوات وأوضاع كثيرة تستخدمها الرأسمالية المتقدمة لتزييف إرادة الشعب. وهناك نقاط اختلاف مهمة بين عالم الشمال وعالم الجنوب وهذا الاختلاف يجرد حكام عالم الشمال من بعض وسائل حكام الجنوب. وعلى سبيل المثال فإن تراجع الأمية فارق مهم مع أخذ الأمية السياسية فى الاعتبار. كذلك فإن الشمال لم يَعُدْ يعانى الفقر بنفس مستويات الجنوب، رغم واقع الفقر والإفقار وحتى البؤس فى بعض مناطق الشمال. وهناك واقع أن الإدماجية الكورپوراتية، التى تعنى أن الدولة لا تواجه أدوات مستقلة للنضالات الشعبية والجماهيرية من أحزاب ونقابات واتحادات وغيرها بل تستخدم هذه الأدوات بعد أن تكون قد نجحت فى إدماجها فى دولة يندمج فيها الحكم والاقتصاد والحزب الحاكم والأحزاب والنقابات وغيرها (إنْ وُجدت)، تنتشر وتتفشى فى العالم الثالث أو الجنوب وتنحسر فى الشمال إلا فى فترات وشروط وأوضاع خاصة مثل الفاشية، ومثل النموذج السوڤييتى فى روسيا والصين وغيرهما، ويرجع انحسار وانعدام الإدماجية الكورپوراتية فى الشمال إلا فى أحوال وشروط بعينها إلى تطور النضالات السياسية والاقتصادية والأيديولوچية فى الشمال وبالأخص فى أوروپا، وقدرة الأحزاب والنقابات والجمعيات والاتحادات وغيرها على المحافظة إلى حد كبير على استقلالها ومواصلة خوض نضالات تحت رايات مستقلة عن الدولة والطبقة الحاكمة. ولا شك فى أن عدم وجود الإدماجية الكورپوراتية فى الشمال فارق مهم يعمل لصالح الديمقراطية فيه.
ومع كل هذا فإن السيطرة الأيديولوچية والإعلامية للطبقة الحاكمة وكذلك الأموال التى تحت تصرفها بصورة تفوق كل القدرات الأيديولوچية والإعلامية والمالية لدول العالم الثالث تضمن السيطرة لهذه الطبقة، لهذا الجناح مرة وللجناح الآخر مرة أخرى، للحزب الجمهورى تارة وللحزب الديمقراطى تارة أخرى فى الولايات المتحدة الأمريكية، للتحالف الاشتراكى مرة وللتحالف اليمينى مرة أخرى فى فرنسا، وهكذا، إلخ. .. ورغم الحقوق والحريات المتعلقة بتكوين الأحزاب والنقابات وبالتظاهر والإضراب، فإن حربا متواصلة بين النضالات السياسية والإضرابية الشعبية من جانب والطبقة الحاكمة وأحزابها وأجهزتها ودولتها من جانب آخر هى التى تحمى حريات الشعب رغم نجاح الطبقة الحاكمة وسلطتها فى كل مكان فى الشمال فى تزييف إرادة الشعب، بحكم النتائج، ولكنْ أيضا بحكم المقدمات. وسواء أكنا (فى الشمال) إزاء جمهورية رئاسية، مثل فرنسا والولايات المتحدة، أو جمهورية پرلمانية مثل إيطاليا وألمانيا، أو ملكية دستورية أىْ جمهورية پرلمانية تتزين بأزياء وتقاليد إمپراطورية (كما فى الياپان) أو بأزياء وتقاليد ملكية (كما فى بريطانيا) فإننا نجد دائما أننا إزاء پرلمان يقوم بالفعل بالتشريع والرقابة وله دوره المهم فى الدولة وليس ذيلا للسلطة التنفيذية، والأهم أننا نجد الأحزاب التى فى الپرلمان ممثلة لهذا الجناح أو ذاك من الرأسمالية دون غيرها من طبقات ونجد أنها تشكل الأغلبية وتسنّ التشريعات وفقا لمقتضيات مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة، كما تفهمها بطبيعة الحال.
وعلى هذا النحو يمكن استخلاص أن الديمقراطية غير قائمة فى الشمال تماما كالانتخابات النزيهة التى لا وجود لها رغم المظهر البراق فى هذا الشمال. وإذا كانت بلدان الشمال تصف نفسها بأنها ديمقراطية، وتسمى نفسها بالديمقراطيات، وتعلن العمل على مستوى العالم من أجل نشر الديمقراطية فيه، فإن هذه الأوصاف والتسميات إنما تنطلق من مفهوم للديمقراطية يعنى تداول السلطة وحرية تكوين الأحزاب والنقابات وحق الإضراب وحرية الصحافة الورقية والتليڤزيونية والإذاعية والمعلوماتية (مع أن هذه الصحافة تمثل أيديولوچيات وسياسات مَنْ يملكونها أىْ هذا الجناح أو ذاك من الطبقة). غير أن تداول السلطة داخل أجنحة وقطاعات من الرأسمالية الحاكمة مع استخدام أبناء الطبقات الشعبية فى هذا التداول الرأسمالى للسلطة، لا يجعل هذا التداول الرأسمالى ديمقراطيا، ولا يضفى أىّ طابع شعبى على السلطة لمجرد أن أبناء الشعب يتم استخدامهم جنودا فى الجيوش السياسية والأيديولوچية والحزبية للسلطة الحاكمة.
وعندما نتحدث عن نظام سياسى ديمقراطى، فإننا نعنى فى العادة نظاما يقوم على پرلمان منتخب فى انتخابات نزيهة (أىْ بدون تزوير مباشر) فى نظام جمهورى رئاسى أو جمهورى پرلمانى أو ملكى دستورى، ويقرِّر دستوريا ويمارس عمليا الحقوق والحريات الديمقراطية المتعلقة بالأحزاب والنقابات والصحافة، إلخ. .. ولكنْ هل هذا النظام السياسى هو الذى يحقق الديمقراطية بأىّ معنى من المعانى فى أىّ بلد؟ الواقع أن الجانب الدستورى والقانونى لتداول السلطة وللحقوق والحريات الديمقراطية قد يتوفر فى بلدين كشكل للحكم مع اختلافهما الكامل من حيث الممارسة الفعلية لهذه الشعارات، وعندما نتحدث عن الديمقراطية فى كل من الهند وفرنسا فإننا لا نعنى نفس الشيء على الإطلاق، ذلك أن الحالة العامة للشعب هى الفيصل، ويدخل هنا اعتبار جديد ينبغى إبرازه.
فالديمقراطية – فى ارتباط وثيق باشتقاق اسمها – تأتى من تحت، من "ديموس"، من الشعب، ولا تجرى ممارستها كحُكْم يقوم به الشعب بنفسه ولنفسه إلا فى الاشتراكية كما لم تتحقق من قبل، وبالتالى فإنه لا حُكْم بالمعنى الشامل للشعب ولا للديمقراطية فى ظل النظام الرأسمالى ولا فى ظل أفنية النظام الرأسمالى. والديمقراطية التى تختفى ككنز مخبوء تحت هذه الأساطير الديمقراطية تتمثل بمعناها الحقيقى فى المؤسسات المستقلة للشعب من أحزاب تمثل مصالح الشعب حقا، ومن نقابات مستقلة حقا للعمال والفلاحين وباقى قطاعات الشعب، بما فى ذلك النقابات المهنية التى تمثل المعلمين والمحامين والأطباء والمهندسين والصحفيين وغيرهم، والديمقراطية هى القدرة المتنامية للشعب على ممارسة حقوقه الإضرابية، وهى الصحافة التى تتسلح بها كل هذه الأدوات النضالية الشعبية، والديمقراطية هى فاعلية ازدهار الأدب والفن والثقافة، والتحرر من الأمية، وقدرة مؤسسات الشعب على الوقوف بقوة وفاعلية دفاعا عن حقوقه المتحققة وعملا على تحقيق المزيد، والديمقراطية هى القدرة الكلية للشعب بمؤسساته الحقيقية على الضغط على الدولة والسلطة والنظام لإجبارها جميعا على تحقيق مطالب الشعب، والديمقراطية هى مواصلة النضال فى سبيل الثورة الاجتماعية وإقامة نظام اجتماعى جديد، وباختصار فإن الديمقراطية هى الشعب عندما يمارس من خلال مؤسسات تنتمى إليه كل ما يقتضيه تحرُّره وتقدُّمه وسيره إلى الأمام.
ولهذا فإننا عندما نتحدث عن جمهورية پرلمانية ديمقراطية إنما نعنى شكل الحكم الپرلمانى الذى تحيط به وترعاه حضانة الديمقراطية أىْ المؤسسات النضالية الشعبية الآتية من تحت، والتى تمارس قدرة متزايدة على منح العمق الحقيقى للحكم الپرلمانى باستخدامه لتحقيق مصالح أساسية للشعب إلى هذا الحد أو ذاك بدلا من الاكتفاء بطابعه الشكلى الذى يصب فى مصلحة النظام الاجتماعى الرأسمالى القائم. كما أن الديمقراطية بمعناها الحقيقى أىْ حالة الحركة الشعبية هى التى تعيد خلق وبناء إنسان جديد قادر حقا على النضال من أجل بناء نظام اجتماعى جديد للبشر.
وإذا عدنا إلى البلدان الرأسمالية وأفنيتها الخلفية من حيث علاقاتها بالديمقراطية فإن الفرق بين بلد استطاع أن يمتلك الحضارة الرأسمالية كفرنسا أو إيطاليا مثلا وبلد غارق فى بؤسه مثل الهند رغم شكل الحكم الموصوف بالديمقراطية ينشأ أصلا من الفرق بين حالة كل من الشعبين. وصحيح أن شعبا فى بلد متخلف وتابع يمكن أن يمارس نضالات كبرى تمثله حتى فى شكل ثورات كالتى يشهدها العالم العربى الآن أكثر من بلد رأسمالى متقدم يعيش فى أوضاعه المعتادة غير أن شعب البلد الجنوبى المتخلف التابع لن يُرْسِى دعائم ديمقراطيته إلا عندما ينجح فى ترسيخ أدوات ووسائل كفاحية لا تكون معلقة فى هواء أشكال الحكم بل عندما يكون قادرا، حتى دون أن يحكم أو ينظم البلاد فى سياق ثورة اشتراكية، على ربط ديمقراطيته بأساس راسخ من التنمية الاجتماعية الشاملة وتحويل البلد إلى بلد صناعى وتحقيق تحديث شامل، وإلا فإن الحريات والحقوق التى ستأتى بها الثورات السياسية الراهنة يمكن أن تتبخر وتذوب فى الهواء فى زمن يقصر أو يطول، حتى فى حالة انتصارها بصورة كاملة فى اقتلاع الجذور الحالية للفساد والاستبداد.
پيزا، إيطاليا، 30 مارس  2011.                 
11
الحزب الحاكم القادم فى مصر
1: تدور فى مصر الآن عملية سياسية حزبية ذات شقين: شق هدم وشق بناء. ويمكن فيما أعتقد إيجاز محتوى هذه العملية المزدوجة فى هدم الحزب الوطنى (الحاكم) من ناحية، وبناء حزب حاكم جديد من الناحية الأخرى. وأعتقد أن الحزب الذى يجوب نجيب ساويرس وبعض شركائه محافظات مصر لتأسيسه هو الحزب المرشَّح ليكون هذا الحزب الحاكم.
2: وبالطبع فإن الحزب الوطنى يترنح الآن ويحتضر تحت الضربات القاتلة التى تلقاها رغم محاولات إجرامية يائسة ما تزال تقوم بها عناصر ومجموعات كبيرة من قياداته وأعوانهم وبلطجيتهم. لقد فقد هذا الحزب قياداته الكبرى وعلى رأسها مبارك رئيس الحزب والجمهورية مع الكثير من مساعديه فى الدولة والحزب عندما أرسلت الثورة هؤلاء جميعا إلى مصيرهم المستحق مجلَّلين بعار الفساد والاستبداد واللصوصية، وخسر أثناء حكمه ثقة الشعب، ثم تعرَّض للتعرية الشاملة مع كل مؤسسات دولة مبارك بحيث لم يَعُدْ من الممكن أن يطمع فى احترام أحد وناهيك باستئناف وجوده كحزب حاكم. وتطالب الثورة بإلحاح فى مليونياتها بحل هذا الحزب المجرم، وبحل المجالس المحلية التى يسيطر عليها بالتزوير والقهر، وبمطاردة كل رموزه وقياداته ومجرميه الذين ما يزالون باقين فى مناصبهم أو بيوتهم .. أعنى: قصورهم. وكان الشعب قد أحرق الكثير من مقاره الرئيسية، مطالبا باسترداد الدولة لكل المقار التى كان قد وضع يده عليها. وبعد مليونية 8 أپريل جاء قرار استرداد جميع مقاره وجميع أصوله المملوكة للدولة. ومن المنتظر أن يصدر حكم قضائى بحل الحزب. ومن الصعب بالتالى أن نتصور عودةً للحزب الوطنى كحزب حاكم أو حتى كحزب له وزنه.
3: وعلى كل حال فإن حزبا أفسد الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية والثقافية والأمنية وحتى القضائية إلى هذه الحدود القصوى، يدا فى يد مع باقى المؤسسات السياسية والأمنية للدولة، يجب بالطبع حله ومحاكمة كل مرتكبى جرائمه وتطهير البلاد منهم وحظر العمل السياسى عليهم، مع ملاحظة أن هذه المواقف لا تشمل المواطنين البسطاء الذين دخلوا الحزب الوطنى (بالضبط كما كان المواطنون المصريون ينضمون قديما إلى الاتحاد الاشتراكى، من باب الرغبة؛ بوصفه حزب مغانم سياسية وإدارية واقتصادية، ومن باب الرهبة؛ بوصفه جهازا أمنيا إضافيا يخشون بطشه)، بالطبع باستثناء أولئك الذين شاركوا بصورة إيجابية فى جرائم الحزب الوطنى وفساده وإفساده ولصوصيته. وباختصار فإنه لا مكان للحزب الوطنى فى مصر ما بعد مبارك.
4: لا مناص إذن من أن تفكر الطبقة الحاكمة فى مصر وبكل سرعة فى بناء حزب حاكم جديد كأداة لا غنًى عنها للحكم الذى لن يصل إليه إلا عن طريق النجاح فى الانتخابات الوشيكة. والسرعة الهائلة مطلوبة ما دام الوقت الفاصل بيننا وبين الانتخابات قصيرا إلى هذا الحد. ومثل هذا الحزب المنشود لا يمكن أن يأتى إلا من داخل الطبقة المذكورة وأبنائها وسياسيِّيها ومفكريها، حيث لا يمكن أن ينعقد إجماع هذه الطبقة على الاعتماد على حزب قائم بالفعل مثل حزب الوفد باعتباره صاحب فكر برچوازى وممثلا لقطاع منها لأن ملابسات نشأة حزب الوفد لا تهيئه إلى التحول بسرعة إلى حزب يمثل هذه الطبقة من ناحية وإلى حزب كبير من الناحية الأخرى. كما أنه لا يمكن أن ينعقد إجماع هذه الطبقة على الاعتماد على حزب الإخوان باعتباره يمثل قطاعا منها لاختلافه الأيديولوچى الكبير عن أوسع قطاعات وكُتَل هذه الطبقة.
5: وبالتالى فإن الطبقة الحاكمة فى مصر لا يمكن إلا أن تعتمد على حزب من صنعها تقوم هى ببنائه رغم تحدِّى قصر الزمن المتاح لإنجاز المهمة وهو التحدى الذى لن تتغلب عليه سوى ببذل جهد مضاعف فى سباق حثيث مع الزمن. ويبدو لى أن حزب "المصريون الأحرار" محاولة جادة ومباشرة ومخطَّطة ومتفق عليها لبناء البديل. ويقوم مؤسِّسو الحزب الجديد بحملة واسعة النطاق بعد إعلانه منذ أيام قليلة. وربما تأخرت المحاولة للتأكد من أن مصير الوطنى قد صار محسوما بصورة نهائية. غير أن الحملة المركَّزة المتواصلة بلا هوادة على هذا النحو تعنى أن أمل المؤسِّسين كبير فى قدرة الجهود الهائلة والإمكانات الهائلة على تعويض القصور فى عامل الوقت. وإذا لم يستطع الحزب الجديد تحقيق أغلبية مريحة فى الپرلمان الجديد رغم كل ما سيكون متاحا لها من وسائل تزييف إرادة الشعب فإنها تستطيع الائتلاف مع الوفد أو مع أحزاب أخرى قديمة أو جديدة فى سوق السياسة الناشئة الآن فى البلاد.
6: فما الموقف من هذا الحزب الحاكم الجديد الذى سيقود فترة انتقالية بالغة الحساسية تشهد انتخابات پرلمانية ورئاسية متكررة، وإعداد وإقرار وتطبيق دستور جديد، وإحلال قوانين جديدة محل القوانين المقيدة للحريات، والشروع فى بناء اقتصادنا بعقلية مختلفة، وحماية البلاد عن طريق كل الوسائل والضمانات الممكنة من تكرار الفساد والنهب، بعد تصفية النتائج المتراكمة لعقود طويلة من نهب ثروات مصر بشراهة لا تُصَدَّق؟
7: لا أعتقد أن هناك مَنْ يجادل فى حق الطبقة العليا المالكة والحاكمة فى تكوين حزب سياسى يمثلها رغم أن الحزب الوطنى الذى تطالب الثورة بحله كان حزب هذه الطبقة. غير أن الحكم المطلق للرئيس المخلوع كان من شأنه أن يجعل مختلف المؤسسات لا تتمتع بأهليتها الكاملة بحيث كان الحزب أداة فى يده وفى يد أسرته ومجموعة من كبار أعوانه فلم يكن حزبا كامل الأهلية وهو لا يكون كذلك إلا فى حالة اندماجه العضوى فى الطبقة التى يمثلها. وكانت هذه الطبقة ذاتها طبقة مغتربة تستفيد عناصر ومجموعات وكتل داخلها من كل الفرص التى يسمح بها النظام الأوتوقراطى والفساد والرشاوى والامتيازات استفادة اقتصادية وحتى سياسية دون أن تكون الرئاسة أو الحكومة أو الپرلمان أو الحزب أو باقى مؤسسات الدولة فى علاقات طبيعية حرة معها. إنها لا يمكن أن تكون طبقة كاملة الأهلية فى ظل مثل هذا النوع من شكل الحكم. ورغم اندماج السلطة والمال فى قيادة الحزب وفى حكوماته المتعاقبة فإن هذا الاندماج كان يتم تنظيمه وتطويره على أيدى الحكم المطلق ومفوَّضيه. ولكل هذا، ورغم مسئولية الطبقة عما جرى بصورة غير مباشرة بالنسبة للطبقة ككل، وبصورة مباشرة بالنسبة لبعض عناصرها ومجموعاتها وكتلها، يمكن القول إنه لا ينبغى فى سياق مثل هذه الثورة السياسية الجدال بشأن حق هذه الطبقة فى تكوين حزبها أو أحزابها فى حالة تعدد أجنحتها.
8: وبطبيعة الحال فإن مخاوف تكرار حزب حاكم جديد لنفس هذه الطبقة الشريكة على نطاق واسع فى الفساد الذى دمر اقتصادنا بعد نقل ممتلكات الدولة والشعب إلى جيوب كبار اللصوص فى صورة أموال مودعة فى بنوك خارج البلاد، وفى صورة شراء ممتلكات القطاع العام وأراضى الدولة بتراب الفلوس، وغير ذلك، مخاوف حقيقية ولا يمكن أن تهدأ قبل أجيال وبشرط أن تصير مكافحة الفساد مؤسسة راسخة فى البلاد. ولا يمكن أن يبرأ مجتمعنا واقتصادنا وسلطتنا وحياتنا من كابوس الفساد الذى استشرى فى مصر والعالم العربى بمستويات ومقاييس مفزعة إلا بالحراسة اليقظة المتواصلة، من جانب هذه الديمقراطية الوليدة من أحزاب ونقابات واتحادات وجمعيات مستهلكين، لكل مقدراتنا وكل مؤسساتنا واقتصادنا وحقوقنا وحرياتنا وصحافتنا، ليس ضد الحزب الحاكم الجديد فقط بل فى مواجهة كل مؤسسات البلاد. وباختصار فإن استمرار الثورة ونضج أشكال كفاحها ونضالها ورقابتها شروط ضرورية للحيلولة دون تكرار ما حدث من الحزب الحاكم والطبقة والنظام والمؤسسات السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية للدولة.
9: على أن كل هذا سيظل مهددا! وينبغى أن ندرك أن الجريمة الكبرى للإمپريالية والكولونيالية وللنظم الملكية والجمهورية التى حكمتنا إلى الآن أخطر من كل ما نتحدث عنه فى العادة. ذلك أن الرأسمالية العالمية فرضت علينا منذ البداية معادلة خطيرة هى معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية" وتكرست وترسخت هذه المعادلة بحراسة مشدَّدة من جانب الرأسمالية العالمية ومن جانب نظريات وسياسات وممارسات الطبقات المحلية التى حكمتنا إلى الآن. ولهذا ظللنا عاجزين عن الخروج من القفص الحديدى لهذه المعادلة التى تنطوى فى الأجل الطويل على انقراض شعوب العالم الثالث كما نرى الآن فى أفريقيا ومناطق أخرى من العالم الثالث. والحقيقة أن بلدانا قليلة من بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة هى التى استطاعت أن تكسر هذه الحلقة الشريرة الخبيثة وانتقلت أو تكاد تنتقل بصورة نهائية إلى الرأسمالية كنظام اجتماعى ينقذ من مصير العالم الثالث ويفتح الباب على تجاوز الرأسمالية ذاتها على المدى التاريخى الطويل. ومعنى هذا أن هذه الثورة السياسية ليست كافية فى حد ذاتها فليس كل ما نريد هو العيش فى حالة من الحرية أعواما أو حتى عقودا. والمغزى الحقيقى العميق لهذه الثورة يتمثل فى أنها فى سياق نجاحها الكامل تفتح الباب أمام الثورة الاجتماعية من خلال التنمية الاقتصادية-الاجتماعية الشاملة والتصنيع والتحديث فى سباق مع الزمن لرفعنا إلى مستوى الغرب والشمال من الناحية الجوهرية، وإخراجنا من معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية"، وإنقاذنا بالتالى من مصير العالم الثالث، هذا المصير الذى لا أريد ذكره من جديد تفاديا لفظاعة الكلمة. وإذا كانت المحصلة التى نصل إليها فى نهاية طريق طويل من العمل الشاق فى سبيل إنجاز الثورة الاجتماعية التى تختلف وسائلها عن وسائل الثورة السياسية هى الرأسمالية بدلا من حالتنا الراهنة التى هى فى الحقيقة حالة "الأفنية أو الحظائر أو الزرائب الخلفية للبلدان الإمپريالية" فإن هذه المحصلة لن تصدمنا لأنها تفتح أمامنا آفاقا جديدة من النضال فى سبيل الحلم الذى لم يفارق البشر منذ ظهور المجتمع الطبقى وهو تحقيق المجتمع اللاطبقى.
10 أپريل 2011
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12
ثورة 25 يناير 2011: أمل مراوغ وأخطار كبرى
من المنطقى أن تأتى فى أعقاب ثورة شعبية كبرى، مثل ثورة 25 يناير 2011، فترة ممتدة من التطورات التى تتميز بالسيولة البالغة. فما يحدث فى الواقع يتمثل فى ثورة كبرى وثورة مضادة كبرى وصراع كبير مفتوح بينهما. ولهذا فإن التنبؤ بمستقبل هذه الثورة يغدو أقرب إلى التنجيم. ذلك أن التطورات لا تسير، والحالة هذه، فى اتجاه واحد، بل تكون محصلة الصراع بين اتجاهات متناقضة فى سياق اجتماعى سياسى بالغ التعقيد.
وثورتنا ، مثل باقى الثورات العربية الراهنة، ثورة سياسية ضد نظام الاستبداد والفساد، وبالتالى فإن نجاحها رهن بقدرتها على القضاء على هذا النظام وفتح الباب أمام خلق مناخ ملائم لتطور الديمقراطية وللتنمية الاقتصادية الاجتماعية. وبالطبع فإن للثورة جانبين مترابطين: الهدم والبناء؛ هدم نظام الاستبداد والفساد، وبناء الديمقراطية والتنمية. ولا يمثل الهدم والبناء مرحلتين متعاقبتين بل يمكن أن يسيرا معا، يدًا فى يد، متداخليْن، فى سياق يبدو فيه الهدم شرطا مسبقا للبناء، ويبدو فيه البناء شرطا مسبقا للهدم. ويمكن القول إن ما تحقق إلى الآن تعبير بليغ عن هذا التداخل بكل ما يثيره من تفاؤل وتشاؤم، وفُرَص وأخطار.
ويمكن القول إن الثورة حققت خلال أسابيعها الأولى نجاحات هائلة أولها عودة الروح إلى الشعب، وعودة الشعب إلى مقدمة المسرح، وقدرته على فرض إرادته. ويتمثل النجاح الثانى فى التعرية الشاملة للنظام الفاسد أمام الشعب كله وأمام العالم، وهنا يظهر الحجم المفزع للفساد والاستبداد اللذين تغلغلا فى الحياة المصرية بصورة شاملة، ويوضح هذا مدى التحدى الهائل الذى يمثله الفساد والاستبداد فى مصر، لأنهما موجودان مثل الإله البحرى پروتويوس تحت كل حجر. ويتمثل النجاح الثالث فى إرسال رأس النظام الفاسد وعدد من كبار قادته إلى السجون والتحقيق معهم تمهيدا لمحاكمتهم. وبفضل هذه النجاحات الثلاثة صار للشعب فى مختلف المواقع كلمة مسموعة ليس فقط فى مجال المطالب التقليدية النقابية والسياسية بل كذلك فى مجال تغيير القيادات الإعلامية والنقابية والإدارية وغير ذلك.
ولا شك فى أن سير التطورات فى اتجاه هذه النجاحات يمكن أن يحمل لبلادنا مستقبلا أفضل. ويعنى السير فى هذا الاتجاه هدم قلاع الفساد وحصون الاستبداد ليشمل هذا الهدم ليس مجرد عشرات من كبار القادة بل الآلاف وعشرات الآلاف من الفاسدين المفسدين الذين تراكمت ثرواتهم بفضل زواج المال والسلطة، ويعنى هذا أيضا إعادة كل الثروات التى تراكمت بفضل الفساد إلى الشعب، ثم المحاربة الشاملة المتواصلة للفساد الآن وفى المستقبل. كما يعنى السير فى هذا الاتجاه الذى تمثله نجاحات الثورة إلى الآن تطور الديمقراطية من أسفل شاملة الأحزاب والنقابات ووسائل الإعلام والتعاونيات وجمعيات المستهلكين فى سبيل خلق ديمقراطية شعبية قادرة على حماية الثورة وتحقيق أهدافها القريبة والبعيدة، ومنها تحقيق الاستقلال الحقيقى لمصر بدلا من الاستقلال الشكلى الحالى ضمن علاقات التبعية الاستعمارية، ويشترط هذا الاستقلال تحقيق تنمية اقتصادية اجتماعية شاملة تخلق اقتصادا صناعيا حديثا بالغ التطور ينقذ البلاد من المصير المشئوم الذى يتهدد بلدان العالم الثالث ومنها مصر.
غير أن سير التطورات فى نفس اتجاه نجاحات الثورة يجد نفسه أمام تحديات كبرى كانت الفترة القصيرة السابقة بعد 25 يناير بليغة فى التعبير عنها، ويمكن إجمال هذه التحديات فى تعبير الثورة المضادة التى عملت وتعمل على قدم وساق على كبح تطور الثورة وعلى تصفيتها وخروج النظام منها بأقل الخسائر. وعلى سبيل المثال فإن حبس رؤوس الفساد والاستبداد والتحقيق معهم ومحاكمتهم شيء حسن وخضوع لضغط شعبى حاسم. ولكنْ متى حدث حبس هؤلاء وتحويلهم إلى التحقيق؟ لقد ترك حكام الأمر الواقع، أعنى المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء، قيادات ورموز الفساد والاستبداد فترة كافية للتصرف فى الأموال المنهوبة والتخلص من كل أدلة الإدانة، بما فى ذلك فرم وإحراق وثائق أمن الدولة، الأمر الذى يثير الشكوك حول جدية التحقيق والمحاكمة. ورغم اتهامات قوى الثورة لحكام الأمر الواقع بالتباطؤ الذى لا يُغتفر والذى يعنى تمكين أعمدة الفساد والاستبداد من الإفلات بأموالهم ورقابهم كان هذا التباطؤ عنوان المرحلة. والأمر البالغ الأهمية أيضا أن الأموال المنهوبة التى يحتاج إليها الشعب للخروج من الأزمة المالية الحالية وفى سبيل التنمية الاقتصادية المنشودة جرى تفويت كل إمكانية لاستخلاصها واستعادتها من هؤلاء اللصوص. كما أن عدم امتداد التحقيقات إلى جيش كامل من اللصوص والفاسدين ترك أعمدة الفساد قوية باقية، الأمر الذى يقضى على كل أمل فى تطهير البلاد من الفساد ومن مكافحة الفساد فى المستقبل.
كذلك فإن كل فُرَص الديمقراطية يجرى خنقها عن عمد وسبق إصرار. فالشروط الجديدة التى جرى وضعها لمنع قيام أحزاب الفقراء وأنصارهم من القوى الديمقراطية واليسار تُهدِّد بأن تجعل الناس يترحمون على الديكتاتوريات المتعاقبة ﻟ مبارك و السادات و عبد الناصر. ويجرى الحديث عن رفع حالة الطوارئ، مع أن المشكلة الحقيقية تكمن أساسا فى قانون الطوارئ ذاته، هذا القانون الاستبدادى الذى يسمح لرئيس الجمهورية بالعصف بكل الحريات الديمقراطية إذا رأى أن حدوث "اضطرابات" فى البلاد يبرِّر له ذلك. وكذلك كل الإجراءات المتخذة فيما يتعلق بالدستور: تعطيل دستور استبدادى ظالم وتكليف لجنة مشبعة بروح الاستبداد والإسلام السياسى بإجراء التعديلات التى أمر بها مبارك قبل رحيله، والسرعة البالغة فى طبخ هذه التعديلات والاستفتاء السريع عليها لتمريرها، وجدولة انتخابات پرلمانية ورئاسية تمهيدا لإعداد دستور جديد يتم طبخه بدوره على عجل وإجراء انتخابات پرلمانية ورئاسية جديدة على أساسه. وكانت هذه السرعة الهائلة، جنبا إلى جنب مع التباطؤ القاتل فى الأمور التى تحتاج إلى السرعة كما سبقت الإشارة، تعنى شيئا واحدا وهو أن حكام الأمر الواقع إنما يريدون أن تكون التغييرات الدستورية والانتخابات أسرع من أن يؤثر على نتائجها نضج محتمل لقوى الثورة وأحزابها وديمقراطيتها. وتوالت "التشريعات" والإجراءات القمعية فى صورة الإعلان الدستورى وقانون الأحزاب وقانون تجريم الاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت وغير ذلك. ولا حاجة إلى الحديث عن كل أعمال القمع المباشر والترويع والبلطجة تحت سمع وبصر حكام الأمر الواقع.
ويضعنا كل هذا أمام التحدى الذى تمثله الثورة المضادة "الممنهجة" بكل قواها واتجاهاتها وروافدها. ولا يخفى على أحد أن الثورة المضادة تتمثل فى مقاومة الثورة والعمل على تصفيتها من جانب النظام بكل مؤسسات الدولة بلا استثناء، والطبقة الرأسمالية الحاكمة التى أثرى الفساد كثرة كاثرة من أفرادها ومجموعاتها وكتلها عن طريق شراء ممتلكات القطاع العام وممتلكات وأراضى الدولة بتراب الفلوس والقروض بلا ضمانات، بحيث تجاوزت الثروة التى تراكمت عن طريق الفساد مئات المليارات إلى التريليونات التى ربما كانت تكفى لإنقاذ الرأسمالية الأمريكية ذاتها من الأزمة المالية العالمية.
وعلى هذه الأرضية للثورة المضادة من جانب النظام والطبقة الحاكمة والدولة بكل مؤسساتها دخلت على الخط قوى أخرى معادية للثورة أطلقتها من عقالها الثورة ذاتها. وينطبق هذا فى المحل الأول على قوى الإسلام السياسى. والحقيقة أن هدفا بعينه من أهداف الثورة، وهو رحيل مبارك، استطاع أن يوحِّد قوى متنوعة ومتعارضة، وكان تحقيقه يعنى أن تتفرق القوى التى ساهمت فى الثورة إلى ذلك الحين. فقد اتخذ الإخوان المسلمون فى بداية الثورة موقفا سلبيا، امتدادا لتقاعسهم عن مواجهة تزوير الانتخابات الپرلمانية بصورة شنيعة والتنكيل بهم قبل الثورة بوقت قصير. وعندما تأكدوا من أنهم إزاء ثورة حقيقية كبرى خلال الأيام الأولى انضم الإخوان المسلمون إلى الثورة ولا مناص من الاعتراف الموضوعى المزدوج المتمثل فى أن الثورة استمدت منهم قوة كما أنها أكسبتهم قوة مضافة وشرعية. وبمجرد تحقيق هدف رحيل مبارك ابتعد الإخوان المسلمون عن الثورة وحاولوا استثمار مشاركتهم فى الثورة للدخول فى تفاوض محموم فى سبيل عقد صفقات يبدأ بها مشوارهم الحثيث نحو "امتلاك الأرض" وتطبيق حدود الشريعة. وإلى جانب الإخوان المسلمين ظهرت قوى سلفية متنوعة فى تنسيق وتحالف معهم للانقضاض على النظام والثورة معا. ولا جدال فى أن قوى الإسلام السياسى ثورة مضادة بحكم أيديولوچياها السياسية المعادية للديمقراطية وقواها.
ويدور الصراع الكبير المفتوح بين قوى الثورة والثورة المضادة، فى أوضاع تتميز بجوانب بالغة السلبية على جانب الثورة رغم نجاحاتها وضغوطها. وهناك عاملان كان من شأنهما إضعاف الثورة وإضعاف قوة دفعها فى أجل أطول. العامل الأول هو أن الثورة التى فاجأت قواها وجاءت على أرضية من تصفية وتجريف الحياة السياسية فى عهود مبارك و السادات و عبد الناصر كانت عاجزة عن تشكيل مجلس انتقالى مدنى توافقى يستند إلى الشرعية الثورية ويقود الثورة والبلاد، أمينا على مصالح الشعب المصرى، حازما فى هدم النظام الاستبدادى الفاسد وبناء نظام جديد حقا يقوم على تطهير البلاد من كل أسس الفساد وعلى الديمقراطية الشعبية من أسفل. ويتمثل العامل الثانى فى دخول المجلس الأعلى للقوات المسلحة على خط الصراع بين الثورة والثورة المضادة. فقد جاء المجلس مفوَّضا من مبارك بعد إعلان تخليه عن منصبه أىْ دون أن يملك أىّ حق فى التفويض، ودون أن تستند استقالته إلى أىّ شرعية دستورية، وقد قوَّض هذا التطور كل احتمال لقيام مجلس انتقالى مدنى توافقى، ليمسك المجلس الأعلى بزمام الأمور ويحدد وينفِّذ أچندة الإجراءات والتدابير ببطء قاتل حيث تنبغى السرعة وبسرعة مندفعة حيث ينبغى منح الزمن الكافى لجعل التشريعات والانتخابات المنشودة حقيقية. ويهدِّد كل هذا بترجيح كفة الثورة المضادة على المدى القصير والمتوسط والطويل مع فقدان الثورة قوة دفعها نتيجة للطريقة التى تسير بها الأمور الآن.
ويتعلق السؤال المطروح أمامنا الآن بالسيناريوهات المتوقعة خلال خمس سنوات قادمة فى مجرى الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة. ويبدو أن الإجابة التى يمكن استنتاجها من كل ما سبق هى أننا لسنا بالضرورة أمام انتصار كامل للثورة أو الثورة المضادة. ويتوقف كل شيء على المسار الفعلى لهذين العاملين الكبيرين فى الفترة القادمة. فقد ينجح عامل الثورة فى خلق ديمقراطية شعبية من أسفل بالأحزاب والنقابات والصحافة وغيرها فى ظل پرلمان أفضل نسبيا وانتخابات أفضل نسبيا. وتتراجع قوة هذا العامل كلما سارت الأمور بالطريقة الحالية مؤدية إلى فقدان أو ضعف قوة دفع الثورة. ولا شك فى أن اندلاع الثورة حمل الكثير من الدروس والعِبَر للنظام والطبقة الرأسمالية الحاكمة. ومن هذه الدروس كبح جماح اللصوصية بالقدر المطلوب لعدم الوصول بالشعب إلى تردى مستويات معيشته بالصورة المفزعة الحالية، ويقتضى هذا قدرا من الحد من الفساد وقدرا من الانفتاح الديمقراطى.
على أن عقلية النظام الذى من المحتمل أن يستعيد نفسه بعيدة تماما عن تطهير نفسه تطهيرا عميقا من الفساد والاستبداد المتطرفين، كما أنها بعيدة تماما عن السماح بأن تكون الثورة هى أداة التاريخ لهذا التطهير، كذلك فإنها بعيدة تماما أيضا عن التفكير فى بناء اقتصاد صناعى حديث من خلال تنمية اقتصادية اجتماعية حقيقية تحقق الاستقلال بدلا من التبعية الاقتصادية الحالية، وتنقذ البلاد من مصير مشئوم.
ومن هنا ينعقد الأمل على أن الابتعاد عن التفاؤل الساذج بالثورة يمكن أن يكون حافزا حقيقيا لقوى الثورة أمام أخطار تصفيتها لكى تحافظ على قوة دفعها، وعلى المواجهة هنا والآن بصورة أشمل من كل ما حدث إلى الآن. ولا شك فى أن مما يعزز هذا الأمل واقع أن عدد مَنْ قالوا لا فى استفتاء التعديلات الدستورية تجاوز أربعة ملايين ناخب بنسبة تقل قليلا عن رُبْع عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم، فى وجه مَنْ قالوا نعم من إخوان وسلفيين وحزب وطنى وقوى متنوعة للنظام القائم.
20 أپريل 2011
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13
الثورة المصرية الراهنة
وأسئلة طبيعتها وآفاقها
1: تثور من حين لآخر تساؤلات ملحَّة عما يجرى فى مصر: هل نحن إزاء ثورة؟ أم حالة ثورية؟ أم انتفاضة؟ أم هوجة؟ إلخ.، ويتصل بهذا حديث عن نجاح الثورة باعتباره معيار كونها ثورة أصلا. ويتصل بهذا أيضا الحديث الخاص بطبيعتها وما إذا كانت ثورة اجتماعية أيضا بالإضافة إلى كونها ثورة سياسية. كما يتصل بهذا كذلك حديث الثوار أنفسهم عن ثورة أولى وثانية وثالثة وكأننا لسنا إزاء ثورة واحدة مستمرة بمختلف موجاتها ومراحلها بل إزاء ثورات متعددة بتعدد شعاراتها أو "مليونياتها" أو أهدافها المباشرة. وسأحاول الآن تفحُّص هذه الأسئلة وغيرها عن طبيعة ثورتنا وآفاقها والأخطار التى تُحْدِق بها.
2: وتعنى الثورة ببساطة أن يثور شعبٌ على نطاق واسع وعلى زمن ممتدّ رافضا الوضع الاقتصادى والاجتماعى والسياسى القائم عاملا على إسقاطه أو تغييره تغييرا عميقا. وقد يثور شعب أو ينتفض فى سبيل أهداف محدودة ربما ردًّا على تطورات أو إجراءات سياسية أو اقتصادية، ويمكن أن ينجح فى تحقيق مطالبه أو أن ينجح النظام الحاكم فى قمع انتفاضته وسحقها أو تهدئتها بالوعود الخادعة؛ ولعلّ انتفاضة 18 و 19 يناير 1977 أن تكون مثالا جيدا على مثل هذه الانتفاضة الناجحة التى تكون على الأغلب قصيرة الأمد، رغم أهميتها التى لا جدال فيها بالنسبة لنضالات المستقبل. أما عندما يثور شعبٌ فى سبيل أهداف واسعة شاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وعلى مدى زمنىّ ممتدّ يتجاوز الأسابيع إلى الشهور وربما الشهور إلى أعوام واضعا نصب عينيه إسقاط النظام كما تفعل الآن ثورات الشعوب العربية، التى ثارت بالفعل أو التى تنتظر الآن دورها، فإننا نكون إزاء ثورات شعبية سياسية. ولا ينبغى الشك فى أننا إزاء ثورات كاملة الأوصاف مهما كان نصيبها من النجاح ومهما عانت من نقاط ضعف قد تكون قاتلة فى كثير من الأحيان. وإذا لم تكن ثوراتنا الراهنة ثورات رغم ضخامتها وشمولها واتساع الآفاق المفتوحة أمامها رغم الأخطار الهائلة المُحْدِقة بها فسوف يعنى هذا شيئا واحدا وهو أن العالم كله لم يشهد فى يوم من الأيام أىّ ثورات على الإطلاق؛ فأين كانت هناك ثورات أضخم أو أعمق أو أشمل أو أكثر نجاحا خاصة إذا وضعنا فى اعتبارنا أن هذه الثورات ما تزال مستمرة وربما كانت ما تزال فى مراحلها الأولى وما تزال لم تلحق بها شعوب عربية أخرى سواء شهدت إرهاصات وبدايات مهمة أو متعثرة لها أو لم تشهد.
3: والثورة قد تنجح أو تفشل أو تجمع على الأغلب بين عناصر نجاح وعناصر فشل. ولا يعنى فشلها الكامل أو الجزئى أنها لم تحدث أصلا، وهى لا تفقد مغزاها ولا أهميتها لنضالات المستقبل حتى فى حالة الفشل الكامل. ولهذا فإن معيار نجاح الثورة لا مبرر له، ولا يمكن اعتماده، لمجرد الاعتراف بأن ثورة ما قد حدثت. على أن مسألة نجاح أو فشل الثورة أعقد من كل هذا. ذلك أن معايير نجاح أو فشل ثورة تحتاج هى ذاتها إلى معايير لمعايرتها وقياسها: هل يُقاس النجاح بمعيار تحقيق أهداف تنطوى عليها العملية الفعلية لثورة ما أم بمعيار تحقيق أهداف من خارج تلك العملية؟ هل نتصور مثلا أهدافا اشتراكية لثورة غير اشتراكية ثم نستنتج من الفشل فى تحقيق تلك الأهداف أنها لم تكن ثورة أصلا؟ والحقيقة أن التصور الأكثر موضوعية لطبيعة ثورة وللأهداف التى تنطوى عليها العملية الثورية الفعلية بصورة مُعلنة أو ضمنية هو الذى يمكن أن يقدِّم لنا المعيار الصحيح لقياس نجاحها من عدمه. وثورتنا فى مصر والعالم العربى ما تزال على الأرجح فى بداية الطريق وقد حققت إلى الآن نجاحات مهمة للغاية، فلا معنى لقياس نجاحها بمعايير غريبة على طبيعتها وبالتالى إعلان أنها ليست ثورة بل مجرد كذا وكيت. والأهم أننا لسنا إزاء ثورة اشتراكية فنحن فى الواقع إزاء ثورة سياسية تجرى فى إطار واقع موضوعى يتمثل فى التبعية الاستعمارية التى ما تزال مستمرة عندنا كما هى مستمرة فى أغلب بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، وهى بلدان عالمنا الثالث الحالى، كما سنرى بعد قليل.
4: وما دامت الثورة متواصلة ومستمرة فلا ينبغى الحديث عن ثورة ثانية أو ثالثة أو رابعة، إلخ.، وكما هو واضح فإن المراحل أو الموجات أو المليونيات أو الإضرابات أو الاعتصامات الجديدة لاستكمال نفس الثورة الواحدة لا يمكن أن تشكِّل ثورات جديدة. ومثل هذا الحديث عن ثورات جديدة لا يؤدِّى إلا إلى الإرباك والارتباك وتقديم ذرائع للمماحكة إلى النظام القائم أو القوى السياسية المتربصة التى تعقد أو تسعى إلى عقد صفقات مع النظام، كما حدث بالفعل عند حديث قوى الثورة عما سمَّتْه بثورة الغضب الثانية، وهو تعبير غير موفَّق مع أن المقصود مفهوم وهو مواصلة الثورة.
5: ولا شك فى أن أىّ ثورات أو انقلابات عسكرية تطرح فى مجراها إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية بدرجات مختلفة فى عمقها ومدى استمراريتها ومدى قابليتها للحياة. وإذا كانت الثورة سياسية وليست فى سياق ثورة اجتماعية بالمعنى الصحيح لهذه العبارة، فإن مثل تلك الإصلاحات تختلف تماما وبصورة جوهرية عن الثورة الاجتماعية. وهناك فى مصر مَنْ يتحدثون عن ثورتنا على أنها ثورة اجتماعية، وهم فى اعتقادى يخلطون خلطا لا يُغتفر بين الثورة الاجتماعية والإصلاحات الاجتماعية. ففى مجرى ثورة سياسية فى سياق التبعية الاستعمارية، أىْ فى غياب ثورة اجتماعية، يمكن بل من النموذجى إجراء إصلاحات اجتماعية تتعلق مثلا بإصلاح زراعى أو إصلاحات فى الأجور أو الرعاية الصحية أو التعليم أو تقليص البطالة أو تخفيف مشكلة السكن أو غير ذلك، ولكن هذه الإصلاحات لا علاقة لها بالثورة الاجتماعية بالمعنى الصحيح إلا إذا كانت تتمّ فى سياقها المحدَّد. وهناك مَنْ يجد تناقضا فى الحديث عن ثورة لا تحقق فى المجال الاجتماعى سوى إصلاحات بعيدا عن الإجراءات الثورية الجذرية الجديرة بثورة بعيدا عن منطق الإصلاحات والإصلاحية. غير أن المتأمل فى الثورات التى حدثت فى العالم كله إلى الآن لن يجد أبدا حالة واحدة انتزعتْ فيها الطبقات العاملة والشعبية حقوقها بالكامل، وحتى فى الثورات التى سُمِّيَتْ بالاشتراكية لم تكن هناك سوى إصلاحات اجتماعية جزئية، بل إن مبدأ الثورات المسماة بالاشتراكية، مبدأ "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب عمله"، وهو مبدأ المرحلة الاشتراكية بعد ثورة اجتماعية اشتراكية (وليس مبدأ "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب حاجته"، أىْ مبدأ الشيوعية) ظل بعيدا تماما عن الممارسة الفعلية لصالح علاقات استغلالية جديدة.
6: ولكىْ نفهم بصورة أوضح طبيعة ثورتنا السياسية وطبيعة نتائجها ينبغى أن نفكِّر جيدا فى سياقها أو إطارها التاريخى. وينبغى التمييز بين سياقيْن تاريخيَّيْن كبيرين للثورة السياسية فى عالمنا الحديث والمعاصر: الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية والثورة السياسية فى غير سياق الثورة الاجتماعية وبالأخص فى سياق التبعية الاستعمارية. لماذا هذا الانقسام إلى سياقيْن اثنين بالذات؟ لأن العالم انقسم ذات مرة إلى بلدان رأسمالية إمپريالية وهى بوجه عام البلدان المتقدمة الآن من ناحية وبلدان كانت مستعمرات وأشباه مستعمرات لبعض هذه البلدان الرأسمالية الإمپريالية من ناحية أخرى، وانتهى هذا الانقسام فى أعقاب مرحلة التحرر الوطنى إلى استمرار نفس الانقسام ولكنْ إلى بلدان رأسمالية إمپريالية وهى البلدان الصناعية المتقدمة اليوم من ناحية وبلدان متخلفة وتابعة استعماريًّا وتمثل حظائر وأفنية وزرائب خلفية للرأسمالية العالمية من الناحية الأخرى، وهى البلدان غير الصناعية التى يجرى تدليلها باسم البلدان النامية وهى بلدان العالم الثالث التى فاتها قطار التحول إلى بلدان صناعية وبالتالى إلى الرأسمالية بالمعنى الحقيقى للكلمة فظلت تابعة لم تخرج من القفص الحديدى للثورة السكانية بدون الثورة الصناعية، هذه المعادلة الجهنمية التى فرضتها الكولونيالية منذ البداية على بلدان ما يسمى الآن بالعالم الثالث. وبالطبع هناك استثناءات: هناك بلدان كانت قد تخلفت عن رأسمالية أوروپا الغربية غير أنها لحقت بها وينطبق هذا فى أوقات مختلفة على بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا وروسيا والياپان، وهناك مستعمرات أو أشباه مستعمرات سابقة لحقتْ أو تلحق الآن بركْب الرأسمالية فى ظروف تاريخية خاصة، رغم مشكلات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى فى هذه البلدان، وهى النمور الآسيوية الأصلية والصين. ولم تلحق معظم بلدان عالمنا الثالث بالرأسمالية فظلت ساحةً لاستغلال الرأسمالية العالمية ونهبها وسيطرتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبقيت فى حظيرة التبعية الاستعمارية، وصارت أفنية خلفية للإمپريالية العالمية، وإذا اعتبرناها رأسمالية تابعة فإن هذا يعنى أنها ليست صناعية وليست رأسمالية بالتالى فلا تكتسب الطابع الرأسمالى إلا باعتبارها ملحقة بالرأسمالية العالمية، بنظامها الرأسمالى العميل موضوعيًّا وذاتيًّا وبتبعيتها الاقتصادية بكل عناصرها الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية والتكنولوچية وبالتالى بتبعيتها السياسية والثقافية بصورة لا فكاك منها رغم استقلالها السياسى الشكلى بمعنى الاستقلال وفقا للقانون الدولى فلا يتجاوز ذلك إلى الاستقلال الحقيقى.
7: فما هى الثورة الاجتماعية؟ لقد استقرَّ فى الفكر السياسى التقدُّمى بالذات أن النظم الاجتماعية الاقتصادية وأنماط الإنتاج لا تنتقل من نظام اجتماعى إلى نظام اجتماعى آخر أو من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر إلا عن طريق ثورة اجتماعية، بل يتعرَّف هذا الفكر على الثورة الاجتماعية فى كل تجلياتها الاجتماعية المتمايزة وحتى المتناقضة ظاهريا من حيث التلاؤم مع إيحاءات وأصداء ومعظم دلالات تعبير "ثورة"، إذْ يتحدث الفكر السياسى عن الثورة العبودية والثورة الإقطاعية والثورة الرأسمالية باعتبارها جميعا ثورات على قدم المساواة من حيث كونها ثورات وفوق ذلك من حيث كونها ثورات اجتماعية؛ وإنْ كانت عهودا متعاقبة من العبودية. فالثورة الاجتماعية هى عملية التحول التدريجى من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر، وفى العصر الحديث والمعاصر استغرقت هذه العملية التدريجية التى كانت بالطبع عملية تحوُّلٍ من الإقطاع إلى الرأسمالية قرابة ثلاثة قرون فى إنجلترا وزهاء قرنين فى فرنسا وفترات أقصر نسبيا بعد ذلك نتيجةً لتطور الرأسمالية فى غرب أوروپا وبالتالى نتيجةً لحرق مراحل فى التحول الرأسمالى فى بلدان أوروپية أخرى وفى بلدان غير أوروپية كالياپان، بالاستفادة بمنجزات رأسمالية أوروپا الغربية صناعيًّا وعلميًّا وتكنولوچيًّا، وبتفادى جوانب من ويلات تراكماتها البدائية الأصلية، وبفضل مبدأ البدء من أعلى. ومنذ أواخر العهد الإقطاعى فى غرب أوروپا بدأت العملية التاريخية التدريجية الطويلة المدى للتحول إلى الرأسمالية مع التطور التدريجى للصناعة الحديثة مؤديًا إلى الثورة الصناعية والرأسمالية الزراعية وتطور السوق الرأسمالية العالمية والعلم النظرى والتطبيقى الحديث والتكنولوچيا الحديثة والثقافة العصرية والتحديث بكل نواحيه ومناحيه. وفى سياق هذه الثورة الاجتماعية التدريجية والطويلة الأمد جاءت ثورات سياسية، فماذا كانت وظيفتها، أو ماذا كانت ضرورتها، ما دامت عملية التحول الأكثر أهمية أىْ الثورة الاجتماعية جارية بالفعل قبل الثورات السياسية بوقت طويل وما دامت قادرة على الوصول إلى غاياتها حتى بدون ثورات سياسية؟
8: على أن الثورات السياسية التى تأتى فى سياق الثورات الاجتماعية هى الحالة النموذجية لهذا السياق، وقد تأتى فى سياق الثورة الاجتماعية ثورة أو ثورات سياسية، وإذا اعتبرنا أن الثورة الاجتماعية فى فرنسا دامت قرابة قرنين من الزمان من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791) ثم إلى وقت ما فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر مثلا فقد جاءت فى سياقها ثلاث ثورات: ثورة 1789-1794 العظمى وثورتا 1830 و 1848 فى فرنسا وبلدان أوروپية أخرى، فماذا كانت وظيفة هذه الثورات وبالأخص ثورة 1789؟ وما هى نتائجها المتصلة بالثورة الاجتماعية؟ والحقيقة أن الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية لها نتائج محدَّدة يمكن إيجازها فى ثلاث نتائج كبرى باعتبارها النتائج التاريخية والمنطقية لكل الثورات السياسية التى تأتى فى سياق ثورات اجتماعية أىْ فى سياق تحوُّلات رأسمالية جذرية، وكان هذا هو خط تطور البلدان الصناعية المتقدمة الحالية أىْ الرأسمالية الإمپريالية التى شهدها العصر الحديث والعالم المعاصر. وبالطبع فإن وظيفة الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية تتجسَّد وتتجلَّى فى نتائجها كما تكشف نتائجها عن وظيفتها. والنتائج دائما وثيقة الارتباط بالأوضاع القائمة فيما قبل اندلاع الثورات السياسية مصداقا للقول المأثور "كل إناء ينضح بما فيه". ذلك أنه لا شيء يهبط من السماء التى لا تُمطر ذهبا ولا فضة فمقدمات الثورة وعواملها هى التى تفرز نتائجها، والحقيقة أن تلك المقدمات تتواصل إنْ جاز القول بأشكال جديدة فى أوضاع جديدة. وإذا أخذنا بتحليل أليكسى دو توكڤيل للعلاقة بين النظام القديم أىْ التراكمات الرأسمالية طوال أكثر من مائة سنة فى عهود الملكية المطلقة من جانب وثورة 1789 من الجانب الآخر ولرفض الشعب الفرنسى لهذا النظام وجدنا أن من المنطقى تماما كما كان من التاريخى تماما أن تكون هناك ثلاث نتائج كبرى: النتيجة الأولى هى استمرار التحول الرأسمالى الذى يأخذ دفعة تاريخية كبرى من إزالة الثورة السياسية للعراقيل والمعوقات التى كانت تقف فى طريق ذلك التحول الرأسمالى والتى تتمثل فى بقايا الإقطاع والإقطاع الدينى الكنسى وامتيازات الأريستقراطية وبقايا القرون الوسطى رغم أن النظام القديم لم يكن نظاما إقطاعيًّا بل كان نظاما انتقاليًّا بفضل ما كان قد تحقق من تطور رأسمالى. وتمثلت النتيجة الثانية فى الانتقال الضرورى للسلطة السياسية إلى القوى الاجتماعية التى صعدت لتملك وتحكم ويتمثل الاستمرار هنا فى الحاجة الملحّة الكامنة فى صميم أهداف وتطلعات الرأسمالية الصاعدة إلى تنظيم وإدارة دولتها الجديدة وإلى القمع المزدوج لقوى الثورة المضادة من جانب ولجماهير الشعب من جانب آخر، ونلتقى هنا بهذه الضرورة التى تخلق الديكتاتورية من أعلى، وهكذا تنطلق من الثورة مرحلة عهد الإرهاب، و روبسپيير، وقمع الشعب، وغزو الشعوب الأخرى فى أوروپا بالإضافة إلى مصر وبعض جوارها، وصولا إلى الإمپراطورية وانقشاع أوهام المساواة التى حلّ محلها الاستغلال الرأسمالى وازدياد الأغنياء غنًى وازدياد الفقراء فقرا، وأوهام الحرية التى حلّ محلها الاستبداد والديكتاتورية، وأوهام الإخاء الذى حلّ محله استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وصراع الطبقات وحرب الكل ضد الكل. والنتيجة الثالثة استمرارٌ لرفض الشعب الفرنسى لكلٍّ من مظالم الأريستقراطية وبقايا الإقطاع وإقطاع الكنيسة وكل ما يعوق الحداثة من جانب ومن جانب آخر رفض استغلال النظام الرأسمالى الناشئ فى عهود النظام القديم والملكية المطلقة قبل انفجار الثورة الشعبية السياسية، وتتمثل هذه النتيجة الثالثة فى تحوُّل الفكر الفلسفى والاجتماعى والسياسى الرافض والممارسة الثورية الرافضة والثقافة الثورية الناشئة إلى ديمقراطية من أسفل تطورت بوجه خاص فى فرنسا القرن التاسع عشر من خلال نشأة الأحزاب والنقابات ومختلف الحركات الاجتماعية والفكرية والثقافية وكل أركان المجتمع المدنى فى سياق مقاومة الديكتاتورية من أعلى وفى مقاومة الاستغلال الرأسمالى. وعلى هذا النحو تقوم أوضاع اجتماعية وسياسية جديدة تمثلها نتائج الثورة السياسية الثلاث فى هذا السياق أىْ الرأسمالية كنتيجة أولى والديكتاتورية كنتيجة ثانية والديمقراطية من أسفل كنتيجة ثالثة.
9: ويمكن بالطبع أن نتصور ثورات سياسية ليس فى سياق ثورات اجتماعية رأسمالية وحسب بل كذلك فى ظل نظام رأسمالى راسخ، كما حدثت بالفعل ثورات سياسية ذات غايات كانت بالضرورة أضيق نطاقا بهدف تحقيق إصلاحات بعينها أو للتخلص من ديكتاتورية عاتية أو لتحقيق إصلاحات اقتصادية واجتماعية بالغة الإلحاح، كما تتعدد ثورات حداثية وعلمية وتكنولوچية وغير ذلك بحكم ضرورات الصراع فى ظل الرأسمالية المستقرة كنظام اجتماعى اقتصادى.
10: كما يمكن أن نتصور ثورة اجتماعية رأسمالية تؤدى إلى إقامة نظام رأسمالى كامل الأوصاف دون ثورة سياسية فيما يُعْرَف بالطريق الپروسى أو اليونكرى والمثال الأوضح هو الثورة الاجتماعية الياپانية التى جرت من فوق انطلاقا من ثورة (أو استعادة أو إحياء أو إصلاح) الميچى فى الفترة من 1868 إلى 1912 وليس انطلاقا من ثورة سياسية شعبية من أسفل. على أن الثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية رأسمالية هى النموذج السائد والقاعدة العامة للتحول إلى الرأسمالية المتقدمة فى عالمنا الحديث والمعاصر، فيما تمثل الثورة الاجتماعية بدون ثورة سياسية الاستثناء، كما فى حالة الياپان.
11: ويمكن إيجاز ما سبق فى أن الثورة الاجتماعية فى العصر الحديث، أىْ الثورة الاجتماعية البرچوازية أو الرأسمالية، ليست شيئا آخر سوى تشكُّل ونموّ وتطوُّر وتكوُّن أسلوب الإنتاج الرأسمالىّ، وقد تأتى الثورات السياسية البرچوازية الشعبية مبكرا نسبيا وقد تأتى بعد تقدُّم ونضج هذه العملية الرأسمالية وقد تتكرَّر وقد لا تأتى بمعنى جوهرىّ أبدا فيتحقق التحوُّل من خلال ثورة اجتماعية تدريجية فوقية، وفى نهاية المطاف نجد أنفسنا وجها لوجه أمام نظام رأسمالىّ مستقر مهما اشتمل على بقايا للإقطاع أو على أشكال إنتاج سابقة للرأسمالية أو حتى على تشكُّلات جنينية أو غير مكتملة للنظام الاجتماعىّ اللاحق منطقيا أو تحليليا للرأسمالية ذاتها ألا وهو النظام الاشتراكىّ. على أن النظام الرأسمالىّ الذى كان محصلة لذلك التطور الطويل الأمد لا ينغلق باكتماله ونضجه واستقراره، ولا ينكفئ على نفسه، بل تتمّ داخل نطاقه تطورات وثورات علمية ومعرفية وتقنية وتحديثية وغيرها بكل نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبكل هذه الأشياء يعيش النظام الرأسمالى "حياته الطبيعية"، على أن تناقضاته لا تكفّ بدورها عن النموّ والتفاقم مما يقودها فى الأمد الطويل على طريق الركود المزمن والتفسُّخ والانهيار والموت أمام احتمالين كبيرين متناقضين: الاشتراكية أو البربرية.
12: ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات ووحشيتها لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية وأهوال ما يسمَّى بالتراكم البدائى فى تاريخ كل البلدان الرأسمالية المتقدمة. والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير! وهناك مَنْ يُدينون الثورات بصورة مطلقة كالفيلسوفة السياسية حنة أرندت لأنها لا تحقق الحرية ولا تمحو الفقر والعنصرية باستثناء الثورة الأمريكية من وجهة نظرها، فيما يمجِّد ماركس الثورة الاجتماعية ويُدين العبوديات الاستغلالية المتعاقبة الناشئة عنها وعن الاستبداد الناشئ عن الثورات السياسية (باستثناء الثورة الاشتراكية من الناحية النظرية بطبيعة الحال) على أن الثورة الأمريكية لا تشكل أىّ استثناء حقيقى تتصوَّره هذه الفيلسوفة فهناك نجد نفس النتائج الثلاث الكبرى للثورات الاجتماعية أىْ الرأسمالية واستغلالها والديكتاتورية البرچوازية فى نهاية المطاف والديمقراطية من أسفل، كذلك فإن الاستثناء الماركسى للثورة الاشتراكية من الاستغلال والديكتاتورية يظل فى نطاق النظرية وما يزال تحقيقه فى رحم المستقبل فيما تجسَّدتْ الاشتراكية كما تحققت فى الواقع فى استغلال رأسمالية الدولة والدكتاتوريات الستالينية وما بعد الستالينية لأن الثورات المسماة بالاشتراكية طوال القرن العشرين كانت رأسمالية فى حقيقتها وكانت فى روسيا بالذات ثورة رأسمالية بقيادة شيوعيِّين مخلصين كانوا يتصورون أنهم يبنون الاشتراكية غير أن القول المأثور السابق الذكر "كل إناء ينضح بما فيه" كان ماثلا هنا أيضا إذْ إن "النظام القديم" السابق للثورة البلشڤية فى روسيا لم يكن إقطاعيا رغم بقايا الإقطاع ولم يكن قروسطيا رغم البقايا القروسطية وحتى التتارية بل كان نظاما انتقاليا يتجه بخطى بالغة السرعة صوب الرأسمالية وفقا لتحليلات لينين التفصيلية وتحليلات ماركس و إنجلس الموجزة من قبله. وهكذا كانت الغلبة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فى روسيا على مطامح وغايات وأيديولوچيا القيادة الشيوعية المخلصة. وإذا كانت النتيجتان الرأسمالية والديكتاتورية للثورة السياسية ("البلشڤية")، فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية التى تواصلت منذ إلغاء الرق فى روسيا فى 1861 حتى نضج رأسمالية الدولة السوڤييتية عند منتصف أو بعد منتصف القرن العشرين، حاضرتيْن فى شخص رأسمالية الدولة وديكتاتورية ستالين العاتية، فقد تعقدت مسألة الديمقراطية من أسفل لأن الثورة ذاتها كانت ثورة ضرورة فى سياق الحرب العالمية الأولى والاحتلال الألمانى لأجزاء واسعة من روسيا كما ارتبطت بالدور الكاسح للدولة فى الاقتصاد وكل شيء آخر وكان تطور الثقافة فى روسيا فى الآداب والفنون والعلوم على نطاق واسع يمثل الديمقراطية من أسفل المحرومة من أدوات سياسية حقيقية. وبالطبع فإن الديمقراطية من أسفل يمكن أن تنشأ وتنمو وتتطور ليس فقط نتيجةً لثورات شعبية بل كذلك فى مواجهة أنظمة استغلالية واستبدادية وفاسدة كما كان الحال فى روسيا القيصرية وفى فرنسا فى عهود سابقة على ثورة 1789 السياسية وحتى فى ظل الاحتلال الكولونيالى كما حدث فى الهند ومصر وأماكن أخرى فى المستعمرات السابقة.
13: وعلى العكس تماما من الثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية، ظلت الثورة الاجتماعية غائبة عن الثورات السياسية فى العالم الثالث، عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، وبالتالى عالم التبعية الاستعمارية، وبالتالى عالم الثورات السياسية فى سياق التبعية الاستعمارية. والتبعية كما يعرف الجميع هى النقيض المباشر للاستقلال، ومعنى هذا أن التحول الجذرى إلى بلدان صناعية حقيقية صار مفتاح التحرر من التبعية وتحقيق الاستقلال، كما صار الأساس الوحيد لتفادى المصير المفزع الذى يتهدَّد بلدان العالم الثالث التى تخلَّفت عن اللِّحاق بالرأسمالية. وقد شهد العالم الثالث ثورات سياسية شعبية أو انقلابات عسكرية أيدتها شعوب ضد النظام الاقتصادى والاجتماعى والسياسى القائم. وكانت النتائج فى أغلب الأحوال استمرار "النظام القديم" (النظام الاجتماعى-الاقتصادى السابق) أىْ التبعية الاستعمارية برأسماليتها التابعة مع إحلال ديكتاتورية جديدة محل القديمة، وكان "خلف كل قيصر يموت قيصر جديد"، وكانت الثورات الشعبية الناجحة تأتى أيضا بديمقراطية من أسفل (كما كان الحال فى النصف الأول من القرن العشرين فى أعقاب ثورة 1919) وهذا ما لم تكن تفعله الانقلابات العسكرية (كما كان الحال فى النصف الثانى من القرن العشرين فى أعقاب انقلاب 1952). فماذا كان ذلك "النظام القديم"؟ والحقيقة أن هذا "النظام القديم" السابق لثورات وانقلابات العالم الثالث كان يختلف بصورة جوهرية عن "النظام القديم" السابق للثورات الرأسمالية فى الغرب أو الشمال أىْ فى البلدان الرأسمالية الحالية. ذلك أن نجاح الثورات الرأسمالية فى الشمال كان يعنى انتصار ذلك "النظام القديم" لأنه كان يمثل المستقبل، وكان المزيد من نموه بفضل نتائج الثورة السياسية يعنى التحوُّل الراسخ إلى النظام الرأسمالى والحضارة الرأسمالية لأن "النظام القديم" كان يمثل الرأسمالية فى مرحلتها التأسيسية اقتصادا ومجتمعا وفكرا وأيديولوچيا وثقافة وسياسة. وكان "النظام القديم" هو الأب الشرعى للنظام الجديد، بل كان "النظام القديم" هو النظام الجديد بعد أن كبُر ونما ونضج ورسخ، وكان هو الطور الأحدث "للنظام القديم"، وكانت الثورة السياسية هى الداية التى قامت بتوليد المجتمع القديم الحامل بمجتمع جديد. وكما يكون الإنسان جنينا ثم وليدا ثم يستوى رجلا أو امرأة كان النظام الرأسمالى جنينا فى رحم الإقطاع ثم وليدا فى طور التكوين والتأسيس ("النظام القديم") ثم استوى رجلا أىْ نظاما رأسماليا كامل النضج. وعلى العكس من ذلك تماما كان "النظام القديم" السابق فى العالم الثالث للثورة السياسية الشعبية أو للحركة التى يُطْلِقها انقلاب عسكرى يؤيده الشعب هو النظام "الرأسمالى" التابع الذى نشأ فى ظل السيطرة الإمپريالية والاحتلال العسكرى الإمپريالى والإدارة الأجنبية الإمپريالية وكان من المنطقى ألا يتطور هذا النظام الرأسمالى التابع إلى رأسمالية صناعية حقيقية بل كان عليه أن يزداد تخلفا وتبعية على المدى الطويل بعيدا عن الاستقلال الحقيقى الذى لا يتفق مع التبعية الاقتصادية التى تجلب معها كل التبعيات الأخرى، وهكذا أعادت الإمپريالية خلق المستعمرات وأشباه المستعمرات على صورتها أىْ وفقا لمقتضيات مصالح الرأسمالية العالمية. وقد أطلق الاحتلال الإمپريالى ونشوء المستعمرات وأشباه المستعمرات فى أوقات مختلفة على أراضى العالم الثالث الحالى ثورة سكانية كانت نعمة فى البداية (مثلا فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين) وكانت نقمة بعد ذلك (مثلا فى مصر فى النصف الثانى من القرن العشرين وبعد ذلك إلى الآن)، والحقيقة أننا هنا إزاء "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية". وينظر بعض السُّذَّج إلى مثل هذا الحديث عن المسألة السكانية أو الديموجرافية على أنه حديث جغرافى وهذا خطأ كبير لأننا لا نتحدث عن البحار والجبال والأنهار ورمال الصحارى وعذرية الغابات العذراء فى حد ذاتها ولا عن البشر فى مراحلهم الأكثر أوَّلية قبل تكوين مجتمعات مشاعية متبلورة، بل نتحدث عن إعادة إنتاج البشر لأنفسهم فى إطار اجتماعى يرتبط فيه بشدة النموذج الديموجرافى بالنموذج الاجتماعى ونمط الإنتاج. ومهما يكن من شيء فإن ثمار الثورة الصناعية كانت قد صارت احتكارا للغرب ولم تكن للتوزيع السخىّ بأريحية على شعوب العالم، الأمر الذى وقف حاجزا منيعا أمام امتداد الثورة الصناعية إلى باقى العالم وبالذات عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات، فيما كانت أبسط إجراءات الرعاية الصحية التى جاءت مع الغزاة المحتلِّين مثل مكافحة الملاريا، إلى جانب أشياء أخرى، اقتصادية واجتماعية، كافية للحدّ من وفيات الأطفال وبالتالى زيادة معدلات النمو السكانى ثم بالتالى إطلاق الثورة السكانية والانفجار السكانى على المدى البعيد لتغدو الزيادة السكانية نقمة حقيقية بعد أن كانت نعمة حقيقية لفترة غير قصيرة.
14: نستطيع أن نستنتج مما سبق أن مصير الثورات مرهون إلى أبعد حدّ بما قبلها، بما يسبقها، بمقدماتها وعواملها وتراكماتها الفعلية التدريجية الطويلة على الأرض. ذلك أن الثورة السياسية إنما تفتح الطريق بأعمالها وضرباتها المفاجئة الجريئة والقوية والعنيفة أمام إخراج محصلة تلك التراكمات إلى النور وإخراج الكتكوت من البيضة وإخراج الجنين المكتمل النمو من الرحم. وقد تكون هذه التراكمات مسارا إلى الأمام وإنْ تدريجيًّا وخطوة خطوة وببطء أحيانا وبسرعة أحيانا أخرى، كما رأينا فى التطورات السابقة للثورات الرأسمالية فى الغرب أو الشمال. غير أنها يمكن أن تكون تراكمات تُفاقم التبعية الاستعمارية الشاملة وتؤبِّدها، وتجعل تحقيق الاستقلال الحقيقى، الذى يساوى فى سياق حالة العالم اليوم التحوُّل الرأسمالى الحقيقى أىْ التقدم الصناعى الجذرى، أملا بعيد المنال إنْ لم يكن مستحيلا فى معظم الأحوال. وتكمن مشكلتنا الحقيقية فى أن ثوراتنا السياسية تجرى فى هذا السياق، سياق تفاقم التبعية الاستعمارية عبر ثوراتنا السياسية ورغم ثوراتنا السياسية، وهكذا فإن مصير ثوراتنا مرهون بهذا السياق، سياق الطابع السلبى لما قبلها من جميع النواحى باستثناء الجانب الإيجابى المتمثل فى الرفض الشعبى، ومن هنا كان العدو الأول لثوراتنا يتمثل فى سياقها التاريخى ذاته. وهذه قصتنا فى مصر منذ ثورة 1919 السياسة الشعبية، الوطنية والديمقراطية، الاستقلالية والدستورية، العظمى، حيث تمرّ الثورات والانقلابات بنجاحاتها وانتصاراتها وإخفاقاتها ويبقى الوجه القبيح للتبعية الاستعمارية الشاملة والديكتاتورية.
15: والآن تكتمل دورة من دورات تاريخنا الحديث فنجد أنفسنا أمام شعارىْ ثورة 1919: الاستقلال والدستور من جديد ولكنْ فى ظروف وأوضاع متغيِّرة. كان هناك احتلال بريطانى ونظام ملكى وفى سياقهما انفجرت تلك الثورة وشعاراتها وأهدافها، ومن هنا كان الاستقلال المطروح يهدف إلى الجلاء وتحرير البلاد من الاحتلال البريطانى فى المحل الأول. وكان أقصى ما تحقق يتمثل فى إلغاء الحماية البريطانية على مصر وفقا لتصريح 28 فبراير 1922 وتوقيع معاهدة 1936 حتى إلغائها فى 1951، وكذلك ديمقراطية دستور 1923. وكان طرح شعار الدستور دون شعار الجمهورية من جانب التيار السياسى السائد يعنى القبول بملكية دستورية. وفى هذا الإطار نشأت ديمقراطية الحريات النسبية من أحزاب ونقابات وصحافة حرة ونهضة ثقافية منطلقة من أدب وموسيقى وفن تشكيلى. غير أن الديكتاتورية من أعلى ظلت تقمع الحريات وتحكم البلاد ليس بالأغلبية الپرلمانية لحزب الوفد كقاعدة ملزمة للاحتلال البريطانى والقصر الملكى بل بالانقلابات الدستورية وحكومات الأقلية والسلطة الاستعمارية للاحتلال والسلطة الملكية. وهكذا كانت لثورة 1919، تلك الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية الكبرى، التى لا يجب التقليل منها لحساب امتداح الثورة الراهنة، ثلاث نتائج كبرى: 1: استمرار النظام: الاحتلال البريطانى، والقصر الملكى، والرأسمالية التابعة 2: الديكتاتورية من أعلى 3: الديمقراطية من أسفل فى شكل الحريات الحزبية والنقابية والصحفية التى عصف بها جميعا الانقلاب العسكرى فى يوليو 1952. ويبدو أن هذه هى قسمة الثورات والانقلابات التى "أيَّدها الشعب" كما يقال، فى العالم الثالث كله، حيث لا تبقى سوى نفس النتائج دائما أو فى أغلب الأحوال أىْ باستثناءات قليلة. وجاء الانقلاب العسكرى فى 1952 لتستمر نفس الرأسمالية التابعة متخذة شكل رأسمالية الدولة بعد التخلص من المحتل باتفاقية الجلاء ومن النظام الملكى بإحلال النظام الجمهورى محله وتأميم قناة السويس وبناء السد العالى كإنجازات بارزة، مع قيام ديكتاتوريات عاتية متعاقبة فى عهود عبد الناصر و السادات و مبارك، وهى ديكتاتوريات عسكرية وپوليسية، ديكتاتوريات السجن الحربى والقلعة وأبو زعبل والواحات ودولة المخابرات وما وراء الشمس فى عهد عبد الناصر، وديمقراطية الأسنان الحادة و"المفرمة" فى عهد السادات، وديمقراطية قانون الطوارئ والتعددية الصورية والتمديد والتوريث وصولا إلى ديمقراطية القتل بالجملة وديمقراطية موقعة الجمل، مع تفاقم التبعية الاستعمارية، والفشل كنظرية وكتطبيق الذى مُنِىَ به المشروع الاقتصادى الناصرى للانقلاب المسمى بالثورة، بعيدا عن التحرر من التبعية الاستعمارية. وهكذا عصفت حركة 1952 بالحريات النسبية ولم تترك ديكتاتورياتها العاتية مجالا حقيقيا لأىّ ديمقراطية من أسفل. ولم يقتصر الأمر على أن العسكر لم يحققوا مبدأ "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"، كما نادى بيان الانقلاب العسكرى، بل تمثَّل عملهم المباشر فى تصفية ديمقراطية من أسفل كانت قائمة بالفعل وتصفية كل حياة سياسية أو نقابية والقضاء على كل تعددية وإلحاق كل أدوات النضال الشعبى بما فى ذلك القضاء، الذى تمَّ تقويض استقلاله، بالدولة وإدماجها فيها وإقامة نظام إدماجى كورپوراتى نتيجة لكل ذلك، وكنا بالتالى إزاء خطوة كبرى إلى الوراء، فى تراجع متواصل قاد إلى هزيمة يونيو 1967 التى كانت هزيمة للنظام كله والتى كانت أساس التطورات اللاحقة فى مصر والعالم العربى بما فى ذلك معاهدة السلام مع إسرائيل التى كان على مصر أن تدفع فيها ثمن فاتورة هزيمة 1967 لا أن تحصل على جائزة فاتورة حرب اللانصر واللاهزيمة كما كانت تسمَّى حرب أكتوبر فى ذلك الحين فى الصحافة المصرية شبه الرسمية قبل أن نسمع عن نصر أكتوبر وبطل الحرب والسلام وبطل الضربة الجوية وغير ذلك، فلماذا لم تنشأ عن حركة 1952 ديمقراطية من أسفل كما تنشأ مع الثورات السياسية الشعبية بوجه عام؟ والإجابة هى أننا كنا إزاء انقلاب عسكرى ولم نكن إزاء ثورة شعبية مثل ثورة 1919 أو ثورة 25 يناير 2011. لقد كنا إزاء قيام انقلاب 1952 العسكرى الناصرى بتصفية المكاسب الديمقراطية لثورة 1919 الشعبية الكبرى، تلك الديمقراطية من أسفل التى نمت وازدادت صلابة وتواصلت، على مدى عقود العشرينات والثلاثينات والأربعينات وبداية الخمسينات، رغم الاحتلال البريطانى الإمپريالى ورغم استبداد القصر الملكى. وبعد قيام حكم العسكر فى عهد عبد الناصر بالتمصيرات ثم بالتأميمات الكبرى نشأت رأسمالية الدولة البيروقراطية التى نشأت منها كل عناصر فساد ذلك العهد وما تلاه بما فى ذلك رجال العهدين التالييْن الناشئين من أصلاب البيروقراطية للتحول من خلال رأسمالية الدولة ذاتها ثم من خلال الخصخصة وابتياع ممتلكات الدولة ونهبها وسرقتها بتراب الفلوس كما يقال إلى طبقة مالكة تستمد حقوق ملكيتها فى أكثر الأحيان من اللصوصية المباشرة، وظلت مع ذلك طبقة فى ذاتها وليس طبقة لذاتها حيث إنها لم تكن طبقة حاكمة من خلال حزب حقيقى بل كانت تدبر مصالحها الاقتصادية والسياسية ذاتها فى ظل حكم الشخص أىْ مبارك وأسرته والحلقة الضيقة من رجاله المقربين من خلال استرضاء ورشوة هؤلاء والتقرب إليهم والاستناد فى تكوين نفوذهم إلى النفوذ المطلق لهؤلاء. وفى العهود الثلاثة، جرى "تجريف" الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكان من المنطقى أن يستفحل ويتفاقم كل هذا فى العهد الأخير، عهد مبارك، الذى وصل فيه الفساد والاستبداد إلى حدود لا يصدقها العقل، نتيجة أنانية مجنونة وشراهة عمياء فقدت كل صلة بأىّ حسابات سياسية متوازنة نسبيا وعقلانية نسبيا، وفى هذا السياق جاءت ثورة 25 يناير 2011، فما هى آفاق هذه الثورة، وماذا تستطيع أن تحقق، وهل يغدو من المحتَّم عليها أن تؤدِّى إلى استمرار النظام بدون رأسه وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله، وهذا يعنى بالطبع وقبل كل شيء استمرار التبعية الاستعمارية بعيدا عن الاستقلال الحقيقى، مع تبلور نفس الديكتاتورية العسكرية المباشرة أو غير المباشرة، مع نشأة وتطور الديمقراطية من أسفل فى مجرى صراع لاهوادة فيه مع التبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة ونظام الاستغلال والفساد والاستبداد والديكتاتورية العسكرية وحلفائها الجدد من إسلام سياسى وليبرالية متعاونة كما تعاونت مع نظام مبارك من قبل؟
16: يمكن أن نستنتج مما سبق أن المشكلتيْن الكُبْرَيَيْن اللتين تنطوى عليهما مصر تتمثلان فى عنوانيْن كبيرين هما الدستور والاستقلال. وتحت عنوان الدستور يندرج كل ما يتعلق بالديمقراطية من أسفل بحرياتها وصحافتها وأحزابها ونقاباتها ومختلف منظماتها واتحاداتها وبكل تأثيرها على المجتمع والدولة وإكراهها الذى تمارسه عليها خاصة فى فترات المدّ النضالى. ومن ناحيته يعنى الاستقلال التحرر من التبعية الاستعمارية الشاملة القائمة، هذا التحرر الذى لا يمكن بلوغه إلا عن طريق خلق بلد صناعى حديث متقدم وإنْ كان ذلك بالضرورة ضمن الإطار التاريخى للرأسمالية ما دامت الشروط التاريخية الموضوعية والذاتية للثورة الاشتراكية فى العالم المتقدم ومن باب أولى فى العالم الثالث وفى منطقتنا العربية ومصر بعيدة جدا عن أن تكون قائمة فى الوقت الحالى وفى المدى المرئى. على أن مناقشة هاتين القضيتين تقتضى إلقاء نظرة عامة على تطورات الثورة الراهنة، فى مرحلتها الأولى، ثم فى موجاتها اللاحقة وبالأخص موجة 8 يوليو 2011 وما تلاها.
 17: فى 25 يناير 2011 انفجرت حركة شبابية احتجاجية سرعان ما تحولت إلى ثورة سياسية شعبية هائلة شارك فيها عشرات الملايين من المصريِّين فى جميع أنحاء البلاد، على مدى أسابيع وتجاوزت الأسابيع إلى الشهور (وقد تتجاوز الشهور إلى الأعوام)، وطالبت بإسقاط نظام مبارك ومحاكمته هو وأسرته ورجاله وحل حزبه الوطنى الديمقراطى ومجلسىْ الشعب والشورى ورفع حالة الطوارئ واستقلال القضاء وتطهيره وتطهير البلاد من الفساد والاستبداد وإطلاق الحريات الحزبية والنقابية والصحفية والتظاهر والاعتصام والإضراب ووضع حدَّيْن أدنى وأقصى للأجور فى البلاد وغير ذلك. ونجحت الثورة فى الصمود فى مواجهة كل الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية وكافة الأجهزة المخابراتية التى امتشقت السلاح ونزلت إلى الميادن والشوارع لقمع الثورة ونجحت الثورة فى النهاية فى هزيمتها واكتساحها مما أدى إلى انسحاب الشرطة ونزول القوات المسلحة والحرس الجمهورى وغير ذلك. ورغم الحدود القصوى للقمع من اعتقال وقتل بالجملة وإصابات بالآلاف ورغم تجنيد البلطجية والمساجين الذين فُتحت بوابات سجونهم ورغم الهجوم الإعلامى البالغ الشراسة، كان من النجاحات الكبرى للثورة عودة الروح إلى الشعب المصرى واختراق وكسر حاجز الخوف، والإطاحة ﺑ مبارك ووضع حدّ بالتالى للتمديد والتوريث فى مصر والعالم العربى والعالم الثالث والعالم كله (بالطبع وبلا جدال بالتكامل مع ثورة تونس وبقية الثورات العربية وليس كعمل مصرى خالص كما تزعم دعاوى تتورط فى نظرة شوڤينية بغيضة تعمل على إبراز الدور المصرى على حساب دور شعوب عربية أخرى سبقتنا إلى الثورة أو جاءت بعدنا)، وكذلك تعرية المدى المفزع للفساد والاستبداد فى عهد مبارك أمام الشعب المصرى والشعوب العربية وشعوب العالم كله.
18: وفى مواجهة الثورة الشعبية ولحماية النظام و مصالح الطبقة المالكة قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بانقلاب عسكرى (وهو انقلاب قصر أىْ من داخل النظام ولمصلحته ولحمايته من الشعب والثورة) أجبر مبارك على التنحى واضطر تحت ضغط شعبى هائل إلى إرساله هو وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله إلى الإقامة الجبرية وإلى السجن وإلى المحاكمة فى نهاية المطاف. وقد جاء الانقلاب العسكرى بالمجلس الأعلى إلى السلطة بعيدا عن كل شرعية دستورية أو ثورية، فقد استند إلى تفويض غير دستورىّ من جانب الرئيس المخلوع وفقا للجملة التالية لجملة تخلِّيه عن منصبه! وحتى بدون استقالة رسمية وخلافا للترتيبات الدستورية فى مجال خلافة الرئيس المستقيل. ولم يكن هناك بالطبع تفويض للمجلس الأعلى من جانب الثورة، بل كان هناك الرفض الشعبى للحكم العسكرى ومطالبة حاكم الأمر الواقع بالتخلى عن السلطة وتسليمها لمجلس رئاسى انتقالى توافقى. والحقيقة أن المجلس الأعلى استند إلى شرعية أضفاها بنفسه على نفسه من واقع قيامه بالانقلاب العسكرى الذى حوَّله إلى حاكم الأمر الواقع، مع سيل من تأكيدات ووعود العودة إلى الثكنات فور تسليم السلطة لرئيس منتخب فى أقرب وقت، مع النية المبيَّتة (التى تشهد عليها شواهد وتدل عليها دلائل) على الحكم فى نهاية المطاف من وراء الكواليس مهما كانت توجُّهات الپرلمان ومهما كانت توجُّهات الرئيس المنتخب. ورغم بداهة مجيئ المجلس بانقلابه إلى السلطة لحماية النظام فقد أطلق دعاوى واسعة بأنه إنما جاء لحماية ثورة الشعب مع بداهة أن الثورة الشعبية العزلاء أقوى "عسكريا" من كل جيش بدليل أن معظم الثورات الناجحة فى أىّ مكان فى العالم انتصرت من خلال مواجهات مريرة مع جيوش قوية تضربها بكل قوتها. ولأنه حمى الثورة كما زعم فقد اعتبر نفسه عاملا حاسما من عوامل نجاح الثورة وسرعان ما قفز إلى اعتبار نفسه الثورة ذاتها وصار لسان حاله يقول "نحن الثورة"! وعلى هذا الأساس أخذ يحكم بالفرمانات مع اضطراره إلى أخذ ضغوط الثورة فى المحل الأول من الاعتبار كلما اشتدت تلك الضغوط وهدَّدتْ بالمزيد من التصعيد. وكان من المنطقى والحالة هذه أن تتوالى فرمانات المجلس الأعلى الذى قرر ونفذ إجراءات بالغة السلبية منها تعديل مواد الدستور التى طالب الرئيس المخلوع قبيل خلعه بتعديلها وبعد قيام لجنة دستورية من تعيين المجلس نفسه بتعديل المواد المعنية طرحها دون مناقشة شعبية واسعة للاستفتاء وبإقرارها (بإقرار تعديلات على دستور معطَّل كان المجلس نفسه قد قام بتعطيله!) حدَّد جداول زمنية تقريبية قريبة للانتخابات الپرلمانية والرئاسية وتوالت فرمانات هذا الباب العالى الجديد بعد التباطؤ المتواطئ فى مواجهة الضغوط الشعبية بحل مجلسىْ الشعب والشورى وحلّ الحزب الوطنى مع التمسك العنيد بقانون الطوارئ وفرْض حالة الطوارئ، وتوالت كذلك فرماناته التى ظلت تتحدَّى مطالب الثورة وأهدافها ففرضت دون مناقشة ما يسمى بالإعلان الدستورى، وتعديل قانون الأحزاب وقانون تجريم التخريب (أىْ تعطيل الإنتاج بالتظاهر أو الاعتصام أو الإضراب أو التحريض على ذلك من خلال ما يسمَّى بالاحتجاجات الفئوية) فيما يُعَدُّ خطوة إلى الوراء بالقياس إلى عهد مبارك نفسه، وقانون مجلس الشعب، وقانون مجلس الشورى، وقانون الانتخابات الذى يجمع بين الانتخابات الفردية والانتخابات بالقائمة النسبية، وإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية وغير ذلك. وتواصل قمعه الفكرى والإعلامى للثورة وقمعه المباشر للثوار بالقتل والاعتقال والملاحقات والمحاكمات العسكرية، مع الاضطرار بطبيعة الحال إلى السكوت المؤقت أو تقديم تنازلات فى كثير من الأحيان أمام موجات عالية للثورة خشية المزيد من تصعيدها. وفى هذا السياق كانت المجزرة الأخيرة فى يوم 9-9 التى قُتِل فيها أربعة أو خمسة من الثوار وجُرِح أكثر من ألف دفاعا عن السفارة الإسرائيلية البغيضة والجدار الأسمنتى المبنى لحمايتها من الثورة.
19: وهناك دعوى يروَّجها المجلس الأعلى للقوات المسلحة مؤداها أنه يوجد بين قوى الثورة مَنْ يعملون على الوقيعة بين الجيش والشعب، ويجرى تهديد هؤلاء بالويل والثبور وعظائم الأمور على أساس أن الجيش خط أحمر. لقد اعتدنا من العهود الديكتاتورية الثلاثة البائدة اتهام كل مَنْ يهاجم القيادة السياسية، أىْ عبد الناصر أو السادات أو مبارك، بأنه يهاجم مصر وشعب مصر. ونحن هنا أمام طبعة جديدة من نفس الأسطورة. والحقيقة أن الشعب والجيش شيء واحد، هما نفس الشيء الواحد، لأن الجيش بجنوده وصف ضباطه وضباطه هم إخوتنا وأبناؤنا وفلذات أكبادنا، ولا يكاد يوجد بيت فى مصر لم يدخل فرد أو أكثر من أفراده القوات المسلحة المصرية فى وقت من الأوقات فى عمر التجنيد أو عند استدعاء أو من خلال الكليات أو المعاهد العسكرية، ويعنى مقتل أحدهم فى حرب خارجية أو داخلية تعاسة أسرة مصرية واحدة على الأقل، ومن هنا فإنه لا معنى لأىّ حديث عن إحداث وقيعة يرتكبه الثوار بين الجيش والشعب فهما ليسا فقط "يدًا واحدة" كما يقال بل هما شيء واحد. ولا شك بطبيعة الحال فى أن الدولة تستخدم الجيش ليس فقط للدفاع عن حدود البلاد بل تستخدمه أيضا للقمع الداخلى عند الضرورة (وهذا ما تفعله كل الدول فى كل زمان ومكان حيث تستخدم جيوشها للدفاع وكذلك للعدوان على بلدان وشعوب أخرى من خلال الغزوات والفتوحات تحت دعاوى أيديولوچية شتى وفى الحقيقة دائما لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية كما تستخدمها لقمع الشعب عندما تعجز الشرطة عن قمعه). ويعنى هذا أننا لسنا من السذاجة بحيث لا ندرك وظيفة الجيوش بوجه عام، غير أن الوقيعة يستحيل أن تأتى من الشعب أو من قواه الثورية. والحقيقة أن محاولات الوقيعة تأتى فى حالتنا المصرية ممن يستخدمون الجيش ضد الشعب أىْ من الدولة بقيادة مبارك فى السابق والمجلس الأعلى فى الوقت الحاضر، وهم يستخدمون دعاوى الوقيعة للإيقاع بالثورة وتشويه صورتها لدى الشعب الذى يدرك أنهم هم الذين يستخدمون الجيش ضد الشعب، وأنهم هم دعاة الوقيعة، وأنهم هم الذين يحاولون بطرق شتى اتهام الثورة بجريمة محاولة الوقيعة التى يمارسونها هم، وذلك بهدف تشويه صورة الثورة وبالتالى تسهيل توجيه الضربات إليها. كما ينبغى التمييز بوضوح بين المجلس والجيش فالمجلس هو القيادة العسكرية العليا التى ترتبط مصالحها بصورة لا تنفصم بمصالح الطبقة المالكة والدولة والنظام وهم رجال مبارك العسكريون، ولا حاجة بنا إلى التذكير بأن العلاقة بين الجيش وقيادته العسكرية المتمثلة فى المجلس الأعلى مماثلة للعلاقة بين الشعب المصرى والقيادة السياسية المتمثلة فى شخص مبارك فى السابق وفى المجلس الأعلى حاليا من حيث كونه القيادة السياسية كأمر واقع وبشرعية الانقلاب العسكرى. ومن هنا فإن المجلس العسكرى ليس الجيش كما أن مبارك سابقا لم يكن الشعب ولا مصر كما أن هذا المجلس حاليًّا ليس الشعب وليس مصر وليس الجيش. والحقيقة أن خرافة قيام الثورة أو الثوار بمحاولات إحداث وقيعة بين الجيش والشعب لا يروِّجها المجلس وحكومته وإعلامه وصحافته فقط بل تروِّجها كذلك وبإلحاح قوى الإسلام السياسى من إخوان مسلمين وسلفيِّين وغيرهم، فى محاولة بائسة لتشويه صورة أنصار الدولة المدنية والعلمانيِّين والليبراليِّين اليساريِّين، وكذلك لتوثيق علاقاتهم بالمجلس العسكرىّ وتوابعه وحلفائه من القوى السياسية.
20: ويهدف المجلس الأعلى إلى قطع الطريق على استمرار الثورة عن طريق خلق أمر واقع جديد بأقصى سرعة ممكنة، ومن هنا كانت إستراتيچيته المبنية فى أعقاب انقلابه العسكرى، تلك الإستراتيچية التى تمثلت فى سرعة إجراء التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها وإعلان مواعيد قريبة للانتخابات الپرلمانية والرئاسية بتجاهل عنيد لإرادة الشعب، ثم إصدار فرمانات ومراسيم فوقية دون استشارة أحد فى قضايا بالغة الحساسية بالنسبة لتطور الثورة. وقد انتهج سياسة أقصى السرعة حيث يكون الزمن الكافى مطلوبا من جانب قوى الثورة الناشئة، وذلك لإنضاج الإجراءات والتطورات الفوقية اللاحقة بهدف استعادة نظام مبارك بدون مبارك حتى لا يقف تطور ونضج الأحزاب والحركات الجديدة عقبة دون ذلك، كما انتهجت سياسة أقصى التباطؤ المتواطئ حيثما حاولت الاستفادة من مرور الوقت لتفادى إجراءات لا تريد اتخاذها (نزولا عند إرادة الثوار) حتى يتسنَّى لها خلق الواقع الجديد على هواه من خلال الاستفتاء والقوانين اللازمة للانتخابات وكافة أنواع الفرمانات. وقد انتهج إستراتيچية التباطؤ بصورة خاصة عندما كان يلائمه أن يترك مبارك وأسرته ورجاله وغيرهم من كبار المسئولين وأجهزة الأمن وأفراد الطبقة المالكة بلا أىّ إجراءات ضدهم لتمكينهم من ترتيب أوضاعهم على كافة المستويات: تهريب أموالهم إلى أماكن آمنة، وإخفاء وإحراق وفَرْم الوثائق التى تُثْبِت جرائمهم، على أمل ترك كل شيء على حاله إذا انحسرت الثورة وتراجعت خلال فترة التباطؤ المتعمَّد.
21: وكانت حالة قوى الثورة تشجِّع المجلس العسكرى على انتهاج "سياسة فَرِّقْ تَسُدْ" ضمن إستراتيچياته وتكتيكاته فى مواجهة الثورة. ويمكن وصف تلك الحالة قبل كل شيء بأن مختلف القوى كانت لها أهداف مختلفة. فهناك أولا أولئك اللذين أشعلوا شرارة الثورة وهم كما يوصفون عشرات الآلاف من شباب الفيسبوك وقد نجحوا فى ذلك بإلهام سبب مباشر هو كسر حاجز الخوف من النظام الحاكم فى تونس فقد جاءت انتفاضة 25 يناير 2011 ليس بعد اندلاع الثورة فى تونس فقط بل بعد نجاحها فى إسقاط زين العابدين بن على وأسرته فى 14 يناير 2011 بعد اندلاع الثورة التونسية فى 18 ديسمبر 2010 بحوالى شهر وكان قيام طارق الطيب محمد البوعزيزى فى 17 ديسمبر 2010  بإحراق نفسه حتى الموت الشراة الأولى للثورة التونسية وللثورات العربية جميعا. وما كان لشباب الفيسبوك أن ينجحوا فى ذلك لولا عوامل أخرى لم يكونوا مقطوعى الصلة بها خلال العقد السابق للثورة، وبالأخص فى الأعوام الأخيرة جنبا إلى جنب مع قطاعات من عمال مصر وبالأخص عمال المحلة الكبرى ومن موظفى الدولة وبالأخص موظفى الضرائب ومع حركات سياسية واجتماعية لعل أبرزها حركة كفاية وحركة 6 أپريل. وكانت كل القوى اليسارية والمدنية والعلمانية بمختلف أطيافها ومنها حركة شباب الفيسبوك بمختلف تياراتها، كما تبين فى أعقاب اندلاع الثورة مباشرة، فى حالة من التشرذم والافتقار إلى الوعى فى زمن الثورة، وكان هذا بالطبع هو الثمرة المرة لستة عقود متواصلة من تصفية وتجريف الحياة السياسية وخنق وسحق المعارضة الحقيقية وتحويل معارضة الأحزاب التقليدية إلى ديكورات لخلق انطباع زائف بالتعددية التى يتزين بها نظام الحزب الواحد المموَّه والمقنَّع باسم تحالف قوى الشعب العاملة فى زمن الاتحاد الاشتراكى فى عهد عبد الناصر والقسم الأول من عهد السادات ثم المنابر والأحزاب المتعاونة مع النظام والتابعة له فى عهدىْ السادات و مبارك. وكان انضمام مختلف طبقات الشعب بالملايين وعشرات الملايين والشعب كله فى الحقيقة، باستثناء قلة من المستفيدين بالنظام بالإضافة إلى النظام ومختلف مؤسساته وأجهزته وفلول حزبه الوطنى وبلطجيته، هو الذى حوَّل الانتفاضة إلى ثورة شعبية شاملة كانت ثورة سياسية بامتياز. ولا أعتقد أن من الصواب تسميتها بثورة الطبقة المتوسطة أو الوسطى فلا يمكن لانضمام حتى كثرة من الشباب المتعلم من أبناء طبقة متوسطة أو عليا أن تحدد طابع الثورة أو طبيعة طبقة اجتماعية تقف وراءها لأننا لا نرى أصلا طبقة متوسطة ثورية أو ثائرة الآن فى مصر ضد النظام ولأن التغطية الاجتماعية والسياسية للثورة المصرية الراهنة بما جعلها ثورة حقيقية جاءت وما تزال تأتى من دور مختلف الطبقات الشعبية فى البلاد مهما كان الشباب يمثلون فصيلا متميزا واستثنائيا، بطوليا وباسلا، من فصائل الثورة. ولا يتسع المجال هنا للحديث عما رشَّح شباب الفيسبوك لِلَعب هذا الدور الكبير وعن طبيعة الشباب فى زمن التكنولوچيات المتقدمة للمعرفة والمعلومات لدى جيل الألفية generation y فى العالم كله والذى يتميز فى العالم الثالث بالنسبة المرتفعة للشباب من الناحية الديموجرافية. ولا يتسع المجال كذلك لاستعراض حقيقة أن التقلص النسبى لعدد المنضمين إلى المظاهرات والاعتصامات فى ميادين وساحات التحرير فى مصر لا يعنى انفضاض الشعب بمختلف طبقاته عن الثورة بقدر ما يشير إلى تعدد الوسائل والأدوات والطرق والأساليب النضالية للثورة حيث تنتقل أقسام وأنشطة ثورية إلى أماكن أخرى وتكفى الإشارة هنا إلى الاحتجاجات "الفئوية" (المطلبية) الواسعة النطاق والانتشار والتى تقض مضاجع القيادة السياسية والعسكرية المندمجتين فى شخص المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تلك الاحتجاجات، فى المصانع والشركات الإنتاجية والخدمية والنقابات العمالية والمهنية والمؤسسات الإعلامية والجامعات وحتى بعض المصالح الحكومية العادية بهدف إقالة قياداتها المنتمية فكريا وسياسيا إلى النظام السابق وتطهيرها من الفساد، والتى يسميها المجلس بالاحتجاجات الفئوية متصورا أن ما يسميه بفئويتها، زاعمًا أن دوافعها أنانية فئوية بعيدا عن المصلحة الجماعية للثورة والبلاد، يبرَّر تجريمها وقمعها مع أن هذه الاحتجاجات ليست سوى الممارسة الطبيعية الوحيدة للحقوق الدستورية للمواطنين المصريِّين؛ وهكذا يجرى الإقرار بهذه الحقوق والحريات دستوريًّا بصورة منافقة مع تجريمها قانونًا وفقا للسُّنَّة المتبعة للدساتير المصرية التى يجرى تقييد كل الحريات والحقوق فيها بشرط كونها فى حدود القوانين التى يتفنن ترزيتها فى "تفصيلها" بما يؤدى إلى تفريغ النصوص الدستورية من مضمونها. وبحكم حدود وعى الطليعة الشبابية وطبيعة حالة وعى الجماهير الشعبية غرقت الثورة فى حالة من التلقائية والعفوية وعدم الإدراك الكافى من الثوار لطبيعة ثورتهم وطبيعة أهدافها والتصور الواضح لمسارها وسيرورتها وخط تطورها، والوقوع بالتالى فى أشكال متنوعة من التخبط والعشوائية والارتباك، وذلك فى وقت لزم المثقفون اليساريون والتقدميون فيه الصمت الرهيب والمريب فى كثير من الأحيان، رغم الدور البارز للمثقفين المصريِّين بوجه عام فى الثورة الراهنة قبل اندلاعها وبعد تفجُّرها وإلى الآن، وفى وقت تؤدِّى فيه المواقف الخيانية والانتهازية للقوى اليمينية، القوى المتنوعة للإسلام السياسى والليبرالية الرأسمالية ومثقفى وكُتّاب وإعلاميِّى هذه القوى، إلى إرباك القوى الحقيقية للثورة وتشويش وعيها وتشويه صورتها. وقد جعلت هذه الخصائص للطليعة المتنوعة للقوى الحقيقية للثورة من السهولة بمكان تضليلها وجرَّها إلى التفاوض والمشاركة فى مناسبات مختلفة مع جهات مختلفة للنظام واحتدام خلافاتها فى كثير من الأحيان بما يؤدِّى إلى شقّ صفوفها فى بعض الأحيان. كما أدَّتْ هذه الخصائص لهذه الطليعة الثورية إلى عدم قدرتها على بلورة موقف صحيح مستقر مهما كان ديناميكيًّا إزاء قوى اليمين التى شاركت فى الثورة فى مرحلة من مراحلها وانتقلت إلى صفوف الثورة المضادة فى المراحل التالية بعد أن كانت تتخذ موقفا سلبيا فى مرحلتها المبكرة. ولهذا تنتقل القوى الأكثر إخلاصا للثورة حتى النهاية من موقف حاسم ضد الإخوان المسلمين فى لحظة إلى موقف المطالبة بتوحيد "كل" قوى الثورة والتحالف مع الإخوان والإسلام السياسى فى لحظة أخرى وفقا لمناورات الإخوان وتذبذبات علاقاتهم مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
22: وينقلنا هذا إلى موقف الإخوان المسلمين وبقية قوى الإسلام السياسى مثل السلفيِّين الوهابيِّين والجماعة الإسلامية، وعلى الهامش مواقف الأحزاب الليبرالية التقليدية والجديدة القديمة التى تمثل بصورة مزدوجة ذيلا لكلًّ من النظام والإخوان المسلمين وفقا للأحوال المتغيرة. وإذا نظرنا من زاوية طبيعة معارضة القوى المشاركة فى الثورة لنظام مبارك خلال الثورة الراهنة فى عهد مبارك وفى عهد نفس النظام بقيادة المجلس الأعلى فى فترة ما بعد مبارك، سنجد موقفيْن أساسيَّيْن مختلفيْن إزاء الثورة فهناك قوى لها أهداف ثورية مخلصة حتى النهاية ضد الفساد والاستبداد ومع الديمقراطية والاستقلال الوطنى الحقيقى وهناك قوى لها مآرب أخرى من الثورة. وإذا عُدْنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء، تاركين جانبًا التاريخ الطويل للإخوان المسلمين أيام الإنجليز والقصر الملكى ثم أمريكا و السادات، سنجد تاريخا من الصفقات التى تناوبت الدور مع المعارضة فى عهد مبارك. وفى العقد الأخير، الأول فى القرن الحادى والعشرين، كانت هناك صفقة الانتخابات الپرلمانية فى 2005 وغيرها، غير أن الانتخابات الپرلمانية فى أواخر سنة 2010 جاءت فى أوضاع مختلفة أصيب فيها نظام مبارك بجنون المدّ والتوريث ولم يحسب الحسابات المعقدة للطريق الذى اختاره (والسبب الرئيسى لهذا الجنون هو أن الرؤساء اللصوص والفاسدين والقتلة فى العالم الثالث لن يفلتوا دون عقاب على جرائم فسادهم وجرائمهم ضد الإنسانية فى حالة الخروج الدستورى من السلطة)، وعقد العزم على إقصاء كل القوى السياسية وفى مقدمتها الإخوان المسلمين أو الجماعة المحظورة التى اختصرتها أبواق الدعاية المباركية بوقاحتها المعهودة إلى "المحظورة"، مع أنها كانت القوة الوحيدة "غير المحظورة" من الناحية العملية بل كانت المستفيدة الأولى إنْ لم تكن الوحيدة من الناحية الفعلية بديمقراطية السادات و مبارك. وبالتالى جرى التنكيل بالإخوان المسلمين فى انتخابات 2010 وإقصاؤهم بالكامل، والمهم فى سياقنا الحالى هو أن الإخوان المسلمين لم يحركوا ساكنا مكتفين بالشكوى المريرة خوفا من المزيد من الاستهداف والتصعيد ضدهم من جانب النظام. وكان هذا الموقف ذاته هو الذى دفعهم إلى اتخاذ موقف سلبى إزاء الثورة فى أيامها الأولى ولم يتغيَّر هذا الموقف إلى موقف المشاركة الإيجابية إلا بعد الحصول على ضمانة بليغة وإنْ كانت ضمنية بأن الإسلام السياسى سيكون فى حماية ثورة الشعب عندما انفجر بكامله فى ثورة عارمة. وتفرض علينا الموضوعية والشفافية الاعتراف بصورة مزدوجة بأن الإخوان المسلمين قد نجحوا فى تقوية الثورة وكذلك فى تقوية أنفسهم بالثورة، فاكتسبوا لدى نظام مبارك شرعية جعلتهم يتخلَّوْن عن الثورة ويهرولون إلى المفاوضات التى فتح النظام لها مزادات كبرى جرَّتْ الإخوان ومعهم الأحزاب القديمة وعناصر من تيارات شباب الثورة ذاتهم. وعلى هذا النحو انصرف الإخوان إلى التفاوض مع نظام مبارك الذى كان ما يزال على رأس السلطة وإنْ كان يترنَّح آيلا للسقوط. ومن الموضوعية أن نعترف بأن الإخوان لم يتخلَّوْا عن الثورة أىْ التظاهر والاعتصام تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بصورة كاملة إلا عند إعلان تخلِّى مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية، رغم تخلِّيهم عنها من حيث المبدأ بإسراعهم إلى التفاوض مع الإبقاء على مشاركتهم فى الاحتجاج والتظاهر والاعتصام فى سبيل إحاطة المفاوضات بضغط الثورة. وهنا ينبغى أن ندرك أن الإخوان المسلمين انضموا إلى الثورة ليس لمواصلتها إلى النهاية بل فقط لإسقاط مبارك وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله المباشرين والحصول على شرعية لدى الشعب ولدى رجال مبارك المباشرين الذين انهمكوا فى التفاوض معهم (عمر سليمان) ولدى المجلس الأعلى بعد انقلابه، لعقد صفقة سقفها غزو السلطة وحدها الأدنى الشرعية والقوة العددية لعضويتهم فى الپرلمان. ولماذا هذا الاستعداد لدى الإخوان المسلمين للتسليم بنظام مبارك بدون مبارك؟ لأنهم "البازار" المصرى، أىْ لأنهم الممثلون السياسيون لقطاع مهم من الطبقة المالكة ولا يهمهم القضاء المبرم على الفساد والاستبداد، ولا شعارات "مستوردة" مثل الديمقراطية والمدنية، بقدر ما تهمُّهم المشاركة فى النظام كقوة پرلمانية إنْ لم ينجحوا فى تشكيل حكومة أو الفوز برئاسة الجمهورية. والحقيقة أن الهزائم التى مُنِىَ بها الإخوان المسلمون خلال الستين عاما الماضية شلَّ خيالهم عن تصوُّر مكاسب كان يمكن أن يجنيها لهم التصعيد ضد المجلس الأعلى ومواصلة الانضمام إلى قوى الثورة مهما كانت نواياهم المستقبلية ضدها، وهى مكاسب كان من الممكن فى نظرى أن يرتفع حدها الأقصى حتى إلى التطلُّع إلى جمهورية إسلامية إخوانية وكان من الممكن ألا يقل حدها الأدنى عن مشاركة قوية فى تركيبة سياسية جديدة. لقد شلَّهم الخوف من استهدافهم عن أىّ تورُّط واسع النطاق فى مغامرة مواجهة غير مضمونة العواقب على كل حال. وبحكم كونهم ممثلين سياسيِّين لقطاع من الطبقة المالكة فى مصر وبالتالى لكونهم قطاعا وإنْ متميزا من قطاعات النظام وكذلك بحكم أيديولوچياهم المعادية للديمقراطية والمدنية والعلمانية والمساواة التامة بين المصريِّين على أساس المواطنة، وبين الرجال والنساء بلا تفرقة على أساس النوع، كان لا مناص من أن يجدوا مكانهم الطبيعى فى صفوف الثورة المضادة. وقد عبَّرت مواقف الإسلام السياسى من إخوان وسلفيِّين ومواقف الأحزاب المتعاونة مع نظام مبارك بقيادة مبارك والسيدة الأولى وولىّ عهده ثم بقيادة المجلس الأعلى بكل بلاغة عن الموقف الواحد لمختلف قطاعات الطبقة المالكة إزاء الثورة باعتبارهم ممثلين أُصَلاء للنظام، نظام الطبقة المالكة، باعتبار أن النظام وحده هو الثورة المضادة بالضرورة. والحقيقة أن موقف الإخوان تمثَّل فى رفض كل مبادرات ومواقف القوى الحقيقية للثورة طوال الفترة المنقضية منذ إقصاء مبارك إلى الآن (رفض المظاهرات والاعتصامات والإضرابات وما يسمَّى بالاحتجاجات الفئوية، أىْ ممارسة الوسائل النضالية التى هى حقوق يكفلها الدستور، ورفض الاحتجاجات على التباطؤ المتواطئ من جانب المجلس الأعلى بذريعة منحه الوقت الكافى، وحتى رفض الاحتجاجات ضد إسرائيل أمام سفارتها والجدار الواقى لسفارتها فى مواجهة عدوانها الدامى الذى كان له شهداء مصريون عبر الحدود، بالإضافة إلى العمل المتواصل على تشويه القوى السياسية التى تواصل المبادرات الثورية واتهامها حتى بالعمالة لأمريكا والصهيونية غير منتبهين إلى تورُّطهم المباشر، هم وليس غيرهم، حتى فى الرفض المباشر لأىّ مبادرة ضد السفارة الإسرائيلية). وكان من المنطقىّ تماما أن تؤدى المواقف السياسية المتخاذلة فى زمن الثورة من جانب قيادة الإخوان المسلمين إلى الخلافات والانقسامات الداخلية بين شباب الإخوان والحرس الإخوانى القديم وحتى بين أفراد ومجموعات الحرس القديم ذاته بما يؤدى إلى تعدد أحزاب الإخوان وتعدد مرشحيهم المحتملين لرئاسة الجمهورية والرفض العملى لعدد من قرارات ومواقف مكتب الإرشاد من جانب شباب الإخوان؛ رغم أن هؤلاء الأخيرين لا يقلُّون التزاما بالأيديولوچيا الدينية-السياسية الإخوانية عن مكتب الإرشاد والحرس القديم. ولكنْ لماذا الخلافات داخل الإخوان المسلمين ما داموا يشكِّلون جزءًا من الطبقة المالكة والنظام الحاكم إستراتيچيًّا؟ والإجابة التى لا شك فيها، مع أخذ تبايُن الرؤى حتى داخل الطبقة الواحدة فى الاعتبار، هى أن الإخوان يتمثلون فى جماعة وأحزاب تجمع فى صفوفها مختلف طبقات المجتمع بمصالحها المتناقضة رغم وحدة الأيديولوچيا ورغم انتماء أغلب القيادات والكوادر وكبار المموِّلين إلى قطاعات من الطبقة العليا والمتوسطة.
23: ولا مناص هنا من وقفة موجزة عند مفهوم وواقع الثورة المضادة. وتقترن الثورة المضادة مع التفجُّر العملى لثورة فعلية، وهى ردّ فعل النظام وحلفائه المحليِّين والإقليميِّين والعالميِّين على الثورة، وبالتالى فإنه لا توجد ثورة لا تقاومها وتحاربها ثورة مضادة، ولا يوجد نظام لا يتحول إلى ثورة مضادة عند اندلاع ثورة. وإذا كانت قوى الثورة الحقيقية تنتمى إلى ثورة ممكنة أو فعلية فإن النظام يمثل بدوره ثورة مضادة ما دام يعمل بصورة منهجية على تصفية كل نضال ثورى وإجهاض كل ثورة محتملة. وما دام النظام الحاكم بطبقاته المالكة وحلفائها هو الثورة المضادة فلا مجال إذن للتظاهر المضلِّل المريب بوجود أىّ التباس بشأن الثورة المضادة وقواها وأركان حربها، وهى تجمع فى حالتنا المحددة بين الدولة بكل مؤسساتها والنظام (بكل أركانه بما فى ذلك معارضته المتعاونة معه والمستعدة للتحالف معه والتى ترى أن الخطر الذى تمثله القوى الحقيقية المخلصة للثورة أخطر على مصالحها من النظام القائم) والطبقة المالكة والحزب الحاكم وكل الحلفاء المحليِّين ( الإخوان المسلمون وباقى قوى الإسلام السياسى والليبراليُّون اليمينيُّون) والإقليميِّين والعالميِّين. ومن هنا فإن الثورة المضادة فى مصر تشمل قوى متعددة تبدأ بالمجلس الأعلى وحكومته وأجهزة الأمن والحزب الوطنى الذى استحال إلى عدد من الأحزاب التى تنشأ الآن بقيادة أعداد من كوادره حيث رفض المجلس الأعلى عزل كوادر الحزب الوطنى، وهناك بالطبع الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة والرجعية العربية بقيادة السعودية.
24: ورغم موقفه العسكرى المتصلِّب يرضخ المجلس الأعلى عندما يشتد عليه ضغط الثورة وتنهار مقاومته ويخشى مزيدا من التصعيد، وقد رأينا كيف استطاعت موجة 8 يوليو إجبار المجلس على وضع مبارك فى قفص الاتهام وتقديمه متَّهَمًا بقتل أبناء شعبه أمام الشعب وأمام العالم كله بصورة قضت على أىّ شك فى أنه سيلقى جزاءه المتمثل فى القصاص لشهداء الثورة تحت ضغط الثورة. كما وقف المجلس عاجزا عن التصرف إزاء الاحتجاجات ضد السفارة الإسرائيلية إلى أن أجبرته الضغوط الأمريكية والإسرائيلية القوية فى تلك الليلة على ارتكاب مجزرة. وقد حكمت قوى عديدة ومنها قوى ثورية مخلصة حكما سلبيا على هدم الجدار العازل أمام السفارة وبالأخص على اقتحام السفارة وتتناسى هذه القوى أن إسرائيل قتلت جنودا مصريين عبر الحدود وعجزت مصر المجلس الأعلى عن أىّ ردّ ولا أدرى كيف نطالب شعبا فى ثورة بأن يبقى هادئا فلا يقوم بأىّ مبادرة احتجاجية رغم الجريمة التى ارتكبتها إسرائيل ورغم استفزاز المجلس الأعلى للشعب بعدم الرد وكذلك ببناء جدار يحمى السفارة الاٍسرائيلية فى قلب القاهرة الكبرى.
25: وكان من المنطقى أن يثير العدوان الإسرائيلى على حدودنا وجنودنا ردّ فعل عميق لم يقتصر على الاحتجاج الأول الذى تقرَّر بعد مواجهاته بناءُ الجدار العازل الاستفزازى الذى قاد إلى الاحتجاج الثانى عند السفارة وهدم الجدار وما تلا ذلك بل امتد إلى طرح معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر (المعقودة فى 1979) للنقاش واحتدم الجدال بين المطالبة بإلغاء تلك المعاهدة والاكتفاء بالمطالبة بتعديل بعض بنوده لخدمة السلام بين مصر وإسرائيل (كما يُفْهَم من تصريحات عصام شرف). والحقيقة أن الموقف المبدئى من المعاهدة لا يحتاج إلى نقاش، ذلك أنه ينطبق على معاهدتنا مع إسرائيل المبدأ الذى نشأنا على ترديده بخصوص وعد بلفور "مَنْ لا يملك أعطى لمن لا يستحق"، فليس من حق مصر الاعتراف بقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين التى لا تملكها مصر بالطبع، غير أن الموقف العملى اللاأخلاقى الذى قاد إلى عقد تلك المعاهدة كان يتمثل فى العجز عن مواجهة إسرائيل عسكريا وفى الضرورات الاقتصادية والاجتماعية التى دفعتْ السادات إلى الارتماء فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص والغرب بوجه عام بالإضافة إلى الميل الطبيعى لدى الرأسمالية التابعة المصرية للتعاون والتحالف وحتى التكامل فى نهاية المطاف مع الرأسمالية العالمية وإسرائيل. وكان السادات يسير فى هذا المجال على طريق عبد الناصر الذى كان قد وافق على قرار مجلس الأمن رقم 242 وعلى وقف إطلاق النار على أساس مبادرة روچرز، وكان موقف كلٍّ من عبد الناصر و السادات و مبارك من بعدهما استمرارًا لموقف حركة 1952 إزاء إسرائيل. ذلك أنه كان هناك إدراك كامل لعجز النظام المصرى عن مواجهة عسكرية بهدف القضاء على إسرائيل وذلك لأسباب تتعلق ليس فقط بالقدرة العسكرية بل كذلك بالحاجة إلى أمريكا والغرب سياسيا واقتصاديا ولهذا تقرر عدم التفكير فى تحرير فلسطين جريا وراء الشعارات السائدة فى المنطقة آنذاك. غير أن مصر الناصرية كان عليها أن تواجه ليس إسرائيل فقط بل كذلك بريطانيا وفرنسا فى سياق مؤامرة العدوان الثلاثى، ووقعت الهزيمة العسكرية التى خفَّف منها الانتصار السياسى، وحَرَّرَ من الاحتلال الإسرائيلى لسيناء رفضٌ أمريكىٌّ حاسم لذلك الاحتلال كما اقتضت المصالح الأمريكية آنذاك فى سياق السلوك الملائم لأمريكا كقوة استعمارية جديدة تعمل على أن تحل محل الاستعمار القديم. وبعد قرابة عقد من الزمان وبالتحديد فى يونيو 1967 وقعت الهزيمة الكبرى التى لم يكن هناك ما يمكن أن يخفف منها أويحرِّر من الاحتلال الناشئ عنها. وتحت شعار "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة"، جرى قبول وثائق التسوية مع الاستعداد لحرب تُحَرِّك عملية التوصل إلى السلام نشبت فى أكتوبر 1973. وبعد سنوات من تلك الحرب وفى أوضاع داخلية متأزمة وفى أعقاب انتفاضة 18 و 19 يناير 1977 الشعبية، بدأ اتجاه السادات نحو مبادرته التى انتهت بكامپ ديڤيد ومعاهدة السلام فى عام 1979. ونصَّت المعاهدة التى قايضت الأرض بالسلام على أساس قرارىْ مجلس الأمن 242 (22 نوڤمبر 1967) و 338 (22 أكتوبر 1973) على الاعتراف المتبادل وإنهاء حالة الحرب والحدود الآمنة والعلاقات الطبيعية مقابل الانسحاب الإسرائيلى على مراحل بالإضافة إلى قيود ثقيلة (وفقا للمادة الرابعة التى تجيز تعديل ترتيبات أمنية وردت فى الفقرتين 1 و 2 منها) على الوجود العسكرى والأمنى المصرى فى سيناء باعتبار سيناء بكاملها منطقة عازلة لحماية إسرائيل مع فتح قناة السويس ومضيق تيران وخليج العقبة أمام مرور السفن الإسرائيلية، ومع اشتراط موافقة مجلس الأمن بشرط إجماع الدول الخمس ذات العضوية الدائمة من خلال التصويت "الإيجابى" وبالطبع مع تمركز قوات ومراقبين من الأمم المتحدة فى سيناء، بالإضافة إلى حظر توقيع أىّ اتفاقية تتناقض مع هذه المعاهدة. ويدور الجدال الآن حول المفاضلة بين تعديل المعاهدة وإلغائها كليًّا. ويعنى ما سبق ضآلة ما يجوز تعديله وتفاهته وصعوبته وفقا للمادة الرابعة من المعاهدة. غير أن التخلص النهائى من هذه المعاهدة المشينة المفروضة على مصر بإلغائها النهائى هو الهدف الإستراتيچى للشعب المصرى، وعلى هذا الشعب أن يقوم بهذا دون إبطاء حالما تسمح به الظروف التى قد لا تتكرر فى مستقبل قريب. والحقيقة أن المعاهدة كانت قد فُرضت على مصر فى ظل أوضاع سياسية وإستراتيچية كانت قائمة فى مصر والعالم. كان هناك انسحاب مطلوب لا يمكن أن يتم بدون معاهدة "الأرض مقابل السلام"، وكان هناك تنافس إستراتيچى أمريكى سوڤييتى على المنطقة وقد انتهى الآن، والأهم أن إسرائيل كانت تُحارب بالأصالة وبالوكالة لإعادة دول المنطقة إلى الحظيرة الأمريكية وقد تحقق هذا الهدف بالفعل، ولم تَعُدْ الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة احتلال إسرائيل لسيناء لإعادة مصر إلى حظيرتها، فقد أُعِيدت مصر بالذات إلى تلك الحظيرة منذ وقت طويل، ومعنى هذا أن الولايات المتحدة التى لن تتخلى مطلقا عن إسرائيل وتوسُّعها لأنها الأكثر ضمانا من باقى دول المنطقة، لن تؤيد مع ذلك أىّ احتلال إسرائيلى جديد لسيناء ولا أىّ حرب جديدة تشنها إسرائيل على مصر، رغم أن خطاب الرئيس الأمريكى إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى والمرفق بالمعاهدة يجيز لإسرائيل إعادة احتلال سيناء بمساعدة عسكرية أمريكية. وأعتقد أن رد فعل إسرائيل على إلغاء المعاهدة لن يتجاوز شن حملة دعائية واسعة ضد مصر مع مقاضاتها دوليًّا، خاصة وأنها تدرس عن كثب الحروب الأمريكية فى أفغانستان والعراق والأزمة مع إيران وحربها على لبنان وعلى غزة مع أىّ احتمالات لا يمكن استبعادها مع سوريا وتستخلص منها العِبَر الرادعة بالفعل. هذا تقديرى، غير أن خطورة وحساسية هذه المسألة تدعو إلى فتح مناقشة واسعة فى مصر ولفترة كافية حول مختلف التقديرات قبل اتخاذ أىّ قرار بإلغاء المعاهدة. فنحن لا ندعو إلى مغامرة مثل مغامرة عبد الناصر فى 1967 بل ندعو إلى التخلص من العواقب الوخيمة لتلك الحرب التى كانت هذه المعاهدة من نتائجها. على أنه ينبغى أن يكون واضحا أن أىّ قرار بإلغاء المعاهدة لن تتخذه الدولة المصرية دون ضغط شعبى هائل ومتواصل يجبرها على ذلك. وهناك بالطبع مَنْ يرون أن الثورة ينبغى أن تركِّز على تطوراتها وعملياتها الخاصة فلا ينبغى أن تشتت جهودها فى اتجاهات شتى لتحقيق أهداف يمكن تحقيقها بعد عدة سنوات، ويبدو أن مثل هذا الرأى ينطلق من تصوُّر مؤداه أن الثورة سوف تسيطر فى نهاية المطاف على السلطة فى مصر فى أجل قريب، غير أن هذا قد يكون أملا بعيد المنال. وقد يقول قائل إن إصرارى على المناقشة الواسعة والعميقة لمختلف التقديرات الخاصة برد الفعل الإسرائيلى والأمريكى قبل اتخاذ قرار بإلغاء معاهدة السلام يعنى أننى أضحِّى على المستوى النظرى بالموقف المبدئى ضد حق إسرائيل فى الوجود فى حالة وجود احتمال حرب إسرائيلية أمريكية جديدة ضد مصر بدلا من إلغائها فى كل الأحوال. وردِّى هو أن "ثورة" 1952 قد خلقت أمرا واقعًا جديدا بهزيمة 1967 والمعاهدة التى ترتبت عليها ولا يمكن التحرُّر من هذا الأمر الواقع عن طريق حرب تقود إلى هزيمة جديدة بالنظر إلى موازين القوة. ويقتضى هذا التحرُّر أحد أمرين إما انتهاز فرصة تاريخية كهذه التى أراها الآن بإلغاء المعاهدة على أساس هذا التقدير بأن هذا الإلغاء لن يؤدى إلى الحرب وإما الانتظار إلى أن تختلف موازين القوة لأنه لا ينبغى الذهاب إلى حرب بحثا عن هزيمة كما فعلت مصر فى 1967. على أننى لا أضحِّى بأىّ موقف مبدئى فمن الواضح أننى أدعو هنا على العكس إلى إلغاء المعاهدة على أساس تقدير محدَّد.
26: ونعود إلى أسئلة الثورة المتعلقة بتطوراتها الجارية فى الوقت الحالى. ونؤكد من جديد على أن مصر تنطوى على مشكلتين كبريَيْن هما الدستور والاستقلال. وأعنى بالدستور الديمقراطية من أسفل بكل قدرتها على المقاومة والنضال ضد التبعية الاستعمارية واستغلال وديكتاتورية الرأسمالية التابعة. وأعنى بالاستقلال التحرُّر من التبعية الاستعمارية عن طريق تحويل مصر إلى بلد صناعى حقا باعتبار هذا التحوُّل مفتاح الاستقلال ومفتاح التقدم ومفتاح التحديث ومفتاح اللحاق بالعصر ومفتاح خطوة كبرى لاحقة نحو ديمقراطية راسخة. وأعتقد أن على الثورة فى سياق نضالها الذى تتشابك فيه فى كل لحظة أهداف الديمقراطية والاستقلال أن تميِّز تحليليًّا وعمليًّا بين هاتين المشكلتين الأساسيتين فى مصر. لماذا؟ لأن درجة أعلى وأنضج من تطوُّر الثورة الديمقراطية، والديمقراطية من أسفل، بكل تأثيرها الكبير على المجتمع وضغطها الهائل على الدولة شرط ضرورى للانطلاق نحو التنمية الاقتصادية الاجتماعية وبناء البلد الصناعى والسَّير الحثيث على طريق التحديث، باعتبار مثل هذا التطور طريقا غير مطروق فى بلادنا ولا جدال فى أن تخلف عقلية نُخَبنا فى هذا المجال يرتبط بشدة بتخلُّفنا الاقتصادى والاجتماعى والثقافى.
27: على أنه ينبغى التركيز هنا على قضية النضالات المباشرة فى الوقت الحالى والإلمام بفُرصها وآفاقها وكذلك بالعقبات والعراقيل التى تقف فى طريقها. وتتمثل المهام المباشرة لقوى الثورة بطبيعة الحال فى مواصلتها والاستمرار بها بإدراك واضح لحقيقة أن التراجع سوف يمثل كارثة كبرى، ويقتضى إنجاز هذه الثورة السياسية إقامة الجمهورية الديمقراطية الپرلمانية المدنية العلمانية بكل مقتضياتها ومهامها التى سبقت الإشارة إليها. وسوف تمثل الحياة الحرة الكريمة بكل عناصرها واستعادة الأموال التى نهبتها طبقة قامت على ثروات اللصوصية والفساد بتأميمها ومصادرتها، وتوظيفها فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة المستقلة، مفتاح السير بثقة على درب الثورة الاجتماعية. وقد حققت الثورة بالفعل نجاحات كبرى  أهمها عودة الروح إلى الشعب المصرى واختراق وكسر حاجز الخوف، والإطاحة ﺑ مبارك ووضع حدّ بالتالى للتمديد والتوريث فى مصر والعالم العربى والعالم الثالث والعالم كله، وكذلك تعرية المدى المفزع للفساد والاستبداد فى عهد مبارك أمام الشعب المصرى والشعوب العربية وشعوب العالم كله، كما سبق القول. كما تحققت مطالب للثورة مثل حل الحزب الوطنى ومجلسىْ الشعب والشورى، وبالطبع تحت ضغط هائل من جانب الثورة، غير أنه ليس هناك مغزى حقيقى لحل هذه الأجهزة الملحقة برئاسة الجمهورية والرئيس فى ظل حكم الشخص وأسرته. لماذا؟ لأن حل الحزب الوطنى الذى طالبت به الثورة كان يقتضى أيضا عزل كوادره سياسيًّا وما حدث فى الواقع هو اتجاه كوادر أساسيِّين فى الحزب الوطنى المنحل إلى إنشاء مجموعة من الأحزاب بأسماء متعددة مستفيدين برفض المجلس العسكرى للمطالبة الشعبية بعزلهم بالإضافة إلى انضمام العديد من "فلول" الحزب الوطنى إلى أحزاب أخرى قديمة أو جديدة. وكان حل مجلسىْ الشعب والشورى لصالح إعادة انتخابهما بسرعة على أساس التعديلات الدستورية (غير الدستورية فى الحقيقة) والإعلان الدستورى (30 مارس 2011) وتعديل قانون نظام الأحزاب (28 مارس 2011) وتعديلات قوانين مجلس الشعب ومجلس الشورى ومباشرة الحقوق السياسية (19 يوليو 2011) وكلها صادرة بمراسيم من المجلس الأعلى، كما تجاهل المجلس مطالب بإلغاء مجلس الشورى الذى لا معنًى له والذى اخترعه السادات دون وظيفة أو سلطة تشريعية حقيقية. كما تحققت المحاكمات وبالأخص محاكمة الرئيس المخلوع بفضل ضغوط شعبية هائلة (وكان لموجة 8 يوليو 2011 دور حاسم فى هذا المجال)، غير أن المحاكمات جاءت بعد تباطؤ متواطئ طويل سمح للمتهمين بتهريب الأموال وتأمين أموال مهرَّبة سابقا وبإخفاء الأدلة وفرم الوثائق وكذلك بهروب عدد من كبار المسئولين اللصوص، مما يجعل النتائج النهائية للمحاكمات محاطة بشكوك قوية، بالإضافة إلى بطء عملية التقاضى بصورة تبدو متعمَّدة، كما أن المحاكمات اقتصرت على حلقة ضيقة على حين أن المطلوب هو توسيع دائرة هذه المحاكمات لتشمل كل رؤوس الفساد والاستبداد. وهناك مطالب للثورة رفضها المجلس تماما مثل تشكيل مجلس رئاسى انتقالى يؤلف حكومة تستلم إدارة البلاد (ويكلِّف الجيش بحماية أمن البلاد بعد هزيمة واختفاء الشرطة) كما رفض تشكيل جمعية تأسيسية تكون مهمتها إعداد دستور جديد ديمقراطى، بدلا من إلغاء دستور 1971 مع كل تعديلاته التى أقرها استفتاء 19 مارس 2011، وبدلا من إلغاء كافة القيود القانونية القديمة والجديدة على الحقوق والحريات الحزبية والنقابية وتلك المتعلقة بالتظاهر والاعتصام والإضراب كوسائل نضالية مشروعة. كما رفض المجلس إلغاء قانون الطوارئ الاستبدادى الحالى وحتى رفع حالة الطوارئ ولم يُسَلِّم بوقف المحاكمات العسكرية للمدنيِّين إلا تحت الضغط وإلا بتحويلهم إلى محاكم أمن الدولة، استمرارا لواقع أن الدولة ظلت تعتمد منذ انقلاب 1952 على المحاكم الاستثنائية، بينما تُركِّز مطالب الثورة على استقلال القضاء وعلى محاكمة المتهم أمام قاضيه الطبيعى. كما رفض حل وإعادة بناء جهازىْ أمن الدولة والمخابرات العامة وكافة الأجهزة الأمنية الأخرى. وفى كل الأحوال ظل المجلس يطارد كل النضالات الشعبية وكل مظاهر الاحتجاج وظل يقمعها عسكريا بصورة مباشرة وعن طريق البلطجية وإعلاميا لتشويه صورة الثورة كما سبق القول بوسائل منها حملات الشائعات ومنها تصوير أن الثوار يسعون إلى إحداث وقيعة بين الشعب والجيش ومنها قلب حقائق مثل إعلان ممارسات الحقوق الدستورية المشروعة مثل التظاهر والاعتصام والإضراب فى المصانع ومختلف الشركات والمصالح الحكومية "احتجاجات فئوية" كتعبير سلبى بزعم أن المطالب الفئوية تعطل الإنتاج والحياة الطبيعية وأن قطاعات من الثورة المضادة منها "فلول" الحزب الوطنى هى التى تحرِّض عليها لضرب الإنتاج والثورة ومصر. كما استخدم المجلس سياسة "فرِّق تسد" بتقريب قوى سياسية بعينها وإشراكها فى الحكومة وعقد صفقات معها، بحيث صارت هذه القوى عدوًّا لدودا لكل موجات الثورة ومبادراتها وأنشطتها وصارت تقوم بدور أكثر فاعلية من دور المجلس فى مجال تشويه صورة القوى الأكثر إخلاصا للثورة وينطبق هذا فى المحل الأول على قوى الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية التى تقوم بهذا الدور الخبيث لأنها ترى أن القوى المدنية واليسارية والعلمانية خطر عليها أكثر من المجلس والنظام وكذلك لأنها ترغب فى تأمين ضمانات لفاعلية صفقاتها معهما. والحقيقة التى لا جدال فيها هى أن النظام بقيادة المجلس هو السبب المباشر وراء تعطيل الإنتاج وشلّ الحياة الطبيعية بعناده المباركىّ (الدكتوراة فى العناد) فى رفض مطالب الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى انفجرت الثورة وتتواصل الآن من أجلها غير أن هذا هو السلوك "الطبيعى" المتوقع من النظام الذى يعمل على خنق الثورة تمهيدا لسحقها لاستعادة نفس النظام بدون رأسه ورقبته.
28: وبالطبع فإن كل وسائل النضال التى تتفق مع الشرعية الثورية مشروعة وينبغى استخدامها على أوسع نطاق كما أن من حق كل الفئات والطبقات والقطاعات أن تناضل بكل وسائل نضال الشرعية الثورية هنا والآن من أجل حقوقها غير القابلة للانتظار كما يريد المجلس وحلفاؤه الجدد من الإسلاميِّين والليبراليِّين اليمينيِّين الذين يخونون الثورة جهارا نهارا فى سبيل الفتات الذى قد يفوزون به بدلا من الجوائز الكبرى التى يتصوَّرون أن مواقفهم ضد كل مبادرة ثورية سوف تجلبها عليهم. وينبغى إدراك أن التظاهر بالتعقل من جانب بعض قوى الثورة ورفض هذا الشكل النضالى أو ذاك ورفض هذا الهدف المشروع أو ذاك إنما يصبّ فى مصلحة الثورة المضادة أىْ المجلس والنظام وحلفائهما المذكورين أعلاه. وينبغى أيضا إدراك أن مسألة على أىّ شيء ينبغى التركيز أبسط من الصورة التى تبدو عليها. إننا هنا إزاء شعب ثائر، إزاء طبقات شعبية مستغَلَّة ومقهورة منذ عقود طويلة، ومن حق هذه الطبقات وفى مقدمتها الطبقة العاملة أن تنتزع حقوقها هنا والآن، غير أن فئات أخرى وقطاعات أخرى ومجموعات أخرى تناضل أيضا فى سبيل انتزاع حقوقها وحرياتها فى مختلف المجالات ولهذا فإننا إزاء ملايين من أبناء الشعب الذين يمكن أن يقوموا بالتغطية الاجتماعية والسياسة لهذه النضالات كافة ولا يمكن تحديد شكل نضالى واحد، ولا وسيلة نضالية واحدة، ولا هدف نضالى واحد، لكل الشعب الآن بل إن هذه النضالات الواسعة تتكامل وتتداخل وتتفاعل لتحقيق الأهدلف الكبرى للثورة.
29: غير أننا نتجه بسرعة إلى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية القادمة. وقد أصابت حُمَّى السرعة كثيرا من الأطراف سبق ذكرها وذكر أسباب تعجُّلها. فما العمل؟ ومن ناحية لا ينبغى العمل على تأجيل الانتخابات لحساب استمرار الحكم العسكرى المباشر الحالى، ومن الناحية الأخرى لا ينبغى تسهيل التسريع الذى تريده قوى الثورة المضادة لقطع الطريق على القوى المدنية واليسارية والعلمانية، ولا مخرج من هذه المعضلة إلا بتأجيل يقوده مجلس انتقالى مدنى. غير أن هذا بدوره يُدخلنا فى سراديب معضلات جديدة. أولا لأن القوى الأكثر إخلاصا للثورة تعانى من آثار ستين عاما من الملاحقات الپوليسية ضدها فى سياق تصفية وتجريف الحياة السياسية وهى تواجه قوى أكبر عدديا وأكثر تنظيما مع أنها قوى متباينة تعانى بدورها من تناقضات وانقسامات. غير أن القوى المدنية الأكثر إخلاصا للثورة هى التى أشعلت الثورة جاذبة كل الشعب إليها وهى التى تستمر بالثورة الآن وتواجه كل مقاومة من أركان الثورة المضادة، وهذه ميزة لا يمكن التقليل منها خاصة عندما تواصل الثورة قوى مدنية صلبة لا يمكن تهدئتها إلا بتحقيق مطالبها على حين أن محاولة إخضاعها بمجازر كبرى أمام العالم كله قد لا تكون مجدية كما تُثبت ثورات ليبيا وسوريا واليمن، وهما خياران أحلاهما مر بالنسبة لقوى الثورة المضادة بوجه عام خاصة على خلفية تنوُّعها وتناقضاتها. وتجد القوى الثورية المخلصة نفسها إزاء إستراتيچية تتمثل فى قدرة قوة أضعف نسبيا على استغلال تناقضات قوى أكبر منها عدديًّا فى الانتخابات والاستفتاءات والميادين بما لا يقاس عندما توحِّد صفوفها على حين أن تناقضاتها تحرمها فى كثير من الأحيان من توحيد صفوفها. ولا شك فى أن وجود قوى متعددة متضاربة سياسيا يمكن أن تؤدى إلى عجز قوة بمفردها عن السيطرة على الپرلمان بأغلبية تمكِّنها من تشكيل الحكومة. وهناك بالطبع شكوك تحيط بنزاهة العملية الانتخابية، ذلك أن سلوك المجلس الأعلى منذ بداية سلطته ذات النزعة العسكرية الشمولية إلى يومنا هذا لا يوحى بأىّ ثقة بأنه سيقوم بإجراء انتخابات نزيهة أو حتى خالية من التزوير المباشر. وعلى هذه الخلفية تدور أسئلة ملحّة حول احتمال وجود صفقة بين المجلس والإخوان المسلمين بمباركة أمريكية وسعودية بالسماح للإخوان المسلمين بأغلبية پرلمانية وبالتالى بتشكيل حكومة وربما بالفوز برئيس للجمهورية. ويعتقد كاتب هذه السطور أن الصفقة التى لا شك فى وجودها بين المجلس والإخوان وكذلك بينه وبين الليبرالية اليمينية وربما بينه وبين قوى أخرى، مثل الأحزاب التى يشكلها كوادر الحزب الوطنى المنحلّ وأحزاب أخرى، يلجأ إليها المجلس لتفادى أغلبية پرلمانية مريحة لتحالف بين الإخوان وباقى قوى الإسلام السياسى، تقتصر على وجود له وزنه فى الپرلمان بعيدا عن الإقصاء عنه من ناحية أو السيطرة عليه من الناحية الأخرى. فلا مبرر لاعتقاد أن الحكم بالإسلام السياسى سيكون هو الأكثر تحقيقا لمصالح الطبقة المالكة التى يشكل الإخوان تمثيلا سياسيا لقطاع مهم منها، أو للمصالح الأمريكية، أو لمصالح أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنفسهم. على أن هناك مشكلة تتمثل فى أنه ليس من السهل فيما يبدو تفادى إجراء الانتخابات الپرلمانية فى المستقبل القريب جدا ويبدو أنها ستصل بنا إلى أواخر هذه السنة بالنسبة لمجلس الشعب وإلى مارس 2012 بالنسبة لمجلس الشورى. وعلى هذا يمكن أن تتأخر الانتخابات الرئاسية إلى أواخر 2012 بحيث يبقى المجلس الأعلى طوال هذه الفترة حاكماعسكريا بصورة مباشرة قبل أن ينتقل إلى موقع الحاكم من وراء الكواليس بعد ذلك مهما كان الپرلمان ومهما كان رئيس الجمهورية. ومن المدهش أن قوى الثورة المضادة تتصرَّف وكأنها حسمت مسألة أن تظل مصر جمهورية رئاسية بعيدا عن أىّ احتمال لخيار الجمهورية الپرلمانية فى دستور جديد، ومن هنا هذه الحُمَّى التى أصابت كل هذا العدد من المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية، ومن المؤسف أن الكثيرين من الكُتّاب والباحثين والمحلِّلين السياسيِّين يعلنون أن الجمهورية الرئاسية هى النظام الأفضل لمصر حيث يرون أن رئيسا قويا سيكون ضروريا لمصر خاصة فى المستقبل القريب بحجة أن الحزب الحاكم الذى سيتولى السلطة التنفيذية العليا فى حالة الجمهورية الپرلمانية سيركَّز اهتمامه على مصالحه الحزبية الضيقة بعيدا عن مصلحة البلاد وكأن تجربتنا مع رئيس الجمهورية فى العهود الثلاثة السابقة تشجع على الثقة بديمقراطية ونزاهة الرئيس. ويبدو بالتالى أن إجراء الانتخابات قريبا سيكون أمرا لا مناص منه وأن بقاء المجلس الأعلى لفترة قد تصل إلى عام أو عام ونصف سيكون أمرا لا مناص منه كذلك. وهذا بالطبع إذا عجزت الثورة عن إسقاط المجلس الأعلى، هذا الشعار الذى بدأ يبرز بوجه خاص بعد موجة 8 يوليو 2011، وهذه على كل حال ليست بالمهمة السهلة. وهنا ستنتقل الثورة لفترة إلى مسألة تاكتيكية تتعلق بالمشاركة فى الانتخابات أم مقاطعتها وهى مسألة يسهل حسمها فى أوانها وعلى كل حال فإن المقاطعة الإيجابية أىْ النشاط النضالى حول الانتخابات رغم مقاطعة الترشيح فيها ومقاطعة تأييد مرشحين آخرين فيها بدلا من الوقوف بعيدا تماما عن الانتخابات تكاد تتساوى مع المشاركة؛ مع أفضلية المشاركة التى تتيح دورا إيجابيا أكبر خاصةً فى زمن الثورة. وتثور هنا مسألة شائكة تتعلق بطريقة ملء الفراغ الذى سيتركه إسقاط المجلس الأعلى فى الإدارة الضرورية للبلاد حتى فى حدود تسيير الأعمال. وبالطبع فإن من المفترض أن المجلس الانتقالى المدنى هو الذى سيحل محل المجلس العسكرى. غير أن ثورة 25 يناير عجزت عن تشكيل مجلس انتقالى مدنى توافقى، وذلك بسبب وجود معسكريْن متعارضيْن فى صفوف الثورة فى مرحلتها الأولى أىْ مرحلة إسقاط الرئيس. وكان التعارض بين أهداف المعسكر المدنى ومعسكر الإسلام السياسى يَحُول دون تشكيل مجلس انتقالى توافقى موحَّد حتى فى فترة الخندق الواحد المؤقت بين المعسكرين (بوجه عام قبل إقالة مبارك على يد الانقلاب العسكرى) وما يزال هذا التعارض الذى يزداد عمقا بصورة متواصلة يحول دون تشكيل مثل هذا المجلس الانتقالى التوافقى المستحيل وغير المبدئى على كل حال. وأمام هذه المعضلة تتصور بعض قطاعات المعسكر المدنى أن التوافق مع الإخوان المسلمين والإسلام السياسى سيخلق قوة موحَّدة تستطيع أن تُنازل وتُقارع المجلس العسكرى، غير أن مثل هذا التفكير يتجاهل واقع أنك يمكن بل ينبغى أن تستفيد من تناقضات قوى الثورة المضادة مثل المجلس والإخوان ولكنك لا تستطيع التحالف أو التوافق مع إحدى القوتين ضد الأخرى فى الوقت الذى "يتحالفان" فيه ضدك أو حتى يعمل كلٌّ منهما ضدك بمفرده من موقف العداء، فنحن لسنا إزاء علاقات عامة يمحو فيها التودد كل جفاء بل إزاء صراع سياسى مرير. ومن المخجل أن يتورط كتاب محسوبون على القوى اليسارية والمدنية والعلمانية فى الحديث عن التوافق. ولا ينبغى أن يوحى إلينا وجود المعسكرين: المعسكر المدنى ومعسكر الإسلام السياسى فى خندق واحد فى ميادين التحرير فى مصر فى مرحلة قصيرة تقل عن أسبوعين أن هذا كان تحالفا بين المعسكرين فالحقيقة أن المعسكريْن كانا يقفان كمعسكرين مستقلين يفصل بينهما هدفان متناقضان فى العمق ومتحدان على السطح. كان هدف معسكر الإخوان والإسلام السياسى هو استخدام الثورة للحصول على الشرعية ومحاولة الوصول إلى السلطة لتأسيس نوع من الجمهورية الإسلامية بعد إسقاط مبارك وكان هدف المعسكر المدنى الذى أشعل الثورة أصلا هو النضال فى سبيل الثورة والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية حتى النهاية انطلاقا من إسقاط الرئيس والنظام، وكان ذلك فى أحسن الأحوال نوعا من ضرب هذين المعسكريْن معا والسير منفرديْن بل متعاديَيْن. ولا شك فى أن عقبة القوة العددية الأقل للقوى الطليعية الأكثر إخلاصا للثورة تجعل كل اعتماد كلِّىٍّ على الشرعية الدستورية والانتخابات والاستفتاءات أمرا لا طائل تحته فى الأجل القصير أىْ قبل أن تتغلغل هذه الطليعة، مع المزيد من نضجها ورسوخها، فى قيادة الطبقات الشعبية المناضلة. ولهذا فإن شعار مثل "الدستور أولا" تواجهه عقبة تصويت الأغلبية تصويتا سلبيًّا فى أىّ استفتاء على مواده الديمقراطية أو المدنية أو العلمانية، وكذلك على انتخاب جمعية تأسيسية تقوم بوضع الدستور، وكذلك على انتخاب مجلس انتقالى، لأن الديمقراطية المباشرة التى تتشكل ممن يبلغون الثامنة عشرة من أعمارهم فى مصر والتى تصوِّت  فى الاستفتاءات أو فى الانتخابات الپرلمانية تعانى نفس معضلة القوة العددية الانتخابية لمختلف القوى السياسية فى البلاد؛ ولهذا يظل شعار "الثورة أولا" هو الشعار الصحيح حقا. كما ينبغى أن ندرك أن الإسلام السياسى يمثل عقبة كبرى أمام النضال فى سبيل نجاح الثورة فى تحقيق مهامها وأمام النضال ضد الحكم العسكرى وأمام التصدى لما يسمَّى بفلول الحزب الوطنى ولليبرالية اليمينية وهو الذى يعمل على إعادة مصر والمنطقة إلى القرون الوسطى مع إبقائها حبيسة التبعية الاستعمارية. ومعنى هذا أن قوى سياسية أضعف نسبيا يمكن أن تستمدّ قوة ما من تنافر وتناقض خصومها وأعدائها فيما بينهم، ونظرا لأن هذه القوى المدنية واليسارية والعلمانية هى التى أشعلت الثورة، وهى التى تستمرّ بها رغم كثرة وشراسة أعدائها العسكريِّين والإسلاميِّين والليبراليِّين والرأسماليِّين وامتدادات الحزب الوطنى المنحلّ، فإن الأمل المعقود عليها فى تحقيق مزيد من النجاحات الكبيرة له ما يبرِّره دون أدنى شك. وعلى نضالها فقط يقوم كل أمل فى تطوير الثورة وفى جعلها بوتقة كبرى تنصهر فيها كل نضالات واحتجاجات وتظاهرات واعتصامات وإضرابات العمال والعاملين والفلاحين والعمال الزراعيِّين وكل الفئات والطبقات الشعبية فى زمن الثورة، فبهذا وحده ستكون الثورة قادرة على تحقيق انتصارات كبرى يمكن أن تسمح لها فى مرحلة لاحقة بالاتجاه مباشرة نحو المهمة الكبرى المتمثلة فى بدء الثورة الاجتماعية انطلاقا من التصنيع الحقيقى والتحديث الشامل والاستقلال الجذرى وتفادى المصير المرعب الذى تنتظره بلدان العالم الثالث ومنها بلادنا. ولا يتناقض هذا الهدف مع حديثى عن غياب الثورة الاجتماعية أىْ عملية التحوُّل الرأسمالى العميق فى مصر إذْ يستند هذا الهدف فى حالتنا إلى تجربة بعض بلدان العالم الثالث التى كانت مستعمرات أو أشباه مستعمرات فى السابق مثل النمور أو التنانين الآسيوية الأصلية (كوريا الجنوبية وهونج كونج وتايوان وسنغافورة) والصين فى سياق ظروف تاريخية خاصة، ويقتضى هذا الهدف بالضرورة تطوُّرًا هائلا للديمقراطية من أسفل بحيث تكون لها كلمة فعالة فى تقرير مصير البلاد عن طريق استمرارها بالثورة وتطويرها إلى مرحلة أعلى، وإنْ لم تكن فى السلطة، وعلى كل حال فإن من حقنا أن نحلم وأن نتحدَّى المستحيل لتحقيق مثل هذا الحلم المنقذ.
20 سپتمبر 2011
 
ويليه الجزء الثانى
 



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟
- الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطر ...
- الحوار بين الثورة والواقع
- مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة
- موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة
- مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر
- الاحتجاجات المسماة بالفئوية جزء لا يتجزأ من الثورة
- مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الث ...
- مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة
- مقدمة خليل كلفت لترجمته لكتاب: -كيف نفهم سياسات العالم الثال ...
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت
- كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة
- لا للتعديلات الدستورية فى مصر


المزيد.....




- الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و ...
- عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها ...
- نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
- -ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني ...
- -200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب ...
- وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا ...
- ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط ...
- خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد ...
- ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها ...
- طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول